التاريخ والدين عند مهدي عامل

رأينا في موضوعات سابقة المفكر اللبناني الراحل مهدي عامل وهو يحاورمجموعة من المفكرين العرب الذين اجتمعوا في الكويت سنة 1974. لمناقشة قضية محورية هي (أزمة الحضارة العربية)، راداً عليهم بكتاب أسماه (ازمة الحضارة العربية أم ازمة البرجوازيات العربية؟)، الطبعة السابعة، بيروت، دار الفارابي)، وقد ناقشنا في الحلقات الأولى من هذه السلسلة المفهوم العام الذي بدأ به مهدي عامل هذا الحوار، وهو مفهوم التشكيلة الاقتصادية/ الاجتماعية، وقد أوضحنا الإشكالية الكبيرة التي وقع فيها مهدي عامل في طرحه لمنظومة اقتصادية اجتماعية غير واضحة وملتبسة هي (الأسلوب الكولونيالي للإنتاج)، والآن نستكمل هذا الحوار بالدخول في مستويات جديدة من هذه المنظومة، عبر مستويات العي فيه، وخاصة شكل الوعي المهيمن من بينها، وهو الشكل الديني.
إن النموذج الذي يختاره مهدي عامل في الفصل الرابع من الكتاب السابق الذكر كذلك، هو الشاعر والمفكر المعروف أدونيس، الذي صاغ دراسة حول الإمام أبي حامد الغزالي في ذلك المؤتمر مُستنتجا ـ أدونيس ـ بأن الفكر الديني: (بقواعده وغاياته، وهو الذي يسود المجتمع العربي، اليوم. ولذلك فإن الإيديولوجية السائدة، سواء في المدرسة والجامعة والبرامج التربوية، والصحافة والإذاعة والكتاب، إنما هي قوة ارتداد نحو الماضي، وقوة محافظة على الراهن الموروث . . فعلاقات الإنتاج الموروثة . . ما تزال هي السائدة . . والبنية الإيديولوجية التقليدية . . ما تزال كذلك هي السائدة)، ص 73.
هذا الكلام يقوله أدونيس في سنة 1974، وبالتالي استطاع أن يشخص الواقع العربي تشخيصا دقيقا بحيث أننا الآن (سنة 2003) ندرك الفجائع المترتبة على هذه السيادة الماضوية. ولكن اليسار حينذاك لم يكن ير مثل هذا التشخيص، كرفيقنا الراحل مهدي عامل، الذي يتصدى لهذه المقولة قائلا ردا وتحليلا للرأي السابق:
(1 ــ الفكر العربي هو نموذجه، ونموذجه هو الغزالي، فالفكر العربي إذن هو فكر الغزالي.
2 ــ الفكر السائد في الماضي هو الفكر السائد في الحاضر.
3 ــ البنية الإيديولوجية السائدة في الماضي هي البنية الإيديولوجية السائدة في الحاضر.
4 ــ علاقة الإنتاج المتوارثة ــ أي السائدة في الماضي ــ هي علاقات الإنتاج القائمة في الحاضر.
إذن الماضي هو هو الحاضر، لا شيء تغير. (خلاصة)، ص 74.
من الواضح إن مهدي عامل يقوم بتبسيط نظرة أدونيس إلى التاريخ الفكري العربي، فالغزالي لدى أدونيس ليس كل الفكر العربي، بل فكره المذهبي المحافظ، ولكن أدونيس يقول إن هذا الفكر المحافظ المذهبي هو الذي ساد، واذا طورنا مقولة أدونيس كما توصلنا اليها، فنقول إن رؤية الغزالي كانت هي ثقافة الإقطاع السائد. ولكن ثقافة الإقطاع المذهبي متعددة، وحتى تسود قامت بالقضاء على التيارات الدينية المعارضة، وهذه لها حراك وصراع استمر الى وقتنا الراهن، فليس معنى ذلك سكون الخريطة الفكرية الاجتماعية، بل أن لها ألوانا وتضاريس مقعدة. ولكن من الناحية الجوهرية فإن المنظومة العربية الإسلامية لا تخرج عن التشكيلة الإقطاعية، ومعرفة وتحديد التشكيلة هذه هي الخطأ الجوهري لدى مهدي عامل كما بينا سابقا، في حين أنها الصواب لدى أدونيس وشاكر مصطفى، واستمرارية التشكيلة لا يعني الحكم بالثبات المطلق، كما سنعرض لاحقا.
يضع مهدي عامل بعض ممارسات الفلاسفة العرب كابن رشد في دائرة ما يسميه (بالممارسة الإيديولوجية لما يمكن تسميته بالطبقة الأرستقراطية العربية المسيطرة في المجتمع الاستبدادي في القرون الوسطى.)، وبغض النظر عن جملة من المفاهيم الخاطئة في هذه العبارة، فإن مهدي عامل يضع الممارسات النقدية للمفكرين العرب المسلمين السابقين في سياق (مجتمع استبدادي)، وليس في سياق التشكيلة الإقطاعية المعروفة بداهة للمادية التاريخية، ثم يقوم بوضع الحركات والفكر الديني الإسلامي المعاصر في سياق آخر فيقول: (أما في الحالة الثانية، «فالإسلام» موجود بالشكل الذي يتحدد فيه بحقل آخر من الممارسات الإيديولوجية الطبيقة، خاص ببنية اجتماعية مختلفة، يغلب عليها الطابع الكولونيالي، في انتمائها التاريخي الى نمط الإنتاج الرأسمالي.)، ص 76، 77.
إن هذه البنية الحديثة التي يضع مهدي عامل الوعي الديني السابق فيها، هي بنية يغلب عليها (الطابع الكولونيالي تنتمي تاريخيا الى نمط الإنتاج الرأسمالي)، وهي توصيفات نرى كيف أنها بذاتها قلقة مضطربة، وهو يلجأ الى كلمة (كولونيالي)الأجنبية المنتفخة، لكي يشُعر القارئ بأنها مصطلح غني في حين يمكن القول بأن البنية العربية هي بنية تابعة، ووجود التبعية لا يخلق تشكيلة جديدة، أي أنه حين تقوم الرأسمالية المسيطرة غربيا بإلحاق البلدان الفقيرة الإقطاعية في العالم الثالث باقتصادها، فإن هذه البنية التابعة تظل في تشكيلتها الإقطاعية السابقة، لإن الاستعمار لا يقوم بثورة اجتماعية فيها بحيث يحولها الى نموذجه أو نموذج الرأسمالية، بل يبقيها في بنيتها السابقة ويجري تغييرات سياسية واقتصادية بحيث تقوم بضخ المواد الأولية اليه وتغدو سوقا لمنتجاته الـخ . . لكن عمليات الإلحاق والتغيير الرأسمالية المحدودة تكون في إطار التشكيلة الإقطاعية، أي أن التشكيلة السابقة لم تتبدل بثورة تبدل البناءين، التحتي بثورة اقتصادية، والبناء الفوقي بثورة ثقافية، بل جاءتها عناصر رأسمالية فقامت باستيعابها في قوانين التشكيلة الإقطاعية التقليدية.
إذن عدم فهم مهدي عامل للقضية المحورية وهي قضية التشكيلة يقوده الى سلسلة من الأخطاء اللاحقة، حيث ينفي كون الدين أيديولوجية فكرية مسيطرة في الحاضر، لأنه نفى كون التشكيلة المعاصرة تشكيلة إقطاعية، وبهذا لم يدُرك المهمات الفكرية والسياسية الأساسية الراهنة، وهي تغيير التشكيلة وبناءها الفكري التقليدي.
ولهذا يقوم بنقد أدونيس لأنه يقول بـــ(الرأي الماركسي!) باستمرار التشكيلة الإقطاعية ووعيها الديني الأساسي، (ويجب أن نقول هنا وعيها: الطائفي السياسي)، منتقدا إياه بأنه ينقل: (مركز الثقل في الممارسة الإيديولوجية للصراع الطبقي ضد البرجوازية المسيطرة، من صراع ضد إيديولوجية هذه الطبقة، بمختلف تياراتها، الى صراع ضد الشكل الديني أو الطابع الديني من هذه الإيديولوجية . .)، ص 78، 79.
وهنا يواصل مهدي عامل عدم فهمه وخلطه للأمور، فأدونيس في نقده للشمولية الدينية ينقدها في ظل نظامها التقليدي الإقطاعي، أي باعتبار الوعي الطائفي المحافظ تجليا فكريا واجتماعيا للممارسة الإقطاعية المهيمنة على المسلمين (والمسيحيين)، وليس باعتبارها نضالا ضد الشكل الديني، أي بأنها قضية فك علاقة الدين بالسيطرة السياسية والاجتماعية الإقطاعية الراهنة، وتشكيل منظومة سياسية حديثة علمانية.
أي أن مهدي عامل يريد تجيير النقد ضد الدين، ويجعله بإطلاق، وليس ضد الوعي السياسي الطائفي المستغل للإسلام في تأبيد البنية الإقطاعية المتخلفة، وبالتالي يريد توجيه الوعي الفكري ضد البرجوازية العربية الحديثة، باعتبارها سبب الأزمة والعائق، أي أنه في النهاية يقوم بالدفاع غير المباشر عن الإقطاع الديني، أو أنه بالهجوم على البرجوازية الحديثة يفتت الصفوف الموجهة ضد الإقطاع الديني والسياسي.
فلنحلل أكثر التباس المفاهيم والمراحل واستراتيجيات النضال لدى مهدي عامل.
يقول: (فالعلاقة هذه التي تمنع تطور الإنتاج الرأسمالي في شكله الكولونيالي، من أن يميل، في قانونه العام، الى القضاء على علاقات الإنتاج السابقة عليه، في سيطرته بالذات عليها، هي نفسها العلاقة التي تمنع البرجوازية الكولونيالية، في ممارسة سيطرتها الإيديولوجية/ من القضاء على مختلف الإيديولوجيات السابقة على الإيديولوجية البرجوازية، في سيطرتها بالذات . .) ص 81.
يعتمد مهدي عامل على منطق ارسطي شكلاني يجرد التاريخ من سيرورته الحقيقية، ويضعه في قوالب لا تاريخية، أي لا توجد إلا في وعيه الذي يقع خارج التاريخ الحي.
فهو أولا قد أثبت انتصار الإنتاج الرأسمالي في العالم العربي، في القرن التاسع عشر كما سيقول لاحقا أيضا! لكن هذا الانتصار تم في إطار كولونيالي، ورغم إن البرجوازيات العربية التي انتصرت على أشكال الإنتاج ما قبل الرأسمالية قد انتصرت إلا أنها مع ذلك تحافظ على الأيديولوجيات ما قبل الرأسمالية وهو ذات السبب الذي يجعلها تحافظ على أساليب الإنتاج ما قبل الرأسمالية!
فأولا حين جاء الاستعمار الى العالم العربي في القرن التاسع عشر، كرس الإقطاع والطائفية والأمية، ولم تستطع الفئات الوسطى (البرجوازية) أن تنمو إلا بشق النفس، وخاصة الفئة الصناعية، وبقيت الأبنية الاجتماعية تسود فيها عبودية النساء وعدم خروجهن للعمل والإنتاج، وهيمنة الإقطاع الطائفي الـخ . .
وبهذا فإن نضالات الفئات الوسطى كانت تتحدد في كل بنية اجتماعية عربية، حسب تطورها الاقتصادي الاجتماعي، فإن تنمو فئة وسطى وتقود نضالا ديمقراطيا كان ذلك يحتاج الى عقود، وليس كما يظهر في وعي مهدي عامل اللاتاريخي، بشكل أزرار سحرية، وكأن تشكل علاقات الإنتاج الرأسمالية تتم في الذهن وليس في الواقع الحي. أي أن الرأسمالية تحتاج شروط موضوعية وهي انتشار الصناعة وانتشار العمل بالأجرة وتحرر النساء الـخ . .
ولو افترضنا جدلا بنشوء الرأسمالية الواسعة في نهاية القرن التاسع عشر، وهذا محض خيال، فإن أشكال الوعي الدينية المرافقة للتشكيلة الإقطاعية، لا تنهار بسهولة كبيت من ورق كما يتضمن ذلك وعي مهدي عامل.
إن الوعي الديني المترافق مع التشكيلة الإقطاعية العربية تأسس فوق بنية زراعية/ حرفية/ رعوية، وداخل صراعات اجتماعية (قومية) ومناطقية، وقادته الصراعات السياسية الاجتماعية الى الانقسام المذهبي الكبير في عصر الثورة والمعاضة، بين التيارات المحافظة والتيارات الإقطاعية الناجزة وتيارات الفئات الوسطى الفاشلة، ثم الى الانقسام المذهبي الكبير الثاني حين انتصرت التيارات والدول المحافظة، أي الانقسام بين السنة والشيعة.
إن هذه السيرورة الاجتماعية الإيديولوجية المتلونة بمراحلها وآثارها لا يمكن أن تزول آليا مع الانتصار الموهوم للرأسمالية كما يظن مهدي عامل، بل إن هذا البناء الفوقي يحتاج قرون لكي تتم زحزحة خطوطه المتكلسة، ولكن الأمر أعقد من ذلك لأن هذا البناء الفوقي يتأسس تحت بناء قاعدي لم يتغير كثيرا.
وكما أوضح شاكر مصطفى في عبارته الهامة التي اقتطعها مهدي عامل ورفضه بأن النظام الإقطاعي العربي الديني تتداخل فيه مسألتي السلطة والملكية، أي تتواشج فيه جوانب من البناءين التحتي والفوقي، فالمسيطرون على الثروة والملكية العامة والأوقاف الـخ . . هم الإقطاعيون السياسيون والدينيون، وهو أمر يتمظهر مذهبيا في البلدان ذات المذاهب المتنوعة، ودينيا في الأقطار الإسلامية ذات الاختلاط مع المسيحية، وهذه الهيمنة الإقطاعية تظهر على شكل ملكيات استبدادية وهو أمر استمر حتى منتصف القرن العشرين في بعض الدول العربية وليس في أغلبها، وعلى شكل جهوريات رئاسية أو ملكيات لم تستطيع أن تنُجز مهام الثورة الوطنية الديمقراطية المكتملة، أي في جميع الأقطار العربية الإسلامية حتى الوقت الراهن.
يحكم مهدي عامل على البرجوازيات العربية منذ تشكلها وصراعها ضد الإقطاع والاستعمار، بحكم سياسي واحد، فبعد أن شكلها بشكل ناجز في ذهنه فحسب، وبعد أن شكل الأنظمة الرأسمالية العربية في وعيه فحسب، غدت متطابقة مع البرجوازية الاستعمارية المسيطرة وبالتالي غدت منذ البدء عدوا.
لهذا فإنه لا يقرأ سيرورتها الفكرية والاجتماعية وبالتالي مراحل تطورها ومن هنا لا يرى فرقا بين (ما نراه في ايديولوجيتها من مفاهيم «عصرية» ليبرالية، وما نراه أيضا في بدء «تاريخها الإيديولوجي» من مفاهيم أرادت أن تكون مثيلة مفاهيم الثورة الفرنسية البرجوازية، كما هو الأمر عند رفاعة الطهطاوي ولطفي السيد وغيرهما). ص 82.
ومهما كانت عدم الدقة في المطابقة بين آراء الثورة الفرنسية وآراء الطهطاوي ولطفي السيد، فإن عدم رؤية أهمية آراء المنورين العرب في ذلك الكهف الإقطاعي التي كانت ولا تزال الشعوب العربية تحاول الخروج منه، فذلك يدل على وعي الأرادوية الذاتية الثورية) في إلغائها للقوانين الموضوعية للتطور الاجتماعي، مثلما تفعل في مسألة الوعي بالتشكيلة وبالوعي المهيمن فيها، حيث يلغي مهدي عامل أهمية أفكار البرجوازية النهضوية ويثبت آراء الإقطاع الديني، فيقول بأن الإيديولوجية الدينية: (ليست هي الإيديولوجية المسيطرة، أو التيار الإيديولوجي المسيطر في الإيديولوجية المسيطرة، أو أيديولوجية البرجوازية الكولونيالية المسيطرة)، ص 82.
إذن إنه في عدم وعيه بسيرورة الإقطاع السياسي الديني في الماضي: بقوانين تشكله وصراعاته وظهور الفئات الوسطى بين أشداقه وأسباب انهيارها وغلبته، فإن مهدي عامل لا يرى قوانين استمراريته وانهياره في العصر الحديث العربي، وأسباب ضعف الفئات الوسطى، وصراعها معه ومع الاستعمار.
إن عدم رؤية قوانين البنية الاجتماعية في الماضي، هي ذاتها تتجلى في عدم رؤية قوانينها في الحاضر، ويقود ذلك الى عدم رؤية قوانين التشكيلة الإقطاعية عامة، خاصة عملية تفكيكها وتغييرها المعاصرة، وإذا أحلنا آراء مهدي عامل الفكرية العامة إلى الميدان السياسي، فيعني ذلك تقوية الإقطاع.
فعدم تثمين مقامات الفئات الوسطى في الماضي والحاضر، وتشكيل جبهة سياسية تحديثية واسعة، تراكم الوعي النهضوي وتقود في الخاتمة الى الثورة أو القطع مع المنظومة الإقطاعية، واستبدالها بمنظومة حديثة، يعني تصفية القوى النهضوية وتفكيكها، وبالتالي تصعيد الإقطاع في مستويات البنية المختلفة.
علينا أن نرى إن ثمة عدم دقة تحليلية للإقطاع المذهبي وتطوره في التاريخ العربي ولدى أدونيس كذلك، أي أن أدونيس لا يرى الجذور الاجتماعية لتشكل الحداثة قديما وحديثا، التي تؤسسها الفئات الوسطى العربية، ولكنه يقترب من هذا التحديد بشكل أفضل من مهدي عامل، الذي يقول عن ذلك: (لكن المنطق الذي قاد أدونيس الى عدم رؤية هذا الطابع الطبقي المميز للصراع الإيديولوجي في واقعنا الراهن، هو تلك المعادلة الرابعة التي أقامها بين علاقات الإنتاج السائدة في الماضي وعلاقات الإنتاج القائمة في الحاضر . .)، ويضيف مهدي عامل: (أما أن تكون هذه العلاقات الموروثة نفسها هي هي العلاقات القائمة حاليا، فهذا ما لا يمكن للمنطق العلمي أن يقبل به، برغم وجود الانسجام الداخلي في منطق أدونيس . .)، ص 85.
ومن المؤكد إن الإقطاع العربي الكلاسيكي القائم على ملكية الأرض الزراعية والخراج، لم يعد شاملا، لكن مهدي عامل لم يقم بدرس العلاقات الاقتصادية العربية الحديثة، وكيف أن ملكية الدولة لوسائل الإنتاج تمثل شكلا إقطاعيا حين تغدو تابعة بالوراثة لأسرة أو جماعة سياسية، بدلا من أن تكون هذه الوسائل بضاعة متداولة، ولهذا ثمة استمرارية كبيرة بين حقول النفط وحقول الزراعة، وبين الآثار الاقتصادية والاجتماعية التي تتركها في تقوية الإقطاع الأسري والحزبي الـخ . . ونعرض ذلك كمثال عابر فقط، من أجل أن نرى استمرارية الحياة التقليدية، وبالتالي فإن الحكم العام الذي يطلقه أدونيس باستمرار الوعي التقليدي وهيمنته لا يجانب الصواب.
إن أدونيس إذن عبر تلك الفقرة التحليلية يقربنا من رؤية البنية الحقيقية للحياة العربية، فيما يعمل مهدي عامل على إخراجنا من تلك البنية وإدخالنا في بنية موهومة من قراءته ومعايشته للحياة الغربية، فيريد نقل مهمات الصراع الطبقي فيها، الى بلدان متخلفة، تشكو من قلة البرجوازية والعمال والتصنيع، دون أن يحاول العودة الى مصادر أدونيس في قراءة المجتمعات العربية، في كتابه (الثابت والمتحول) خاصة.
في احدى الفقرات من كتابه (أزمة الحضارة العربية أم أزمة البرجوازيات العربية؟)، يقر مهدي عامل ضمنا بسيادة العلاقات الإنتاجية والاجتماعية التقليدية وهو يرد على أدونيس فيقول: (إن وجود هذه العلاقات السابقة في البنية الاجتماعية الكولونيالية لا يعني أنها العلاقات السائدة في هذه البنية، حتى وإن كانت هي تنتشر على القسم الأعظم من السكان، كما هي الحال في الهند مثلا، أو في كثير من البلدان العربية . .)، ص (87).
إنه يعتبر الإنتاج التابع شكلا تاريخيا محددا من الإنتاج الرأسمالي، فمهما كانت أشكال ما قبل الرأسمالية منتشرة فإن ما يحدد توجه التطور هو النمط الرأسمالي.
وبطبيعة الحال لا يمكن أن نأخذ بهذه الجمل إلا عبر تحليل للأبنية الاقتصادية الاجتماعية المحددة في كل بلد، فرغم أن التطور الرأسمالي هو تطور عالمي عاصف، إلا أن كل منطقة وبلد لهما خصوصياتهما، أي أن الأمر يعود لتطور التشكيلات وتاريخها، وتناقضاتها الداخلية، فالتشكيلة الإقطاعية العربية الإسلامية، عبر سيطرة مختلف الدول الاستعمارية على أقطارها المتعددة، لم تقم هذه الدول الاستعمارية برسملتها بشكل شامل، وحتى بعد مختلف الثورات الوطنية فإن المسألة الديمقراطية لم تُحل، أي أن هذه الأنظمة ظلت على بنياتها الإقطاعية المذهبية، وظلت الدولة طائفية واللامساواة بين المواطنين سائدة، وظلت قوى ما قبل رأسمالية تتحكم في الثروة العامة الـخ . .
لكن مهدي عامل لا يرى ذلك، بل يرى إن هذه الأنظمة أنظمة رأسمالية فيجب أن: (يرفض الدولة البرجوازية، أي هذا الشكل التاريخي الطبقي المحدد من الدولة، ويرفض علاقات الإنتاج البرجوازية الـخ . .)، ص 104.
كما أن القوى العاملة مدعوة (لممارسة العنف الثوري، من حيث هو عنف طبقي، بأدواتها هي وبمنطقها هي وبنظامها هي، من أجل القضاء على سبب وجود العنف الذي هو المجتمع الطبقي)، ص 105.
إن مهدي عامل لا يقول ذلك في فرنسا والولايات المتحدة، بل في لبنان وسوريا والعراق والجزيرة العربية، فبدلا من معرفة ما يحدده شاكر مصطفى وأدونيس من دولة استبدادية طائفية إقطاعية متخلفة، يقوم مهدي بصناعة دولة موهومة هي الدولة البرجوازية، وقد اكتملت علاقات الإنتاج الرأسمالية فيها، وبين النموذج الواقعي الذي يرفض الدخول فيه وتحليله، يجر نموذجا آخر ويريد مجابهته، وهذا الجر يخلق مهمات سياسية وعسكرية مختلفة، فهو هنا يريد إزالة البرجوازية بالقوة، فتتحول هذه الكلمات في يد اليساري اللبناني الى سلاح، ويغدو كل الفلاحين المقتلعين من الجنوب والنازحين على المدن والفقراء، جيش الثورة البروليتارية في مواجهة البرجوازية.
إن مهدي عامل بعد أن حول المجتمع المتخلف الطائفي التابع الجائع الى المصانع والبرجوازية الى (مجتمع برجوازي مأزوم بسيطرة هذه البرجوازية)، لم تعد المهمة سوى اقتلاع هذه البرجوازية لكي تحل الأزمة، وهكذا يُفتح الطريق للحرب الأهلية اللبنانية من البوابة النظرية.
لا يعني ذلك بأن توصيفات أدونيس للمجتمع العربي التقليدي متكاملة ولا أن الحلول التي يطرحها لتجاوز أزمة المجتمعات العربية التقليدية، ولكن ما يطرحه من حلول أقل خطرا وأكثر فائدة مما يطرحه مهدي عامل.
فأدونيس يقول حسب رواية مهدي عامل بأن (شخصية العربي، شأن ثقافته، تتمحور حول الماضي/ القديم). وأنه في الحضارة العربية (لما انتفى الفرد في الموضوع وتغرب عن ذاته في الجماعة أو الدولة أو السلطة أو النظام . . كان الاتباع وكان التخلف، وكان حاضر الإنسان العربي أو ماضيه)، ص 97.
نستطيع أن نقول بأن مقاربة أدونيس للتشكيلة الإقطاعية هي أقرب للحقيقة الموضوعية من مهدي عامل، ولهذا فإن اقترابه من المخرج للأزمة الحياة العربية أكثر جدوى، وهو حين يقول بأزمة تلاشي الفرد المبدع أو هيمنة التقليد في الحضارة القديمة، فهو يشير إلى شيء موضوعي لم يتبينه تمام التبين، وهو سيطرة الهياكل الإقطاعية العامة الاقتصادية والاجتماعية والإيديولوجية، ولهذا فإن الفردية، وتوسع الفئات الوسطى الحرة، وبالتالي انتشار الإبداع لم يحدث بصورة جذرية، وقد تتبعنا ذلك في قراءات سابقة، وبينا جذور الفئات الوسطى وارتكاز قواها الأساسية على الدولة الإقطاعية. وبهذا فإن الفئات الوسطى العربية في الماضي والحاضر، لم تستطع أن تتحول الى طبقات برجوازية كلية، وهذا بخلاف رؤية مهدي عامل التي تقول بأنها ولُدت كبيرة ناجزة بفعل الأزرار السحرية الغربية، ولكنها بعد كما يقول أدونيس كذلك لم تستطع حتى الآن أن تزيح الاتباع وتنشر الحرية بشكل شامل!
تلخيصا وتطويرا لما سبق نشره، يقيّم مهدي عامل تقييما سلبيا المقاربة الموضوعية لأدونيس تجاه المجتمع العربي التقليدي، فهو يقوم بإزاحة التوصيفات (العلمية) لهذا المجتمع، ويضع بدلا منها توصيفات مستقاة من تطور أعلى، هو تطور البلدان الرأسمالية المتطورة، ويضع المهمات التي تواجه الطبقات العاملة فيها الى البلدان محدودة التطور، والتي تعالج مهمات تاريخية مختلفة، وبدلا من تشكيل جبهات موسعة للقوى الحديثة والديمقراطية لإزاحة التشكيلة الإقطاعية الطائفية العربية، فإن يوجه القوى ضد أحد الأجنحة المهمة في كلية التغيير الديمقراطية، ولهذا فهو يجعل ممثلي القوى الليبرالية والعقلانية الفكرية في الندوة المذكورة، كخصوم ألداء وليس كحلفاء في معركة واحدة ضد تشكيلة تجاوزها التاريخ.
وهذا يقوده لعدم تثمين الأحكام الموضوعية التي يطرحها هؤلاء المفكرون والباحثون، وعدم الاستعانة بهذه المواد الفكرية الثمينة لتطويرها عبر المنهج المادي الجدلي، ورؤيتها في سياق التشكيلة الحقيقية.
ولكن مهدي عامل دخل في قراءة التاريخ بذاتية ثورية تسقط رغباتها على التاريخ الحقيقي، بدلا من اكتشاف تطوره، فكان ابتكاره لمقولة (أسلوب الإنتاج الكولونيالي) بداية لخرقة أساسيات المادية التاريخية، حول أساليب الإنتاج المحددة والمكتشفة، وهذا الخطأ المحوري قاده الى سلسلة من الأخطاء النظرية في تحليل الجوانب المحددة في تطور التشكيلة الإنتاجية العربية، السابقة الذكر، فهو قد اعتبر علاقات الإنتاج الرأسمالية منُجزة في حياة المجتمعات العربية منذ نهاية القرن التاسع عشر، وهذا ما دعاه الى عدم تثمين حلقات التنوير المتعددة التي قامت بها الفئات المتوسطة العربية، في الماضي والحاضر، ثم الدعوة الى خلق اصطفاف حاد إلى معسكرين رأسمالي تجاوزه التاريخ، وعمالي يجب انتصاره.
وكان هذا خرقاً للمهمات الحقيقية لقوى الثورة والتغيير العربية التي تواجه تشكيلة متخلفة، ولكن الخطوط الفكرية التي طرحها مهدي عامل كانت تتضافر ووضع دولي موات، مما جعلها في حيز التنفيذ، ولكن النتائج المترتبة على هذه الخطوط النظرية والسياسية كانت كارثية خاصة على البلدان التي طبقتها بشكل عنيف، وأهم هذه النتائج إن القوى السياسية ما قبل الرأسمالية، والمذهبية الاجتماعية، هي التي استفادت من تناحر القوى الحديثة، وهي التي برزت الى السطح والفاعلية، حيث ساعدتها عوامل أخرى، مما أوضح بشكل جلي بأن مهمات حركات التغيير العربية لا تزال مواجهة الأبنية التقليدية، وضرورة عدم التحالف مع هذه القوى التقليدية وإبرازها، رغم السهولة التي تبدو بها عمليات التحالف مع هذه القوى الماضوية، وضرورة تكريس تحالف الجبهة النهضوية التحديثية الديمقراطية، حتى لو كانت الصعوبات جمة في طريق تشكيلة وتعزيز عناصره الديمقراطية والعلمانية.
لكون التحالف مع القوى التقليدية وتعزيزها هو تقوية للتشكيلة الإقطاعية وسيرورتها الطويلة في الحياة العربية، لأنها تشكيلة متكاملة ومتجذرة ليس في الحياة السياسية ولكن أيضا في الحياة الاجتماعية والفكرية.
ونظن لو كان المناضل والمفكر مهدي عامل حياً، لكان قد راجع الكثير من أفكاره، التي كان يعززها حينذاك وضع عالمي مختلف . .

 •  0 comments  •  flag
Share on Twitter
Published on August 07, 2023 02:53
No comments have been added yet.