عبـــــــدالله خلــــــــيفة's Blog: https://isaalbuflasablog.wordpress.com , page 30

September 29, 2023

بين عمر وخالد

يشكر للباحثين الغربيين هذا الاهتمام الدقيق بالتراث العربي الإسلامي، حيث تفوقوا على أبناء العربية في الدخول الى دقائق التراث، وبأساليب حديثة ومنهجيات خصبة.
من هؤلاء الباحثين الجدد كلاوس كلير من جمهورية ألمانيا، حيث قدم رسالة دكتوراه في العلاقة بين عمر بن الخطاب وخالد بن الوليد، الصحابيين الجليلين، باسم (خالد وعمر، بحث نقدي في مصادر التاريخ الإسلامي المبكر)، دار قدموس في سوريا ولبنان سنة ٢٠٠1م ويعجب المرءُ كيف يتغلغل باحثٌ أجنبي في تراث العربية بهذا الشكل، حيث درس أمهات كتب التاريخ برصد تحليلي ورصد كمي، والجانب الأخر من الرصد هو الذي يستوقف القارئ، حيث يكشف نظرات المؤرخين العرب للعلاقة بين عمر وخالد عبر الجداول الإحصائية والبيانات وليس بالبيان التحليلي المجرد فقط.
كما يعجب المرء من تحول الرسالة الجامعية الى دفاع عن خالد بن الوليد تجاه ما صدر ضده كما يقول الباحث من الخليفة الراشد عمر ومن المؤرخين كذلك، الذين قللوا من جهد خالد نظراً الى ما حدث له من عزل.
والعجب يكمن في أن باحثين غربيين يقومون بهذه المهمات في حين يعيش (باحثونا) في عملية نقل مستمرة لما يُنشر في الغرب. وكأن أولئك الباحثين أقرب للعربية والتراث من أهله!
وعلى الرغم من ذلك فالباحث أخطأ في جملة بحثه واستنتاجاته، فرغم أن خالد بن الوليد قامة عسكرية عملاقة مقاييس البشرية، حيث يقف جنباً الى جنب مع الإسكندر. ونابليون وغيرهما من القادة العسكريين الكبار، فإن قامة عمر بن الخطاب السياسية تكبر عنه وتصعد صعوداً كبيراً، على الرغم من محاولة الباحث التنقيص من هذه القامة.
فالباحث يوجد لخالد بن الوليد الأعذار في أخطاء اجتماعية قبل أن تكون أخطاء عسكرية: (فالسلوك الإسلامي وآثار الوثنية في شخصية خالد لا سبيل إلى إزالتهما هما النقطة الجوهرية في الاتهامات التي يتم إيرادها ضده وبصورة خاصة على لسان عمر)، ويعد قتل خالد للاسرى في غزوة بني جذيمة، وقتل مالك بن نويرة وبعض قومه في حرب الردة والعديد من الأخطاء الأخرى، ليس تجنياً من عمر بن الخطاب بل هي حقائق معروفة في التاريخ.
لكن القضية ليست قضية أخطاء تتعلق بالأسرى بل هي قضية قائدين مختلفين في طريقة تفكيرهما، فعمر ليس قائداً عسكرياً فحسب، بل هو قائد سياسي مسؤول عن نظام اجتماعي ديمقراطي شعبي، يرفض عنهجية الملأ القرشي السابق وطريقة إدارته للحياة السياسية والحروب ونتائجها.
وعمر لم يؤمن بقائد سواء أكان سياسياً أم عسكرياً مترفعاً عن العامة، منتفخاً مهما كانت انجازاته، يضع اهتماماته الشخصية محل المصلحة العامة. إن النهج الفردي أمرٌ محبذ في ثقافة الغرب الفردانية، التي تركز على الفرد وعبقريته مهما تضادت مع الجماعة، لكن في تلك الثقافة الشعبية الإسلامية الديمقراطية الأولى كان هذا مرفوضاً.
إن عبقرية خالد العسكرية هي ممدوحة من قبل عمر وغيره، فقد حققت انتصارات هائلة، فضربة فتح دمشق المفاجئة الغريبة، وضربة اليرموك قد وضعتا حداً للامبراطورية المهيمنة على نصف المشرق. لكن عمر تخوف من تحول هذا الإعجاب الى غرور سياسي يكتسح قواعد تلك الديمقراطية الشعبية التي لم تكن تدعمها مؤسساتٌ راسخة.
ولهذا فان عمر كان يريد قيادات عسكرية جماعية وأن يصعد أبناء العامة المسلمون إلى هذه القيادة، وألا يظهر دكتاتور عسكري.
ولهذا فإنه لم يذل خالداً وابعده كلياً عن القيادة والمشاركة في الحروب، بل جعل القيادة لأبي عبيدة بن الجراح، وهو قائد عسكري من طبيعة عمر بن الخطاب الزاهدة الديمقراطية، فجعل من علاقته بخالد نموذجاً لخضوع العسكري الفذ للقيادة الجماعية ولأهداف الحرب من منظور إسلامي ديني.
كما أدت هذه العلاقة الى ظهور قادة عسكريين عباقرة آخرين، فلم تحجب قامة خالد قامات كثيرة بعده.
أن عمر هنا حارب الفساد العسكري، وأوقف تحول القادة العسكريين إلى أباطرة نظراً إلى انتصاراتهم العسكرية الكبيرة. وعلى الرغم من أن ذلك أثر في خالد وجعله يتألم كثيراً لكنه ادرك حكمة قرارات عمر مع هذا، وقد تأسى عمر كثيراً كما يذكر الباحث الألماني نفسه لموت خالد المبكر نسبياً.

 •  0 comments  •  flag
Share on Twitter
Published on September 29, 2023 12:11

الإمام علي والسياسة

كان الإمام علي هو ذروة الإسلام في السياسة، وكانت لديه رؤى محددة للتغيير، وقد كانت حياته الشخصية هي مثال النموذج في التضحية والتعبير عما هو بطولي وتضحوي في الإسلام والإنسانية، وكانت – أي حياته – نموذج المأساة كذلك، لأن ذلك النموذج في التضحية تناقض مع نموذج كامل في الانتهازية والمنفعية لدى أتباعه قبل خصومه!
ببرنامجه السياسي غير المحدد لهؤلاء الدهماء الذين ثاروا وحاصروا الخليفة عثمان بن عفان، ومنعوه عنه الماء، ثم قتلوه وهو في أرذل العمر، ولو أنهم صبروا عليه بضعة أيام لمات من الشيخوخة!
وافق الإمامُ أغلبيةَ هذه الدهماء، وقبل ترشحها لمنصب الخلافة، بعد رفضٍ كبير وممانعة شديدة، لكن الأزمة الخطيرة وخلو مكان الإمامة والخلافة من مسئول، جعلته يقبل هذا التكليف الخطير ويقود هذه الجماهير الغاضبة العنيفة الهوجاء!
لكن هذه الجماهير التي قادها كانت تعمل لمصالحها الذاتية الرخيصة، فاقدة الوعي بأهمية التضحية والثورة والانضباط، ففي حرب الجمل التي شنوها بسرعة مخالفة لأوامر القيادة من قطعاتهم المتطرفة المتحمسة، ثم أرادوا سلب المسلمين المهزومين أغراضهم ونساءهم، وحين رفض الإمام ذلك صاحوا: (أحلَّ لنا دماءهم وحرم علينا أموالهم !).
إن هذه الجماهير التي ثارت من أجل بضعة أموال وهي نتاج البداوة والصحارى، لم يكن يهمها سوى هذه النقود والمكاسب، وإذ كان من بينها أناس شرفاء كثيرون أدركوا أهمية هزيمة بعض أفراد من العائلة الأموية الباطش حينذاك، وأهمية وجود خليفة نزيه، إلا أن الأغلبية لم تكن تعي كذلك.
وبعد ذلك راحت هذه الدهماء تتنصل من تلك القيادة النضالية، وتقل أعدادها، وتتفرق جماعاتها، وتتعدد آراؤها، وتتصادم، فلماذا حدثت هذه المأساة؟
ما الذي جعل هذه الحشود تنفض فجأة ويصير الإمام في قلة قليلة وأمام أتباع حمقى متآمرون ومشاكسون ثم يتم التآمر عليه وقتله؟
لنسمعه وهو يئن منهم:
(أيها الناس المجتمعة أبدانهم ، المختلفة أهواؤهم ، كلامكم يوهي الصم الصلاب ، وفعلكم يطمعُ فيكم الأعداء(….) المغرور والله من غررتموه، ومن فاز بكم فقد فاز والله بالسهم الأخيب، ومن رمى بكم فقد رمى بأفوق ناصل . أصبحتُ والله لا أصدق قولكم ولا أطمعُ في نصركم، ولا أوعد العدو بكم ، ما بالكم؟ ما دواؤكم؟ ما طبكم ؟ …).
إن هذا الجمهور كان يريد المال وتحسن العيش، وحين لم يجدهما بالصورة التي توقعها تحول إلى معاوية وصار من الخوارج الذين يغيرون على المسلمين ويسلبونهم . .
سياسة الإمام لا خداع فيها، ولا وعود كاذبة، والمسلمون سواسية في جيشه وجماعته، ولا تضليل للدهماء وتنشيط لأحقادها وأمراضها وأوهامها.
إن سياسة الإمام هي سياسة قول الحقيقة، والنضال من أجلها، وتوحيد المسلمين والناس، نحو تلك المطالب المشتركة.

 •  0 comments  •  flag
Share on Twitter
Published on September 29, 2023 12:09

القبائل والطوائف والطبقات

إن القبائل والطوائف والطبقات هي الأشكال الاجتماعية التي قامت بخلق التحركات السياسية في التاريخ العربي الإسلامي، والعالمي كذلك، لكونها الحواضن الاجتماعية الممكنة في كل عصر للتغيير الاجتماعي.
إنها ترتبط بمستوى التطور الاقتصادي لكل شعب أو أمة، ولهذا كانت القبائل العربية هي الحواضن الاجتماعية لنقل من مرحلة الجاهلية إلى الإسلام؛ أو من ما قبل التاريخ حيث لم تتبلور الطبقات، إلى التاريخ والحضارة، حيث تشكلت الطبقات والمدن والعلوم.
غير أن النظام الاجتماعي المطلق في السيطرة والاستغلال لم يتح للفئات الوسطى أن تتبلور، وتشكل ثورة صناعية، تعيد تجديد العالم الإسلام في تكوين حديث، وهذا ما جعل الصراع الاجتماعي ينحو إلى منحى طائفي، فتكونت الطوائف وصارت هي الشكل الديني للصراع الاجتماعي المأزوم والمغلق.
وهذا ما عانته مختلف بلدان العالم في تاريخها التقليدي، وأدت ظروف خاصة بأوربا الغربية أن تشكل أسلوباً اقتصادياً يتجاوز نظام الطوائف، وهكذا فإن الطوائف الأوروبية من كاثوليكية وبروتستانتية وغيرهما كانت تمر بنفس المرحلة التي نعجز الآن عن تجاوزها!
لكن الصناعة أعادت تشكيل عالم الطوائف، ووحدت البلدان الأوروبية الغربية في كيانات قومية، وراحت تتجاوز عبر قرون نظام الطوائف، ووجدت الطبقات العاملة والمالكة نفسها في كتل اجتماعية رغم انتمائها إلى أديان ومذاهب مختلفة.
لقد أدى أسلوب الاقتصاد الحديث إلى بلورة الأحزاب والسياسة والفكر بشكل مغاير لعالم القبائل والطوائف. ولكن الأديان والمذاهب لم يقض عليها، بل هي خلفية وجذور للنظام الحديث، الذي فصل بين المرجعيتين السياسية والدينية في المطالب الاجتماعية والأهداف السياسية!
لكن العالم العربي والإسلامي لم يتجاوز تركيبة القبائل والطوائف، اللتين ظلتا متداخلتين، لعدم حسمه في تطوره الاقتصادي بين الري والزراعة، فضخامة صحاريه كانت تضخ القبائل الرعوية باستمرار للسيطرة على المدن والقرى، وتكرار أنماطها المتخلفة.
والآن ظهرت فرص للخروج من دوامة التكرار التاريخي، والانتقال من أنماط القبائل والطوائف إلى الأنماط الحديثة، وجعل المرجعيات القديمة جذوراً لا تتحكم في المستقبل.
لكن مستوى وعي الجمهور العربي وظروف التخلف الطويلة لا تتيح للانتقال إلى هذا المستوى الحديث بشكل تام، فحتى قوى المعارضة متورطة في أشكال الانتماءات القديمة غير قادرة على توحيد الجمهور، لأنها لم تطور أفكارها، ولم تفهم أديانها ومذاهبها، لضعف إنتاجها العقلي، وقدم أشكال اقتصادها وطرق معيشتها وعلاقاتها الاجتماعية.
ولن تتمكن من تجاوز الأشكال التقليدية من قبلية ومذهبية سياسية إلا في حراك اقتصادي وثقافي طويلين، تكتشف فيه بالمعاناة القاسية إن تلك الأشكال تجاوزها الزمن وهي تمثل عقبات خطيرة في تطورها وتقدمها.
ولعل الإصلاحات الأخيرة والدعم الغربي هو من أجل أن تتقدم هذه الجماهيرإلى المحرقة وتكتشف، وياله من ثمن باهظ سوف تدفعه لتتعلم مفردات الحضارة الحديثة!
لقد كان الباحث ابن خلدون لا يؤمن بأداة للتغيير سوى العصبية القبلية، ولم ينتقل حتى إلى العصبية الطائفية!! فيا أيها العرب كم ستعانون لتتعلموا!

 •  0 comments  •  flag
Share on Twitter
Published on September 29, 2023 12:07

الحنبلية والتصحر

كما أشرنا مراراً إلى كون الحنبلية قد نشأت كرد فعل عروبي على النزعات الفكرية النهضوية الأقرب للفرس في بغداد، فإنها اعتمدت على نصوصية مغلقة، وتكريس سلطة الحديث النبوي كما هو متوارث دون فحص، وهذا ما جعلها تتحول إلى عداء للحداثة العربية والإسلامية القديمة، وقام الحنابلة في بدء أمرهم بحمل السلاح ضد كل من عمل بالفلسفة والمنطق، وحرقوا الكتب، ثم هاجموا الفرق الإسلامية السنية الأخرى، والمؤرخين الخ..
استطاعت الفرق السنية الأخرى أن تكون أقل تضرراً بموجة التخلف التي هاجمت العالم الإسلامي مع انطفاء شعل الحضارة، وذلك بإتاحتها مجالاً للقياس والاجتهاد، كما حدث للمالكية من بعض التطور في المغرب العربي، فنجد ابن خلدون المالكي يطرح أفكاراً متقدمة عن الاجتهاد.
لكن كافة المذاهب تم اعتقالها من قبل السلطات المتخلفة؛ وغدت الحنفية راية الأتراك العثمانيين دون أن يكون لهذه الحنفية أي علاقة باجتهاد وفقه مؤسسها أبي حنيفة النعمان، وربما لأنه له جذور بالأصل الأفغانى، أي أن المنبت القومى كان له صدى!
رحلت الحنبليةُ من المدن الإسلامية الهامة، إلى المدن الصغيرة البرية، كما جرى ذلك لمدينة الفقيه ابن تيمية، فمدينة الرها، التي عُرفت بأنها مدينة الترجمة المسيحية والإسلامية الطبية والفلسفية، صارت شيئاً مختلفاً مع مولد ابن تيمية.
قوّى ابن تيمية الطابع النصوصي للحنبلية، ورفض الثقافة الحديثة الإسلامية وقتذاك، خاصة جوانبها المنطقية والفلسفية سواء أكانت شديدة الغيبية أم عقلانية، وحول العلوم إلى جوانب جزئية تقنية، مؤكداً أهميتها، وجاهد ضد الصليبيين الغزاة، ولكن آراءه الفقهية المتشددة لم تكن مقبولة لحكومات ذلك الزمان، فقد واجه التيارات الصوفية المنتشرة الجماهيرية، واعتبرها كفراً، مما أثار عليه الناس كذلك، فتم سجنه ومات في السجن.
بطبيعة الحال حولت هذه المواقف والجهاد الفكري الطويل لابن تيمية إلى أن يكون قدوة للحنابلة وبطلاً تاريخياً، ولكن ابن تيمية هو نفسه لم تؤخذ قدراته الفكرية والعقلية الاجتهادية من قبلهم بمأخذ الدرس ولم تتم مراعاة ظروف زمنه.
تغلغلت الحنبلية أكثر وأكثر في الصحارى، حيث البدو البسطاء البعيدون عن الحضارة، والذين لأئمتهم هذه الأفكار المتشددة بحكم طبيعة حياتهم، وأعطتهم هذه الأفكار مبرراً للهجوم على المسلمين الآخرين ومصادرة أملاكهم. وراكز عبادتهم وقراهم، زاعمين أنهم كفرة.
إن البدو هنا يستعيدون نمط حياتهم القديم القائم على الغزو، والذي تم قبل الإسلام بالحروب والغزو والصعلكة، وفي الإسلام عبر أفكار الخوارج والقرامطة وغزوات الهلالية!
ولم تتطور هذه النزعات مع العصر الحديث، وأعطت الثروات النفطية لهذه الأفكار قوة، فتغلغلت في بلدان إسلامية لم تعرف مثل هذه الحنبلية فى عصورها القديمة الأشد تخلفاً، فصار فيها لأول مرة إباحة دم المسلمين والمسيحيين، ورُفضت أشكال الحضارة، وغدت مراكز العبادة غير الإسلامية والفرق الصوفية الإسلامية والقوى الحديثة مركزاً لهجمات هذه الجماعات التي تحولت إلى المسمى المزعوم (الجماعات الإسلامية) ولم تكن ثمة صلة حقيقية بين مذهبية البدو وهذه الحنبلية الُمسيّسة، التي كرستها أموال النفط الباذخة.
وعبر أربعين سنة من تكريس هذه الجماعات من قبل الغرب والحكومات في المنطقة، وتشعبها في الأرض الجماهيرية تحت شتى المسميات، وجذبها للمذاهب السنية الأخرى، التي لم تتعرض هي الأخرى لفعل الاجتهاد خلال قرون التخلف، فإن القضية تغدو أكبر من قضية قمع بوليسي، وأكبر من شعارات سياسية محدودة، فالأمر يحتاج إلى تحولات ثقافية وسياسية عميقة.

 •  0 comments  •  flag
Share on Twitter
Published on September 29, 2023 12:05

الحنبلية والامبريالية

إن التقاء مصائر المذهب الإسلامي المتشدد الحنبلي والإمبريالية هو جزءٌ من تعقد وتشابك سمات وعمليات العصر السياسية والاجتماعية.
فتوجهات الرأسمالية الغربية منذ القرن التاسع عشر تتوجه إلى احتلال مناطق المستعمرات والثروات، ومن هنا كانت مناطق المذاهب الإسلامية المعتدلة هي التي واجهت الغزو المبكر، في حين نأت المناطق الصحراوية مكان إنتاج المذاهب الإسلامية المتشددة عن ذلك، ومن هنا عرفت المدن الإسلامية التي تعرضت للاحتلال نمواً في الفكر الاجتهادي الإسلامي بصورة مبكرة.
وإذا قيل بأن جمال الدين الأفغاني من أصل إيراني وليس من أصل افغانى، فليس ذلك بغريبٍ، لكون الفرس عُرفوا بالتبكير في الوعي، في مختلف المراحل التاريخية، كما أن إيران وأفغانستان كانتا متداخلتين منذ أقدم العصور.
وهكذا فإن النزعات الاجتهادية الإسلامية الحديثة لم تلامس الحنبلية التي تمترست في الصحارى، وإن كانت الهجمات الاستعمارية البربرية قد أيقظت قوى التطرف منذ وقت مبكر كما حدث في الجزائر التي لها عوامل قديمة في التجذر الديني العنيف.
أما المناطق الحضرية الإسلامية فقد حاولت المزاوجة بين الحضارة الغربية بإنجازاتها في التقنية والأشكال الفكرية والفنية، وبين المحافظة على الطابع الديني الخاص، وحلحلة هذا الطابع من جموده الكلي القديم، غير أنها لم تستطع ذلك كلياً، بسبب أدواتها التي لم تنفصل عن الجمود المتوارث .
وهكذا فإن الحنبلية الصحراوية وجدت نفسها فجأة في عمق التواجد الغربي بسبب النفط وعملياته. فهي لم تتوفر لها فرصة للاحتكاك بهذا الغرب كما جرى لبقية المسلمين، بشكلٍ مطولٍ وجماهيري، فظلت محافظةً على أبنيتها الاجتماعية التقليدية العتيقة، ومن جانبٍ آخر فإن تدفق النفط واستشراء الثروات لديها، دون أن تغير من أبنيتها المحافظة تلك، مكنها من الهيمنة المذهبية والسياسية على بقية المذاهب الإسلامية السنية، ثم أخذت بالتوغل في المذاهب الشيعية كذلك.
وكان دور الإمبريالية في هذا المسار هو تقوية الجانبين، جانب العزلة عن التطور الحديث، وتكريس التقوقع والتخلف والعصبية السياسية، وكذلك تقوية جانب الانتشار والتأثير على الجماعات الإسلامية وغير الإسلامية.
إن هذا الزواج غير الشرعي تجلى في حقبة الحرب الباردة، وهكذا وجدت الإمبريالية في خدمات الحنبلية والجماعات المذهبية السياسية الأخرى، فرصةً في ضرب تجارب التحرر والتقدم في بقاع الأرض. وتجسد ذلك بعلانية في أفغانستان.
ومن الملاحظ هنا أن الحنبلية غدت فرقاً ومستويات، فظهرت حنبلية رسمية حكومية، وحنبلية أهلية، وحنبلية سياسية نخبوية. وحدثت تداخلات وتعقيدات في العملية. لكن الحنبلية النخبوية السياسية التي تمظهرت أخيراً في (القاعدة) استثمرت التقنية الإمبريالية وكذلك غياب النوازع الأخلاقية والبرجماتية النفعية أما جذور العنف الواسع فهي تاريخياً فيها، وموثقة بأحكام (الرعية) مؤدلجة من تاريخها نفسه.
إن التغلغل في أوساط المسلمين ووجود الثروة الواسعة والحصول على التقنية الرفيعة، والحصول على الفقه الُمبرر والذي حصل على رعاية غربية، جعل المآسي تتساقط على الضفتين الغربية والإسلامية.
فحصد الغربيون ساسةً وأناساً أبرياء نتائج تاريخ شاركوا في صنعه بالمساهمة المباشرة أم غير المباشرة. أما المسلمون فتعرضت بلدانهم للغزو مرةً أخرى، ولإعادة التشكيل بمنظور غربي مختلف، غائيّ وبراغماتي ومُقننٍ حسب مصالح وظروف جديدة.

 •  0 comments  •  flag
Share on Twitter
Published on September 29, 2023 12:02

إشكالية الراعي

انبثقت سلطة العرب من رحم القبيلة، من جذور سيطرة شيخ العشيرة الذي كان راعي غنم، فحول سلطته على الماشية إلى سلطة على البشر.
إن شيخ القبيلة لديه اتجاهان، إما أن يكون مع القاعدة الشعبية في القبيلة والقبائل الأخرى التي تنضم معاً في «شَعب»، وكلمة شعب لغوياً تعني تجمع القبائل المتوحدة.
وإما أن يصير مع الملأ ، مع الأقلية المالية العقارية التي نزفت عاملي القبائل في خزائنها .
لقد تحول راعي الغنم إلى حاكم مطلق، فعمد إلى توظيف الإسلام بخلاف مضمونه الثوري الديمقراطي إلى أن يكون سلطة نص مسيطر على عقل المدينة، أي على عقول أبنائها، ومنعهم من الحداثة، حيث الأفق العريض للحرية، والانتقال من رعي الطبيعة إلى صناعتها.
وبخلاف راعي الغنم البدوي البسيط، الذي يتآلف مع ماشيته ويقدرها ويقيم علاقة مباشرة بين خيمته وحظائرها ، فإن السلطوي الذي وصل إلى الحكم المطلق في تاريخنا أقام حول نفسه أسواراً وعزل نفسه في قصور.
وبدلاً من عصا الراعي وكلاب الحراسة الأليفة التي لا تعض الغنم بل تنبح نباحاً لطيفاً حولها، فإن الحاكم العربي، أقام حشوداً من العسكر الضاري، وغالباً ما يكونون مرتزقة أجانب وبدواً شرسين من المناطق الحدودية، مهمتهم بقاء الغنم البشري في ساقية الإنتاج المتخلف، أو أن هذه الرعية تقدم في مسالخ الحروب كلما توجه الراعي للتوسع، أو ضاقت به سبل الرزق.
وبدلاً من الكلاب وحيوانات الطراد ظهر المثقفون الحافظون على سلامة النص المهيمن، يبعدون الغنم البشري والرعية المعصوبة العينين، عن مناطق الخطر الفكري، ويحفظون ديمومة النص والحقل الأصفر الذي تبقى فيه الماشية ترعى حتى تُذبح.
وهم لا يهشون بعصيهم هنا بل بألسنتهم، داعين الماشية للبقاء في النص الذي سيجوه وأدلجوه. ومن هنا تتعدد خطابات هذه الألسنة من قصائد سلخ أو وعظ أعمى أو فكر فارغ.
ومن هنا يقول محمد بن تومرت: إنه لا فائدة من العقل، ولا من الاجتهاد، فالنصُ كاملٌ موجودٌ، ولا داعي لاستعمال الفكر، وهل يجب أن تستخدم الماشية الفكر ؟
ورغم أن الراعي تحول إلى سلطان مهيمن على مناجم الذهب، فإنه لا يريد أن يُخرج الناس من ثقافة الرعي والغنم، فهو يحافظ على الخيام وثقافة الأساطير، جاعلاً الرعية مستمرة في رعي الكلأ، وهو الحشيش الأصفر من بقايا التراث.
مع انتقالات السياسة العربية الكثيرة إلا أن الراعي والغنم ظلا محفورين في المجتمعات، فظهر رعاة الديمقراطية، ورعاة الآداب والفنون، ورعاة التنمية والابتكارات العلمية والجامعات والأحزاب…
ولكن هذه الرعاية للمجتمع والخدمات فيه لا تتقدم بشكل كبير حقاً، لأن الراعي يستمر في الوجود كسلطة ذات عصا وغنم، فلا أحد يعرف نتاج المرعى، بشكل دقيق. ولا أحد يعرف مصير الغنم بشكل دقيق.
تنتظر ثقافة المرعى المطر والغيث وتنتج الحداء للإبل وإذا تطورت زرعت وسكنت المدينة بأفخاذها وعشائرها، ثم لا تستطيع أن تعمل في المصانع، لأنها مدربة على رعي الغنم، والنوم تحت الأشجار، وترك الكلاب تهش وتتحكم في الغنم الشاردة !
فتجلب عمالاً آخرين لديهم إمكانيات العمل الصناعي، وتجثم هي في الإدارات الحكومية حيث عصا الراعي الذي ينام تحت الأشجار ويترك العشب للمطر، والبهائم للقدر .
ويحن الرعاة لتاريخهم وللخيام وللبر، وجلسات المقاهي، ويكرهون الكتب والعلوم والفلسفة.

 •  0 comments  •  flag
Share on Twitter
Published on September 29, 2023 12:00

استغلال في عمق التاريخ

ليس نتاج تراكم الثروة لدى أقسام من اليهود هو نتاج عبقرية دم أو سلالة، أو من جانب اخر نتاج مؤامرة سامية، بقدر ما هو نتاج تراكم ظروف تاريخية معقدة .
فمجيء القبائل اليهودية إلى فلسطين والصراع مع أهلها الكنعانيين نعبا دوراً أساسياً في وضع الخطوط الفكرية والاجتماعية لتكون هذه القبائل، التي حاولت بعد ذلك حماية نفسها وخصوصيتها عبر الدين .
لقد كان هؤلاء الكنعانيون العرب هم بناة الحضارة في فلسطين وفي شرق المتوسط وفي البحر الأبيض المتوسط عموماً، فهم الذين ظهر منهم ذلك الشعب الذي عرفته أوربا باسم (الفينيقيين).
وهؤلاء الفينيقيون هم الذين طوروا التجارة وأسسوا بيوت المال التي عرفت باسم الصيرفة، وبادلوا المنتجات بسفنهم التي مخرت البحار حتى شواطئ إنجلترا في ذلك الزمن الموغل في القدم .
قام اليهود في ذلك الزمن بالاستيلاء على أرض وإرث الكنعانيين هؤلاء، وعلى طرقهم في إدارة التجارة والمال وعلى العديد من جوانب التراث الديني والأسطوري كذلك.
وبعد تشتت اليهود نظراً لتشكيلهم دولة في مفترق طرق الإمبراطوريات المصرية والعراقية والسورية، استفادوا من ذلك الإرث الفينيقي المالي ودمجوه بتعصب ديني وعزلة خاصة عن المحيط، فتداخلت عمليات استغلال الإرث الديني باستغلال الجيران من الشعوب المحيطة وتكوين ثروات ظلت تتراكم على مدى التاريخ.
عبرت اليهودية عن نمو رأس المال المالي، وهو النمط من المال الذي أنكرت الحضارتان المسيحية والإسلامية وجوده وشرعيته، بشكل عام، مما جعل اليهود هم الجيران والأعداء داخل هاتين الحضارتين، في حين أن اليهود لم يجدوا موطئ قدم في الحضارات الهندوسية والبوذية والزنجية، بسبب عدم رفض هذه الحضارات وجود الفائدة المالية، وتشكل رأس المال المالي !
إن وجود اليهود داخل هاتين الحضارتين، لم يمنع الصراعات المستمرة بين هذه الأديان، وكان جوهره هو قدرة اليهود الصيارفة والرأسماليين عموماً؛ على مراكمة الأرباح الناتجة من استغلال القوى المنتجة.
لكن القادة والحكام الذين يتوجهون لمصادرة أموال الرأسماليين سواء كانوا مسلمين أو مسيحيين أو يهوداً، يشيعون أسباباً دينية أو سياسية لهذه المصادرات التي يلجاون إليها حين تنضب خزائنهم!
وقد حاول بعض المسلمين والمسيحيين الاشتغال بالمهن الحرة والصيرفة خصوصاً، ولكن أعداد المسلمين خصوصاً كانت قليلة قياساً. باليهود، الذين وسعوا عملياتهم في الدول الناشئة في روسيا وشرق أوربا، التي فتحت أبوابها لرأسمالهم الظاهر والباطن.
كان الدبيب اليهودي على الجغرافيا البشرية يعبر عن عمليات تطور الرأسمالية، الذي كان يتسارع في إيطاليا وهولندا وإنجلترا، وفجأة تغدو الجاليات اليهودية في غرب أوربا من أقوى الجاليات اليهودية في العالم!
ولا شك أن هذا النمو الرأسمالي كان يتبعه تطور تقني وعائلات قليلة العدد، واهتمام بالتطور العلمي، لأن رأس المال المالي يحتاج إلى البخل وقلة النفقات ومراكمة الأرباح والبحث عن المواد الثمينة وتحولات الاقتصاد والمواد الخام وامكنتها، والعلاقة بالسياسيين والحركات السياسية المؤثرة وتتبع تطور الدول المهمة.
وهكذا فإن المرحلة الرأسمالية الصناعية قد جعلت القوى المالية اليهودية في أبرز المواقع الاقتصادية و الاجتماعية، ولكن مرحلة الرأسمالية المالية، مرحلة هيمنة البنوك، هي التي جعلتهم في ذروة الدول الامبريالية، بريطانيا والولايات المتحدة !
وهكذا دخلت اليهودية مرحلة الامبريالية لكن على حساب العرب، وعلى حساب أحفاد الكنعانيين، وهم الفلسطينيون!

 •  0 comments  •  flag
Share on Twitter
Published on September 29, 2023 11:56

September 27, 2023

ميشيل عفلق

هو مؤسس الفكر البعثي الذي كان التتويج للأفكار القومية المناطقية في الهلال الخصيب وتحويلها إلى رؤية قومية عربية، وفي البيان التأسيسي لحزب البعث سنة ١٩٤7 يجري القول العفلقي بالصورة التالية:
«حيث شدد على تميز الأمة العربية وقدرتها على الخلق والتجدد والإبداع، معتبراً أن الرسالة القومية لهذه الأمة ليست شيئاً جديداً، بل هى (بنت تاريخ طويل) ذلك أن هذه الأمة التي أفصحت عن نفسها في الماضي.. (إفصاحاً متعدداً متنوعاً… في تشريع حمورابي وشعر الجاهلية ودين محمد وثقافة المأمون، فيها شعور واحد يهزها في مختلف الأزمان، ولها هدف واحد بالرغم من فترات الانقطاع والانحراف..»، (عن رهانات النهضة، مصدر سابق، ص 210).
يقوم خطابُ البعث على أشكال فكرية تعميمية تقفز فوق التكوينات الاجتماعية العربية وفوق العصور والمراحل ، وتُسقط وعي بعض النخبويين القوميين المعاصرين على الظروف الموضوعية السابقة المختلفة، فالقبائل البابلية المتحضرة الوثنية التي تعيش في العصر العبودي تابعة لحكام آلهة، هي نفسها القبائل العربية الجاهلية المفككة المتناحرة في عالمها ما قبل الحضارة، ويتمظهر وجودها القومي العروبي في قوانين حمورابي وشعر الجاهلية!
إن التكوين القومي هنا هو نفسه الروح الغيبية المنزلة لدى الحصري والأرسوزي التي لا تعرف التضاريس الصحراوية أو نمو المدن، بل تظهر كالسحر في كل مظهر يريد المثقف القومي المثالي أن يسقطه على الأشياء والتاريخ ، ومن هنا فلن يعترف بحدود بين التشكيلات الاقتصادية أو المراحل التاريخية أو الأقطار السياسية، ولهذا فسوف يأخذ من التاريخ ما يلائم النخب القومية الغنية المعادية للأمم الإسلامية الأخرى، مكرساً هنا بشكلٍ متوارٍ التوجهات المذهبية السنية، فهو يختار عصر ثقافة المأمون الإلهية التجريدية المركزية الرافضة للتعدديات الدينية.
إن عدم الدرس الموضوعي لتطور تجربة القبائل العربية في العصر الوسيط وتشابك هذه التجربة بالإسلام وغيره من الأديان والمذاهب، يخرج هذه العروبة من الفحص المعملي الاجتماعي ليجرها إلى منطقة التجريد الشعري والتلاعب بالألفاظ.
ويلغي الفحص المعملي والديمقراطي هذه الأفكار الخيالية للبعث، وليذا فإن ميشيل عفلق بخلاف غيره من مفكري العرب والمسلمين التحديثيين يرفض ثقافة الغرب:
«إن النظريات والأنظمة المنبثقة عن حضارة الغرب لا تلبي حاجات البيئة العربية وأن الأمة العربية ليست (أمه صغيرة ثانوية) كي تتبنى رسالة غيرها»، (السابق).
لقد قام ميشيل عفلق هنا بتوجيه فكر البعث بشكل مضاد للعناصر الديمقراطية فى ثقافة الغرب، وليس بشكل مضاد كلي لثقافة الغرب فالعاصر القومية الشمولية في الثقافتين الألمانية والإيطالية سوف تحصل لها على مكانة في منظومته الفكرية، ولكن هنا هو يصرح بشكل إطلاقي عام. وهو هنا يجوهر حضارة الغرب فليس هي شكل لتجل مرحلي للحضارات الإنسانية في سيرورتها التاريخية، بل هي حضارة غرب منقطع عن غيرها، مما يشكل بالمقابل حضارة قومية دينية شرقية متجوهرة هي الأخرى على ذاتها، وإذ يرفض عفلق العناصر الديمقراطية داخل الحضارة الغربية فهذا للحفاظ على العناصر الدكتاتورية داخل الثقافة العربية، وهي هنا النظام الإقطاعي التقليدي، ببنيته الاجتماعية المذهبية.
فهنا أي عناصر غير سنية محافظة أو غير عربية وتدخل غرفة البخور القومية هذه فإنها تخلع ثيابها وتتماهى في هذه الثقافة العروبية المذهبية الشمولية وقد غدت الآن غائرة، أى غير مُعلنة ، لكنها في مراحلَ تاليةٍ سوف تظهرُ ما أخفته في مراحل سابقة؛ كانت فيها تمثلُ أصواتاً من عناصر الفئات الوسطى التي لا تزال بعد مستقلةً، والتي بعدُ لم تدخلْ أجهزةَ الدول وتتحدْ بهياكلها الشمولية السياسية – الاجتماعية. فتؤدلج أفكار الفئات الوسطى؛ في الحرية؛ والعلمانية، والديمقراطية، تبعاً لهذه الهياكل الشمولية التي سوف تقضمُ بأسنانها الحديدية أفكار التحديث هذه، مثلما فعلت تجاه أفكار محمد عبده في مصر.
وفى هذا الطور فإن البناء الإقطاعي المذهبي سوف يظهرُ من أفكار النفي لا الإثبات، في (النظريات والأنظمة المنبثقة عن حضارة الغرب) مرفوضة بسبب تجريدي غامض، لأن الأمة العربية لا تقبل برسالة تاريخية من أمة أخرى كما يقول، والأمر هنا ليس أمر رسالة، يسلمها ساعي بريد متغطرس لديوان ميشيل عفلق، بل هي تجارب شعوب على مدى عشرة قرون قامت فيها بمراكمة التجارب والاكتشافات في العلوم الطبيعية والاجتماعية، لكن العملية تعني رفض العناصر الديمقراطية في الحضارة الغربية كي لا تقوم بتفكيك رسالة البعث التاريخية في الحفاظ على الأبنية الإقطاعية – المذهبية.
إن مفهوم (الرسالة) يتضح هنا وهو أنه يعني مفهوم الغزو والاستعمار، فالغرب له رسالة هي هذا الغزو المكتسح وللبعث رسالة هي رسالة الأمة العربية في التحول إلى أمة متفوقة غازية، ورسالتان غازيتان لا تتوافقان. كما أن مفهوم الرسالة البعثي هذا هو محاولة كذلك للتمظهر بالرسالة المحمدية والتشبه بدورها، دون العودة إلى أسسها كثورة نهضوية شعبية.
إن عدم أخذ العناصر الديمقراطية الغربية يعني ضمناً تشكيل أحزاب شمولية، تقوم على الحفاظ على تلك البنى الاجتماعية المماثلة لطبيعتها الحزبية:
«فمن خصائص المرحلة الانقلابية إذاً أن تكون قيادة الحركة الشعبية بيد أقلية.. ولكنها أقلية من نوعية خاصة، أقلية واعية لواقع أمتها مؤمنة بقضية بلادها وبحقوق شعبها.. هذه الأقلية تتقدم لتمثيل الشعب قبل أن يفوضها الشعب تفويضاً صريحاً بهذا التمثيل، وهي التي تبدأ بأن تتجه للشعب لتوقظه على واقعه ولتنظم نضاله وتقوده في طريق الانقلاب».
إن التغييرات السياسية المستحيلة التى ما كان من الممكن أن تتم في المدن العربية تصبح الآن ممكنة بفضل التنظيم السياسي الذي يصل إلى الجيش والدولة عبر الانقلاب. لكن البناء الاجتماعي العربي الديني التقليدي يجري الحفاظ عليه، عبر رفض العمل التدريجي الإصلاحي داخل المجتمع على نحو طويل ، وعبر دمقطرته العميقة، ويجري هذا استلهام التجارب في اللينينية أو غيرها وعبر الارتكاز على هذه الجموع البسيطة المؤدلجة الشمولية.
إن رفض التطور التدريجي الإصلاحي يعني عدم هدم البنية الإقطاعية – المذهبية المترسخة عبر القرون والتي يجري الآن (بعثها)، وهنا بدلاً من أن تقوم الفئات الوسطى باستثمار الحرية العربية فهي تعود لأصلها السابق :
«الماضي شيء حقيقي أصيل في حياة أمتنا…إننا نقصد بالماضي ذلك الزمن الذي كانت فيه الروح العربية متحققة. وماذا نقصد نحن بالمستقبل الذي يغرينا ويدفعنا إلى النضال إن لم يكن هو الزمن الذي يجب أن تتحقق فيه روحنا الأصيلة، فماضينا، بهذا المعنى الصافي الصادق، أرسلناه أمامنا إشعاعاً ينيرُ لنا الطريق».
لا تقع هذه الكلمات فوق جسد اجتماعي معين، بل فوق الروح الغامضة المبهمة، أي ترفض عمليات التحليل الموضوعية للهياكل الإقطاعية الدينية العربية في العصر الوسيط، فهذه الهياكل العامة التي تعود لسيطرة تلك القوى الاجتماعية العليا من ملوك وارستقراطية بدوية هي المراد بعثها ، وليست حركات التغيير الاجتماعية ونضال الفئات الوسطى القديمة الذي لم يكتمل من أجل الديمقراطية والتحديث، ومن هنا فالعناصر البعثية المرتبطة بالفئات الوسطى المعاصرة تؤكد ارتباطها ببعث الهياكل الإقطاعية الدينية السابقة، وليس بإنتاج ثورة ديمقراطية معاصرة.
وهي تطلقُ بخورَ الكلمات مثل الروح الأصيلة والدين والإسلام لتعشى عيون الفحص العلمى:
(لأن القومية مثل الدين (تنبع من معين القلب وتصدر عن إرادة الله، وهما يسيران متآزرين متعانقين، خاصةً إذا كان الدين يمثل عبقرية القومية وينسجم مع طبيعتها)،.. «إن الدين دخل أوروبا من الخارج ولم ينزل بلغاتها القومية .. فى حين إن الإسلام كان أمره بالنسبة إلى العرب مختلفاً ولا يمكن أن تكون علاقته بالعروبة مثل علاقة أي دين بأية قومية.. وذلك على اعتبار ان العرب قد انفردوا عن سائر الأمم في اقتران يقظتهم القومية (برسالة دينية)».
ليس ثمة فروق موضوعية بين مرحلة الدين ومرحلة القومية، فهذا التطور التاريخي بين عصرين هما العصر الوسيط والعصر الحديث، ينتفيان، ولهذا فان التشكيلتين المختلفتين وهما الإقطاع والرأسمالية الحديثة تتنفيان هما الأخريان، وهنا تتضح عملية استعادة التركيبة التقليدية الماضية، ورفض الحداثة والرأسمالية المعاصرة وآليات تقدمها الديمقراطي، فالقومية ليست نتاج الدين، وقد كانت العناصر العربية في الحضارة الدينية السابقة عناصر ثقافية في وعي قبلي وديني، لم تصل ابداً الى وعي قومي، ولكن تدمير عناصر التحليل الموضوعية هنا يجري بقصد إلغاء فهم القومية كنتاج العصر الحديث، وربطها بعمليات دينية عامة واستغلال الدين كمظلة اجتماعية وسياسية.
إن الدعوة البعثية تستغل هنا الميراث الرسالي وتصوير نفسها كطبعة جديدة منها، مثلما تفعل الحركات المذهبية الأقطاعية، لكنها تختلف عنها عبر عدم الرجوع الى النصية الدينية الحرفية، والاكتفاء بعبارات عامة مجردة (الإسلام، القومية، النهضة الخ..) تسمح للفئات الوسطى المنتجة للبعث باستيراد مفاهيم ومظاهر أوروبية لا تصل إلى تجاوز المنظومة الإقطاعية — المذهبية.
وعدم التطابق مع الغرب هنا هو بقصد ألا تتماثل الفئات الوسطى العربية المعاصرة حسب الوعي البعثي بمثيلاتها الأوروبية وتنتج ثورة برجوازية ديمقراطية.
إن عدم وجود نصوصية دينية هنا والاعتماد على ذلك البخور الغيبي المجرد، هو بقصد التجاوز المظهري للانقسام الطائفي الإسلامي، فهو تجاوز مظهري لأنه لا يصل الى العلمانية، وقسمات الحداثة الأخرى ، لكونها تتطابق والنضالية الديمقراطية الثورية الغربية المماثلة. فهذه اللامذهبية الزائفة هي طائفية غائرة.
فلكون ميشيل عفلق لا يقوم بتحليل تطورات الصراع الاجتماعي والسياسي في الإسلام، وكون ذلك الصراع اتخذ طابعاً طائفياً، معبراً عن صراعات اجتماعية جرت باشكال دينية، مطلقاً همهمته الدرويشية الحديثة: روح نقية، معين القلب، رسالة السماء! الخ.. فهو يقوم بالانزلاق الاجتماعي السياسي نحو القوة المسيطرة على ذلك التاريخ: طبقة الإقطاعيين وممارساتها المذهبية السائدة، أي سيتماثل ووعي سني مذهبي محافظ في خاتمة المطاف ، لأنه لم يقم بنقد الصراع الاجتماعي — الطائفي السابق وتجاوزه بشكل حقيقي ، بل تجاوزه بشكل زائف، أي لم يقم برفض الإقطاع ومنظومته المذهبية.
إن (التنظيم الانقلابي) (سيكون أعضاءه الجنود المحاربون لنهضة عربية أصيلة تغذي الإنسانية جمعاء). واعتبر عفلق ان الحركة الانقلابية (وفكرة السرعة من صميمها) هي نقيض الحركة الإصلاحية، ورأى في التفكير التطوري شذوذاً مرضياً (فالعرب، أو خلافاً لغيرهم من الأمم لم يعرفوا غير نوعين من الحياة: الانقلاب أو الانحطاط، وارتقاؤهم بالتالي لا يمكن أن يتحقق بالنمو أو التطور الطبيعي، إذ أن الشقة (واسعة بعيدة، ولا بد من الانقلاب حتى يتحقق الارتقاء العسير).
وتتكامل هنا عناصر التطابق مع الماضي الإقطاعي الديني وأساليبه في التغيير، أي غير الوصول للجيش، ونظراً لكون القبائل العسكرية قد انتفى دورها الانقلابي في بلاد الشام رغم أماني زكي الأرسوزي في ذلك ، ولكن هذه القبائلية العسكرية البدوية ستبعثُ عبر الاستيلاء على الجيش، وهنا يتحقق شيء من التماثل مع الماضي، فبدلاً من الغزو الرعوي على الطريقة العربية والبربرية والتركية سيكون الانقلاب العسكري، وهذا ما سيشكله البعث السوري كمادة نموذجية لأقطار عربية اخرى، فيغدو الجيش هو الغزو الرعوي الجديد للحواضر المدنية العربية.
ولكن أين توجد أغلبية المادة البشرية الرعوية العربية غير لدى أهل السنة الصحراويين خاصة؟! وهنا ستغدو الجيوش المشرقية البعثية متوجهة لهذه المادة البشرية الطيعة. وقد كان البدو العرب الصحراويون عسكريين دائماً في حياتهم، ومن هنا ستتوجه التجربة البعثية للمذهب (السني) المحافظ المكرس في أجهزة السلطة عبر القرون، وعبر المادة العسكرية البدوية التي ستكون القواعد التحتية الطيعة لأنظمة شمولية جديدة.
ولكن التعابير العفلقية الغامضة عن الإسلام والنهضة من شأنها كذلك الإتاحة للعناصر المذهبية والدينية الأخرى من التواجد في هذا الفضاء العلماني الزائف، وهي عناصر غالباً ما تتكون من الفئات الوسطى ، وهي التي ستتواجد غالباً في المراكز المتوسطة والعليا من الجيش والإدارة.
ــــــــــــــــــــــــــــــــ
■ انظر عبــدالله خـلــيفة: الاتجاهات المثالية في الفلسفة العربية الإسلامية، الجزء الرابع، تطور الفكر العربي الحديث , وهو يتناول تكون الفلسفة العربية الحديثة في مصر خاصة والبلدان العربية عامة، منذ الإمام محمد عبده وبقية النهضويين والمجددين ووقوفاً عند زكي نجيب محمود ويوسف كرم وغيرهما من منتجي الخطابات الفلسفية العربية المعاصرة , 2015.

 •  0 comments  •  flag
Share on Twitter
Published on September 27, 2023 20:07

زكي الأرسوزي

زكي الأرسوزي من كبار المنظرين العرب للفكر القومي، وقد بدأ كتاباته فى أوائل القرن العشرين، وناضل لتأسيس الحركة القومية واعتبرت أفكاره رائدة للبعث.
لكنه يواصل إنتاج الوعي القومي الغيبي مثل الحصري وقسطنطين زريق، يقول:
«إن ظهور الأمة على مسرح التاريخ مماثل لظهور الإلهام في الوجدان أول لظهور النوع الحيواني ذي الطابع البديء على مسرح الطبيعة… وكما أن الإلهام ينجمُ في الوجدان كاستجابةٍ تجيبُ بها النفسُ على جملةِ رموز مرتسمة صوراً في الدماغ، وكما أن النوع يبدر على مسرح الطبيعة كاستجابة تجيبُ بها الحياة علي انقلاب في البيئة، فكذلك تظهر الأمةُ في تاريخ الإنسانية كعقيدة. إن الامة تجربة رحمانية في الوجود أجابت بها النفوس على ظروف طبيعية اجتماعية مشتركة، وإنه على عمق هذه الإجابة تقاس أصالة الأمة»، (رهانات النهضة، ماهر الشريف، ص ٢١٨).
يعرض الأرسوزي تكون الأمم بطريقة تجريدية عامة، خارج التكوينات الاقتصادية – الاجتماعية، فتظهر له بشكلين مختلفين، أحدهما أن يكون ظهور الأمة كإلهام، وهو عملٌ إبداعي ذاتي منقطعٌ عن الممارسة التراكمية الإبداعية وشروطها الموضوعية وهو يعيد الإلهام هنا إلى الموروث العربي السحري، وكأنه لقاء مفاجيء بالسماء وبالأرواح والشياطين، وبهذا فهو يدمغ تشكل الأمة هنا بلحظة ذاتية خيالية سحرية.
ثم يحول هذا الإلهام إلى لغة إيهامية بالعلم حين يقول بأن «الإلهام استجابة للنفس على رموز مرتسمة في الدماغ»، وتتحول النفس الموحدة هنا إلى جملة نفوس، فهناك النفسُ التي تستجيبُ وهناك الرموز التي في الدماغ، أي أن النفسَ تستجيب لنفسها، لكن الرموزَ هي انعكاساتٌ لأشياء في الوجود. وبهذا فإن العلاقة الموضوعية بين النفس والخارج تنسد لأن الأرسوزي حوّل النفس والرموز إلى شيء واحد.
والجانب التشبيهي الثاني يستعين بالنوع الحيواني في ظهوره على الطبيعة، كأن ظهورَ الأنواع الحيوانية هو نفسه ظهور الأمم على مسرح التاريخ، وهو يفسرُ ظهور الأنواع الحيوانية بشكل سحري كذلك، فالنوع يظهر كاستجابةٍ «تجيبُ بها الحياةُ على انقلاب في البيئة»، فهو يجعل الحياةَ قوةً مفارقة سماوية هى التى تبث عناصرنا في الوجود المادي. وهذه الحياة تقوم بطرح إجابة على أسئلةٍ فوق مسرح البيئة الذي شكل الأرسوزي أكسسوراته المجرد. فحين يحدث انقلاب في هذه البيئة تقوم الحياة بالإجابة وتخرجُ النوعَ.
وهنا يتقاطع الأرسوزي مرة أخرى مع العلم، فالنوع لا يتشكل كاستجابة مفاجئة، بل يقومُ بخلقِ تراكم عضي طويل داخله لكي يتكيف مع تبدل شروط البيئة الخارجية، التي تغيرت رغماً عنه، أو حين ذهب هو إلى بيئة جديدة، وتكونُ النوعِ هو هذا التكيفُ الطويلُ مع تحولاتِ الطبيعة، ويتحددُ بقدرةِ الأجسام على هذا التكيف وعلى التغلب على صعوبات البيئة.
لكن هذا التكيف للأنواع الحيوانية وظهور أنواع جديدة من رحم القديمة هو غير ظهور الأمم، فظهور الأمم يعودُ إلى مستوى تكون أخر هو التطور الاجتماعي، والتطور الاجتماعي له قوانينه المختلفة عن تكون الأنواع الحيوانية، فالأخير هو مستوى بيولوجي والآخر مستوى اجتماعي، وكلاهما من طبيعة نوعية مختلفة، ودمج النوعين يعود لشكل من الوعي الإيديولوجي الذي يُسقط مقولاته على الظاهرات.
فالأمة تكونُ تكويناتُها الأولى هى القبيلة والفخذ والشعب، وهذه التكوينات تكون أقرب للتكوينات الحيوانية ثم تتطور تبعاً للسيطرة على البيئة، وذلك عبر عملية صراع طويلة تفشل فيها جماعات وتنجح أخرى حسب تنامى قدراتها، ولكن حتى هذه العملية تعود لما قبل تكون الأمم، أي لعمليةِ تكونِ أسسها وقواعدها الإجتماعية التي تتمظهرُ في لغةٍ ووسطٍ تاريخي تتواجدُ فَيه وتشكلُ وعياً يميزها كجماعةٍ قومية عن أخرى، وهذا الوعي القومي الطالع الجديد لا بد أن يكون وعياً لا دينياً ، لأن الوعي الديني يوحدها ويذوبها في الجماعات القومية الأخرى التي تشترك في دينٍ واحد معها، وهذه العملية الانشقاقية التكوينية تحتاج إلى تغيير شروط البنية الاجتماعية، أي لا بد أن تتكون سوقٌ موحدة لهذه القومية كي تتجسد مصالحها الموحدة من بين الأمم الأخرى المحيطة والداخلة ربما فيها الخ..
خلافاً للوعي الموضوعي بالتاريخ يشكل زكي الأرسوزي لوحة شعرية إلهامية سحرية، بدلاً من أن يقوم بدرس تكوّن الأمة بصورة تاريخية موضوعية، فيستخدم تشبيهات واستعارات لا تتطابق والموضوع المدروس، ليصل من ثم إلى استنتاجات أيديولوجية مسبّقة:
«تظهر الامةُ على مسرح الطبيعة كعقيدة».
لا توجد قبائل تظهر على مسرح التاريخ بدون عقائد، فالعقيدةُ هي شكلٌ محددٌ لعلاقتها بالطبيعة ولعلاقاتها الداخلية، ومن هنا فكون العقيدة سحرية — أسطورية — دينية — قومية نهضوية — قومية تعصبية عدوانية، الخ، كلها تعبرُ عن صيرورة الجماعة في حالات تحولها من شكل ابتدائي إلى شكل متطور.
ولكن اللغة التجريدية للأرسوزي تجعل كيان الجماعة المتحولة إلى قومين متداخلاً مع تكوينات أخرى، سواء كانت تكوينات ما قبل القومية أم تكوينات قومية، أي تقوم بالخلط العشوائي ما بين أشكال وعيها السحرية والأسطورية والدينية والحديثة.
«الأمة تجربة رحمانية فى الوجود أجابت بها النفوسُ على ظروفٍ طبيعية مشتركة، وإنه على عمقِ هذه الإجابة تُقاس أصالة الأمة».
إن استخدام مصطلح تجربة رحمانية يشير إلى أثرٍ صوفي، فصلةُ الرحم الولادية تتحولُ إلى ما يشبه النشوة الكونية، وكأن تكون الأمة هو انبثاق غيبي إلهي، شكلته النفوسُ الروحانية تلك فكونت الامة. وعلي عكس ( العمق ) المراد يتشكل هنا التسطيح. ويستهدف الأرسوزي عموماً خلق مشاعر قومية فياضة، لكن مثل هذه المشاعر يستغلها بعد ذلك السياسيون الانتهازيون لصالح تكوينات الأحزاب القومية الحماسية التعصبية التي تنتجُ عكس ما كان يبتغيه الأرسوزي . فتصير الإجابةُ السياسية القومية المتجسدة على الأرض معيقةً لوعي الأمة وتطوره، لكون التأسيس الأيديولوجي كان مضاداً للعلم وللتطور الموضوعي.
وبطبيعة الحال فبما أى الأمةَ العربية جوهرٌ خارج الزمان والمكان وقادمٌ من الغيب، فإن أي أوشاب وأدران تكون ليس من جنسها الطاهر المقدس، بل من القوميات الأخرى التي اختلطت بها:
«لما طغى الدخيل والهجينُ على بيئتنا تقلصت مشاعرنا الرحمانية، وعميت بصائرنا في الشؤون الإنسانية.. واختل نظام القيم في مجتمعنا».
تغدو الآراء الشمولية الإيديولوجية المعاصرة برفض الاختلاف والتعدد الاجتماعي والتي تقود القومَ المسيسين المعبأين مُسقطةً على الماضي التعددي الاختلافي، الذي تطور عبر صراعاته واختلافاته، وقد عجز الماضون عن مواصلة التقدم، لأسباب مركبةٍ تعودُ إلى طبيعة علاقات الإنتاج، لكن علاقة الإنتاج الماضية التي عرقلت ذلك التطور تعودُ للنمو في عصر الأرسوزي، ولكنه لا يقرأ مجمل البنية الاجتماعية وتاريخ تطورها، بل يُسقط دعوته السياسية الحماسية على الماضي والحاضر، فيرى التدهورَ بسبب مجيء الأغيار غير العرب، وكأن العرب ليسوا هم الذين اقتحموا تلك البلدان غير العربية وسيطروا عليها وتحكموا في تاريخها، فتشكلت مجموعاتُ الشعوبِ الإسلامية غير القومية، وكانت سيطرة شعب على شعب مظهر لسيطرة طبقة على الشعوب المختلفة، ومن هنا ففي عالم «الأغيار» أي في نتاجات الشعوب الأخرى الإسلامية ما هو إيجابي وما هو سلبي، وقد سببت تلك السيطراتُ الاجتماعية للأقلية المميزة دفن الآثار الإيجابية لمختلف الأمم الإسلامية التي لم تكن في حالةَ اممٍ واعية لتميزها، وهي في الشكل السياسي الإمبراطوري، ولكن هذا الوعي ( القومي ) أخذ يظهر حين راحت الامبراطورية تتفكك، ولكن العرب خضعوا مرةً أخرى للإمبراطورية العثمانية التي دفنت ذلك التململ.
وحتى ذلك التململ القومي العربي كشكل من أشكال التجليات القومية للأمم الإسلامية، لم تتح له الظروف أن يظهر بشكل قومي بيّن، فظهر بشكل ديني مناطقي ومذهبي عبر المذاهب السنية والمقاومة للقوى الصليبية الغازية حينذاك.
ــــــــــــــــــــــــــــــــ
■ انظر عبــدالله خـلــيفة: الاتجاهات المثالية في الفلسفة العربية الإسلامية، الجزء الرابع، تطور الفكر العربي الحديث , وهو يتناول تكون الفلسفة العربية الحديثة في مصر خاصة والبلدان العربية عامة، منذ الإمام محمد عبده وبقية النهضويين والمجددين ووقوفاً عند زكي نجيب محمود ويوسف كرم وغيرهما من منتجي الخطابات الفلسفية العربية المعاصرة , 2015.

 •  0 comments  •  flag
Share on Twitter
Published on September 27, 2023 20:05

قسطنطين زريق

قسطنطين زريق من رواد ما يسمى بالفكر القومي العربي وقد تابع جهود ساطع الحصري ولكن باتجاه خاص، أي باتجاه تغييب العناصر القومية المفصولة عن سياق البُنى الاجتماعية، وجعل تلك العناصر المثالية مطلقة .
يقول بأن على العربي الواعي قومياً أن ينظر:
«في اللغة فيعرف من أين نشأت وكيف انتشرت ويفهم ميزاتها على غيرها من اللغات والقوى الخاصة التي جعلتها تسود سيادة تامة على هذه الأقطار الشاسعة؛ فلكل لغة نبوغ خاص وميزات تنفرد بها عن غيرها من اللغات: واللغة العربية، من بين اللغات جميعاً، قد أظهرت حيوية بالغة في دقة تنظيمها؛ وفي سعة انتشارها وفي مرونتها، التي جعلتها أداة صالحة لنقل شتى العلوم والآداب»، ودعا: «إلى استكشاف سر هذه الحيوية وفهم القوى الخاصة التى تمثلها لغتنا كي نستغل هذه القوى في تنظيم حاضرنا وبناء مستقبلنا»، (نقلاً عن رهانات النهضة العربية، ماهر الشريف، ص ٢٠٨).
يقوم قسطنطين زريق هنا بالافتراق عن علوم اللغة الموضوعية، التي جعلت كل لغة مثل بقية اللغات، فلكل لغة أداة توصيل وأداة تراكم فكري وثقافي، فلا توجد لغة خارقة ولغة تافهة، وأي تطور للغة ما رهين ليس بميزاتها الشكلانية المفصولة عن البنى الاجتماعية، وتراكم الخبرة والثقافة لدى المتكلمين بها، بل بما يحدث من تطور اجتماعي – فكري لدى المتحدثين بهذه اللغة.
لكنه في سبيل زحزحة هذا الفهم الموضوعي ولإعطاء اللغة العربية ميزات خاصة عن بقية اللغات يدلل على ذلك بكلمات عامة مثل «القوى الخاصة التى جعلتها تسود سيادة تامة على هذه الأقطار الشاسعة» فكأن اللغة العربية لديها سحرية خاصة جعلتها تسود، ولعل الأمر في رأيه إن لغةً أخرى ما كان يمكن أن تسود فى مثل هذه الظروف التي توسع فيها العرب وحكموا، فالمسألة هنا تعود للغة وليس للظروف التي جعلت العرب قوةً حربية في الصحراء تمكنت من هزيمة جيوش أنظمة عبودية معممة احتدمت بتناقضاتها الداخلية ، وكانت لديها لغات خاصة، لكن هذه اللغات الخاصة للشعوب المحكومة من قبل العرب تعرض بعضها للاندثار بسبب السيادة العربية التي استخدمت كافة الوسائل لفرض لغتها، وخاصة عامل التوحيد بين الدين واللغة والسلطة.
ولا يعنى ذلك بأن اللغة العربية ليست ذات إمكانيات داخلية جيدة في بنائها الصرفي والنحوي والاشتقاقي، بل يعني أن اللغةَ أداةٌ محايدة، مثل أي جهاز، ولكنه جهاز مرتبط بالاتصال وغنى الاتصال بين الجماعات المتحدثة بهذا الجهاز. كالقلم ينمو عبر اشتباكه بالفكر والورق ، ويصدأ خارج هذا الجدل.
وهكذا فإن اللغة العربية حملت ميراثها البدوي والديني وهي تتحول إلى لغة حاكمة ومتسيدة على الجمهور الأممي الذي لا ينطق بالعربية، وهذا الجمهور الشعبي الأممي الأمي لم يستطع الانتقال إلى اللغة العربية الفصحى إلا في فئات محدودة هي غالباً ما تتكون من الفئات الوسطى، في حين عجزت الجماهير البسيطة من الانتقال إلى الفصحى التي غدت هي أداة الاتصال بين المتعلمين وأخذت هذه الجماهير تجمع بين لغاتها القديمة واللغة الجديدة وهي تقوم بتكسير قواعدها الفصيحة وتخضعها للتداول العامي المتعدد الأشكال.
وهذا التناقض اللغوي يعود للتناقض الاجتماعي بين قوى الأشراف التي تربعت على السلطات وجماهير الأمم المختلفة ، التي لم تصل إليها التحولات المعرفية النهضوية العربية الإسلامية التي انتشرت بفعل نشاط الفئات الوسطى المثقفة في مختلف فروع العلوم، ولهذا فإنه بعد تفكك الإمبراطورية السياسية الموحَّدة أخذت لغاتُ الأمم غير العربية في الصعود مرةً أخرى لتزيح اللغة العربية تماماً عن مثل هذه البلدان.
تعود مسائل تطور أو عجز اللغة العربية إلى قضايا التحول الاجتماعي، وإلى عجز القوى السياسية العربية أو المتعربة عن تغيير حياة الجمهور الأمي الفقير، ومن هنا فإن التعميمات بشأن القدرة الخارقة للغة العربية لا تعكس قراءة تاريخية موضوعية، بقدر ما تعبر عن إسقاط ايديولوجي لمثقفين معاصرين يحولون عناصر ثقافية قومية معينة إلى جوانب سحرية خارقة، وهي عملية تؤدي إلى تعطيل العقل العربي الفاحص لواقعه.
ويواصل قسطنطين زريق النظرات التعميمية حيث يقول مثلاً عن الحضارة العربية: «أن العرب استطاعوا في العصور الغابرة أن يهضموا مدنيات اليونان والرومان والفرس والهند، ويمثلوها في عقولهم النشيطة ونفوسهم الظمأى ويخرجوها إلى العالم وحدة منسجمة غنية المادة باهرة اللون»..
إن التعميم حول العرب هنا يحولهم إلى كيان متجوهر، مجرد عام، وكذلك هذا يحدث لكافة العمليات التالية: الهضم، والتمثل، فهذه جوانب تاريخية وثقافية مركبة قامت بها قوى معينة مثقفة من شتى الأمم العربية والفارسية والبربرية والتركية الخ.. ولم تكن هذه المادة الثقافية الضخمة ( منسجمة.. باهرة اللون ) بل كانت متصادمة تعبر عن مستويات واتجاهات متعددة وقوى شتى.
في إحالة زريق الثقافة الدينية الإسلامية القديمة إلى ثقافة قومية وإلى ثقافة عرب مجردين، يُسقط لحظته الزمنية الإيديولوجية المعاصرة على زمن لم تكن فيه ثقافة قومية، لأنه لا يريد أن يعترف بمساهمات الأمم غير العربية في تلك الثقافة، وعدم الاعتراف ناشئٌ من وعي قومي شمولي، يزيلُ مساهمات الأمم الأخرى في ظل المستوى المعرفي والاجتماعي الديني السابق، ويحيلُ العربَ الى هذا الكيان المتجوهز اللاتاردخي واللامنقسم وبالتالي فإنه يقيمُ رؤية سياسيةً معاصرة طاردةً لأي تنوع عربي ولأي تعدد قومي داخل الكيان العربى.
«كذلك ستكون مهمة العرب في الأعصر التالية أن يتشربوا علمَ الغرب ويجمعوا إليه العناصر المختلفة، التي تنشأ كرد فعل له، ويؤلفوا بينها في وحدة جديدة تكون عنوان الحياة المقبلة ويفيض بها العربُ على العالم، كما فاضوا عليه بمدينتهم الباهرة في القرون الماضية».
إن الغموض التعبيري هنا هو غموض في فهم الحاضر والمستقبل، فغير معروفة هي العناصر المأخوذة من الغرب، ومن يأخذها وفي أي مسار سياسي واقتصادي، وتحلُ اللغة الرومانسية الغموصَ في فهم سيرورة التاريخ، فالعرب الذين ظهورا كشكل سحري في العالم السابق، يستطيعون القيام بنفس الدور، فلا توجد تضاريس ولا هياكل اقتصادية مختلفة، وإنما تلك القوة الغيبية التي فاضت على العرب ففاضوا على الوجود ماضيه ومستقبله.
وهذا التجوهر العربي المفارق للأوضاع الموضوعية يقود إلى مفهوم «الرسالة»، فهذه الأمة غير المنقسمة الباهرة الثقافة والمنجزات غير المرتبطة بأوضاع صحراوية قاسية أو بتخلف اقتصادي أو بإنجازات واقعية، تتحول إلى كيان خرافي قادر على صنع المعجزات بلا عوامل موضوعية مدروسة.
يستعير المفهومُ القومي النخبوي المثالي الفكرَ الديني ليحمله أهدافه بدلاً من قراءة واقعية الفكر الديني في عصره. فكما أن الفكر الديني له رسالة، وحاملوها هم العرب، فكذلك فإن الرسالة تتجدد ويحملونها مرة أخرى فى العصر الراهن:
«أن القوة المدبرة وراء هذا الكون قد أعدت العرب لأمر لا يستطيع أي شعب أخر أن يقوم به دونهم»، أي أنهم لا بد أن يقوموا بأمر هذه الرسالة ويفيضوا بها على العالم.
ودمج الفكر الديني بالفكر القومي من شأنه هنا أن يجعل أهداف الحركة القومية العربية أهدافاً دينية مقدسة، وقدرية، وغيبية، فهي ليست بحاجة هنا إلى العلوم وإلى الديمقراطية وتجديد البنى الاجتماعية ما دامت متصلة بالغيب وهو الذي يغذيها، وحين يروج قادة هذا الوعي الإيديولوجي القومي في الحياة لمثل هذا الفكر الديني – القومي – السحري المضاد للعصر وللفحص العقلي فلا بد أن يكون ذلك عبر مؤسسات شمولية، أي عبر أجهزة سياسية ينزل فيها هذا الوعي من القمة المهيمنة إلى القاعدة المؤدلجة، ولهذا فإن صانعي هذا الوعي الطالعين من الجامعات والمعاهد يتوجهون إلي التنظيمات ولا يدرسون هذا الفكر عبر البحوث فى الجامعات. وبدلاً من أن يواصلوا عملهم العلمي يخرقونه لتشكيل عملهم الإيديولوجي المسيس التبسيطي.
ــــــــــــــــــــــــــــــــ
■ انظر عبــدالله خـلــيفة: الاتجاهات المثالية في الفلسفة العربية الإسلامية، الجزء الرابع، تطور الفكر العربي الحديث , وهو يتناول تكون الفلسفة العربية الحديثة في مصر خاصة والبلدان العربية عامة، منذ الإمام محمد عبده وبقية النهضويين والمجددين ووقوفاً عند زكي نجيب محمود ويوسف كرم وغيرهما من منتجي الخطابات الفلسفية العربية المعاصرة , 2015.

 •  0 comments  •  flag
Share on Twitter
Published on September 27, 2023 20:03