تنوير لويس عوض

مثل الناقد والباحث لويس عوض شخصية ليبرالية متماسكة ونضالية على مدى عقود القرن العشرين المهمة عربياً 1914 – 1990.
كان مولده من أسرة مصرية مسيحية ريفية من الشرائح الوسطى، حيث كان الأب موظفا وذا انتماء سياسي عاطفي لحزب الوفد، وجه ابنه نحو الثقافة الإنجليزية. وقد استكمل الابن هذا المشوار عبر دخوله الجامعة واختياره الأدب الإنجليزي ميداناً لتخصصه، وكان معلموه هم أساتذة التنوير والليبرالية الفكرية كطه حسين والعقاد وسلامة موسى.
يعبر لويس عوض بشكل نموذجي عن المثقف الليبرالي الذي كرس نفسه لاستلهام الثورة البرجوازية الأوروبية ونقل تأثيراتها إلى الشرق، وهو بهذا يشارك الرعيل الأول الذي خاض النضال الديمقراطي والوطني منذ بداية القرن العشرين، وأسس تجربة الوفد وتجلياتها السياسية والفكرية المختلفة.
لقد عمل لويس على نقل تأثيرات الثورة الديمقراطية في الوعي والثقافة بشكل خاص، حيث كان معظم إنتاجه أدبياً، ثم توسع في ستينيات القرن 20 لقضايا تطور الفكر المصري ومسائل الاشتراكية وغيرها.
تظللت ليبراليته وخطه الفكري السياسي بنشأته في الطائفة القبطية، وأسرته المنتمية إلى الفئات الوسطى، والمحاطة بمجتمع إسلامي ريفي، تهيمن عليه العلاقات الإقطاعية الدينية، والتي غدت في وعي لويس عوض بأنها (الإسلام).
وبهذا غدت العائلة المسيحية، ومن ورائها العالم الغربي المسيحي، التحديثي، الرأسمالي، هو البديل لمجتمع شرقي ديني إقطاعي، متخلف.
إن البدائل هي الحداثة والعلمانية والديمقراطية، و لا بد في سبيل ذلك من إزاحة هذا المجتمع الديني المتخلف الإسلامي واستبداله مجتمع النهضة والحداثة.
تتكون هذه التناقضات المطلقة بين التكوين الشرقي الإسلامي المتخلف غير العلماني وغير الديمقراطي، وبين التكوين الحديث الغربي المسيحي، من قضايا الاضطهاد التي واجهها المسيحيون في الريف المصري خاصة، يقول في مذكراته: «كنت أسمع هذا الكلام نحو 1923 وأنا في الثامنة من عمري فحفر في وجداني وعقلي آثاراً عميقة وعمق وعيي السياسي للمسالة الطائفية في مصر وخارج مصر.» ويقول لويس عوض: «إن أسماء أسرته مشتقة من التوراة والإنجيل»، ويسيطر عليه على الرغم من عقلانيته وعلمانيته: «إن بعض أفراد العوضية يحسون إحساساً عميقاً ليس فقط بفرعونيتهم ولكن أيضاً بأنهم من نسل ملوك مصر القديمة، وأنا شخصياً ورغم عقلانيتي الشديدة استسلم أحياناً لهذا الوهم..»، (اعترافات لويس عوض، أحمد محمد عطية، أخبار الخليج، 24/7/1990).
إن هذا الصراع الذي يعبر عنه لويس عوض هو نتاج الصراع الاجتماعي الذي جرى في مصر، وخاصة في الريف، من توغل العرب وخاصة القبائل الرعوية، محمية من الأنظمة الاستبدادية للاستيلاء على أراضي الفلاحين الأقباط، وهو الصراع الذي اتخذ طابعاً دينياً، عبر الهجوم على الأقباط ومظاهر عبادتهم، ولجوء الأقباط إلى التمترس في دينهم، دفاعاً عن أرضهم ومصاحهم وتطورهم الروحي المستقل.
واذا كانت المدن المصرية التي ينشأ ويختلط فيها المسلمون والأقباط، فإنها لا تغدو مدينة برجوازية حرة، تبعد الدين عن السلطة، فهي مدن إدارية للإقطاع المذهبي ولهذا فإن لويس عوض يحمل رفضاً لهذا المضمون العميق من الصراع، ولكنه يأخذ في وعيه الصراع بين الإسلام اعتباره ديناً للرعاة وكمنظور متخلف وبين الحداثة القادمة من الغرب المسيحي، كصراع مطلق. إن العرب والبدو والإسلام يأخذون في وعيهم طابعاً واحداً مطلقاً، كما يأخذ الغرب والعلمانية والحداثة طابعاً مطلقاً آخر، وليس بالإمكان لقاء الجانبين.
إن لويس عوض يعد من هذه الفئات من الشرائح الوسطى المسيحية التي بدأت برفض الاقطاع الديني، القادم من بلاد العرب، وقد أخذت هذه الشرائح في بداية القرن العشرين تكون مزيجاً مصرياً مشتركاً في علمانية غامضة الملامح الفكرية والاجتماعية، ولهذا فإن التكوينين الديني والقومي يبقيان غامضين في برنامج حزب الوفد، الذي لا يتغلغل في جذور هذه العلمانية، طارحاً فكرة القومية المصرية، أو الشخصية الفرعونية، وهي كلها محولات أيديولوجية لتشكيل تحالف من شرائح «الطبقة الوسطى» مبهمة الملامح الفكرية.
إن الرعيل النهضوي المصري يتكون في هذا المناخ، وخاصة الجيل الذي أعقب ثورة 1919 والذي كان لويس عوض ونجيب محفوظ وغيرهما منه، وليست روايات محفوظ وأعمال لويس عوض بعيدة عن أصدائه.
ونلاحظ هنا ان العودة إلى التاريخ الفرعوني أو الاقتباس واستلهام الغرب الديمقراطي، لدى هؤلاء في هذه المرحلة، يستبعدان التاريخ العربي الاسلامي، فتمثل تلك الحقب القديمة أو الحديثة، مقصاً لإزالة الحقبة العربية الإسلامية، باعتبارها علة مصر وأساس تخلفها.
إن هذا الوعي لا يشير إلى وجود نهضات عربية ما، وبالتالي لا يرى مراحل واتجاهات وطبقات في التاريخ والوعي العربي الإسلامي، ويحيل هذه التلاوين إلى وجود واحد هو الاقطاع الديني. إن اتجاه نجيب محفوظ ولويس عوض وسلامة موسى إلى التغييب الكلي للزمن العربي الإسلامي، سوف يقابله مستقبلا الحضور الكلي للزمن العربي الإسلامي ممثلا في العقاد وطه حسين وغيرهما.
إن الشرائح الوسطى المصرية في وصولها ومشاركتها في السلطة منذ العشرينيات، أخذت تفقد طابعها العلماني والتحديثي، وليس ذلك لأسباب فكرية محضة، بل لعوامل اقتصادية واجتماعية متنامية في صفوفها، حيث أخذ حزب الوفد يضم أكثر فأكثر شرائح من الطبقة الاقطاعية، وغدت طبقة الأعيان مؤثرة في قراراته وتراجعت فئات «الأفندية».
إن هذا انعكس على توجهات الوفد. التي تراجعت شعاراته العلمانية، وراح النفوذ الديني يتغلغل إلى صفوفه.
لقد أصبحت المعركة لكسب أصوات المسلمين وهم الأكثرية مسألة حيوية للأحزاب والقوى الحاكمة. وقد توجه الاستعمار والسراي الملكي (الاقطاع الحاكم السياسي بجناحيه!) إلى استغلال الاسلام ضد الوفد والحداثة والعلمانية، أي بتحريك الاقطاع الديني الاجتماعي لوقف تصاعد نمو الفئات الوسطى. لكن الوفد دخل المعركة بلا مفكرين يغوصون بعمق في تضادات الموقف وتركيبه.
ومن الممكن أن نرى في آراء لويس عوض نفسه، لوحة تكشف هذه القضية وتلاوينها.
لقد وقف ضد توجهات طه حسين والعقاد ومحمد حسين هيكل لقراءة الإسلام. وقف ضد قراءاتهم جميعاً، ليس لأن هذه القراءات جميعها تمثل موقفاً معادياً للحداثة، بل لأنها تقرأ الاسلام.
إن قراءة الإسلام حسب هذا الطرح ،«العلماني» تمثل نكوصاً نحو التخلف، وهنا نرى مثالاً عن التضادات المطلقة لوعي لويس عوض. ولكن هذه القراءات عن الاسلام متباينة في اجتهاداتها، ففي حين مثلت قراءتا العقاد ومحمد حسين هيكل وعياً يمينياً لتوظيف الإسلام لمصالح القوى الأرستقراطية في المجتمع، مثلت قراءة طه حسين رؤية تقدمية عبر كشفها الصراع الاجتماعي بين العرب وانحيازها إلى القوى المضطهدة والتقدم خاصة في كتابه «الفتنة الكبرى». وبهذا فإن لويس عوض قد وضع الإسلام كما تضعه القوى المحافظة كوعي لمصلحة المستبدين، أي فقد القراءة الموضوعية لرؤية الإسلام في مساره الحقيقي المركب، أي أن العداءين الديني والشخصي تغلبا على العقل في شخص لويس عوض. وهذا المسار الذي كرسه سلامة موسى، لم يستطع لويس عوض رؤيته أيضاً في إبداع نجيب محفوظ، الذي غادر مرحلته التاريخية الروائية، وغادر مرحلته الفرعونية كذلك، حين كتب «الثلاثية». لقد مثلت الروايات التاريخية عند نجيب محفوظ بطولة الفرعون، في حين مثلت الثلاثية بطولة الشعب.
نستطيع ان نقول عن انقلاب لويس عوض على العقاد إنه يمثل مسيرة طبيعية في مسيرة وعيه الديمقراطي، فالعقاد في بدء حياته الفكرية كان هو صوت الدستور والحرية، ولكن منذ سنة 1935 دخل «فأصبح حرباً عواناً على الدستور وحكم الشعب والمدافع الأول عن حكم الصفوة، وتوقف عدائه للإنجليز… وتقارب مع الملك فاروق حتى قال فيه شعراً ونثراً… وأعلنها حرباً عواناً على مجانية التعليم وعلى مطالب العمال والفلاحين..» (أوراق العمر، المصدر السابق، الحلقة الثالثة).
إذاً فإن تضاده مع العقاد يبقى واضحاً، حيث استمر لويس عوض في خطه الوطني والديمقراطي، لكن تضاده مع طه حسين الذي اتخذ مسيرة مضادة للعقاد، والذي بدأ حياته الفكرية السياسية بالهجوم على سعد زغلول: زعيم الرعاع كما وصفه، ثم تحول إلى مناضل ووزير وفدي، هو الذي يكشف طبيعة تنوير لويس عوض الغربي المستورد وغير المتجذر في الإرث الوطني المسيحي الإسلامي.
فعلى عكس لويس عوض قام طه حسين بكشف بعض تناقضات التاريخ العربي الإسلامي، منحازاً إلى جانب التقدم والمضطهدين فيه، في بعض أعماله الأساسية، أي أنه دخل في صميم تغيير جوانب من البنية الاقطاعية الموروثة. أي أن طه حسين من جهته، لم يطرح في الثقافة أو السياسة، ضرورة تغيير جذري للمنظومة الاقطاعية.
إن اتخاذ لويس عوض موقفاً معادياً بشكل جوهري للبنية التاريخية التي شكلها العرب في المنطقة، يجعل تحليلاته واستنتاجاته لنتائج وتطورات هذا التاريخ، غير موضوعية.
ففي رفضه للشعر العربي الكلاسيكي يرفضه بشكل مطلق، معلناً وفاته بعد وفاة أحمد شوقي. وهذه العملية ليست بحثاً مشروعاً عن تطور في الشكل الشعري العربي، ولكنها تتجاوزها إلى محاولة إلغاء النوع الشعري العربي، عبر العودة إلى العامية ونقل أشكال شعرية غربية متعالية على سيرورة تطور الشعر العربي، تجد بعض حيثياتها في قصيدة إليوت. يقول أحد الباحثين عن عمله الشعري والنقدي: «محاولته التنظير وأثر ثقافته الغربية وطغيانها عليه، بحيث جرفه ذلك إلى كثير من التطرف والتعصب اللذين ــ بالإضافة إلى أنه لم يكن شاعراً ــ أديا به إلى إخفاق دعوته وإلى محدودية أثر ديوانه، بسبب ركاكة ورداءة النماذج الشعرية التي نظمها من ناحية، ومن ناحية أخرى بسبب نظم كثير من هذه النماذج بالعامية، كذلك بسبب تكلف كثير من النماذج واثقالها بالإشارات والألفاظ الأجنبية من ناحية ثالثة»، (بحث حسني محمود في مؤتمر المشروع الثقافي للويس عوض، القاهرة، بمناسبة الذكرى العاشرة لرحيله).
تتوارى هنا كذلك فكرة رفض الجسم العربي الثقافي بكليته. ولكن حتى هذه الفكرة تحتاج إلى غوص في النوع الشعري وفى الواقع، إنتاجاً وتحليلاً، وهذا ما لم يفعله، ولهذا فان النوع الشعري البديل لكل النوع الشعري العربي لم يتجذر، لأنه مغامرة في الهواء.
إن لويس عوض وهو يعيد إنتاج علمانية سلامة موسى المغربة، أي التي لا تتغلغل في الإرث العربي الإسلامي المسيحي، لكي تحصل على مواقع متجذرة في الانواع الفنية، لا يستطيع أن يكونها، لأن ذلك يفترض عكس ما يريد وهو دخوله إلى الجسم العربي الإسلامي المرفوض لديه. أي ايجاد ديالكتيك داخل هذا الواقع والتراث، ومن دون وجود سمات متضادة، يستحيل حدوث صراع ونمو وتجاوز.
إذا أخذنا رأياً سياسياً مباشراً منه هنا، سنأخذ رأيه في أحمد شوقي، بعد أن نضج وكتب ذلك في كتابه السابق ذكره، فيقول عنه: «وقد بلغ من سخافة أحمد شوقي انه أنشد في تمجيد انتصار مصطفى كمال في معركة جاليبولي:
الله أكبر في الفتح من عجبِ يا خالد الترك جدد خالد العربِ
فحاول إحياء رموز الفتوحات الإسلامية في وصف قائد معركة وطنية بحت، اشتهر بعلمانيته المتطرفة وبأنه صاحب الدعوة الطوارنية الذي صفى فكرة الجامعة الإسلامية عندما صفى الامبراطورية العثمانية والخلافة العثمانية وادار ظهره للعرب الذين قاتلوا تركيا تحت لواء الإنجليز في الجزيرة العربية، ص 227.
إن أحمد شوقي ينطلق في قصيدته من موقف تقليدي في رؤيته للإسلام وتاريخه، ولكنه يراه كشكل تحرري من الغزاة الغربيين وغيرهم، ولهذا يمدح كمال اتاتورك كقائد وطني تحرري مسلم، وكان يُفترض في علمانية اتاتورك أن لا تناقض إسلاميته، ولكنها كانت علمانية (مغربة) أي على نمط غربي شكلاني، أي أنها تأخذ العلمانية كأشكال في جوانب رئيسية منها، ولا تتجذر في الواقع الإسلامي، أي أنها لا تفصل بين الدين كسيطرة اقطاعية وسلاطينية، والدين ككفاح شعبي.
ولهذا فإن ذهاب أتاتورك الجيد إلى أوروبا لم يكن يناقض فكرة الجامعة الإسلامية، وحتى من الناحية الاقتصادية العملية كان التوجه بشكل كلي غرباً مضراً على المدى البعيد.
ولكن العلمنة التي يصفها لويس عوض بأنها (بحتة) هي استمرار لنهج الإدارة العسكرية الاقطاعية التركية في التوجه الشكلي للحداثة دون رفدها بثورة ديمقراطية اجتماعية توزع الأرض على الفلاحين وتشكل تعددية الخ…
ويقول لويس عوض: إنه كان متحمساً لقصيدة شوقي في شبابه، ولكنه الآن يحكم عليها بالحكم السابق، وهذا يوضح إن أحكامه الفكرية لم تتجذر تجاه شوقي وتجاه العلمانية.
ومن هنا نقرأ نقده لثلاثية نجيب محفوظ السابق الحديث عنها، وهي التي تمثل خطاً مضاداً للويس عوض، فمحفوظ انعطف بأدواته التحليلية إلى الرواية، وإذا كان الزمن الفرعوني ظل لديه كقبس متوارٍ، إلا أن الشعب أخذ يحتل ساحة وعيه الفكرية، وقد راحت الفئات الوسطى، والوفد وسعد زغلول، تحتل مكانة القيادة لهذه الساحة، وبهذا فان الواقع الحي راح يفرض هيبته على الوعي المسبق. وفى موضوع الثلاثية، فإنها نقد واسع للنظام الإقطاعي بسلطته المتعددة: الإنجليز، والقصر، والاقطاع المنزلي الذي مثله السيد أحمد عبدالجواد، ويغدو التفكك السياسي على مستوى البلد، متوازياً مع التفكك الإقطاعي داخل منزل السيد أحمد. ويترافق ذلك مع صعود الفئات الوسطى، بشرائحها الايديولوجية. السياسية المختلفة: الوفد، الاخوان، الماركسيون.
لكن لويس عوض استغرب من عدم ظهور ثورة 23 بصورة حرفية في الثلاثية، وكأنه يريد صورة فتوغرافية وليس تجسيداً عميقاً لتحولات جوهرية. وبهذا فإن الوعي التحديثي العلماني لدى محفوظ يتغلغل في مادة الواقع، أخذاً في مشرطه المسلمين والمسيحيين والطبقات والوعي المختلف في نسيج وطني متباين. وبهذا مثل ذلك شكلا مغايراً لعلمانية لويس عوض المتغربة.
نكتشف عبر الجوانب الإيجابية التي طرحها لويس عوض عبر العلمانية والديمقراطية والتحديث التي أصر عليها، جوانب أخرى تمثل نقصاً هي بمثابة الإشكاليات التي عاشتها هذه المفاهيم.
وتعود مختلف هذه الإشكاليات إلى موقف لويس عوض الوطني المتشدد، الذي يرى مصر في نسيج تاريخي وثقافي ولغوي مختلف عن العرب، ومنفصل كلياً عنهم.
ففي كتابه «مقدمة في فقه اللغة العربية»، والصادر عن دار سينا للنشر، 1980، ط 2، يوضح آراءه، فيقول: إن العرب ليسوا من الجزيرة العربية بل هم مهاجرون من منطقة القوقاز، وبالتالي هم آريون، وجذور لغتهم من اللغات الهندو- أوروبية، وإن مصر وشعبها قبلهم، وإنهم هم الذي اثروا عليهم وطوروهم. وإن الكثير من كلمات اللغة المصرية دخلت العربية.
والواقع ان الآراء مختلفة في أصل العرب، فهناك نظرية تقول بمثل ما يقول لويس عوض، وهناك نظريات أخرى تقول بسكنهم الجزيرة وإن الشعوب السامية كالبابليين والكنعانيين هم من الجزيرة العربية، وهي أمور أكدتها الآثار والأبحاث المختلفة، أما الأصل البعيد الذي يستغرق آلاف السنين فهو أمر جائز لكنه غير مبرهن عليه. لكن من الغريب أن نجعل هذا الأصل البعيد جذراً لاختلافات اجتماعية وسياسية ودينية راهنة.
أما الأمر المؤكد والعياني والذي ينكره لويس عوض فهو ان العرب المسلمين لعبوا دوراً تحويلياً نهضوياً كبيراً أعادوا به تشكيل المنطقة، وجعلوا المسيحية الشرقية جزءاً من التشكيلة الاجتماعية الإسلامية العامة، أي من البناء الحضاري التعددي والمتنوع في المنطقة، كالعديد من المكونات الأخرى: اليهودية، والزنجية والهندية، التي تم ضمها واستيعابها في قوانين حضارة العصر الوسيط، التي عرفت الإدغام والضم، أكثر من التداخل الديمقراطي، والتلاقح العضوي.
ولم يتحول كتاب «فقه اللغة العربية» إلى قراءة لهذه الحضارة العربية الإسلامية المسيحية الخ.. بل هو يعيد إنتاج الصراعات الدينية بشكل (علمي) حديث، ويتجلى هنا ذلك التضاد المطلق الذي أشرنا اليه منذ البدء، وهو التضاد بين العرب والإسلام من جهة وبين الحضارة والحداثة من جهة أخرى، وهو يدخل في القطب الأخير مصر، حيث هي أيضاً في تضاد مع العرب، ولكنه لا يدخل زمنها العربي الإسلامي الوسيط ليحلله ويكشف عناصره المتضادة، بل هو ينفيه كلياً.
أما التحليلات الموسعة فهي لحضارة الغرب التي نثمن اهتمامه بها ونقله لآثارها الإنسانية العظيمة، وخاصة للعصر التنويري الذي انشغل به لويس عوض وقدم عنه كتاباً هاماً، لكنه لم يأخذ كذلك الفكر الغربي كتكوينات متضادة، فهو يقف عند فكر عصر النهضة، ولا يقوم بتحليل العصر الامبريالي الغربي.
وهو اذ ينتمي لتيار الاشتراكية الديمقراطية الغربية، فهو يغدو رائداً لمسيرته الديمقراطية الاجتماعية، والتي تتجلى بتاريخه السابق في العهد الملكي، كذلك باستمرار نضاله من أجل الديمقراطية في العهد الجمهوري العسكري، والتي يدفع فيها من عمره سجناً وحصاراً معيشياً وغربة، ولكنه لم يتنازل عن آرائه فضرب مثالاً عظيماً للأجيال.
وتمثل عملية اعتناقه للفكر الاشتراكي الديمقراطي كذلك استباقاً لتحولات العالم والمنطقة، وهذه تحتاج إلى دراسة متفحصة في الواقع، لأنه في سنواته الأخيرة قدم مجموعة من الأعمال الفكرية التي تتناول تيارات العصر الحديث وجوانبه الأدبية.
ولهذا فإنها بحاجة إلى وقفة أخرى.
وعموماً فإن القراءة للجوانب الإيجابية والسلبية تستهدف الوصول إلى صورة موضوعية عن رائد كبير للوعي (العربي) الحديث.

 •  0 comments  •  flag
Share on Twitter
Published on August 06, 2023 23:52
No comments have been added yet.