عبـــــــدالله خلــــــــيفة's Blog: https://isaalbuflasablog.wordpress.com , page 31
September 27, 2023
لطفي السيد
توضح حياة وأفكار لطفي السيد طابع الفئات الوسطى المصرية، فهو المؤسس لعقلها السياسي.
«التقى لطفى السيد محمد عبده وأصبح صديقه وتلميذه. كذلك تعرف على الأفغانى..، فأعجب به كثيراً»، «وفي هذه السنوات ايضاً، أرسى أسس معرفته بالفكر الأوروبي. وقد تجلى في كتاباته تأثير قراءاته الواسعة.. كقراءة روسو وكونت ومل وسبنسر المألوفة لدى المصريين المثقفين في زمنه. لكنه قرأ ( أخلاق ) أرسطو أيضاً. وحركت مشاعره بعمق كتابات تولستوي التبشيرية الأخيرة))، (الفكر العربي في عصر النهضة، ألبرت حوراني، ص 210).
لكن هذه العلاقات مع رواد الفكر الديني الجديد في المنطقة لم تنعكس في كتاباته: «الانطباع القوي الذي تتركه فينا قراءة تلك المقالات هو الاندهاش من الدور الصغير الذي لعبه الإسلام في تفكير رجل تتلمذ على محمد عبده.
لكن مع ذلك فإنه يرى بضرورة أن يكون الدين أساس التعليم:
«لستُ ممن يتشبثون بوجوب تعليم دين بعينه أو قاعدة أخلاقية معينة، ولكني أقول بأن التعليم العام يجب أن يكون له مبدأ من المبادئ يتمشى عليه المتعلم من صغره إلى كبره، وهنا المبدأ هو مبدأ الخير والشر وما يتفرع عنه من الفروع الأخلاقية. لاشك في أن نظريات الخير والشر كثيرة التباين. ولكن الواجب على كل أمة أن تعلم بنيها نظريتها هي في هذا الشأن… فعندنا (في مصر) إن مبدأ الخير والشر راجع إلى أصل الاعتقاد بأصول الدين، فعليه يجب أن يكون الدين من هذه الوجهة الأخلاقية هو قاعدة التعليم العام».
ليس عدم تحليله للإسلام والمسيحية وقراءة جذورهما هو عدم وجود موقف منهما، بل هو بسبب طابع النظرة الليبرالية المسيسة البرجماتية النفعية، فطه حسين يقوم بالغوص في تحليل الإسلام بموقف معين، ولكن لطفي السيد يكتفي بعبارات عامة مسايرة للدينيين، كما شكلتهما القوى الإقطاعية خلال القرون السابقة، بمعنى أن الليبرالية هنا لا تقوم بالاصطدام بالإقطاعين السياسي والديني، بل هي تسايرهما وتحفر في هجرى معهما وليس ضدهما.
إن الفئات البرجوازية الاستيرادية للبضائع المادية والفكرية، تقوم على ملكيات الأرض والعقار، والمصنع بالنسبة لها هامش، جديد، ولهذا فإن لطفي السيد لا ينتج مدرسة فلسفية سياسية تعيد تشكيل الإسلام والمسيحية والنظام القائم لمصلحة الفئات الوسطى.
((كانت أهم فكرة بين مجموعة الفكر التي استقاها لطفي السيد من معلميه الغربيين فكرة الحرية»، «كان مفهوم لطفي السيد للحرية، كما يعترف هو باعتزاز، مفهوم ليبراليي القرن التاسع عشر. فهي تعني جوهريا غياب رقابة الدولة غير الضرورية. فللدولة وظائف محددة هي الحفاظ على الأمن والعدل والدفاع عن المجتمع ضد العدوان. ويحق للدولة، للقيام بهذه الوظائف التدخل في حقوق الفرد، أما في ما عدا ذلك، فاي تدخل منها جائر، مع العلم أن بعض، أنواع التدخل أشد خطراً من سواه، وخصوماً العبث بحرية القضاء، أو بحرية الكتابة والقول والنشر، أو بحرية تأليف الأحزاب».
يتحول الفكر إلى منهج استيرادي للشعارات الليبرالية السياسية العامة، فالحرية هي تلك التي تنسج على مصلحة الفئات الوسطى، وهي ليست مثل حريات الفكر الليبرالي الأوروبي، الذي أزال هيمنة الإقطاع السياسي والديني من الفضاء الاجتماعي العام، وبالتالي منع استخدام الدين سياسياً، أو احتكار السلطة، ولكن لطفي السيد يماهي نفسه بليبراليي القرن التاسع الأوروبيين بعد إنجازهم الثورة الديمقراطية، في حين يتجاهل هو عملية خلق الثورة الديمقراطية التي تتيح هي إيجاد الحرية، ويعني ذلك بأن الفئات الوسطى تفكر بمصلحتها الاجتماعية ولا تريد تحرير الفلاحين والنساء والسكان عموماً من سيطرة الإقطاع السياسي ~ الديني.
إن لطفي السيد يعبر عن فئات التجار الأحرار التي توافقت مصالحها مع الإقطاع ولهذا كانت رؤاها السياسية التحررية لا تتطرق إلى تحرر الفلاحين والأرض عموماً من اقتصاد القرون الوسطى.
وبهذا فهي تخلق حرية ليبرالية فوق جسد إقطاعي شامل، ومن هنا فإن المطالب الاقتصادية والاجتماعية والثقافية تغدو جزئية، لا تتوجه لإعادة تشكيل المجتمع التقليدي. إنها إنجازات ان حدثت تبق العلاقات الأساسية في الاقتصاد والحياة الاجتماعية كما هي، وتقوم بتغييرات صغيرة تراكم الفوائض النقدية لدى هذه الفئات، وتمنع تحرر الجمهور من الإقطاع وتقوي من وعيه تجاه الفئات الوسطى هذه.
إن تحرير الفلاحين من الإقطاع هو دينامو الفئات الوسطى للتحول إلى طبقة برجوازية، لتسيطر على السوق الوطنية وتراكم الفوائض للتوسع الرأسمالي الصناعي، ولكن هذا المصهر للفئات الوسطى يتخلى عنه لطفي السيد:
لكن المبتكر في كتابات لطفي السيد هو شعوره الطبيعي المرهف بمصر وبريفها. فهو يرى الجمال فى حياة القرية المصرية على فقرها وبؤسها، كما يتذكر مناظر حقول القطن وجلبتها، ويرسم بألوان بهيجة فضائل الفلاح الطيب وسعادته، ويحث الجيل الجديد على التجاوب مع جمال الطبيعة وعلى إضافة تثقيف المشاعر إلى تثقيف العقل».
إن رومانتيكية رواية زينب وشكيّة طه حسين وبرامجه التعليمية وغيرها تتناسق في مواقف الفئات الوسطى عبر هيمنة البرجوازية التجارية، في قيامها بتصدير القطن للمعامل البريطانية، ولاستيرادها البضائع المصنوعة المادية ولنتف أفكار الليبرالية وقد قطعت وشائجها بالتاريخ وبالطبقات والبنى، وتشبثها بديمومة الإقطاع السياسي في الملكية، والإقطاع الديني في النصوصية الدينية الشعائرية على الجمهور.
وبالتالي فإنها لا تقوم بإعادة النظر في مجمل البناء الاجتماعي، بجذوره الوطنية العميقة، عبر توجه تحريري متجذر، وفي سلطة ديمقراطية وحيدة تتكرس في البرلمان، وفي تعميق فهم البناء الوطني بامتداداته القومية الإسلامية المسيحية الإنسانية.
فالبناء الوطني المفهوم عبر وعي الفئات الوسطى التابعة في جوانب والمصارعة في جوانب، للإقطاع، يظل محدوداً على الأقلية ولهذا لا يغدو قومياً بالضرورة، فإذا كانت الفئات الوسطى هذه غير راغبة في إشراك الطبقات الشعبية في المعركة الوطنية فكيف تستطيع أن تتجاوز ذلك إلى الجمهور القومي؟
إن البرنامج السياسي البطيء الذي شكله لطفي السيد لهذه الفئات الوسطى سيكون له مخاطره على المستقبل الطبقي لهذه الفئات، فغياب المبادرة والجرأة سوف يدمرانها إلى حين.
فبرنامجه يقوم على «تقييد سلطة الخديوي المطلقة والتحرك على مراحل نحو الحكم الدستوري»، لهذا «جاءت الإصلاحات التي اقترحها فيه متواضعة وحذرة، منها توسيع اختصاص الهيئات النيابية وتعديل طريقة الانتخاب».
أما البرنامج الاقتصادي فلا يختلف «على مصر أن توفي ديونها الأجنبية»، «وعليها أن تبني صناعاتها». إن هذا التطور البطيء حتى لو تم فى ظل السيادة الاستعمارية فإنه سيكون أفضل، ومن هنا رأى خطرين يواجهان التجربة المصرية،«المثل العليا السابقة لأوانها في (الاشتراكية) أو (العالمية) من جهة، واليأس وضعف الثقة بالنفس من جهة أخرى».
إذا كانت هذه الليبرالية ذات ميزات عظيمة في بداية القرن العشرين حيث أسست البرلمان والحريات الفكرية والتعبيرية وحرية نساء المدن، فإنها عجزت عن التجذر والانتقال من الإصلاحات المدنية والسياسية إلى الإصلاحات الاقتصادية والاجتماعية التي تصل إلى ملايين المنتجين، ولهذا فإن الفئات الوسطى الصغيرة: الضباط، مثقفي البرجوازية الصغيرة المتسرعين، استغلوا هذا الضعف لدى جيل لطفي السيد ليطرحوا الحل الشمولي التسريعى.
ومع ذلك فلم يستطيعوا أن يتجاوزوا المهمات التي لم ينجح فيها جيل لطفي السيد كلية، ولكن جيل الحريات ذاك أسس النهضة الديمقراطية والتحرر الوطني.
ــــــــــــــــــــــــــــــــ
■ انظر عبــدالله خـلــيفة: الاتجاهات المثالية في الفلسفة العربية الإسلامية، الجزء الرابع، تطور الفكر العربي الحديث , وهو يتناول تكون الفلسفة العربية الحديثة في مصر خاصة والبلدان العربية عامة، منذ الإمام محمد عبده وبقية النهضويين والمجددين ووقوفاً عند زكي نجيب محمود ويوسف كرم وغيرهما من منتجي الخطابات الفلسفية العربية المعاصرة , 2015.
ساطع الحصري
لم يكن للعرب وعي قومي قبل القرن التاسع عشر، وبدأ ذلك يتكون مع أزمة الإمبراطورية العثمانية المتعددة القوميات والأجناس والأديان. وقد قامت العناصر الليبرالية الأولى التي ظهرت في لبنان بنقل المنتجات الفكرية السياسية الغربية الجاهزة الخاصة بالعلمانية والقومية دون أن تتهيأ لها الظروف الموضوعية لتشكل تياراً ديمقراطياً، كما فعل بطرس البستاني الذي شدد على «أهمية تمتع أهل الوطن بحرياتهم ، ومن ضمنها حرية الضمير وطالب بصورة صريحة، بفصل الدين عن الدولة وعن السياسة»، «عن رهانات النهضة في الفكر العربي، ماهر الشريف، دار المدى، ص ١٩٧» وقد تابع ذلك مفكرون آخرون كأمين الريحاني وغيره.
غير أن هذا الوعي العلماني الديمقراطي المعبر عن بنية رأسمالية متطورة لم يكن من نتاج داخلي للبنية العثمانية — العربية الدينية الإقطاعية في ذلك الحين، رغم تعبيره عن أجنة جديدة للفئات الوسطى العربية المحدودة في المشرق العربي.
وكأن مخاض الإمبراطورية العثمانية يقود إلى انفصال أجزائها، وبدأت قوى سياسية عربية في المشرق بإنشاء هيئات سياسية تحبذ قيام نظام لامركزي في ظل الخلافة العثمانية، لكن تيار التتريك المتصاعد واعتلاء القوميين الأتراك المتطرفين السلطة حول مطالب قوى اللامركزية العربية إلى الانفصال، وجاءت «الثورة العربية الكبرى» وتقسيم دول المشرق لتصعد بشكل كبير الأطروحات القومية العربية.
إن ظهور الأفكار القومية العربية في دول المشرق العربي تعبير عن الدور التاريخي الذي قام به هذا الجزء من العالم العربي كعصهر للأفكار العربية – الإسلامية – والدينية القديمة، حيث كان عليه دائماً أن يبلور سمات المشرق المستقل وحين تنضم إليه مصر يكون الشمال العربي الزراعي قد اكتهل.
لكن يغدو تشكيل الأفكار القومية الان هو وليد البُنى الاجتماعية العربية الراهنة بتبعيتها للمركز العثماني المنهار وللمركز الغربي المتشكل حديثاً، فهناك مالك يحتضر ومالك جديد يتسلم.
وقد كان المنظر الأول للفكر القومي ساطع الحصري قد جاء من عاصمة الأتراك لكي يدعو العرب لقومية هو خارجٌ عنها ولا يتكلم بلغتها . كان ارتباطه بالأشراف (الهاشميين) الُمقتلعين من مكة والباحثين عن سلطة بمساعدة الإنكليز هو المناخ السياسي الذي تشكلت فيه الدعوة القومية العربية الأولى.
كان ساطع الحصري قد «استقى مفاهيمه القومية من مفكري القرن التاسع عشر الأوروبيين، ولا سيما من القوميين (الرومانسيين) الألمان، حيث اقتبس من أرنت وهردر وهيغل، وأعجب، إعجاباً شديداً، بفخته وخطبه إلى الأمة الألمانية، التي ركزت على مكانة اللغة والتاريخ والتوحيد والتربية القومية في حياة الأمم»، (٢).
إن عناصرَ الاستيراد هنا تعبرُ عن العلاقة بين المستورد وثقافة المنشأ، فساطع الحصري يقومُ باستيراد عناصر من ثقافة قومية تعيشُ ظرفاً مشابهاً، فألمانيا التي كانت تنتقل من الإقطاع إلى التحديث الرأسمالي تجري الانتقال عبر سيطرة بروسيا وعبر الملكية، وكذلك تقوم في الوقت ذاته بتشكيل الوحدة القومية عبر الجيش.
وتقوم المثالية الرومانسية عبر فخته بتشكيل خطاب قومي ثقافي لا يحفر في الركائز الاجتماعية السفلى للوحدة، فلا يتطرق إلى العوامل الموضوعية للوحدة القومية كالسوق ووحدة الطبقة البرجوازية والشعب والديمقراطية، وذلك تعبير عن نزعة شمولية عسكرية غائرة تقومُ بصهر المجموعات الشعبية الألمانية تحت قيادة عليا قاهرة سيكون تتابعها لدى الإمبراطور غليوم ثم المستشار هتلر.
وماكان يفعله ساطع الحصري هو نقل المنتجات القومية الثقافية من البناء الألمانى إلى البناء العربي، وصياغتها بأسلوب شعري مشابه ، لكن مستوى البنية الألمانية يختلف عن البنى العربية عامة، يقول ساطع الحصري:
«إن الأمة كائن من الكائنات الطبيعية الحية.. والأمة العربية بالذات كيان قديم، قائم منذ آلاف السنين، تشكّلُ اللغةُ العربية روحَها والتاريخُ ذاكرتها وشعورها، وإن القومية العربية التى تعني حب هذه الأمة، قد ظلت كامنةً رغم الضعف الذي أصاب الوعي القومي العربي في مراحل تاريخية معينة، وتجلى تأثيرها، على المستوى الروحي، من خلال روح العروبة والروابط المعنوية التي تربط العرب» يحول ساطعُ الحصري هنا العربَ إلى كائنٍ متجوهر خالدٍ سرمدي يتعالى فوق ظروف الزمان والمكان، فيوحدهُ بالطبيعة، وهذا أثر رومانسي واضح. إن هذا الكائن الخرافي القومي ليست له جذور على الأرض الاقتصادية الاجتماعية فقد ظهر هذا الكائن مكتملاً منجزاً فتغدو الأمة ذات مصدر غيبي إلهي، وليست ذات سيرورة تاريخية، ويتمظهر جوهرها عبر اللغة، وكأن اللغة هنا معطىً ميتافيزيقياً وليست مصطلحات للأشياء وللحيوانات والحروب وللحياة البدوية المُعاشة، ثم يقفز الحصري عبر هذا الإنشاء من ظهور الأمة العربية الغيبي هذا إلى تكون القومية العربية التي ظهرت في القرن العشرين، وكل الحقبة السابقة لا تعني شيئاً في منهج يجوهر الذات القومية ككيان خارج الزمان والمكان.
وبعد أقفز على تضاريس تكوّن العرب القديمة يقوم بالقفز على تضاريسهم الحديثة:
«إن العناصر الأساسية فى تكوين القومية.. هى وحدة اللغة ووحدة التاريخ، وما ينتج عن ذلك من مشاركة في المشاعر والمنازع، وفي الآلام والآمال. إن جميع الناطقين بالضاد، جميع أبناء البلاد العربية، يكونون أمة واحدة بهذا الاعتبار. وما القومية العربية إلا الشعور والإيمان بوحدة هذه الأمة، وهي تحتم العمل بكل نشاط لإزالة الحواجز القائمة بين أجزائها المختلفة».
يلغى ساطع الحصري هنا الظروف الموضوعية لتشكل الوحدات العربية المعاصرة، فكما أن الماضى ذا البنى المختلفة لسيرورة العرب بلا قيمة فكذلك تشكلهم الراهن في أقاليم أو دول بلا قيمة مهمة، فالكيان العربي السرمدي القومي في حد ذاته خارج مثل هذه الظروف، وما يظهره هو المشاعر واللغة. وحتى هذه اللغة التى يأخذها كعنصر مطلق يتصورها في اللغة الفصحى المكتوبة، لأن اللغة الفصحى غير الموجودة على الأرض وفي أحاديث الناس، هي الموحّدة التجريدية للعرب. وهذا ما سيؤدي إلى خصام نخبوي قومي للهجات العربية وآدابها.
ويتضح الجاذب الرومانسي الخيالي في قوله بأن القومية (الا تنشأ من المنفعة، بل هي عاطفة تصدر من أعماق القلب».إن الحصري باعتباره فرداً من الفئات الوسطى الملتحقة بالنظام الإقطاعي – الديني المتكون وقتذاك بالعراق بقيادة فيصل تغدو لغتها الفكرية معبرة عن سياسة هذا النظام، فالنظام الملكي إذ ينفصل عن الإمبراطورية العثمانية ويهزم الرابطة العثمانية، يتطلع إلى مشروع عربي إمبراطوري، وتغدو الركائز لهذا النظام دعاية فكرية واستثارة للمشاعر الجماهيرية البسيطة، فيغدو إلحاق العرب عاطفياً، وليس منهجاً يقرأ ظروفهم الموضوعية ويغيّرها.
وهذه اللغة القومية العاطفية التي يشكلها فرد ملتحق بالنظام الإقطاعي الديني يقطع مسارها عن المصدر الفكري الألماني الذي استقى منه بعض الشعارات، أي لايرى دور البرجوازية الألمانية التي شكلت الروابط الموضوعية من مواصلات ومصانع وعلاقات اقتصادية كبيرة بين الولايات الألمانية المُقسّمة، وتبعيتها للنظام الإقطاعي الملكي البروسي المتشكل بالحديد والنار، بل يقوم ساطع الحصري وقد جعل القومية العربية كائنا خيالياً رومانسياً بالدعوة لوحدة وهمية، يمكن اجتيازها بسهولة بلا قطارات ومعامل مشتركة الخ.. بل عبر الجملة العاطفية المنتفخة.
ومن هنا فإن تضاريس تكون الأمة العربية في العصر الحديث غير مدروسة، فقد كانت أجزاء من المشرق العربي إلى زمن قريب من عهد الحصري ذات وحدة سياسية عامة عبر السيطرة العثمانية، وكانت هذه الأجزاء يحدث بينها تفاعل، ولكن هذا التفاعل يتم تحت الأدوات السياسية والعسكرية سواء أكانت من العثمانيين أم من الإنكليز أم الفرنسيين، فيحدث وهمٌ هنا لدى ساطع الحصري بأن العاطفة وحدها قادرة على خلق الوحدة العربية. ويتشكل ذلك بسبب تبعيته للإقطاع الملكي الهاشمي الجديد الذي تحرك على تضاريس المشرق العربي عبر ما سمي بالثورة العربية الكبرى، لكن هذا التحرك لم يكن سوى مظهر للإرادة الإمبريالية البريطانية، وما الإرادة (العربية) هنا سوى إرادة تابعة لمشروع خارجي.
ــــــــــــــــــــــــــــــــ
■ انظر عبــدالله خـلــيفة: الاتجاهات المثالية في الفلسفة العربية الإسلامية، الجزء الرابع، تطور الفكر العربي الحديث , وهو يتناول تكون الفلسفة العربية الحديثة في مصر خاصة والبلدان العربية عامة، منذ الإمام محمد عبده وبقية النهضويين والمجددين ووقوفاً عند زكي نجيب محمود ويوسف كرم وغيرهما من منتجي الخطابات الفلسفية العربية المعاصرة , 2015.
علي عبد الرازق
بعد الحرب العالمية الأولى جرت تغيرات كبيرة في العالم العربي والإسلامي فقد زالت الإمبراطوريات التي تظلل المسلمين أو أغلبيتهم في وحدة سياسية حقيقية أو رمزية، وفي 1924 قامت الحكومة التركية بإلغاء الخلافة وأعلنت قيام دولة علمانية تحولت بعد سنة إلى جمهورية علمانية.
في ذات السنة نفسها كتب مثقفٌ أزهري وقاض شرعي بإحدى المحاكم المصرية كتاباً حول الخلافة الإسلامية واسم المثقف هو علي عبدالرازق، وبدأت عاصفةٌ سياسية وفكرية حول الخلافة والعلمانية.
كتب محمد رشيد رضا في صحيفة المنار:
[ لقد كانت الخلافة والسلطنة فتنة للناس في المسلمين كما كانت حكومة الملوك فتنة لهم في سائر الأمم والملل. وكانت هذه المسألة نائمة فأيقظتها الأحداثُ الطارئة في هذه الأيام، إذ أسقط الترك دولة آل عثمان، وأسسوا على أنقاضها فيهم دولة جمهورية بشكل جديد، من أصوله أنهم لا يقبلون أن يكون في حكومتهم الجديدة سلطة لفرد من الأفراد لا باسم الخليفة ولا باسم سلطان، وأنهم فصلوا بين الدين والسياسة فصلاً تاماً ]، (28).
لكن إسقاط السلطنة العثمانية لم يهز مصر مثل كتاب علي عبدالرازق، فهذا القاضي الشرعي قام بعرض رؤية تمثل انقلاباً كبيراً في فهم الإسلام، حيث أنكر وجود أصول شرعية لدولة دينية في الإسلام، مدللاً على ذلك عبر القرآن والسنة.
وقد فهم علي عبدالرازق ظهور الإسلام بأنه [ دعوة سامية أرسلها الله لخير هذا العالم كله، شرقيه، وغربيه، عربيه وأعجميه، رجاله ونسائه، أغنيائه وفقرائه.. ]، وإن هذا الدين الُمرسل لديه كان بغرضِ جمع ما اسماه الأمم العربية: [ هذه الأمم المتنافرة اجتمعت كلها في زمن النبي صلى الله عليه وسلم، حول دعوة الإسلام، تحت لوائه ] لكن تلك الوحدة في رأيه: [ ليست سياسية بأي وجه من الوجوه. ولا كان فيها معنى من معاني الدولة والحكومة، بل لم تعد أبداً أن تكون وحدة دينية خالصة من شوائب السياسة. وحدة الإيمان والمذهب الديني، لا وحدة الدولة ومذاهب المـُـلك ]، (29).
يفصلُ علي عبدالرازق هنا فصلاً كلياً بين ظهور الإسلام كدين وبين ظهوره كدولة، وهو فصلٌ قد يكون مرجواً في زمن مستقبلي تحديثي عميق، ولكنه بأي حال من الأحوال لم يكن موجوداً في ذلك الزمن الأولي، أي أن علي عبدالرازق أسقط رغبته الذاتية على الواقع الموضوعي، وعبر هذا الإسقاط الذاتي كان عليه أن يتعسفَ التاريخَ والوقائع وثقافة الوعي السائد حينئذٍ.
فإن يكون الإسلام دعوة دينية خالصة لا تربطها بعمليات الصراع السياسي العربي وبتكوين دولة للعرب براية الدين، هو أمر يبترُ التاريخَ الحقيقي بغض النظر عن سلامة الدعوة لتكوين دولة لا دينية معاصرة.
يواصل علي عبدالرازق عرضَ فكرته:
[ يدلك على هذا سيرة النبي صلى الله عليه وسلم، فما عرفنا انه تعرض لشيءٍ من سياسة تلك الأمم، ولا غير شيئاً من أساليب الحكم عندهم، ولا مما كان لكل قبيلة منهم من نظام إداري أو قضائي، ولا حاول أن يمس ما كان بين تلك الأمم بعضها مع بعض، ولا ما كان بينها وبين غيرها من صلات اجتماعية أو اقتصادية الخ…]، (30).
إن عبارة علي عبدالرازق تقومُ بعمليةٍ تعميميةٍ كبيرة، فكأن الباحث هنا ليست لديه أية وقائع عن تشكل الإسلام، فهذه الدعوةُ الدينية الخالصة التي لم تتشابك بمعاركٍ سياسيةٍ عربية وعالمية هي غير موجودة في التاريخ، فقد ارتبطت الدعوة بتغيير وضع العرب السياسي المشتت، وبتشكيل دولة كبيرة، ثم بتغيير الأنظمة السياسية المسيطرة على المنطقة، وهذا كله استدعى تشريعات على مختلف الأصعدة.
وصحيح ما يقوله [ بل ترك لهم عليه السلام كل تلك الشئون، وقال لهم أنتم أعلم بها ] ولكن هذا ينطبق على تدابير الإنتاج وصناعة الأشياء والعلوم وليس على النظم السياسية!
يقع خطاب علي عبدالرازق في تناقض كبير لا يعرف كيف يقوم بحله، وذلك يتبدى في العبارتين التاليتين:
[ ربما أمكن أن يقال، أن تلك القواعد والآداب والشرائع، التي جاء بها النبي عليه السلام، للأمم العربية ولغير العربية أيضاً، كانت كثيرة، وكان فيها ما يمس إلى حد كبير أكثر مظاهر الحياة في الأمم، فكان فيها بعض أنظمة للعقوبات، وللجيش، والجهاد، والبيع والمداينة والرهن، ولآداب الجلوس والمشي والحديث..].
ثم يقول مناقضاً ذلك:
[ ولكنك إذا تأملت، وجدت إن كل ما شرعه الإسلام، وأخذ به النبي المسلمين، من أنظمة وقواعد وآداب، لم يكن في شيء كثير ولا قليل من أساليب الحكم السياسي، ولا من أنظمة الدولة المدنية..]، (31).
توضح هاتان العبارتان المأزق الفكري السياسي الذي ألم بفكرة علي عبدالرازق، ففي الأولى يقول بأن ثمة نظاماً سياسياً شاملاً، يبدأ من العقوبات حتى مظاهر الحياة اليومية شكله الإسلام، ثم يقول في العبارة الثانية بأن ذلك ليس نظاماً سياسياً.
لكننا نستطيع أن نفهم سبب التناقض بأن لدى علي عبدالرازق مفهوم معين للدولة السياسية، لا يصرح به هنا، ولكننا نرى أنه النظم الغربية الحديثة التي يؤمن بها علي عبدالرازق، باعتبارها هي النظم السياسية الصحيحة والسليمة، ويتضح ذلك في تعبير (الدولة المدنية)، فهذا تعبيرٌ عصري جُلب مع العلاقة بالحداثة الغربية.
وهو إذ يؤمن بالإسلام إيماناً عميقاً، ولكنه يؤمن كذلك بالدولة العصرية المدنية، وبضرورة أن تكون دولة لا دينية، فإنه يقوم بالالتفاف على التاريخ الموضوعي وحقائقه التاريخية، بالقول بأن ما جاء به الإسلام لا يتضمن تشكيل دولة دينية:
[ إن كل ما جاء به الإسلام من عقائد ومعاملات، وآداب وعقوبات، فإنما هو شرعٌ ديني خالص لله تعالى، ولمصلحة البشر الدينية لا غير ].
إن الرؤية الغائرة وراء هذه العبارات المتضادة هي رؤية لا تاريخية، فهي لا تفهم تشكل الإسلام كصراع لتكوين دولة لقبائل مشتتة، متخلفة، كما أن أنها لا تفهم – أي هذه الرؤية – الأفكار الدينية وسواها كتعبير عن وعي سياسي متداخل بالمقولات الدينية المختلفة، التي لم يكن بالإمكان أن لا تكون سياسية، وأن لا تتداخل مع الدين معاً، فتلك ضرورة الزمان والمكان، والمستوى التاريخي للعرب وللمسلمين وقتذاك.
إن الفكرة إذن لدى علي عبدالرازق ليست ذات جذور تاريخية، وذات بعد اجتماعي موضوعي، فتغدو خاضعة للإرادة الفردية الخالصة، سواء تشكل ذلك عبر وعي نبوي قديم، أم عبر إرادة علمانية حديثة.
فالدين مجرد دعوة أخلاقية ولا تتضمن هدفاً سياسياً لديه، وكأن بالإمكان أن تتشكل دعوة أخلاقية خارج الصراع الاجتماعي والسياسي، وكأن الدعوة الأخلاقية النبوية بتحطيم الأصنام ليست هي أيضاً تحطيم للسلطات القبائلية الكثيرة، وكأن المفهوم الإسلامي التوحيدي ليس هو أيضاً تشكيل سلطة مركزية في المدينة.
إن قيام علي عبدالرازق بتفكيك الصلة بين الديني والسياسي، يتشكل إذن عبر وعي ذرائعي برجماتي، هو وعي معاصر، يُسقط عملية تفكيك الديني عن السياسي، لهدفٍ راهن، هو تفكيك الصلة بين الدين والدولة.
ولكن هذا التفكيك وقطع الصلة بين الديني والسياسي، في العصر النبوي والراشدي، تناقضه السيرة والقرآن والأحداث، فهنا لا بد أن يقوم الباحث علي عبدالرازق بتعسف في تفسير كل تلك المصادر الإسلامية.
إن هذا العرض الحقيقي لما جرى في التاريخ، يستبدله علي عبدالرازق بعرض وهمي، فلا يتمكن من مناقشة المسائل المحورية التي ترتبت على مثل هذا الوضع.
ــــــــــــــــــــــــــــــــ
■ انظر عبــدالله خـلــيفة: الاتجاهات المثالية في الفلسفة العربية الإسلامية، الجزء الرابع، تطور الفكر العربي الحديث , وهو يتناول تكون الفلسفة العربية الحديثة في مصر خاصة والبلدان العربية عامة، منذ الإمام محمد عبده وبقية النهضويين والمجددين ووقوفاً عند زكي نجيب محمود ويوسف كرم وغيرهما من منتجي الخطابات الفلسفية العربية المعاصرة , 2015.
إسماعيل مظهر
في مقالته (أسلوب الفكر العلمي: نشوءه وتطوره في مصر خلال نصف قرن)، يعرض الباحث إسماعيل مظهر وجهة نظره في النهضة العربية الإسلامية في المنطقة عامة ومصر خاصة، وهو يوجه نقداً شديداً إلى المصلح المعروف جمال الدين الأفغاني فيقول:
(تعلم السيد جمال الدين الأفغاني منتحياً الأساليب العملية العتيقة التي عكف عليها العربُ منذ القرون الوسطى، فهو بذلك صورةٌ مصغرة أو مكبرة لعصر من العصور البائدة في تاريخ الفكر الإنساني. وهو بنزعته السياسية أشبه الأشياء في عصره بالحفريات التي تعيشُ بيننا بجثمانها وأن رجعت بتاريخها إلى أبعد العصور إيغالاً من أحشاء الزمن).
وينتقل إسماعيل مظهر من النقد العنيف للأفغاني إلى النقد العنيف لكل ما أنتجه العربُ فهو في رأيه غير جدير بالحياة فيقول:
(ذاعت بينهم مذاهبٌ فلسفية نقلها المترجمون)، (ولكنك لا تجد عندهم مدارس فلسفية يــُنسبُ إليهم ابتكارها. فليس لهم مدرسة تــُعزى إلى الفارابي أو ابن رشد أو ابن سينا مثلاً).
(هذه العقليةُ بذاتها هي التي ورثها السيد الأفغاني عن العرب. عقليةٌ وقفت عند حد الأسلوب الغيبي لم تتعده وتنكبت كل سبيل كان من الممكن أن يسلم بها إلى الأسلوب اليقيني.)،.
يقيمُ إسماعيل مظهر تعميماً فكرياً كبيراً، عبر جملٍ صغيرةٍ تختزلُ قروناً من التطور والإبداعات والمساهمات النقدية، فكلُ ثقافةِ العرب والمسلمين خضعت لفكر معين يسميه الفكر الغيبي، ولم تعرف ما يسميه كذلك (الفكر اليقيني)، وكلا التسميتان ترجعان إلى مصطلحات أوربية مأخوذة من مدرسة معينة، يقول إسماعيل مظهر:
(إذا كان ناموس جاذبية الثقل أعظم استكشاف وصل إليه العقلُ البشري في عالم الكون والفساد، فإن قانون (الدرجات الثلاث) الذي كشف عنه الفيلسوف الكبير (أوغست كونت) لأكبر اكتشاف وصل إليه العقل البشري في الطبيعة الإنسانية. وإن متابعتنا لشرح هذا القانون لهي النواة التي تدورُ حولها أبحاثنا).
يجعلُ إسماعيل مظهر بؤرةَ التطور النهضوي في ابتكارِ النظريات العلمية فهو يبتدئ التاريخ الأوربي بنظرية الجاذبية، ثم بالوضعية الاجتماعية، والمصطلحات التي يستخدمها هي مصطلحاتٌ مستعارةٌ من هذه المدرسة الأوربية الأخيرة التي قسمت التاريخَ الإنساني بشكلِ مراحل معرفية، فهو يعتبر بأن هناك (قانون ضروري يخضع له العقل)، ولهذا فإن كلَ مدركاتنا وفروع معرفتنا وتجاربنا التاريخية لا بد أن تمر بالمراحل الثلاث:
(الأولى اللاهوتية أو التصويرية التخيلية، والثانية الميتافيزيقية الغيبية، أو المجردة، والثالثة اليقينية الإثباتية أو الواقعة).
ويقومُ بتفسيرِ تعدد هذه المراحل بشكل يعود للعقل نفسه، فيقول:
(.. أن العقل الإنساني فيه بطبيعته كفاءة لأن ينتحي ثلاثَ طرق مختلفة للتأمل من حقائق الأشياء وطبيعته في كل من تلك الطرق تختلف عن الأخرى تمام الاختلاف، بل لا نبالغ إذا قلنا أنها تتضاد تمام التضاد)، (أما الأسلوب الأول فخطوة ضرورية يبدأ بها العقل في سبيل تفهم الحقائق أو البحث عن مصادرها، وأما الأسلوب الثالث فهو يمثل العقل في آخر حالات ارتكازه على الحقائق البارزة الملموسة. وليس الأسلوب الثاني إلا خطوة انتقالية تتوسط بين الأسلوبين).
يقومُ إسماعيل مظهر عبر هذا المنهجِ بإدخالِ العرب والمسلمين في المرحلة الثانية من منهجه طبقاً للمخطط التاريخي المعرفي الذي قال به أوجست كونت، وهو مخطط لأنه يشمل الإنسانية جمعاء، فيضع لها مراحلَ معينةً، كذلك فإنه مخططٌ معرفي لكونه يتعلقُ ب [العقل]، وبطرقِ التفكير التي سادت حسب قوله هذه المراحل، ووسمت كلَ مرحلةٍ بطابعٍ خاص من التفكير الذي يختلف عن سابقه.
إن العقلَ هنا منفصلٌ عن بنائه الاجتماعي الذي تكون فيه، بل أن العقلَ هو الذي يشكلُ المرحلةَ والتاريخ والبناء الاجتماعي.
إن العقل المجرد تتشكلُ فيه قوى ونزعاتٌ تحددُ هذا التطور وكأن العقلَ يتطور من داخله، كقوةٍ غيبية مفارقة، فهو يبدأ مرحلةً ولكننا لا نعرف كيف ولماذا يتحول عنها وينتقل إلى المرحلة الأعلى منها.
إن العقل في الدرجة اللاهوتية (يبحثُ في طبيعةِ الأشياء وحقائقها، وفي الأسباب الأولى والعلل الكاملة، يبحثُ في الأصل والماهية والقصد من كل الأشياء التي تقع تحت الحس. وعلى الجملة يبحثُ في (المعرفة المطلقة) وهناك يفرض أو يسلم بأن كل الظواهر الطبيعية ترجع إلى الفعل المباشر الصادر عن كائنات تختفي وراء الطبيعة المرئية).
يقومُ هنا بتجريدِ الأفكارِ السحرية البدائية المتعددة عند ظهور الإنسانية الأول ويصفها بأنها [عقل] يبحث في [ الأسباب والعلل الكاملة ] في حين إن الوعي البدائي السحري كان يسقطُ مشاعره وانفعالاته على الطبيعة، فتصبح الظاهرات الطبيعية حيةً تعكس ذاته، ولهذا فإنه لا يبحث عن العلل الكاملة أو يبحث في طبيعة الأشياء، وهذه المرحلة الأرواحية تتمظهرُ بعدئذٍ في الأرواح الخيرة والأرواح الشريرة، وتتحول بعدها إلى كائنات [ تختفي وراء الطبيعة المرئية ] حقاً وكما يقول.
وإسماعيل مظهر هنا لا يبحثُ هذه الظاهرات الفكرية بشكلٍ متكامل مع البُنى الاجتماعية البدائية التي ينشأُ فيها هذا الوعي، ومن هنا يقومُ بعملياتِ سلقٍ للتطورات الفكرية، ولا يقرأ عمليات توزعها الجغرافي، أو تناقضاتها الداخلية، أو حتى تداخلاتها مع المرحليةِ الدينية على تنوعاتِ هذه الأخيرة، وصلة ذلك كله بالتطورات الاقتصادية والاجتماعية، ففي حين تبقى مناطق جغرافية كأفريقيا مستمرةً في المرحلة الأرواحية لضعف تطور قوى الإنتاج، تتوجه مناطقٌ أخرى إلى مستوى أرقى بسببِ تطورات البنى الاجتماعية – الاقتصادية.
فالعقلُ هذه المفردةُ الفكريةُ ليست مُشكَّلةً بمثل هذا التجريدِ الغيبي، فهي تعبرُ عن مجملِ العملياتِ الفكريةِ – الفنية التي تجري لجمهور معين لزمن معين، فإذا كانت تعبرُ عن العملياتِ الفكريةِ الباحثة عن سببياتِ الظاهرات الطبيعية والاجتماعية، فإن السببيات هنا مُـغلفةٌ بعمليات الإسقاطات الطفولية لهذا الوعي على الأشياء وعلى العمليات الفكرية، فالآلهة مثلاً تتجسدُ كقبيلةٍ سماوية، تحكمُ الوجودَ وبإمكانيات خارقة، وهي بهذا تعبرُ عن عجز القبيلة الأرضية وطلبها للمساعدة من هذه القوى الماروائية.
لكن ذلك لا يزول إلا بتطور القبيلة الأرضية واستقرارها الزراعي والمدني الخ.. فعملياتُ الاستقرار والصراع الاجتماعي والسياسي تعيدُ تشكيلَ هذه المادةِ الفكرية السحريةِ باتجاهاتٍ يبلورها ذلك التطور المعقد في التمدن وعبر التأثيرات الأجنبية والصراعات السياسية والحربية والتجارة الخ..
فالعقلُ ليس هو العصا التي تسوق الماشية البشرية نحو المراعي الخضراء، بل هو عملياتٌ فكريةٌ مركبة معقدة، يتداخلُ فيها اللاعقلُ والعقل، أي المراحل السحرية والمراحل التالية الدينية والعلمية والموضوعية، فكلمة العقل ليست سوى تجريد يمثل عمليات اكتشاف الوجود الموضوعية..
ومن هنا فإن إسماعيل مظهر يقومُ بإحضارِ لوحةٍ تقنيةٍ أوربية، ويقومُ بتركيبها على الجسمِ العربي الإسلامي المسيحي المدد فوق طاولة التشريح، فهو يرى بأن هذا الجسم قد عبر المرحلة اللاهوتية السحرية ولكنه لا يزال في المرحلة الميتافيزيقية الغيبية، ولكنه بعد لم ينتقل إلى المرحلة الثالثة اليقينية فإذن لا بد من قطع هذا الجزء من الجسم وإدخاله إلى المرحلة الثالثة.
وإذا كان هذا صحيحاً فليس ثمة دراسة لهذا الجسم، أي لا توجد قراءة للمرحلتين السابقتين وكيف تجسدتا وتداخلتا وأسباب تشكلهما وبقائهما الخ..
فهو ينطلق من تكامل ونظافة المرحلة الثالثة التي تشكلت أوربياً لكي يضع شعاراتها فوق الجسد العربي – الإسلامي – المسيحي، القديم والحديث، دون أن يقومَ بقراءة عبر هذه الشعارات نفسها لذلك الجسد بأن يبين متى وكيف بدأت المرحلة السحرية ومتى وكيف بدأت المرحلة الدينية، أي أن يدرسَ الحضارات القديمة في المنطقة ثم الوسيطة، وبالتالي يصلُ إلى الأسباب التي أعاقت هذه المرحلة الدينية الأخيرة من الانتقال إلى المرحلة [اليقينية]، أي إلى المرحلة الرأسمالية المعاصرة لزمنه.
إن مصطلح [ اليقينية ] سيُعرف عند تيارات أخرى لاحقة بأسماء أخرى تقلل من طابعه الغيبي الميتافيزيقي ليغدو أقرب إلى الرؤية التقنية المستعارة من الثقافة الغربية، فيصيرُ التحليلُ اللغوي التجريبي، أو البنيوية، وغير ذلك من تسميات، تنقلُ آخر منجزات التقنية الفكرية الغربية، وتضعها في أدوات بحثها.
وإذا كان إسماعيل مظهر يمر بسرعة شديدة على خمسة قرون من التحولات النهضوية العربية بتضاداتها المختلفة، فإنه يقف وقوفاً مماثلاً عند نهضة مصر الحديثة، دامغاً إياها بالعقم.
فهو يصف ثورة 1919 المصرية بأنها [ لم تمس من الحياة الكامنة في الأمة شيئاً ] وهو يقصد هنا إزالة طابع الوعي الديني المهيمن، فهو يقارنها بالثورة الفرنسية الكبرى التي قامت على جهود الموسوعيين والفلاسفة الاجتماعيين (بل على مجهود سلسلة من العظماء، تعهدوا الفكر الكامن في طبقات الأمة المنتقاة منذ عهد ديكارت بتلك الفكرات الثابتة التي يذهب أثرها إلى أبعد غور من أغوار الحياة الخفية في نفس الأفراد والجماعات) .
تغدو المقارنة بين مصر المحتلة من قبل السيطرة الإقطاعية التركية التي كرست البناء التقليدي المتخلف لعدة قرون، ثم لم تفلح إقطاعية أسرة محمد علي في تغييرها بشكل كبير، ثم جاء الاحتلالُ البريطاني وكرس البناء الإقطاعي وجعله تابعاً، وبين فرنسا المنسلخة عبر عدة قرون من السيطرة الإقطاعية والتي شكلت رأسمالية صناعية متجذرة في أرضها، تصبح هذه المقارنة لا تاريخية، ومطالبة مظهر بأن يعيدَ المثقفون المصريون التاريخ النهضوي الفرنسي بشروط وضعهم الخاص، أمراً غير ممكنٍ، وبهذا فهو يفصل مراحل أوغست كونت التي تشكلت في تلك البيئة الفرنسية المتطورة عقلياً، عن تاريخها الخاص فهي تتويجٌ فكري بحثي لنهضوية فرنسا وأوربا في تحليل التاريخ الفكري السحري والديني السابق لتجاوزه، ونقل مثل هذه الأداة البحثية إلى وسطٍ آخر متخلف، لم تكن له الشروط الاجتماعية والمعرفية من معامل وجامعات ونخب ثقافية واسعة وجمهور كبير متعلم، هو زراعة لنبتة في شروط مغايرة.
ــــــــــــــــــــــــــــــــ
■ انظر عبــدالله خـلــيفة: الاتجاهات المثالية في الفلسفة العربية الإسلامية، الجزء الرابع، تطور الفكر العربي الحديث , وهو يتناول تكون الفلسفة العربية الحديثة في مصر خاصة والبلدان العربية عامة، منذ الإمام محمد عبده وبقية النهضويين والمجددين ووقوفاً عند زكي نجيب محمود ويوسف كرم وغيرهما من منتجي الخطابات الفلسفية العربية المعاصرة , 2015.
جمال الدين الأفغاني
كانت التحديات المختلفة التي تحيط بالإمبراطورية العثمانية قد دفعت الخلافة إلى اختيار الاتجاه الإصلاحي بين التيارات الدينية السائدة، فقد كان هناك الاتجاه الصوفي والاتجاه الوهابي.
لقد كانت الاتجاهات الصوفية هي السائدة طوال حقبة الانحطاط، وهي تماثل الاتجاهات العبادية الشكلية التي كانت تجاورها، حيث عبرتا معاً عن الركود الاجتماعي وإعطاء تميز ديني ما للمسلمين.
وقد رأينا هذه الاتجاهات الصوفية في كل مكان مجسدة في [ الطرق ] المختلفة تقوم بالمقاومة الوطنية والثورات في وجه الغزاة. وفي عاصمة الخلافة العثمانية كانت هذه الطرق تحظى بمكانة هامة.
فقد عمل السلطان عبدالحميد على تشجيع اتجاه الوحدة السياسية بين الولايات العثمانية، حيث غدت المركزية هي الأداة السياسية المطلوبة لتجميع أجزاء الإمبراطورية المفتتة والمُهدّدة من قبل الدول الغربية الصاعدة على المسرح العالمي.
[وعلى هذا اعتمدت الدعوة «إلى الوحدة الإسلامية» اللغة العربية واستعانت، لتحقيق فكرتها، برعايا من أصل عربي. فكان أحمد فارس الشدياق أول من أُستخدموا لهذه الغاية، وذلك في عهد عبدالعزيز. ثم جمع عبدالحميد عدداً من نظراء الشدياق، وعدداً من المشايخ العرب، معظمهم من اتباع الطرق الصوفية، تنافسوا في تمجيد دعوته..]، (1).
إن الطابع الصوفي الطرائقي بأشكاله المعرفية والاجتماعية يعبر عن التفتت السياسي، وعن الجمع بين الأشكال العبادية وأنواع الخرافة والعمليات السحرية، وهو ما كان متطابقاً مع الوعي الجماهيري السائد لما قبل النهضة.
ومن هنا كانت حنبلية العصر السابق والتي تنامت عبر ابن تيمية تهجر المدن الخاضعة للسلطة العثمانية وللطرق الصوفية متجهة نحو الصحراء العربية، وقد وجدت في الوهابية شكلاً مناطقياً أخذت تنمو من خلاله، لرفض هذه الطرقَ الصوفية المهيمنة وطرق العبادات الإسلامية المتوحدة بعبادة القبور والأولياء، ومن أجل أهداف شيوخ القبائل والدينيين التي تطابقت أهدافهم السياسية التوحيدية التوسعية في الجزيرة العربية وطموح رجال الدين هؤلاء الذين يسعون لهيمنة خطابهم التوحيدي القسري الحنبلي.
وكانت فارس تقدم نموذجاً إسلامياً مغايراً، حيث تمكنت الإثناء عشرية من تشكيل وحدة قومية فارسية عبر هذا المذهب التعددي الإلهي غير المركزي وبتحويل الطرائق الصوفية الشيعية إلى تيار جماهيري وطني محرر لإيران من هيمنة المغول والأتراك.
وفي توظيف السلطنة العثمانية للصوفية فقد كانت تتوجه للسائد وهو أمر كان يضاد توجههاتها السياسية الجديدة المستهدفة للتحديث والمركزية السياسية. ومن هنا فقد كانت بحاجة إلى شكل ديني مختلف يجمعُ بين المذاهب السنية التي تم تحنيطها عبر الإقطاع المركزي السابق، وبين أشكالٍ من التحديث تقوي الهيكل السياسي العثماني المسيطر.
وكان الصدام غير المباشر والمباشر الذي أخذ يتصاعدُ بين العالم الإسلامي وأوربا قد ولدَّ المشاعرَ والأفكار بالتصدي لهذا التفاوت الحضاري الكبير بين المسلمين والأوربيين، فظهر أكثر من داعيةٍ للتغيير الداخلي في الدول الإسلامية، وقد تعددت الرؤى.
كان من أبرز هؤلاء الدعاة جمال الدين الأفغاني وهو الذي تبلورت فيه هذه اللحظة التجديدية المقاومة فهو قد عبر عن:
[ فكرة الوحدة الإسلامية) الثورية هذه. وذلك الخليط من الشعور الديني والوطني والراديكالية الأوربية ]، (2).
لقد كان الإقطاع الديني المهيمن خلال القرون السابقة، قد استند إلى شبكاته المذهبية في كل بلدٍ ومنطقة، فكان الإقطاع المذهبي المتحالف مع شتى السلطات السياسية في هذه البلدان والمناطق، يرتكزُ على تلك القشور من العبادات المنسلخة من صيرورة الإسلام كحركةِ تغييرٍ نهضوية سابقة، فقام رجال الدين بالتحالف مع الحكام والسلاطين والشيوخ في بقع العالم الإسلامي بتجميد التطور.
ولهذا كان صعود جمال الدين الأفغاني ثم محمد عبده معه، يتشكلُ من خارج هذه الشبكات السياسية – المذهبية، ومن هنا حين كانت مذهبية جمال الدين الأفغاني متواريةً ومغيّبة، فإذا قيل إنه كان شيعياً فإنه لم يظهر بذلك، وراح يطرح [ الإسلام العام ]، أي هذا الإسلام اللامذهبي. فغدا ذا أصل شيعي وفكر سني.
هنا تعبيرٌ غامضٌ وحالةٌ فردية استثنائية للصعود فوق شبكات المذاهب السياسية، وتكوين رؤية إصلاحية نهضوية خارجها وترتكز على عمومياتها، لأن بؤرة هذا الخطاب هو [التوحيد].
كما تقوم على رؤية فردية تخترق الموضوعي على صعيد تكون المذاهب، وعلى صعيد الفعل السياسي، ولهذا تتسم أفعالها بالمغامرة على الصعيدين. ومن هنا لن يكون لها نبتٌ محدد في أي بنية إقطاعية – مذهبية. في حين أن التلامذة سيبدأون من الشعارات العامة فقط، لتتكشف الإشكالية التاريخية لها.
إن العودة إلى فترة الإسلام الأولى تعتمدُ على الخطاب العام، وهذا الدمج بين عمومية الإسلام والإصلاح السياسي والاجتماعي هو ما كان تريدهُ الإمبراطورية العثمانية والباب العالي، ولم يكن جمال الدين كفردٍ مفتقدٍ لأي جماعة دينية وسياسية قادراً على العمل المناطقي الطويل، نظراً لاصطدامه الدائم مع السلطات الشمولية المتخلفة.
وبهذا فإن الاثنين جمال الدين والباب العالي وجدا إن ثمة مصلحة من تعاونهما، جمال الدين يقوم باستثمار حاجة الإمبراطورية للإصلاح عبر خلق أشكال تحديثية مختلفة، تحدُ من هيمنة الخلافة الشمولية وتتيحُ للمسلمين في شتى بقاعهم ظروفاً جديدة تطور من حياتهم وتقاوم الغزاة.
والباب العالي وجد في جمال الدين أداةً لاستقطاب رجال الدين والمصلحين والمثقفين إلى قيادته وتوظيفها لمزيدٍ من الهيمنة على الأقطار شبه المفككة.
ولهذا فإن الجانبين كانا لا يتفقان إلا وقتاً قليلاً، فالباب العالي يخضعُ بشكلٍ دائم للغزو الغربي المتصاعد ولشروطه ولتغلغل تجاره وشركاته، في حين كان جمال الدين يدعو لمقاومة ذلك، ولنشر المجالس المنتخبة والمدارس والمصانع والعلوم.
كان جمال الدين يعتمد على الوسائل النخبوية والأعمال الفردية والمغامرة وحتى الوسائل الإرهابية لتخويف وردع الحكام، ثم أخذ يتوجه إلى الأشكال التثقيفية السياسية المباشرة عبر الصحافة.
كانت شعاراته الرئيسية هي:
مواجهة [خطر التدخل الأوربي والحاجة إلى الوحدة الوطنية لمقاومته، والسعي إلى وحدة أوسع للشعوب الإسلامية، والمطالبة بدستور يحدُ من سلطة الحاكم]، (3).
والفكرة الرئيسية التي سيطرت على وعيه هي فكرة فهم الإسلام بشكل صحيح من قبل المسلمين، وتأتي في أولوياتها بعث خلافة العصور الأولى الموحدة، ولكن إذا لم تتحقق مثل هذه الوحدة السياسية فعبر التطور الإسلامي النهضوي لكل بلد، والحاكم في هذا البلد لا بد أن يعترف بسيادة الشريعة، وأنه لا بد من الثورة على كل حاكم يحيد عن هذه الشريعة، ولا يتصور الأفغاني وجود تناقض بين العقل البشري والشريعة الإسلامية، وتكمن شعلة الإسلام لديه في النبوة والفلاسفة:
[فهو يقر بأنه من الممكن قيام دولة فاضلة على أساس العقل البشري كما يمكن قيامها على أساس الشريعة الإلهية. وقد أعرب عن هذا، بتعابير تذكر بالفلاسفة، في تلك المحاضرة التي أدت إلى مغادرته اسطنبول. إذ قال إن الجسم الاجتماعي لا يحيا بدون روح، وأن روح هذا الجسم هي الملكة النبوية أو الملكة الفلسفية.. أما الأولى فهي هبة من الله.. بينما الثانية تنال بالتفكير والدرس ]، (4).
إن هذه الفكرة المستوحاة من الفارابي وابن سينا، تومئ إلى منظومة التفكير الدينية النهضوية القديمة لدى الفلاسفة العرب والمسلمين، والتي جعلت فكر النبوة فكراً تصويرياً وفكر الفلاسفة فكراً مفاهيمياً، وكلاهما معبران عن الرسالة الإسلامية العامة الإلهية، ولهذا فإن جمال الدين يشكلُ عقليةً اجتهادية عامة مسيسة للوقائع العصرية الجديدة، دون أن يصل إلى الوعي الديمقراطي الحديث بفصل الدين عن السياسة، أي أن مفاهيمه هي تصعيد للإقطاع السياسي الديني السابق في خطوطه العريضة، وهذا ما سيؤدي أن تكون نتائج الحركة الكبرى خاضعةً لإعادة تشكيل هذا الإقطاع القديم بصورةٍ يستفيدُ بها من التحديث الأوربي، دون أن يماثله في جوهريته.
بعضُ نقاط رؤيته تظهرُ في هذا المقطع:
[.. أن ما وحد الأمةُ في الماضي إنما هو مؤسسةُ الخلافة السياسية وجماعة العلماء المحافظين على العقيدة الصحيحة. لكن الخلافةَ انفصلتْ عن العلماء في عهد العباسيين، ثم زالت عملياً من الوجود فيما بعد، وقام مقامها دولٌ مستقلة، وبقي العلماءُ عنصر الوحدة الوحيد، وغدوا روح الأمة وقلب الشعب المحمدي. ولكنهم، مع مرور الزمن، انقسموا هم أيضاً على أنفسهم حول المعتقدات وانحرفوا جميعاً، ما عدا القليل منهم، عن الحقيقة إلى الضلال. ]، (5).
إن هذه الأفكار التعميمية عن [ أمة واحدة ]، تحيل المسلمين بأممهم المتعددة المتصارعة، وشعوبهم المختلفة، إلى كيان تجريدي عام واحد، وقد مثلته سابقاً عملية التوحيد القسرية الراشدية – الأموية – العباسية من خلال المركز الشمولي في العواصم المسيطرة، وبهذا يتطابق وعي الأفغاني مع الوعي السني الشكلي، ويعيد وعيه إلى الوعي السائد لدى بعض الفقهاء في العصر الأموي أو العباسي، وبهذا فهو كفردٍ من الفئات الوسطى التي ظهرت في بداية العصر الحديث يعيدُ وعيه إلى هيكل النظام الإقطاعي المركزي السابق، فيحقق تبعية فئة وسطى لذلك الإقطاع الذي يغدو هدفاً للحاضر، ومن هنا فهو حين يردد فكرةً من أفكار فلاسفة المسلمين السابقين، الذين ماثلوا الفلسفة بالنبوة فهو يفكر من داخل ذلك المناخ، وبالتالي فهو غير قادر أن يتماثل مع نهضة البرجوازية الغربية المعاصرة التي أزاحت الإقطاع، رغم إنه يطالب بالاستفادة من إنجازاتها.
أي أنه يعيد إنتاج مواقف الفئات الوسطى التحديثية التابعة للإقطاع في العصر السابق، والتي لم تستطع أن تقود الجماهير المسلمة في عمليات تحول جذرية. وهو إذ يصطدم بالأفكار الأوربية العلمانية الفاصلة بين الدين والسياسة،لا يستطيع أن يتفهمها، ليس بسبب غياب تجديده الفكري بل لأن هذا التجديد الفكري خاضعٍ لعصر سابق.
إن هذا الإصلاح يمثل تطوراً للمنظومة الإقطاعية المركزية النهضوية السابقة التي ضعفت ثم انهارت، والتي تكونُ عودةُ العالم الإسلامي إليها إنجازاً، ولكنها عودة مستحيلة، ليس فقط لزوالها، بل لأن العالم دخل تشكيلةٍ جديدة هي الرأسمالية الحديثة.
في المناقشة مع رينان تتضحُ جوانبٌ أخرى من وعيه، فرينان يعتقدُ بأن الفكر العربي السابق [ من عمل مفكرين غير مسلمين عانوا ثورة نفسية داخلية على دينهم. وإذ قاومهم اللاهوتيون والحكامُ معاً، لم يتمكنوا من التأثير في المؤسسات الإسلامية. وقد بقيت هذه المقاومةُ محدودةً طالما كانت السلطة في أيدي العرب والفرس، لكنها انتصرت انتصاراً تاماً عندما تسلم البرابرة، أي الأتراك في الشرق والبربر في الغرب، قيادة الأمة ]، (6).
يتضمن رأي رينان تعميمات خاطئة عديدة عبر تحويل الفلاسفة العرب إلى كيان واحد متجوهر، ثم في رؤيتهم كغير مسلمين وهو زعم يتطابق مع تكفير المحافظين المتطرفين المسلمين. ولكن إسلام الفلاسفة كان مختلفاً عن ما هو سائد. كان تحديثياً. وهو أمر لا يعتقد رينان إنه ممكن [ للعقل الشرقي ].
وتصدي جمال الدين لهذا الأفكار جاء من منطلقات خاصة، فهو قد اعتبر عملية ظهور الأديان كعمليةٍ تجريدية فهي قد ظهرت حيث [ لم يكن بإمكان الإنسان أن يميز بعقله بين الخير والشر ولا بإمكان ضميره المعذب أن يجد الراحة في ذاته. فجاء الدين يفتح له آفاق الأمل، فارتمى في أحضانه. لكنه اضطر، لجهله أسباب الأحداث المحيطة به وأسرار الموجودات، أن يأخذ بإرشادات رؤساء الدين.. المفروضة عليه باسم العلي، دون أن يتمكن من تمحيص نفعها أو ضررها ]، (7).
يفهم جمال الدين الأفغاني ظهور الأديان السماوية بشكل رومانسي تجريدي، فكأنها حاجة فردية، وليست تطوراً فكرياً اجتماعياً موضوعياً له عدة آلاف من السنين، وإنها كانت ثورات ضد أنظمة العصر الاستبدادي القديم الشامل، فهو حين يقطعُ مسارها التاريخي سيستعصي عليه أن يفهمَ سببياتها العميقة، وهذا النقصُ المعرفي يترافقُ مع توظيفٍ إيديولوجي حماسي وعملي وآني.
إن توظيف الدول الاستبدادية للدينين المسيحي والإسلامي هو أمر مفهوم لدى جمال الدين، ووجود حقبة ثورية ووجود حقبة محافظة هو أمر مفهوم لديه كذلك، ولهذا يواصل القول: [ أما في المرحلة التالية فقد تحرر الناس من القيود المفروضة على عقولهم وأعادوا الدين إلى نصابه الصحيح، كما جرى في المسيحية في عهد الإصلاح. ولما كان الإسلام أفتى من المسيحية بعدة قرون، فهو لا يزال ينتظر (إصلاحه) ويترقب قيام لوثر جديد فيه ]، (8).
هذه العبارة الهامة الدقيقة في جانب معرفة الحقب الدينية، ينقصها الفهمُ الموضوعي الذي يضعها في سلسلة التطور التاريخي، فوجود [ النصاب الصحيح ] للدين هو جوهرة فكرية للدين بمعنى أنه يوجد جوهر ديني نقي خارج التاريخ، وليس أن الدين في الحقب التأسيسية يحوي أفكاراً مهمةً تعكس مصالح الأغلبية ويجري بعد ذلك التخلي عنها، لكن مصالح أغلبية المؤمنين تتغير عبر العصور، ولهذا فإن عصرَ الانتقال من زمنِ الإمبراطورية العثمانية للتحديثِ يحتاجُ إلى وعي مصالح هذه الأغلبية الإسلامية، ولهذا فإن العودة لــ[النصاب الصحيح] وإنتاج إصلاح إسلامي على غرار البروتستانتية هو جانب مهم، ولكن فكرة نقل البروتستانتية الأوربية للشرق الإسلامي ستعبرُ عن فكرة نقل المخترعات الأوربية الجاهزة إلى الشرق، وهذا ممكن في حالة الآلات لا في حالة النماذج الاجتماعية التاريخية التي هي إبداع ثوري وشعبي بالدرجة الأولى.
فالبروتستانتية لها شروطها الأوربية الخاصة، فتحتاج إلى تقدم صناعي وثقافي كبير، في حين كانت الإمبراطورية العثمانية الإقطاعية تجابه مهماتٍ تاريخيةً مختلفة. علينا أن نضع وعي السيد جمال الدين كوعي متقدم هنا إذا تذكرنا حملته الأولى على الدهرية وهي عبارة عن شتائم للتنوير وعدم فهم كبير للمسار التحديثي الأوربي: [ الأضاليل التي بثها هذان الدهريان فولتير وروسو هي التي أضرمت نار الثورة الفرنساوية المشهورة ثم فرقت بعد ذلك أهواء الأمة، وأفسدت أخلاق الكثير من أبنائها فاختلفت في المشارب وتباينت المذاهب وأوغلوا في سبل الخلاف زمناً يتبعه زمن حتى تباين تصدعهم..]، [نقلاً عن عاطف العراقي، العقل والتنوير، ص 158 ].
وهكذا فإن جمال الدين هو في موقف متناقض تاريخياً بشكل كبير، فهو سياسياً يناضل للحفاظ على وحدة الإمبراطورية العثمانية المتجهة للتفسخ السياسي، في حين كان يدعو فكرياً للإصلاح، والإصلاح يعني تجاوز هذه الإمبراطورية وقيام دول الشعوب المتحررة.
إن الوحدة الإسلامية بالشكل العثماني تعني الحفاظ على هذا السجن الكبير للشعوب وعلى الرابطة الدينية التقليدية، ومقاومة الظهور الحديث للشعوب والأمم بالشكل القومي وبالتالي عدم تصعيد الوعي الديمقراطي الحديث.
كانت هذه هي المهمة [ البروتستانتية ] الراهنة الممكنة، أي تشجيع البؤر الديمقراطية في كل بلد إسلامي، والحفر الفكري والاجتماعي داخل هذه البؤر لتتحول إلى حركات شعبية قادرة على المواجهة للتدخل الأجنبي وعلى القيام بعمليات تحويلية ديمقراطية داخلية معاً.
كان السيد جمال الدين بحاجة إلى قراءة الصراعات الاجتماعية والسياسية والثورات في ظل الإسلام، لمعرفة أسباب فشلها السابق، وكيفية تجاوز أخطائها في الوقت الراهن، لكن جمال الدين لم يكن من محبي الكتابة وتشكيل حفريات معرفية، ولهذا سيظل مثل إشارات المرور المزروعة في نهاية القرن التاسع عشر للدلالة على الطريق الذي ينبغي سلوكه وهو طريق غير متوجه إلى أوربا، بل للعودة إلى العصر الذهبي للإسلام وتكرار التجربة الإقطاعية التحديثية، وهو أقصى ما يمكن أن يصل إليه وعي ديني اعتمد مثل هذه المرتكزات.
إن العملية الشرعية الإصلاحية المتكونة هنا تعبر عن المضمون الداخلي لهذا المنهج، فهناك أحكام دينية لتغيير وضع المرأة وتغيير التعليم ولكن لا يوجد توجه لإلغاء العبودية ولتحرير الفلاحين، وهي أخطر الدروس غير المستوعبة للعديد من القرون السابقة.
ولا يمكن أن نفهم البروتستانتية دون حرب الفلاحين في ألمانيا، وبدون إضعاف الإقطاع المركزي لا تتشكل بروتستانتية، ولكن عمل السيد جمال الدين يتوجه لتقوية هذه المركزية.
ومن هنا فبروتستانتية السيد جمال الدين تظل هنا كذلك غير متفحصة لشروط تكون البروتستانتية الأوربية، وقد أتيحت لجمال الدين أن يقترب من أهم البؤر لهذه العملية التاريخية وهي البؤرة المصرية.
لقد عاش جمال الدين في مصر بضع سنوات هي من أهم لحظات التفاعل مع واقع محدد، وقد استطاع أن يجمع حوله نخبة صارت هي النخبةُ التي قادت مصر في النصف الأول من القرن العشرين، نخبةٌ جمعت فئات وسطى متداخلة مع قوى الإقطاع. لقد وجه هذه النخبة لتقوم بعلاقات فكرية وثقافية مع الجمهور داعية لشعارات النهضة الإسلامية والاقتباس المفيد من الغرب. كان شعاره الجبهوي مفيداً لوحدة الشعب المصري وهو: [حسن المعاملة وإحكام الألفة بينكم وبين أبناء أوطانكم وجيرانكم من أرباب الأديان المختلفة]، وهذا كان أساس تكون الوعي اللاديني السياسي داخل هذه النخبة، لكن مع احتفاظ الإسلام بسيادته السياسية، فذلك الوعي اللاديني السياسي هو أشبه ببرجماتية سياسية توافق الحداثة وتوافق الإقطاع الديني السياسي ومنظومته السائدة، وتتيح للفئات الوسطى القيام بحركة وطنية، لا تصل إلى مفهوم الدولة العصرية.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
■ انظر عبــدالله خـلــيفة: الاتجاهات المثالية في الفلسفة العربية الإسلامية، الجزء الرابع، تطور الفكر العربي الحديث , وهو يتناول تكون الفلسفة العربية الحديثة في مصر خاصة والبلدان العربية عامة، منذ الإمام محمد عبده وبقية النهضويين والمجددين ووقوفاً عند زكي نجيب محمود ويوسف كرم وغيرهما من منتجي الخطابات الفلسفية العربية المعاصرة , 2015.
September 19, 2023
هل ينشأ جيل ديمقراطي تحديثي يخرج أمهاته من الحبس ويعلمهن الرقص ؟
الإجابة على الرابط أدناه:
September 18, 2023
巴林文学大家——阿卜杜拉•哈利法作品 [ماجستير الأدب البحريني ـ آثار عبدالله خليفة]
巴林发展经济的忧患意识,对历史的保护意识深深地影响了每一代人。他们在顺境中不忘反思历史,居安思危,在逆境中不断迎难而上,拼搏斗争,在文学史上留下了光辉灿烂的篇章。已故著名作家阿卜杜拉·哈利法就是一个极好的证明。
阿卜杜拉·哈利法(1948年至2014年),巴林小说家,思想家,“海湾新闻报”作家,巴林文学家作家之家成员,故事小说协会成员,被认为是阿拉伯“海洋文学”最重要的代表。
20世纪60年代末哈利法开始创作短篇故事和小说,同时加入了巴林民族解放战线并活跃于前线,1970年他毕业于巴林高级师范学院并留校任教。从1975年出版第一本故事集“冬日旋律”起,哈利法一生共出版了11部短篇故事集,30部小说,10部思想批判研究著作,如“沙与茉莉花”“闷热的一天”,“海盗与城市”“水火之歌“”珍珠路“,”穆尔太齐赖派之光“,”瘸子起身了“,”美人鱼“,”驴子本体论“等,丰富了巴林,海湾乃至阿拉伯国家文学宝库,为阿拉伯文化批判做出了卓越贡献。
哈利法高度关注阿拉伯统一问题,坚信它可以通过非强制整合的方式得以实现,因为阿拉伯民族在历史上有着特殊的形成过程,不同于东西方其它民族。阿拉伯帝国时期便通过融合实现了多样化的统一。他注重讨论民族和宗教思想,他认为它们与阿拉伯主义,宗教,语言或国家战略利益并不冲突,而要革新分析思考方式,以改变目前的弱势,结束分裂局面。
哈利法指出,“现代阿拉伯文化已经成为了一种有力的声音,追求自由的力量。以往外国殖民主义,落后,地方剥削势力使得阿拉伯人处于无知,文盲,顽固和分裂的状态。发挥它独特的历史作用,让文字成为奋起精神的火炬,我们必须要从恐惧中解放出来,语言必须要贴近民心。”他认为所有宗教,流派或哲学只是在民族生活和文明进步过程中人民忍受痛苦的表现而已,坚信束缚人和思想的形式主义终将消灭,他用阿拉伯重要历史人物事迹加以解释说明。哈利法的文学创作始终与海湾和阿拉伯的现实紧密相关,珍珠和石油作为国家象征在他的笔下反复出现。
https://read.thatsbooks.com/subLibList.jspx?libId=41
البحرين دولة عربية مكونة من 33 جزيرة صغيرة، وهي مهد حضارة دلمون وشاهدة على حضارة بلاد ما بين النهرين. وفي عام 628 م أصبحت البحرين من أوائل المناطق التي اعتنقت الإسلام، وفي عام 1783 أسست عائلة آل خليفة سلالة وحكم حتى يومنا هذا، وفي أواخر القرن التاسع عشر أصبحت محمية بريطانية وأعلنت استقلالها في عام 1971. على مدى آلاف السنين من التاريخ، استفاد البحرينيون من الموارد الطبيعية بشكل كامل لتطوير صناعة اللؤلؤ، ففي ثلاثينيات القرن العشرين، طوروا أول بئر نفط في الخليج، فغيروا مظهرها بالكامل من خلال “الذهب الأسود” وجعلوا البحرين الدولة الأكثر حرية في الشرق الأوسط اقتصاديًا، ومقصدًا سياحيًا واستثماريًا عالميًا.إن إحساس البحرين بالحاجة الملحة إلى تطوير اقتصادها ووعيها بالحماية التاريخية قد أثر بعمق على كل جيل. إنهم لا ينسون أبدًا التفكير في التاريخ في الأوقات الجيدة، والاستعداد للخطر في أوقات السلم، والاستمرار في مواجهة الصعوبات في الشدائد، والقتال بقوة، وترك فصل مجيد في تاريخ الأدب. ويعد الكاتب الشهير الراحل عبد الله خليفة مثالا ممتازا على ذلك.
عبدالله خليفة (1948-2014)، روائي ومفكر بحريني، كاتب في “أخبار الخليج”، عضو بيت الكتاب البحريني، عضو رابطة الرواية القصصية، يعتبر “الأدب البحري” العربي أهم ممثليه.
وفي أواخر الستينيات بدأ خليفة بكتابة القصص القصيرة والروايات، وفي الوقت نفسه انضم إلى جبهة التحرير الوطني البحرينية ونشط في الخطوط الأمامية، وفي عام 1970 تخرج من كلية البحرين العليا للمعلمين وبقي في المدرسة. لتعليم. منذ نشر مجموعته القصصية الأولى “لحن الشتاء” عام 1975، أصدر خليفة ما مجموعه 12 مجموعة قصصية، و30 رواية، و10 أعمال نقدية أيديولوجية، مثل “الرمل والياسمين” و”يوم قائظ”. ، “القراصنة والمدينة”، “أغنية الماء والنار”، “طريق اللؤلؤ”، “ضوء المعتزلة”، “الكسيحُ ينهض”، “حورية البحر”، “أنطولوجيا الحمير”، إلخ. التي أثرت البحرين والخليج وحتى أصبحت كنزًا من الأدب في الدول العربية وكانت لها مساهمات بارزة في نقد الثقافة العربية.
ويولي خليفة قضية الوحدة العربية اهتماما كبيرا، ويعتقد اعتقادا راسخا أنه يمكن تحقيقها من خلال التكامل غير القسري، لأن الأمة العربية لها عملية تكوين خاصة في التاريخ، تختلف عن غيرها من الأمم في الشرق والغرب. خلال الإمبراطورية العربية، تم توحيد التنوع من خلال التكامل. ركز على مناقشة الأفكار القومية والدينية، ورأى أنها لا تتعارض مع العروبة أو الدين أو اللغة أو المصالح الاستراتيجية الوطنية، ولكن لا بد من ابتكار طريقة التفكير التحليلي من أجل تغيير الضعف الحالي وإنهاء الوضع من الانقسام.
وأشار خليفة إلى أن “الثقافة العربية الحديثة أصبحت صوتا قويا وقوة من أجل الحرية. ففي الماضي، ترك الاستعمار الأجنبي والتخلف وقوى الاستغلال المحلية العرب في حالة من الجهل والأمية والعناد والانقسام. إفساح المجال كاملا” إلى دورها التاريخي الفريد، “فلتصبح الكلمات شعلة الروح. يجب أن نتحرر من الخوف، ويجب أن تكون اللغة قريبة من قلوب الناس.” ويعتقد أن جميع الأديان والمدارس والفلسفات هي مجرد مظاهر للمعاناة هذا كل ما يعانيه الشعب في مسيرة الحياة الوطنية والتقدم الحضاري، هذا كل ما في الأمر، إيمانا راسخا بأن الشكلية التي تقيد الناس والأفكار ستزول في نهاية المطاف، وأوضح ذلك بأفعال الشخصيات التاريخية العربية الهامة. لطالما ارتبط إبداع خليفة الأدبي ارتباطًا وثيقًا بواقع الخليج والجزيرة العربية، حيث يظهر اللؤلؤ والنفط كرموز وطنية مرارًا وتكرارًا في كتاباته.
من ترجمة غوغل
Current booklistDatabase of Chinese Database of Chinese Book
September 15, 2023
قبضة تــــــــــــــــــــــــراب
كتب : عبـــــــدالله خلـــــــيفة
قصةٌ قصـــــــيرةٌ
كانت زرقة السماء مشوبة بنورٍ فضي شفاف . وثمة عصافير تتشاجر في دغلٍ مهجور . كان الطريقُ إلى المدرسة ترابياً ، متعرجاً ، بين مستنقعات آسنةٍ ، من بقايا المطر ، وأكوام أنقاض .
حملت الريحُ غناء بلبلٍ حزين . وبدا المرتفعُ بعيداً وقاسياً . وكأن الهضبة التي صعدها ركضاً استحالت إلى جبلٍ شاهق . رمق الحاجُ فاضل سورَ المدرسة المرتفع ، وأسلاكه الشائكة الصدئة .
سعلَ وتأوه ، وجلسَ على التراب ، ورمقَ الخضرةَ البعيدة الكالحة والمتوارية ، والسماء العميقة الزرقة ، بدت بيوتُ القريةِ المتراصة كمعسكر للاجئين .
اقتربت يدهُ من التراب ، تغلغلت أصابعهُ في مسامهِ . كان بارداً وناعماً وحنوناً .
توكأ على غصنٍ صلبٍ ونهض مرةً أخرى .
دخلَ المدرسة الهادئة ، كانت الجدران القديمة مليئة برسومٍ لم يرها من قبل ، وكانت التلميذاتُ محتشدات في الصفوف الصغيرة .
قادته الفراشة إلى مكتب المديرة . جلس على كرسي خارج الغرفة ، وهي بجانبه . سمع صوت آلة موسيقية في نهاية الممر ، ضجت التلميذاتُ بغناءٍ غريب . شعرَ برجفةٍ .
أدخلتهُ الفراشةُ على المديرة . أبصرَ ، في الغرفةِ المضيئةِ ، امرأة شابة ، كانت منحنية فوق ورقة كبيرة ، وتضعُ إشارات بقلم . كانت حاسرة الرأس ، جميلة الوجه .
تنحنح والقى التحية ، لم ترفع رأسها ، وسألت :
– ماذا تريد ؟
كان السؤالُ حاداً ومباغتاً .
لم يجبها . تطلعَ إلى الغرفة المليئة بالكؤوس والخرائط والصور والكتب وبعض الآلات الموسيقية .
سألت وهي ترفعُ رأسها :
– ماذا تريد ؟
ثم استدركتْ :
– تفضل ، تفضل !
واصلت وضعَ الخطوط فوق الورقة ، وبدا كأنها تنتظرُ طلبَ العجوز بإلحاح شديد .
– هل ثمة مشكلة ؟
– إذا كنتِ مشغولةً يمكنني أن أحضرَ مرةً أخرى ؟
قالها العجوزُ بهدوءٍ شديد أوقف صرير القلم . وكان يعلمُ إنه لا يستطيع أن يصعد الهضبة ثانية .
– ماذا لديك ؟ قل إنني أصغي إليك ؟ هل لديك بنات هنا ؟ هل عملت أحداهن مشكلة ؟
كان معها مخططٌ للمسرح الذي تعتزمُ إقامته . رغم إنسحاب تلميذات كثيرات ومدرسات ، إلا أنها أصرت على الاستمرار . والآن هذا العجوز أيضاً !
– إذا كنتِ مشغولة يمكنني أن . . أحضر مرة أخرى ؟
ابعدت المخطط باستياء . . وعقدت ذراعيها فوق صدرها . وقال بخفوت :
– إنني . . أصغي . . إليك !
– أنت المديرة الجديدة . . أليس كذلك ؟
– ماذا تريد ؟ ! ترى إنني مشغولة !
سعل بشدة وبدا كأن صدره يتمزق .
قال :
– ثمة ضجة ما في القرية . كنتُ في مجلس الحاج عمران وتحدثنا طويلاً عن المدرسة . كان هناك العديدُ من الشبان الغاضبين ، على هذا الغناء المتصاعد في المدرسة . . وهذه الآلات . كانوا يريدون الاندفاع إلى الصفوف وتحطيم كلَ شيءٍ . .وراح يسعلُ ثانية . تطلعت إليه برعب ، وغضب ، ووضعت أصابعها على الهاتف . ماذا يجري هنا ؟ جاءت بحبٍ ، وعملت إلى المساء . تمضي إلى بيتها واهنة . وأبوها يتطلعُ إليها باستياء . مرة تأخرت حتى الليل ، فجاءتها حصاة !
يقول :
– لم أدعهم يصرخون . جئتُ إلى هنا . منذ سنوات طويلة لم أصعد إلى الهضبة . كنتُ اندفعُ فوقها وأنا شاب . . أركبُ الحمارَ . . ونجري معاً . . والحصى يتطايرُ . . تحتنا . . لم تكن الهضبة هكذا . . صارت جرداء . . جرداء . . ليس ثمة سوى . . الأدغال المهجورة . . والقططُ الشرسة . . كانت هذه الأرضُ . . أيتها المديرة . . خضراء . . مليئة بالأشجار والينابيع . .
الآن . . كل البساتين . . التي كانت . . غدت أرضاً . . قاحلة . . لم يبق سوى بضع بساتين صارت فللاً يسكنها غرباءُ . . لو كنتِ . . تقفين فوق . . سطح المدرسة . . لرأيتِ القرية . . بيوتاً كثيرة متزاحمة . . وتلك البساتين القليلة تحوطها من الشرق . . إلى الغرب . .
كان يتحدثُ بصوتٍ متقطع ، عميق ، وكانت يدهُ التي يضعها برفق ، على المكتب ، تبدو صلبة معروقة ، كأنها أرضٌ محروثة .
ولأولِ مرة يجعلها صوتهُ تسترخي . . ويفلتُ القلمُ من أصابعها ، وتفكرُ لماذا يتكلم هكذا ويجيء إليّ وهو يكادُ يحتضرُ ؟ !
أحستْ الآن بقوةِ المكان . ليستْ هي في مدينتها الجامعية ، ولا في رحلة . وغريبٌ إنها لم تذهب أبداً إلى القرية ، ولم تصعدْ إلى سطح المدرسة ، حيث تجلسُ بضعُ مدرسات في غرفتهن .
لامس ظهرها جلدَ الكرسي . وأصغت باهتمام إلى ما يقوله العجوزُ :
– كنتُ هنا . . قبلك . . لدي كوخٌ . . لتحفيظ القرآن . . وكم ألهبتُ الأيدي . . والأرجلَ بعصاي . . اللاسعة ! وكم هاجمتُ . . الرجالَ . . والنساءَ . . بسياط كلماتي ! . . ثم سافرتُ . . إلى الدنيا . . ورأيتُ . . وشربتُ . . وغنيتُ . . وقامرت . . وتبتُ . . وتزهدتُ . . وحاربتُ . . ورأيتُ أكداساً من البشر يُلقَــَون في الحفر . . وجئتُ . . ورحلت . . وتزوجتُ ثلاثَ مرات . . ونصف القرية أولادي . . وأحفادي . . كانت هذه البرية . . الجرداء . . كلها حدائق لنا . . والآن . . لا مكان . .يأويني . . غير مجلسٍ . . ممتلئ بالرجال . . دائماً . .
توقف قليلاً . بدت المديرة تحسُ بالألم والقلق . عندما عـُينت في القرية ، أصابتها بهجة شديدة ، واندفعتْ بسيارتها عبر الشوارع المزدحمة والبساتين ، وصاحت : سأكونُ شعلة من الضوء والعلم ! والآن هذا الرجلُ الأشيب وكلماته المتجرجرة كأنها رصاصات توجه إلى حلمها . كيف ابدأ من قبل الصفر ؟
رمقها العجوزُ لحظة ، وواصل حديثه :
– البارحة . . هتف الشباب . . وصرخوا . . أرادوا . . أن يحملوا . . النارَ لحرق المدرسة ! . . هدأتهم . . في الليل . . لا نستطيع . . أن ننام . . موسيقى الغرباء . . تضجُ في . . الظلام والصمت . . البارحة . . بعد أن خرجتُ . . من مجلس الحاج . . عمران . . سرتُ نحو بستاني القديم . آه أتذكر هذا . . المكانَ . . هذه أرضي وأرض أبي . . طالما حرثتُ وحفرتُ وسقيتُ . . وتسلقتُ الأشجارَ . . في تلك البقعة . . التي صارت . . بركة . . الآن . . سقطت أمي . . نزل أبي من فوق النخلة . . على أثر صراخنا . . كنا وأخوتي . . نلهو في الجدول . . وإذا أمي تسقط . . وهي تحملُ . . صرةَ الأكل . . حملها أبي . . إلى الكوخ . . حيث ماتت هناك . . على أرض الكوخ كانوا . . يرقصون . . وكانت تنطلقُ . . موسيقى زاعقة . . عنيفة . . منذ زمنٍ بعيد . . حاولتُ أن . . أجمعَ . . نقوداً . . لشراءِ . . هذه الأرض . . ولكني . . لم . . أستطع . . سا. . فرتُ . . تغر. . بتُ لك . . ني . . كنتُ . . أودُ . . أن تكون . . هذه . . القريية . . جنة . .عملتهم . . حفظتتهم . . القرآن . . ولكن كأن . . شيئاً . . لم يكن . . هذا . . البستان . كان ملك . . أبي . . وعند .. ما . . طردوه ه ه ! تعلمتُ . . كلَ شيءٍ . . من أجل . . أن . . أجمعَ ثمنه . . ولكن . . ها هو . . العمرُ . . يمضي . . وليس . . لي . . مكان . . أنامُ . . فيه !
صمتَ برهة . . وجدتــَها طويلة . . إنه هادئ في حزنه ، ولكن عينيه الصغيرتين المحاطتين بأخاديد وظلماتٍ تتألقُ فيهما شرارة من فرح غامض .
تطلعتُ إلى العجوز مباشرة ، ورأتهُ يحدقُ فيها بودٍ غريب ، وسمعته يدندن .
كان يتذكر حينئذٍ مجلسه في ذلك الكازينو ، والمغني يصدح ، وكان الجبلُ شاهقاً ، والمدينة تحته مليئة بالأضواء ، وكأنها درٌ منثور . رفع الكأسَ في صحة الجبل والغيم والغناء الشجي ، وصفق وغنى ونزل ، والضبابُ يشعشعُ في الفجر البهي.
كأنه قال شيئاً ولم تسمعه ، وخاطب امرأة مبهمة . نهض ، حياها بخفوت ، ورأت اليد الأخرى قابضة على شيءٍ ما . سار في الممر ببطءٍ . كانت الفسحةُ قد بدأت ، وجسدُ المدرسة الحي يضجُ بالضحك والصراخ . أحاطت به ثلة من الصغيرات . رأت ، من النافذة ، كأن قبضته تسترخي فجأة ، وتتساقطُ غيمة ، أو حفنة من تراب .
ـــــــــــــــــــ
4 – سهرة «قصص»، المركز الثقافي العربي، بيروت، 1994.
❖ «القصص: السفر – سهرة – قبضة تراب – الطوفان – الأضواء – ليلة رأس السنة – خميس – هذا الجسد لك – هذا الجسد لي – أنا وأمي – الرمل والحجر».
تحولات الرمز في شعر قاسم حداد
محمد البنكي ومحاولة لتفسير جديد
كتب : عبـــــــدالله خلـــــــيفة
عقدت اسرة الأدباء والكتاب ندوة تحدث فيها محمد البنكي عن التجربة الشعرية الشاملة لقاسم حداد، وقد ركز على موضوع «تحول الرمز» في تجربة الشاعر. مستخدما بعض أدوات التحليل البنيوي .
وقد انطلق الدارس من تحليل الرموز والكلمات الأكثر تكراراً في تجربة قاسم ؛ واضعا إياها في جداول احصائية، كرموز: الرؤية ، الماء ، الموت ، الطفولة ، الأرض ، البحر ؛ الدم الحلم ..
وقد وجد ان رمز «المرأة» هو الاكثر حضورا واستمراراً ، خصوصا بعد ديوان «القيامة» ، وقد حاول أن يفسر تجربة قاسم حداد من خلال هذا الرمز .
[ إذ أن استهدافنا الحاضر هو التأكيد على دور المرأة كرمز يخترق تجربة قاسم حداد ويصوغ تحولاتها].
وفي سبيل جعل الرمز، مفتاحا أساسيا لفهم العالم الشعري يستعين محمد البنكي بالكثير من الاستشهادات والصيغ، ولكن من اهمها وما فهمة من أراء سوسير، وهو احد اقطاب البنيوية اللغوية، فيقول:
[ منذ اللحظة التي اكتشف سوسير اعتباطية العلاقة بين الدال والمدلول متيحا للدال حرية تأسيس مدلوله لم يعد ممكنا التراجع عن هذا التحرر؛ الذي يرفع قيود الظرف المعجمي والبيئي كمتحكم مطلق يقرر الدال ويصوغ مدلوله].
تحرير النص
في هذا الاستشهاد يتضح طبيعة المنهج الذى يستعين به البنكي لتفسير شعر حداد ، فالقصد هو تحرير نص حداد من مواصفات البيئة والظروف والتجربة التاريخية ، التي تشكل النص في بوتقتها ، أي قطعة من سياقه الاجتماعي ، ودراسته كبنية فنية منفصلة تمام الانفصال عن البيئة الاجتماعية التي ظهرت فيها.
إن اللغة الشعرية، مثلها مثل أي نوع لغوي ، حتى في تصور سوسير [نظام إشارات تعبر عن الأفكار فهي لذلك تقارن بنظام كتابة الألفباء الصامتة والطقوس الرمزية والصيغ السياسية والإشارات البنيوية في الأدب]. روبرت شولز اتحاد الكتاب العرب . دمشق ص 28.
فلا يمكن للنظام اللغوي الشعري؛ ان يفهم خارج الأفكار وبالتالي خارج سياقاته الاجتماعية – الأيديولوجية .
ولكن الدارس يتعمد فصل اللغة كنظام اشاري وتعبيري ، عن الأفكار وتاريخها ، وعن البنية الاجتماعية ، وبالتالي عن الصراعات والحياة بألوانها الحقيقية .
ولهذا فإنه ؛ بعد أن يفصل اللغة الشعرية عن سياقها التطوري ، التاريخي ؛ يفسرها منذ منتصفها ، منذ كتابة قاسم حداد لديوان «القيامة» ، لا أن يتتبع التجربة الشعرية في نموماً العضوي ، في ملموسيتها ، في نصوصها المحددة ، وتعاقب واختلاف النصوص.
وحين يأتي للرموز يعددها كمياً ؛ ويهتم بالرموز الأكثر تكراراً ، ولا يدرس تطور منظومة الرموز في نموها المتدرج ؛ فهي تعبير عن منظومة الأفكار ، وتتابعها ، وتناقضها ، وصراعها، وتبدلها.
كما أن هذه الرموز ، ككل البنية الفنية ، مرتبطة في نهاية السياق بعملية التحول الفكري ــ الاجتماعي . فرمز «النار» ــ ولا يأتي ذكره ــ ورد عشرات المرات في الدواوين الثلاثة الاولى، مع مشتقاته، ثم اختفى في الدواوين التالية ليستبدل برمز مركزي آخر هو «الماء» . وجاءت الدواوين التالية : القيامة – قلب الحب – انتماءات .. كمرحلة وسط تمثل لحظة صعود فنية كبيرة ، ثم تعقبها المرحلة الأخيرة، الأكثر توغلاً في الذات ، وهذه التبدلات تقوم على علاقة خاصة بين الشاعر والواقع.
الشاعر والواقع
إن الدارس بقطعه هذه العلاقة بين الشاعر والواقع ، يستهدف عدة عمليات فكرية . فهذا القطع يتيح دخول التفسير الأيديولوجي للشعر. لا التفسير العلمي . فالتفسير الأيديولوجي يقود الى اسقاطات فنية خاصة ؛ ويأخذ مناطق معينة من التجربة الشعرية فاصلاً إياها عن مناطق اخرى ؛ ويركز على رموز معينة ظهرت في الفترة الأخيرة ، ليمددها على طول التجربة ؛ ويبتعد عن دراسة بنية الدواوين الاولى ، ذات الرؤية السياسية المباشرة، المرتبطة بشكل ملموس بقضايا محددة .
هذه الرؤية النقدية تتيح تغيير الأدوار في الشعر ، فيتحول الشعر إلى نثر ؛ والنثر الى شعر ؛ المرحلة الشعرية الأخيرة تتحول الى كل الشعر . هنا يدخل التفسير الأيديولوجي للشعر او التبرير الفكري للنص الأدبي ؛ لا النقد التشريحي ، الباحث عن السلبي والايجابي ، المعتم والمضيء . النثري والشعري الخ ..
وهذا ما يجعل النقد ليس فتحا للنص ، أو نصاً آخر موازياً ، بل ملحقا وتابعا ومبرراً للنص الشعري .
وفي سبيل ذلك يجري حشد الاستشهادات وأقوال النقاد البنيويين ، بما لا يقوي عملية البحث الموضوعية ، بقدر ما يثقلها ويرهلها بحشود الأسماء .
الدارس محمد البنكي من الأسماء التى تشق طريقها في الدراسة الأدبية ، وبحثه رغم ملاحظاتنا عليه ، يبشر بباحث أدبي مجتهد وعميق .
September 14, 2023
أزمة اليسار
أزمة اليسار
تتردد كلمة أزمة اليسار وغياب اليسار في الكثير من المقالات، تعبيراً عن فقدان لقوى أزمة اليسار معبرة عن أغلبية الشعب.
كان اليسار نتاج صيغ مستوردة وكان عالمياً يشتغل لإنتاج رأسماليات حكومية، أُضفيت عليها شعارات إشتراكية، والتحمت هذه الشعارات بالمطلق، أي رئيت وكأنها أبدية، مما جعلها نسخاً من الأديان.
وقد كانت الأديان في بدايتها ثورات معبرة عن أغلبية الناس، وهي الخميرة الأساسية، التي تم دفنها في الأشكال العبادية المفارقة لتطور الناس وتقدمهم، وغدت الأديان معبرة عن الأقليات الإستغلالية فركزت على الأشكال كأدوات سيطرة على الجمهور.
ولهذا حين حاول اليسار أن يعبر عن الإغلبية الشعبية كان يواصل سيرورة الأديان، في تلك الثورات، لكن اليسار في العالم العربي لم يتواصل مع تاريخه العربي، بل استورد يساريته من الخارج، وهي عملية ضرورية في جانب الأدوات النظرية التحليلية لأنها نتاج تطور العلوم التي هي خبرة بشرية عالمية، والتي كان ينبغي أن تتوجه لكشف تطور المجتمعات العربية، وهي غير ضرورية بل مضرة حين تغدو جلب قوالب وتركيبها على تطور الشرق المختلف عن الغرب.
في التجارب (الاشتراكية) التي تحولت إلى أديان حديثة، نجد العمل الهام الذي إستغرق سنوات على تطوير حياة الأغلبية، لكن من خلال هيمنة حكومات مطلقة، وحينئذٍ يغدو الفكر (الاشتراكي) دينياً ويصبح شيئاً فشيئاً معبراً عن الأقلية الاستغلالية، لأن البيروقراطيات تنفصل عن الناس وتحول جزءً مهماً من الفائض الاقتصادي لمصلحتها.
فالوعي(الاشتراكي) هنا يكرس شمولية الشرق؛ وهي سلطة مطلقة أبدية، وإدعاء بامتلاك الحقيقة والقضاء النهائي على الشرور، وتحويل الزعماء الموتى إلى مزارات ومعبودين، حتى يتم دفن الفكر النقدي العقلاني معهم.
هذا الوعي الديني هو الذي هيمن على اليسار العربي، فتم نقل إشتراكية دينية بيروقراطية ذات نصوص شبيهة بالكتاب المقدس، الذي لا يمسه سوى المطهرون، وهي في ذات تنكر تراثها الديني، وليس الأشكال التقليدية فقط بل كذلك المضمون الثوري المتواري في بداياتها.
لكنها تنزلق نحو الأشكال التقليدية، فالمقدس المحافظ موجود في لا وعيها في أكثر الأحيان، خاصة أن الكثير من مناضليها هم من الفقراء والعمال. فالأشكال التقليدية أكثر حضوراً في الحياة اليومية، كما أن الاشتراكية ليست عند الأغلبية سوى شعارات.
بسبب المواجهات بين الرأسماليات الحكومية الشرقية التي تصورت نفسها نهاية للتاريخ، وبين الغرب، حدث انتصار للرأسماليات الغربية الأعرق وكذلك حدث تطور آخر في الرأسماليات الحكومية الشرقية، فكشفت عن وجهها الرأسمالي، وتجاوزت إختناقها التقني الانتاجي، وقاربت الديمقراطية الغربية في جوانب شكلية.
وبهذا فقد اليسار العربي سنده العالمي، وأعتبر ذلك نتاج خيانة للاشتراكية أو لتغلغل الجواسيس، وغير هذا من السببيات المسقطة بشكل ذاتي، فأصيب بصدمة دينية، عُوضتْ في جوانب منها بالرجوع إلى الدين المحافظ، الدين كما صاغتهُ قوى الإستغلال، وكان الرجوع للمحافظة والأشكال العبادية والطقوس وغيرها من المظهريات، جزءً من تدهور طويل في هذا الوعي (اليساري).
وإذا كانت بعضُ القواعد انهارت وذابت في المظهريات الدينية الطافحة، فإن جزءً من القيادات تمرس بالأشكال الانتهازية، والمصلحة الذاتية، والميوعة الفكرية، والتوجه مع الغالب أي مع الأطراف الدينية المحافظة بتنوع تياراتها وزئبقية مواقفها وتوجهها نحو الانضمام إلى قوى الإستغلال السائدة.
إن الطبيعة الدينية في هذا اليسار تعتمد على قواعد شعبية لم تتجذر في المعرفة العلمية، فليست الأفكار اليسارية – كما يُفترض – شعارات وإنما نظرية متغلغلة في كافة العلوم خاصة الاجتماعية منها.
وأغلبية العمال ليس لديها وقت للقراءة المعمقة إن لم يكن ليس لديها وقت للقراءة أصلاً، ولهذا هي تعيد سير آبائها الذين بعد أن ينتهوا من العمل يتوجهون للترفيه أو إلى دور العبادة يشحنون أدمغتم بالخطب المنبرية، ثم مع الأيام تضعف صلاتهم هناك بأعماق الدين وهنا بأعماق اليسار وجذوره التاريخية.
وتصبح المظهريات العامة الدينية واليسارية بينهما مشتركة؛ البكاء على الشهداء، وعمليات الشحن الموسمية للرمزية المعبودة، وتسلل الطائفية عبر تنحية رموز وتعظيم رموز دينية، تنحية النساء عن التنظيم والقيادة، وغير هذا من الجوانب التي تغدو في الشباب أكثر بروزاً وهي التي لم تشهد النضال اليساري في عنفوانه.
يساعد على ذلك نوعيات التنظيمات اليسارية خاصة التي صارت أندية وشللاً، وفقدت مضمونها الجوهري وهو الالتحام بالواقع والجمهور والصراع معهما، من أجل تحليل واقع الأغلبية وتطوير مساهمتها في التغيير.
وإذا كانت لا تدرس الواقع، ولا تعتمد على القراءة والإنتاج المعرفي التحليلي للحياة، ولا على جهود أعضائها تقرأ الواقع وتصارعه، فإنها تغدو مذبذبة، انفعالية، عفوية، تتبع تيارات الواقع ولا تقودها.
ولأن الواقع يتمثل في صراعات الطائفيين المسيطرة فإن حركة (اليسار) تصير بينها، استفادة منها، وميلاً إلى بعضها، ونقد أخرى، لأنها تكون قد إنزلقت بينها وصارت جزءً منها.
صارت العفوية أساس عملها وهي التي تتيح نمو الانهازية في صفوفها.
في إطار تحليله لأزمة اليسار يقول إحد الكتاب العرب:
( عندما إنضم ابناء جيلي لمعسكر الفكر الماركسي المتمثل اساساً بأحزابه الشيوعية، كنا نتفجر بالطاقات الفكرية والنضالية، والثقة التي لا تتزعزع بصحة نهجنا، وبأننا قادرون، رغم ضعفنا الواضح في مناطق ما من العالم، على تحقيق ما كان يبدو مستحيلاً، بالانتصار على الاعداء الطبقيين والانضمام الى العالم الحضاري المتنور، عالم العدالة الاجتماعية والحرية البعيد عن الاستغلال، الا وهو العالم الاشتراكي. وكنا مؤمنين بنهجنا متعصبين له بشكل مطلق. ولكن اتضح فيما بعد ان ما كان يبدو قريب التحقيق اصبح مستحيلاً، وأقرب الى معجزات السيد المسيح وكنا قد تجاوزنا جيل الحماسة والاندفاع، وبدأنا ننظر للقضايا الفكرية والاجتماعية بواقعية ومنطق مختلفين عن أساليب التلقين الحزبية التي واصلت (والمرعب انها لم تتغير حتى اليوم) التمسك بنفس النهج والتصرف وكأن ما جرى في النظرية والتطبيق مجرد خطأ مطبعي سيجري تجاوزه وتعود الثوابت الايمانيه الى مكانها الطبيعي. فالحديث ليس عن نظرية أو فلسفة تتعارك مع الواقع الفكري والاجتماعي، انما عن دين له كهنته وبطاركته ونصوصه المقدسة بل وله حرمته الدينيه. وكأن المعسكر الاشتراكي لم ينته، ونموذجه الاشتراكي هو النموذج الوحيد القادر على انقاذ البشريه… رغم ما تبين من فساد بعد الانهيار المدوي، ومن انحرافات، وتجاوزات للفكر العظيم لمؤسس الماركسيه- كارل ماركس، قزمت فلسفته وحولتها الى ستالينية ضيقه الافق مارست أبشع اشكال القهر والاستبداد ضد شعوب الإتحاد السوفياتي والمجموعة الخاضعة لها في اوروبا الشرقية.)
حتى في إطار نقد الفكر اليساري وتجربته تتواصل عقلية الفكر الديني المحافظ، فمصطلحات مثل(عالم العدالة والحرية البعيد عن الاستغلال)، تعيدنا إلى ذلك الوعي فهي تصويرٌ للمجتمع السوفيتي كمجتمع ديني، كجنة أرضية، انحرفت إلى النار بسبب شخص كافر هو ستالين، لم يمش على صراط الإمام الأكبر ماركس.
وهناك جوانب في الفقرة السابقة المستشهد بها حقيقية، لكن الفقرة لم تقترب من فهم أساليب الإنتاج، وهي الفكرة الرئيسية لفهم الماركسية، ف(عالم العدالة والحرية البعيد عن الإستغلال) كلامٌ خيالي، وهو كلام مقصود به القفز على التشكيلة الرأسمالية، وهو ما كان المطب الرئيسي لمنظومة ما يُسمى ب(الماركسية – اللينينية) التي تمظهرت في مؤسسات الأحزاب الشيوعية، والتي اعتبرت هذه التشكيلة غير ضرورية، ويمكن القفز فوقها للذهاب إلى الاشتراكية مباشرة، وهي تعبر عن عقلية مغامرة غير علمية، لهذا كانت في العمق وعياً دينياً، وفي الظاهر إلحاد عدمي، يعتقد بإمكانية الطيران فوق السببيات الاقتصادية، وصناعة الواقع كما يهوى ويتحول إلى دين يسحق الأديان.
لكنه كان يصنع الرأسمالية الحكومية الدكتاتورية، فليست المسألة مسألة(رغم ما تبين من فساد بعد الانهيار المدوي)، بل الأمر أخطر وأكبر من ذلك، إنها عملية صنع المنظومة الحكومية الشمولية تلك، أي الأمر يعود لتكوين دكتاتوري في العلاقات الاجتماعية والسياسية الشرقية الضاربة الجذور في الاستبداد. فاستيراد الروس للماركسية كان إستيراداً بعقلية دكتاتورية تمظهرت بقوة في الحزب البلشفي، وكان المناشفة، المنادين بالديمقراطية أقرب للماركسية! وهكذا كان لينين صانعاً لهذه الدكتاتورية الرأسمالية الحكومية، منذ بداية تنظيم البلاشفة في الخلايا الأولى!
ولهذا كانت الرأسمالية الحكومية الدكتاتورية هي الممكن الوحيد لدى مثل هذه المؤسسات السياسية، وليس هذا ببعيد عن القوميين العرب والبعثيين والطائفيين الحالييين، فمهما كانت مصادر نقلهم للأفكار، فهم في النهاية يعملون لقيام رأسماليات حكومية دكتاتورية، فهذا له جذور في تاريخهم السابق لا يقوموا سوى بقولبتها على الحاضر. لا يختلف في هذا لنين عن الخميني عن عبدالناصر عن هوشي منه عن كاسترو عن صدام الخ..
وهي علاقات تجعل (اليساريين) يرون في الطائفيين أخوتهم في النضال!
كان إنشاء قطاع عام أساسي في روسيا وتشجيع القطاعات الخاصة المنتجة و تطوير الريف وتحديثه بشكل تدريجي والسماح بتعدد الأحزاب والحريات العامة والانتخابات الحرة كان أفضل للتجربة الروسية، وهو ما صار وامضاً في السياسة الاقتصادية الجديدة في العشرينيات من القرن العشرين في الاتحاد السوفيتي، التي لم يحولها لينين إلى منظومة مصراً على النظام الحكومي الدكتاتوري، فـُنسفت هذه العناصر الديمقراطية مع تصاعد الدكتاتورية بشكل شامل.
وإطاحة ستالين بأعضاء المكتب السياسي الآخرين وقتل أغلبهم ليست مسألة عبقرية شخصية، بل هي نتاج تصاعد البيروقراطية الحكومية وتصاعد الأجهزة السرية البوليسية والعسكرية التي وقعت خيوطها بين يديه!
ثم عممت هذه التجربة على البلدان والأحزاب الأخرى باعتبارها إشتراكية!، وقد هيجت هذه السياسة الصراعات الدولية الكبرى وبررت صعود الفاشيات في أوربا الغربية.
لم يقم اليسار العربي بنقد تجربته النضالية الدكتاتورية إلا بأشكال عمومية ومجردة ولم يدرسها بشكل نقدي من خلال تاريخه الخاص، لأسباب فكرية بدرجة خاصة فهو الماركسي لا يعي الماركسية، إلا باعتبارها قوالب شرقية استبدادية، وعبادة لقادة، وأبوية وطنية وعالمية.
هو جزء من جماعة تسودها الأبوية وغالبية عمالية تكره الرأسمالية بسبب عيشها في مصانع وشركات وتحن لإزالة الاستغلال، وهي تعاني من ظروفها هذه ولا تستطيع أن تغير مهنها، ولا تدرس الثقافة السياسية كذلك، وبالتالي يكون لها وعي مناهض بشكل عفوي للرأسمالية، وتمضي غريزياً للشعارات الاشتراكية، دون فهم عميق لها.
ومقاومة الاستغلال الرأسمالي وتحسين ظروف العمال وأجورهم أمور هامة جوهرية، ولكن مسألة إقامة نظام سياسي إشتراكي شيء مختلف.
وغالباً ما لا يفهم حتى قادة العمال هذين الأمرين، نتيجة لذلك الوعي، خاصة في دول تعيش نظاماً تقليدياً، متخلفاً، كما أن(الماركسية – اللينينية) التي تمتْ صناعتها في دول الرأسماليات الحكومية كرست مثل هذه الأمية الفكرية.
ولهذا فإن واقعاً معقداً كالذي نشهده حالياً لا تستطيع مثل هذه اليافطات الشعارية أن تحلله وتفهمه، وتتأخذ تجاهه موقفاً نقدياً يؤدي إلى تقدم حياة الغالبية من الجمهور.
لقد خلقت الطائفيات مثل هذه المواقف الملتبسة، وتؤدي العفويات السياسية والانتهازية والمعارضة الغريزية، أدوارها في تأييد الأحزاب اليسارية للطائفية الشيعية أكثر من الطائفية السنية، خاصة في بلدان المشرق ما عدا مصر وفلسطين والأردن، التي لها سمات مذهبية ودينية أخرى، فالكثير من قواعد الأحزاب اليسارية تأتي من العمال والفقراء، المشحونين بالدعاية الطائفية، ولا تتمكن مداركهم من فرزها وتحليلها، وحياتهم اليومية تجري بين هوائها، ولهذا يؤيدونها دون إدراك لمخاطرها.
والسياسات الطائفية لكافة دول المشرق مرفوضة، ولكن الأخطر فيها حين ترتبط بمشروعات توسع، وعسكرة، وتقمع شعوبها في الداخل، ولهذا فإن عدم نقد مثل هذه السياسات في الأحزاب(اليسارية) هو بحد ذاته مبعث قلق كبير، ولعل أسبابه تكمن في مجاملة طائفتها، وأعضائها المنتمين إليها، وحينئذ تكون السياسة(اليسارية) قد وصلت إلى الكارثة.
كما أن الطائفيات السنية لا تخلو من سلبيات كبيرة كذلك، فالعسكرة وسياسة الأجهزة العسكرية والبوليسية وإرسال الرساميل للعيش في الخارج، وعدم المساواة في المناطق وبين المواطنين للدخل الوطني، هي وغيرها سلبيات يجب نقدها بقوة من قبل الأحزاب اليسارية، لكن في هذه الفترة الحالية تكون سياسة المحافظين الدكتاتوريين في إيران هي الأكثر خطورة على حياة المنطقة.
مثلما تتوج خطأً السياسة الطائفية السنية في تأييد القاعدة.
تحدث المجاملات والتغاضي عن ذلك البلد وتلك الطائفة فيقال أن ذلك لحساسية الموقف! وليس ذلك سوى للحفاظ على مظهر هش للتنظييم اليساري، الذي تقاعد مبكراً من اليسار، لكنه يخدع نفسه بمظهريات، وعبر أعضاء لا يقرأون، ولا يزاولون نشاطاً سياسياً تحويلياً للواقع.
بطبيعة الحال يمكن لمواجهة الجمهور المتخلف والمتعصب أن تجرى وسائل الارشاد بطرق حذرة، وعبر التمييز بين رموز التراث والأنظمة التي تتاجر بها، لكن الحقائق يجب أن تقال، وأن تترسخ في وعي هذا الجمهور، فالتناقضات داخل الطوائف والأنظمة الشمولية تحتدم، وسيكون لها في المستقبل مظاهر حادة تصل بالقوة حتى إلى عقول أكثر الناس تخلفاً عن متابعة الأحداث وفهم الواقع.
ولو كان اليسار ذا مواقف نقدية من الظاهرة السوفيتية والصينية والناصرية والبعثية واليمنية الجنوبية وغيرها، لكان قد طور عقلانيته، وكان أكثر بقاء واتساعاً، وقلل من كوارث الأنظمة والحركات الطائفية، ولكن ذلك لم يحصل، وهو لا يحصل الآن تجاه الأنظمة التي ورثت السابقين، مما يدل على ضعف تنامي تلك العناصر النقدية العقلانية، وهيمنة العفوية المؤيدة للدكتاتوريات الجديدة، ومجاملة المتخلفين، والاستفادة منهم لمصالح عابرة، بدلاً من تبصيرهم بوعورة الطريق، وعرض تجربتهم هم كيساريين بلسبياتها وإيجابياتها، فالجميعُ نتاجُ نسيجٍ واحد شرقي شمولي طائفي، لا بد من التعاون لتغييره.


