عبـــــــدالله خلــــــــيفة's Blog: https://isaalbuflasablog.wordpress.com , page 35
August 11, 2023
تنوير سلامة موسى
يعتبر سلامة موسى الكاتب العربي، أحد القلائل الذين أثاروا الجدل الفكري على مدى القرن العشرين، بسبب جرأة أفكاره وثباته الفكري الطويل لغرس قيم الوعي بالنهضة، عبر الكتابة والدعوة المستمرة لعدة عقود.
كان أبوه من الموظفين الكبار في الإدارة، فحصل على فرص كبيرة للقراءة والدراسة والسفر والتفرغ للفكر والإطلاع، ولكنه لم يفلح في الدراسة المنظمة سواء على مستوى الدراسة الابتدائية أو الثانوية أو الجامعية، وهو يقول: إن ذلك كان بسبب محدودية المناهج ورغبته في الخروج من قيودها، ولكن من الواضح أيضاً انه لم يكن ذا قدرة على التركيز الدراسي والبحثي العميق، فاتسمت كتاباته بالسهولة الشديدة والتنوع والتضارب في الأفكار والرؤى، رغم أنها كانت تدعو للنهوض بشكل عام.
وقد سافر إلى باريس، بشكل مغاير لسفر الطهطاوي، حيث كانت السرعة في السفر والتوجه إلى اليسار الأوروبي تحديداً، وخاصة الاشتراكيين والتطوريين، والصداقة مع أعلام الفكر الغربي كـ برنارد شو. وقد ذهل من دفاع اليسار الأوروبي عن قضية الشعب المصري، ودور برنارد شو خاصة في فضح محاكمة دنشواي الشهيرة التي قتلت مجموعة من الفلاحين غير المذنبين.
فوجئ في الغرب بكثافة الاهتمام بالحضارة المصرية القديمة، وغيابها شبه الكلي عن الثقافة المصرية المعاصرة وقتذاك، فكرس جزءاً كبيراً من وقته لزيارة المتاحف والاطلاع على الحضارة القديمة.
كذلك سافر ودرس في لندن الحقوق من أجل جلب شهادة، ولكنه كعادته لم يستمر في ذلك؛ وساح في الثقافة والأدب والعلوم، وحين عاد ركز على النشر، وكان أول كتاب له هو (مقدمة السوبرمان) سنة 1912، ثم أصدر سلسلة من الكتب، ورأس تحرير مجلته الخاصة، التي كرسها لنشر فكر الحداثة كما يراه.
يعبر كتيبه هذا، أي مقدمة السوبرمان، عن هذه العملية الفكرية التي بتضافر فيها العمق والسذاجة، وتتحد النوايا الطيبة بغياب الدرس العميق، ففكرة السوبرمان هي فكرة نيتشويه، دعا إليها مفكر الفاشية الألمانية: نيتشه، لخلق عرق متميز، يغدو بمثابة الإنسان الأعلى. الذي يتخلص من الإنسان الضعيف، وكانت هذه الفكرة تفتح فيما بعد الباب لعمليات التطهير والمذابح في العروق (الخسيسة) عند النازيين.
وبطبيعة الحال فإن سلامة موسى أخذ الفكرة بحسن نية، دامجاً إياها في فكرة علمية أخرى، هي نظرية التطور لـ دارون. فهذه الفكرة الكبرى في القرن التاسع عشر والتي فجرها العالم البريطاني دارون بكتابه (أصل الانواع)، كشفت لأول مرة ان العالم الحيواني خضع لتطور كبير، بدأ من ظهوره في الحياة البحرية ثم ارتقائه سلم التطور حتى ظهور أنواع الثدييات التي منها الإنسان.
وقد دمج سلامة موسى هاتين الفكرتين، ولكن عبر تطبيقهما على المستقبل، حيث سيظهر في اعتقاده إنسان متطور يختلف عن الجنس السائد حالياً. وهذه الفكرة هي التي عزفت عليها النازية. المتنامية منذ ما بعد الحرب العالمية الأولى, وهي التي دمجت أيضاً بين الارتقاء المزعوم بالإنسان الحيوان وبين الاشتراكية.
هذه الفكرة التي بدأ سلامة موسى حياته الفكرية بها، تعبر عن ذلك المزيج الفكري المضطرب، فقد مزج بين فكرة علمية هي نظرية التطور التي قدم حولها كذلك سلسلة من الاستعراضات الشائقة، وبين فكرة ايديولوجية خطرة ليست سوى واجهة للعنصرية، وهكذا فإن سلامة جمع بين فكرين متناقضين، الأول هو فكر التطور الموضوعي للأجناس وللمجتمعات، والفكر الآخر هو فكر الفاشية البيولوجية، لكنه لم ير الدلالات المتوارية وراءها. ولديه هنا ذلك الخلط الذي استمر طويلاً بين البيولوجيا والاجتماع، بين التطور العضوي ذي القوانين الخاصة، والتطور الاجتماعي، مما يعبر هنا عن داروينية اجتماعية.
في رؤيته للنهضة وكيفية تحقيقها فإن سلامة موسى يواصل موقفه المبسط لها، فهو ببساطة يدعو للالتحاق بالنهضة الأوروبية، وترك العروبة والإسلام والماضي، وركوب القطار المتوجه إلى الحداثة.
يقول في أحد كتبه من سنوات أواخر العشرينيات من القرن الماضي وهو (اليوم وغداً).
«فالرابطة الغربية هي الرابطة الطبيعية لنا، لأننا في حاجة إلى أن نزيد ثقافتنا وحضارتنا، وهي لن تزيد من ارتباطنا بالشرق بل من ارتباطنا بالغرب. اننا اذا ارتبطنا بالغرب تعلمنا فلسفة عالية وأدباً راقيًا ووقفنا على اختراعات عديدة واكتشافات لا حصر»، ومن عناوين هذا الكتاب:
لسنا شرقيين، الدم الشرقي فينا جلبه علينا العرب، الجامعة المصرية هي أداة للثقافة الحديثة، الأزهر هو أداة الثقافة «المظلمة»، ليس علينا للعرب أي ولاء، لغة المتنبي ليست لغتنا، الرابطة الشرقية سخافة، الرابطة الحقيقة هي رابطة الثقافة وهي رابطتنا بأوروبا.
يعبر هذا الوعي عند سلامة موسى عن لغة التبسيط في تشكيل النهضة، فالنهضة هي استيراد كاستيراد البضائع، فهي علاقة كمية فتعبيره «أن نزيد» يعبر عن هذه الفكرة، فما علينا لكي نلتحق بأوروبا سوى أن نكثر من استيراد كافة الأشياء النهضوية كالاختراعات، وإذا كانت هذه الأشياء من الممكن استيرادها فعلاً وهي مفيدة جداً، فإن ذلك لا ينطبق على المؤسسات الفكرية، والعلاقات الاجتماعية التاريخية، فكيف يمكن أن ننقل عمليات التحول التي جرت أوروبياً في عدة قرون؟ هل نشحنها أم نقلدها؟
إن الوعي الاستيرادي لتجار الجملة واضح هنا، ويتوجه سلامة موسى إلى الدعوة لنقل تلك المنتجات الغربية، ولهذا لا بد من الانفصال عن الرابطة العربية والإسلامية، وعن العلاقة مع الأمم الشرقية المتخلفة، بل عن التاريخ العربي والدم العربي، وهذا ما يمكن أن يحدث قطيعة مع التراث ومع الثقافة المتخلفة، وبالتالي تتحقق النهضة.
هذه التبسيطية تتحقق في الواقع عبر انسلاخ مجموعات من الفئات الوسطى عن البنية الاجتماعية الإقطاعية، وهذا الانسلاخ لا يحدث الا عبر جلب مظاهر حضارية غربية مستوردة، لا يحدث لها أي جذر في تلك البنية، لأنها تتشكل كقشور ملونة فوقها.
إن ارتباط مصر بالعرب أو بالشرق ليس ارتباطاً لغوياً أو ثقافياً، بل هو ارتباط منظومة اجتماعية متماثلة، متعددة مستويات التطور، هي المنظومة الإقطاعية – المذهبية العربية في طور أزمة العلاقة مع التطور الرأسمالي الحديث.
وما يقوله سلامة موسى عن الانسلاخ من منظومة والالتحاق بأخرى، هو وهم طبقي، أي أنها أفكار وممارسات تتحقق عند مجموعات في الشرق تتوهم انها تتحضر عبر استيراد النهضة وليس إنتاجها، وهي هذه الفئات المستوردة للبضائع الغربية والافكار الغربية.
هكذا يكّون سلامة موسى الأفكار النهضوية لشريحة من الفئات الوسطى الحديثة، ذات المستوى المعيشي الجيد، والتي لا تدخل في علاقة صراع عميقة وواسعة مع الغرب الإمبريالي، مثلما لا تدخل في عملية صراع مماثلة مع الشرق الاقطاعي، ولكنها في الوقت الذي تريد فيه المماثلة والذوبان في الغرب، فإنها تريد الانسلاخ من الشرق.
إن هذه الطريقة الاستهلاكية والاستيرادية للمنتجات الفكرية والسلعية الغربية، لا تترافق مع عمليات إنتاج فكرية وسلعية وطنية، ولهذا فإن سلامة موسى لا يقيم مصنعاً لإنتاج الوعي الوطني، بقدر ما يفتتح دكاناً لجلب البضائع من المركز، وبطبيعة الحال فإنه يريد تطوير وتقدم البلد عبر ذلك، ولهذا يحرص على جلب أفكار النهضة والتطور وحرية المرأة والعلمانية وأهمية العلوم ونشر الأدب الشعبي والتخلي عن أدب الأبراج العاجية وضرورة تعلم الرقص الرفيع . . الخ.
وكل هذه تقدم أحياناً كمقالات مطولة وقصيرة في أغلب الاحيان، وتتجه إلى عرض الفكرة والترويج لها، بدون تحليلات معمقة. وكثيراً ما تقوده هذه الافكار الشعارية إلى الاصطدام مع القوة الاجتماعية المهيمنة، أي الاقطاع بنوعيه السياسي والمذهبي.
وإضافة إلى الطابع الاستفزازي فإن غياب التحليل العميق للشعار المراد جلبه ونشره في الشرق يؤدي إلى نتائج عكسية.
لكن علينا أن نعتبر فكرته بضرورة تغييب الرابطة العربية والإسلامية من تطور مصر الحضاري المنتظر، هو خطأ فكري مزدوج، فهو خطأ في قراءة سيرورة مصر، المتكونة بشكل عربي وإسلامي في العصر الوسيط، حيث حدثت نهضة كبيرة بفضل هذه المرحلة، ولكن النظام الذي هيمن غيب تلك الإنجازات، فيبدو التطور العربي الإسلامي عند سلامة موسى كفعل سلبي فحسب، فهو يغفل العناصر الديمقراطية والنهضوية في هذا السياق، مركزاً على الأشكال التي سيطر بها الاقطاع المذهبي على المسلمين، معتبراً هذه الأشكال هي كل ما أنتجه العرب والمسلمون.
ولا شك أن فرز هذه العناصر المتضادة يحتاج إلى دراسات معمقة، وتحليلات في البنية الاجتماعية ومستوياتها، وهي أمور لم يقم بها سلامة موسى، فيجد أمامه الثقافة العربية الإسلامية كثقافة تقليدية يجب الإطاحة بها، وحتى هذه الإطاحة تبقى غير مبلورة، بل هي شعارات موجهة ضد لغة عربية متكلسة، وهو أمر صحيح، وقد ساهم هو في زحزحة هذه اللغة المقعرة الجامدة، بلغته الرشيقة السهلة الواضحة. ولكن مسائل إزاحة الجمود والتخلف في ثقافة هي غير إلغائها، ويبقى وعي سلامة موسى غير قادر على كشف هذه اللوحة المعقدة والمركبة للثقافة العربية والإسلامية.
ليس لأنه يأتي إليهما من الخارج، بل لأنه لم يدرسهما بشكل عميق، وأغلب قراءاته هي للنتاج الغربي عموماً، وهو يريد إدخال شعارات هذا الغربي المتطور إلى عالم يرفضه ويريده ان يتغير.
إن رغبته فى تشكيل مصر بالصورة التي يريدها، حيث لم يقم بالكتابة عن اي بلد عربي آخر، ودوره في هذه الكتابة الطويلة وخلق القراء، لا تؤدي إلى نتائج كبيرة في الواقع والمناخ الثقافي الفكري، وعلى العكس فإن المناخ يتجه إلى نقيض افكاره، وجهده في خلق تنوير يُستبدل برواج الاتجاهات السلبية والمحافظة.
وهذا المصير الفكري والاجتماعي هو غير مسئول عنه، ولكن هذا المصير يحدد كيف تضيع سنوات من العمل الفكري وتتدمر بذور التنويريين، من دون أن يروا آفاق عملهم.
كان التطور الاجتماعي والفكري في مصر يتجه بخلاف آراء سلامة موسى بضرورة اعتماد التدرج الاشتراكي في عمليات الإصلاح، فالمدينة الاقطاعية التي أسستها السلالة الملكية كانت تتجه إلى الانفجار، والتحولات الرأسمالية على مدى قرن كامل، لم تستطع تشكيل تحول رأسمالي جذري، على صعيد تشكيل سلطة ديمقراطية أو على أساس نمو تحديثي في كافة مستويات البنية، فبدأت المدن تتضخم سكانياً من جراء تطورات رأسمالية متضادة، وبدأ الريف يضغط، ونستطيع أن نعتير سيطرة الضباط الأحرار هو انتصار للفلاحين المتوسطين بثقافتهم الدينية والحديثة المتداخلة، بحيث حافظوا على التعايش بين النظام الإقطاعي والنظام الرأسمالي، وعبر سيطرتهم على رأسمالية الدولة، انتقلوا الى صفوف الأغنياء، وأدى هذا التطور العسكري، إلى استنفار القوى المحافظة وعودتها بعدئذ إلى الهيمنة بشكل أقوى من السابق.
موسى ناضل من أجل نمو التحديث والليبرالية والإصلاحات الاجتماعية التي يسميها الاشتراكية، ولكن ما حدث هو نمو الاتجاهات الشمولية، ولم يسهم في رصد هذا الصعود بسبب أدوات تحليله المبسطة، أي عدم قراءة البنية الاجتماعية وبالتالي لم يشكل تياراً يقاوم هذا الاكتساح المستقبلي، رغم اهتمامه الشديد بالمستقبل، وذلك عبر عدم جمعه بين العروبة والإسلام والتحديث، بين العلمانية وتحليل الجذور التاريخية للأمة، بين الانتماء للشرق والانفتاح على ثمار الأمم النهضوية، بين الدفاع عن الديمقراطية وتقدم الأغلبية. . الخ.
هذه التركيبة الجدلية كانت تستدعي دراسات على مستويات الماضي والحاضر، الشرق والغرب، وهذه الإمكانية التوليفية لم تكن ممكنة لجيل كامل من النهضويين، تقاطع وعيهم بين قطبين، قطب الشرق والتراث، وقطب الغرب والمعاصرة، وهو أمر يعكس هيمنة الفئات الوسطى غير الصناعية، والمستوردة، التي تستورد الموديلات الجاهزة من الماضي أو من الحاضر الغربي، وليست قادرة على التصنيع وإعادة تشكيل الواقع، وهو أمر يتطلب تغيير المواد الخام التراثية والراهنة، تبعاً لتطور مصالح الأغلبية من الشعب والأمة.
إن الشعارات السهلة والتنويرية لا تقود إلى محصول كبير، فمن السهل المطالبة بزوال الأزهر كمؤسسة دينية ولكن من الصعب دراسة هذه المؤسسة وتيارات الوعي فيها، وطرح اجتهادات في الخطاب الديني نفسه، وهذا ما أخذت التيارات النهضوية العربية الجديدة تعيد النظر فيه، وبدأت دراسات علمية فى هذه الجوانب.
والدراسة العميقة تودي إلى غياب الشعارية والتسييس الُمبسّط والخطر وتقترب من رصد الحالة الموضوعية للتطور، واحتمالاتها المختلفة، وبالتالي تغدو أكثر تبصراً على صعيد التأثير اليومي.
بطبيعة الحال أسهم سلامة موسى في نشعر ثقافة تنويرية ونهضوية في حدود معينة، وهناك أجيال من الشباب تدين له بالفضل بسبب دعواته للعلم والثقافة والتمدن، وقد شرح العديد من النظريات ببساطة، ولكن يبقى أن يؤخذ تراثه بقراءة جديدة وبحذر علمي.
وهناك دراسات كبيرة كتبت عنه، ولكنها إما أن تمدحه بإفراط أو ترفضه بتعصب شديد، ولهذا فإن دراسة موضوعية عنه، وتجميع كتبه في طبعات جديدة كاملة، هي أمور ضرورية لاكتشاف وعينا العربي المعاصر بشتى جوانبه.
لقد كتب عنه الباحث المغربي عبدالله العروي في تقويم أقرب إلى الدقة حين وصفه بانه نموذج لـ سبنسر، وهو المؤلف البريطاني الذي مزج بين الداروينية البيولوجية والحياة الاجتماعية.
وليس صحيحاً ما قاله المفكر محمود أمين العالم عن سلامة موسى ورفضاً لرؤية العروي: إن سلامة موسى له جذور بابن خلدون وغيره من المؤرخين والباحثين العرب.
عبــدالله خلـــــيفة : وعي النهضة عند سلامة موسى
August 10, 2023
أسئلة الصمت والقهر في الاستفاقة على أوجاع التاريخ !
㋡
كمال الذيب*
يلتصق المشروع القصصي للروائي عبـــــــدالله خلــــــــيفة فكرة ولغة، بهموم الواقع العربي، يجترح موضوعات اقاصيصه ورواياته وشخصياتها من الواقع المحلي بامتداداته الخليجية، انتقل من كتابة القصة القصيرة إلى الرواية التي اصدر منها: اللآلئ، الهيرات، أغنية الماء والنار، وامرأة. والينابيع والاقلف، تصب في مجموعها في هاجس تغيير الواقع وملامسة معطياته. هاجس منطقة تعيش بين ثروة ضخمة ومحاولات تغيير مضنية..
قراءة في الينابيع:
من بين الاعمال الروائية الأكثر أهمية ولفتا للانتباه رواية «الينابيع» (ثلاث أجزاء). بالإمكان القول ان الحقل الروائي التخيلي في هذا العمل يطمح إلى نوع من المسح الروائي لـحكاية البحرين الحديثة، حيث يعلن القاص في هامش الصفحة الأولى من الجزء الأول بأن هذا العمل الروائي يتحرك في فضاء زماني ومكان محلي: البحرين في بداية القرن العشرين، وتوحي مجريات هذا الجزء بأن أحداث الرواية تتخذ انطلاقا لها ينابيع مفتتح القرن العشرين.
والزمان والمكان هاهنا متلازمان، وسواء أجاء متطابقين مع الزمان والمكان الواقعيين تطابقاً تاريخياً أم جاء غير متطابقين فإن قراءة الرواية تدخل القارئ في زمان ومكان يتنازعان الواقعية والخيال، فإذا كان المكان البحريني للرواية يمثل الخلفية التي تقع فيها أحداث الرواية، فإن الزمن من صنع الكاتب، ويرتبط بوعيه أو قراءته لأحداث القرن العشرين. وعند مقاربة أهم مكونات هذا العمل الروائي من الداخل، هناك عدد من العناصر المتعلقة بالمداخل وإيحاءاتها تحتاج على وقفة موجزة.
أولاً : العنوان: أية ينابيع؟
إذا كنا نتفق مبدئياً بأن العنوان لا يوضع اعتباطاً من حيث المنطلق، فإن اختيار الروائي للعنوان يفترض أن يكون ذا صلة بمتن الرواية، ونقول: اذ يبدو العنوان اختياراً؛ لأننا نعتقد بأن العنوان ينشأ في ذهن الكاتب ليس من غياهب المجهول أو من الصدفة، وإنما ينشأ من عدد كبير وقد يكون غير محدود من الإمكانيات التي تختزل أو يمكن أن تختزل الرواية في دلالة رمزية ذات طابع شمولي أو جزئي دال أو ممثل لسير الجوهري، والعنوان هنا ليس لحظة بداية مثلما هو الشأن بالنسبة لفاتحة الرواية، وإنما هو لحظة الخروج لتقديم النص إلى القارئ في كلمة أو كلمات ليست اعتباطية.
الينابيع جمع ينبوع، وهي معرفة أي أنها محددة، أي ليست ينابيع، فهي ينابيع محددة بالزمان والمكان البحرينيين، وكل ما توحي به الينابيع من معاني البداية والأصل والجذور، وبما توحي به من خصوبة وحياة، وهي بصيغتها المجردة من التركيب، تكاد تكون مرادفة للجذور، وهي بصيغتها تلك تفتح الباب مشرعاً أمام احتمالات مختلفة لاستكمال البناء الجملي بالوصف أو بالخبر، إلا أن قراءة الرواية تعطي للجملة الناقصة بقاياها التي تقرب المعنى إلى الجذور: جذور الحياة في هذا المكان والزمان، وجذور تلك الروح المتمردة العاشقة للحرية والحياة، كما سنرى في متن الرواية.
ثانياً : الهامش: البحرين في بداية القرن العشرين
في الفصل الأول من الجزء الأول من الرواية في (ص 9) حرص الروائي، وقبل مفتتح الرواية ومع إشارة الإحالة المتصلة بالرقم(1) على أن يحيلنا على هامش مهم، وليس جزءاً من زمن السرد المتخيل، وإنما هو إطار زمني خارجي لتأطير الرواية في ذهن القارئ، فأحداثها تدور في بداية القرن العشرين في البحرين، وعليه فإن القارئ يدخل بهذه الإحالة في شبكة استحضار للتاريخ الفعلي، وهكذا يقحمه الروائي في عمله ليستحضر الأحداث الفعلية، والأشخاص الفعليين، والأمكنة الفعلية، في موازاة الأحداث والأشخاص والأمكنة التخيلية داخل الرواية، وعليه أن ينجز بنفسه عمليات التقاطع ليدرك الحدود الفاصلة بين الواقع والخيال، ولكنه أيضاً ليؤكد بأن الرواية ليست محض خيال يدعيه الروائي وينسبه إلى عبقريته في الإنشاء، بل هو بحث القارئ على أن يدخل وعيه التاريخي، وهو يحمل معه كشافاً في دروب الرواية المختلفة.
صحيح أن الرواية إنشاء لغوي وأدبي خالص، وإعادة إنتاج لذلك الواقع وفق شروط الذات المبدعة، وفق «أيديولوجية» الكاتب، إلا أنها كما يطرحها عبـــــــدالله خلــــــــيفة في هامشه الافتتاحي إحالة على رواية أخرى موازية، هي رواية التاريخ الذي يحتوي الزمان والمكان والإنسان معاً. وعليه فإننا بهذا الهامش نجد أنفسنا كمتلقين أمام روايتين، وليس أمام رواية واحدة: رواية المتن، ورواية الهامش، وعلى القارئ أن يتهيأ لخوض الرحلة بعد أن أدخله الروائي في لعبة التبعيد «البريختية».
ثالثا ً: فاتحة الرواية
إذا اعتبرنا فاتحة الرواية ـ ولا نقول المقدمة ـ لحظة فريدة، لحظة تأسيس، فإننا سنتعامل معها منطقةً إستراتيجيةً يتم من خلالها عبور الكاتب وعبور القارئ على حد سواء على دروب الرواية، وكل بداية هي لحظة اتصال حسية بين المؤلف والقارئ، ولذلك تتحول إلى علاقة حوار عبر آليات القراءة، والقارئ هنا بما يمتلكه من ثقافة وخبرات أدبية ولغوية قادرة على تحقيق أدبية النص، وتكفيك رموز البدايات الأساسية، وعليه فإن تلك البدايات إما أن تنجح في اجتذابه على عالم الرواية، وإما أنها تفشل في ذلك فيعرض عنها منذ البداية. فكيف بنى عبـــــــدالله خلــــــــيفة مفتتحه الروائي في الينابيع؟ وهل يمثل هذا المفتتح مفاتيح أساسية للدخول إلى عالمها؟
يمثل الفصل الأول من الرواية مفتتحها الكامل دون نقصان، وهو محمل بالأسئلة والقنابل الموقوتة التي ستنفجر في ثنايا النص الروائي فيما بعد.
«كان محمد يصغي إلى صوت العود الواهن..».
«إن الفجر يترنم، كأن وجعاً ينهار في قلب زهرة..».
«كأن الطفلة تصعد إلى ذروة التلة المشتعلة».
«هو ذا العود يسري في الليل، ويجلب الفجر على الفراغ الواسع والبرية الثكلى».
«هو ذا يقطره في ثقوبه، ويحرقه فرشات وصرخات، ويعصره في هذا السرير الفائض بالعرق، والخوف، وتلال القطن اليابس».
«لماذا يتخفى أخوه وراء الجدران، ويعزف وينزف في هذه العتمة المسربلة بدم الضوء الشحيح، ويئد الأوتار في التربة القاحلة؟».
«لماذا يضع الجدران والوسائد فوق تلك الآلة الرهيفة الرقيقة التي حالما أمسكها بكى؟».
«وكأن صهيلاً يندفع فوق التلال المعشوشبة، وتنهار القلاع المتبقية ومدافعها الحديدية الصدئة، كأن الفرسان».
«كأن الفرسان ينامون وتسحب العصافير أسنتهم وأظافرهم».
«كأن الليل صار فتى وامرأة ضوئية ترقص في جرار الخمرة، والسفن تجلب قمحاً وفرحاً، والبلدة الرفيعة فوق التلة تصحو على صوت الدفوف، والديوك، ونوافير اللذة».
«لماذا يعرق ويرتعش كأن حمى صادفته فجأة، أو حياً مات بغتة؟».
«لماذا يبكي ويضحك، ويتسرب بين الدهاليز والأبواب، والنسوة، والأخوات غارقات في النوم، وتكاد أرجله العجلى تخدش الرؤوس، وأطراف أصابعه لا تكاد تحط على جثث الأحلام؟».
ذلك مقطع مدخلي من المفتتح، يرسم الملامح وعلامات الاستفهام، ويغري بالدخول على عالم محمد وأشواقه تتفتح على صوت العود في الفجر، في الفراغ وسط أرض ثكلى، وفي إطار مكاني مجتمعي يكتم أنفاس العود، ويقع الجدران والوسائد فوقها ليكتم أنفاس تلك الآلة الرهيفة.
ويعدّ أنغام العود (فضيحة)، وينصب لها مشانق الهواء، بل إن الأب إذا عرف أن أخا محمد يعزف على هذه الآلة العار فإنه سيقتله. وتكتشف أن محمداً يعيش حالة تناقض صارخة، بين أشواقه النارية المتحفزة إلى معرفة «العود الذي يحبه كثيراً، والذي سيجن بعيداً عنه» وبين أب متحجر، محافظ، مستعد لذبح الفجر «يعود إلى الفراش، ويلعن الفجر المذبوح على نافذة المنزل، يغفو ليجد عصا أبيه وهي تلتهم كتفه وظهره، وصرخاته اللاذعة تقلب ترنيماته وأغانيه الصغيرة إلى ثغاء». ص 10.
نعرف أن محمداً يعيش في أسرة كبيرة العدد، وهو أصغرهم «ويعرف مكانه، في الصف حشد من الأخوة والأخوات البيض، يقف أمامه حاجباً قامة أبيه التي تقود فرقة الصلاة الخاشعة» ص 10.
ونعلم بأنه يكره المطوع وحوشه الذي يفتتح به صباحه يومياً، لأن «عصاه تهتز في السماء كنسر جبار يلتذ بلحم الرؤوس وبدموع العيون» ص 11.
وحتى عندما يتلذذ محمد بترتيل القرآن فيهتز له وينغمه فإن عصا «المطوع تقع فوق كتفه، وصوته يصرخ: أتغني يا محمد؟». ص 11.
ولكنه بدل أن ينكمش على نفسه ويخضع «اندفع وحيداً عن أخوته، وسحب العود، وراح يعزف، فطلع له من البرية أولاد الرعاة، وجنيّات البئر، ورشقوه بالحصوات، وأغصان الشوك، والسخريات، فوجد الأوتار مثل قوس قزح، تتفتت في الريح والهذيان». ص 11.
ذلك هو المفتتح الروائي، وهو مشهد مدخلي فسيفسائي، ركّبت مادته من صور وليه لطفل كالكرة المطاطية، يريد أن يقفز ويتحرر من محيط خانق محافظ، وهذه نقطة الصفر لبداية الحكي، فالكاتب هنا لم يبدأ من هوامش ثانوية، بل من لحظة حكائية محملة بالأسئلة والحيرة والقلق، تشي بإمكانيات صراعات وأزمات سيعرضها السرد على القارئ في بقية الفصول، بحيث تندفع الأحداث في اتجاه تصاعدي مركب من خلال محمد الدينامو الرمز الذي بتحركه الزماني والنفسي والفكري تتحرك الأحداث التي يحتويها التاريخ، والصراع الطبقي، والتحولات الاجتماعية التي يكشف عنها النص الروائي في فصوله اللاحقة.
أخيراً يمكن أن نشير في هذا المفتتح إلى التقابل الموجود بين نقطتين من الزمن زمن السرد، أحداهما الفاتحة النصية، وتمثلها صيغة الماضي المتذكر (كان محمد)، في حين ترسم الجمل الأخرى المحكومة بأداة التشبيهه (كأن) التي تكررت في هذا الفصل التمهيدي 13 مرة نسقاً إخباريا، وصفياً، موازياً لحركة محمد، ومفسراً لها، ومكثفاً لها، وحافاً بها باستخدام الفعل المضارع: (يشري / يجلب / يتخفى / يعزف / ينزف / يئد / يضع / يندفع..).
فالجملة الماضية (كان) ترسم الماضي المتذكر، والجمل المضارعة ترسم حاضر السرد الذي بالقياس إليه يتشكل وتتحدد صور الماضي المستحضرة في النص، وهي التي ستنفجر من أقسامها خيوط الحياة المستدعاة. ويضاف إلى أفعال المضارعة أسماء الإشارة (هو ذا العود – هو ذا) لترسيخ حاضر السرد المشبع بالانفعالات، والتطلع، والحيرة، والغضب.
وفي الخلاصة، فإن المفتتح المحمل بأسئلة الصمت والقهر الإنكارية، ومن خلال رسم الملامح الأولى للعلاقة بين (محمد) الذي يتصدر المفتتح، وبين المكان، والزمان، والأشخاص في الرواية، في شبكة من العلاقات قد وضع أسس الجذب والجاذبية للقارئ الذي يجد نفسه (متورطاً) في البحث عن إجابات، وقد نجح المفتتح أيضاً في رسم الملامح الإشكالية الأولى لعلاقات (محمد) بالآخرين:
علاقته مع نفسه (حالة صراع وتطلع لخوض معركة الوجود استجابة إلى نداء داخلي واستعداد للعراك).
علاقته بوالده (قائمة على القهر، والعنف، والإذلال، والتحريم).
علاقته بالمطوع (قائمة على الكراهية، والقهر، والاضطهاد، والتحريم).
علاقته بعموم أخوته وأخواته (قائمة على اعتباره طفلاً صغيراً في آخر الطابور، ومصدراً للسخرية والتندر).
علاقته بأخيه الأكبر العازف السري المتستر، فيه إعجاب، وخوف، وحيرة، وتعاطف سري؛ لأن حب العزف والأغاني يجمع بينهما في ما يشبه الممارسة المحرمة.
إن الروائي ها هنا يرسم الملامح الأولى لتصوره، الذي لا ينفصل فيه المتخيل عن الواقع، إذ هناك جدل حيوي بين حيوية التخييل وواقعية التجارب المتذكرة، باعتبارها مادة القص الخام كما وقعت في التاريخ البحريني.
أن المشهد الافتتاحي تراءى لنا كإطار عام تمهيدي لبناء الشخصية، وليس مشهداً استباقياً يعود إليه القاص من جديد؛ ليكشف للقارئ عن طلاسمه، ويمده بالحقائق والتفاصيل، لأن الكاتب ليس معنياً بهذا النوع من البنية القصصية، فاختياره يكاد يكون تاريخياً يبدأ من الأسفل إلى الأعلى في حركة لولوبية، إلا أن ذلك لا يعني أن النص يخلو من الطاقة التشويقية، فمنذ هذا المفتتح نجد تلك الطاقة القائمة على التلميح دون التصريح، أي على ما يسمى بالإمساك الإخباري، بحيث تبدو تفاصيل المشهد معلقة ومحاطة بهالة من الغموض، من خلال الاستفهامات التي طرحها المشهد:
لماذا يتخفى أخوه…؟
لماذا يضع الجدران والوسائد فوق تلك الآلة؟
لماذا يعزف ويرتعش كان حمماً صادفته فجأة وحياً مات بعته؟
لماذا يبكي ويضحك وتسرب بين الدهاليز والأبواب؟
أتريدُ أن تفضحني؟
أتريد أن يقتلني أبي؟
أتغني يا محمد؟
وهذه الاستفهامات تولد استفهامات موازية لدى المتلقي، وهكذا تصبح عملية القراءة جملاً استفهامية متلاحقة تكشف باستمرار عن فراغات عميقة متلاحقة، تضطرنا الرغبة في سدّها إلى متابعة السرد دون تأخير، وهذه هي الوظيفة التسويقية.
رابعاً : بناء المكان… بناء الزمان
إذا ما عدنا إلى المكان والزمان في هذه المفتتح الروائي أمكن تسجيل الملاحظات التالية:
هنالك الزمن الخارجي الإطاري المعلن في الهامش (بداية القرن العشرين)، وهنالك زمن السرد الذي هو الفجر، وهو فجر الأحداث في المفتتح، وفجر الرواية، وفجر القرن العشرين، أي أننا زمانياً قريبون جداً من الينبوع الأول للرواية. وهنالك إطاران للمكان: المكان الواسع الإطار الخارجي (الفراغ البرية الثكلى)، وهنالك المكان الضيق المتمثل في البيت (الدهاليز، والأبواب، والجدران العالية) والمكان الذي يعلم فيه المطوع، والقرآن، والضربات، والجلد. والمكان والزمان متلازمان أو هما توأمان، ويعدّ المكان بمثابة وعاء الزمان، ويمثل كذلك إطار الأحداث في الرواية أو الخلفية التي تقع فيها هذه الأحداث، والمكان هنا يضعه الروائي ويبنيه بكل عناصره، سواء أكان مطابقاً للمكان الواقعي أو غير مطابق له. والمهم أن الإطارين يشيان بوضوح بحالة من الاختناق بالنسبة لمحمد، وحالة من الحصار سوف تبرر (خروجه) و(مروقه) على الأنماط القائمة على (الأب) وعلى (المطوع) وعلى النواميس العبودية الإقطاعية الإخضاعية.
هذا هو الإطار الذي تتفتح به الرواية، وهو إطار يهيئ للخروج والتحولات، فمثلما أفضى الاستعباد الفردي إلى هذا الضيق الذي حاصر محمد فجعله (يخرج)، فإن العبودية الاجتماعية في لواحق الرواية سوف تكون مقدمة لتحولات، وخروج من نوع آخر. إن هذه المقدمة، أو الفصل، أو المفتتح الروائي ليست مجرد فعل تسجيلي بريء، ولكنها لحظة تأسيسية لهوية السردية تصبح نقطة مركزية في صياغة ينابيع التاريخ من بوتقة الذات.
إن الينابيع تبدأ في التدفق من هذه اللحظة لتؤسس لعملية بناء تاريخ المكان البحريني في الزمن المعلن، من خلال بناء التاريخ الشخصي والعائلي لمحمد، ومن خلال الصور المتدفقة عبر التاريخ الواقع والتاريخ المتخيل في الرواية في حلقات الاضطهاد المصغّر والمكبّر، والصراع بين الدوائر، بين الخارج والداخل، وبين الداخل والداخل، وبين محمد ودوائر الاضطهاد الداخلية، بما فيها تلك التي تسكن الوجدان والمخيلة: الأب، والمطوع، والآخر، فالأب يمنعه من العزف والغناء، والمطوع يجرّمه، وسالم الرفاع، والحراس، وثلة المطاوعة. سلسلة من حلقات الاضطهاد والكبت تحاصره، وتتكشف بالتدرج في النص الروائي، وتخلق تدفقه واندفاعاته في بقية الفصول. وهكذا يصبح العالم الروائي عندما يتأسس فاعلاً من خلال تلك اللغة الحية التي اختارها عبـــــــدالله خلــــــــيفة وسطاً بين السرد القصصي والشعرية منذ اللحظة الأولى في الرواية:
كان محمد يصغي إلى صوت العود الواهن: لغة السرد.
كأن الفجر يترنم/ كأن وجعاً ينهار في قلب زهرة / كأن الطفلة تصعد إلى ذروة التلة المشتعلة: لغة الشعر.
في الخلاصة:
إن اختيار عبـــــــدالله خلــــــــيفة لموضوع هذه الرواية المرتبط بعمق تكوينه ومعايشته للواقع البحريني، جعله يعالج موضوع هذه الرواية بنوع من اللغة المشحونة بالانفعال، حتى تخال الكاتب يقترب من تسجيل حياة يعرفها حق المعرفة بكل تفاصيلها، ولذلك نشأت لغة حميمة سيطرت على مخيلة الكاتب حتى أضحت وسيلة لتفريغ الرؤية الذاتية والأفكار الخاصة العامة بالطبع، ووحدة اللغة الحاملة لوحدة المعاناة ردمت أي مساحة قد تفصل ما بين الواقع التاريخي والواقع الروائي،
فتداخل الاثنان في سيرة ساخنة، وانضما لينشدا نشيد بوح الألم والقهر والأمل.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* كاتب من البحرين
August 7, 2023
تداخل الهتلرية والستالينية
تعطي الدراسات والحوارات الجديدة التي تبثها المحطات الفضائية مادة جديدة عن أحداث التاريخ المعاصر الكبرى التي لاتزال متوهجة على خشبة مسرح العالم المغمور بالدماء والإنجازات.
ومنها هذا التعاون الوثيق الذي تشكل بين هتلر وستالين وتبادل الخبرات الأمنية بينهما، وتدرب ضباط الأمن والجيش السوفييت لدى أجهزة الجستابو ومن ثم اقتسام غنائم البلدان وتشريد شعوبها.
رغم تباين طبيعة النظامين المختلفين، فإن الدكتاتورية تفرز ظواهر مشتركة، فحين تهيمن زمرة حزبية على نظام ما، وتلعب ملكية الدولة العامة دوراً محورياً في الاقتصاد، وتغيب مشاركة الشعب في السلطة، فإن الأجهزة الأمنية والعسكرية تنفرد بتقرير شئون الحياة اليومية، وتصير أخطبوطاً يسرق أشكال الحياة من الناس.
ولهذا فإن ضخامة الدعاية التي وجهت لتلميع صورتي الطاغيتين، والتي لا يزال بعض بقعها مستمراً إلى يومنا هذا، لم تستطع إخفاء الدور الشرير والسيئ الذي لعبه كل منهما.
إن الطغيان هو الطغيان والبشر الذي يموتون من أجل رأسمالية الدولة في الشرق، لا يختلف دمهم عن البشر الذين يموتون من أجل الاحتكارات في الغرب.
ولم يكن الزعيمان الوحشيان إلا نتاج ثقافة شمولية ومحافظة استمرت على مدى قرون تتصاعد في ألمانيا وروسيا. كانت ألمانيا تتوحد بالحديد والنار عن طريق بسمارك الذي قاد مقاطعة بروسيا الألمانية الإقطاعية ذات الانضباط العسكري والتي يقودها النبلاء المتعالون، وحتى المسيحية خضعت للكراهية في الفكر القومي الألماني الذي لم يؤيد المحبة والتسامح، بل شجع على الفردية المتغطرسة والتعالي القومي وإرادة القوة كما تجلت لدى الفيلسوف الألماني المحبوب من الفاشيين وهو (نيتشه)، الذي قادته هذه الأفكار وكراهية الجمهور العامل إلى الجنون.
وقد سبق هتلر في الجنون السياسي إمبراطور ألمانيا في بداية القرن العشرين الذي طور روح العسكرية المتفوقة والقومية المتعالية، وادى غياب المستعمرات لدى المانيا إلى دخولها الحرب للحصول عليها، فكانت الكارثة وكان هتلر تتويجاً لهذا الانفتاح الدموي الألماني.
أما ستالين فقد كان نتاجاً لنمو الدكتاتورية في الحزب البلشفي، التي وضع أساسها لينين، حين عمل في أيام العمل السري على تشكيل منظمة منضبطة وصارمة، وموجهة للقضاء على الدكتاتورية القيصرية المتخلفة، والتعجيل بتطور روسيا الرأسمالي، ولكن تحولت الدكتاتورية الحزبية إلى وراثة للدكتاتورية القيصرية وهياكلها الأمنية والعسكرية تحت مسميات جديدة، بدلاً من القبول بتطور روسيا الرأسمالي الديمقراطي والتحديثي.
وهكذا فإن المؤسسات السياسية البلشفية الدكتاتورية الواسعة أنتجت قيادات مصغرة تتمتع بكل السلطات، حتى صار الصراع في الكبت السياسى فى العشرينيات من القرن العشرين بين الوجوه البارزة فيه صراعاً شخصياً بين الوجوه الدكتاتورية المحتملة، لكن كان ستالين الطالع من أقبية المخابرات القيصرية ومن حثالة البروليتاريا قد استطاع أن يجمع العديد من الأجهزة الأمنية تحت قيادته والتي وظفها لإزاحة كافة المناوئين لسلطته، وقد بدا ذلك بشكل الضغوط والمناورات السياسية والأيديولوجية وانتهى بالمذابح الحزبية والشعبية.
أما ما يقال عن قيادته الفذة للحرب العالمية الثانية فقد كانت أخطاؤه فيها لا تغتقر، وكان تعاونه البغيض مع هتلر والتداخل الذي جرى بين أجهزة الدولتين والجيشين لسحق الشعوب، سبباً في تحطيم اليقظة السياسية والفكرية عند السوفييت، ورغم المعلومات الدقيقة التى جاءته من مخبر موال للروس فى اليابان والتي حددت بدقة موعد الهجوم الألماني على الاتحاد السوفيتي إلا أن ستالين ترك الجبهة خالية من قوات الدفاع. وبعد ذلك حين تصاعدت المقاومة لدى السوفييت وبرزت كفاءات الضباط الكبار في إدارة الحرب، فإن ستالين أزاح العديد منهم، واستمرت الدكتاتورية العسكرية في الهيمنة على الجيش وتكليف الروس الكثير من الضحايا . وبعد الحرب واصل ستالين سلخ جلد الشعب وذهب دون عقاب.
لقد قاومت الشعوب السوفيتية ومناضليها ببسالة الطاعون الهتلري وبدون هذه المقاومة كان تاريخ البشر المعاصر سيكون مختلفاً.
الرقص ودلالاته الاجتماعية
حين ظهرت الأديان السماوية في المشرق العربي اضطرت وهي تواجه الثقافة الوثنية بفنونها الكثيرة، المتداخلة مع عبادة الأوثان، والمُفككة للمجتمعات، أن ترفض الثقافة القديمة بجملتها، متوجهة نحو عوالم جديدة من التطور الاجتماعي والثقافي.
ولهذا ظهر رجل الدين كإنسان بعيد عن الرقص والفنون عامة، خلافاً لرجال الدين في الكثيرمن الحضارات، التي تمازج الفن فيها مع الدين.
وعلى الرغم من انتهاء الوثنية وطقوسها وعباداتها، فإن الحذر من الفنون ظل مهيمناً على الوعي الديني الصارم، الذي اخذ يتمسك بالأشكال المقطوعة عن سياقها وأسبابها.
لم تعد الفنون بعد تجذر الأديان السماوية في المشرق وفي العالم مبعثاً للخوف، أو للارتداد إلى الوثنية، ولهذا فإن الكثير من المتدينين والمسلمين عادوا إلى الفنون، وإلى الرقص تحديداً، لأنه فن جماهيري جميل ومفيد صحياً.
وقد تداخلت الفنون حتى مع ظهور الأسلام وانتشاره خاصة في الاحتفالات الجماهيرية في الهجرة وبالمولد النبوي والفتوحات والإسراء والمعراج.
إن الفنون الشعبية الإسلامية فيها الكثيرمن فنون الرقص الفردي والجماعي، وهي كلها فنون لها دورها في تقوية العلاقات بين الجمهور، وتكريس احتفالاته الزراعية والعسكرية والإنتاجية والاجتماعية المختلفة.
وهناك صورة سيئة للرقص هي ما يعرف بالرقص الشرقي الذي تقوم به الراقصات وهو رقص ظهر في القصور لتسليه الحكام والأغنياء وتأجيج شهواتهم، حيث يُظهر المرأة بصورة قبيحة، وهولا علاقة له بالرقص الحقيقي، ولكنه دائما يُتخذ كأنه الرقص الوحيد لدى العرب! وقد تحول إلى ظاهرة حين استغله أصحاب الحانات والمراقص لجذب الرجال المسلمين المتعطشين والمحرومين لأي مظهر جنسي.
إن انفصال الفنون عن الاختلاط وعن المشاركة الجماعية والفرح قد فتح الباب لهذا المظهر الوضيع من الرقص ومن العرض المبتذل. بعكس الغرب أو بقية المناطق، حيث استمر الاختلاط والرقص الشعبي الجميل والظاهرات الحضارية، وغاب لديهم الرقص الشرقي العربي حيث تقوم الراقصات باستعراض لحمهن!
وتطورالرقص في الغرب على ضوء هذا النمو الحضاري ليتحول إلى فنون الاستعراض المختلفة، كالأوبرا والمسرحيات الغنائية، وهنا نجد الأجسام وأحياناً شبه العارية ولكنها تتحول الى شموع مقدسة، وإلى شعر بشري مجسد، وإلى ذروة من الأخلاق والسمو بعرض الحكايات والقصائد والملاحم المتضافرة والموسيقى السيمفونية الراقية، وهنا على العكس لا يغدو الجسد الراقص إلا سبيلا للتطور الأخلاقى!
ليس للرقص معانيه الجمالية الرفيعة فحسب بل هو أيضاً وسيلة للتربية والعلاج النفسي، وكثير من عقد العرب الاجتماعية والنفسية ناتجة من عدم المشاركة في الرقص، وتغييب الاحتفالات الفرحة، بزيادة السعرات الحرارية في الجسم وتراكم الشحوم والضغوط والعقد النفسية وهيمنة الذكورية من جانب أوالأنوثة من جانب آخر، وعدم وجود الكهرباء الاجتماعية الخلاقة التي تصهر المجموع وتزيل الكثير من الحواجز و السرطانات الفكرية من داخله.
وهذه التربية المعادية للفتون الراقية هي التي جعلت العديد من العرب والمسلمين أثناء زياراتهم للغرب أو الشرق، يتوجهون لعلب الليل غير الصحية، وأماكن العروض المبتذلة، ويتركون المتاحف والمسارح الراقية والمراقص الفنية الجميلة!
وعي النهضة عند مهدي عامل
لا شك أن المفكر اللبناني الراحل مهدي عامل من المساهمين البارزين في تحليل الواقع العربي المعاصر من منطلقات نقدية عميقة وخاصة من رافد الماركسية البنيوية، التي قام بتطبيقها على الواقع العربي بصورة حرفية، دون رؤية الاختلاف بين مستوى التطور الغربي، وتطور البُنى الاجتماعية العربية.
ونحاول في هذه الموضوعات قراءة آرائه وتحليلاته لندوة جرت في الكويت في السبعينيات من القرن الماضي، اتخذت لها عنواناً هو ( أزمة التطور الحضاري في الوطن العربي)، وقد ناقشها في كتابه (أزمة الحضارة العربية أم أزمات البرجوازيات العربية ؟)، ونعتمد على الطبعة السابعة للكتاب الصادرة عن دار الفارابي ببيروت سنة 2002.
يفترض مهدي عامل مسبقاً، ودون دراسات، بأن المجتمعات العربية هي مجتمعات رأسمالية. فهو يصر على أن ( نمط الإنتاج الرأسمالي المسيطر في البنيات الاجتماعية العربية) ص 16.
إن هذا يبدو لوعيه شيئاً بديهياً، صحيح إنه يقول أن ثمة علاقات ما قبل رأسمالية في هذا الإنتاج غير أنها ليست سوى بقايا.
فيقول بوضوح: إن فهم تطور بنية علاقات الإنتاج الرأسمالية مثلاً في البلدان العربية في الوقت الحاضر، وفهم أزمات هذا التطور يستلزم بالضرورة الانطلاق بالتحليل من هذه البنية بالذات في شكل وجودها القائم في كل من البلدان العربية.)، ص21.
وليس ثمة من الضرورة بحث جذور هذه البُنى ( مع ظهور الإسلام مثلاً، أو مع الجاهلية، أو مع بدء العصر العباسي أو الأموي أو الأندلسي أو عصر الانحطاط الخ…، بل هو يبدأ مع بدء التغلغل الإمبريالي في النصف الثاني من القرن التاسع عشر.)، 21.
وهو يعترف بأن ثمة ( أشكالاً من الإنتاج سابقة على الإنتاج الرأسمالي لا تزال حاضرة في البنيات الاجتماعية العربية )، غير أنها ليست سائدة فيه، بل الإنتاج الرأسمالي هو السائد.
ونحن نحاول أن نفهم كيف استطاع الاستعمار أن يجعل من هذه العلاقات سائدة؟ أي كيف استطاع أن يجعل العلاقات ما قبل الرأسمالية لا تسود بل أن تسود العلاقات الرأسمالية ؟
لا يقوم مهدي عامل ببحث هذه المسألة تاريخياً، بأن يعطينا أمثلة عن بلد عربي ومنذ القرن التاسع عشر تحول إلى الرأسمالية ؟ فلا نجد.
ولا أن يقوم بتحديد متى استطاعت البرجوازيات العربية أن تستولي على الحكم وتنشر النظام الرأسمالي الشامل ؟
ومن جهة أخرى فهو يؤكد بأن (كثيراً من علاقات الإنتاج الاجتماعية، سواء في الحقل الاقتصادي أم السياسي أم الإيديولوجي، التي تنتمي إلى أنماط من الإنتاج بالية، أي بالتحديد، سابقة على الرأسمالية، لا تزال قائمة في البنيات الاجتماعية المعاصرة )، ص 53.
ينطلق مهدي عامل لتحديد هيمنة الرأسمالية على العالم العربي منذ القرن التاسع عشر بشكل مضاد للقراءة الموضوعية، وهو يفترض رأسمالية سحرية تتشكل منذ أن تطأ بوارج بريطانيا وفرنسا الشواطئ العربية، في حين إن الرأسمالية تتعلق بمدى تشكل الرأسمال الخاص في القطاعات الاقتصادية المختلفة، ومدى انتشار العمل المأجور على بقية أنواع العمل في النظام الاجتماعي.
وتتحدد سيطرة البنية الرأسمالية بوصول منتجي البضائع إلى سدة الحكم، وإزاحة ملاك الأرض وإقطاعيي السلطة السياسية، وسيادة العمل بالأجرة، وهي كلها أمور لم تتحقق في نهاية القرن التاسع عشر ولا في نهاية القرن العشرين العربيين !
ولكن مهدي عامل يُصادر ببساطة، قبل أن يبحث، فهو منذ البدء يقول : (أزمة البرجوازيات العربية..) فأفترض إن هذه البرجوازيات قد حكمت وتعفنت في الحكم وهي مأزومة الآن ؟! في حين إن البناء الاقتصادي والسياسي لم تتحقق فيه شروط انتصار الرأسمالية !
ولكن ذلك لا يتعلق فقط بالبحث الفكري بل والأخطر بالمهمات السياسية المباشرة، فيقول بأن: ( المهمة الأساسية لحركة تاريخنا المعاصر بهذا الشكل، لاتضح لنا أن تحققها يمر بالضرورة عبر عملية معقدة من الصراع الطبقي ضد البرجوازيات العربية المسيطرة ..)، ص 39.
ولكن كيف يمكن إسقاط أسلوب إنتاج لم يُسد وطبقات لا تحكم ؟
علينا أن نناقش مسألة أسلوب الإنتاج الكولونيالي التي طرحها مهدي عامل، كي نقوم بتفكيك تفكير هذا المفكر، وهي التي اعتبرها حجر الزاوية في نظريته حول تطور العالم العربي.
كما رأينا سابقاً، ( راجع الفقرة حول التاريخ العربي) إن مهدي عامل يرفض تحليل البنية الاجتماعية العربية الحالية من خلال جذورها، وهو ينتقد المفكرين العرب المجتمعين في الكويت لمناقشة ( أزمة تطور الحضارة العربية) بسبب قيامهم بالعودة إلى جذور التاريخ العربي، طالباً الوقوف عند العصر الراهن والنظر إلى الماضي من خلال البنية الاجتماعية الراهنة.
إن مهدي عامل ينظر للبُنى الاجتماعية العربية الراهنة وكأنها صياغة أوربية غربية، فقد قام الاستعمار الغربي برسملتها، أي بتحويلها إلى رأسمالية ناجزة، وهذه الرأسمالية الناجزة يُطلق عليها أسم «أسلوب الإنتاج الكولونيالي»، وبهذا قام مهدي بخطئين كبيرين مزدوجين، فهو قد قطع السيرورة التاريخية للبُنى العربية الاجتماعية، أي قام بإزالة طابعها الطبقي التاريخي، وهي عملية يقوم فيها بالتمرد على القوانين الموضوعية لرؤية المادية التاريخية عن التشكيلات الخمس: المشاعية، والعبودية، والإقطاع، والرأسمالية، والاشتراكية.
فهو عبر هذه المقولة قد ألغى كون البُنى الاجتماعية العربية بُنى إقطاعية، فحين لا نبحث ألف سنة من التطور الاقتصادي والاجتماعي السابق، ونعتقد أن أسلوباً جديداً للإنتاج قد تشكل، وأسمه الأسلوب الكولونيالي، في خلال بضع سنين، وأن علينا أن ننظر للتاريخ من خلال هذا الأسلوب غير المحدد والغامض، فتتشكل لدينا هنا رؤية سياسية دكتاتورية تحاول أن تفرض نفسها على جسد التاريخ الموضوعي، بمعطيات غير مدروسة.
إن رفض تحليل الماضي، أي بحث التاريخ الإقطاعي للعرب، يتضافر لدى مهدي عامل، ورفض تحليل الحاضر، أي قراءة عمليات التداخل بين الإقطاع والرأسمالية، كأسلوبين للإنتاج موضوعيين في التاريخ العربي الراهن، ويطالب بمناقشة أسلوب إنتاج من اصطلاحاته هو أسلوب الإنتاج الكولونيالي .
ومع هذا فعلينا أن نناقش تسمية أسلوب الإنتاج المقترح، فمهدي عامل لا يُنكر وجود بقايا نظام تقليدي في هذا الأسلوب الذي انتصرت فيه العلاقات الرأسمالية، ودون أن يطرح أية أرقام أو معطيات على انتصار العلاقات الرأسمالية الموهومة، لكنه يعتبر إن العلاقات الرأسمالية المنتصرة في العالم العربي تشكل علاقة تبعية مع العالم الغربي حيث العلاقات الرأسمالية الأقوى، وهذه الأخيرة الغربية هي التي تقوم داخلها بتقويض أساليب الإنتاج الأخرى، في حين تعجز الرأسمالية العربية في علاقتها التابعة من تقويض أساليب الإنتاج السابقة داخلها، وبهذا فإن أسلوب الإنتاج الكولونيالي الذي سادت فيه البرجوازيات العربية يحتاج إلى ثورات عمالية لتقويضه والانتقال إلى الاشتراكية.
تتشكل هذه العموميات الفكرية من منهج مجرد يفرض قوالبه على الواقع الحي غير المدروس، فتلغى مسألة التشكيلة الإقطاعية بجرة قلم، ويتم تحويلها إلى تشكيلة أخرى متطورة بقفزة خيالية أخرى هي التشكيلة الرأسمالية الكولونيالية، ثم تحدث القفزة الأكبر إلى الاشتراكية..ولا يزال الباحث لم يحلل الإقطاع العربي وسيرورته السابقة والراهنة.
والغريب إنه في كتابه هذا ( أزمة الحضارة العربية..) يناقش جملة من المفكرين العرب الذين يقدمون له مادة تحليلية ممتازة، ولو أنه أبعد فرضياته الإيديولوجية المسبقة، أو استفاد بعمق من الماركسية البنيوية التي نقل تطبيقاتها لفهم البنية الاجتماعية، لأمكنه أن يدخل إلى دائرة التاريخ العربي وتشكيلته التي تظرب أسماؤها لديه. ولكنه حدد منذ البدء هؤلاء الباحثين كمنظرين للبرجوازيات العربية المستولية على الحكم والتي وصلت إلى الأزمة، وبالتالي يجب نقد وعي هذه الطبقات المسيطرة عبر وعي الطبقات الثورية الخ..
حين يناقش مهدي عامل الباحث العربي الدكتور شاكر مصطفى يتجاهل مهدي المادة الفكرية الثمينة التي يقدمها شاكر لتوصيف تطور المجتمعات العربية بقوله: ( إن الاستمرار الاجتماعي الذي تعيشه الشعوب العربية إنما تحكمه عناصر عديدة في مجموعها التركيب العربي القائم.. وأن لامتدادات التاريخ في هذه العناصر المكان الواسع إن لم يكن الأول..) وهذه ( العناصر الأساسية الباقية عند أربعة جوانب: أ ــ طرق الإنتاج المادي ب ــ تكوين نظام السلطة ج ــ طبيعة العلاقات الاجتماعية د ــ قيم الفكر التراثية ..)، ص 43.
هكذا نرى لدى شاكر مصطفى نظرة تاريخية موضوعية واقتراباً دقيقاً من فهم أسلوب الإنتاج الإقطاعي العربي الإسلامي المستمر عبر ألف سنة، الذي يتأسس في نظام السلطة والإنتاج معاً، ثم يتمظهر في العلاقات الاجتماعية: الأبوية، هيمنة الذكور ، اللامساوة الجنسية، الطائفية الخ..ثم يصل النظام الإقطاعي إلى المستوى الثقافي: الأمية، الخرافة الخ..
إن شاكر مصطفى يمثـل مقاربة علمية ( ماركسية ) من فهم التاريخ، ولكن ماذا يفعل مهدي عامل بمثـل هذه المقاربة ؟
بدلاً من أن يقوم بفهمها ودرس التاريخ العربي يقوم بالمصادرة السريعة، فيقول: (أما أن يكون هذا التاريخ الذي تكونت فيه البنية الاجتماعية للواقع العربي الحاضر، تاريخاً يرجع إلى ما قبل عشرة قرون خلت، أي إلى العصر العباسي أو أواخر العصر الأموي، فهذا ما نختلف فيه جذرياً مع الدكتور مصطفى )، ص 45.
فهو يحتار كيف أن هذه البنية المزدهرة يوماً ما تصبح هي نفسها سبب التخلف ؟ فيقول بلغته المعقدة الغامضة: (فالبنية هذه ليست في حاضرها، من حيث هي بنية، أي كلٌ معقد متماسك، سوى البذرة التي كانتها في الماضي، تنامت ، فتنافت وتواصلت في حركة من تماثـل الذات بالذات، وما الذات هذه إلا الذات العربية نفسها.)، ص 45.
إن مهدي عامل الذي ينتقد شاكر مصطفى على أنه صار يفكر بمنهج هيجل الجدلي المثالي، يعجز عن اكتشاف رؤية الوعي الموضوعي لدى مصطفى شاكر في فهمه للتاريخ العربي، ويصبح هو هيجلياً مثالياً.
فالبنية العربية الإقطاعية زمن الإمبراطورية العباسية كانت نظاماً مركزياً، والإقطاع المتحكم في الخراج الهائل يصرفه على البناء الترفي والثقافة المقربة المفيدة للنظام، ثم يتحلل هذا الإقطاع المركزي بسبب ثورات الشعوب، ليجيء نظام الإقطاع اللامركزي، وتظهر الدول والدويلات الإقطاعية، وتكرر بشكل أوسع إنجازات ومشكلات النظام السابق، ثم يتهرأ هذا النظام الإقطاعي الديني العام بتشكيلاته المتعددة، ليغدو أنظمة وإمارات إقطاعية صغيرة مذهبية الخ..
إن هذه السيرورة التاريخية تحافظ على قسمات عامة أشار لبعضها شاكر مصطفى في المقطع السابق ذكره، حيث يغدو الحكام هم المستولون على القسم الأكبر من الثروة العامة، وتتواشج السلطة والثروة، ويشركون رجال الدين في السيطرة على العلاقات الاجتماعية، أي ينقلون العلاقات الإقطاعية إلى البيوت والأحوال الشخصية الخ..
وإذا لم نقم كما يريد مهدي عامل بقراءة هذه السيرورة التاريخية الاجتماعية التي امتدت خلال ألف سنة، والتي تتغلغل في أبنيتنا الاجتماعية وقوانينا الوراثية وفي سلطاتنا المطلقة، وفي شعرنا ونثرنا وعاداتنا ولاوعينا، فكيف نقوم بتغيير هذه البنية التقليدية وتشكيل النهضة ؟!
إن مهدي عامل يخرق قوانين الوعي على مستوى قراءة الماضي، وعلى مستوى قراءة الماركسية، فعبر قراءة الماضي يتجاهل البنية الإقطاعية وسيرورتها الراهنة، وعلى مستوى الماركسية يقوم باختراع مغامرات سياسية محفوفة بالكوارث، عبر اختراعه مقولة أسلوب الإنتاج الكولونيالي وتصفية البرجوازيات العربية.
فهو بدلاً من قراءة الماضي ورؤية أسباب عجز البرجوازيات العربية القديمة عن تشكيل النهضة، والقيام بثورة رأسمالية، وقراءة أسباب ضعف البرجوازيات العربية الراهنة وعدم قدرتها على تغيير أسلوب الإنتاج الإقطاعي وتشكيل تحالف معها لتغيير التركيبة التقليدية يقوم بوضعها في خانة العدو والقفز ضدها إلى مهمات غير حقيقية ومكلفة كما دلت تجربة الشعب اللبناني.
يمثـل المفكرون الذين تواجدوا في الكويت لمناقشة مسائل النهضة العربية وكيفية إيجادها، نخبة اشتغلت في حقول الدراسات لزمن طويل، وبغض النظر عن اجتهاداتها ومدارسها فإنها تعبر عن عقول مهمة تعارض المجتمعات العربية التقليدية من منطلقات مختلفة، لكن المفكر اللبناني مهدي عامل نظر إليها كخصوم وليس كقوى مساندة للطبقات العاملة العربية في تغيير مجتمعات التخلف، وبهذا كان يرفض العديد من الآراء المهمة التي تقدمها كما فعل مع مصطفى شاكر.
ويعترض مهدي عامل كذلك على زكي نجيب محمود الذي يمثل المدرسة الوضعية أو التجريبية المنطقية في دعوته لاحكام العقل في النظر إلى الأشياء، وخاصة في جملته التي قالها بضرورة (الاحتكام إلى العقل في قبول ما يقبله الناس وفي رفض ما يرفضونه)، ودعا الدكتور زكي العرب إلى التوجه لتمثل الحضارة المتقدمة، واعتبر إن الاحتكام إلى العقل ميز الحضارات العقلانية، معطياً نماذج أربعة على حضارات احتكمت إلى العقل وهي:
أثينا في القرن الخامس قبل الميلاد، وبغداد في عصر المأمون، وفلورنسة في القرن الخامس عشر، وباريس في عصر التنوير في القرن الثامن عشر.
أي إن زكي نجيب يقدم درجات من صعود البرجوازية عبر العصور، أعطى إنتاجها المادي قدرة على الفهم الموضوعي للطبيعة المجتمع، على درجات متفاوتة.
ويعترض مهدي عامل على هذه التصنيفات ويقول: (وهنا تظهر الدلالة الطبقية لهذا المنطق من التفكير: فانتفاء الطابع التاريخي،أي النسبي، من شكل العقلانية الخاص بالبنية الاجتماعية الرأسمالية يجعل من هذا الشكل الخاص مطلقاً، فيظهر ما هو تاريخي ــ أي ما يحمل فيه ضرورة تخطيه ونفيه ــ بمظهر ما هو طبيعي ــ أي يحمل فيه ضرورة تأبده ــ ويظهر الشكل الطبقي البرجوازي للعقلانية بمظهر العقلانية الإنسانية، أي بما هو طبيعي ملازم للحضارة كحضارة ..)، ص 34.
يتحول تقديم زكي نجيب محمود لصور من العقلانية عبر التاريخ في وعي مهدي عامل إلى وجهة نظر لــــ( البرجوازية المسيطرة )، هكذا بشكل مطلق وكأن زكي نجيب محمود يمثل برجوازية مسيطرة تقوم بإخفاء التناقضات الاجتماعية المحتدمة تحت سيطرتها مثلما تفعل البرجوازية الفرنسية التي درس في عالمها مهدي عامل ونقل لغة النقد الموضوعي ضدها، وليس باعتبار زكي مفكراً يعبر عن فئات برجوازية عربية تعاني من هيمنة تقليدية متخلفة، وحين يقوم باستعادة لحظات من فعل الفئات المتوسطة عبر التاريخ الماضي إنما يريد شحذ عقلها وإرادتها من أجل تشكيل عالم نهضوي عقلاني عربي، يمكن حتى للقوى الشعبية فيه أن تناضل بصورة حديثة.
إن المحطات التي اختارها زكي نجيب محمود للحظات التاريخية التي بدأ فيها أسلوب الإنتاج الرأسمالي بالصعود هي محطات تـُظهر هذا الأسلوب الجديد في تشكيلات متنوعة، بدءً من التشكيلة العبودية لدى الإغريق، أو التشكيلة الإقطاعية عند العرب، أو بداية انحسار الإقطاع لدى التجار الإيطاليين في فلورنسة، ثم انتصار الأسلوب في الثورة الفرنسية.
وفي هذه المحطات حاول العقل الممثل للفئات الوسطى أن يحرر النظام الاجتماعي من هيمنة الخرافة وتدخلها ومنعها لاكتشاف السببيات المعيقة للتقدم ونمو العلوم والتجارة الخ..ولكن في الثورة الفرنسية لم تعد ثمة فئات وسطى بل طبقة برجوازية صناعية قائدة منتصرة تعيد تشكيل البنية الإقطاعية.
وبطبيعة الحال فحين يُقال هذا الكلام للجمهور العامل الفرنسي الآن، يغدو هذا مجرد كلام تاريخي، فالبرجوازية الفرنسية الراهنة هي غير برجوازية الثورة، ولكن حين يقول هذا الكلام زكي نجيب محمود في العالم العربي الإقطاعي الطائفي المتخلف، يغدو الأمر ثورياً.
ويجري العكس لدى مهدي عامل الذي ينقل الوعي المعارض الفرنسي في الرأسمالية الكلاسيكية، أي في الرأسمالية التي غدت عائقاً للإنتاج، إلى البلدان الجائعة للتطور الرأسمالي الصناعي خاصة، وبدلاً من أن يبحث كيفية نموها وتغييرها للإقطاع، مثمناً البذور النقدية الوضعية والتجريبية، لزكي نجيب محمود ومعاضداً إياه لتوسيع الجبهة المعادية للتخلف والإقطاع، يطالب بإسقاط مثل هذه البذور والمقدمات للتحول الحديث، قافزاً إلى مهمات غير ممكنة.
وهكذا فحين يُظهر زكي نجيب محمود العقلانية البرجوازية كما يقول مهدي عامل كعقلانية مطلقة، كعقلانية تمثل البشر جميعاً، كعقلانية وحيدة، فهذا نتاج لوعي مثالي يُغيّب شروط الثورة الديمقراطية في البلدان المتخلفة، معتبراً العقل شيئاً تجريدياً، وليس مصانع يجب أن تتوسع، ومختبرات علمية يجب أن تنتشر، وعمالة جاهلة يجب أن تتعلم وتتحسن معيشتها، وريف إقطاعي يجب أن يتحدث، ونساء ينبغي أن يدخلن مجال الآلة الصناعية الخ..
رأينا في بعض الأمثلة التي سقناها من حوار المفكر اللبناني الراحل مهدي عامل مع شخصيتين ثقافيتين عربيتين كبيرتين، المستوى العام، السياسي، الذي يتصدى فيه المفكر اللبناني لوجهات نظر من الفئات الوسطى العربية، وهي تحاول أن تطرح وجهات نظر لتجاوز عالم التخلف والإقطاع العربي.
والمقصود بالمستوى العام السياسي، إن مناقشة كتابه ( أزمة الحضارة العربية أم أزمة البرجوازيات العربية ؟) من قبلنا في هذه الموضوعات، تعلقت بمعرفة رأيه في مسألة التشكيلة الاقتصادية / الاجتماعية السائدة عربياً، وهي مسألة قام مهدي عامل بتضبيبها بشكل شديد، من جهة تمييع حدودها بما يتعلق بالماضي، فيتم قطع العلاقة بتحليل الماضي من حيث إنه سيرورة تاريخية مستمرة إلى عصرنا العربي الراهن، أي بسبب استمرار التشكيلة الإقطاعية الدينية إلى وقتنا الراهن، وهي تحاول إفراغ التشكيلة الرأسمالية الجديدة التي لم تنتشر انتشاراً واسعاً، من مضمونها، ولعدم انتصارها.
ومن هنا لا يقوم مهدي عامل بدراسة هذه التشكيلة الماضوية الحاضرة في تطورها وفي اعتقالها للتطور العربي، ويغدو الاقتراح النظري باسم (أسلوب الإنتاج الكولونيالي) شكلاً من التمويه الفكري والسياسي لعدم حل مشكلات البنية الإقطاعية السياسية الدينية، باعتبارها العائق الأكبر في سيرورة التطور العربي الراهنة، قافزاً إلى مهمات تعود إلى بُنى الرأسمالية المعاصرة الغربية، وهذا في التطبيق العملي السياسي يقود إلى انتصار الإقطاع السياسي والديني، عبر توجيه العداء والضربات إلى حليف سياسي واجتماعي وفكري للقوى الشعبية، هو قسم من الفئات الوسطى الحديثة ومثـقفيها،خاصة للتيارات البرجوازية العلمانية والديمقراطية.
إن مهدي عامل في رفضه لاستمرارية التشكيلة الإقطاعية، وإحلاله التشكيلة الرأسمالية، حتى مسمى علاقات الإنتاج الكلونيالية، رفض الأساس الموضوعي لفهم التطور العربي، ومن هنا يغدو المفكرون الذي يفند آراءهم في الكتاب المذكور، أكثر اقتراباً من الحقيقة الموضوعية، ومن المهمات السياسية والاجتماعية والثقافية، من مهمات التغيير العربية الحقيقية، رغم مناهجهم التي تعود لاختيارات أيديولوجية للفئات الوسطى، أكثر من قراءته التي يقوم فيها باستيراد أدوات فكرية منهجية غربية ماركسية مهمة، لكنه لا يطبقها التطبيق الصحيح.
ليس ذلك كذلك إلا بسبب مقاربتهما ( والمثالان هما شاكر مصطفى وزكي نجيب محمود ) للتشكيلة الاقتصادية / الاجتماعية الإقطاعية الدينية، بمستويات معينة من القرب والتحليل، وهو بدلاً من مقاربتهما وتطوير أدواتهما ووعيهما، قام برفض كلي لتلك المقاربة النقدية للتشكيلة المحافظة.
إن المشكلة المزدوجة هنا هي في وجود أداة فكرية تحليلية صحيحة لدى مهدي عامل رُكبت في منظومة سياسية خاطئة، بمعنى أنه قرأ البنيوية الماركسية لدى جولدمان وآلتوسير واستوعبها، غير أنه حينما جاء إلى تشكيلته السياسية الحزبية العربية التي تطرح تجاوز البرجوازية وهدم سلطتها، ركب أداة نظرية حديثة دقيقة، في رؤية (ماركسية لينينية ستالينية) متخلفة.
وفي الموضوعات السابقة رأينا القضايا التي تقارب مسائل التشكيلة، وهي المسائل السياسية العامة، والتي هي العمود الفقري لمسائل الوعي والفكر والثقافة، وبدون الحل الصحيح لهذه المسألة المحورية فإن القراءة الفكرية كلها تكون محفوفة بالأخطاء، ولهذا تكون لنا عودة أخرى مع مهدي عامل ومناقشاته لمفكرين عرب تجمعوا في المكان والعصر العربي الراهن للعمل من أجل النهضة.
التاريخ والدين عند مهدي عامل
رأينا في موضوعات سابقة المفكر اللبناني الراحل مهدي عامل وهو يحاورمجموعة من المفكرين العرب الذين اجتمعوا في الكويت سنة 1974. لمناقشة قضية محورية هي (أزمة الحضارة العربية)، راداً عليهم بكتاب أسماه (ازمة الحضارة العربية أم ازمة البرجوازيات العربية؟)، الطبعة السابعة، بيروت، دار الفارابي)، وقد ناقشنا في الحلقات الأولى من هذه السلسلة المفهوم العام الذي بدأ به مهدي عامل هذا الحوار، وهو مفهوم التشكيلة الاقتصادية/ الاجتماعية، وقد أوضحنا الإشكالية الكبيرة التي وقع فيها مهدي عامل في طرحه لمنظومة اقتصادية اجتماعية غير واضحة وملتبسة هي (الأسلوب الكولونيالي للإنتاج)، والآن نستكمل هذا الحوار بالدخول في مستويات جديدة من هذه المنظومة، عبر مستويات العي فيه، وخاصة شكل الوعي المهيمن من بينها، وهو الشكل الديني.
إن النموذج الذي يختاره مهدي عامل في الفصل الرابع من الكتاب السابق الذكر كذلك، هو الشاعر والمفكر المعروف أدونيس، الذي صاغ دراسة حول الإمام أبي حامد الغزالي في ذلك المؤتمر مُستنتجا ـ أدونيس ـ بأن الفكر الديني: (بقواعده وغاياته، وهو الذي يسود المجتمع العربي، اليوم. ولذلك فإن الإيديولوجية السائدة، سواء في المدرسة والجامعة والبرامج التربوية، والصحافة والإذاعة والكتاب، إنما هي قوة ارتداد نحو الماضي، وقوة محافظة على الراهن الموروث . . فعلاقات الإنتاج الموروثة . . ما تزال هي السائدة . . والبنية الإيديولوجية التقليدية . . ما تزال كذلك هي السائدة)، ص 73.
هذا الكلام يقوله أدونيس في سنة 1974، وبالتالي استطاع أن يشخص الواقع العربي تشخيصا دقيقا بحيث أننا الآن (سنة 2003) ندرك الفجائع المترتبة على هذه السيادة الماضوية. ولكن اليسار حينذاك لم يكن ير مثل هذا التشخيص، كرفيقنا الراحل مهدي عامل، الذي يتصدى لهذه المقولة قائلا ردا وتحليلا للرأي السابق:
(1 ــ الفكر العربي هو نموذجه، ونموذجه هو الغزالي، فالفكر العربي إذن هو فكر الغزالي.
2 ــ الفكر السائد في الماضي هو الفكر السائد في الحاضر.
3 ــ البنية الإيديولوجية السائدة في الماضي هي البنية الإيديولوجية السائدة في الحاضر.
4 ــ علاقة الإنتاج المتوارثة ــ أي السائدة في الماضي ــ هي علاقات الإنتاج القائمة في الحاضر.
إذن الماضي هو هو الحاضر، لا شيء تغير. (خلاصة)، ص 74.
من الواضح إن مهدي عامل يقوم بتبسيط نظرة أدونيس إلى التاريخ الفكري العربي، فالغزالي لدى أدونيس ليس كل الفكر العربي، بل فكره المذهبي المحافظ، ولكن أدونيس يقول إن هذا الفكر المحافظ المذهبي هو الذي ساد، واذا طورنا مقولة أدونيس كما توصلنا اليها، فنقول إن رؤية الغزالي كانت هي ثقافة الإقطاع السائد. ولكن ثقافة الإقطاع المذهبي متعددة، وحتى تسود قامت بالقضاء على التيارات الدينية المعارضة، وهذه لها حراك وصراع استمر الى وقتنا الراهن، فليس معنى ذلك سكون الخريطة الفكرية الاجتماعية، بل أن لها ألوانا وتضاريس مقعدة. ولكن من الناحية الجوهرية فإن المنظومة العربية الإسلامية لا تخرج عن التشكيلة الإقطاعية، ومعرفة وتحديد التشكيلة هذه هي الخطأ الجوهري لدى مهدي عامل كما بينا سابقا، في حين أنها الصواب لدى أدونيس وشاكر مصطفى، واستمرارية التشكيلة لا يعني الحكم بالثبات المطلق، كما سنعرض لاحقا.
يضع مهدي عامل بعض ممارسات الفلاسفة العرب كابن رشد في دائرة ما يسميه (بالممارسة الإيديولوجية لما يمكن تسميته بالطبقة الأرستقراطية العربية المسيطرة في المجتمع الاستبدادي في القرون الوسطى.)، وبغض النظر عن جملة من المفاهيم الخاطئة في هذه العبارة، فإن مهدي عامل يضع الممارسات النقدية للمفكرين العرب المسلمين السابقين في سياق (مجتمع استبدادي)، وليس في سياق التشكيلة الإقطاعية المعروفة بداهة للمادية التاريخية، ثم يقوم بوضع الحركات والفكر الديني الإسلامي المعاصر في سياق آخر فيقول: (أما في الحالة الثانية، «فالإسلام» موجود بالشكل الذي يتحدد فيه بحقل آخر من الممارسات الإيديولوجية الطبيقة، خاص ببنية اجتماعية مختلفة، يغلب عليها الطابع الكولونيالي، في انتمائها التاريخي الى نمط الإنتاج الرأسمالي.)، ص 76، 77.
إن هذه البنية الحديثة التي يضع مهدي عامل الوعي الديني السابق فيها، هي بنية يغلب عليها (الطابع الكولونيالي تنتمي تاريخيا الى نمط الإنتاج الرأسمالي)، وهي توصيفات نرى كيف أنها بذاتها قلقة مضطربة، وهو يلجأ الى كلمة (كولونيالي)الأجنبية المنتفخة، لكي يشُعر القارئ بأنها مصطلح غني في حين يمكن القول بأن البنية العربية هي بنية تابعة، ووجود التبعية لا يخلق تشكيلة جديدة، أي أنه حين تقوم الرأسمالية المسيطرة غربيا بإلحاق البلدان الفقيرة الإقطاعية في العالم الثالث باقتصادها، فإن هذه البنية التابعة تظل في تشكيلتها الإقطاعية السابقة، لإن الاستعمار لا يقوم بثورة اجتماعية فيها بحيث يحولها الى نموذجه أو نموذج الرأسمالية، بل يبقيها في بنيتها السابقة ويجري تغييرات سياسية واقتصادية بحيث تقوم بضخ المواد الأولية اليه وتغدو سوقا لمنتجاته الـخ . . لكن عمليات الإلحاق والتغيير الرأسمالية المحدودة تكون في إطار التشكيلة الإقطاعية، أي أن التشكيلة السابقة لم تتبدل بثورة تبدل البناءين، التحتي بثورة اقتصادية، والبناء الفوقي بثورة ثقافية، بل جاءتها عناصر رأسمالية فقامت باستيعابها في قوانين التشكيلة الإقطاعية التقليدية.
إذن عدم فهم مهدي عامل للقضية المحورية وهي قضية التشكيلة يقوده الى سلسلة من الأخطاء اللاحقة، حيث ينفي كون الدين أيديولوجية فكرية مسيطرة في الحاضر، لأنه نفى كون التشكيلة المعاصرة تشكيلة إقطاعية، وبهذا لم يدُرك المهمات الفكرية والسياسية الأساسية الراهنة، وهي تغيير التشكيلة وبناءها الفكري التقليدي.
ولهذا يقوم بنقد أدونيس لأنه يقول بـــ(الرأي الماركسي!) باستمرار التشكيلة الإقطاعية ووعيها الديني الأساسي، (ويجب أن نقول هنا وعيها: الطائفي السياسي)، منتقدا إياه بأنه ينقل: (مركز الثقل في الممارسة الإيديولوجية للصراع الطبقي ضد البرجوازية المسيطرة، من صراع ضد إيديولوجية هذه الطبقة، بمختلف تياراتها، الى صراع ضد الشكل الديني أو الطابع الديني من هذه الإيديولوجية . .)، ص 78، 79.
وهنا يواصل مهدي عامل عدم فهمه وخلطه للأمور، فأدونيس في نقده للشمولية الدينية ينقدها في ظل نظامها التقليدي الإقطاعي، أي باعتبار الوعي الطائفي المحافظ تجليا فكريا واجتماعيا للممارسة الإقطاعية المهيمنة على المسلمين (والمسيحيين)، وليس باعتبارها نضالا ضد الشكل الديني، أي بأنها قضية فك علاقة الدين بالسيطرة السياسية والاجتماعية الإقطاعية الراهنة، وتشكيل منظومة سياسية حديثة علمانية.
أي أن مهدي عامل يريد تجيير النقد ضد الدين، ويجعله بإطلاق، وليس ضد الوعي السياسي الطائفي المستغل للإسلام في تأبيد البنية الإقطاعية المتخلفة، وبالتالي يريد توجيه الوعي الفكري ضد البرجوازية العربية الحديثة، باعتبارها سبب الأزمة والعائق، أي أنه في النهاية يقوم بالدفاع غير المباشر عن الإقطاع الديني، أو أنه بالهجوم على البرجوازية الحديثة يفتت الصفوف الموجهة ضد الإقطاع الديني والسياسي.
فلنحلل أكثر التباس المفاهيم والمراحل واستراتيجيات النضال لدى مهدي عامل.
يقول: (فالعلاقة هذه التي تمنع تطور الإنتاج الرأسمالي في شكله الكولونيالي، من أن يميل، في قانونه العام، الى القضاء على علاقات الإنتاج السابقة عليه، في سيطرته بالذات عليها، هي نفسها العلاقة التي تمنع البرجوازية الكولونيالية، في ممارسة سيطرتها الإيديولوجية/ من القضاء على مختلف الإيديولوجيات السابقة على الإيديولوجية البرجوازية، في سيطرتها بالذات . .) ص 81.
يعتمد مهدي عامل على منطق ارسطي شكلاني يجرد التاريخ من سيرورته الحقيقية، ويضعه في قوالب لا تاريخية، أي لا توجد إلا في وعيه الذي يقع خارج التاريخ الحي.
فهو أولا قد أثبت انتصار الإنتاج الرأسمالي في العالم العربي، في القرن التاسع عشر كما سيقول لاحقا أيضا! لكن هذا الانتصار تم في إطار كولونيالي، ورغم إن البرجوازيات العربية التي انتصرت على أشكال الإنتاج ما قبل الرأسمالية قد انتصرت إلا أنها مع ذلك تحافظ على الأيديولوجيات ما قبل الرأسمالية وهو ذات السبب الذي يجعلها تحافظ على أساليب الإنتاج ما قبل الرأسمالية!
فأولا حين جاء الاستعمار الى العالم العربي في القرن التاسع عشر، كرس الإقطاع والطائفية والأمية، ولم تستطع الفئات الوسطى (البرجوازية) أن تنمو إلا بشق النفس، وخاصة الفئة الصناعية، وبقيت الأبنية الاجتماعية تسود فيها عبودية النساء وعدم خروجهن للعمل والإنتاج، وهيمنة الإقطاع الطائفي الـخ . .
وبهذا فإن نضالات الفئات الوسطى كانت تتحدد في كل بنية اجتماعية عربية، حسب تطورها الاقتصادي الاجتماعي، فإن تنمو فئة وسطى وتقود نضالا ديمقراطيا كان ذلك يحتاج الى عقود، وليس كما يظهر في وعي مهدي عامل اللاتاريخي، بشكل أزرار سحرية، وكأن تشكل علاقات الإنتاج الرأسمالية تتم في الذهن وليس في الواقع الحي. أي أن الرأسمالية تحتاج شروط موضوعية وهي انتشار الصناعة وانتشار العمل بالأجرة وتحرر النساء الـخ . .
ولو افترضنا جدلا بنشوء الرأسمالية الواسعة في نهاية القرن التاسع عشر، وهذا محض خيال، فإن أشكال الوعي الدينية المرافقة للتشكيلة الإقطاعية، لا تنهار بسهولة كبيت من ورق كما يتضمن ذلك وعي مهدي عامل.
إن الوعي الديني المترافق مع التشكيلة الإقطاعية العربية تأسس فوق بنية زراعية/ حرفية/ رعوية، وداخل صراعات اجتماعية (قومية) ومناطقية، وقادته الصراعات السياسية الاجتماعية الى الانقسام المذهبي الكبير في عصر الثورة والمعاضة، بين التيارات المحافظة والتيارات الإقطاعية الناجزة وتيارات الفئات الوسطى الفاشلة، ثم الى الانقسام المذهبي الكبير الثاني حين انتصرت التيارات والدول المحافظة، أي الانقسام بين السنة والشيعة.
إن هذه السيرورة الاجتماعية الإيديولوجية المتلونة بمراحلها وآثارها لا يمكن أن تزول آليا مع الانتصار الموهوم للرأسمالية كما يظن مهدي عامل، بل إن هذا البناء الفوقي يحتاج قرون لكي تتم زحزحة خطوطه المتكلسة، ولكن الأمر أعقد من ذلك لأن هذا البناء الفوقي يتأسس تحت بناء قاعدي لم يتغير كثيرا.
وكما أوضح شاكر مصطفى في عبارته الهامة التي اقتطعها مهدي عامل ورفضه بأن النظام الإقطاعي العربي الديني تتداخل فيه مسألتي السلطة والملكية، أي تتواشج فيه جوانب من البناءين التحتي والفوقي، فالمسيطرون على الثروة والملكية العامة والأوقاف الـخ . . هم الإقطاعيون السياسيون والدينيون، وهو أمر يتمظهر مذهبيا في البلدان ذات المذاهب المتنوعة، ودينيا في الأقطار الإسلامية ذات الاختلاط مع المسيحية، وهذه الهيمنة الإقطاعية تظهر على شكل ملكيات استبدادية وهو أمر استمر حتى منتصف القرن العشرين في بعض الدول العربية وليس في أغلبها، وعلى شكل جهوريات رئاسية أو ملكيات لم تستطيع أن تنُجز مهام الثورة الوطنية الديمقراطية المكتملة، أي في جميع الأقطار العربية الإسلامية حتى الوقت الراهن.
يحكم مهدي عامل على البرجوازيات العربية منذ تشكلها وصراعها ضد الإقطاع والاستعمار، بحكم سياسي واحد، فبعد أن شكلها بشكل ناجز في ذهنه فحسب، وبعد أن شكل الأنظمة الرأسمالية العربية في وعيه فحسب، غدت متطابقة مع البرجوازية الاستعمارية المسيطرة وبالتالي غدت منذ البدء عدوا.
لهذا فإنه لا يقرأ سيرورتها الفكرية والاجتماعية وبالتالي مراحل تطورها ومن هنا لا يرى فرقا بين (ما نراه في ايديولوجيتها من مفاهيم «عصرية» ليبرالية، وما نراه أيضا في بدء «تاريخها الإيديولوجي» من مفاهيم أرادت أن تكون مثيلة مفاهيم الثورة الفرنسية البرجوازية، كما هو الأمر عند رفاعة الطهطاوي ولطفي السيد وغيرهما). ص 82.
ومهما كانت عدم الدقة في المطابقة بين آراء الثورة الفرنسية وآراء الطهطاوي ولطفي السيد، فإن عدم رؤية أهمية آراء المنورين العرب في ذلك الكهف الإقطاعي التي كانت ولا تزال الشعوب العربية تحاول الخروج منه، فذلك يدل على وعي الأرادوية الذاتية الثورية) في إلغائها للقوانين الموضوعية للتطور الاجتماعي، مثلما تفعل في مسألة الوعي بالتشكيلة وبالوعي المهيمن فيها، حيث يلغي مهدي عامل أهمية أفكار البرجوازية النهضوية ويثبت آراء الإقطاع الديني، فيقول بأن الإيديولوجية الدينية: (ليست هي الإيديولوجية المسيطرة، أو التيار الإيديولوجي المسيطر في الإيديولوجية المسيطرة، أو أيديولوجية البرجوازية الكولونيالية المسيطرة)، ص 82.
إذن إنه في عدم وعيه بسيرورة الإقطاع السياسي الديني في الماضي: بقوانين تشكله وصراعاته وظهور الفئات الوسطى بين أشداقه وأسباب انهيارها وغلبته، فإن مهدي عامل لا يرى قوانين استمراريته وانهياره في العصر الحديث العربي، وأسباب ضعف الفئات الوسطى، وصراعها معه ومع الاستعمار.
إن عدم رؤية قوانين البنية الاجتماعية في الماضي، هي ذاتها تتجلى في عدم رؤية قوانينها في الحاضر، ويقود ذلك الى عدم رؤية قوانين التشكيلة الإقطاعية عامة، خاصة عملية تفكيكها وتغييرها المعاصرة، وإذا أحلنا آراء مهدي عامل الفكرية العامة إلى الميدان السياسي، فيعني ذلك تقوية الإقطاع.
فعدم تثمين مقامات الفئات الوسطى في الماضي والحاضر، وتشكيل جبهة سياسية تحديثية واسعة، تراكم الوعي النهضوي وتقود في الخاتمة الى الثورة أو القطع مع المنظومة الإقطاعية، واستبدالها بمنظومة حديثة، يعني تصفية القوى النهضوية وتفكيكها، وبالتالي تصعيد الإقطاع في مستويات البنية المختلفة.
علينا أن نرى إن ثمة عدم دقة تحليلية للإقطاع المذهبي وتطوره في التاريخ العربي ولدى أدونيس كذلك، أي أن أدونيس لا يرى الجذور الاجتماعية لتشكل الحداثة قديما وحديثا، التي تؤسسها الفئات الوسطى العربية، ولكنه يقترب من هذا التحديد بشكل أفضل من مهدي عامل، الذي يقول عن ذلك: (لكن المنطق الذي قاد أدونيس الى عدم رؤية هذا الطابع الطبقي المميز للصراع الإيديولوجي في واقعنا الراهن، هو تلك المعادلة الرابعة التي أقامها بين علاقات الإنتاج السائدة في الماضي وعلاقات الإنتاج القائمة في الحاضر . .)، ويضيف مهدي عامل: (أما أن تكون هذه العلاقات الموروثة نفسها هي هي العلاقات القائمة حاليا، فهذا ما لا يمكن للمنطق العلمي أن يقبل به، برغم وجود الانسجام الداخلي في منطق أدونيس . .)، ص 85.
ومن المؤكد إن الإقطاع العربي الكلاسيكي القائم على ملكية الأرض الزراعية والخراج، لم يعد شاملا، لكن مهدي عامل لم يقم بدرس العلاقات الاقتصادية العربية الحديثة، وكيف أن ملكية الدولة لوسائل الإنتاج تمثل شكلا إقطاعيا حين تغدو تابعة بالوراثة لأسرة أو جماعة سياسية، بدلا من أن تكون هذه الوسائل بضاعة متداولة، ولهذا ثمة استمرارية كبيرة بين حقول النفط وحقول الزراعة، وبين الآثار الاقتصادية والاجتماعية التي تتركها في تقوية الإقطاع الأسري والحزبي الـخ . . ونعرض ذلك كمثال عابر فقط، من أجل أن نرى استمرارية الحياة التقليدية، وبالتالي فإن الحكم العام الذي يطلقه أدونيس باستمرار الوعي التقليدي وهيمنته لا يجانب الصواب.
إن أدونيس إذن عبر تلك الفقرة التحليلية يقربنا من رؤية البنية الحقيقية للحياة العربية، فيما يعمل مهدي عامل على إخراجنا من تلك البنية وإدخالنا في بنية موهومة من قراءته ومعايشته للحياة الغربية، فيريد نقل مهمات الصراع الطبقي فيها، الى بلدان متخلفة، تشكو من قلة البرجوازية والعمال والتصنيع، دون أن يحاول العودة الى مصادر أدونيس في قراءة المجتمعات العربية، في كتابه (الثابت والمتحول) خاصة.
في احدى الفقرات من كتابه (أزمة الحضارة العربية أم أزمة البرجوازيات العربية؟)، يقر مهدي عامل ضمنا بسيادة العلاقات الإنتاجية والاجتماعية التقليدية وهو يرد على أدونيس فيقول: (إن وجود هذه العلاقات السابقة في البنية الاجتماعية الكولونيالية لا يعني أنها العلاقات السائدة في هذه البنية، حتى وإن كانت هي تنتشر على القسم الأعظم من السكان، كما هي الحال في الهند مثلا، أو في كثير من البلدان العربية . .)، ص (87).
إنه يعتبر الإنتاج التابع شكلا تاريخيا محددا من الإنتاج الرأسمالي، فمهما كانت أشكال ما قبل الرأسمالية منتشرة فإن ما يحدد توجه التطور هو النمط الرأسمالي.
وبطبيعة الحال لا يمكن أن نأخذ بهذه الجمل إلا عبر تحليل للأبنية الاقتصادية الاجتماعية المحددة في كل بلد، فرغم أن التطور الرأسمالي هو تطور عالمي عاصف، إلا أن كل منطقة وبلد لهما خصوصياتهما، أي أن الأمر يعود لتطور التشكيلات وتاريخها، وتناقضاتها الداخلية، فالتشكيلة الإقطاعية العربية الإسلامية، عبر سيطرة مختلف الدول الاستعمارية على أقطارها المتعددة، لم تقم هذه الدول الاستعمارية برسملتها بشكل شامل، وحتى بعد مختلف الثورات الوطنية فإن المسألة الديمقراطية لم تُحل، أي أن هذه الأنظمة ظلت على بنياتها الإقطاعية المذهبية، وظلت الدولة طائفية واللامساواة بين المواطنين سائدة، وظلت قوى ما قبل رأسمالية تتحكم في الثروة العامة الـخ . .
لكن مهدي عامل لا يرى ذلك، بل يرى إن هذه الأنظمة أنظمة رأسمالية فيجب أن: (يرفض الدولة البرجوازية، أي هذا الشكل التاريخي الطبقي المحدد من الدولة، ويرفض علاقات الإنتاج البرجوازية الـخ . .)، ص 104.
كما أن القوى العاملة مدعوة (لممارسة العنف الثوري، من حيث هو عنف طبقي، بأدواتها هي وبمنطقها هي وبنظامها هي، من أجل القضاء على سبب وجود العنف الذي هو المجتمع الطبقي)، ص 105.
إن مهدي عامل لا يقول ذلك في فرنسا والولايات المتحدة، بل في لبنان وسوريا والعراق والجزيرة العربية، فبدلا من معرفة ما يحدده شاكر مصطفى وأدونيس من دولة استبدادية طائفية إقطاعية متخلفة، يقوم مهدي بصناعة دولة موهومة هي الدولة البرجوازية، وقد اكتملت علاقات الإنتاج الرأسمالية فيها، وبين النموذج الواقعي الذي يرفض الدخول فيه وتحليله، يجر نموذجا آخر ويريد مجابهته، وهذا الجر يخلق مهمات سياسية وعسكرية مختلفة، فهو هنا يريد إزالة البرجوازية بالقوة، فتتحول هذه الكلمات في يد اليساري اللبناني الى سلاح، ويغدو كل الفلاحين المقتلعين من الجنوب والنازحين على المدن والفقراء، جيش الثورة البروليتارية في مواجهة البرجوازية.
إن مهدي عامل بعد أن حول المجتمع المتخلف الطائفي التابع الجائع الى المصانع والبرجوازية الى (مجتمع برجوازي مأزوم بسيطرة هذه البرجوازية)، لم تعد المهمة سوى اقتلاع هذه البرجوازية لكي تحل الأزمة، وهكذا يُفتح الطريق للحرب الأهلية اللبنانية من البوابة النظرية.
لا يعني ذلك بأن توصيفات أدونيس للمجتمع العربي التقليدي متكاملة ولا أن الحلول التي يطرحها لتجاوز أزمة المجتمعات العربية التقليدية، ولكن ما يطرحه من حلول أقل خطرا وأكثر فائدة مما يطرحه مهدي عامل.
فأدونيس يقول حسب رواية مهدي عامل بأن (شخصية العربي، شأن ثقافته، تتمحور حول الماضي/ القديم). وأنه في الحضارة العربية (لما انتفى الفرد في الموضوع وتغرب عن ذاته في الجماعة أو الدولة أو السلطة أو النظام . . كان الاتباع وكان التخلف، وكان حاضر الإنسان العربي أو ماضيه)، ص 97.
نستطيع أن نقول بأن مقاربة أدونيس للتشكيلة الإقطاعية هي أقرب للحقيقة الموضوعية من مهدي عامل، ولهذا فإن اقترابه من المخرج للأزمة الحياة العربية أكثر جدوى، وهو حين يقول بأزمة تلاشي الفرد المبدع أو هيمنة التقليد في الحضارة القديمة، فهو يشير إلى شيء موضوعي لم يتبينه تمام التبين، وهو سيطرة الهياكل الإقطاعية العامة الاقتصادية والاجتماعية والإيديولوجية، ولهذا فإن الفردية، وتوسع الفئات الوسطى الحرة، وبالتالي انتشار الإبداع لم يحدث بصورة جذرية، وقد تتبعنا ذلك في قراءات سابقة، وبينا جذور الفئات الوسطى وارتكاز قواها الأساسية على الدولة الإقطاعية. وبهذا فإن الفئات الوسطى العربية في الماضي والحاضر، لم تستطع أن تتحول الى طبقات برجوازية كلية، وهذا بخلاف رؤية مهدي عامل التي تقول بأنها ولُدت كبيرة ناجزة بفعل الأزرار السحرية الغربية، ولكنها بعد كما يقول أدونيس كذلك لم تستطع حتى الآن أن تزيح الاتباع وتنشر الحرية بشكل شامل!
تلخيصا وتطويرا لما سبق نشره، يقيّم مهدي عامل تقييما سلبيا المقاربة الموضوعية لأدونيس تجاه المجتمع العربي التقليدي، فهو يقوم بإزاحة التوصيفات (العلمية) لهذا المجتمع، ويضع بدلا منها توصيفات مستقاة من تطور أعلى، هو تطور البلدان الرأسمالية المتطورة، ويضع المهمات التي تواجه الطبقات العاملة فيها الى البلدان محدودة التطور، والتي تعالج مهمات تاريخية مختلفة، وبدلا من تشكيل جبهات موسعة للقوى الحديثة والديمقراطية لإزاحة التشكيلة الإقطاعية الطائفية العربية، فإن يوجه القوى ضد أحد الأجنحة المهمة في كلية التغيير الديمقراطية، ولهذا فهو يجعل ممثلي القوى الليبرالية والعقلانية الفكرية في الندوة المذكورة، كخصوم ألداء وليس كحلفاء في معركة واحدة ضد تشكيلة تجاوزها التاريخ.
وهذا يقوده لعدم تثمين الأحكام الموضوعية التي يطرحها هؤلاء المفكرون والباحثون، وعدم الاستعانة بهذه المواد الفكرية الثمينة لتطويرها عبر المنهج المادي الجدلي، ورؤيتها في سياق التشكيلة الحقيقية.
ولكن مهدي عامل دخل في قراءة التاريخ بذاتية ثورية تسقط رغباتها على التاريخ الحقيقي، بدلا من اكتشاف تطوره، فكان ابتكاره لمقولة (أسلوب الإنتاج الكولونيالي) بداية لخرقة أساسيات المادية التاريخية، حول أساليب الإنتاج المحددة والمكتشفة، وهذا الخطأ المحوري قاده الى سلسلة من الأخطاء النظرية في تحليل الجوانب المحددة في تطور التشكيلة الإنتاجية العربية، السابقة الذكر، فهو قد اعتبر علاقات الإنتاج الرأسمالية منُجزة في حياة المجتمعات العربية منذ نهاية القرن التاسع عشر، وهذا ما دعاه الى عدم تثمين حلقات التنوير المتعددة التي قامت بها الفئات المتوسطة العربية، في الماضي والحاضر، ثم الدعوة الى خلق اصطفاف حاد إلى معسكرين رأسمالي تجاوزه التاريخ، وعمالي يجب انتصاره.
وكان هذا خرقاً للمهمات الحقيقية لقوى الثورة والتغيير العربية التي تواجه تشكيلة متخلفة، ولكن الخطوط الفكرية التي طرحها مهدي عامل كانت تتضافر ووضع دولي موات، مما جعلها في حيز التنفيذ، ولكن النتائج المترتبة على هذه الخطوط النظرية والسياسية كانت كارثية خاصة على البلدان التي طبقتها بشكل عنيف، وأهم هذه النتائج إن القوى السياسية ما قبل الرأسمالية، والمذهبية الاجتماعية، هي التي استفادت من تناحر القوى الحديثة، وهي التي برزت الى السطح والفاعلية، حيث ساعدتها عوامل أخرى، مما أوضح بشكل جلي بأن مهمات حركات التغيير العربية لا تزال مواجهة الأبنية التقليدية، وضرورة عدم التحالف مع هذه القوى التقليدية وإبرازها، رغم السهولة التي تبدو بها عمليات التحالف مع هذه القوى الماضوية، وضرورة تكريس تحالف الجبهة النهضوية التحديثية الديمقراطية، حتى لو كانت الصعوبات جمة في طريق تشكيلة وتعزيز عناصره الديمقراطية والعلمانية.
لكون التحالف مع القوى التقليدية وتعزيزها هو تقوية للتشكيلة الإقطاعية وسيرورتها الطويلة في الحياة العربية، لأنها تشكيلة متكاملة ومتجذرة ليس في الحياة السياسية ولكن أيضا في الحياة الاجتماعية والفكرية.
ونظن لو كان المناضل والمفكر مهدي عامل حياً، لكان قد راجع الكثير من أفكاره، التي كان يعززها حينذاك وضع عالمي مختلف . .
مهدي عامل والوعي بالتاريخ
في مناقشته لندوة بالكويت عن الحضارة العربية تحت اسم كتابه (أزمة الحضارة العربية أم أزمة البرجوازيات العربية) يتطرق مهدي عامل إلى حاضر الأمة العربية وماضيها ويطرح بعض الأطروحات محللا التاريخ عبر مناقشة الكتاب والمفكرين الذين ساهموا في الندوة.
ثمة مقولة رئيسية يعتمد عليها المفكر الراحل مهدي عامل وهي أن الأنظمة العربية أنظمة رأسمالية تسود فيها البرجوازية (الكولونيالية) هذه البرجوازية السائدة تؤكد التخلف والتبعية وهي تتويج لـ (التطور) العربي خلال قرون.
(إن الحاضر العربي هو الصورة الحاضرة التي تظهر فيها بنيته السابقة. لأن عناصر البنية ظلت فيها لم تتغير) ص45، (أما أن يكون هذا التاريخ الذي تكونت فيه البنية الاجتماعية للواقع العربي الحاضر يرجع إلى ما قبل عشرة قرون خلت، أي إلى العصر العباسي أو أواخر العصر الأموي فهذا مالا نختلف فيه جذرياً مع الدكتور مصطفى شاكر)، ص45.
يتصور مهدي عامل التاريخ العربي الإسلامي كحقبة سابقة مختلفة عن التاريخ الإمبريالي الراهن حيث التبعية للاستعمار، فتكون البنية مختلفة عن ذلك العصر، فغدت جزءًا من النظام الرأسمالي العالمي وغدت (البرجوازيات العربية هي الحاكمة) ولا ينقضها سوى الطبقات الشعبية العاملة التي تقدر على القطع مع العصر الإمبريالي عبر الاشتراكية.
هذه اللغة الهيجلية المخلوطة بماركسية مشوشة تجرد التاريخ إلى حقبتين وتطرح مقولات مجردة تنسفه.
إن أزمة التخلف تتكشف عن حقيقتها الفعلية كأزمة هذه البنية من علاقات الانتاج الكولونيالية التي هي العائق البنيوي لتطور القوى المنتجة)، ص 51
وفيما الأستاذة الباحثون المنتَقدون في الندوة يطرحون كون المجتمع العربي متخلفاً وأن النموذج المعقول والممكن هو النموذج الغربي الرأسمالي الحديث، يقول مهدي عامل إن هذا الانتقال والتحقق غير ممكن.
مسار وعي مهدي عامل يتوجه نحو اختراع تشكيلات حيث يرى ظهور التشكيلة الكولونيالية حيث يتوحد التخلف العربي برأسمالية تابعة، تنقضها ثوراتٌ اشتراكية.
هذا الاختراع تسببه أفكار الماركسية اللينينية حيث يمكن عبرها اصطناع التشكيلات والقفز عليها.
وبالتالي فإن السياق العربي الإسلامي الإقطاعي يتم القفز عليه وعدم درسه. فما دامت تحولت الأوضاع العربية في مختلف السيطرة البرجوازيات الكولونيالية فلا بد من القطع معها عبر الثورات الاشتراكية وسيطرة العمال.
ومن هنا فهناك عدم قراءة للجذور العربية الدينية الاجتماعية، فلماذا تحدث تحولاتٌ في بعض فترات التاريخ العربي كالفترة النبوية المكية والفترة الأموية الأولى ثم الفترة العباسية؟ ولماذا تظهر حقبٌ أخرى تنقطع فيها النهضات؟
سياق فكر مهدي لا يتابع ذلك، وهذا في سبيل اختراع التشكيلة عنده. ولهذا لا يعر مسار التاريخ العربي الإسلامي، وكيف تظهر فترات التحول العربية الثلاث السابقات الذكر لكون المجتمع يظهر فيه إقطاعٌ مؤسس تحديثي مع فئات برجوازية ذات مصادر مالية، والفترة النبوية الراشدية هي سيطرة سياسية عليا متناغمة مع توسع فئات تجارية وعاملة تخلق النمو التجاري السياسي العريض، وهذا ما حدث في الفترتين التاليتين الأموية والعباسية ولكن من خلال سيطرة إقطاع أسري عائلي، وهذا الإقطاع حين يتوسع ويلتهم فوائض الحرف والزراعة تتقلص عملياتُ عودة الفوائض للانتاج فتحدث الأزمات والتخلف.
والقانون غير المكتشف هنا هو دراسة العلاقة بين هذه التحالفات التاريخية، ومستوى ظهور الفائض الاقتصادي، ومدى عودته أو عودة أجزاء منه للإنتاج، وكم هي عمليات إعادة الإنتاج، وعلاقاتها بالتقنيات والعلوم، وبتحول الطبقات المنتجة في مختلف التشكيلات.
وهذا له علاقة بالعصر الحديث العربي الإسلامي الذي لم يقم بعمليات تغييرات واسعة لهذا الأساس الاجتماعي الديني، وحين تظهر ملامح رأسمالية حديثة من الداخل البنيوي أو من التأثيرات الخارجية فإنها لا تستطيع القيام بتغيير جذري لهذه البنى، وبهذا فإن أساس الأنظمة العربية هو أساس إقطاعي مع ملامح رأسمالية ضئيلة، والصراع بينهما يتحدد خلال طبيعة كل بنية، ومدى سيطرة الكل الإقطاعي أو التوسع الرأسمالي الهادم للإقطاع.
لهذا فإن القول بوجود بنية كولونيالية أمرٌ يفتقد إلى التحليل المادي التاريخي.
إن درس تناقضات البنية الاجتماعية يحتاج إلى الجمع بين قراءة التاريخ الماضوي، والتحولات المعاصرة معاً
ولهذا فإن وجود برجوازية تابعة تمنع القطع مع التبعية الاستعمارية هو أمر غير صحيح، وبهذا فإن التحالفات البرجوازية العمالية ضرورية لهذا القطع ومن أجل التحرر لتشكيل بُنى مستقلة يظل فيها العنصران البرجوازي والعمالي مختلفين متعاونين مشكلين لبنية تتحدد بإنتاجها هي البنية الرأسمالية الديمقراطية الحديثة.
ولهذا لا يمنع من تعدد رؤى الطبقتين وهو أمر يتشكل في سياق النظام الوطني الرأسمالي، وتتشكل قدرته على القطع مع التبعية الرأسمالية بمدى تطور الانتاج وإعادة تشكيل مختلف القطاعات الاقتصادية الوطنية المستقلة.
(يقولون: التخلف يكمن في علاقات الانتاج التقليدية القبلية الإقطاعية الدينية السابقة على عصر الرأسمالية ولا تزال هي العلاقات السائدة في الحياة الاقتصادية والسياسية والفكرية العربية. إذن يبقى العصر هو الحل أمامنا ومستقبلنا)، ص 56
هذا ما يقوله مثقفو البرجوازيات العربية في الندوة ولكنه أوهام بحسب وعي مهدي عامل.
ويؤكد مهدي أن أساس التخلف والعلة هو في هذه الأفكار البرجوازية ونقضها بالمنطق الثوري العمالي هو الطريق الحقيقي للتحول.
هذا المنطق يقطع السياق الموضوعي للتحالف البرجوازي العمالي العربي، ويقطعه لسياقات أخرى مغامرة.
إن التحولات التحديثية الجنينية تُرفض من قبل مهدي عامل، وهذا ما يتيح للقوى الدينية الطائفية والمحافظة سياق العمل والتغلغل والتصدي للحداثة، وكسر التحالف التحديثي، لإنشاء التحالف المتخلف الظلامي فقوى الحداثة تتزعزع، والبرجوازيات حسب قول مهدي عامل تابعات إذن التحالفات الدينية والفوضوية والمغامرة هي التي يتاح لها الظهور والنمو بحسب هذا المنطق.
التنوير الحديث وأقسامه
رتبط التنوير فى التاريخ العربى الكلاسيكي بأحجام واستقلالية الفئات المتوسطة، التى لم تستطع أن تتحول إلى طبقات برجوازية حرة، وتعيد تشكيل المجتمع التقليدي العربي، وقد واجهتها ذات الإشكالية فى العصر الحديث,، ولهذا كانت دائماً تابعة لأشكال الإقطاع السياسى أو الدينى أو كليهما معاً.
ولهذا كان التنويريون الأوائل: عبدالرحمن الكواكبي، ورفاعة الطهطاوي، وغيرهما، والتنويرون فى الزمن المتوسط كطه حسين والعقاد ونجيب محفوظ ولويس عوض، وكذلك التنويرون المعاصرون الذى مالوا لليسار كمحمود أمين العالم وهادي العلوي ورفعت السعيد وجورج طرابيشي وغيرهم.
تواجههم ذات الإشكالية وهى الموقف من التشكيلتين: الإقطاعية الآفلة والرأسمالية الصاعدة، فاتسم الموقف بالتعقيد وعدم الوضوح والإجابات القافزة على الظروف، إلا من بعض الاستثناءات.
وإذا كانت بعض المظاهر الحضارية المجلوبة من الغرب محل ترحيب، فقد كان الترحيب بها من قبلهم، خارج السؤال المحوري، لأن هذه المظاهر حين ترُكب فى بنية إقطاعية لا يعود لها مجرى تحويلي كما لو كانت فى بنيتها الأصلية التى نبتت فيها بشكل موضوعى.
ونريد أن نركز الآن على التنوير عند التقدميين، وهل كان إصافةً للمجرى التنويرى السابق، الذى رأيناه يتصدع بسبب عدم إجابته عن السؤال المحوري، وبالتالي عدم تنامي تحليلاته للبنية الاقطاعية وتردد أدواته فى سبر أغوارها.
فمع اعتراف التقدميين العرب بوجود تشكيلتين متداخلتين في تاريخ الأمة العربية المعاصرة، فإنهم عدوا البنية المعاصرة رأسمالية ذات بقايا اقطاعية، وهذه البقايا لا تحتاج إلى تغييرات جوهرية ولعل الزمن يتكفل بالقضاء عليها.
لكن أحداً لم يتكلم كيف انتصرت البنية الرأسمالية وبأية ثورات، وكيف حدثت الرأسمالية من دون انتصار القوى الرأسمالية ووصولها للسلطة وبالتالي تبدل البُنى الاجتماعية وانتشار ثقافة التحديث بشكل واسع وشعبى؟!
وحين فاجأتهم تيارات التدين احتاروا في تسميتها، فمنهم من أسماها التيارات الأصولية، وآخرون أسموها التيارات الدينية المتشددة، أو الإسلامية المتطرفة.. الخ.
وعزوا انتشارها لأسباب تقنية أو عابرة أو مناطقية، أي أنها ليست جزءاً جوهراً من بُنية إقطاعية تقليدية، حيث إنهم عدوا التشكيلة انتهت عملياً.
ويعبر ذلك عن عدم وعي بالتاريخ العربي الإسلامي، وبمراحله وبناه الاجتماعية، ومستويات البنية الاجتماعية الواحدة.
وقد قاد هذا الموقف إلى أخطاء جسيمة على المستوى السياسى، لأن القوى التقدمية منذ بدء تشكيلها لم تتخذ استراتيجية واضحة صلبة تجاه مسألة التشكيلتين، حدث نشأت فى أجواء ايديولوجية معادية للرأسمالية، وعبر مناخ المنظومة الاشتراكية الذى روّج لوعى ايديولوجى غير علمى. وبالتالي تم تجاهل القوانين الموضوعية لتطور التشكلات، وبسبب ذلك فإن أي عمل سياسى فى ضوء هذا الوعى يغدو كارثياً.
إي أن الخطة الموضوعية في هكذا مجتمعات متخلفة تلتزم بتنمية أدنى الأشكال النضالية وإحداث تراكم تنويرى وديمقراطى طويل الأمد، يؤدي إلى تغيير التشكيلة الإقطاعية.
ولهذا فإن أي خطة لتأييد المغامرات السياسية والانقلابات الثورية الدكتاتورية، مثلها مثل رفض إحداث التراكمية الديمقراطية والنضالية الطويلة، تؤديان الى تغييرات على مستوى النخبة الحاكمة فحسب أو إحداث تحولات فوقية، وبالتالي لا تحدث عملية الانتقال من تشكيله إلى تشكيلة أخرى، أي أن الجماهير تبقى في ذات التخلف، والاقطاع السياسى والدينى يستمران فى الهيمنة عليها.
وبعد أن بات جلياً فشل مشروعات القفز عدنا إلى نقطة الصفر الحضارية. وبعد أن وضح سراب الاشتراكية العربية والمشروعات القومبة التعجيلية التي استعارت القمصان الفاشية، عدنا إلى الاحتلالات وطلب المعونة الدولية لإنقاذنا مما نحن فيه.
وكانت العودة المفاجئة للحديث عن التنوير، وإعادة طبع رفاعة الطهطهاوي والكواكبى.. الخ. وانتشرت مهرجانات التنوير، ولكن هل طرحنا الأسئلة الجوهرية؟ هل استطعنا تجاوز قرن من الضياع الفكرى؟!
استعان التنويرون الأوائل والمتوسطون بالترسانة الفكرية الغربية على درجات من القبول والهضم والتطبيق, وهي ايضاً تجسد مستويات انفتاح وتحرر الفئات الوسطى من الهيمنة الإقطاعية, ولكن التنويرين المعاصرين الذين مالوا لليسار, والذين هم ايضاً جزء من الفئات الوسطى, قطعوا العلاقة مع مسار التنوير, وطرحوا تجاوزه عبر نشر الفكر الاشتراكي, الذي رأوه باعتباره مرحلة نوعية قطعية مع الفكر البرجوازي.
كانت هذه العملية قد نشأ ت كما قلنا بسبب الضباب الفكري الذي سببته ثورة أكتوبر سنة 1٩17, والتي أعلنت الانتقال إلى الاشتراكية.
أي أن الفكر الاشتراكي الروسي هو أيضاً لم يطرح على نفسه السؤال المحوري: هل يقوم بثورته للانتقال من الرأسمالية أم من الإقطاع؟ أي هل ثورته هي ثورة ديمقراطية برجوازية أم ثورة ضد البرجوازية ومن أجل الانتقال الى الاشتراكية؟
إن هذا التشوش الايديولوجي ليس نتاج فرد أو جماعة صغيرة فقط, بقدر ما هو وريث منظومات الاستبداد الشرقية الطويلة, والذي تكرس فكرياً بشكل مذاهب دينية كرست الإقطاع.
ولكن الآثار الرهيبة التي أصابت البلدان (الاشتراكية) بسبب خطأ الإجابة عن ذلك السؤال المحوري, لم يكن بحجم الآثار المدمرة التي اصابت الدول والوعي والتنظيمات العربية, فلقد كانت روسيا وبلدان اوربا الشرقية ذات دول مركزية ولها قواعد حضارية, ولهذا فقد هيأت نفسها عملياً للانتقال الى الرأسمالية بصورة أكبر من بلدان العالم الثالث الأخرى.
ولهذا عندما أعاد السؤال طرح نفسه بصورة البيروسترويكا الجورباتشفية, كانت الأمور قد وصلت الى الانهيار.
لقد كشفت عملية البناء والهدم, ليس فقط خطورة البناء على فكرة خاطئة, وهي الزعم بتجاوز التشكيلة الرأسمالية, بل الخراب الناتج عن تجاهل القوانين الموضوعية للتطور الاجتماعي. وبغض النظر عن المنجزات الاقتصادية والاجتماعية التي تحققت فكم الدمار الأرواح وانتشار مناخ الاستبداد الذي دمر ثقافة الحرية, وهي المناخات التي هيأت انتصار نمط رأسمالية العصابات والسلبية.. الخ. والتي لا يمكن تجاوزها إلا بالنضال في أطرها وإصلاح الخرابين: خراب رأسمالية الدولة الدكتاتورية ورأسمالية الدولة المافيوية.
لقد تحقق التنوير اليساري في ظل هذين المناخين الفكري والسياسى, ولهذا نجد أن النصف الأول من القرن العشرين, كان مقصوراً بقوة على التنوير الليبرالي بشقيه المبكر والوسيط, ومع اتساع دور دول رأسمالية الدولة القومية الدكتاتورية (ما سُمي بالمعسكر الاشتراكي), أخذ نمطها في الانتشار في الثقافة العربية, عبر الأحزاب الشيوعية العربية والاشتراكية والقومية ودور النشر والمجلات التابعة لها.
ولهذا كانت فترة القطع مع مرحلتي التنويير السابقتين, مؤشراً ليس فقط على تغييب التنامى في التنوير العربى, بل حدوث عملية قطع خارجية, قيصرية لجسم غير حامل, وبدلاً من تنمية العناصر الجنينية في الوعي الليبرالي والديمقراطي العربي, تم القفز الى مهمات سياسية وثقافية أكبر بدون وجود قواعد صناعية وموضوعية لمثل هذه القفزات وخاصة في صفوف الجمهور.
وتجسد ذلك فيما تجسد في عمليات تجاوز الفئات الوسطى, وهي العملية التي تعبر عن فكرة تجاوز الرأسمالية في الحياة العربية, وبالتالي تجاوز أحزابها وعمليات تنويرها, وعدم خلق التراكم التنويري معها, وكان المطروح الافتراضي أكبر من ذلك عبر تشكيل جبهة ديمقراطية تعزز التصنيع والحريات والعلمانية.. الخ.
لكن النموذج الاشتراكي المستورد, خاصة مع سيطرة نسخته الستالينية, كان يقلل من شأن دعم البرجوازيات الوطنية والثقافة الديمقراطية عامة, لأنه وليد الاستبداد.
اذا كان قد هيمن نموذج التنوير الديمقراطي المستورد من الغرب الرأسمالي, في النصف الأول من القرن العشرين العربي, فإنه قد هيمن نموذج التنوير الاستبدادي من الغرب الاشتراكي في النصف الثاني من القرن العشرين العربي.
وكلا الموديلين لم يكونا ممكنين, لأنهما يحرثان في أرض غير أرضهما, أي انهما يغدوان جزءاً من بنية إقطاعية تعيد تخريبهما وتشويههما, وبالتالي يفشلان في تغييرها.
أي أنهما لا يقومان بقراءة القوانين الموضوعية للتطور الاجتماعي في هذه البنية, قوانين تطور البُنى الإقطاعية الدينية التي استمرت ألف سنة.انهما يجلبان شيئاً من الجاهز, ويقومان بحشره في الواقع الاجتماعي, بدلاً من دراسة هذا الواقع الاجتماعي ورؤية مساراته الإصلاحية الممكنة, وحشد الجهود النضالية لإنجاحها.
ولهذا فنحن في بداية القرن الواحد والعشرين نقف فوق أرض حطمتها المشروعات المستوردة. ولا بد لنا من إعادة النظر العميقة في كل ذلك.
سنرى في وجهات النظر اليسارية البارزة اجتهادات ثمينة لقراءات عميقة ومتعددة للواقع العربي, لا بد أن ناخذها لأهميتها في فحص التراث والبُنى العربية التاريخية, فهنا جهود كبيرة لأعادة النظر في قراءة التراث, فأعمال حسين مروة وهادي العلوي والجابري وجورج طرابيشي والطيب تزيني ومحمود أمين العالم وغيرهم, هامة ولعبت دوراً انعطافياً في الثقافة العربية, ويتشكل التنوير العربي الحديث على الارتكاز على هذه الجهود وجهود من سبقوهم, وفحصها جميعاً ونقدها, والأضافة اليها.
ان عملية الفرز هذه صعبة ومعقدة, لأنها تستند الى فحص ما هو موضوعي عن الاسقاطات الايديولوجية والقفزات الخيالية, وعن النظرات الواحدية, حيث انتشرت الاستقطابية بين الرأسمالية والاشتراكية.
لهذا فإن ما هو ثمين يتعلق بقدرة التنوير اليساري بأطيافه على الوصول الى استنتاجات موضوعية عن التطور العربي, فالذي يقدمه هادي العلوي من حيثيات دقيقة عن تطور البنية الدينية الإسلامية, أي ما يتعلق بحرفها وأفكارها وفرقها ومذاهبها وشخوصها.. الخ. هو فحص هام وعميق ويسند الباحثين التنويريين الجدد في فض الغلاف الأيديولوجي الذي ركبه هادي العلوي والذي يعوق تثمين الاستنتاجات والتحليلات التي قام بها.
وتحدث عملية مركبة من فحص التراث ومسار التاريخ العربي ومن قراءة اسقاطات المؤلف المعاصر وأسبابها, وما إذا كانت ناتجة من مشروعه السياسي المعاصر التسريعي نحو اليسار أو نحو اليمين في حالة الارتدادات التي تنشأ عقب فشل المشروع الأول كحالة جورج طرابيشي.
فقد أدت الاحتفالات العربية التنويرية, وهي ردة فعل على تغييب التنوير في المرحلة السابقة, الى الكفر بأهمية الاشتراكية وحياة الجمهور الشعبي, فتحدث عمليات ارتدادية واسعة, تنعكس على تقوم التطور, وتؤدي الى تثمين أي تطور رأسمالي, دون فحص علاقاته بتغيير البنية الأساسية, إضافةً الى عمليات الاستيراد الجديدة لآخر الموديلات المنهجية, والتي تقوم القراءة الاسترادية والترجمة بالدور الأساسي فيها.
وبطبيعة الحال هذه تقود إلى تصلب يساري مقابل ومضاد, عجز عن تكوين رؤية تحليلية للواقع, ومكتفياً بقشور ايديولوجية تودي الى المزيد من الهزائم الفكرية والسياسية.
ان التنوير اليساري يمثل مرحلة أخرى من التطور الفكري التنويري, وهوغالباً ما يمثل جهود المفكرين المتنمين فكرياً للجمهور الشعبي المستغل, لكنه لا يعبر عن لحظة قطع مع التطور الفكري الديمقراطي السابق, بل هو جزء من هذه العملية المعقدة المركبة لقوى اجتماعية متعددة تعمل على تجاوز التشكيلة الاقطاعية, ولكن من مواقع مختلفة, وبأدوات نظرية متباينة, وقد أدت الخسائر المشتركة لهذه المواقع, إلى رؤية المشترك الديمقراطي, بدلاً من رؤية الاختلاف كما جرى في المرحلة السابقة.
August 6, 2023
تنوير هادي العلوي
المثقف العربي الكبير الراحل هادي العلوي من الذين كرسوا أنفسهم لتحليل التراث العربي تحليلاً موضوعياً كاشفاً لجذوره وأبعاده الفكرية والسياسية، في مشروع ضخم موزع على مجموعات من الكتب.
وهادي العلوي هو امتداد لـ(المدرسة) العراقية في بحث التراث العربي، حيث تغلبت على المدرسة المصرية بغزارة إنتاجها وتواصلها، خلال القرن العشرين كله، بسبب تجذر دراسة تاريخ العرب والإسلام في هذا البلد، إذا عرفنا ان العلامة جواد علي قد وضع أسس البحث الموضوعي لهذا التاريخ في مجلداته الكبيرة العشرة عن تاريخ العرب قبل الإسلام. ولكن كعادة العراق فإن العملية تقوم على جهود أفراد أبطال، بسبب فترات القمع الواسعة في هذا البلد.
ويمكن اعتبار حسين مروة هو استمرار لهذه المدرسة بسبب دراسته الطويلة في النجف والعراق، لكن الفحص الواسع والدقيق لهذا التراث حققه هادي العلوي، بشخصه الوحيد المستقل، وكأنه أكاديمية كاملة، وفي ظروف معيشية بالغة القسوة، وفي حياة مليئة بالنفي والتشرد. لا يمكن استعراض عشرات الكتب التي صنفها في حياته، حيث كرس نفسه كلياً للبحث والكتابة وانقطع عن الوظائف، ولم يقبل أجوراً أو مكافآت من جهة رسمية أو خاصة، وعاش نباتياً في حياة زهد وتضحية نادرة.
أهم ما يمكن ملاحظته على قراءاته للتاريخ والتراث العربي هو رجوعه للمصادر القديمة، واعتماده عليها، للوصول إلى رأي دقيق حول أي مسألة فقهية أو سياسية أو فكرية أو اقتصادية أو ثقافية أو لغوية، أي بكل هذا التعدد الاختصاصي المعقد والمركب.
فمسألة الشورى يطرحها بالصورة التالية، فالشورى معناها لديه: «حق مجموع المسلمين في اختيار الخليفة، واستخدمت من قبل المعارضة في كفاحها من أجل خلافة يرضى عنها الجمهور. وانتقلت فكرة الشورى بهذا المعنى إلى الفقه فعدت الخلافة غير شرعية إذا استندت إلى القهر والغلبة.. وهذا رأي أغلبية الفقهاء، وقد شذت عنه فرقتان: الحنابلة الذين أجازوا أن تكون الخلافة بالقهر والغلبة، والشيعة الذين قيدوا الخلافة بالنص» من كتابه (خلاصات في السياسة والفكر السياسي في الإسلام).
في هذه المسألة المحورية في كل مجتمع يقول العلوي: «إن الفقهاء المسلمين تتبعوا بدقة شروط أهل الحل والعقد الذين يشاورهم الحاكم المُنتخب، ويلزمهم ثلاثة شروط: العدالة، والعلم الذي يتوصل إلى معرفة من يستحق الإمامة، والرأي والتدبير المفضيان إلى حسن الاختيار».
وهنا يقول الفخر الرازي: إن أهل الحل والعقد هم العلماء وهم أولو الأمر المطلوب طاعتهم، وأما طاعة الأمراء والسلاطين فغير واجبة، (غير أن الفقهاء عدلوا في العصور المتأخرة عن هذا المبدأ فعدوا الشورى حقاً خاصاً بالاشراف والأعيان الذين منحوا صفة أهل الحل والعقد)، نفس المصدر، ص 48.
ولذا كان تثبيت النظام الوراثي صعباً حسب رأي العلوي في تاريخ المسلمين (وقد عانى معاوية صعوبات جمة في تثبيت حق الوراثة للخليفة وعد إجراؤه في تعيين ولده يزيد ولياً للعهد عودة إلى دين الهرقلية والكسروية، أي إلى الملكية).
وهنا يقدم العلوي مراجعه في هذه المسألة: الاستيعاب لابن عبدالبر، والأغاني، والخوارزمي في مقتل الحسين وكتابه الإمامة والسياسة.
وحتى خلافة عمر بن عبدالعزيز رآها الفقهاء بأنها تشكلت بطريقة خاطئة عبر كونه ولياً للعهد، وقد استخلف بإرادة سليمان بن عبدالملك، ولكن كما يضيف العلوي مستشهداً بسفيان الثوري: (أخذ عمر الخلافة بغير حق ثم استحقها بالعدل).
يحدد هادي العلوي الكسروية التي رفضها فقهاء المسلمين بأنها تتعين بالأمور التالية:
1ـ التصرف الشخصي بالأموال العامة. 2 ـ القتل الكيفي. 3 ـ الانهماك في الملذات. 4 ـ تضييع أمور الرعية والتعالي عليها، المصدر السابق، ص53.
ولكن لماذا تراجع الفقهاء والتيارات السياسية الدينية عن معارضتهم الحازمة للاستغلال والدولة الاستبدادية؟
يقول هادي العلوي: إن ولاية العهد التي كانت مرفوضة في أغلبية الفقه الإسلامي حظيت باعتراف بعض الفقهاء في القرن الخامس الهجري.
(وقد سبق هذا الاعتراف أخذ الفرق المعارضة بنظام ولاية العهد في حالات وصولها إلى السلطة كدولة الادارسة التي أقامتها الزيدية في المغرب والدولة الفاطمية التي أقامتها الإسماعيلية في مصر، ص.55
وهنا ينعطف العلوي ليناقش الوضع العام في التاريخ الإسلامي:
يلاحظ أنجلز أن الحركات الاجتماعية التي قامت في الإسلام تتراجع عن أهدافها كلما وصلت إلى السلطة. والأمثلة التي ذُكرت أعلاه تبرهن على صواب تشخيصه. ولكن لهذا الحكم استثناءات مهمة يمكن أن نتعرف عليها في شخصيات حاكمة مثل علي بن أبي طالب وعمر بن عبدالعزيز أو يزيد الناقص وفي حركة القرامطة في العراق والبحرين نموذج في غاية الوضوح للسلطة التي تتقيد ببرامج الحركة، الهامش ص 55 .
وهنا يمكننا أن نتصور وننتقل إلى تصورات عامة لدى العلوي عن التاريخ العربي الإسلامي، فالقول: إن الحركات الدينية تتراجع عن أهدافها حالما تصل إلى السلطة يبقى حديثاً عاماً غامضاً سواء من فريدريك أنجلز أو من هادي العلوي نفسه، الذي أيد الحكم ثم قدم استثناءات تتمثل في شخوص هامة في هذا التاريخ، ثم انعطف إلى أحكام عامة تنظيرية له فقال: (على أن تشخيص أنجلز لمصائر الحركات الاجتماعية في الإسلام يمكن أن يكون له مدلول آخر في ضوء نظريته ونظرية ماركس حول الوضع الآسيوي، وهو هنا يلمس ما فصله ابن خلدون من خضوع التاريخ (الإسلامي) للدورات. ويمكن بالاستناد على هذه النظريات في الواقع حل إشكالات كثيرة في تاريخ تطور الشرق دون اللجوء على التخطئة الاعتباطية لعلماء عظام)، (فصول من التاريخ الإسلامي، ص 55، 56، الهامش 22).
هنا نعثر على لمحات متقطعة لتصور العلوي عن عموميات التاريخ الإسلامي، الذي لم يقدمه، لأنه كان متوغلاً في الجزئيات والأوضاع الملموسة للظاهرات، فهو لم يناقش مسائل مثل أسلوب الإنتاج الذي ينطبق على التاريخ الإسلامي، وفي العبارات السابقة نلمح ذلك.
والواقع أن حديث أنجلز حول التاريخ الإسلامي غير ممكن الاعتماد عليه بسبب عدم إطلاعه الكافي على مواده ومصادره، وتدور فكرته على أن الصراع الاجتماعي في العصر الوسيط يتخذ له طابعاً دينياً، وبالتالي فإن الصراعات المذهبية هي صراع طبقي بالضرورة، ولكن أنجلز يقصد هنا إن أشكال الوعي في العصور السابقة مرتبطة بزمنها، وليس من الضروري نقل ذات الأساليب إلى العصر الحديث، الذي يقوم فيه الوعي التقدمي بإزالة القشرية المثالية عن الصراعات الاجتماعية ويبرزها واضحة نقية باعتبارها صراعات اجتماعية من دون عباءتها التي اختبأت تحتها طوال العصور القديمة السحرية أو الدينية فيما بعد.
وسنجد أن مفكرين وحركات تستخدم مقولة أنجلز الواردة أعلاه بشكل خاطىء ويضر بالحركات السياسية التقدمية المعاصرة.
أما قول العلوي: إن تشخيص أنجلز يمكن أن يكون له مدلول آخر حول نظريته حول أسلوب الإنتاج الآسيوي، فهنا يتضح عدم وضوح فكرة هادي العلوي لهذه المسائل المركبة عن أسلوب الإنتاج في العالم الإسلامي. فأسلوب الإنتاج الآسيوي هو تعبير خاطىء وعدم حل للغز أسلوب الإنتاج في التاريخ العربي الإسلامي. إنه تعبير يضيعُ فرادة التاريخ العربي، وهذا ما وقع فيه حسين مروة في تشخيصه لهذا الأسلوب.
وقد أوضحنا في مواضع سابقة بماذا تعبر الفترة الجزيرية من التاريخ العربي الإسلامي، ثم الفترة التي تليها وهي فترة النظام الإقطاعي العام التي تبدأ من عصر عمر بن الخطاب، التي لم تنفجر فيها الصراعات الاجتماعية، مع صدى الفتوحات المالي والتوزيع العادل للفيء بين العرب، وفي العصر الأموي والعباسي يتشكل نظام الإقطاع المذهبي المستمر إلى يومنا هذا.
رأينا كيف كان تردد مقولات هادي العلوي حول أسلوب الإنتاج، تعبيراً عن عدم الوصول إلى تعميمات نظرية عن تطور التاريخ العربي الإسلامي. فحديث أنجلز عن أشكال الوعي الدينية التي تعكس صراعات اجتماعية، لا تفضي إلى اكتشاف أسلوب الإنتاج العربي، كذلك فإن (أسلوب الإنتاج الآسيوي) هو خرافة أخرى في عملية البلبلة النظرية لهذا الاكتشاف، أما تطرق هادي العلوي إلى رأي ابن خلدون وإن أنجلز يلمس ما فصله ابن خلدون، فنجد هنا سلسلة من الارتباكات الفكرية، وعلينا أن نفكك خيوطها واحدة واحدة.
إن أنجلز في طرحه للمادية التاريخية، لم يعرف آراء ابن خلدون للأسف، ولكن ابن خلدون من جهته لم يصل إلى المادية التاريخية. فابن خلدون تجاوز كثيراً مؤرخي عصره في مقدمته التي حدد فيها عوامل بشرية لتطور العمران، ولكنه رأى (القانون) العام في صراع البداوة والحضارة، ولم يأخذ صراع أهل الوبر وأهل المدر، الرعاة من جهة، وأهل القرى والمدن من جهة أخرى، كعملية مركبة داخلة في أسلوب الإنتاج، فأسلوب الإنتاج الإقطاعي الذي لم يتبلور بشكل ناجز في المرحلة الجزيرية الإسلامية، أسسه العرب البدو وهم يطيحون بأنظمة العبودية المعممة، المتشكلة منذ فجر التاريخ، لأن التمايزات الطبقية المتحجرة لم تتجذر فيهم كبدو عاشوا حياة حرة، وبهذا فإن الأمر ليس فقط لأنهم بدو استطاعوا أن يستولوا على المدن، ويغيروها، بل لأنهم يحملون أسلوباً جديداً للإنتاج، وإلا كيف نفسر مرحلة أخرى قام فيها البدو: بنو هلال والقرامطة بالغزو لكن لم تحصل سوى آثار الخراب؟! أي أن هؤلاء الأخيرين لم يستطيعوا أن يشكلوا أسلوب إنتاج جديد. فهنا كان أسلوب الإنتاج الإقطاعي قد تمزق واهترأ. ان ابن خلدون يقدم لنا مواد ثمينة لاكتشاف كل ذلك، ولكنه يقف عند الموجات السطحية للتاريخ، عند الملامح الأولى لها، بدلاً من رؤية خطوط القارات، وكان ذلك شيئاً مبهراً في زمنه.
ويحاول المؤرخون و(المفكرون) الوقوف عند هذه الخلطة غير المتفاعلة بين آراء ابن خلدون وبين خطوط عريضة تائهة من المادية التاريخية، فتفسد الخلطة بقسميها.
لكن هادي العلوي لم يستهدف مثل هذه الخلطات، ويكفي المقطع المستشهد به السابق، ليوضح عملية الحيرة الفكرية التي وقع فيها ليصل إلى استنتاجات متقاطعة.
إن التحليل العميق للتاريخ لا يمكن أن يصل إلى قوانين التطور الموضوعية إذا كانت هناك ظلال ايديولوجية معاصرة. أي أن الباحث وهو يحلل التاريخ عليه أن يتجرد من المواقف الضيقة لحزبه، أو التي تنبع من ذاته، ويكتشفه في سيرورته الحقيقية، بغض النظر عن مدى تعاطفه مع الفرقاء المتصارعين في الماضي والحاضر.
والعلوي يمتلك تعاطفاً قوياً وحاداً مع الفقراء وثوراتهم حتى لو كانت سلبية، ويكره الأغنياء وأعمالهم حتى لو كانت إيجابية. وقد انعكست روحية الزاهد الثائر على مواقفه من الشخصيات ومن التاريخ والحركات الفكرية والاجتماعية. ولهذا فإنه ضد الرأسمالية، ويطرح تجاوزها والقفز عليها، ويريد من المناضلين أن يكونوا مجموعة من الزاهدين المتصوفين.
هنا يتداخل الذاتي الشخصي مع الذاتي الحزبي، فرفض الرأسمالية والعيشة بطرقها، يندمج مع الفكرة الشيوعية لهذه المرحلة برفض الرأسمالية والقفز عليها للوصول إلى الاشتراكية، أي يتداخل المسار العراقي بالمسار الروسي، وتُطرح شخصيات عراقية كنموذج للينين، ويأخذ المسار الشيوعي العراقي المسار الشيوعي الروسي، ومن هنا يغدو التراث العربي لوحة لظهور الكفاح الطبقي المتواصل ضد الاستغلال، ويحدث غبشٌ خاص حول العمليات الموضوعية للانتقال من الإقطاع إلى الرأسمالية.
وبهذه المنهجية المضادة لقراءة القوانين الموضوعية للتطور الاجتماعي، فإن المواد الثمينة والدقيقة في رصد الوقائع الجزئية والظاهرات التحليلية الملموسة، سوف تتشوش مواقعها بعدم رصد اللوحة العامة لمسار التاريخ. أي لعدم رؤية لماذا عجز التاريخ العربي الإسلامي عن إنتاج الرأسمالية والحداثة؟
فقراءة هذا العجز تقود إلى اكتشاف علل التخلف، وخاصة البُنى الاجتماعية الراهنة.
تنوير لويس عوض
مثل الناقد والباحث لويس عوض شخصية ليبرالية متماسكة ونضالية على مدى عقود القرن العشرين المهمة عربياً 1914 – 1990.
كان مولده من أسرة مصرية مسيحية ريفية من الشرائح الوسطى، حيث كان الأب موظفا وذا انتماء سياسي عاطفي لحزب الوفد، وجه ابنه نحو الثقافة الإنجليزية. وقد استكمل الابن هذا المشوار عبر دخوله الجامعة واختياره الأدب الإنجليزي ميداناً لتخصصه، وكان معلموه هم أساتذة التنوير والليبرالية الفكرية كطه حسين والعقاد وسلامة موسى.
يعبر لويس عوض بشكل نموذجي عن المثقف الليبرالي الذي كرس نفسه لاستلهام الثورة البرجوازية الأوروبية ونقل تأثيراتها إلى الشرق، وهو بهذا يشارك الرعيل الأول الذي خاض النضال الديمقراطي والوطني منذ بداية القرن العشرين، وأسس تجربة الوفد وتجلياتها السياسية والفكرية المختلفة.
لقد عمل لويس على نقل تأثيرات الثورة الديمقراطية في الوعي والثقافة بشكل خاص، حيث كان معظم إنتاجه أدبياً، ثم توسع في ستينيات القرن 20 لقضايا تطور الفكر المصري ومسائل الاشتراكية وغيرها.
تظللت ليبراليته وخطه الفكري السياسي بنشأته في الطائفة القبطية، وأسرته المنتمية إلى الفئات الوسطى، والمحاطة بمجتمع إسلامي ريفي، تهيمن عليه العلاقات الإقطاعية الدينية، والتي غدت في وعي لويس عوض بأنها (الإسلام).
وبهذا غدت العائلة المسيحية، ومن ورائها العالم الغربي المسيحي، التحديثي، الرأسمالي، هو البديل لمجتمع شرقي ديني إقطاعي، متخلف.
إن البدائل هي الحداثة والعلمانية والديمقراطية، و لا بد في سبيل ذلك من إزاحة هذا المجتمع الديني المتخلف الإسلامي واستبداله مجتمع النهضة والحداثة.
تتكون هذه التناقضات المطلقة بين التكوين الشرقي الإسلامي المتخلف غير العلماني وغير الديمقراطي، وبين التكوين الحديث الغربي المسيحي، من قضايا الاضطهاد التي واجهها المسيحيون في الريف المصري خاصة، يقول في مذكراته: «كنت أسمع هذا الكلام نحو 1923 وأنا في الثامنة من عمري فحفر في وجداني وعقلي آثاراً عميقة وعمق وعيي السياسي للمسالة الطائفية في مصر وخارج مصر.» ويقول لويس عوض: «إن أسماء أسرته مشتقة من التوراة والإنجيل»، ويسيطر عليه على الرغم من عقلانيته وعلمانيته: «إن بعض أفراد العوضية يحسون إحساساً عميقاً ليس فقط بفرعونيتهم ولكن أيضاً بأنهم من نسل ملوك مصر القديمة، وأنا شخصياً ورغم عقلانيتي الشديدة استسلم أحياناً لهذا الوهم..»، (اعترافات لويس عوض، أحمد محمد عطية، أخبار الخليج، 24/7/1990).
إن هذا الصراع الذي يعبر عنه لويس عوض هو نتاج الصراع الاجتماعي الذي جرى في مصر، وخاصة في الريف، من توغل العرب وخاصة القبائل الرعوية، محمية من الأنظمة الاستبدادية للاستيلاء على أراضي الفلاحين الأقباط، وهو الصراع الذي اتخذ طابعاً دينياً، عبر الهجوم على الأقباط ومظاهر عبادتهم، ولجوء الأقباط إلى التمترس في دينهم، دفاعاً عن أرضهم ومصاحهم وتطورهم الروحي المستقل.
واذا كانت المدن المصرية التي ينشأ ويختلط فيها المسلمون والأقباط، فإنها لا تغدو مدينة برجوازية حرة، تبعد الدين عن السلطة، فهي مدن إدارية للإقطاع المذهبي ولهذا فإن لويس عوض يحمل رفضاً لهذا المضمون العميق من الصراع، ولكنه يأخذ في وعيه الصراع بين الإسلام اعتباره ديناً للرعاة وكمنظور متخلف وبين الحداثة القادمة من الغرب المسيحي، كصراع مطلق. إن العرب والبدو والإسلام يأخذون في وعيهم طابعاً واحداً مطلقاً، كما يأخذ الغرب والعلمانية والحداثة طابعاً مطلقاً آخر، وليس بالإمكان لقاء الجانبين.
إن لويس عوض يعد من هذه الفئات من الشرائح الوسطى المسيحية التي بدأت برفض الاقطاع الديني، القادم من بلاد العرب، وقد أخذت هذه الشرائح في بداية القرن العشرين تكون مزيجاً مصرياً مشتركاً في علمانية غامضة الملامح الفكرية والاجتماعية، ولهذا فإن التكوينين الديني والقومي يبقيان غامضين في برنامج حزب الوفد، الذي لا يتغلغل في جذور هذه العلمانية، طارحاً فكرة القومية المصرية، أو الشخصية الفرعونية، وهي كلها محولات أيديولوجية لتشكيل تحالف من شرائح «الطبقة الوسطى» مبهمة الملامح الفكرية.
إن الرعيل النهضوي المصري يتكون في هذا المناخ، وخاصة الجيل الذي أعقب ثورة 1919 والذي كان لويس عوض ونجيب محفوظ وغيرهما منه، وليست روايات محفوظ وأعمال لويس عوض بعيدة عن أصدائه.
ونلاحظ هنا ان العودة إلى التاريخ الفرعوني أو الاقتباس واستلهام الغرب الديمقراطي، لدى هؤلاء في هذه المرحلة، يستبعدان التاريخ العربي الاسلامي، فتمثل تلك الحقب القديمة أو الحديثة، مقصاً لإزالة الحقبة العربية الإسلامية، باعتبارها علة مصر وأساس تخلفها.
إن هذا الوعي لا يشير إلى وجود نهضات عربية ما، وبالتالي لا يرى مراحل واتجاهات وطبقات في التاريخ والوعي العربي الإسلامي، ويحيل هذه التلاوين إلى وجود واحد هو الاقطاع الديني. إن اتجاه نجيب محفوظ ولويس عوض وسلامة موسى إلى التغييب الكلي للزمن العربي الإسلامي، سوف يقابله مستقبلا الحضور الكلي للزمن العربي الإسلامي ممثلا في العقاد وطه حسين وغيرهما.
إن الشرائح الوسطى المصرية في وصولها ومشاركتها في السلطة منذ العشرينيات، أخذت تفقد طابعها العلماني والتحديثي، وليس ذلك لأسباب فكرية محضة، بل لعوامل اقتصادية واجتماعية متنامية في صفوفها، حيث أخذ حزب الوفد يضم أكثر فأكثر شرائح من الطبقة الاقطاعية، وغدت طبقة الأعيان مؤثرة في قراراته وتراجعت فئات «الأفندية».
إن هذا انعكس على توجهات الوفد. التي تراجعت شعاراته العلمانية، وراح النفوذ الديني يتغلغل إلى صفوفه.
لقد أصبحت المعركة لكسب أصوات المسلمين وهم الأكثرية مسألة حيوية للأحزاب والقوى الحاكمة. وقد توجه الاستعمار والسراي الملكي (الاقطاع الحاكم السياسي بجناحيه!) إلى استغلال الاسلام ضد الوفد والحداثة والعلمانية، أي بتحريك الاقطاع الديني الاجتماعي لوقف تصاعد نمو الفئات الوسطى. لكن الوفد دخل المعركة بلا مفكرين يغوصون بعمق في تضادات الموقف وتركيبه.
ومن الممكن أن نرى في آراء لويس عوض نفسه، لوحة تكشف هذه القضية وتلاوينها.
لقد وقف ضد توجهات طه حسين والعقاد ومحمد حسين هيكل لقراءة الإسلام. وقف ضد قراءاتهم جميعاً، ليس لأن هذه القراءات جميعها تمثل موقفاً معادياً للحداثة، بل لأنها تقرأ الاسلام.
إن قراءة الإسلام حسب هذا الطرح ،«العلماني» تمثل نكوصاً نحو التخلف، وهنا نرى مثالاً عن التضادات المطلقة لوعي لويس عوض. ولكن هذه القراءات عن الاسلام متباينة في اجتهاداتها، ففي حين مثلت قراءتا العقاد ومحمد حسين هيكل وعياً يمينياً لتوظيف الإسلام لمصالح القوى الأرستقراطية في المجتمع، مثلت قراءة طه حسين رؤية تقدمية عبر كشفها الصراع الاجتماعي بين العرب وانحيازها إلى القوى المضطهدة والتقدم خاصة في كتابه «الفتنة الكبرى». وبهذا فإن لويس عوض قد وضع الإسلام كما تضعه القوى المحافظة كوعي لمصلحة المستبدين، أي فقد القراءة الموضوعية لرؤية الإسلام في مساره الحقيقي المركب، أي أن العداءين الديني والشخصي تغلبا على العقل في شخص لويس عوض. وهذا المسار الذي كرسه سلامة موسى، لم يستطع لويس عوض رؤيته أيضاً في إبداع نجيب محفوظ، الذي غادر مرحلته التاريخية الروائية، وغادر مرحلته الفرعونية كذلك، حين كتب «الثلاثية». لقد مثلت الروايات التاريخية عند نجيب محفوظ بطولة الفرعون، في حين مثلت الثلاثية بطولة الشعب.
نستطيع ان نقول عن انقلاب لويس عوض على العقاد إنه يمثل مسيرة طبيعية في مسيرة وعيه الديمقراطي، فالعقاد في بدء حياته الفكرية كان هو صوت الدستور والحرية، ولكن منذ سنة 1935 دخل «فأصبح حرباً عواناً على الدستور وحكم الشعب والمدافع الأول عن حكم الصفوة، وتوقف عدائه للإنجليز… وتقارب مع الملك فاروق حتى قال فيه شعراً ونثراً… وأعلنها حرباً عواناً على مجانية التعليم وعلى مطالب العمال والفلاحين..» (أوراق العمر، المصدر السابق، الحلقة الثالثة).
إذاً فإن تضاده مع العقاد يبقى واضحاً، حيث استمر لويس عوض في خطه الوطني والديمقراطي، لكن تضاده مع طه حسين الذي اتخذ مسيرة مضادة للعقاد، والذي بدأ حياته الفكرية السياسية بالهجوم على سعد زغلول: زعيم الرعاع كما وصفه، ثم تحول إلى مناضل ووزير وفدي، هو الذي يكشف طبيعة تنوير لويس عوض الغربي المستورد وغير المتجذر في الإرث الوطني المسيحي الإسلامي.
فعلى عكس لويس عوض قام طه حسين بكشف بعض تناقضات التاريخ العربي الإسلامي، منحازاً إلى جانب التقدم والمضطهدين فيه، في بعض أعماله الأساسية، أي أنه دخل في صميم تغيير جوانب من البنية الاقطاعية الموروثة. أي أن طه حسين من جهته، لم يطرح في الثقافة أو السياسة، ضرورة تغيير جذري للمنظومة الاقطاعية.
إن اتخاذ لويس عوض موقفاً معادياً بشكل جوهري للبنية التاريخية التي شكلها العرب في المنطقة، يجعل تحليلاته واستنتاجاته لنتائج وتطورات هذا التاريخ، غير موضوعية.
ففي رفضه للشعر العربي الكلاسيكي يرفضه بشكل مطلق، معلناً وفاته بعد وفاة أحمد شوقي. وهذه العملية ليست بحثاً مشروعاً عن تطور في الشكل الشعري العربي، ولكنها تتجاوزها إلى محاولة إلغاء النوع الشعري العربي، عبر العودة إلى العامية ونقل أشكال شعرية غربية متعالية على سيرورة تطور الشعر العربي، تجد بعض حيثياتها في قصيدة إليوت. يقول أحد الباحثين عن عمله الشعري والنقدي: «محاولته التنظير وأثر ثقافته الغربية وطغيانها عليه، بحيث جرفه ذلك إلى كثير من التطرف والتعصب اللذين ــ بالإضافة إلى أنه لم يكن شاعراً ــ أديا به إلى إخفاق دعوته وإلى محدودية أثر ديوانه، بسبب ركاكة ورداءة النماذج الشعرية التي نظمها من ناحية، ومن ناحية أخرى بسبب نظم كثير من هذه النماذج بالعامية، كذلك بسبب تكلف كثير من النماذج واثقالها بالإشارات والألفاظ الأجنبية من ناحية ثالثة»، (بحث حسني محمود في مؤتمر المشروع الثقافي للويس عوض، القاهرة، بمناسبة الذكرى العاشرة لرحيله).
تتوارى هنا كذلك فكرة رفض الجسم العربي الثقافي بكليته. ولكن حتى هذه الفكرة تحتاج إلى غوص في النوع الشعري وفى الواقع، إنتاجاً وتحليلاً، وهذا ما لم يفعله، ولهذا فان النوع الشعري البديل لكل النوع الشعري العربي لم يتجذر، لأنه مغامرة في الهواء.
إن لويس عوض وهو يعيد إنتاج علمانية سلامة موسى المغربة، أي التي لا تتغلغل في الإرث العربي الإسلامي المسيحي، لكي تحصل على مواقع متجذرة في الانواع الفنية، لا يستطيع أن يكونها، لأن ذلك يفترض عكس ما يريد وهو دخوله إلى الجسم العربي الإسلامي المرفوض لديه. أي ايجاد ديالكتيك داخل هذا الواقع والتراث، ومن دون وجود سمات متضادة، يستحيل حدوث صراع ونمو وتجاوز.
إذا أخذنا رأياً سياسياً مباشراً منه هنا، سنأخذ رأيه في أحمد شوقي، بعد أن نضج وكتب ذلك في كتابه السابق ذكره، فيقول عنه: «وقد بلغ من سخافة أحمد شوقي انه أنشد في تمجيد انتصار مصطفى كمال في معركة جاليبولي:
الله أكبر في الفتح من عجبِ يا خالد الترك جدد خالد العربِ
فحاول إحياء رموز الفتوحات الإسلامية في وصف قائد معركة وطنية بحت، اشتهر بعلمانيته المتطرفة وبأنه صاحب الدعوة الطوارنية الذي صفى فكرة الجامعة الإسلامية عندما صفى الامبراطورية العثمانية والخلافة العثمانية وادار ظهره للعرب الذين قاتلوا تركيا تحت لواء الإنجليز في الجزيرة العربية، ص 227.
إن أحمد شوقي ينطلق في قصيدته من موقف تقليدي في رؤيته للإسلام وتاريخه، ولكنه يراه كشكل تحرري من الغزاة الغربيين وغيرهم، ولهذا يمدح كمال اتاتورك كقائد وطني تحرري مسلم، وكان يُفترض في علمانية اتاتورك أن لا تناقض إسلاميته، ولكنها كانت علمانية (مغربة) أي على نمط غربي شكلاني، أي أنها تأخذ العلمانية كأشكال في جوانب رئيسية منها، ولا تتجذر في الواقع الإسلامي، أي أنها لا تفصل بين الدين كسيطرة اقطاعية وسلاطينية، والدين ككفاح شعبي.
ولهذا فإن ذهاب أتاتورك الجيد إلى أوروبا لم يكن يناقض فكرة الجامعة الإسلامية، وحتى من الناحية الاقتصادية العملية كان التوجه بشكل كلي غرباً مضراً على المدى البعيد.
ولكن العلمنة التي يصفها لويس عوض بأنها (بحتة) هي استمرار لنهج الإدارة العسكرية الاقطاعية التركية في التوجه الشكلي للحداثة دون رفدها بثورة ديمقراطية اجتماعية توزع الأرض على الفلاحين وتشكل تعددية الخ…
ويقول لويس عوض: إنه كان متحمساً لقصيدة شوقي في شبابه، ولكنه الآن يحكم عليها بالحكم السابق، وهذا يوضح إن أحكامه الفكرية لم تتجذر تجاه شوقي وتجاه العلمانية.
ومن هنا نقرأ نقده لثلاثية نجيب محفوظ السابق الحديث عنها، وهي التي تمثل خطاً مضاداً للويس عوض، فمحفوظ انعطف بأدواته التحليلية إلى الرواية، وإذا كان الزمن الفرعوني ظل لديه كقبس متوارٍ، إلا أن الشعب أخذ يحتل ساحة وعيه الفكرية، وقد راحت الفئات الوسطى، والوفد وسعد زغلول، تحتل مكانة القيادة لهذه الساحة، وبهذا فان الواقع الحي راح يفرض هيبته على الوعي المسبق. وفى موضوع الثلاثية، فإنها نقد واسع للنظام الإقطاعي بسلطته المتعددة: الإنجليز، والقصر، والاقطاع المنزلي الذي مثله السيد أحمد عبدالجواد، ويغدو التفكك السياسي على مستوى البلد، متوازياً مع التفكك الإقطاعي داخل منزل السيد أحمد. ويترافق ذلك مع صعود الفئات الوسطى، بشرائحها الايديولوجية. السياسية المختلفة: الوفد، الاخوان، الماركسيون.
لكن لويس عوض استغرب من عدم ظهور ثورة 23 بصورة حرفية في الثلاثية، وكأنه يريد صورة فتوغرافية وليس تجسيداً عميقاً لتحولات جوهرية. وبهذا فإن الوعي التحديثي العلماني لدى محفوظ يتغلغل في مادة الواقع، أخذاً في مشرطه المسلمين والمسيحيين والطبقات والوعي المختلف في نسيج وطني متباين. وبهذا مثل ذلك شكلا مغايراً لعلمانية لويس عوض المتغربة.
نكتشف عبر الجوانب الإيجابية التي طرحها لويس عوض عبر العلمانية والديمقراطية والتحديث التي أصر عليها، جوانب أخرى تمثل نقصاً هي بمثابة الإشكاليات التي عاشتها هذه المفاهيم.
وتعود مختلف هذه الإشكاليات إلى موقف لويس عوض الوطني المتشدد، الذي يرى مصر في نسيج تاريخي وثقافي ولغوي مختلف عن العرب، ومنفصل كلياً عنهم.
ففي كتابه «مقدمة في فقه اللغة العربية»، والصادر عن دار سينا للنشر، 1980، ط 2، يوضح آراءه، فيقول: إن العرب ليسوا من الجزيرة العربية بل هم مهاجرون من منطقة القوقاز، وبالتالي هم آريون، وجذور لغتهم من اللغات الهندو- أوروبية، وإن مصر وشعبها قبلهم، وإنهم هم الذي اثروا عليهم وطوروهم. وإن الكثير من كلمات اللغة المصرية دخلت العربية.
والواقع ان الآراء مختلفة في أصل العرب، فهناك نظرية تقول بمثل ما يقول لويس عوض، وهناك نظريات أخرى تقول بسكنهم الجزيرة وإن الشعوب السامية كالبابليين والكنعانيين هم من الجزيرة العربية، وهي أمور أكدتها الآثار والأبحاث المختلفة، أما الأصل البعيد الذي يستغرق آلاف السنين فهو أمر جائز لكنه غير مبرهن عليه. لكن من الغريب أن نجعل هذا الأصل البعيد جذراً لاختلافات اجتماعية وسياسية ودينية راهنة.
أما الأمر المؤكد والعياني والذي ينكره لويس عوض فهو ان العرب المسلمين لعبوا دوراً تحويلياً نهضوياً كبيراً أعادوا به تشكيل المنطقة، وجعلوا المسيحية الشرقية جزءاً من التشكيلة الاجتماعية الإسلامية العامة، أي من البناء الحضاري التعددي والمتنوع في المنطقة، كالعديد من المكونات الأخرى: اليهودية، والزنجية والهندية، التي تم ضمها واستيعابها في قوانين حضارة العصر الوسيط، التي عرفت الإدغام والضم، أكثر من التداخل الديمقراطي، والتلاقح العضوي.
ولم يتحول كتاب «فقه اللغة العربية» إلى قراءة لهذه الحضارة العربية الإسلامية المسيحية الخ.. بل هو يعيد إنتاج الصراعات الدينية بشكل (علمي) حديث، ويتجلى هنا ذلك التضاد المطلق الذي أشرنا اليه منذ البدء، وهو التضاد بين العرب والإسلام من جهة وبين الحضارة والحداثة من جهة أخرى، وهو يدخل في القطب الأخير مصر، حيث هي أيضاً في تضاد مع العرب، ولكنه لا يدخل زمنها العربي الإسلامي الوسيط ليحلله ويكشف عناصره المتضادة، بل هو ينفيه كلياً.
أما التحليلات الموسعة فهي لحضارة الغرب التي نثمن اهتمامه بها ونقله لآثارها الإنسانية العظيمة، وخاصة للعصر التنويري الذي انشغل به لويس عوض وقدم عنه كتاباً هاماً، لكنه لم يأخذ كذلك الفكر الغربي كتكوينات متضادة، فهو يقف عند فكر عصر النهضة، ولا يقوم بتحليل العصر الامبريالي الغربي.
وهو اذ ينتمي لتيار الاشتراكية الديمقراطية الغربية، فهو يغدو رائداً لمسيرته الديمقراطية الاجتماعية، والتي تتجلى بتاريخه السابق في العهد الملكي، كذلك باستمرار نضاله من أجل الديمقراطية في العهد الجمهوري العسكري، والتي يدفع فيها من عمره سجناً وحصاراً معيشياً وغربة، ولكنه لم يتنازل عن آرائه فضرب مثالاً عظيماً للأجيال.
وتمثل عملية اعتناقه للفكر الاشتراكي الديمقراطي كذلك استباقاً لتحولات العالم والمنطقة، وهذه تحتاج إلى دراسة متفحصة في الواقع، لأنه في سنواته الأخيرة قدم مجموعة من الأعمال الفكرية التي تتناول تيارات العصر الحديث وجوانبه الأدبية.
ولهذا فإنها بحاجة إلى وقفة أخرى.
وعموماً فإن القراءة للجوانب الإيجابية والسلبية تستهدف الوصول إلى صورة موضوعية عن رائد كبير للوعي (العربي) الحديث.


