ساطع الحصري
لم يكن للعرب وعي قومي قبل القرن التاسع عشر، وبدأ ذلك يتكون مع أزمة الإمبراطورية العثمانية المتعددة القوميات والأجناس والأديان. وقد قامت العناصر الليبرالية الأولى التي ظهرت في لبنان بنقل المنتجات الفكرية السياسية الغربية الجاهزة الخاصة بالعلمانية والقومية دون أن تتهيأ لها الظروف الموضوعية لتشكل تياراً ديمقراطياً، كما فعل بطرس البستاني الذي شدد على «أهمية تمتع أهل الوطن بحرياتهم ، ومن ضمنها حرية الضمير وطالب بصورة صريحة، بفصل الدين عن الدولة وعن السياسة»، «عن رهانات النهضة في الفكر العربي، ماهر الشريف، دار المدى، ص ١٩٧» وقد تابع ذلك مفكرون آخرون كأمين الريحاني وغيره.
غير أن هذا الوعي العلماني الديمقراطي المعبر عن بنية رأسمالية متطورة لم يكن من نتاج داخلي للبنية العثمانية — العربية الدينية الإقطاعية في ذلك الحين، رغم تعبيره عن أجنة جديدة للفئات الوسطى العربية المحدودة في المشرق العربي.
وكأن مخاض الإمبراطورية العثمانية يقود إلى انفصال أجزائها، وبدأت قوى سياسية عربية في المشرق بإنشاء هيئات سياسية تحبذ قيام نظام لامركزي في ظل الخلافة العثمانية، لكن تيار التتريك المتصاعد واعتلاء القوميين الأتراك المتطرفين السلطة حول مطالب قوى اللامركزية العربية إلى الانفصال، وجاءت «الثورة العربية الكبرى» وتقسيم دول المشرق لتصعد بشكل كبير الأطروحات القومية العربية.
إن ظهور الأفكار القومية العربية في دول المشرق العربي تعبير عن الدور التاريخي الذي قام به هذا الجزء من العالم العربي كعصهر للأفكار العربية – الإسلامية – والدينية القديمة، حيث كان عليه دائماً أن يبلور سمات المشرق المستقل وحين تنضم إليه مصر يكون الشمال العربي الزراعي قد اكتهل.
لكن يغدو تشكيل الأفكار القومية الان هو وليد البُنى الاجتماعية العربية الراهنة بتبعيتها للمركز العثماني المنهار وللمركز الغربي المتشكل حديثاً، فهناك مالك يحتضر ومالك جديد يتسلم.
وقد كان المنظر الأول للفكر القومي ساطع الحصري قد جاء من عاصمة الأتراك لكي يدعو العرب لقومية هو خارجٌ عنها ولا يتكلم بلغتها . كان ارتباطه بالأشراف (الهاشميين) الُمقتلعين من مكة والباحثين عن سلطة بمساعدة الإنكليز هو المناخ السياسي الذي تشكلت فيه الدعوة القومية العربية الأولى.
كان ساطع الحصري قد «استقى مفاهيمه القومية من مفكري القرن التاسع عشر الأوروبيين، ولا سيما من القوميين (الرومانسيين) الألمان، حيث اقتبس من أرنت وهردر وهيغل، وأعجب، إعجاباً شديداً، بفخته وخطبه إلى الأمة الألمانية، التي ركزت على مكانة اللغة والتاريخ والتوحيد والتربية القومية في حياة الأمم»، (٢).
إن عناصرَ الاستيراد هنا تعبرُ عن العلاقة بين المستورد وثقافة المنشأ، فساطع الحصري يقومُ باستيراد عناصر من ثقافة قومية تعيشُ ظرفاً مشابهاً، فألمانيا التي كانت تنتقل من الإقطاع إلى التحديث الرأسمالي تجري الانتقال عبر سيطرة بروسيا وعبر الملكية، وكذلك تقوم في الوقت ذاته بتشكيل الوحدة القومية عبر الجيش.
وتقوم المثالية الرومانسية عبر فخته بتشكيل خطاب قومي ثقافي لا يحفر في الركائز الاجتماعية السفلى للوحدة، فلا يتطرق إلى العوامل الموضوعية للوحدة القومية كالسوق ووحدة الطبقة البرجوازية والشعب والديمقراطية، وذلك تعبير عن نزعة شمولية عسكرية غائرة تقومُ بصهر المجموعات الشعبية الألمانية تحت قيادة عليا قاهرة سيكون تتابعها لدى الإمبراطور غليوم ثم المستشار هتلر.
وماكان يفعله ساطع الحصري هو نقل المنتجات القومية الثقافية من البناء الألمانى إلى البناء العربي، وصياغتها بأسلوب شعري مشابه ، لكن مستوى البنية الألمانية يختلف عن البنى العربية عامة، يقول ساطع الحصري:
«إن الأمة كائن من الكائنات الطبيعية الحية.. والأمة العربية بالذات كيان قديم، قائم منذ آلاف السنين، تشكّلُ اللغةُ العربية روحَها والتاريخُ ذاكرتها وشعورها، وإن القومية العربية التى تعني حب هذه الأمة، قد ظلت كامنةً رغم الضعف الذي أصاب الوعي القومي العربي في مراحل تاريخية معينة، وتجلى تأثيرها، على المستوى الروحي، من خلال روح العروبة والروابط المعنوية التي تربط العرب» يحول ساطعُ الحصري هنا العربَ إلى كائنٍ متجوهر خالدٍ سرمدي يتعالى فوق ظروف الزمان والمكان، فيوحدهُ بالطبيعة، وهذا أثر رومانسي واضح. إن هذا الكائن الخرافي القومي ليست له جذور على الأرض الاقتصادية الاجتماعية فقد ظهر هذا الكائن مكتملاً منجزاً فتغدو الأمة ذات مصدر غيبي إلهي، وليست ذات سيرورة تاريخية، ويتمظهر جوهرها عبر اللغة، وكأن اللغة هنا معطىً ميتافيزيقياً وليست مصطلحات للأشياء وللحيوانات والحروب وللحياة البدوية المُعاشة، ثم يقفز الحصري عبر هذا الإنشاء من ظهور الأمة العربية الغيبي هذا إلى تكون القومية العربية التي ظهرت في القرن العشرين، وكل الحقبة السابقة لا تعني شيئاً في منهج يجوهر الذات القومية ككيان خارج الزمان والمكان.
وبعد أقفز على تضاريس تكوّن العرب القديمة يقوم بالقفز على تضاريسهم الحديثة:
«إن العناصر الأساسية فى تكوين القومية.. هى وحدة اللغة ووحدة التاريخ، وما ينتج عن ذلك من مشاركة في المشاعر والمنازع، وفي الآلام والآمال. إن جميع الناطقين بالضاد، جميع أبناء البلاد العربية، يكونون أمة واحدة بهذا الاعتبار. وما القومية العربية إلا الشعور والإيمان بوحدة هذه الأمة، وهي تحتم العمل بكل نشاط لإزالة الحواجز القائمة بين أجزائها المختلفة».
يلغى ساطع الحصري هنا الظروف الموضوعية لتشكل الوحدات العربية المعاصرة، فكما أن الماضى ذا البنى المختلفة لسيرورة العرب بلا قيمة فكذلك تشكلهم الراهن في أقاليم أو دول بلا قيمة مهمة، فالكيان العربي السرمدي القومي في حد ذاته خارج مثل هذه الظروف، وما يظهره هو المشاعر واللغة. وحتى هذه اللغة التى يأخذها كعنصر مطلق يتصورها في اللغة الفصحى المكتوبة، لأن اللغة الفصحى غير الموجودة على الأرض وفي أحاديث الناس، هي الموحّدة التجريدية للعرب. وهذا ما سيؤدي إلى خصام نخبوي قومي للهجات العربية وآدابها.
ويتضح الجاذب الرومانسي الخيالي في قوله بأن القومية (الا تنشأ من المنفعة، بل هي عاطفة تصدر من أعماق القلب».إن الحصري باعتباره فرداً من الفئات الوسطى الملتحقة بالنظام الإقطاعي – الديني المتكون وقتذاك بالعراق بقيادة فيصل تغدو لغتها الفكرية معبرة عن سياسة هذا النظام، فالنظام الملكي إذ ينفصل عن الإمبراطورية العثمانية ويهزم الرابطة العثمانية، يتطلع إلى مشروع عربي إمبراطوري، وتغدو الركائز لهذا النظام دعاية فكرية واستثارة للمشاعر الجماهيرية البسيطة، فيغدو إلحاق العرب عاطفياً، وليس منهجاً يقرأ ظروفهم الموضوعية ويغيّرها.
وهذه اللغة القومية العاطفية التي يشكلها فرد ملتحق بالنظام الإقطاعي الديني يقطع مسارها عن المصدر الفكري الألماني الذي استقى منه بعض الشعارات، أي لايرى دور البرجوازية الألمانية التي شكلت الروابط الموضوعية من مواصلات ومصانع وعلاقات اقتصادية كبيرة بين الولايات الألمانية المُقسّمة، وتبعيتها للنظام الإقطاعي الملكي البروسي المتشكل بالحديد والنار، بل يقوم ساطع الحصري وقد جعل القومية العربية كائنا خيالياً رومانسياً بالدعوة لوحدة وهمية، يمكن اجتيازها بسهولة بلا قطارات ومعامل مشتركة الخ.. بل عبر الجملة العاطفية المنتفخة.
ومن هنا فإن تضاريس تكون الأمة العربية في العصر الحديث غير مدروسة، فقد كانت أجزاء من المشرق العربي إلى زمن قريب من عهد الحصري ذات وحدة سياسية عامة عبر السيطرة العثمانية، وكانت هذه الأجزاء يحدث بينها تفاعل، ولكن هذا التفاعل يتم تحت الأدوات السياسية والعسكرية سواء أكانت من العثمانيين أم من الإنكليز أم الفرنسيين، فيحدث وهمٌ هنا لدى ساطع الحصري بأن العاطفة وحدها قادرة على خلق الوحدة العربية. ويتشكل ذلك بسبب تبعيته للإقطاع الملكي الهاشمي الجديد الذي تحرك على تضاريس المشرق العربي عبر ما سمي بالثورة العربية الكبرى، لكن هذا التحرك لم يكن سوى مظهر للإرادة الإمبريالية البريطانية، وما الإرادة (العربية) هنا سوى إرادة تابعة لمشروع خارجي.
ــــــــــــــــــــــــــــــــ
■ انظر عبــدالله خـلــيفة: الاتجاهات المثالية في الفلسفة العربية الإسلامية، الجزء الرابع، تطور الفكر العربي الحديث , وهو يتناول تكون الفلسفة العربية الحديثة في مصر خاصة والبلدان العربية عامة، منذ الإمام محمد عبده وبقية النهضويين والمجددين ووقوفاً عند زكي نجيب محمود ويوسف كرم وغيرهما من منتجي الخطابات الفلسفية العربية المعاصرة , 2015.


