عبـــــــدالله خلــــــــيفة's Blog: https://isaalbuflasablog.wordpress.com , page 39

June 23, 2023

البرجوازيةُ الصغيرة والمدارسُ الفكرية

يقوم أفرادٌ متميزون من الفئات البرجوازية الصغيرة بتبني طموحات الطبقات المنتجة، كما فعل التنويرون كروسو وفولتير بتبنى آفاق تطور البرجوازية، لكن التشكيلةَ الرأسمالية كانت قد صعدتْ في بعضِ الأقطار الغربية الرئيسية، وإنكشفتْ العديدُ من مشكلاتها، ولهذا فإن أفراداً متميزين آخرين تجاوزوها وعبروا عن الطبقات العاملة، لكن هذه الطبقات كانت بلا تراكم فكري مثل البرجوازية، ولهذا فإن هؤلاء الأفرادَ من البرجوازية الصغيرة يطرحون مناهجهم السابقة عبر المادية ويراكمون ثقافةً لهذه الطبقات البسيطة الوعي والتي لا تملكُ الفرصَ لانتاج ثقافة، وهي تترابطُ مع نتاجات هؤلاء عبر الطلائع فيها، أي من يمتلكون الوعي والحماس والوقت خارج العمل الشاق لربطِ نتاجات المتنورين المتحولين لثوريين إلى صفوف العمال، حينئذ يبدأ الأفرادُ المتنورون بالانفصال عن تراثِ فئاتهم ويغربلون ما كتبوه سابقاً وينقدوه.
لهذا سنجدُ كتابات ماركس الهيغلية تتخلى عن طابعها التجريدي المثالي، لتغدو ماديةً آلية في البدايات، ثم تنصهرُ أكثر في الجدل، ورومانسيةُ الثورةِ العمالية المطيحة بالاستغلال دفعةً واحدةً تتشكلُ واقعياً عبر نضال إشتراكي ديمقراطي طويل الأمد والبناءُ الديمقراطي والدراساتُ الموضوعية تعطي النظريةَ حياة برهانيةً ومعرفةً بقوانين البنيةِ الأولية في البلد الواحد، وهو الأمرُ الذي أستغرق عقوداً، دون أن تكتملَ حتى قراءة البلد الواحد لمصيرِ التشكيلة في سياق العالم، لكون القراءة تاريخية متقطعة، خاصةً مع رحيل الأفراد المؤسسين ذوي الخبرة الطويلة، الذين يسلمون أوليةَ النظرية لبرجوازيين صغار جدد كلاسال وقيادة عمالية أكثر وعياً وصلابة.
الانتقالُ من نشاطِ البرجوازية الصغيرة إلى أجيالٍ من الطبقة العاملة بسبب مستوى القواعد الاقتصادية والسياسية والثقافية لبلد متطور ديمقراطياً بصعوبات كبيرة مثل ألمانيا يختلفُ في سياقهِ التاريخي عن روسيا المتجمد في الدكتاتوريات، فهنا في روسيا إحتاج إنتقال النظرية من البرجوازية الصغيرة للعمال أ للكثير من العقود ولا زال مضطرباً!
إن الأفراد المناضلين المغيرين للنظام القيصري عاشوا في ظروف الشمولية ولم تحصل النظرية على الظروف الديمقراطية ونضال العمال المستقل، ولهذا فإن الرومانسية بسحق الطبقات كلفتْ كثيراً، فيما كانت الطبقات الاستغلالية تظهرُ من خلال الدعوات(الماركسية).
إن الأفكار الثورية المرتبطة بالانعطافات التاريخية معروفة على مر التاريخ، ولكن ما هو مميز في الماركسية أنها غدت إنعطافةً كبرى مختلفة في التاريخ البشري، فقد كشفتْ أساليبَ الانتاج ولم يعد التاريخ مبهماً، ولكن مع هذا فإن الطبقات الاستغلالية تعقبُ المراحلَ الثورية، وتصبح النظريةُ في وجودها الحر عند أفراد متطورين فكرياً وسياسياً صعبة، فالنظريةُ تمتلكها الطبقاتُ الاستغلاليةُ وتمنعُ حراكَها الحر الحافر في الواقع، وإنتاج معرفة موضوعية، فهي تغدو إيديولوجيةً مشوهة، والارتباطُ بين النظرية وإستقلال العمال ينتفي، حيث تتم السيطرة على العمال وتوجيههم لمصالح البيروقراطية، وهم في عملم الشاق يغدون غير قادرين على تحرير الماركسية من البيروقراطية، ووجود المثقفين الأحرار المميزين ينتفي، ولهذا كان إعدامُ المثقفين البارزين في المكتب السياسي البلشفي، لقطعِ العلاقة بين النظرية والعمال، وبين النظرية وتحليل الواقع. فيما إستطاع الغرب المعادي أن يطور الماركسية عبر مفكرين أحرار مستقلين قدموا الثروة الفكرية المتطورة لهذه المدرسة، ولكن يظل إنتاجهم غير معروف ومحاصر.
في العالم الثالث تغدو العلاقات أصعب، وضخامة حجم البرجوازية الصغيرة أكبر، وهنا لا تتعرقل النظرية من فقدان الطبقات العاملة المترابطة فحسب بل ومن هيمنة الطوائف كذلك، ويمكن هنا أن ينقسم (الماركسيون) حسب الطوائف، وتصبح هنا نقابية شيعية ونقابية سنية ونقابية مسيحية، فالعمال أنفسهم يعيشون حسب وعيهم في زمنية الاقطاع، وتُطرح مهمات أكبر من مستوى وعيهم وظروفهم.
ولهذا فإن الأحزابَ الماركسية تصبح طوائف موالية لهذا المحور الطائفي القومي أو لذاك المحور الطائفي القومي، مع إستمرار ضخ المادة الماركسية الصلبة من التاريخ السوفيتي!
إذا كانت الماركسية وجدت صعوبات هائلة في وجودها في الغرب الديمقراطي، وغدت أحزاباً أما تابعة للرأسماليات الشرقية الشمولية وأما إنتهازيةً مؤيدة لرأسمالياتها الخاصة، وصعب عليها إنتاج معرفة موضوعية، وخلق سياسات شعبية تحولية، فكيف الأمر في التشكيلات السياسية الهشة في الشرق؟ وكيف كانت الأمور في هذا الشرق بأن تلتحق الجماعات السياسية المعارضة بدول شمولية كثيرة الكرم على الانتهازيين وبخيلة على شعوبها، وسرعان ما تمسح الطلاء الماركسي الوطني الزائف وتستبدله بالولاء الجديد ولا يحس العمال بالفروق وهم جماعات ريفية في أغلبهم لم يلتحقوا بنقابات إلا مؤخراً ولم يعرفوا الحياة السياسية الحديثة.
غدت الاصلاحات الوطنية وترابط الشعوب والطبقات وتطور الديمقراطية خارج البنى التقليدية مهمة لإعادة التطور الفكري المستقل ولتتطور المدارس الفكرية خارج هيمنات الدول.

 •  0 comments  •  flag
Share on Twitter
Published on June 23, 2023 03:26

June 22, 2023

أليس لليلِ الخليج من آخر؟

كتب : عبـــــــدالله خلـــــــيفة
اضأتْ شعلُ النفطِ السماءَ وبزتْ النجوم!
وقربها أكواخٌ بلا قناديل!
جاءتْ بواخرٌ عظيمةٌ وملأتْ بطونَها من الزيتِ وسفنُ الخليج الخشبية محاصرةٌ بين الفنادق والعمارات التي بُنيت على عجل ونستْ سفنَ التاريخ والصيادين والغاصة في نقع المياه الأخيرة!
في جميع الخرائط البشرية الرؤوسُ مجذوبةٌ تحدقُ في هذه المنطقة السعيدة بثرواتِها الطائلة وتحاول أن تأتي وتحصل على فرص عيش، ثم تُفاجئ بالناس تهرب والمدمرات تطلقُ حممها والمشردون المواطنون والعاملون المهاجرون تائهون عند قناة السويس أو لاجئون غارقون في القوارب عند سواحل إستراليا!
مسافرو الخليج السعداء يتم إبتزازهم في المطارات والفنادق وربما حتى في الصحارى التي عبروها فهم في عرف اللصوص والمبتزون في المطارات والفنادق وحتى على أسنة الحدود الصدئة في بعض البلاد العربية الشقيقة غير الرفيقة أصحاب ثروة هائلة يجب أن يدفعوا ضريبة ومكوساً من الآبار التي تتدفق في منازلهم وقرب وسائدهم.
لو أنهم يطالعون البلد الأخضر ذا الآبار التي لا تعد كيف أنه مشغول بتسمين لصوص كل بضعة عقود يحرقون نفطه وغازه على شكل سحب سوداء ممطرة بالأوبئة، ويحيل الغزاة بلده إلى مكان دائم للفقر.
البواخر تشفط النفط وعلى السواحل قرى ذات بيوت ضامرة وحقول ناضبة، وترى بلداناً ذات شباب لا يظهر سوى في ليل السهرات لينام حتى الظهيرة في اليوم التالي، وشباب بلدان أخرى يصحو منذ الفجر ليشتغل في معامل ويحصل على فتات الأجر.
كل عشر سنين ونحو ذلك في عد مستمر دائم، الخليج موعود مع حرب ما، إذا نضبت خزائنٌ في الغرب وضعوا مناظيرهم التجارية الدقيقة على البقعة ذات اللهب المشتعل في الليل، وحركوا دمى هنا أو هناك، وظهرت أسلحة، وجاءت أساطيل، وصرخ سياسيون، وهدد رجالُ دين، وهربت جموع، وهاجم رعاعٌ سفارات أجنبية، أو قام دكتاتور أرعن بغزو، فأعتدلت بعدها البنوكُ والشركاتُ المصاصة للدماء وشبعت.
لم يجد أهلُ الخليج ساسيهم يجتمعون كلهم ويعقدون صلحاً أبدياً وعلاقات صداقة ويخططون لتوزيع الثروات والشركات والبضائع والمناجم ويؤسسون سوقاً إسلامية ووحدة إقتصادية ويبعدون الطامعين والمستفزين عن هذه الخريطة.
مسائلٌ رثة من الإرث تُستحضر ويتم الصراع حولها كخلافٍ دامٍ مخيف حول لون شعرة أهي سوداء أم بيضاء، وأي جوابٍ بعدهُ مذبحة. فلنترحمْ على ضحايا حرب داحس والغبراء فقد تصارعوا حول أفراس جميلة!
العالمُ يغزوهم ويأخذُ نفطَهم وغازهم ويبني مصانع ويوحد ولايات متفرقة وينتشل محيطات وغابات بشرية من الفقر ويقيم ثورات علمية تقنية، وهم لا يزالون يتصارعون حول تسمية بحر، وأي مذهب له الغلبة، وكيف يثأرون لمعارك ماتت منذ قرون وذابت عظام فرسانها وبقيت الرؤوس والأيدي تحفرُ عن شعيراتها ودودها.
حارتان تتصارعان وهما متداخلتان تمازج عيشهما وأطفالهما وثقافتهما ومصائدهما وأزقتهما، وأية مشاجرة بين أولاد مراهقين تُطلقُ النساءُ بعدها، وتَندلعُ النيران، وتمتدُ للفضائيات، ويُمنع دخول أي من سكان الحارة الأخرى، وربما يُذبحُ(المقتحم الشرير العدو)المتجرىء على دخول الحارة النقية، وأهل الحارة يعيشون في نفس الضنك وخيوطُ النفطِ الكثيفة اللزجة تتسللُ من بين أصابعهم وضفتيهم، ولغتيهم ومذهبيهم وقراهم الرثة وغفلتهم الطويلة.
حين يتشاجرون وتسيل الدماء وتُحرق الأزقةُ وتُوضعُ القنابلُ على الحدود الملتهبة وتُستباح جزرُ النفطِ ليُحرق في الهواء وترتفع أسعارهُ لخدمة الناقلات والموانئ البعيدة والبورصات المثقلة بالأرباح، يلجأون لدولٍ بعيدة من أجل الصلح، أو يذهبون لقارات يفتونها في دمائهم، ويُحضرون غرباء يسألونهم عن الحلال والحرام، وعن الصواب والخطأ، وعن الحدود ونقاطها الشائكة المتداخلة في حياتهم وأحيائهم وسلالاتهم، ويريدون من الانتهازيين وتجار الحروب والطامعين في آبارهم ومناجمهم التي غفلوا عنها ورقدوا قرب حشراتها وأكتشفها الغرباءُ بأجهزتهم وأقمارهم وعيون أطماعهم النافذة، أن يبينوا لهم خريطة الطريق ليخرجوا من العداء، ويعيشوا في تبات ونبات وصبيان وبنات!
متعصبون جداً لدينهم وأي إساءة من قريب أو غريب لن يجد أجزاء من جسمه سليمة بعدها أو من سنوات عمره باقية له، لكنهم يتجاهلون كلمة كثيرة الورود في كتابهم المقدس وأساس نشؤهم وتطورهم ورفعتهم ومجدهم الغابر، كلما جاءت أزورتْ أعينُهم عنها، وتلكأتْ ألسنتُهم في ترديدها، وأنشأوا المدارسَ الفلسفية لتحريفها، وكتبوا الكتبَ النظرية الفقهية لإبدالها، وهي كلمة (الوحدة)!

 •  0 comments  •  flag
Share on Twitter
Published on June 22, 2023 00:12

June 21, 2023

فائضُ القيمةِ وإعادةُ الإنتاجِ السياسية عالمياً

كتب: عبـــــــدالله خلـــــــيفة
مصادرُ الثروةِ هي المصانعُ والمناجمُ وغيرها من أسسِ إنتاجِ الثروة، والذي يتجسدُ مالياً عبرَ فائضِ القيمة، ويتوزعُ حسب أصحابِ المُلكية الخاصة والعامة.
لا يستطيع صاحبُ المصنع سوى أن يعيدَ الإنتاجَ كما هو أو أن يوسعَهُ بهذه الدرجةِ أو تلك، عبر إعادةِ جزءٍ من فائض القيمة لتطوير المصنع.
وفي بدايةِ الثورةِ الصناعيةِ كان الأمرُ متروكاً لصاحبِ المصنع يقررُ الأجورَ وساعاتَ العمل والتصرفَ بفائضِ القيمة كما يريد، لكن تطورات الحياة الاجتماعية والسياسية أحدثتْ تدخلاتٍ في هذا التصرفِ الشخصي الحر في فائض القيمة، عبرَ إحداث الضرائب على أصحاب الثروات، تقوم بها الحكوماتُ لإعادةِ توزيع فائض القيمة بأشكالٍ إجتماعية وسياسية تقررها هي أو الأحزاب والنقابات التي راحتْ تتدخلُ في العملية السياسية وتشارك في السلطات رسم سياسات المجتمعات.
هذا أدى في الغرب إلى النفوذِ المتصاعدِ للأحزاب الاشتراكية، لجعلِ فائض القيمة موجهاً لإعادةٍ موسعةٍ للإنتاج حسب الخطط السياسية المختلفة، بحيث غدتْ بعضُ الخدمات العامة مرصودة بشكل دقيق وهي التطوير العلمي للإنتاج، ومواكبة التعليم للإنتاج، وتغيير حياة الطبقات المُنتجة وبطبيعة الحال هناك أهداف أخرى هي ما يقررهُ أصحابُ الأعمالِ كتطويرِ الجيوش والهيمنة على المستعمرات وفيما بعد على تعاظم الصرف على البذخ الاجتماعي ورفاهية الطبقات الخاصة، وغير ذلك من تباين في الأهداف بين القوى الاجتماعية السياسية. وبين البرنامجين الأول والثاني تشتغل الأحزابُ اليساريةُ أو الأحزابُ اليمينية؛ الأولى توسعُ القواعدَ الاجتماعيةَ الماديةَ والفكريةَ لتطور الإنتاج، والأخرى توسعُ الأسواقَ الخارجية وتجلبُ الموادَ الخام، أو تبذرُ المالَ العام في الحروب التي غدت أكبرَ هوةٍ لبلع فوائض القيم أو في الفلل الفاخرة فيما بعد.
في الدولِ المُسماة إشتراكية في الشرق تم الاستيلاء (السياسي) على فائض القيمة، وراحت الأحزابُ الحاكمةُ تقررُ كيفيةَ توجيه فائض القيمة، عبر تسريع أشكال التنمية الصناعية والتعليمية والاقتصادية المغايرة عن التطور الغربي، مع غياب الديمقراطية والصحافة الحرة ورقابة العمال، مما عبرَ عن هيكليةٍ رأسماليةٍ حكوميةٍ مُجسدةٍ لسيطرةٍ القوميات خاصة الروسية والصينية، وبقية القوميات الصغيرة التي برزتْ كدول مستقلة فأنشأتْ حكوماتَ الفسادِ الرأسمالية حالياً والتجارة بالأسلحة.
ولا تزالُ أشكالُ توزيعِ فائضِ القيمة تتمُ بأشكالٍ سياسية بيروقراطية في الأغلبية الكاسحة من دول الشرق، ولهذا تتوجه الكثير من الموارد للصناعات العسكرية والنخب العسكرية والسياسية، أو للبحث عن أفضل الأرباح في البنوك والأعمال في الغرب أو الشرق، فيما أتجه البعضُ القليل لترك البرلمانات والصراعات السياسية تقرر كيفية الخطط الاقتصادية وتوزيع الفائض على الإنتاج والمنتجين.
وهذه مسألة صعبة في حالة الجوع إلى الاحصائيات الحقيقية وندرة البحوث الدقيقة، والتلاعب بالأرقام، مما يستوجبُ شبكةً كبيرةً من الباحثين والمدققين والمفكرين لجعلِ الفوائضِ محددة أولاً ثم متجهة للخطط الاجتماعية العامة.
وفيما نرى الدول العريقة في الديمقراطية كفرنسا وبريطانيا تعاني من إقتصادياتها ولكنها تنمو بمعدلات محدودة معقولة، نظراً لمشاركة الأحزاب العمالية والليبرالية في الرقابة والتدخل البرلماني السياسي وفي توجيه الخطط الحكومية نحو مصالح الجمهور العامل، فإن الولايات المتحدة تفتقدُ أحزاباً عمالية وإشتراكيةً مؤثرةً ومعبرةً عن قوى المنتجين ومساهمة في الهيئات الحكومية بوجهات النظر الشعبية هذه.
ولهذا فإن المديونية على الولايات المتحدة هائلة، حيث كُرستْ الفوائضُ عبرَ العقود من أجلِ العسكرة الواسعة والتدخل في القارات المتعددة وصناعة الحروب المكلفة. أو وُجهت نحو البذخ والتكالب على المساكن الفاخرة أو تحولها لقروض متفاقمة الأرباح، مما أدى إلى إقتصادٍ هائل ومثقلٍ بأعباءِ الاستغلال غير المتكافئ للفوائض، ومهلكٍ لقوى الإنتاج الحقيقية.
وثمة فوائضٌ تأتي كذلك من الدول النامية الثرية في بعض الأحيان والتي تدفعها مثل هذه السياسة نحو إعادات إنتاج غير دقيقة ومتضخمة وتؤدي لزعزعة الهياكل الاقتصادية.
وكما هو الشأن في روسيا والصين فإن الولايات المتحدة يقررُ فيها تقسيمَ فائضِ القيمة الهام القوى العسكرية، وهو تعبيرٌ عن كون الأمم(الشمولية) المتنازعة على التحكم في العالم والسيادة على الأسواق لا تريد زوال هيمنتها السياسية، وفي أوربا الغربية تقومُ التجربةُ الديمقراطية بالجمع بين الميراث الديمقراطي والتوحد القاري ورؤية المصالح القومية لأوربا الغربية التي غدت متقاربة وتساعد بعضها بعضاً وتنتشل المتخلف عن التجربة التنموية المتراكمة.
فيما نحن في الجزيرة العربية لدينا فوائض قيمة كبيرة ولكن أغلبها للبذخ وإنشاء هياكل إقتصادية فضفاضة وإغناء دول أخرى وعمالات غير عربية، فهي سياسات لا تتبصر المستقبل ولا تخطط للأجيال.

 •  0 comments  •  flag
Share on Twitter
Published on June 21, 2023 23:54

فلسفة جديدة

كتب: عبـــــــدالله خلـــــــيفة
لم تتطور الفلسفة العربية كثيراً، بسبب أن الفلسفة العربية القديمة هي ذات أصل ديني، فجثمت بين نظرات جزئية سياسية وإجتماعية محدودة، مرتكزة على رؤى غيبية لأصل الوجود، فالفارابي يجذر نظراته الاجتماعية في أصل الكون الذي يعود للفيض الإلهي، وابن رشد يفصل الكون عن الإله، ولكنه يعطي مجالاً واسعاً في الحياة الاجتماعية للفقه.
ومن هنا فإن التطور التاريخي الاجتماعي للمجتمعات العربية يظل غامضاً غيرَ مرتبطٍ بقوانين داخلية، وحتى في الفلسفة العربية المعاصرة فإنها وقعتْ في النقل، من الفلسفات الليبرالية الغربية التي تنسخُ التطورَ الغربي وتعتبره موديلاً ضرورياً للمجتمعات العربية. أو إنها وقعت في النقلِ الشرقي وإعتبار الفلسفات الغربية التقدمية التي علقت في الاستبداد الحكومي الشرقي خاتمة المطاف الفكري، فنسخت التطور الغربي قافزة على المرحلة الرأسمالية الغربية، في وهم إيديولوجي.
ربط الفارابي بين فلسفته والزراعة، ففي الزراعة فيضٌ بنائي خلاقٌ غيرُ عنيف، ووجه الوعي نحو الأفلاك لا نحو الأرض.
ولم يفهم الباحثون العرب طبيعة مجتمعاتنا الراهنة، ونتاج ذلك فلسفات ليبرالية تركز على الحرية الشخصية، وفلسفات يسارية ودينية تركز على الجماعة التي بيدها الأمور كلها. فلم يأخذوا طبيعة التناقض في الرأسماليتين السائدتين الحكومية والخاصة، وبضرورة تغييرهما معاً تنفيذاً لخطط تطور صناعية تحديثية ثورية، وليس لصناعة نقل المواد، وما يربتطُ بها من فسادٍ إداري، وتوزيع فتات على المواطنين، وتضييع تاريخي للثروات.
تناغم الرأسماليتين الحكوميتين يأتي من مجتمع ديمقراطي، تلعب فيه الرأسمالية الخاصة الإنتاجية دوراً هاماً، كما لا تتسلط فيه القوى البيروقراطية الحكومية على الصناعة؛ تحديداً لمقوماتها وتخطيطاً كلياً لمساراتها، وتقوم فيه القوى العمالية ليس في تنفيذ مسارات الإنتاج المختلفة فقط بل في النضال كذلك لتوجيهها نحو الثورة الصناعية التحويلية لحياة الناس وتوزيعاً لفوائضها على المادة والبشر.
هي رأسماليةٌ تحديثيةٌ وإشتراكية ديمقراطية متداخلتان، فنحن لا نستطيعُ نسخَ التجربةَ الغربية التحويلية العميقة التي بدأتْ في القرن السابع عشر، بل نقرأها ونتجاوزها في خلق تركيب جدلي بين الرأسمالية الفردية الغربية والإشتراكية الشرقية بدون دكتاتوريتها.
عملية الجمع هذه والتجاوز ممكنة عبر فهم مسارات الإنتاج، والبنية الاجتماعية والثقافة، فكراً حديثاً وديناً، بتنوعاتها وتداخلاتها في كل بلد، فلكلُ بلدٍ عربي وإسلامي له خصوصياته وإشتراكه فيما هو عام.
وعبر قوى خلاقة شعبية تنقضُ جمودَ وتحلل وفساد وهجرة الرأسماليتين، تصهرهما في تلك التركيبة الإنتاجية المغيرة للمادة والبشر، في كفاحية التغيير. تأخذهما من سكتيهما الخاصتين المبعثرتين للرأسمال الاجتماعي، وتعجنهما في الثورة الصناعية العلمية الخاصة بالعرب والمسلمين، الذين لهم مسارٌ مختلفٌ ومتناغمٌ مع حركة البشرية.
فيما إستحضر فلاسفةُ المسلمين السابقين الزراعة كإماميين، عاشتْ جذورُهم على الفلاحة، وسنةٌ عاشتْ أجيالُهم على الرعي والتجارة، فإننا نستحضرُ الصناعةَ كحركةٍ خلاقة، وكموحدِين غير طائفيين، في عالمٍ مادتهُ متحولة، كونية، نتمددُ معها في الإنسانية ولا نذوب في حطامها التفتيتي للأمم، وعالمنا الخاص – العام هو طاقةٌ متجددةٌ، تبدلُ النسيجَ الشعبي الحِرفي والقدري والهامشي، وتضعهُ في نهرِ كلِ بلدِ المشتركِ، تتلاقحُ عبرهُ الأجيالُ والطبقاتُ والأفكارُ والأقطارُ.
فيما كانت الفئاتُ الوسطى وخاصة المثقفة منها خادمة للرأسماليتين وبالذات للحكومية المتسيدة على الثمار الاجتماعية، في كل العصور السابقة، فإنها تغدو تائهةً، مُضيعةً للطاقة العقلية والمادية، ولهذا كانت الفلسفات ضائعة، وقدرتها على الفعل محدودة، ولا تستوي عقلاً وحركةً دون النقد الكلي لكلا العملتين الصدأتين، لتحريكهما في عملة واحدة خلاقة في السوق النهضوي، تابعة للإنتاج، لا للفساد والبذخ، معيدةً تشكيل الهياكل المشتتة، بمقاربة الصناعة الثورية، وإعادة تشكيل البشر العائشين روحاً في العصور الوسطى.

 •  0 comments  •  flag
Share on Twitter
Published on June 21, 2023 23:46

طبقات التوحيد وطبقات التفكيك

كتب: عبـــــــدالله خلـــــــيفة
على مدى أعوام طويلة من الدرس والتحليل للتاريخ والتراث العربي أقتربت من تلمس محاور عميقة ، بل وسببيات جوهرية لتشكل التاريخ الإسلامي ، ولكيفية إنبثاق الثورة الإسلامية الأولى والمرجعية الكبرى للمسلمين ، عبر العوامل والسببيات البشرية ، فهناك العامل الأول وهو وجود طبقة متوسطة حرة ، غير تابعة في نشاطها الاقتصادي للقوى الأجنبية ، وتقوم هذه الطبقة التجارية ـ المالية الحرة بالتحالف أو بالتعاون الوثيق مع الفقراء لتغيير قمة الهرم في سلطة المدينة [ الملأ ] ، وينتقل التحالف الاجتماعي بين الطبقة الوسطى والعاملين ، ليكون على مستوى الجزيرة العربية ، بجذب الجمهور الرعوي الكبير إلى حركة الفتوح . وهناك أيضاً العامل الثالث الجوهري وهو قيام الإسلام ، أو هذه الحركة التغييرية الكبرى في التاريخ ، بنقل العرب من ما قبل الحضارة ، إلى تشكيلة اقتصادية متقدمة تتجاوز العبودية العامة كتشكيلة قائمة منذ الحضارة الرافدية والفرعونية ، ليس على مستوى البنية الاجتماعية داخل الجزيرة العربية ، بل في المشرق العربي والعالم الذي يُعرف الآن بـ[ الإسلامي ].
إن سمات هذه الحركة التحويلية الكبرى في التاريخ على مستوى الفعل السياسي ، هي إقامة التوحيد الجماهيري الواسع ، بالربط بين الطبقة القائدة الطليعية والجمهور العامل ، وإحداث التوحيد والتحرير والتغيير على مستوى الأقليمي الواسع ، وتبديل الخريطة الدولية بالتالي.
والعملية التوحيدية والتحالفية النهضوية تتشكل في مسار تطوير حياة الجمهور المادية والفكرية ، وهو القوة التي تخلق التاريخ على الأرض.
هذا ما يمكن أن نقرأه بشكل سياسي من التاريخ العربي ، لنرى عدم تكراره ، أو عجز العرب عن إنتاج نموذج مماثـل ، عبر تلك السببيات العميقة التي ظلت متوارية عن البحث التاريخي والاجتماعي.
فالطبقات الوسطى التي تشكلت على مدى العصور العربية التالية ظلت تابعة للأشراف ، أي للطبقات الأرستقراطية المبذرة للفائض المالي في البذخ والحروب ، وفي العصر الحديث نجدها قد أضافت التبعية للغرب. وإذا أخذنا بعض اللحظات التاريخية التي أقتربت فيها الطبقات المتوسطة من المماثلة للثورة الإسلامية الأولى ، فسنجدها تحقق نتائج طيبة ، وإن لم تكن شاملة بسبب عجزها عن الوصول إلى تلك المماثلة الجوهرية. فنجد ثورات الطبقات الوسطى في العشرينيات من القرن العشرين كثورة الوفد وثورة العشرين في العراق ، قد أقيمت على التحالف بين التجار والفقراء كشرط حقق جزءً من التوحيد الاجتماعي وفي مسار النهضة والتجديد ، ولكن الطبقات الوسطى لم تكن حرة ، بل كانت التبعية للإقطاع والاستعمار قد شلتا الكثير من قواها ، فعجزت عن خلق استمرارية في التحالف وتقديم مكاسب مستمرة للقوى الشعبية ، يؤدي في النهاية إلى تجاوز التشكيلة الراهنة.
إننا نطرح المماثلة مع الثورة الإسلامية الأولى ، ليس من باب القبلية ، بل من باب مرجعيتها المستمرة للوعي العربي ـ الإسلامي ، وقول الأطراف بالانتماء إليها ، لكن بدون قراءة جذورها التحولية وإعادة إنتاجها في شروط وأوضاع جديدة.
ولهذا نجد التباين معها هو السائد حيث التفكيك واللاوحدة والتبعية والعجز عن تقديم نموذج نهضوي تجاوزي ، يضفر بين الطبقات المالكة والعاملة في تشكيلة متقدمة.
إن تلك الثورة هي التي أسست الأمة العربية والأمم الإسلامية بمرجعياتها الفكرية وحدودها التاريخية ، وبآفاقها التحولية ، ولكن القوى الاستغلالية على مدى التاريخ قامت بشكلنة الثورة ، أي تحويلها إلى أشكال ، وعدم تفعيل مبادئها الجوهرية التاريخية السياسية في التغيير الحضاري الشامل.
الآن تطرح مسائل الوحدة وتجاوز المذهبية ، على مستوى كل قطر ، وعلى مستوى العالم العربي ، ولكن آفاق التوحيد السياسي بين القوى الطليعية المختلفة ، وخاصة بين الطبقتين المنتجتين ، الرأسمالية الصناعية و العاملين ، وإعادة النظر في الإرث الاجتماعي والأيديولوجي التفكيكي والمتخلف ، وتشكيل بؤر نهضوية توحيدية قوية للأمة ، هذه مسائل أخذت تتسرب للوعي بشكل بطيء وعسير ، لكن الضرورات تتكشف ، ومسار الأمة المشوش والمضطرب يمكن رؤيته على أضواء جديدة ، تجمع ما بين السلف والثورة التقنية والاجتماعية المعاصرة ، بين طرق التعبئة والتحالف المعاصرة والأهداف المستمرة للشعوب العربية في النهضة والتغيير الشامل.

 •  0 comments  •  flag
Share on Twitter
Published on June 21, 2023 23:38

June 19, 2023

تشيخوف . . ذلك الإنسان

أعطتهُ جذورهُ الاجتماعيةُ والعملية أن يكون الإنسان، فتجسدتْ فيه الإنسانيةُ الجميلةُ الباقية على مر العصور.

في تلك البيئةِ البشعةِ المحيطةِ وجدَ نفسَهُ على جزيرةٍ طيبة، أبٌ حررَ نفسَهُ من العبودية، وبنى حرية لأسرته. في هذه الرابطةِ العائلية معنى البطولة، والارتفاع عن مملكةِ الأقنان، وإعطاء الابن المبدع أن يختارَ دربه، أن يحبَ الفنونَ والثقافة من صغره، وأن يتعلمَ بجدية وعمق، وأن يكون حراً في أمبراطورية القهر أو الذل، أن يكون سيداً جباراً أو يكون عبداً مسحوقاً، هنا في قيصرية الظلمات كان ثمة بصيصٌ من نور، دربٌ آخر يشكلهُ متنورون معذبون؛ سادة يعطفون قليلاً على الفقراء من خلال مقصورات المسرح المرتفعة الرهيفة الباذخة، وهم يصطادون الثعالب ذات الفراء الثمين، ويدعون قليلاً على أكواخ فلاحي المستنقعات.

يمكن للمثقف هنا أن يثرثرَ ويدبجَ عرائضَ الرحمة للبؤساء، لكن إنطون تشيخوف دخلَ ميدانَ العمل البطولي (الصغير)، ميدان الطب، وبأن يداوي ويعالج، وبأن يغرقَ في دهاليز المستشفيات، أن يقتربَ بمرمى أصبع من التيفوئيد والسل، وهو الذي ظهرَ صبياً مؤلفاً يكتبُ المسرحيات الفاشلة وقتذاك، لكن الواعدةَ برعودِ في سماء المسرح الروسي المتجمد.

مساراتٌ كثيرة يمكن أن تأخذَ الطبيبَ في عواصفِ المال والموت والحب، لكن النفسَ الهادئةَ الرصينةَ المتألمة المتأملة العقلانية، تضبطُ إيقاعاتِ الطبيب، تحولُ الجذورَ والمهنةَ الشاقةَ والضنى وبؤسَ الشعب وتطلعاته لعالم آخر، إلى كتابةٍ مضيئةٍ وسط كل تلك المتاهات النيرانية والنورية.

تقومُ كتاباتهُ على إستشفاف حياة الناس وتجسيدها بصور شاعرية تسجيلية ترميزية، ليس فيها الصراعات اللامعقولة والكوابيس الضارية والأمراض الدستويفسكية التي جاءتْ من الصرعِ السياسي، أو الملاحم التولستوية الواسعة، بل هي قطراتٌ شفافةٌ، رقيقةٌ، مليئةٌ برحيقِ الألمِ المرهفِ في أقسى تجلياتهِ، وفيها ظلالُ الأملِ وإنفتاحيةُ الوجودِ على ما هو جميل وباق.

يتحول حتى الصبي الصغير الذي يكتبُ رسالةً إلى جدهِ إلى فيلسوف تقطرُ كلماته بالعذاب، يجسدُ وضعَهُ المهان لدى أسرةٍ تنهكهُ في العمل، ويحنُ لقريته، ولجدهِ وكلبيه، تتركُ كلماتُ الصبي أثراً لا يُمحى، تظهر مرتعشة، ذات مناشير تنشر الروح، تطير، نحو شيء يتجاوز هذا الدهس الغريب القاسي للطفولة.

عددٌ كبيرٌ من النماذج في قصة قصيرة، شخصيات متعددة في حيز ضيق، لكنها تُؤخذ بإقتدار، بترتيبٍ ونسج، تطلُ كلُ شخصيةٍ في بضعةِ سطور، ثم تحتفي، ثم تظهرُ ثانية وقد تحولتْ، كأسرة ريفية عاشت على النصب التجاري، تنمو بشكلٍ مالي كبير، لكنها تهترئ بتساقطِ نماذجها المزورة للمال، والتي تغش في السلع، ويظهر كل ذلك والشخصيات لطيفة، مرحة، متنوعة متصارعة، ونجد هذا النسيج البشري وهو يتآكل في السجن والوحدة والضياع.

الشجرُ والغابةُ والسماء والخيولُ والنجوم والقطارات والرجال والنساء والصبية والشيوخ، والفقراء والأغنياء، كلها تظهر، كلٌ منها له موقعه ولحظته ويعبرُ عن ذاته، كلٌ مقدرٌ ومحترم، ومصَّورٌ بموضوعية، من ورق الشجر والحمام حتى الحوذي وحصانه وركابه.

كلُ شيءٍ مفهومٌ وواضح وله ظلال لا تبين، كلُ شيءٍ مُعَّرى وله طبقاتٌ تحتيةٌ لا مرئية، كلُ الأمراضِ النفسيةِ والاجتماعية تمرُ في المنشورِ التشيخوفي وتظهرُ بألوانِ قوسِ قزح، ليس ثمة صرخة حادة، أو جنون في اللغة، كلُ شيءٍ هادئ ويغلي من الداخل، الكاتبُ المسرحي طبيبٌ، لا يدعُ لاوعيه يتفجر، يموضعُ الحالات ويمسرحها، فتتشكلُ سطوحٌ وأنفاقٌ مطروحةٌ دائماً لفهمٍ متجدد، فالشخصياتُ لا تنضب، والواقعُ المسجل يدخل تحليلات شفافة بمبضع الطبيب الرقيق، لا يدخل أنفاقَ الصراعات الاجتماعية الضارية، بل يدخل في أشداق الصراعات الفكرية النفسية الكبرى، بين نموذج الباني الديمقراطي الإنساني، وبين نموذج الضائع الأناني المستعرض المنتفخ، بين نموذجِ العمل الطيب الصغير المتراكم عبر التاريخ، وبين نموذجِ المغرورِ الذي يضيعُ حياتَهُ وحياة الآخرين والطبيعة في تجريبِ سكاكينه على العالم.

في البيئةِ التي تحيط بالنموذجين تتسعُ صورُهما ويندمجان في تضاريس الواقع والمهن والحالات الواسعة، وليس ثمة موقع خاص فالعدسةُ تنتقلُ في الأرياف والمدن، في الميادين الخارجية المختلفة وفي الذواتِ الشخصية المتباينة، ويترابطان والرموز الكثيفة المبثوثة، ويتعمقان بعلائقهما بقوى البسطاء والمثقفين المضحين، أو بقوى النفاق والتفاهة والاستعراض والإستغلال.

قصصُ تشيكوف هي مدرسةٌ روحيةٌ للتربية، مثلما هي مدرسةٌ للفن الجميلِ الدقيق بأسسهِ التعبيرية، وهي صالحةٌ للنخبة وللجمهور العريض، الشبابُ والشيوخ، فديمقراطيتهُ المتأصلةُ التنويرية المقاتلة صبرتْ برهافةٍ هائلةٍ على المادةِ الفنية المشاغبة، طوعتها بإقتدار، وروضتْ لاعقلانيتَها وضجيجَها، جعلتْ كلَ أتون روسيا – العالم في سبائكَ صغيرةٍ فاتنة، إن صراخَ المتنورين والليبرالين مُصفى هنا، منقودٌ، بمدى جديتهِ النضالية، وعلائقهِ مع المهمشين، إن السبائكَ تكشفُ الأشياءَ والحالات في مجرى الحياة المتدفق مثل الشجر المتحول.

حتى في نوعيهِ القصصي والمسرحي اللذين اتخذهما تُرى هذه العلاقات الديمقراطية مع الناس، ومع الكتابة، والنقد، فهو دائماً قريبٌ من القارئ والمشاهد، يجسدُ الحياةَ العريضةَ بذينك النموذجين المحوريين، في حالاتٍ ثرة كثيرة، وهو عبر تجربتهِ يسخنُ ذلك التوترَ الصراعي، وينقلهُ من الحالاتِ العادية جداً إلى الحالاتِ الإستثنائية، إلى الأعماقِ العنيفة، ومن الصورةِ الكتابية إلى الجسد المسرحي المثير. فكأنهُ ينقلُ صوتَهُ من جسدٍ لامرئي إلى جسدٍ مرئي ناري، محاولاً توصيل تلك الرسالة الشفافة بأهميةِ العملِ والتضحية وفي أيةِ أنظمةٍ تالية تتخذُها روسيا – الإنسانية، فليس المهم اللافتات الزاعقة بل الإنتاج والأخلاق الرفيعة، فكان هو بحدِ ذاتهِ أمثولةً لكلامهِ – أدبه.

 •  0 comments  •  flag
Share on Twitter
Published on June 19, 2023 20:49

الدساتيرُ والشعوبُ

الوثيقةُ المسماة (دستوراً) وثيقةٌ عصرية مغايرة لما عرفتهُ الشعوبُ طوال تاريخها، فهي ليستْ مواد قانونية مجمّعةً على غرارِ سلسلةِ القوانين التي عرفتها الشعوبُ القديمة كالبابليين والإغريق، أو حتى ما عرفته الأديانُ من كتب، حيث ثمة مواد قانونية تجرم وتعاقب وتحرر من السجون وتبقى في هذا الإطار المحدود، بل هي وثيقةٌ انقلابية اجتماعية تُحدثُ قطعاً تاريخياً بنيوياً بين ما قبلها وما بعدها، وتنظم قوى المجتمع العامة في علاقات سياسية مستقرة.

المجتمعات ما قبل الرأسمالية المُفتّتة، ذات الأساليب الانتاجية المبعثرة، لا تحدُث مركزةً اجتماعية سياسية، فلا تصنع عاصمةً مسيطرة على كل الأقاليم، ولا تنشئُ وثيقةً تهيمنُّ بأحكامها على الحياة السياسية التي هي المنظم الرئيسي للعلاقات الاجتماعية السياسية بين الطبقات المتصارعة التي تجد إطاراً قانونياً للاحتكامِ إليه.

حين مركزتْ الصناعةُ الاقتصادَ وجعلتهُ منظماً، قامت الطبقاتُ الثلاث: الارستقراطية والبرجوازية والعامة (العمال والحِرفيون وغيرهم) بالاصطفاف السياسي داخل أول مجالس تشريعية منتخبة، معبرة بهذا عن أول لوحة اجتماعية تميز العصر الحديث عن غيره من العصور.

لقد قبلت هذه القوى الاجتماعية الانتخابَ والتشريع كوسيلة لإدارة الحكم وتنظيم الصراع السياسي، وتنفيذ الإجراءات والتشريعات التي يراها المنتخبون وتطبيقها في الحياة العامة لتأخذ مجراها في مختلف جوانب الحياة الخاضعة للقانون.

إن هيمنة الطبقةُ الوسطى على الطبقتين الأخريين: الارستقراطية الآفلة والطبقة العمالية الصاعدة، هو نتاجٌ لتملكها وسائل الانتاج الحديثة وهي المصانع وقدرتها على الصرف المالي على الآخرين، وبهذا فإن المجتمعات الغربية الديمقراطية عرفت صراعاً آخر مديداً سوف يدمغ التاريخ القادم بسماته، هو صراعُ المالكين والمنتجين، صراع القوى الواحدة في وسائل الانتاج، أي في المصانع، ومن يوزع الفوائض وكيف!

بين العصر السابق والدستور مسافةٌ زمنية تتراكم فيها منجزاتُ العقول الحرة، من ثقافة تحرر الإنسان من عبودية العصور القديمة، وتجعل مختلف الفئات قادرةً على التفكير المستقل وانتخاب القدرات المهمة الكبيرة المتمكنة من التشريع وتطوير القانون ومراقبة السلطات وتغييرها! فهي ثقافةٌ تلغي المطلقَ والأبدي في السياسة والفكر وفي الحياة الاجتماعية وتفتحُ عقلَ الإنسان للتغيير المتواصل!

هذه الأسس الموضوعية للدستور أخذتها دولُ العالم الثالث بلا سببياتها العميقة، فسحبتْ أشكالَها من فوق أرضيتها ووضعتها في أرضياتٍ أخرى، هي أرضياتُ المجتمعات ما قبل الرأسمالية، فهي أشكالٌ حديثة مركبّة فوق أوانٍ عتيقة!

فمهما تكن أوضاع الناس من جهل وتخلف وأمية ومحدودية وعي، فإن السياسيين الشرقيين يكتبون الدساتير بحسب أوضاع لا علاقة لها بالديمقراطية غالباً.

فربما وضعت المجموعاتُ الشموليةُ الدستورَ فوق جسم انقلابي يلغي وجود الطبقة الوسطى أساساً ويحيل العمالَ إلى عبيد مصانع، أو ربما انبثق الدستورُ في ظروف مبكرة لولادة الفئات الوسطى التي بعد لم تتحول إلى طبقة وتتجذر عبر المصانع الخاصة، ولهذا فإن الدستور هنا يكون مبكراً أولياً واعداً، وغالباً ما تترافق معه ثقافةٌ هزيلة لم تشهد قوة تفكير في الفئات الوسطى أو لم تتغلغل فيها نزعاتُ الحرية والاختلاف.

وربما تأتي مجموعةٌ عسكرية وتلغي دستور الحريات المحدود، وتمتلكُ أغلبَ المصانع، وترثها هي ومجموعاتها وورثتها السياسيون والعسكريون، وبهذا فإن حرية التداول والفكر تغدو منتفية لعقود، ويصعب العودة إلى دستور الحرية ما لم يتبدل الأساس الانتاجي للمجتمع أو أن يتحكم المجتمع في وسائل العيش وليس مجموعةً واحدة! الجدل الصراعي الحر بين الطبقة الوسطى والعمال وبقايا الطبقات القديمة في مؤسسات منتخبة هو الذي يعيد بعضَ دول العالم الثالث إلى الديمقراطية وإمكانية إصلاح وسائل الانتاج والعيش وتغيير مشكلات الحياة المخلتفة! 

 •  0 comments  •  flag
Share on Twitter
Published on June 19, 2023 20:39

June 14, 2023

سلمان زيمان

سلمان زيمان:
مطلوب منا في أجراس ان نقوم بنشاط واسع تلحيناً واتصالاً
كلنا موظفون غير متفرغين للغناء والتلحين!
نريد صالات وأستوديوهات غير مكلفة
كتب: عبـــــــدالله خلــــــــيفة

نافذة
ليست الأغاني التي تخلقها «أجراس» سوى الأغاني والموسيقى الجميلة التي نحتاجها .انها اغانٍ ليست ذات علاقة مباشرة بالهواجس السياسية والصراخ الاجتماعي، لكنها تتجه عميقا الى هواجس الروح.
ما هو الخط الذي فجره «جندول» محمد عبدالوهاب وامتد إلى الشجن النوبي عند محمد منير، أليس هو اغنية الحب المريرة، تلك الأغنية التي تتوحد بالطبيعة، بالذات. بالجراح العميقة للنفس؟
لسنا بحاجة إلى أغنيات تخفف وجبات العشاء الثقيلة، وتتوحد مع برامج مكافحة السمنة. ولا الى أصابع تدغدغ الحواس العابرة.
فماذا بقى من الأغنيات التي ذابت خارج النهر الخالد، وطارت مع الهزات الخفيفة، ولم تصل أبدا الى
قاع الألم والأمل؟.
هناك قائمة كبيرة من المطربين مستعدة للنقوط، لكن من هو مستعد للوصول الى مشاعر عميقة؟ والتحليق؟.
يتوحد خليفة زيمان بالشابي ويهتف : «هاتها. فالظلام حولي كثيف، وضباب الاسى منيخ علّي».
هذا ياس مرير، ولكن لا نستطيع أن ننكر هذا الظلام المتراكم فوقنا، ولابد ان نسمح لمشاعرنا أن تعبر عنه؛ وتعبره.. وكأن كلمة «هاتها» دعوة لا للغرق. بل لنشوة روحية، سامية، تصعد فوق الجراح وتكبر.
وحين تغني هدى عبدالله لأزقة المحرق المعتمة، والحزن فيها، والحب المتلاشي، فكأن المدينة كلها تضاء بصوت هدى الأخاذ، النوراني، المتغلغل في الحس عميقا، وكانه ينسج من جديد اغنية حب لا تموت.
ولكن الفرح مساحته، ولدبيب الأقدام الراقصة فوق الشواطئ مكانها، ولإيقاعات النشوة والمرح تلويناتها المتفجرة، وبقعها المضيئة أبداً..
ع.خ.

مرت على تكوين فرقة «أجراس» عشر سنوات؛ وفي خلال هذه السنوات العشر قامت الفرقة بإنتاج العديد من الاشرطة؛ وخلقت في منطقة الخليج اغنية جميلة ذات طابع جديد، مختلف، راق، عميقة ‎التعبير عن مشاعر الإنسان، ملونة الإيقاعات. وقد أثارت التجربة الكثير من الجدل الخصب والحوار. في إحدى بروفاتها، أجرينا الحوار مع سلمان زيمان.

جديد أجراس
عبدالله خليفة: ما هو جديد اجراس؟
سلمان زيمان: جديد أجراس فيه «انطباعات موسيقية» من تأليف الاستاذ مجيد مرهون وخليفة زيمان. وهي مجموعات من المقطوعات. كذلك سوف تسمع الناس مجموعة من الأغاني الجديدة؛ مثل اغنية من تأليف ابراهيم بوهندي وقد تمت دراستنا لمجموعة من القصائد لأكثر من شاعر محلي وعربي مثل ابراهيم بوهندي وصلاح عبدالصبور وابوالقاسم الشابي واختيارات مختلفة لشعراء آخرين. اختيار القصائد هو الطور الأول من تنفيذ الأغاني الجديدة.
كذلك من مشاريعنا الجديدة تنفيذ مجموعة من الأغاني الكثيرة، التي تم غناؤها في مهرجانات أجراس السابقة، لكن لم يتم وصولها الى أذن المستمع من خلال شرائط الكاسيت، وهي حوالي خمس وعشرين اغنية أو ثلاثين. وهي أغان لم يتم تنفيذها لمشكلات عديدة مرت كحرب الخليج ومشاكل المنتجين.
نحن اتفقنا الآن مع المنتجين لإخراج هذه الاغاني وتنفيذها في القاهرة والكويت وسوف تظهر على شكل عدة أشرطة؛ فهناك شريط لهدى عبدالله وشريط لي وشريط للفرقة تتخللها الأغاني الجماعية وبعض الاغاني الفردية وهناك شريط لسلوى وشريط لمريم زيمان.

نقص الصالة
عبدالله خليفة: ماذا جرى بشأن المهرجان الذي يعتزمون إحياءه في الأشهر القادمة؟ وماذا تم بشأنه؟
سلمان زيمان: تم تأجيل المهرجان لأسباب تتعلق بتنظيم المهرجان، وخاصة عدم وجود الصالة المناسبة. نحن كنا نتوقع أن تكون الصالة قادرة على استيعاب عدد كبير من الجمهور، لكن وجدنا أن الصالة التي اتفقنا عليها، لا تتحمل سوى ‎500 ـ 600 شخص فقط. هذا العدد المحدود هو عدد غير كاف لمهرجان تقيمه أجراس. ويحتمل أن نقيم حفلاً بديلاً عن المهرجان في شهر يونيو، في نفس الصالة ونؤجل المهرجان
المزمع الى ما بعد الصيف.
لقد اتفقنا على ثلاثة حجوزات لهذا الحفل.
عبدالله خليفة: لماذا لا تؤجلون الحفل بحيث تعطون المهرجان حقه؛ ليظهر بصورة مختلفة عن المهرجانات السابقة؟
سلمان زيمان: من ضمن برامجنا أن يكون بين كل مهرجان ومهرجان حفلان نلتقي فيهما مع الجمهور، نؤدي الاغاني بشكل عام سواء كانت قديمة أو جديدة. ولكن المهرجان يظل المناسبة التي نعرض فيها للجمهور اشياءنا الجديدة. خاصة وأن مهرجان هذه السنة يصادف مرور عشر سنوات على ميلاد الفرقة. فأردنا أن يكون لقاؤنا بالجمهور متميزاً.

تقييم للانتاج

عبدالله خليفة: كيف تقيم الآن نشاط أجراس وعملها بعد العشر السنوات هذه؟
سلمان زيمان: لقد أنجزنا الكثير مما أردنا أن نحققه ولكن يبقى ما لم ننجزه الاكثر والأوسع؛ الذي يظل حلماً نسعى دوماً لإنجازه. والذي نتمنى أن نحققه على أحسن صورة.
أول الأشياء التي حققناها تأكيد استمرارية الفرقة وسط ادغال من الصعوبات.؛ وخلق مجموعة من الموسيقيين تتبنى أعمالاً فنية متجانسة مع ذواتهم؛ وطموحاتهم وعوالمهم النفسية والاجتماعية المختلفة. والظروف التي تحيط بهم. أعتقد أن فرقة أجراس حققت أشياء هامة.

تغيير كبير

عبدالله خليفة: دائما هناك من يقول أن فرقة اجراس لا تزال في نفس مكانها السابق مثلما بدأت؛ وان الكلمات التي اختارتها أول ما ظهرت هي نفسها الكلمات التي تواصل اختيارها، وان الالحان هي ذاتها التي تمتاز الإيقاع البطيء..
سلمان زيمان: أنا أتصور أن فرقة «اجراس» تغيرت بشكل كبير وواسع. هناك أشياء كثيرة تطورت. ولولا هذا التطور لانتهت. من يقول أن الأغاني ليس فيها تغيير. ولا تحمل شيئا مختلفا أو أن الايقاع بطيء.. تحكم رأيه أسباب عديدة، من ضمنها كما اتصور ان انتاجنا متقطع؛ فآخر شريط أنزلناه في السوق كان لهدى عبدالله سنة 89، والان مضت أربع سنوات. وفي خلال هذه السنوات الأربع تم تقديم أعمال كثيرة لأجراس، لم تنفذ ولم تصل الى المستمع بشكل جيد. إنه لم يسمع هذه الاغاني إلا في ليالي المهرجانات القليلة، بالتالي فإن احساسه بهذه الاغاني، ورأيه فيها، سيكون محدوداً. كما أن المهرجانات لم تستوعب إلا الفين، ويبقى الجمهور الواسع خارج الصالة. لا يعلم ولم يسمع هذه الاغاني ويتذوق تطورها. من جانب آخر، فلا شك أن لدينا اسلوبنا في الاغاني، واختيار كلماتنا، وأنا أعتقد أن القصائد التي نغنيها جيدة؛ وينبغي علينا المحافظة على هذه الاختيارات الشعرية الجميلة، وتوسيعها وتطويرها. ولا نتدنى وننحدر إلى مستويات أخرى.

نمط جديد

عبدالله خليفة: هل تعتقد ان مثل هذه الكلمات، ومثل هذه الالحان. وسط الذوق الجماهيري المتدني نسبيا، وانتم تغنون القصيدة الراقية، الكلمة الشعرية، ذات اللحن المختلف .. هل هذا النمط؛ في رأيك، يستطيع أن يخلق جمهوره الخاص، وان يوسع علاقته بالجمهور..
سلمان زيمان: اعتقد ان الايام القادمة لهذا النمط من الاغنية. فمستوى التعليم والوعي المتجه للتطور. ينعكس باستمرار على تذوقه الغنائي والفني بشكل عام. والواضح أن الناس تتجه أكثر نحو التطور المعرفي والتعليمي، ولابد ذوقها ومداركها سيتغير أيضا، ولن تقبل الاغاني الادنى من ذوقها ومستواها.
من جانب آخر. فإن العالم يتجه الى الترابط اكثر. وعالمنا العربي ومنطقتنا تتجه إلى الوحدة. وأهم ما يوحدنا هو اللغة العربية. ولهذا فإن اختياراتنا، التي يكون الجزء الكبير منها باللغة العربية الفصحى،
ساهمت في تكوين جمهور لنا في الوطن العربي.
المطلوب منا كفرقة، في أجراس، أن نقوم بنشاط أكبر، سواء في عملية التلحين او التواصل مع الجمهور. هذا هو الذي سوف يخلق التذوق الاوسم لأغانينا بين الناس.
عبدالله خليفة: هناك كما تلاحظ عقبات عديدة لتطور الفرقة. لعل بعضها عقبات خارجية؛ وأخرى داخلية..؟
سلمان زيمان: أهم هذه العقبات عدم التفرغ. فمعظم الأعضاء موظفون، ويبقى النشاط الذي نقوم به هو نشاط في أوقات الفراغ؛ وكثير من الايام تمضي بناء دون أن يجد الملحن الوقت الكافي لكي يجلس مع نفس ويلحن، ويؤلف. هذه المسألة حساسة جداً، فتجد بيننا من يعمل في مجال التدريس، صحيح انه يدرس الموسيقى، لكن ذلك أيضاً بعيد كثيراً عن التفرغ للإبداع في الموسيقى.
خذ مثلا : محمد باقرى يعمل منذ الصباح الى الظهر، ثم يذهب للعمل في مركز سلمان إلى المساء فماذا يبقى منه للتأليف والإنتاج؟ الوقت عامل أساسي خاصة للمؤلفين الموسيقيين الذين ينتجون ويبدعون.

هذه مشكلتنا
عبدالله خليفة: وهذه المشكلة تتطبق عليك وعلى خليفة زيمان ..؟
سلمان زيمان: بالضبط. هذه مشكلتنا. نحن نتمنى أن تتوفر صالات خاصة للقيام بأعمال موسيقية، وفنية، وأن تكون مخصصة المهرجانات. أن تكون صالحة. فنحن نريد بقدر الإمكان الابتعاد عن الفنادق. لكن نجد أنفسنا مضطرين في النهاية لكي نعود الى الفنادق.
فالصالات خارج الفنادق تنقصها ميزات مختلفة كالميزات الصوتية أو الهندسية التي تنعكس على الصوت، كالصدى الذي يحدث في الصالات الرياضية؛ أو محدودية المقاعد، أو الصالات المفتوحة في الهواء الطلق، ذات السلبيات والايجابيات المختلفة. كذلك من الصعوبات عدم وجود استديو يوفر الخدمات الفنية بشكل معقول، فالأستوديوهات الحالية غالية التسجيل، ولا توجد فرق موسيقية محلية.
ونحن لدينا مقر ولكن نطمح في تطويره مستقبلا.
عبدالله خليفة: كيف تقيم تطور الفرقة من حيث التطور الموسيقي واستخدام الكلمة، ولماذا التركيز على الكلمة الرومانسية؟
سلمان زيمان: اختيارات القصائد والتفاعل معها هو حق مطلق للفنان الملحن، او المؤلف الموسيقي نفسه. حين يتفاعل مع قصيدة معينة؛ مهما كانت هذه القصيدة؛ مهما كان نوعها ومفرداتها، فإنه يقوم بتلحينها بتفاعل ذاتي، بغض النظر عن أن تغنى هذه الاغنية في الفرقة أم لا. حين يعرضها على الفرقة يتم تبنيها إذا كانت صالحة لتمثيل المجموعة. صحيح إن معظم كلمات الاغاني ذات طبيعة رومانسية، لكن هذا يعكس نوعية الفنان الذي قام باختيار وتلحين القصيدة. إذا كانت القصيدة حزينة لو فرحة أو متفائلة وغير ذلك من السمات، فإنها بالتالي تعبير عن صاحب الاغنية. ولا يوجد هنا افتعال.
عبدالله خليفة: يمكن أن يتم الاتجاه كذلك الى قصائد مرحة أو ساخرة؛ مثل أغنيات فيروز أو مارسيل خليفة حين تدور الأغنية حول حواريات تجريها امرأة الشارع أو نداءات الباعة أو غير ذلك من الاغاني ذات الطابع الشعبي والعاطفي المرح..
حيث تضفي سخرية وجمالية خاصة..؟
سلمان زيمان: هذا من ضمن الطموح؛ نحن حاولنا تغيير بعض الانماط لدينا. مثل اغنية «يا ابوالفعايل يا ولد» التي ظهرت في المهرجان الاخير، التي كانت فيها روح انفعالية ومرحة. رغم ما في كلماتها من تحد للظروف الحياتية الصعبة؛ وهي نشيد للفخر بالإنسان الذي يعمل ويصنع العجب.
أو مثل اغنية «لم تمت في اغاني فمازلت اغني» التي تجسد الأمل والقوة. وكلمات مثل:
ما سكت حس النشامى / ولا سكت حس اليهال / وما غرقت كل المنامة، الخ.. نحن نحاول أن ننمو بالأغنية تجاه التفاعل مع الحياة والمستقبل بأمل. كذلك نحن استطعنا أن نلون في ايقاعاتنا استخدمنا إيقاعات مختلفة، ايقاعات شعبية، مثل «الصوت» و«الفجري» و«الليوه» «والطنبورة». ؛ «البستة».
وايضاً استطعنا أن نستعمل أكثر من إيقاع من الإيقاعات العربية كإيقاع المعمودي الكبير، وايقاع الموشح. إضافة إلى استخدام الإيقاعات العالمية كالرومبا والسامبا .
هناك تلوين معقول في كلماتنا وايقاعاتنا، ولم يظهر هذا إلا عبر تطور عملنا المستمر.
الاضواء 20 يونيو 1992

 •  0 comments  •  flag
Share on Twitter
Published on June 14, 2023 18:40

خليفة زيمان

خليفة زيمان في تجربته الموسيقية : ألحانه هي الالتقاط الشفاف لروح الكلمة

كتب : عبـــــــدالله خلـــــــيفة

https://youtu.be/0gX_EDMdNdc

في جمعية البحرين للفن المعاصر تحدث الفنان الموسيقي خليفة زيمان عن تجربته الابداعية . كانت القاعة مشحونة بالمستمعين، سرد قصته بإيجاز وتواضع من نشأته في المحرق الى تخرجه في القاهرة. ثم أصغى الحضور الى موسيقاه عبر الأشرطة وهي تتحد بكلمات الشعراء وأصوات المغنين .‏

في المحرق العريقة وجد خليفة زيمان نفسه يعب من ابداعاتها الشعبية.. وموسيقاها الاسطورية والحديثة، فقد تمازجت أغنيات الراديو وطبول الفريسة وايقاعات الهاون ،‎ وتداخلت الأغنية العربية والهندية، لتجعله يقترب من موهبته التي ستنمو معه لاحق. ‏
‎ورغم العمر الموسيقي القصير (في حدود العشر السنوات) إلا أن إنتاج خليفة كان وفيرا وغنيا بشكل مدهش .. ما الذي جعل هذا الشاب الصغير من أكثر الفنانين عطاء؟ لقد لحن أكثر من عشرين أغنية .. ووزع الكثير غيرها.. ويستعد لمشاريع موسيقية وغنائية ومسرحية بكل هدوء وصبر.
ما هو السر في أن يستطيع شاب (ولد في مايو ‎1962؛ أن ينتج هذا الإنتاج الموسيقي الإبداعي المتميز؟ أن يؤلف ويوزع ويقرأ ويتابع الندوات الفكرية والثقافية، ويشارك في الحياة الموسيقية بجانبها الإبداعي والفني المضيء ؟
ربما يعود ذلك الى نشأته الاولى .. فمدينة المحرق هي مدينة الموسيقى والغناء والابداع . أن دور الغناء تمتد من الشمال الى الجنوب . وحب الطرب أمر يتعلمه الطفل مع حروف الهجاء . وتمتد المقاهي في شريط طويل تذيع الأغاني القديمة الصادحة بحنان الماضي وقسوته. ويصدر السوق القريب كل الأغنيات العربية الحديثة، وتعطي دار السينما الوحيدة المزروعة هناك كل ما تنتجه السينما العربية، وخاصة الأفلام الغنائية والاستعراضية .
وهذه البيئة الفنية الغنية ترفدها حياة شعبية غنية بفلكلورها الغنائي والأسطوري. ان الشعب كله يحتفل في المناسبات بالغناء والطرب . ولابد ان نتذكر ان جذور هذا الشعب الغنائية الغائصة بعمق في أغاني البحارة لا تزال طرية في الذاكرة، ولا تزال أصداء ‹النهام› تتردد مع هدم البيوت القديمة العريقة .
وساهمت الأشكال الثقافية الحديثة كالأندية والمسارح والفرق الغنائية الجديدة في تطوير علاقة الأجيال الجديدة بالفن، ولكنهم خلافا، للاجيال القديمة، اتجهوا للفن الحديث بمدارسه المتعددة وأشكاله المعاصرة. وقد انقطعت ‏ – الى حد كبير- علاقة التمازج والتخاطب بين الجيل القديم والجيل الحديث .
لقد وجد خليفة زيمان نفسه بقوة في هذا الجيل الحديث، وكانت الشروط العائلية ملائمة تماما لنموه الموسيقي الفني الحديث.. فاضافة الى استقرار العائلة والتماسك فيها،‏ وهى العائلة التى ستعطى فرقة «أجراس» العديد من اعضائها ، فقد لعب الفنان سلمان زيمان دوره في تشجيع اخوته واخواته على الاهتمام بالموسيقى .
وإذا كان سلمان زيمان قد بدأ طريقه بصعوبة الى الموسيقى والغناء، وواجه عناء الخروج من ظروف العمل المرهقة ؛ فإن خليفة لم يجد مثل هذه الصعوبات، لقد وجد نفسه منذ البداية في مناخ موسيقي، جعله يتطور بشكل اوسع واعمق . وهذا يوضح كيف أن التربية الموسيقية في أثناء الطفولة لها أثار خصبة على تطور الإبداع فيما بعد. ولعل هذا هو السبب الأساسي لنموه الفني الواسع فيما بعد وخصب عطائه .
وقد انفتح خليفة على مدينة «المحرق» بشكل وجداني، واندمج في حياتها الغنائية الفنية . عبر اصوات المقاهي واغنيات الأفلام .‏ ‏وعبر التراث الفلكلوري من رقصة الزار الغريبة المرعبة . إلى رقص وغناء شهر رمضان الجميل ؛ ثم أخذته الأشكال الحديثة المفصولة عن التراث، كالنادي، وتقديم أغنيات بسيطة على مسرحه، إلى الإيقاع الحديث الجديد الذي فرض نفسه على مناخ الغناء والثقافة .
ان الاشكال الحديثة هي التي سوف تستقطب اهتمامه. ان حبه لموسيقى الشعب جعله يتذوق الفن عموما، ولكن لم تعطه امكانياته الفكرية والفنية حينئذ إمكانية للتوغل الى ايقاعات هذه الموسيقى الشعبية.
وكان الذهاب إلى القاهرة للدراسة هو عملية تطوير لهذا الجانب لديه. إن فترة الطفولة والصبا المليئة بالموسيقى تواكبت مع دراسة عالية متخصصة في الفن الموسيقي لمدة سبع سنوات. وجعلته هذه يطور تلك الامكانيات والكوامن البسيطة إلى فاعلية حديثة.
في اثناء الحانه الاولى لفرقة «أجراس» لم يسترجع ذلك التراث الموسيقي الغنائي . كانت الموسيقى الحديثة هي المسيطرة على هذه الألحان. ولكن هذه الموسيقى موجهة الى التعبير عن أغنيات عربية جميلة.
إن المضمون الداخلي المتواري لهذه الكلمات يظهر بوضوح في لحنه. انه يلتقط الروح المسيطر المهيمن في تلك الكلمات، وينتزعه من بين كافة الظلال التي تتركها الصور . إن هذا الالتقاط الشفاف لروح الكلمة ومحتواها،‏ وتجسيده عبر اللحن،‏ هو قدرة راحت تنمو بشكل متدرج من ألحانه الأولى لأغنيات الأطفال التي تبدو فيها البساطة الكبيرة وعدم التداخل العميق . لتحل محلها، فيما بعد، البساطة والتداخل العميق والتناسق والشفافية .
إن ألحانه تمسك بقوة بروح الكلمة وتجسده . في اغنية «غناوي الشوق» لعلى خليفة نسمع هذا الرقص الموسيقى والوله والولع . ان كلمات الاغنية كلمات حب ورقص ومتعة؛ وقد جسدها هذا اللحن الراقص المتثني ‏ المتمازج بين المرح والحزن الخافت.. فبدا اللحن أحيانا كسفينة حقيقة تتراقص على الموج ملؤها الحب والدفء.
في نار النشامى من كلمات علي خليفة أيضا، نجد ذلك الانتزاع لروح الكلمات وتجسيدها عبر اللحن الراقص الفرح المتصاعد بقوة الى السماء.
لكن في اغنيات اخرى مثل «غريبان» نجد روحا موسيقيا آخر . إن القصيدة مليئة بالدراما والتناقض الداخلي الصعب المرير، انها تنمو عبر الحزن الفاجع والفرح المتواري القادم : «غريبان والأرض تعلن زينتها». منذ البدء نجد التناقض بين الغربة والفرحة والحب . وقد عبر عن هذه المشاعر المعقدة المضنية بشفافية حزينة ، وايقاعين حزينين يتداخلان بتماسك جميل،‏ ‏ولكن هذا الحزن المرير يتحول الى اندفاعة غاضبة وقوية تجعل الاغنية تنفض الروح وتغسلها من جديد . ان الموسيقى والصوت والكلمات تتحول الى شلال من النور والأمل .
ومن هنا استطاع خليفة زيمان أن يفهم إمكانيات صوت هدى عبدالله الثري، واتجاهه الأوبرالي الشاعري الرفيع ويعطيه الألحان والكلمات المناسبة . فمن الصعب أن تغني هدى كلمات عادية عبر هذا الصوت الدرامي الفني المشحون بالتوتر والطبقة العالية .
وفي خضم هذه التجربة القصيرة في زمنها ، التي لحن فيها أو وزع أكثر من ثلاث أغنيات في كل سنة، راح خليفة زيمان يطور تجربته الموسيقية . وأهم جانب هنا هو الانفتاح على الحياة الثقافية والفكرية، وعدم الانعزال، الذي يبلغ حد التحجر عند بعض الموسيقيين والفنانين، فاكتشاف الأدب وتذوقه لعب دورا في هذا الاتساع للخلفية الإبداعية وهي كلها تقود الى اغنية اكثر جمالا وعمقا.
ولا ننسى ايضا ان العديد من هذه الأعمال تمت خلال دراسته وسفره المتواصل .
ومن هنا كذلك هذه العودة الى المحلية والاصالة والإيقاعات العربية والشرقية، ومزجها بفن حديث متطور . إن بعض الالحان يتجه الى الاستفادة من فن الصوت والليوه، والكلمات ذات شعر عميق .. فتمازجت الثقافة الحديثة بوجدان الشعب . إنها دائما العودة إلى الينابيع التي يقوم بها الفنانون بعد نمو تجربتهم واتساع أفقهم.
إن انتشار أغنيات فرقة «اجراس» تعتمد اعتمادا كبيرا على الكلمة المناسبة، وعلى اللحن الذي يشكل معظمه هذا الفنان . وأمامه أفق جديد؛ وتجربة مليئة بالاحتمالات .
أن اتجاهه لتلحين الأعمال المسرحية سوف يقود الى العديد من الإضافات والتغيرات في الحانه . أن تلحين الحوار وكلمات الصراع اليومي سيكون لها دور على اغناء الأغنية بروح الحياة . بتعدد الأصوات . وبدخول المرح والحياة اليومية .
أن الرحابنة استطاعوا أن يمزجوا بين نثر الحياة اليومية والاغنية الشاعرية عبر تحويل الاغنية الى لقطة او حكاية . اضافة الى الاغنية الدرامية الشعرية العالية التي تميزوا بها ، وخليفة زيمان استفاد من تجربة الرحابنة ومرسيل خليفة، وقد خلق مزيجا من هذين الابداعين الكبيرين،‏ عبر الأغنية الاجتماعية
والعاطفية المتضافرة .
لكن جانبا واحدا من ابداعهما لم يتطرق اليه هو الاغنية الشعبية، او اغنية الحياة اليومية وحواراتها الغنية . حين تتحدث فيروز مع القمر، او تهرب طائرتها الورقية؛ أو حين يجادل صبي شرطي المرور العجوز الفقير، وهذه الاغنية تجسد مدى ما يبلغه المبدع من تفهم للحياة ووصوله إلى مستمعيه ومسرحة الأغنية .
إذن لا شك أن التجربة المسرحية سوف تطور هذا الجانب الموسيقي الغنائي لديه، وتتركنا أمام احتمالات إبداعية عديدة.
إن تجربة خليفة زيمان على قصرها حافلة بالعطاء والإنجاز، وهو يتكلم عن تجربته بكل تواضع، وتقدير للأشواط الطويلة التي قطعها غيره، ويعرف ان امامه شوطا طويلا
الاضواء 9 يونيو 1990

 •  0 comments  •  flag
Share on Twitter
Published on June 14, 2023 00:51

June 5, 2023

عظماء التصوف : السهروردي

الاتجاهات المثالية في الفلسفة العربية الإسلامية، الجزء الرابع، تطور الفكر العربي الحديث، وهو يتناول تكون الفلسفة العربية الحديثة في مصر خاصة والبلدان العربية عامة، منذ الإمام محمد عبده وبقية النهضويين والمجددين ووقوفاً عند زكي نجيب محمود ويوسف كرم وغيرهما من منتجي الخطابات الفلسفية العربية المعاصرة، 2015.

[ ولد سنة 549 هـ – 1155 م في الشمال الغربي من إيران في ميديا القديمة بسهرورد ، وهي مدينة كانت ولا تزال مزدهرة إبان الاضطرابات المغولية ، وقد درس في حداثته الباكرة في مراغة بأذربيجان ، ثم قدم أصبهان في وسط إيران ؛ ولا بد انه وجد السنـُة السينوية لا تزال حيةً هناك . ثم أمضى بعدها عدة سنوات في الأناضول حيث تلقى احسن استقبال من عدة أمراء من روم السلاجقة . وأخيراً تحول إلى سوريا التي لن يعودُ منها أبداً . ] ، ( 18 ) .
تبدو سيرة السهروردي مضادة لفكره ، فهو إذا يخرج من إيران تغدو صوفيته استعادةً للحكمة الإيرانية القديمة ، وهنا تكون الصوفية المشرقية قد بلغت مرحلة تكشف مضمون داخلي :
[ ولكي نفهم منذ البداية مقصد مؤلفات السهروردي ، فلا بد لنا من أن ننتبه إلى الفكرة المبطنة التي تشير إليها تسميته لكتابه الرئيسي ( بحكمة الإشراق ) وهي فكرة حكمة لدنية مشرقية سيتابعها بتصميم واضح كإحياء لحكمة فارس القديمة ] ، ( 19 ) .
وهكذا فإن فلسفة السهروردي ستتوجه إلى الانعطاف من التوجه العقلي الأرسطي نحو الإشراق ، الذي سيكرس مثالية أفلاطون وأفلوطين ومزج ذلك بعقائد الفرس القديمة ، وهو فقط سيرتكز على أولية العقول المفارقة الفارابية – السينوية لكي يحيلها إلى أنوار الفرس القومية الزرادشتية وقد غدت هي الفيض النوراني، وبدلاً من التشكل الموضوعي للطبيعة من الفيض الأعلى ، فإنه ترجع [ حقيقة كل علم موضوعي إلى شعور الإنسان العارف بذاته . وكذلك الأمر بالنسبة لكائنات جميع العوالم والأجرام النورانية كلها ] ، ( 20 ) .
وبهذا فإن النور المتعدد السماوي ، الذي تزاوج مع أفكار العقائد الدينية المشرقية ، وخاصة الإسلام ، يتحول إلى كائنات الملائكة ، وهي عملية تشير إلى المزج بين عقيدتين ، كتعبير عن إضفاء شكل إسلامي على مضمون [ قومي ] فارسي ، ويحيل السهروردي الفيض النوراني الملائكي هذا إلى أشكال من القوى المفارقة المتعددة التي تتوافق مع تسميات وآراء الفلاسفة :
[ هذه الأنوار تؤلف ( طبقات العرض ) ؛ إنها تؤلف ، أيضاً ، ( أرباب الأنواع ) المتماثلة ذاتياً مع المثل الأفلاطونية لا على أنها كليات متحققة طبعاً ، بل على أنها أقانيم من النور ] ، ( 21 ) .
[ ولي في نفسي تجارب صحيحة تدلُ على أن العوالم أربعة : أنوارٌ قاهرة وأنوار مدبرة وبرزخيان ، وصور معلقة ظلمانية ومستنيرة فيها العذاب للأشقياء ] ، ( 22 ) .
إن السهرودي يقيم تضادات مطلقة بين عالمي النور والظلام ، وهي تضادات تعود من بنية الزرادشتية ، حيث التقابل الذي لا حل له بين النور والظلام ، واللذان يمثلان شكلين حسيين مجردين ، يحاولان أن يمثلا عالمي الفكر المجرد والحس ، عالم المثل وعالم المادة ، عالم السلطة وعالم المنتجين .
وليس لهذا الوعي عملية تمثل بالواقع الإيراني الراهن حينذاك سوى بالعودة إلى الأسماء القديمة ، في حين أن التجريد العام بين النور والظلام لا يمثل عملية تحليلية لواقع إيران المضطرب ، بل هو استعادة لكون عالم النور يمثل إيران ، في حين تمثل الظلمات عوالم الأشقياء .
أما عالم الأنوار فهو [ عالم الأنوار المجردة العقلية التي لا تعلق لها بالأجسام وهم عساكر الحضرة الإلهية والملائكة المقربون وعباده المخلصون ] ، وهي التي تمثل الكائن الأول ، عالم الحكم ، في حين أن الأنوار المدبرة : وهو الثاني وهو عالم الأنوار المدبرة الاسفهبذية الفلكية والإنسانية ] ، وهو عالم الإدارة السياسية التي تلي الحكم ، وتتمثل ميتافيزيقياً بالجمع بين الكائن الأول والسماء وعالم الفلك وحياة الإنسان ، حيث يلغي السهروردي الفصل بين عالم السماء وعالم ما تحت فلك القمر ، وعالم الأنوار الثاني هذا هو الذي يدير الكون ، وهو ما يعطي لعوالم المثقفين والفئات الوسطى دور القيادة الحقيقية ، وهو ما كان يماثل لدى فلاسفة آخرين دور النفس أو العقل الفعال .
أما عالم المادة عالم الأجسام فهو ثالث العوالم ، وهو عالم الناس ، حيث ينقسم إلى عالم الظلمة حيث لا يستطيع الناس التطور الروحي الخلاق ، في حين أن عالم المثال فهو عالم الأجسام المستنيرة التي ترتفع عن عالم الظلمة .
لا تستطيع كثرة مصطلحات السهروردي واستعاراته الكثيرة من الفلسفات المثالية المختلفة قبله وقد رُ كبت على الزرادشتية ، أن تخفي المعمار المستعاد من الأفلاطونية المحدثة ، لكن مع ذلك فإنها لا تقدم جديداً ، وهي تعبر عن عالم إيران وهو يواجه القوى الرعوية الغازية خاصة السلاجقة والمغول ، فتتم استعادة الإرث الفارسي القديم بأشكال شتى في حركة الثقافة ، وهي أشكال استعادية تتعارض مع ثقافة الأتراك الرعاة والمغول ، وتتكيف مع الإثناء عشرية ذات الأئمة المتعددين ، وهي التي سوف توظف الصوفية في هذه المرحلة من أجل استرداد إيران من الغزاة .
فالصوفية التي وُلدت في بغداد عبر حركة واسعة تعود إلى إيران وقد تشكلت كفلسفة مثالية غيبية عجائبية وحركة ثقافية شعرية وأدبية هائلة راحت تتوحد في جوانب معينة مع المذهب الإثناء عشري المتصاعد في فضاء إيران حينذاك ، مثلما تستقطب إيران كذلك أفكار ابن عربي وتمزجها بذلك المناخ الديني .
ويتجلى ذلك في تصاعد الشعر الصوفي ليغدو الشعر القومي الفارسي الجميل المؤثر :
[ قال مليكي للشمس : حذار ، لا تزاولي هذا الدلال ، فإذا كنت تسترين وجهك ، فنحن سافرو الوجوه .
وفي اللحظة التي يومض فيها تألقُ هذا الجمال ، تصبح في تلك اللحظة مائة شمس سوداء ومجرد مجاز ] .
[ فهات الكنز ، ولا تمارس الحيلة ، فلن تنجو ، بالمضمضة والمصلى والذكر والزهد والصلاة .
إنك تسرق ، ثم تجلس في ركن المسجد ، قائلاً : أنا جنيد الزمان ، وأبو يزيد الضراعة .
فرد القماش المسروق ، وآنذاك مارس زهدك ، ولا تعلل بالضعف ، ولا تكتم صوتك ] ، ( 23 ) .
إن تعبيرات شمس الدين التبريزي تجعل الملكوت السماوي يصير لغة شفافة على الأرض ، وتمثلات حسية تتفجر في الزهر والمسجد والكتاب ، تجعل الروح تذوب في الكيان الإلهي المتمثل جمالاً .
يقول سعدي الشيرازي مضفراً بين الغناء الروحي والبحث والتجسيد الرمزي وبين إعطاء دلالة مختلفة للإسلام :
[ إن العالم والعابد الصوفي كلهم أطفالٌ في الطريق وإذا كان الرجل رجلاً فيه فلن يكون غير العارف الرباني .
أخشى ألا يلتفت إليه المحبوب الروحاني … وأنت لا تروم إلا الراحة الروحية .
دارك ملأتها بالقمح ولم ترسل حبةَ شعير إلى قبرك .. وتحمل هم الموت ليس كتحمل هم الشتاء .
تنهب مال المسلمين وإذا نهب مالك صرختَ وصحت إن هذا هو الإسلام .
….
من يخشى اللصوص لأنه يملك متاعاً ليس كالعارفين الذين إن امتلكوه فلا خوف لديهم عليه .
ومن نصب خيمته في صحراء الفراغ ما اهتم بالخراب إذا تزلزلت الدنيا ] ، ( 24 ) .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
مصادر :
( 18 ) : ( تاريخ الفلسفة الإسلامية ، هنري كوربان ، مصدر سابق ، ص 316 ) .
( 19 ) : ( المصدر السابق ، ص 316 ) .
( 20 ) : ( المصدر السابق ، ص 324 ) .
( 21 ) : ( المصدر السابق ، ص 327 – 328 ) .
( 22 ) : ( حكمة الإشراق ، نقلاً عن المصدر السابق ، ص 330 ) .
( 23 ) : ( مختارات من ديوان شمس الدين التبريزي ، لمولانا جلال الدين الرومي ترجمة إبراهيم الدسوقي ، الهيئة العامة ، القاهرة، ص 55 ، 54 ) .
( 24 ) : ( مواعظ سعدي ، سعدي الشيرازي ، الهيئة العامة ، ترجمة محمد علاء الدين منصور ، ص 30 ) .

 •  0 comments  •  flag
Share on Twitter
Published on June 05, 2023 15:51