التنوير الحديث وأقسامه

رتبط التنوير فى التاريخ العربى الكلاسيكي بأحجام واستقلالية الفئات المتوسطة، التى لم تستطع أن تتحول إلى طبقات برجوازية حرة، وتعيد تشكيل المجتمع التقليدي العربي، وقد واجهتها ذات الإشكالية فى العصر الحديث,، ولهذا كانت دائماً تابعة لأشكال الإقطاع السياسى أو الدينى أو كليهما معاً.
ولهذا كان التنويريون الأوائل: عبدالرحمن الكواكبي، ورفاعة الطهطاوي، وغيرهما، والتنويرون فى الزمن المتوسط كطه حسين والعقاد ونجيب محفوظ ولويس عوض، وكذلك التنويرون المعاصرون الذى مالوا لليسار كمحمود أمين العالم وهادي العلوي ورفعت السعيد وجورج طرابيشي وغيرهم.
تواجههم ذات الإشكالية وهى الموقف من التشكيلتين: الإقطاعية الآفلة والرأسمالية الصاعدة، فاتسم الموقف بالتعقيد وعدم الوضوح والإجابات القافزة على الظروف، إلا من بعض الاستثناءات.
وإذا كانت بعض المظاهر الحضارية المجلوبة من الغرب محل ترحيب، فقد كان الترحيب بها من قبلهم، خارج السؤال المحوري، لأن هذه المظاهر حين ترُكب فى بنية إقطاعية لا يعود لها مجرى تحويلي كما لو كانت فى بنيتها الأصلية التى نبتت فيها بشكل موضوعى.
ونريد أن نركز الآن على التنوير عند التقدميين، وهل كان إصافةً للمجرى التنويرى السابق، الذى رأيناه يتصدع بسبب عدم إجابته عن السؤال المحوري، وبالتالي عدم تنامي تحليلاته للبنية الاقطاعية وتردد أدواته فى سبر أغوارها.
فمع اعتراف التقدميين العرب بوجود تشكيلتين متداخلتين في تاريخ الأمة العربية المعاصرة، فإنهم عدوا البنية المعاصرة رأسمالية ذات بقايا اقطاعية، وهذه البقايا لا تحتاج إلى تغييرات جوهرية ولعل الزمن يتكفل بالقضاء عليها.
لكن أحداً لم يتكلم كيف انتصرت البنية الرأسمالية وبأية ثورات، وكيف حدثت الرأسمالية من دون انتصار القوى الرأسمالية ووصولها للسلطة وبالتالي تبدل البُنى الاجتماعية وانتشار ثقافة التحديث بشكل واسع وشعبى؟!
وحين فاجأتهم تيارات التدين احتاروا في تسميتها، فمنهم من أسماها التيارات الأصولية، وآخرون أسموها التيارات الدينية المتشددة، أو الإسلامية المتطرفة.. الخ.
وعزوا انتشارها لأسباب تقنية أو عابرة أو مناطقية، أي أنها ليست جزءاً جوهراً من بُنية إقطاعية تقليدية، حيث إنهم عدوا التشكيلة انتهت عملياً.
ويعبر ذلك عن عدم وعي بالتاريخ العربي الإسلامي، وبمراحله وبناه الاجتماعية، ومستويات البنية الاجتماعية الواحدة.
وقد قاد هذا الموقف إلى أخطاء جسيمة على المستوى السياسى، لأن القوى التقدمية منذ بدء تشكيلها لم تتخذ استراتيجية واضحة صلبة تجاه مسألة التشكيلتين، حدث نشأت فى أجواء ايديولوجية معادية للرأسمالية، وعبر مناخ المنظومة الاشتراكية الذى روّج لوعى ايديولوجى غير علمى. وبالتالي تم تجاهل القوانين الموضوعية لتطور التشكلات، وبسبب ذلك فإن أي عمل سياسى فى ضوء هذا الوعى يغدو كارثياً.
إي أن الخطة الموضوعية في هكذا مجتمعات متخلفة تلتزم بتنمية أدنى الأشكال النضالية وإحداث تراكم تنويرى وديمقراطى طويل الأمد، يؤدي إلى تغيير التشكيلة الإقطاعية.
ولهذا فإن أي خطة لتأييد المغامرات السياسية والانقلابات الثورية الدكتاتورية، مثلها مثل رفض إحداث التراكمية الديمقراطية والنضالية الطويلة، تؤديان الى تغييرات على مستوى النخبة الحاكمة فحسب أو إحداث تحولات فوقية، وبالتالي لا تحدث عملية الانتقال من تشكيله إلى تشكيلة أخرى، أي أن الجماهير تبقى في ذات التخلف، والاقطاع السياسى والدينى يستمران فى الهيمنة عليها.
وبعد أن بات جلياً فشل مشروعات القفز عدنا إلى نقطة الصفر الحضارية. وبعد أن وضح سراب الاشتراكية العربية والمشروعات القومبة التعجيلية التي استعارت القمصان الفاشية، عدنا إلى الاحتلالات وطلب المعونة الدولية لإنقاذنا مما نحن فيه.
وكانت العودة المفاجئة للحديث عن التنوير، وإعادة طبع رفاعة الطهطهاوي والكواكبى.. الخ. وانتشرت مهرجانات التنوير، ولكن هل طرحنا الأسئلة الجوهرية؟ هل استطعنا تجاوز قرن من الضياع الفكرى؟!
استعان التنويرون الأوائل والمتوسطون بالترسانة الفكرية الغربية على درجات من القبول والهضم والتطبيق, وهي ايضاً تجسد مستويات انفتاح وتحرر الفئات الوسطى من الهيمنة الإقطاعية, ولكن التنويرين المعاصرين الذين مالوا لليسار, والذين هم ايضاً جزء من الفئات الوسطى, قطعوا العلاقة مع مسار التنوير, وطرحوا تجاوزه عبر نشر الفكر الاشتراكي, الذي رأوه باعتباره مرحلة نوعية قطعية مع الفكر البرجوازي.
كانت هذه العملية قد نشأ ت كما قلنا بسبب الضباب الفكري الذي سببته ثورة أكتوبر سنة 1٩17, والتي أعلنت الانتقال إلى الاشتراكية.
أي أن الفكر الاشتراكي الروسي هو أيضاً لم يطرح على نفسه السؤال المحوري: هل يقوم بثورته للانتقال من الرأسمالية أم من الإقطاع؟ أي هل ثورته هي ثورة ديمقراطية برجوازية أم ثورة ضد البرجوازية ومن أجل الانتقال الى الاشتراكية؟
إن هذا التشوش الايديولوجي ليس نتاج فرد أو جماعة صغيرة فقط, بقدر ما هو وريث منظومات الاستبداد الشرقية الطويلة, والذي تكرس فكرياً بشكل مذاهب دينية كرست الإقطاع.
ولكن الآثار الرهيبة التي أصابت البلدان (الاشتراكية) بسبب خطأ الإجابة عن ذلك السؤال المحوري, لم يكن بحجم الآثار المدمرة التي اصابت الدول والوعي والتنظيمات العربية, فلقد كانت روسيا وبلدان اوربا الشرقية ذات دول مركزية ولها قواعد حضارية, ولهذا فقد هيأت نفسها عملياً للانتقال الى الرأسمالية بصورة أكبر من بلدان العالم الثالث الأخرى.
ولهذا عندما أعاد السؤال طرح نفسه بصورة البيروسترويكا الجورباتشفية, كانت الأمور قد وصلت الى الانهيار.
لقد كشفت عملية البناء والهدم, ليس فقط خطورة البناء على فكرة خاطئة, وهي الزعم بتجاوز التشكيلة الرأسمالية, بل الخراب الناتج عن تجاهل القوانين الموضوعية للتطور الاجتماعي. وبغض النظر عن المنجزات الاقتصادية والاجتماعية التي تحققت فكم الدمار الأرواح وانتشار مناخ الاستبداد الذي دمر ثقافة الحرية, وهي المناخات التي هيأت انتصار نمط رأسمالية العصابات والسلبية.. الخ. والتي لا يمكن تجاوزها إلا بالنضال في أطرها وإصلاح الخرابين: خراب رأسمالية الدولة الدكتاتورية ورأسمالية الدولة المافيوية.
لقد تحقق التنوير اليساري في ظل هذين المناخين الفكري والسياسى, ولهذا نجد أن النصف الأول من القرن العشرين, كان مقصوراً بقوة على التنوير الليبرالي بشقيه المبكر والوسيط, ومع اتساع دور دول رأسمالية الدولة القومية الدكتاتورية (ما سُمي بالمعسكر الاشتراكي), أخذ نمطها في الانتشار في الثقافة العربية, عبر الأحزاب الشيوعية العربية والاشتراكية والقومية ودور النشر والمجلات التابعة لها.
ولهذا كانت فترة القطع مع مرحلتي التنويير السابقتين, مؤشراً ليس فقط على تغييب التنامى في التنوير العربى, بل حدوث عملية قطع خارجية, قيصرية لجسم غير حامل, وبدلاً من تنمية العناصر الجنينية في الوعي الليبرالي والديمقراطي العربي, تم القفز الى مهمات سياسية وثقافية أكبر بدون وجود قواعد صناعية وموضوعية لمثل هذه القفزات وخاصة في صفوف الجمهور.
وتجسد ذلك فيما تجسد في عمليات تجاوز الفئات الوسطى, وهي العملية التي تعبر عن فكرة تجاوز الرأسمالية في الحياة العربية, وبالتالي تجاوز أحزابها وعمليات تنويرها, وعدم خلق التراكم التنويري معها, وكان المطروح الافتراضي أكبر من ذلك عبر تشكيل جبهة ديمقراطية تعزز التصنيع والحريات والعلمانية.. الخ.
لكن النموذج الاشتراكي المستورد, خاصة مع سيطرة نسخته الستالينية, كان يقلل من شأن دعم البرجوازيات الوطنية والثقافة الديمقراطية عامة, لأنه وليد الاستبداد.
اذا كان قد هيمن نموذج التنوير الديمقراطي المستورد من الغرب الرأسمالي, في النصف الأول من القرن العشرين العربي, فإنه قد هيمن نموذج التنوير الاستبدادي من الغرب الاشتراكي في النصف الثاني من القرن العشرين العربي.
وكلا الموديلين لم يكونا ممكنين, لأنهما يحرثان في أرض غير أرضهما, أي انهما يغدوان جزءاً من بنية إقطاعية تعيد تخريبهما وتشويههما, وبالتالي يفشلان في تغييرها.
أي أنهما لا يقومان بقراءة القوانين الموضوعية للتطور الاجتماعي في هذه البنية, قوانين تطور البُنى الإقطاعية الدينية التي استمرت ألف سنة.انهما يجلبان شيئاً من الجاهز, ويقومان بحشره في الواقع الاجتماعي, بدلاً من دراسة هذا الواقع الاجتماعي ورؤية مساراته الإصلاحية الممكنة, وحشد الجهود النضالية لإنجاحها.
ولهذا فنحن في بداية القرن الواحد والعشرين نقف فوق أرض حطمتها المشروعات المستوردة. ولا بد لنا من إعادة النظر العميقة في كل ذلك.
سنرى في وجهات النظر اليسارية البارزة اجتهادات ثمينة لقراءات عميقة ومتعددة للواقع العربي, لا بد أن ناخذها لأهميتها في فحص التراث والبُنى العربية التاريخية, فهنا جهود كبيرة لأعادة النظر في قراءة التراث, فأعمال حسين مروة وهادي العلوي والجابري وجورج طرابيشي والطيب تزيني ومحمود أمين العالم وغيرهم, هامة ولعبت دوراً انعطافياً في الثقافة العربية, ويتشكل التنوير العربي الحديث على الارتكاز على هذه الجهود وجهود من سبقوهم, وفحصها جميعاً ونقدها, والأضافة اليها.
ان عملية الفرز هذه صعبة ومعقدة, لأنها تستند الى فحص ما هو موضوعي عن الاسقاطات الايديولوجية والقفزات الخيالية, وعن النظرات الواحدية, حيث انتشرت الاستقطابية بين الرأسمالية والاشتراكية.
لهذا فإن ما هو ثمين يتعلق بقدرة التنوير اليساري بأطيافه على الوصول الى استنتاجات موضوعية عن التطور العربي, فالذي يقدمه هادي العلوي من حيثيات دقيقة عن تطور البنية الدينية الإسلامية, أي ما يتعلق بحرفها وأفكارها وفرقها ومذاهبها وشخوصها.. الخ. هو فحص هام وعميق ويسند الباحثين التنويريين الجدد في فض الغلاف الأيديولوجي الذي ركبه هادي العلوي والذي يعوق تثمين الاستنتاجات والتحليلات التي قام بها.
وتحدث عملية مركبة من فحص التراث ومسار التاريخ العربي ومن قراءة اسقاطات المؤلف المعاصر وأسبابها, وما إذا كانت ناتجة من مشروعه السياسي المعاصر التسريعي نحو اليسار أو نحو اليمين في حالة الارتدادات التي تنشأ عقب فشل المشروع الأول كحالة جورج طرابيشي.
فقد أدت الاحتفالات العربية التنويرية, وهي ردة فعل على تغييب التنوير في المرحلة السابقة, الى الكفر بأهمية الاشتراكية وحياة الجمهور الشعبي, فتحدث عمليات ارتدادية واسعة, تنعكس على تقوم التطور, وتؤدي الى تثمين أي تطور رأسمالي, دون فحص علاقاته بتغيير البنية الأساسية, إضافةً الى عمليات الاستيراد الجديدة لآخر الموديلات المنهجية, والتي تقوم القراءة الاسترادية والترجمة بالدور الأساسي فيها.
وبطبيعة الحال هذه تقود إلى تصلب يساري مقابل ومضاد, عجز عن تكوين رؤية تحليلية للواقع, ومكتفياً بقشور ايديولوجية تودي الى المزيد من الهزائم الفكرية والسياسية.
ان التنوير اليساري يمثل مرحلة أخرى من التطور الفكري التنويري, وهوغالباً ما يمثل جهود المفكرين المتنمين فكرياً للجمهور الشعبي المستغل, لكنه لا يعبر عن لحظة قطع مع التطور الفكري الديمقراطي السابق, بل هو جزء من هذه العملية المعقدة المركبة لقوى اجتماعية متعددة تعمل على تجاوز التشكيلة الاقطاعية, ولكن من مواقع مختلفة, وبأدوات نظرية متباينة, وقد أدت الخسائر المشتركة لهذه المواقع, إلى رؤية المشترك الديمقراطي, بدلاً من رؤية الاختلاف كما جرى في المرحلة السابقة.

 •  0 comments  •  flag
Share on Twitter
Published on August 07, 2023 00:01
No comments have been added yet.