فلسفة جديدة

كتب: عبـــــــدالله خلـــــــيفة
لم تتطور الفلسفة العربية كثيراً، بسبب أن الفلسفة العربية القديمة هي ذات أصل ديني، فجثمت بين نظرات جزئية سياسية وإجتماعية محدودة، مرتكزة على رؤى غيبية لأصل الوجود، فالفارابي يجذر نظراته الاجتماعية في أصل الكون الذي يعود للفيض الإلهي، وابن رشد يفصل الكون عن الإله، ولكنه يعطي مجالاً واسعاً في الحياة الاجتماعية للفقه.
ومن هنا فإن التطور التاريخي الاجتماعي للمجتمعات العربية يظل غامضاً غيرَ مرتبطٍ بقوانين داخلية، وحتى في الفلسفة العربية المعاصرة فإنها وقعتْ في النقل، من الفلسفات الليبرالية الغربية التي تنسخُ التطورَ الغربي وتعتبره موديلاً ضرورياً للمجتمعات العربية. أو إنها وقعت في النقلِ الشرقي وإعتبار الفلسفات الغربية التقدمية التي علقت في الاستبداد الحكومي الشرقي خاتمة المطاف الفكري، فنسخت التطور الغربي قافزة على المرحلة الرأسمالية الغربية، في وهم إيديولوجي.
ربط الفارابي بين فلسفته والزراعة، ففي الزراعة فيضٌ بنائي خلاقٌ غيرُ عنيف، ووجه الوعي نحو الأفلاك لا نحو الأرض.
ولم يفهم الباحثون العرب طبيعة مجتمعاتنا الراهنة، ونتاج ذلك فلسفات ليبرالية تركز على الحرية الشخصية، وفلسفات يسارية ودينية تركز على الجماعة التي بيدها الأمور كلها. فلم يأخذوا طبيعة التناقض في الرأسماليتين السائدتين الحكومية والخاصة، وبضرورة تغييرهما معاً تنفيذاً لخطط تطور صناعية تحديثية ثورية، وليس لصناعة نقل المواد، وما يربتطُ بها من فسادٍ إداري، وتوزيع فتات على المواطنين، وتضييع تاريخي للثروات.
تناغم الرأسماليتين الحكوميتين يأتي من مجتمع ديمقراطي، تلعب فيه الرأسمالية الخاصة الإنتاجية دوراً هاماً، كما لا تتسلط فيه القوى البيروقراطية الحكومية على الصناعة؛ تحديداً لمقوماتها وتخطيطاً كلياً لمساراتها، وتقوم فيه القوى العمالية ليس في تنفيذ مسارات الإنتاج المختلفة فقط بل في النضال كذلك لتوجيهها نحو الثورة الصناعية التحويلية لحياة الناس وتوزيعاً لفوائضها على المادة والبشر.
هي رأسماليةٌ تحديثيةٌ وإشتراكية ديمقراطية متداخلتان، فنحن لا نستطيعُ نسخَ التجربةَ الغربية التحويلية العميقة التي بدأتْ في القرن السابع عشر، بل نقرأها ونتجاوزها في خلق تركيب جدلي بين الرأسمالية الفردية الغربية والإشتراكية الشرقية بدون دكتاتوريتها.
عملية الجمع هذه والتجاوز ممكنة عبر فهم مسارات الإنتاج، والبنية الاجتماعية والثقافة، فكراً حديثاً وديناً، بتنوعاتها وتداخلاتها في كل بلد، فلكلُ بلدٍ عربي وإسلامي له خصوصياته وإشتراكه فيما هو عام.
وعبر قوى خلاقة شعبية تنقضُ جمودَ وتحلل وفساد وهجرة الرأسماليتين، تصهرهما في تلك التركيبة الإنتاجية المغيرة للمادة والبشر، في كفاحية التغيير. تأخذهما من سكتيهما الخاصتين المبعثرتين للرأسمال الاجتماعي، وتعجنهما في الثورة الصناعية العلمية الخاصة بالعرب والمسلمين، الذين لهم مسارٌ مختلفٌ ومتناغمٌ مع حركة البشرية.
فيما إستحضر فلاسفةُ المسلمين السابقين الزراعة كإماميين، عاشتْ جذورُهم على الفلاحة، وسنةٌ عاشتْ أجيالُهم على الرعي والتجارة، فإننا نستحضرُ الصناعةَ كحركةٍ خلاقة، وكموحدِين غير طائفيين، في عالمٍ مادتهُ متحولة، كونية، نتمددُ معها في الإنسانية ولا نذوب في حطامها التفتيتي للأمم، وعالمنا الخاص – العام هو طاقةٌ متجددةٌ، تبدلُ النسيجَ الشعبي الحِرفي والقدري والهامشي، وتضعهُ في نهرِ كلِ بلدِ المشتركِ، تتلاقحُ عبرهُ الأجيالُ والطبقاتُ والأفكارُ والأقطارُ.
فيما كانت الفئاتُ الوسطى وخاصة المثقفة منها خادمة للرأسماليتين وبالذات للحكومية المتسيدة على الثمار الاجتماعية، في كل العصور السابقة، فإنها تغدو تائهةً، مُضيعةً للطاقة العقلية والمادية، ولهذا كانت الفلسفات ضائعة، وقدرتها على الفعل محدودة، ولا تستوي عقلاً وحركةً دون النقد الكلي لكلا العملتين الصدأتين، لتحريكهما في عملة واحدة خلاقة في السوق النهضوي، تابعة للإنتاج، لا للفساد والبذخ، معيدةً تشكيل الهياكل المشتتة، بمقاربة الصناعة الثورية، وإعادة تشكيل البشر العائشين روحاً في العصور الوسطى.

 •  0 comments  •  flag
Share on Twitter
Published on June 21, 2023 23:46
No comments have been added yet.