لطفي السيد
توضح حياة وأفكار لطفي السيد طابع الفئات الوسطى المصرية، فهو المؤسس لعقلها السياسي.
«التقى لطفى السيد محمد عبده وأصبح صديقه وتلميذه. كذلك تعرف على الأفغانى..، فأعجب به كثيراً»، «وفي هذه السنوات ايضاً، أرسى أسس معرفته بالفكر الأوروبي. وقد تجلى في كتاباته تأثير قراءاته الواسعة.. كقراءة روسو وكونت ومل وسبنسر المألوفة لدى المصريين المثقفين في زمنه. لكنه قرأ ( أخلاق ) أرسطو أيضاً. وحركت مشاعره بعمق كتابات تولستوي التبشيرية الأخيرة))، (الفكر العربي في عصر النهضة، ألبرت حوراني، ص 210).
لكن هذه العلاقات مع رواد الفكر الديني الجديد في المنطقة لم تنعكس في كتاباته: «الانطباع القوي الذي تتركه فينا قراءة تلك المقالات هو الاندهاش من الدور الصغير الذي لعبه الإسلام في تفكير رجل تتلمذ على محمد عبده.
لكن مع ذلك فإنه يرى بضرورة أن يكون الدين أساس التعليم:
«لستُ ممن يتشبثون بوجوب تعليم دين بعينه أو قاعدة أخلاقية معينة، ولكني أقول بأن التعليم العام يجب أن يكون له مبدأ من المبادئ يتمشى عليه المتعلم من صغره إلى كبره، وهنا المبدأ هو مبدأ الخير والشر وما يتفرع عنه من الفروع الأخلاقية. لاشك في أن نظريات الخير والشر كثيرة التباين. ولكن الواجب على كل أمة أن تعلم بنيها نظريتها هي في هذا الشأن… فعندنا (في مصر) إن مبدأ الخير والشر راجع إلى أصل الاعتقاد بأصول الدين، فعليه يجب أن يكون الدين من هذه الوجهة الأخلاقية هو قاعدة التعليم العام».
ليس عدم تحليله للإسلام والمسيحية وقراءة جذورهما هو عدم وجود موقف منهما، بل هو بسبب طابع النظرة الليبرالية المسيسة البرجماتية النفعية، فطه حسين يقوم بالغوص في تحليل الإسلام بموقف معين، ولكن لطفي السيد يكتفي بعبارات عامة مسايرة للدينيين، كما شكلتهما القوى الإقطاعية خلال القرون السابقة، بمعنى أن الليبرالية هنا لا تقوم بالاصطدام بالإقطاعين السياسي والديني، بل هي تسايرهما وتحفر في هجرى معهما وليس ضدهما.
إن الفئات البرجوازية الاستيرادية للبضائع المادية والفكرية، تقوم على ملكيات الأرض والعقار، والمصنع بالنسبة لها هامش، جديد، ولهذا فإن لطفي السيد لا ينتج مدرسة فلسفية سياسية تعيد تشكيل الإسلام والمسيحية والنظام القائم لمصلحة الفئات الوسطى.
((كانت أهم فكرة بين مجموعة الفكر التي استقاها لطفي السيد من معلميه الغربيين فكرة الحرية»، «كان مفهوم لطفي السيد للحرية، كما يعترف هو باعتزاز، مفهوم ليبراليي القرن التاسع عشر. فهي تعني جوهريا غياب رقابة الدولة غير الضرورية. فللدولة وظائف محددة هي الحفاظ على الأمن والعدل والدفاع عن المجتمع ضد العدوان. ويحق للدولة، للقيام بهذه الوظائف التدخل في حقوق الفرد، أما في ما عدا ذلك، فاي تدخل منها جائر، مع العلم أن بعض، أنواع التدخل أشد خطراً من سواه، وخصوماً العبث بحرية القضاء، أو بحرية الكتابة والقول والنشر، أو بحرية تأليف الأحزاب».
يتحول الفكر إلى منهج استيرادي للشعارات الليبرالية السياسية العامة، فالحرية هي تلك التي تنسج على مصلحة الفئات الوسطى، وهي ليست مثل حريات الفكر الليبرالي الأوروبي، الذي أزال هيمنة الإقطاع السياسي والديني من الفضاء الاجتماعي العام، وبالتالي منع استخدام الدين سياسياً، أو احتكار السلطة، ولكن لطفي السيد يماهي نفسه بليبراليي القرن التاسع الأوروبيين بعد إنجازهم الثورة الديمقراطية، في حين يتجاهل هو عملية خلق الثورة الديمقراطية التي تتيح هي إيجاد الحرية، ويعني ذلك بأن الفئات الوسطى تفكر بمصلحتها الاجتماعية ولا تريد تحرير الفلاحين والنساء والسكان عموماً من سيطرة الإقطاع السياسي ~ الديني.
إن لطفي السيد يعبر عن فئات التجار الأحرار التي توافقت مصالحها مع الإقطاع ولهذا كانت رؤاها السياسية التحررية لا تتطرق إلى تحرر الفلاحين والأرض عموماً من اقتصاد القرون الوسطى.
وبهذا فهي تخلق حرية ليبرالية فوق جسد إقطاعي شامل، ومن هنا فإن المطالب الاقتصادية والاجتماعية والثقافية تغدو جزئية، لا تتوجه لإعادة تشكيل المجتمع التقليدي. إنها إنجازات ان حدثت تبق العلاقات الأساسية في الاقتصاد والحياة الاجتماعية كما هي، وتقوم بتغييرات صغيرة تراكم الفوائض النقدية لدى هذه الفئات، وتمنع تحرر الجمهور من الإقطاع وتقوي من وعيه تجاه الفئات الوسطى هذه.
إن تحرير الفلاحين من الإقطاع هو دينامو الفئات الوسطى للتحول إلى طبقة برجوازية، لتسيطر على السوق الوطنية وتراكم الفوائض للتوسع الرأسمالي الصناعي، ولكن هذا المصهر للفئات الوسطى يتخلى عنه لطفي السيد:
لكن المبتكر في كتابات لطفي السيد هو شعوره الطبيعي المرهف بمصر وبريفها. فهو يرى الجمال فى حياة القرية المصرية على فقرها وبؤسها، كما يتذكر مناظر حقول القطن وجلبتها، ويرسم بألوان بهيجة فضائل الفلاح الطيب وسعادته، ويحث الجيل الجديد على التجاوب مع جمال الطبيعة وعلى إضافة تثقيف المشاعر إلى تثقيف العقل».
إن رومانتيكية رواية زينب وشكيّة طه حسين وبرامجه التعليمية وغيرها تتناسق في مواقف الفئات الوسطى عبر هيمنة البرجوازية التجارية، في قيامها بتصدير القطن للمعامل البريطانية، ولاستيرادها البضائع المصنوعة المادية ولنتف أفكار الليبرالية وقد قطعت وشائجها بالتاريخ وبالطبقات والبنى، وتشبثها بديمومة الإقطاع السياسي في الملكية، والإقطاع الديني في النصوصية الدينية الشعائرية على الجمهور.
وبالتالي فإنها لا تقوم بإعادة النظر في مجمل البناء الاجتماعي، بجذوره الوطنية العميقة، عبر توجه تحريري متجذر، وفي سلطة ديمقراطية وحيدة تتكرس في البرلمان، وفي تعميق فهم البناء الوطني بامتداداته القومية الإسلامية المسيحية الإنسانية.
فالبناء الوطني المفهوم عبر وعي الفئات الوسطى التابعة في جوانب والمصارعة في جوانب، للإقطاع، يظل محدوداً على الأقلية ولهذا لا يغدو قومياً بالضرورة، فإذا كانت الفئات الوسطى هذه غير راغبة في إشراك الطبقات الشعبية في المعركة الوطنية فكيف تستطيع أن تتجاوز ذلك إلى الجمهور القومي؟
إن البرنامج السياسي البطيء الذي شكله لطفي السيد لهذه الفئات الوسطى سيكون له مخاطره على المستقبل الطبقي لهذه الفئات، فغياب المبادرة والجرأة سوف يدمرانها إلى حين.
فبرنامجه يقوم على «تقييد سلطة الخديوي المطلقة والتحرك على مراحل نحو الحكم الدستوري»، لهذا «جاءت الإصلاحات التي اقترحها فيه متواضعة وحذرة، منها توسيع اختصاص الهيئات النيابية وتعديل طريقة الانتخاب».
أما البرنامج الاقتصادي فلا يختلف «على مصر أن توفي ديونها الأجنبية»، «وعليها أن تبني صناعاتها». إن هذا التطور البطيء حتى لو تم فى ظل السيادة الاستعمارية فإنه سيكون أفضل، ومن هنا رأى خطرين يواجهان التجربة المصرية،«المثل العليا السابقة لأوانها في (الاشتراكية) أو (العالمية) من جهة، واليأس وضعف الثقة بالنفس من جهة أخرى».
إذا كانت هذه الليبرالية ذات ميزات عظيمة في بداية القرن العشرين حيث أسست البرلمان والحريات الفكرية والتعبيرية وحرية نساء المدن، فإنها عجزت عن التجذر والانتقال من الإصلاحات المدنية والسياسية إلى الإصلاحات الاقتصادية والاجتماعية التي تصل إلى ملايين المنتجين، ولهذا فإن الفئات الوسطى الصغيرة: الضباط، مثقفي البرجوازية الصغيرة المتسرعين، استغلوا هذا الضعف لدى جيل لطفي السيد ليطرحوا الحل الشمولي التسريعى.
ومع ذلك فلم يستطيعوا أن يتجاوزوا المهمات التي لم ينجح فيها جيل لطفي السيد كلية، ولكن جيل الحريات ذاك أسس النهضة الديمقراطية والتحرر الوطني.
ــــــــــــــــــــــــــــــــ
■ انظر عبــدالله خـلــيفة: الاتجاهات المثالية في الفلسفة العربية الإسلامية، الجزء الرابع، تطور الفكر العربي الحديث , وهو يتناول تكون الفلسفة العربية الحديثة في مصر خاصة والبلدان العربية عامة، منذ الإمام محمد عبده وبقية النهضويين والمجددين ووقوفاً عند زكي نجيب محمود ويوسف كرم وغيرهما من منتجي الخطابات الفلسفية العربية المعاصرة , 2015.


