قسطنطين زريق

قسطنطين زريق من رواد ما يسمى بالفكر القومي العربي وقد تابع جهود ساطع الحصري ولكن باتجاه خاص، أي باتجاه تغييب العناصر القومية المفصولة عن سياق البُنى الاجتماعية، وجعل تلك العناصر المثالية مطلقة .
يقول بأن على العربي الواعي قومياً أن ينظر:
«في اللغة فيعرف من أين نشأت وكيف انتشرت ويفهم ميزاتها على غيرها من اللغات والقوى الخاصة التي جعلتها تسود سيادة تامة على هذه الأقطار الشاسعة؛ فلكل لغة نبوغ خاص وميزات تنفرد بها عن غيرها من اللغات: واللغة العربية، من بين اللغات جميعاً، قد أظهرت حيوية بالغة في دقة تنظيمها؛ وفي سعة انتشارها وفي مرونتها، التي جعلتها أداة صالحة لنقل شتى العلوم والآداب»، ودعا: «إلى استكشاف سر هذه الحيوية وفهم القوى الخاصة التى تمثلها لغتنا كي نستغل هذه القوى في تنظيم حاضرنا وبناء مستقبلنا»، (نقلاً عن رهانات النهضة العربية، ماهر الشريف، ص ٢٠٨).
يقوم قسطنطين زريق هنا بالافتراق عن علوم اللغة الموضوعية، التي جعلت كل لغة مثل بقية اللغات، فلكل لغة أداة توصيل وأداة تراكم فكري وثقافي، فلا توجد لغة خارقة ولغة تافهة، وأي تطور للغة ما رهين ليس بميزاتها الشكلانية المفصولة عن البنى الاجتماعية، وتراكم الخبرة والثقافة لدى المتكلمين بها، بل بما يحدث من تطور اجتماعي – فكري لدى المتحدثين بهذه اللغة.
لكنه في سبيل زحزحة هذا الفهم الموضوعي ولإعطاء اللغة العربية ميزات خاصة عن بقية اللغات يدلل على ذلك بكلمات عامة مثل «القوى الخاصة التى جعلتها تسود سيادة تامة على هذه الأقطار الشاسعة» فكأن اللغة العربية لديها سحرية خاصة جعلتها تسود، ولعل الأمر في رأيه إن لغةً أخرى ما كان يمكن أن تسود فى مثل هذه الظروف التي توسع فيها العرب وحكموا، فالمسألة هنا تعود للغة وليس للظروف التي جعلت العرب قوةً حربية في الصحراء تمكنت من هزيمة جيوش أنظمة عبودية معممة احتدمت بتناقضاتها الداخلية ، وكانت لديها لغات خاصة، لكن هذه اللغات الخاصة للشعوب المحكومة من قبل العرب تعرض بعضها للاندثار بسبب السيادة العربية التي استخدمت كافة الوسائل لفرض لغتها، وخاصة عامل التوحيد بين الدين واللغة والسلطة.
ولا يعنى ذلك بأن اللغة العربية ليست ذات إمكانيات داخلية جيدة في بنائها الصرفي والنحوي والاشتقاقي، بل يعني أن اللغةَ أداةٌ محايدة، مثل أي جهاز، ولكنه جهاز مرتبط بالاتصال وغنى الاتصال بين الجماعات المتحدثة بهذا الجهاز. كالقلم ينمو عبر اشتباكه بالفكر والورق ، ويصدأ خارج هذا الجدل.
وهكذا فإن اللغة العربية حملت ميراثها البدوي والديني وهي تتحول إلى لغة حاكمة ومتسيدة على الجمهور الأممي الذي لا ينطق بالعربية، وهذا الجمهور الشعبي الأممي الأمي لم يستطع الانتقال إلى اللغة العربية الفصحى إلا في فئات محدودة هي غالباً ما تتكون من الفئات الوسطى، في حين عجزت الجماهير البسيطة من الانتقال إلى الفصحى التي غدت هي أداة الاتصال بين المتعلمين وأخذت هذه الجماهير تجمع بين لغاتها القديمة واللغة الجديدة وهي تقوم بتكسير قواعدها الفصيحة وتخضعها للتداول العامي المتعدد الأشكال.
وهذا التناقض اللغوي يعود للتناقض الاجتماعي بين قوى الأشراف التي تربعت على السلطات وجماهير الأمم المختلفة ، التي لم تصل إليها التحولات المعرفية النهضوية العربية الإسلامية التي انتشرت بفعل نشاط الفئات الوسطى المثقفة في مختلف فروع العلوم، ولهذا فإنه بعد تفكك الإمبراطورية السياسية الموحَّدة أخذت لغاتُ الأمم غير العربية في الصعود مرةً أخرى لتزيح اللغة العربية تماماً عن مثل هذه البلدان.
تعود مسائل تطور أو عجز اللغة العربية إلى قضايا التحول الاجتماعي، وإلى عجز القوى السياسية العربية أو المتعربة عن تغيير حياة الجمهور الأمي الفقير، ومن هنا فإن التعميمات بشأن القدرة الخارقة للغة العربية لا تعكس قراءة تاريخية موضوعية، بقدر ما تعبر عن إسقاط ايديولوجي لمثقفين معاصرين يحولون عناصر ثقافية قومية معينة إلى جوانب سحرية خارقة، وهي عملية تؤدي إلى تعطيل العقل العربي الفاحص لواقعه.
ويواصل قسطنطين زريق النظرات التعميمية حيث يقول مثلاً عن الحضارة العربية: «أن العرب استطاعوا في العصور الغابرة أن يهضموا مدنيات اليونان والرومان والفرس والهند، ويمثلوها في عقولهم النشيطة ونفوسهم الظمأى ويخرجوها إلى العالم وحدة منسجمة غنية المادة باهرة اللون»..
إن التعميم حول العرب هنا يحولهم إلى كيان متجوهر، مجرد عام، وكذلك هذا يحدث لكافة العمليات التالية: الهضم، والتمثل، فهذه جوانب تاريخية وثقافية مركبة قامت بها قوى معينة مثقفة من شتى الأمم العربية والفارسية والبربرية والتركية الخ.. ولم تكن هذه المادة الثقافية الضخمة ( منسجمة.. باهرة اللون ) بل كانت متصادمة تعبر عن مستويات واتجاهات متعددة وقوى شتى.
في إحالة زريق الثقافة الدينية الإسلامية القديمة إلى ثقافة قومية وإلى ثقافة عرب مجردين، يُسقط لحظته الزمنية الإيديولوجية المعاصرة على زمن لم تكن فيه ثقافة قومية، لأنه لا يريد أن يعترف بمساهمات الأمم غير العربية في تلك الثقافة، وعدم الاعتراف ناشئٌ من وعي قومي شمولي، يزيلُ مساهمات الأمم الأخرى في ظل المستوى المعرفي والاجتماعي الديني السابق، ويحيلُ العربَ الى هذا الكيان المتجوهز اللاتاردخي واللامنقسم وبالتالي فإنه يقيمُ رؤية سياسيةً معاصرة طاردةً لأي تنوع عربي ولأي تعدد قومي داخل الكيان العربى.
«كذلك ستكون مهمة العرب في الأعصر التالية أن يتشربوا علمَ الغرب ويجمعوا إليه العناصر المختلفة، التي تنشأ كرد فعل له، ويؤلفوا بينها في وحدة جديدة تكون عنوان الحياة المقبلة ويفيض بها العربُ على العالم، كما فاضوا عليه بمدينتهم الباهرة في القرون الماضية».
إن الغموض التعبيري هنا هو غموض في فهم الحاضر والمستقبل، فغير معروفة هي العناصر المأخوذة من الغرب، ومن يأخذها وفي أي مسار سياسي واقتصادي، وتحلُ اللغة الرومانسية الغموصَ في فهم سيرورة التاريخ، فالعرب الذين ظهورا كشكل سحري في العالم السابق، يستطيعون القيام بنفس الدور، فلا توجد تضاريس ولا هياكل اقتصادية مختلفة، وإنما تلك القوة الغيبية التي فاضت على العرب ففاضوا على الوجود ماضيه ومستقبله.
وهذا التجوهر العربي المفارق للأوضاع الموضوعية يقود إلى مفهوم «الرسالة»، فهذه الأمة غير المنقسمة الباهرة الثقافة والمنجزات غير المرتبطة بأوضاع صحراوية قاسية أو بتخلف اقتصادي أو بإنجازات واقعية، تتحول إلى كيان خرافي قادر على صنع المعجزات بلا عوامل موضوعية مدروسة.
يستعير المفهومُ القومي النخبوي المثالي الفكرَ الديني ليحمله أهدافه بدلاً من قراءة واقعية الفكر الديني في عصره. فكما أن الفكر الديني له رسالة، وحاملوها هم العرب، فكذلك فإن الرسالة تتجدد ويحملونها مرة أخرى فى العصر الراهن:
«أن القوة المدبرة وراء هذا الكون قد أعدت العرب لأمر لا يستطيع أي شعب أخر أن يقوم به دونهم»، أي أنهم لا بد أن يقوموا بأمر هذه الرسالة ويفيضوا بها على العالم.
ودمج الفكر الديني بالفكر القومي من شأنه هنا أن يجعل أهداف الحركة القومية العربية أهدافاً دينية مقدسة، وقدرية، وغيبية، فهي ليست بحاجة هنا إلى العلوم وإلى الديمقراطية وتجديد البنى الاجتماعية ما دامت متصلة بالغيب وهو الذي يغذيها، وحين يروج قادة هذا الوعي الإيديولوجي القومي في الحياة لمثل هذا الفكر الديني – القومي – السحري المضاد للعصر وللفحص العقلي فلا بد أن يكون ذلك عبر مؤسسات شمولية، أي عبر أجهزة سياسية ينزل فيها هذا الوعي من القمة المهيمنة إلى القاعدة المؤدلجة، ولهذا فإن صانعي هذا الوعي الطالعين من الجامعات والمعاهد يتوجهون إلي التنظيمات ولا يدرسون هذا الفكر عبر البحوث فى الجامعات. وبدلاً من أن يواصلوا عملهم العلمي يخرقونه لتشكيل عملهم الإيديولوجي المسيس التبسيطي.
ــــــــــــــــــــــــــــــــ
■ انظر عبــدالله خـلــيفة: الاتجاهات المثالية في الفلسفة العربية الإسلامية، الجزء الرابع، تطور الفكر العربي الحديث , وهو يتناول تكون الفلسفة العربية الحديثة في مصر خاصة والبلدان العربية عامة، منذ الإمام محمد عبده وبقية النهضويين والمجددين ووقوفاً عند زكي نجيب محمود ويوسف كرم وغيرهما من منتجي الخطابات الفلسفية العربية المعاصرة , 2015.

 •  0 comments  •  flag
Share on Twitter
Published on September 27, 2023 20:03
No comments have been added yet.