عبـــــــدالله خلــــــــيفة's Blog: https://isaalbuflasablog.wordpress.com , page 12

December 19, 2024

إن لم تكنْ ثورةً فماذا تكون؟

كتب : عبـــــــدالله خلـــــــيفة
2013/12/2

«يـا سـيـد عبدالله خليفة، عادة أنا من المتابعين لكتابتك، نظرا لدقة صياغتها، ورونق صحتها الفكرية والصياغية. ولكن هذه المرة، لم أفهم كلياً ماذا تريد.. وأظن أنك أنت بدأت الطريق، دون أن تعرف إلى أين تؤدي. وأنا أيضاً وقعت بهذا الفخ المعقد عدة مرات الذي يحمل اسم المشكلة السورية، والتي تسميها ويسميها البعض خطأ الثورة السورية، والتي لا تستحق ولو جزئياً هذه التسمية»، غسان صابور: أنظرْ الرابط:


https://ahewar.net/m/s.asp?aid=387683&r=900&cid=0&u=&i=5204&q=

يا أخي إذا كانت هذه الملايين السورية التي خرجتْ خلال عامين وأكثر في مواجهة الدبابات والصواريخ والقنابل الكيميائية لا تصنعُ ثورةً فماذا يُسمى هذا الزخمُ الملحمي لشعبٍ أعزل راح يتسلح بصعوباتٍ هائلةٍ وتصل أرقامُ ضحاياه إلى عشرات الألوف؟!
أتراه يخوضُ لعبةً أم أن ضمائرَنا وأرواحَنا ودولنا وجماهيرنا العربية تجمدتْ ولم تعد تفرقُ بين البطولةِ والخيانة، بين الوردةِ والمقبرة، بين الشهامةِ والانحطاط؟
نعيشُ في عالم يزعمون أنه افتراضي ولكنه عالمٌ صناعي غسلوا فيه أدمغَتنا ومسحوا فيه مشاعرَنا وسحقوا فيه عروبتنا، ولم نعد سوى دمى تتحركُ على مسرحِ رقصة الموت، تنزفُ لحظاتٍ ثم تُسحقُ وتغور في غار أو عار!
تعاونت الدولُ الشمولية العسكرية وصنائعها من القوى الدينية الطائفية الفاشية لهزيمةِ الثورة السورية، وكلٌ منها لم يهتم بتقديم تبريراته السياسية بل توجه لقتل البشر، واختفى الخيطُ الرقيقُ بين أعضاء الحكومات والتنظيمات والغابة الهتلرية، التي لا تعرف سوى الكراهية وتحويل الملايين عظاماً لرصف الطرق وملء المقابر.
هذه الدول والجماعات التي سلختْ حياةَ السوريين لم يعد يربطها بالبشر شيء، وسوف تشهد آثاراً رهيبةً قادمة. إن دولَ الجماجم وشركات الذبح الكيميائي هذه تعجلُ بسحقِها من قبل الشعوب.
حين توغلت هذه الموادُ السامة في المشاهدين التلفزيونيين المطاطيين العرب تخثرتْ الجلودُ فلم تعد تشعر، ولم تعد تفرقُ بين أمطارِ الدماء وسوائل الخراف المذبوحة في الشوارع النهمة إلى اللحم.
إذا لم تكن هذه ثورة شعب فهل هي رقصةُ شعبٍ مذبوحٍ تجري كل يوم للحصول على خيامٍ رثةٍ على الحدود وغازات سامة في كل بيت؟
هل هي مسرحية ألفها مؤلفٌ مجنونٌ وينفذها شعبٌ أعزلٌ مشردٌ مسحوقٌ لتسلية الشباب العربي في أوروبا الذي ملّ الصراع السلمي هناك؟!
كيف لإنسانٍ أن يسحقَ مشاعره أمام المذابح ويتثلج ولا يفرق بين السفاح والضحية؟
ألم نقل خلال ثلاثين عاماً إن الإقطاعَ الإيراني الذي خطفَ الثورة الشعبيةَ الإيرانية العظيمة وسحق القوى العلمانية والديمقراطية فيها وكرَّس حكماً طائفياً وراح يتغلغلُ في البلدان العربية لفرضِ نموذجه وكرس ذلك في مذبحةٍ مروعة في سوريا، هو طرفٌ رئيسي مسئولٌ عن هذه الجريمة التاريخية؟
وهل يمكن في نفي ذلك أن نؤيدَ قوى طائفية سنية دموية تقومُ بعملٍ مماثل؟!
فأي تفريغٍ إيديولوجي للتاريخ هذا؟ وأي ترك للجلادين لأن يستمروا في الذبح!
لماذا لا نرجمُ هذه الاستخدامات الغبيةَ التكتيكية للأنظمة العربية وهي فجأة تتحولُ من كونها في حالةِ ثورةٍ وتُعلي من الثورة السورية شقيقتها في الدم والمصاب ثم تعرضها للبيع وتساومُ القتلةَ وتدعوهم إلى الساحات التي قُتل فيها البشر، وتطارد اللاجئين السوريين وتلاحقهم بدلاً من مطاردةِ الوفودِ الفاشية الأجنبية المغذيةِ للمذابح والقادمة لمزيد من التخريب في الدول العربية؟!
أليس هؤلاء الطائفيون العنفيون هم أدوات لهزيمة الثورة في الداخل وتقوية النظام ومنع تخلخله البشري، وتخويف وإرعاب ذوي المشاعر الخفيفة والأفكار المتراقصة على حبال المواقف؟
أليس جهادُ النكاحِ والخرافةِ مواد لتشويه الثورة من قبل نظام داركولي تساعدهُ أنظمةٌ عسكريةٌ شمولية لم تسحب سواطيرها بعدُ من رقابِ المواطنين العرب؟
ألا ترى في كأسك المائي اليومي دماءً؟
هل ننام جيداً من دون هذه الكوابيس التي تهاجمنا كل ليلة؟
مهما فعلَ الفاشيون في سوريا من جرائم، لكنهم لن يستطيعوا وقف هذه القفزة الشجاعة لكائن اسطوري بطولي يتمزق وتتفجر أعضاؤه وهو يرتفع شامخاً عن مستنقع الذل والوحشية والبلادة الحجرية البشرية الراهنة!

 •  0 comments  •  flag
Share on Twitter
Published on December 19, 2024 21:31

إن لم تكنْ ثورةً فماذا تكون؟

كتب : عبـــــــدالله خلـــــــيفة
2013/12/2

«يـا سـيـد عبدالله خليفة، عادة أنا من المتابعين لكتابتك، نظرا لدقة صياغتها، ورونق صحتها الفكرية والصياغية. ولكن هذه المرة، لم أفهم كلياً ماذا تريد.. وأظن أنك أنت بدأت الطريق، دون أن تعرف إلى أين تؤدي. وأنا أيضاً وقعت بهذا الفخ المعقد عدة مرات الذي يحمل اسم المشكلة السورية، والتي تسميها ويسميها البعض خطأ الثورة السورية، والتي لا تستحق ولو جزئياً هذه التسمية»، غسان صابور: أنظرْ الرابط:


https://ahewar.net/m/s.asp?aid=387683&r=900&cid=0&u=&i=5204&q=

يا أخي إذا كانت هذه الملايين السورية التي خرجتْ خلال عامين وأكثر في مواجهة الدبابات والصواريخ والقنابل الكيميائية لا تصنعُ ثورةً فماذا يُسمى هذا الزخمُ الملحمي لشعبٍ أعزل راح يتسلح بصعوباتٍ هائلةٍ وتصل أرقامُ ضحاياه إلى عشرات الألوف؟!
أتراه يخوضُ لعبةً أم أن ضمائرَنا وأرواحَنا ودولنا وجماهيرنا العربية تجمدتْ ولم تعد تفرقُ بين البطولةِ والخيانة، بين الوردةِ والمقبرة، بين الشهامةِ والانحطاط؟
نعيشُ في عالم يزعمون أنه افتراضي ولكنه عالمٌ صناعي غسلوا فيه أدمغَتنا ومسحوا فيه مشاعرَنا وسحقوا فيه عروبتنا، ولم نعد سوى دمى تتحركُ على مسرحِ رقصة الموت، تنزفُ لحظاتٍ ثم تُسحقُ وتغور في غار أو عار!
تعاونت الدولُ الشمولية العسكرية وصنائعها من القوى الدينية الطائفية الفاشية لهزيمةِ الثورة السورية، وكلٌ منها لم يهتم بتقديم تبريراته السياسية بل توجه لقتل البشر، واختفى الخيطُ الرقيقُ بين أعضاء الحكومات والتنظيمات والغابة الهتلرية، التي لا تعرف سوى الكراهية وتحويل الملايين عظاماً لرصف الطرق وملء المقابر.
هذه الدول والجماعات التي سلختْ حياةَ السوريين لم يعد يربطها بالبشر شيء، وسوف تشهد آثاراً رهيبةً قادمة. إن دولَ الجماجم وشركات الذبح الكيميائي هذه تعجلُ بسحقِها من قبل الشعوب.
حين توغلت هذه الموادُ السامة في المشاهدين التلفزيونيين المطاطيين العرب تخثرتْ الجلودُ فلم تعد تشعر، ولم تعد تفرقُ بين أمطارِ الدماء وسوائل الخراف المذبوحة في الشوارع النهمة إلى اللحم.
إذا لم تكن هذه ثورة شعب فهل هي رقصةُ شعبٍ مذبوحٍ تجري كل يوم للحصول على خيامٍ رثةٍ على الحدود وغازات سامة في كل بيت؟
هل هي مسرحية ألفها مؤلفٌ مجنونٌ وينفذها شعبٌ أعزلٌ مشردٌ مسحوقٌ لتسلية الشباب العربي في أوروبا الذي ملّ الصراع السلمي هناك؟!
كيف لإنسانٍ أن يسحقَ مشاعره أمام المذابح ويتثلج ولا يفرق بين السفاح والضحية؟
ألم نقل خلال ثلاثين عاماً إن الإقطاعَ الإيراني الذي خطفَ الثورة الشعبيةَ الإيرانية العظيمة وسحق القوى العلمانية والديمقراطية فيها وكرَّس حكماً طائفياً وراح يتغلغلُ في البلدان العربية لفرضِ نموذجه وكرس ذلك في مذبحةٍ مروعة في سوريا، هو طرفٌ رئيسي مسئولٌ عن هذه الجريمة التاريخية؟
وهل يمكن في نفي ذلك أن نؤيدَ قوى طائفية سنية دموية تقومُ بعملٍ مماثل؟!
فأي تفريغٍ إيديولوجي للتاريخ هذا؟ وأي ترك للجلادين لأن يستمروا في الذبح!
لماذا لا نرجمُ هذه الاستخدامات الغبيةَ التكتيكية للأنظمة العربية وهي فجأة تتحولُ من كونها في حالةِ ثورةٍ وتُعلي من الثورة السورية شقيقتها في الدم والمصاب ثم تعرضها للبيع وتساومُ القتلةَ وتدعوهم إلى الساحات التي قُتل فيها البشر، وتطارد اللاجئين السوريين وتلاحقهم بدلاً من مطاردةِ الوفودِ الفاشية الأجنبية المغذيةِ للمذابح والقادمة لمزيد من التخريب في الدول العربية؟!
أليس هؤلاء الطائفيون العنفيون هم أدوات لهزيمة الثورة في الداخل وتقوية النظام ومنع تخلخله البشري، وتخويف وإرعاب ذوي المشاعر الخفيفة والأفكار المتراقصة على حبال المواقف؟
أليس جهادُ النكاحِ والخرافةِ مواد لتشويه الثورة من قبل نظام داركولي تساعدهُ أنظمةٌ عسكريةٌ شمولية لم تسحب سواطيرها بعدُ من رقابِ المواطنين العرب؟
ألا ترى في كأسك المائي اليومي دماءً؟
هل ننام جيداً من دون هذه الكوابيس التي تهاجمنا كل ليلة؟
مهما فعلَ الفاشيون في سوريا من جرائم، لكنهم لن يستطيعوا وقف هذه القفزة الشجاعة لكائن اسطوري بطولي يتمزق وتتفجر أعضاؤه وهو يرتفع شامخاً عن مستنقع الذل والوحشية والبلادة الحجرية البشرية الراهنة!

 •  0 comments  •  flag
Share on Twitter
Published on December 19, 2024 21:31

«القوقعة» أو كيف يتمُ سحل الإنسان؟

كتب : عبـــــــدالله خلـــــــيفة
2010/2/18

رواية السينمائي السوري (مصطفى خليفة) هي من الأعمال الإبداعية العارية، هي من دون تزويق ورتوش، من دون إعادة إنتاج، فهو يقطع الواقع بلحمه ودمه ويضعه على الورق الأبيض ولايزال القلب يتقلب ويتفجرُ (ويطرطشُ) بأعضائهِ فوق وجهك ولايزال الدم نافورة تضربكَ بقوة على جلدك، لتسأل أين كنت؟ كيف كنت تعيش في هذا العالم؟ كيف امتدت يدك إليه؟!
بلا شك إن اثنتي عشرة سنة في سجن رهيب لا علاقة له بالبشرية والمشاعر وكل هذه الحضارة التي زعمنا وجودها. المؤلف يضعُ قطعَ اللحمِ الساخنةِ المتفجرةِ بالصيحاتِ أمامكَ ويمضي لموقفٍ آخر ولا الدهس يتوقف، ولا الجثث تنسحب وتتوارى، بل عليك أن تلتقطها بيدك وتشم روائحها وتذعر في يقظتك قبل أحلامك وأنت تمسكها في مقعدك وفراشك وسوف تطاردك ما حييت!
إن سرده عادي بلا جمال خارجي، يرسمُ كلّ يومٍ بحدثهِ المميز، ويقتطعُ من ذلك الزمن الاثني عشري لمحاتٍ تطولُ أو تقصرُ حسب موقعها من حفلاتِ الزار الوحشية المُخصّصة لسحلِ الأجساد، إنه يجعل الواقع المصور بحد ذاته فناً، لأن تصوير الواقع بعد أن تنزعَ قشرتَهُ الخارجيةَ وتصورُ لحمَهُ الداخلي، يغدو بحد ذاته ذروة الإبداع الحقيقي.
القادم من الخارج، المثقف النظيف، ابن الأوادم المهم، المرفه، صادقَ معارضاً في الخارج، تنادما كثيراً في باريس بلد النور والحرية، قذفَ بعضَ الكلمات عن زعيم الدولة، كلمات ساخرة من تلك التي تـُقال كثيراً خاصةً حين تتفككُ نوابضُ العقل الأعلى الحكومي، فاصطادتهُ العيونُ والآذانُ التي لا تغفل عن شاردةٍ وواردة بين الأرض والسماء، فكتبت تقريراً ألقاه أسفل الجحيم، تسلمه الأمن، دخل في قنواته الداخلية فضاع. فقد كانت هناك حملةٌ لاعتقالِ الإخوان المسلمين، ولكن هذا الفنانَ المخرجَ مسيحي، وجاءَ في أثناء فيضانِ اعتقالِ الاخوان، فُحشر معهم وحشرٌ مع الناس عيد، ودخلَ في المواسير الحديديةِ الناريةِ للسجنِ مثل أي خنفساء، ضاعتْ بين الجداول والكلمات، فمضى معهم في شاحناتٍ للصحراء، يتبولون أثناء السير على حديد الشاحنة، وأيديهم مقيدة وراء ظهورهم، ثم راحوا يُقذفون في ممراتِ سجنٍ صحراوي، تنهشهم العصي تأتي من أي مكان، وهذا أثرٌ حضاري جاء من دولة الوحدة، ويكدسون في غرفٍ كل منهم يلاصق الآخر. وكل ما تحدث الراوي به إنه مسيحي لا علاقة له بالمسلمين كما أنه ملحد كذلك لا يؤمنُ بالأديان قالها أثناء الضرب على قدميه متذاكياً بأن الحملةَ ليست ضد أصحاب الأديان والاعتقادات الأخرى، فتعاورهُ الضربُ من كل جهة بشكل أقوى لأنه من المسيحيين ثم لأنه ملحد كذلك، وعاشَ في حصار مع زملائهِ السجناء المتدينين الذين قدموا لأسبابٍ مثل وضع قنبلة في مطعم وهلم جرا، إلا من بعضٍ من إنسانيين بينهم، يغدقون عليه الحب ويساعدونه ويتعرضون بسببِ ذلك لضرب الحراس وغضب زملائهم، وهم في الغالب أطباء لم يشاركوا في عمليات قتل المواطنين.
هذا السجنُ هو عمليةُ سلخٍ لجلد البشرية، هو عمل الاهانة والاذلال والتحطيم في كلِ وقت حتى الدهس الأخير، ولأي ردِ فعلٍ: حاجب يرتفع، أو صوت يعلو، أو مشي غير مستقيم، أو مرض جلدي يُصاب به المعتقل، أو مطالبة بخبز يابس، أو عدم النوم. وكل شيء يعرضُ المعتقل للجلد والعقاب الذي يدورُ في الساحة، كأن يشربَ من البالوعة، مثل العقيد المعارض الذي طُلب منه أن يشربَ من البول حتى يَبلَ ظمأَهُ، وأجبرهُ عدةُ حراسٍ ولكنه قاومهم حتى قُتل. عمليات القتل تجرى ببساطة شديدة، قد تُوضعُ كلمةٌ على سيارة ضابط كبير مثل(سوف ننتقم من أعمالك)، فيتوجه للسجن ويقتل مجموعة بعدةِ طلقاتٍ، ورؤوسهم متوجهة للجدران!
يجمعون كل حثالةٍ من أجل تعذيب المعتقلين، فهناك(البلديات)، وهي ثلة من سمادة المجتمع تقوم بالمهمات القذرة:( هم الجنود السجناء الفارون من الخدمة العسكرية، والجنود الذين يرتكبون جرائم القتل، الاغتصاب، السرقة، ومدمنو المخدرات… كل الجنود المجرمين، حثالة الجيش، يقضون فترة عقوبتهم في السجون العسكرية، في مثل هذا السجن، مهمتهم التنظيف وتوزيع الطعام وغيره من الأعمال… من هنا جاء اسم البلديات، هؤلاء في السجن الصحراوي لهم مهمات أخرى) وهذه المهمات الأخرى مثل قلع العيون أو شي الأجساد حسب طابع الحفلات المقامة أو الضرب حتى الموت.
الرواية مليئة بمثل هذه التفاصيل الوحشية، ومحاولة سحل الإنسان كلياً، لكن الشخصية تحاول البقاء، والتلصص عما يجرى من ثقب في السجن، وتستمر لا تعترف ولا تدون شهادةَ استسلام، بحسب ما يقول الراوي، ولا ندري تماماً كيف يستطيع أن يصمدَ في كلِ أشكالِ التعذيب حتى بعد اثنتي عشرة سنة حين يتم التوسط له لكي يخرج فخاله (شيوعي) وتابع للنظام وصار وزيراً؟!

«القوقعة» أو كيف يتمُ سحل الإنسان؟+عبدالله خليفة site:ahewar.org – بحث

 •  0 comments  •  flag
Share on Twitter
Published on December 19, 2024 21:25

«القوقعة» أو كيف يتمُ سحل الإنسان؟

كتب : عبـــــــدالله خلـــــــيفة
2010/2/18

رواية السينمائي السوري (مصطفى خليفة) هي من الأعمال الإبداعية العارية، هي من دون تزويق ورتوش، من دون إعادة إنتاج، فهو يقطع الواقع بلحمه ودمه ويضعه على الورق الأبيض ولايزال القلب يتقلب ويتفجرُ (ويطرطشُ) بأعضائهِ فوق وجهك ولايزال الدم نافورة تضربكَ بقوة على جلدك، لتسأل أين كنت؟ كيف كنت تعيش في هذا العالم؟ كيف امتدت يدك إليه؟!
بلا شك إن اثنتي عشرة سنة في سجن رهيب لا علاقة له بالبشرية والمشاعر وكل هذه الحضارة التي زعمنا وجودها. المؤلف يضعُ قطعَ اللحمِ الساخنةِ المتفجرةِ بالصيحاتِ أمامكَ ويمضي لموقفٍ آخر ولا الدهس يتوقف، ولا الجثث تنسحب وتتوارى، بل عليك أن تلتقطها بيدك وتشم روائحها وتذعر في يقظتك قبل أحلامك وأنت تمسكها في مقعدك وفراشك وسوف تطاردك ما حييت!
إن سرده عادي بلا جمال خارجي، يرسمُ كلّ يومٍ بحدثهِ المميز، ويقتطعُ من ذلك الزمن الاثني عشري لمحاتٍ تطولُ أو تقصرُ حسب موقعها من حفلاتِ الزار الوحشية المُخصّصة لسحلِ الأجساد، إنه يجعل الواقع المصور بحد ذاته فناً، لأن تصوير الواقع بعد أن تنزعَ قشرتَهُ الخارجيةَ وتصورُ لحمَهُ الداخلي، يغدو بحد ذاته ذروة الإبداع الحقيقي.
القادم من الخارج، المثقف النظيف، ابن الأوادم المهم، المرفه، صادقَ معارضاً في الخارج، تنادما كثيراً في باريس بلد النور والحرية، قذفَ بعضَ الكلمات عن زعيم الدولة، كلمات ساخرة من تلك التي تـُقال كثيراً خاصةً حين تتفككُ نوابضُ العقل الأعلى الحكومي، فاصطادتهُ العيونُ والآذانُ التي لا تغفل عن شاردةٍ وواردة بين الأرض والسماء، فكتبت تقريراً ألقاه أسفل الجحيم، تسلمه الأمن، دخل في قنواته الداخلية فضاع. فقد كانت هناك حملةٌ لاعتقالِ الإخوان المسلمين، ولكن هذا الفنانَ المخرجَ مسيحي، وجاءَ في أثناء فيضانِ اعتقالِ الاخوان، فُحشر معهم وحشرٌ مع الناس عيد، ودخلَ في المواسير الحديديةِ الناريةِ للسجنِ مثل أي خنفساء، ضاعتْ بين الجداول والكلمات، فمضى معهم في شاحناتٍ للصحراء، يتبولون أثناء السير على حديد الشاحنة، وأيديهم مقيدة وراء ظهورهم، ثم راحوا يُقذفون في ممراتِ سجنٍ صحراوي، تنهشهم العصي تأتي من أي مكان، وهذا أثرٌ حضاري جاء من دولة الوحدة، ويكدسون في غرفٍ كل منهم يلاصق الآخر. وكل ما تحدث الراوي به إنه مسيحي لا علاقة له بالمسلمين كما أنه ملحد كذلك لا يؤمنُ بالأديان قالها أثناء الضرب على قدميه متذاكياً بأن الحملةَ ليست ضد أصحاب الأديان والاعتقادات الأخرى، فتعاورهُ الضربُ من كل جهة بشكل أقوى لأنه من المسيحيين ثم لأنه ملحد كذلك، وعاشَ في حصار مع زملائهِ السجناء المتدينين الذين قدموا لأسبابٍ مثل وضع قنبلة في مطعم وهلم جرا، إلا من بعضٍ من إنسانيين بينهم، يغدقون عليه الحب ويساعدونه ويتعرضون بسببِ ذلك لضرب الحراس وغضب زملائهم، وهم في الغالب أطباء لم يشاركوا في عمليات قتل المواطنين.
هذا السجنُ هو عمليةُ سلخٍ لجلد البشرية، هو عمل الاهانة والاذلال والتحطيم في كلِ وقت حتى الدهس الأخير، ولأي ردِ فعلٍ: حاجب يرتفع، أو صوت يعلو، أو مشي غير مستقيم، أو مرض جلدي يُصاب به المعتقل، أو مطالبة بخبز يابس، أو عدم النوم. وكل شيء يعرضُ المعتقل للجلد والعقاب الذي يدورُ في الساحة، كأن يشربَ من البالوعة، مثل العقيد المعارض الذي طُلب منه أن يشربَ من البول حتى يَبلَ ظمأَهُ، وأجبرهُ عدةُ حراسٍ ولكنه قاومهم حتى قُتل. عمليات القتل تجرى ببساطة شديدة، قد تُوضعُ كلمةٌ على سيارة ضابط كبير مثل(سوف ننتقم من أعمالك)، فيتوجه للسجن ويقتل مجموعة بعدةِ طلقاتٍ، ورؤوسهم متوجهة للجدران!
يجمعون كل حثالةٍ من أجل تعذيب المعتقلين، فهناك(البلديات)، وهي ثلة من سمادة المجتمع تقوم بالمهمات القذرة:( هم الجنود السجناء الفارون من الخدمة العسكرية، والجنود الذين يرتكبون جرائم القتل، الاغتصاب، السرقة، ومدمنو المخدرات… كل الجنود المجرمين، حثالة الجيش، يقضون فترة عقوبتهم في السجون العسكرية، في مثل هذا السجن، مهمتهم التنظيف وتوزيع الطعام وغيره من الأعمال… من هنا جاء اسم البلديات، هؤلاء في السجن الصحراوي لهم مهمات أخرى) وهذه المهمات الأخرى مثل قلع العيون أو شي الأجساد حسب طابع الحفلات المقامة أو الضرب حتى الموت.
الرواية مليئة بمثل هذه التفاصيل الوحشية، ومحاولة سحل الإنسان كلياً، لكن الشخصية تحاول البقاء، والتلصص عما يجرى من ثقب في السجن، وتستمر لا تعترف ولا تدون شهادةَ استسلام، بحسب ما يقول الراوي، ولا ندري تماماً كيف يستطيع أن يصمدَ في كلِ أشكالِ التعذيب حتى بعد اثنتي عشرة سنة حين يتم التوسط له لكي يخرج فخاله (شيوعي) وتابع للنظام وصار وزيراً؟!

«القوقعة» أو كيف يتمُ سحل الإنسان؟+عبدالله خليفة site:ahewar.org – بحث

 •  0 comments  •  flag
Share on Twitter
Published on December 19, 2024 21:25

رياضُ الترك رمزاً

كتب : عبـــــــدالله خلـــــــيفة
1930ــ 2024
المناضلُ رياض الترك من أهم رموز الثورة السورية، في سيرتهِ وجذورهِ وأفكارهِ المتنامية وعياً، نموذجٌ تألقَّ داخله الشعبُ وتكّون.
وضعهُ النظامُ الدكتاتوري عقدين من السنين في زنزانة بطول مترين، وترك قيادات (يسارية) تحيا وتزدهر حياة شخصية ضيقة، وفيما هي رحلت بقى رياض الترك حياً، فالنظامُ حفظَ حياته وقدمَهُ طاقةً ورمزاً نضالياً داخل أقبيته ليعمل على تقويضه!
بدأ حياتُهُ مقولباً ككل الشيوعيين والماركسيين والقوميين، مستورِداً لأنماط تتغلغلتْ في التراب الوطني ثم صدأت.
(رياض الترك (مواليد 1930 في حمص) معارض سوري بارز، وسجين سياسي سابق، وأحد أهم المطالبين بالديمقراطية وضرورة التغيير الديمقراطي في سوريا. تقلد الترك سابقاً منصب الأمين العام الحزب الشيوعي السوري (المكتب السياسي) منذ تأسيسه في 1973 كما يعتبر الأب الروحي لحركة المعارضة السورية منذ الثمانينيات. تعود بدايات الترك إلى أيام الدراسة فبعد انضمامه إلى الحزب الشيوعي السوري تم اعتقاله عام 1952. لاحقاً أصبح الترك أحد الكتاب في جريدة الحزب النور وأصبح منظر الحزب الرئيسي. سُجن مجدداً أثناء حملة الاعتقالات التي قام بها عبد الناصر ضد الشيوعيين أثناء الوحدة السورية المصرية. أُطلق سراحه عام 1961 واضطر للجوء في لبنان عام 1963 بعد استلام حزب البعث للسلطة في سوريا. عاد إلى سوريا بعد سيطرة الجناح اليساري من حزب البعث على مقاليد الامور عام 1966 بزعامة صلاح جديد في فترة رئاسة نور الدين الأتاسي. في عام 1972 اختلف الترك مع خالد بكداش أمين الحزب الشيوعي السوري عندما أراد هذا الأخير انضمام الحزب إلى الجبهة الوطنية التقدمية، وهو تحالفُ الأحزابِ الذي شكلهُ حافظ الأسد بعد تسلمه مقاليد الأمور. قام الترك مع بقية الأعضاء المعارضين بتشكيل الحزب الشيوعي السوري (المكتب السياسي)، الذي بقي معارضاً لنظام البعث خاصة بعد انخراطه في الحرب اللبنانية لدعم الأحزاب اليمينية في بداية تدخله. زادت معارضة الترك والمكتب السياسي من سياسات النظام في تعامله مع أزمة الأخوان المسلمين وأحداث حماة وحلب وجسر الشغور في بدايات الثمانينيات. منذ 28 أكتوبر 1980 إلى 30 مايو 1998 أمضى الترك حياته سجيناً سياسياً في ظروف إعتقال مريعة)، موسوعة ويكيبديا.
تعطينا هذه اللمحة المكثفة عن مسيرة مضنيةٍ راحت تتشكلُ ديمقراطياً بصعوبات جمة، ما قبل إفتراقه عن خالد بكداش كانت سيرتُهُ معبرةً عن مناضل من أجل التقدم والديمقراطية والتحرر الوطني من خلال شعاراتٍ عامة، وفي إفتراقهِ عن خالد بكداش بدأ يجذرُ ديمقراطيتَهُ في الواقع الشعبي السوري، وينفصلُ عن الدولة الشمولية، والشعاراتُ عن الحريةِ والاشتراكية لم تخدعه، ولا نستطيع أن نجدَ تنظيراً عميقاً في مقالاته ومقابلاته، بل حساً سياسياً شعبياً ديمقراطياً.
الانفصالُ عن بكداش إدراكٌ لكون البيروقراطية الحزبية ذات يافاطات زائفة، لكن ليس ثمة إدراك لكونها رأسماليات شمولية روسية وسورية معاً، لكنه إدراكٌ حدسي لم يتبلور نظرياً، وشعورٌ بفسادٍ في الدولة السورية وتدهورٌ لحقوق المواطنين، فتتفجر المشاعرُ مع ضرب النظام لحماه ومجازره فيها.
الاستيقاظ هذا يتصاعد مع دخول الجيش السوري إلى لبنان وإنضمامه لليمين المسيحي، وهجومه على القوى الوطنية والفلسطينية.
وهنا لا تزال ثمة قراءة مغلوطة للوضع السوري، فليس الهجوم على القوى اللبنانية الوطنية فقط هو الخطأ بل الدخول في حد ذاته لدولةٍ مستقلةٍ هو الخطأ الأكبر. وهو يؤدي لتلوث الجيش والدولة في سوريا، وتعمق الفساد فيهما الأمر الذي سوف ينعكس على الشعب السوري وتفاقم القمع له.
سنلاحظُ أن رياض الترك ينظرُ نظرةً غير إجتماعية دقيقة للمؤسسة العسكرية، ويراها بشكلٍ وطني مجرد من خلال الأحداث التالية خاصة في الثورة السورية الراهنة.
لكن توجه القيادة السورية لدعم اليمين في لبنان كان مؤشراً خطيراً ولا شك، لأنه عكس إنتهازيتها الشديدة وجعل الجيش مجموعات من الأدوات القاتلة بدون إنتماء وطني أو قومي.
لهذا كان الانفصالُ السياسيُّ عن هذه المؤسسة الحاكمة ضرورياً من أجل إستقلال الفكرة النضالية وحريتها في الحركة والنقد.
ومن هنا كانت الجبهةُ الوطنيةُ التقدمية إطاراً زائفاً للتوحيد، بل هي غطاءٌ لممارسةِ دكتاتوريةٍ واسعة، وإفساد للأحزاب، ومنع تطورها الديمقراطي، لهذا نجدُ الحزبَ الشيوعي السوري يتحولُ لدمية، وترثُ أرملةُ بكداش قيادة الحزب وكأن الحزب مثل الدولة غدا عزبةً خاصة.
بعد خروجه من السجن المريع كانت سوريا تنتقل من وراثة الأب لحكم الابن. فكانت مواقف رياض الترك البسيطة مذهلة وقد قادته للسجن مرة أخرى! لكنها كانت تتسمُ بالتسرع فكان لا بد أن يكمن وينتظر. كانت هذه المواقف هي:

كتابته لمقالة تحت عنوان”حتى لا تكون سوريا مملكة للصمت” التي تُعتبر البيان التمهيدي للثورة.انتقاده الطريقة التي تم بها تعديل الدستور السوري في 10 يونيو 2000. فغداة وفاة الرئيس الراحل حافظ الأسد تم تعديل المادة 80 من الدستور، ليصبح السن القانوني للمرشح لمنصب رئيس الجمهورية 34 عاماً وهو عمر الرئيس بشار الأسد عند التعديل، بدلاً من 40 عاماً الذي كان الدستور ينصُ عليه.قوله متحدثاً عن الرئيس الراحل حافظ الأسد “مات الدكتاتور”، باتصال هاتفي مع إحدى القنوات في أغسطس من عام 2001.
وبدأ رحلة أخرى مع الغياب والصمود.
يترك رياض الترك بعد خروجه الثاني من السجن الشعارات واليافطات المعلبة ولا يدلي بتصريحاتٍ حادةٍ كما فعل بعد خروجه الأول وإصطياد النظام له، بل دخلَ في العمل السري كما بدأ تحويل لغته ومصطلحاته السياسية المستوردة إلى واقعية سياسية عميقة.
الثورة تشتعل والقائد الذي كان هادراً يتوارى، ويفكر بعمق في مصير البلد وكيفية الخروج من المذبحة التي يقيمها النظامُ للشعب ولكي يوجه الشعب للانتصار.
هناك تنسيقيات الثورة على الأرض مكونة من شباب مضح ومتحمس وهناك المثقفون السياسيون في الخارج يقودون نظرياً وإعلامياً.
الأسئلة الساخنة الحادة في الحياة اليومية هي: كيف نسقطُ النظام؟ هل نستخدم السلاح أم نعتمد على العمل السلمي؟ كيف يتم توحيد الشعب المكون من طوائف وقوميات مختلفة؟ هل تقود الثورة العفوية لنظامٍ طائفي سني يرثُ الدكتاتورية السابقة وكيف يُمنع ذلك مع تطور الثورة نفسها وللبقاء ضمن الوحدة الوطنية والتعددية؟
يتوجه رياض الترك إلى رسم خريطة هادئة للتحول الذي سوف يجري أثناء الثورة فيذكر:
(في هذا السياق إن أفضل وثيقة سياسية صدرت حتى الآن بخصوص مستقبل الثورة، هي تلك التي أنجزتها لجانُ التنسيق المحلية تحت عنوان”رؤية لجان التنسيق المحلية لمستقبل سوريا السياسي”، كونها تمثل رؤية متكاملة لآلية نجاح الثورة وإيجاد مخارج أمنة للبلاد توقف حمام الدم وتتيح انتقال هادئ ومتدرج للسلطة يبدأ من الإقرار إن القضية المركزية والهدف الأول للثورة هو تغيير النظام السياسي، متمثلاً كنقطة انطلاق في إنهاء ولاية الرئيس. طبعاً يظلُ التحدي الأساسي للثورة متجسداً في إمكانية كسب عقول وقلوب الفئات الصامتة التي لم تتحرك بعد، أما لحذرها من التغيير أو لخوفها من القمع أو لحرصها على مصالحها. ومن هنا تأتي أهمية التأكيد على سلمية الثورة وعلى كونها ستأتي بالحرية ليس فقط للثوار ولكن لجميع فئات المجتمع وستضمن حقوق الأقليات الدينية والإثنية.)، من حديثه مع الصحفي محمد علي الأتاسي.
لا يذكر التركُ الخريطةَ المعقدةَ الاجتماعية للحياة السورية، وضخامةَ الجيش السوري المعبأ إيديولوجياً وفاشياً لعقودٍ طويلة، وبالتالي يعتقد إنه من الممكن النمو السلمي حيث الجيش وطني لا يمثل خطراً كبيراً، وكذلك فإن الطبقة الفاسدة التي تكونت من نهب القطاع العام سوف تسلم السلطة بشكل ما وتغدو هذه الطبقة مختزلة في عائلة الأسد وهو أمرٌ ت.
والحديث (الرومانسي) عن الجيش نلقاه في أحاديث أخرى سابقة عند بداية الأحداث فيسألهُ صحفي:
(في ضوء ما يجري اليوم من زج للجيش في مواجهة المتظاهرين، ألا تعتقد أنك جانبت الصواب عندما كتبت في مقالك أنف الذكر “لن تبقى سوريا مملكة الصمت”، أنه مخطئ من يراهن “أن الجيش سيوجه فوهات بنادقه إلى صدور الشعب السوري” وأن “الجيش من الشعب والشعب من الجيش، فداخل كل دبابة هناك حفيد من أحفاد يوسف العظمة”؟
كلمات الترك صائبة وخاطئة في ذات الوقت، فتاريخيةُ الجيش الوطني السوري مشهودة في معاركه الوطنية ضد الفرنسيين، لكن الأحفاد تمتْ أدلجتهم وعسكرتهم خلال عقود النظام الشمولي، بل وتم إفساد الجيش عبر ذبح الوطنيين في لبنان ثم سرقته.
هنا مع غياب التحليل التاريخي يمكن للسياسي أن يصدر كلمات عامة مكلفة، ونضال الثورة السلمي مطلوب ومن الضرورة تواصله لكن الاستعداد للنضال العنيف مطلوب كذلك، وهذا الكلام يجري في أوائل الربيع السوري الدامي، ثم يغدو الترك أكثر حذراً ويتطور نضاله متعلماً من تضحيات الناس.
لافتةُ الحزب الشيوعي تُستبدلُ بحزب الشعب الديمقراطي، ومتابعة لجان التنسيق ومعرفة تفاصيل أعمالها والتعلم من نضالاتها وتقديم بعض الاقتراحات الضرورية، وتكييف العمل السياسي الخارجي لحراك الداخل، هي المهماتُ التي عكف عليها المناضل الكهل المتخفي الغائب عن الملاحقات الشرسة.
صارت مهمات الجيس السوري الحر الدفاع عن المتظاهرين والرد على القمع، وهو أمرٌ يجمع بين إستخدام القوة ولكن بشكل حذر وعقلاني، وكذلك هو تحفيز لتلك التاريخية الوطنية القديمة للجيش السوري للظهور، وهي تربيةٌ سياسيةٌ عسكرية كفاحية جديدة مختلفة عن الجيش النظامي الذي تخصص فيما هو مغاير لذلك.
وهي عملياتٌ أدت لمزيد من الانشقاقات في جيش النظام ووسعت من الجيش الحر، لكن لا تزال آلة النظام العسكرية الرهيبة باقية محتاجة لعون عربي ودولي كبير.
وتبدو هنا واضحة بين البصمات النضالية الصبورة ذات التاريخ العريق وبين قيادة المجلس الوطني السوري، التي مثلها برهان غليون الذي أفتقد تاريخية وجذور ذلك النضال، وبدا شخصية ثقافية ذاتية أكثر منها شخصية قيادية متمرسمة في هذه اللحظات الخطيرة الدقيقة من تاريخ الشعب السوري.
رياض الترك الكهل الذي حرقَ جلدَهُ السياسي في السجون وكشطَ بموس حاد شعاريته السياسية المعلبة وغاصَ في عمق الأرض والشعب وراح في بحر الدماء والمطاردات يقدم كلماته ونصائحه الثمينة، هو ابنٌ حقيقي لهذا الشعب السوري البطل، فلا عجب أن ينجب الشعب هذا النموذج البطولي.
https://www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=309621
 •  0 comments  •  flag
Share on Twitter
Published on December 19, 2024 21:11

رياضُ الترك رمزاً

كتب : عبـــــــدالله خلـــــــيفة
1930ــ 2024
المناضلُ رياض الترك من أهم رموز الثورة السورية، في سيرتهِ وجذورهِ وأفكارهِ المتنامية وعياً، نموذجٌ تألقَّ داخله الشعبُ وتكّون.
وضعهُ النظامُ الدكتاتوري عقدين من السنين في زنزانة بطول مترين، وترك قيادات (يسارية) تحيا وتزدهر حياة شخصية ضيقة، وفيما هي رحلت بقى رياض الترك حياً، فالنظامُ حفظَ حياته وقدمَهُ طاقةً ورمزاً نضالياً داخل أقبيته ليعمل على تقويضه!
بدأ حياتُهُ مقولباً ككل الشيوعيين والماركسيين والقوميين، مستورِداً لأنماط تتغلغلتْ في التراب الوطني ثم صدأت.
(رياض الترك (مواليد 1930 في حمص) معارض سوري بارز، وسجين سياسي سابق، وأحد أهم المطالبين بالديمقراطية وضرورة التغيير الديمقراطي في سوريا. تقلد الترك سابقاً منصب الأمين العام الحزب الشيوعي السوري (المكتب السياسي) منذ تأسيسه في 1973 كما يعتبر الأب الروحي لحركة المعارضة السورية منذ الثمانينيات. تعود بدايات الترك إلى أيام الدراسة فبعد انضمامه إلى الحزب الشيوعي السوري تم اعتقاله عام 1952. لاحقاً أصبح الترك أحد الكتاب في جريدة الحزب النور وأصبح منظر الحزب الرئيسي. سُجن مجدداً أثناء حملة الاعتقالات التي قام بها عبد الناصر ضد الشيوعيين أثناء الوحدة السورية المصرية. أُطلق سراحه عام 1961 واضطر للجوء في لبنان عام 1963 بعد استلام حزب البعث للسلطة في سوريا. عاد إلى سوريا بعد سيطرة الجناح اليساري من حزب البعث على مقاليد الامور عام 1966 بزعامة صلاح جديد في فترة رئاسة نور الدين الأتاسي. في عام 1972 اختلف الترك مع خالد بكداش أمين الحزب الشيوعي السوري عندما أراد هذا الأخير انضمام الحزب إلى الجبهة الوطنية التقدمية، وهو تحالفُ الأحزابِ الذي شكلهُ حافظ الأسد بعد تسلمه مقاليد الأمور. قام الترك مع بقية الأعضاء المعارضين بتشكيل الحزب الشيوعي السوري (المكتب السياسي)، الذي بقي معارضاً لنظام البعث خاصة بعد انخراطه في الحرب اللبنانية لدعم الأحزاب اليمينية في بداية تدخله. زادت معارضة الترك والمكتب السياسي من سياسات النظام في تعامله مع أزمة الأخوان المسلمين وأحداث حماة وحلب وجسر الشغور في بدايات الثمانينيات. منذ 28 أكتوبر 1980 إلى 30 مايو 1998 أمضى الترك حياته سجيناً سياسياً في ظروف إعتقال مريعة)، موسوعة ويكيبديا.
تعطينا هذه اللمحة المكثفة عن مسيرة مضنيةٍ راحت تتشكلُ ديمقراطياً بصعوبات جمة، ما قبل إفتراقه عن خالد بكداش كانت سيرتُهُ معبرةً عن مناضل من أجل التقدم والديمقراطية والتحرر الوطني من خلال شعاراتٍ عامة، وفي إفتراقهِ عن خالد بكداش بدأ يجذرُ ديمقراطيتَهُ في الواقع الشعبي السوري، وينفصلُ عن الدولة الشمولية، والشعاراتُ عن الحريةِ والاشتراكية لم تخدعه، ولا نستطيع أن نجدَ تنظيراً عميقاً في مقالاته ومقابلاته، بل حساً سياسياً شعبياً ديمقراطياً.
الانفصالُ عن بكداش إدراكٌ لكون البيروقراطية الحزبية ذات يافاطات زائفة، لكن ليس ثمة إدراك لكونها رأسماليات شمولية روسية وسورية معاً، لكنه إدراكٌ حدسي لم يتبلور نظرياً، وشعورٌ بفسادٍ في الدولة السورية وتدهورٌ لحقوق المواطنين، فتتفجر المشاعرُ مع ضرب النظام لحماه ومجازره فيها.
الاستيقاظ هذا يتصاعد مع دخول الجيش السوري إلى لبنان وإنضمامه لليمين المسيحي، وهجومه على القوى الوطنية والفلسطينية.
وهنا لا تزال ثمة قراءة مغلوطة للوضع السوري، فليس الهجوم على القوى اللبنانية الوطنية فقط هو الخطأ بل الدخول في حد ذاته لدولةٍ مستقلةٍ هو الخطأ الأكبر. وهو يؤدي لتلوث الجيش والدولة في سوريا، وتعمق الفساد فيهما الأمر الذي سوف ينعكس على الشعب السوري وتفاقم القمع له.
سنلاحظُ أن رياض الترك ينظرُ نظرةً غير إجتماعية دقيقة للمؤسسة العسكرية، ويراها بشكلٍ وطني مجرد من خلال الأحداث التالية خاصة في الثورة السورية الراهنة.
لكن توجه القيادة السورية لدعم اليمين في لبنان كان مؤشراً خطيراً ولا شك، لأنه عكس إنتهازيتها الشديدة وجعل الجيش مجموعات من الأدوات القاتلة بدون إنتماء وطني أو قومي.
لهذا كان الانفصالُ السياسيُّ عن هذه المؤسسة الحاكمة ضرورياً من أجل إستقلال الفكرة النضالية وحريتها في الحركة والنقد.
ومن هنا كانت الجبهةُ الوطنيةُ التقدمية إطاراً زائفاً للتوحيد، بل هي غطاءٌ لممارسةِ دكتاتوريةٍ واسعة، وإفساد للأحزاب، ومنع تطورها الديمقراطي، لهذا نجدُ الحزبَ الشيوعي السوري يتحولُ لدمية، وترثُ أرملةُ بكداش قيادة الحزب وكأن الحزب مثل الدولة غدا عزبةً خاصة.
بعد خروجه من السجن المريع كانت سوريا تنتقل من وراثة الأب لحكم الابن. فكانت مواقف رياض الترك البسيطة مذهلة وقد قادته للسجن مرة أخرى! لكنها كانت تتسمُ بالتسرع فكان لا بد أن يكمن وينتظر. كانت هذه المواقف هي:

كتابته لمقالة تحت عنوان”حتى لا تكون سوريا مملكة للصمت” التي تُعتبر البيان التمهيدي للثورة.انتقاده الطريقة التي تم بها تعديل الدستور السوري في 10 يونيو 2000. فغداة وفاة الرئيس الراحل حافظ الأسد تم تعديل المادة 80 من الدستور، ليصبح السن القانوني للمرشح لمنصب رئيس الجمهورية 34 عاماً وهو عمر الرئيس بشار الأسد عند التعديل، بدلاً من 40 عاماً الذي كان الدستور ينصُ عليه.قوله متحدثاً عن الرئيس الراحل حافظ الأسد “مات الدكتاتور”، باتصال هاتفي مع إحدى القنوات في أغسطس من عام 2001.
وبدأ رحلة أخرى مع الغياب والصمود.
يترك رياض الترك بعد خروجه الثاني من السجن الشعارات واليافطات المعلبة ولا يدلي بتصريحاتٍ حادةٍ كما فعل بعد خروجه الأول وإصطياد النظام له، بل دخلَ في العمل السري كما بدأ تحويل لغته ومصطلحاته السياسية المستوردة إلى واقعية سياسية عميقة.
الثورة تشتعل والقائد الذي كان هادراً يتوارى، ويفكر بعمق في مصير البلد وكيفية الخروج من المذبحة التي يقيمها النظامُ للشعب ولكي يوجه الشعب للانتصار.
هناك تنسيقيات الثورة على الأرض مكونة من شباب مضح ومتحمس وهناك المثقفون السياسيون في الخارج يقودون نظرياً وإعلامياً.
الأسئلة الساخنة الحادة في الحياة اليومية هي: كيف نسقطُ النظام؟ هل نستخدم السلاح أم نعتمد على العمل السلمي؟ كيف يتم توحيد الشعب المكون من طوائف وقوميات مختلفة؟ هل تقود الثورة العفوية لنظامٍ طائفي سني يرثُ الدكتاتورية السابقة وكيف يُمنع ذلك مع تطور الثورة نفسها وللبقاء ضمن الوحدة الوطنية والتعددية؟
يتوجه رياض الترك إلى رسم خريطة هادئة للتحول الذي سوف يجري أثناء الثورة فيذكر:
(في هذا السياق إن أفضل وثيقة سياسية صدرت حتى الآن بخصوص مستقبل الثورة، هي تلك التي أنجزتها لجانُ التنسيق المحلية تحت عنوان”رؤية لجان التنسيق المحلية لمستقبل سوريا السياسي”، كونها تمثل رؤية متكاملة لآلية نجاح الثورة وإيجاد مخارج أمنة للبلاد توقف حمام الدم وتتيح انتقال هادئ ومتدرج للسلطة يبدأ من الإقرار إن القضية المركزية والهدف الأول للثورة هو تغيير النظام السياسي، متمثلاً كنقطة انطلاق في إنهاء ولاية الرئيس. طبعاً يظلُ التحدي الأساسي للثورة متجسداً في إمكانية كسب عقول وقلوب الفئات الصامتة التي لم تتحرك بعد، أما لحذرها من التغيير أو لخوفها من القمع أو لحرصها على مصالحها. ومن هنا تأتي أهمية التأكيد على سلمية الثورة وعلى كونها ستأتي بالحرية ليس فقط للثوار ولكن لجميع فئات المجتمع وستضمن حقوق الأقليات الدينية والإثنية.)، من حديثه مع الصحفي محمد علي الأتاسي.
لا يذكر التركُ الخريطةَ المعقدةَ الاجتماعية للحياة السورية، وضخامةَ الجيش السوري المعبأ إيديولوجياً وفاشياً لعقودٍ طويلة، وبالتالي يعتقد إنه من الممكن النمو السلمي حيث الجيش وطني لا يمثل خطراً كبيراً، وكذلك فإن الطبقة الفاسدة التي تكونت من نهب القطاع العام سوف تسلم السلطة بشكل ما وتغدو هذه الطبقة مختزلة في عائلة الأسد وهو أمرٌ ت.
والحديث (الرومانسي) عن الجيش نلقاه في أحاديث أخرى سابقة عند بداية الأحداث فيسألهُ صحفي:
(في ضوء ما يجري اليوم من زج للجيش في مواجهة المتظاهرين، ألا تعتقد أنك جانبت الصواب عندما كتبت في مقالك أنف الذكر “لن تبقى سوريا مملكة الصمت”، أنه مخطئ من يراهن “أن الجيش سيوجه فوهات بنادقه إلى صدور الشعب السوري” وأن “الجيش من الشعب والشعب من الجيش، فداخل كل دبابة هناك حفيد من أحفاد يوسف العظمة”؟
كلمات الترك صائبة وخاطئة في ذات الوقت، فتاريخيةُ الجيش الوطني السوري مشهودة في معاركه الوطنية ضد الفرنسيين، لكن الأحفاد تمتْ أدلجتهم وعسكرتهم خلال عقود النظام الشمولي، بل وتم إفساد الجيش عبر ذبح الوطنيين في لبنان ثم سرقته.
هنا مع غياب التحليل التاريخي يمكن للسياسي أن يصدر كلمات عامة مكلفة، ونضال الثورة السلمي مطلوب ومن الضرورة تواصله لكن الاستعداد للنضال العنيف مطلوب كذلك، وهذا الكلام يجري في أوائل الربيع السوري الدامي، ثم يغدو الترك أكثر حذراً ويتطور نضاله متعلماً من تضحيات الناس.
لافتةُ الحزب الشيوعي تُستبدلُ بحزب الشعب الديمقراطي، ومتابعة لجان التنسيق ومعرفة تفاصيل أعمالها والتعلم من نضالاتها وتقديم بعض الاقتراحات الضرورية، وتكييف العمل السياسي الخارجي لحراك الداخل، هي المهماتُ التي عكف عليها المناضل الكهل المتخفي الغائب عن الملاحقات الشرسة.
صارت مهمات الجيس السوري الحر الدفاع عن المتظاهرين والرد على القمع، وهو أمرٌ يجمع بين إستخدام القوة ولكن بشكل حذر وعقلاني، وكذلك هو تحفيز لتلك التاريخية الوطنية القديمة للجيش السوري للظهور، وهي تربيةٌ سياسيةٌ عسكرية كفاحية جديدة مختلفة عن الجيش النظامي الذي تخصص فيما هو مغاير لذلك.
وهي عملياتٌ أدت لمزيد من الانشقاقات في جيش النظام ووسعت من الجيش الحر، لكن لا تزال آلة النظام العسكرية الرهيبة باقية محتاجة لعون عربي ودولي كبير.
وتبدو هنا واضحة بين البصمات النضالية الصبورة ذات التاريخ العريق وبين قيادة المجلس الوطني السوري، التي مثلها برهان غليون الذي أفتقد تاريخية وجذور ذلك النضال، وبدا شخصية ثقافية ذاتية أكثر منها شخصية قيادية متمرسمة في هذه اللحظات الخطيرة الدقيقة من تاريخ الشعب السوري.
رياض الترك الكهل الذي حرقَ جلدَهُ السياسي في السجون وكشطَ بموس حاد شعاريته السياسية المعلبة وغاصَ في عمق الأرض والشعب وراح في بحر الدماء والمطاردات يقدم كلماته ونصائحه الثمينة، هو ابنٌ حقيقي لهذا الشعب السوري البطل، فلا عجب أن ينجب الشعب هذا النموذج البطولي.
https://www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=309621
 •  0 comments  •  flag
Share on Twitter
Published on December 19, 2024 21:11

December 17, 2024

قمرٌ فوق دمشق

عبـــــــدالله خلــــــــيفة

قصـــــــةٌ قصـــــــــيرةٌ

ـــ 1 ـــ

كانت الغيمة تركضُ جنوباً. لن يطفئ هذا الطقس الربيعي النار الملتهبة تحت الخروف المتقلب. أشربْ واصغ إلى هذا الصوت المعبأ بالدعوة إلى الحب. أدفق الكأس وصفق.

ثلةٌ من الفتيات الجميلات يرقصن ويصفقن، وتشي اثوابهن الحريرية بنيران موقدة. لن تكون الليلة إلا مع هذه المغنية البيضاء المشرقة القادمة من مدينة تجثمُ قرب طلوع الفجر.

ورجالك وعبيدك يحملقن في الوجوه والسيقان المضيئة ويدفقون هذه السوائل النارية ويصطخبون.

ليس لك يا عمر سوى هذه السنوات الرائعات. تنامُ فوق سحائب بيضاء، وتحدق في المدن والغابات والجبال، وتسكر وتثرثر بما تنساه. لا تفكر في الغد ولا في الأمس.

ينهض ويكادون يقفون (يصمتون) لكن يدعهم مبتسماً محيياً، ويقتربُ من النار تمد ألسنتها الحمراء إليه ماذا سيحدث لك؟ أتمضي الحياة هكذا كالمياه الهادئة الرقراقة، ثم تتبخر في السماء العريضة كأن شيئاً لم يكن، وتدخل جحيماً نارياً خالداً؟

ما أجمل هذه الجبال الشامخة نحو السماء! غابات تسكن أجفانها رفوف من الحجر والشجر متألقة، ومياهٌ صافيةٌ تتدفق مع لغو العصافير. فلاحٌ يقودُ حماراً هزيلاً مثقلاً بالحطب.. طيورٌ بيضاء صاخبة. ثمة فارس يتوغلُ في الطريق الحجري المتعرج. في مكان ما قد يشعلون حرباً، أو يغزون مدينة.

ابتعد عن طريق هذا الفارس، فخطواته دم، وحروفه منجنيق وسهام مشتعلة !

لأنه ذاب في الجبال والواحات، وأنس الى الغزلان والثعالب، دهشوا منه. كيف اعتزل الجاه والسلطان، وطاف بالقرى كمهرج يتسول الدعة واللذة ! وكيف انبثقت ايضاً من برميل الشهوة هذا صرخات غضب ورفض لما يقول الخليفة؟

اعتزلتَ بني امية، وهاجرت الى الآبار والينابيع الصافية، تقرأ وترقب النجم، وتتلذذ بالنبيذ، وتطير سعيداً بنقائك في الرمال النظيفة! ومنذ أن تقترب من ذلك القصر، حتى ترتجف ولا تستطيع الا ان تشير الى كل شيء بغضب.

ها هو الفارس المثقل بالأوامر والحديد، يعرج الى خيمة الاصحاب، يترجل. يسمعُ لفظاً عنيفاً. يشيرون اليه. كم يكره هذه اللحظات! لم لا يتركونه لوحده؟ سئم من حرابهم ودواوينهم وكلماتهم المراوغة اللاذعة !

لكن الفارس يتجه نحوه مصراً، حذاؤه يهرس الرمل الناعم، ونصل غمده يفتح الأرض بقسوة، يقترب، يلمع وجهه النحيف المنشرح. ثمة رسالة طيبة يحملها، والا ما كان بهذه الخفة والنشوة. يكاد يقبل الأرض. بين يديه، ويلثم أصابعه. يسحبها بسرعة وألم، لماذا يتطفل بهذا الشكل الفج ؟!

   ــ مولاي، يسعدني ان اخبرك انك عينت خليفة بعد مولاي الراحل !

   صُعق. لو أن الرجل طعنه لما تألم بهذا الشكل، وغاصت ركبتاه في الرمل، وطاح الأفق من السماء. أمات سليمان؟ وهو.. يُسحب الى النفق الناري؟ من المغفل أو الداهية الذي اختاره؟ انهم يكرهونه كما لو كان حية أو خارجياً شرساً!

   ــ ماذا تقول يا رجل؟ بم تهذي ؟

   ــ انت الخليفة الآن يا مولاي، خلا كرسي الأرض، وكل شيء متوقف على خطواتك !

   ــ كيف حدث هذا ايها الملعون؟ هم أعدائي فكيف اختاروني؟ أهي خدعة ما ؟!

   ــ لا، ولكن سليمان رحمه الله، كما تعرف، ترك كتاباً مغلقاً، جعلك فيه الخليفة !

   فليرحمه الله ! ما اقساه وأبغضه إليه الآن. ترك كل تلك الصقور والأفاعي وانتقاه. أكان يريد ان ينير ايامه الاخيرة أم يظلم سنواتي الباقية؟ اختار حمامة لتهدل في اوكار الذئاب. هل يريد أن يحول بردى الى ثعبان ؟!

صرخ في الفضاء:

   ــ لماذا يا سليمان؟ لماذا؟ ماذا أذنبت حتى تقتلني هكذا ؟!

عُهدةٌ مخيفة ألقيت في حضنك. حتى دمك ليس لك. انت مسؤول الآن عن اختفاء الحليب من أثداء النساء، والتهام النيران للأكواخ، وكثرة الثعابين وامتلاء السماء بالصقور!

   ــ لماذا، لماذا؟

   حدق فيه الفارس سالم مدهوشاً.

كنتُ اصحو وقتما أشاء، والهو، كنت اغني، واعانق الفاتنات، اتوغل، واهجوا، وأسكر الى الصباح، أدندن، ارقص، أقرأ أشعار الغزل والفضائح، أتمعن في خدود البدويات وآكلها، أذوب في ضجة الأسواق، أتمعن في بائع عجوز ثرثار. والآن علي أن اتحجر فوق ذاك الكرسي المرتفع، محاطاً بالصقور والنمور. لا اخرج الى شارع. عيني تبحلقُ في مقابض السيوف ودسائس الظلام. عليّ أن احرك بيادق الجنود لتلتهم المدن ويكثر الاسرى والجواري والعبيد. أن أرسل العيون واثقب الجماجم بالسهام المشتعلة. أي لعنة مرسلة!

وذلك الكتاب العظيم، ووصاياه بالناس والأهل، كيف أنفذه؟ ستشدني الخيول في كل اتجاه، ويغدو لحمي غذاءً للنسور والسابلة!

   ــ مولاي ..

   ــ اذهب عني يا غراب الشؤم !

   يتراجع سالم باضطراب، ويكاد يسقط، فتقدم منه حانياً:

   ــ اعذرني، لم اكن اقصد.

يدهش الفارس مرة اخرى. يذهب للخيمة فيسمع انفجار الزغاريد والصيحات، ويهل الجميع عليه مضطرباً فرحاً.

يستغرب: من هؤلاء ؟! النساء الراقصات العاريات يمددن ايديهن الناعمة البيضاء اليه. ستكون خليفة الانس والفرح الدائم. خذ اشرب احتفالا بهذه اللحظة المقدسة الرائعة. احكم الأرض من هذه الخيمة المترعة بالخمرة واللذة، دع ينابيع الشهوة والنشوة تتفجر في كل القصور، وليعلن الانس مولده !

من هؤلاء ؟! كان دائماً مع هذه الثلة من السكارى، رواة الأشعار والقصص، كتب مفتوحة تحصد الساعات بالضحك والمتعة. تلتقط الشوارد والشواهد، وتضيع في طرقات الصحاري المفتوحة على السراب. حرسٌ خاصٌ ادمن اليقظة من أجل رجلٍ لاهٍ لا أهمية له. ما الذي جعله أحق بهذا اللحم الوفير والماء الكثير ودنان النبيذ والجاريات المتغيرات كنهر دائم للشبق المحموم ؟ اين كان ولماذا هو هنا ومع هؤلاء الداعرات وأمام الرمل الكئيب ورائحة الشواء البغيضة ؟!

يقولون:

   ــ غدا أوان ذهابك لعاصمة الملك !

   ــ لا، لا، ينبغي أن يسرع بعضنا ليعد احتفالا كبيراً بمقدمه..

   ــ تحتشد فيه كل المدينة ووفود من كل أنحاء الخلافة..

   ــ وماذا ستفعل بموت الخليفة السابق؟

   ــ لقد انتفخ من الأكل، مات وشبع من التهام الذبائح والنساء !

اشياء غريبة تحتشد حولك. صدور عارية وعيون حمراء منتفخة من الإدمان والسهر والعهر. كروش متدلية، وانت نفسك شيء غريب: جسد منتفخ هائل، حصد كل متع الدنيا وتجمد. لم ترفعْ فأساً ذات يوم!

   ــ هيا، هيا، اتركوني وارحلوا !

يتطلعون فيك باستغراب، ويغرق بعضهم في الضحك.

   ــ خذوا ما تريدون، كل تلك القِرب والدنان والبراميل والذبائح والخيول. اتركوا لي فقط فرساً هزيلة او حتى ذلك الحمار.

يتعثر الجمع، تضطرب الوجوه. أخافتهم الحرية المفاجئة، وسقطت بعض الجواري على الرمل.

   ــ ماذا حدث؟ ماذا حدث لعمر؟!

   ــ ماذا يجري، ماذا سنفعل؟!

   ــ هيا، هيا اتركوني، لا استطيع أن أتحمل عبء وجودكم معي.

يتراجعون مضطربين خائفين مستغربين، يحملون الدنان وتنهار الخيمة الكبيرة فجأة، وينتفض التراب ويتفحم الشواء. تهز حوافر الخيول الجبال، ويلتفت الفرسان والنساء الى الرجل الوحيد الواقف في البرية، لعل كلمة او ضحكة طفولية تنفجر منه في آخر لحظة.

يجد ان الفارس ذا البشارة الملعونة لم يزل منتظراً. يجد ان الحمار أليق به، رغم الثقل الكبير الذي سوف ينزل عليه. الفارس يتبعه ولم يزل في شكوكه واسئلته التي راحت تنهمر وتقلقه.

انه، وهو الجندي الفقير، كان دائماً يقف وراء الأبواب منتظراً رسالة او امراً. منتظراً لفته تدخله الى ممرات الأمراء والخلفاء. لديه عائلة تسكن كوخاً، وكل يوم يرجو ان يتغير حاله. وحينما قيل له ما في الرسالة، أيقن أن بوابة القدر فتحت له، ولكن ها هو الخليفة المنتظر، يتحول الى ابله او مجنون.

كاد يسقط أكثر من مرة في الطريق. كان يعانق الهواء الصاخب الذي يثقب رئتيه. وهو يصرخ: حانت اللحظة، حانت اللحظة ! وما اغربها من لحظة، انفتح الحلم فيها باتساع الدنيا ونفجر !

أيمكن لرجل عاقل يصير في غمضة عين خليفة فيتهالك على التراب خائفاً مذعوراً ؟! إنه ولاشك لم يتصور قط أنه سيغدو خليفة، وهو الآن مضطرب خائف، وما أن يدفئ الكرسي كتلته الممتلئة شحماً ولحما، حتى تصحو شراسته وملذاته فتلتهم المدن والنساء !

ينحدر الحمار بعمر الى أرض مزروعة. ظهور الرجال محنية، واقدامهم تغوص في التراب، لا يتطلعون إليه. يدهش من هذه الأجساد النحيلة الصلبة. يرى غابة من الأكواخ والأولاد العراة. ثمة مستنقع كبير تلهو فوقه أسراب الحشرات. بين الاكواخ نسوة يطحن شيئاً، ثم صغار يبكون امامهن.

ما هذا؟ هل رأيت ذلك من قبل؟ أين كنت؟ لماذا يتعارك الاطفال من اجل عصفور نافق؟ لماذا هذا الدخان الكريه ينبعث من الزرائب؟!

ابتعد، واسرع، دع الطرق البعيدة تحتويك، دعها تصهرك، تذيبك، لا نفس في صدرك، الهواء النقي يهرب الى الصحراء. تستقبلك الازقة بجيوش الذباب وجموع الحفاة. يغوص الحمار في مستنقعات تتشبث ببيوت متهالكة. وجوه مرعبة تحدق من بين الدخان والنار.

ـــ 2 ـــ

الصقور تدخل البيت. كل رجال بني أمية وامرائها يقتحمون خلوتك، عاصفةً من الثياب والأسلحة والعيون المستشيطة غضباً، كقاسيون القاسي وراء النافذة يطل متجهماً على المدينة المزروعة تحته اكواخاً وقصوراً.

كم من خليفة اغتيل بهذه الطريقة، زوبعة الأهل تخنقه، والعرش يتألق ثانية بمخمور يغيب وعيه كل يوم. لكن انت محمي بذلك السيل من البشر، ينابيع الحارات تدفقت وامتلأت الساحة بالرجال والنساء، بالعصي والسكاكين والصراخ. اية رياح غريبة أطلقت كل هذه الوجوه ؟!

ما كان ينبغي أن تدعهم ينقلبون سيلا من طمع ينهب القصور، يتوغل نحو الخزائن والذهب والثياب وينثرها في الساحة، ويصعد فوقها راقصاً مزغرداً، والكلُ ينهبُ. سيحولون المدن الى اطلال وحرائق وأنهار من دم. أهذا هو العدل الذي جئت به؟ هل ستكون رايتك الموت والدخان وتمزيق الكتاب والأهل؟ اية لعنة ستكون أيامك يا عمر؟ قلبت الناموس واطلقت الوحوش وراحت المطامع والبطون تصير ديناً جديداً !

هذا هشام يتقدم، وكأنه ينبثق من ذاتك، ويعطيك كلماتك:

   ــ ماذا فعلت بنا يا عمر، ماذا فعلت..؟

لا تستطيع أن تتكلم. العامة اقتحمت بعض القصور، ولم تتمزق الستائر وتتحطم الابواب فحسب بل قتلت نسوة واطفال ايضاً. لا تستطيع إلا أن تتألم. لو ان هذا السيل الوحشي اندفع من هذه المدينة ناراً  وكرات من حديد مصهور لعجن الأجساد بالتراب.

   ــ لقد اطلقت هؤلاء ليدمروا  كل شيء. ليغتصبوا نساء من اهلك. ليسرقوا بساتينهم وحقولهم. ليسكروا ويقامروا، كل ما بناه الاجداد سينهار فجأة، على رؤوسنا وعلى رأسك !

  ــ اسكت ! لا تحدثني عن الأجداد! تاريخ كله اغتصاب ودماء واحلام مرعبة. اسكت لا تحدثني عن تلك الأمجاد. انني اعرف كيف صارت. كل حجر هنا يئن. كل قطعة من قماش وراءها قرية محروقة. كل لمعة في خد نساءكم من ضمور آلاف الاثداء. كل لحمكم هذا، وارديتكم المزركشة وسيوفكم المذهبة وجواريكم وفحيحكم هو من دخان ونار تلك الحارات والاقدام!

   ــ اذان انت تعلنها حرباً لا رحمة فيها ؟!

ما كان ينبغي أن تكون في هذا المكان. كانت لك الفلوات والغزلان ورحيق الصبايا فجئت الى الدخان والحراب. مسلسل في حديد صدئ، مغمور بالمياه، مربوط الى صرخات الملايين وحقد الاهل..

   ــ .. انني لن أعلنها حرباً على أحد. ما جئت لأشعل الحروب، لا حبا فيكم ولكنه الناموس. ليس خوفاً ولكنه الكتاب الذي لن ابدل شيئاً فيه.

   ــ ماذا أبقيت من الكتاب وصلة القربى ؟ حفرت خندقاً وامتلأ بالدم، نحن لسنا خائفين من أحد. من يحاول الاعتداء علينا فسوف نزيله ونجتثه من الأرض، أي اعتداء جديد يعني امتلاء دار الخلافة كلها بالحرائق وستطفو الجثث فوق الأنهار وتمتلئ الصحاري بالمشردين.

   ــ انني لا اريد أن اقتل احداً ايها الاحمق ! لو أردت ذلك لما خرجتم من هنا أحياء. لن ألوث يدي بدمكم. يكفي أن أدع الناس تأخذ ثاراتها. يكفي أن ادع الجياع يبحثون عن المخازن السرية ويقتحمون البساتين المغلقة، كل شيء سيتحطم على رؤوسكم في غمضة عين. إنني لم أجئ  هنا لأعلن الفتنة !

تخرج قعقعة السلاح والثياب الجميلة والعباءات الفخمة، وتدخل الملابس الرثة والاقدام العارية. وجوه مستبشرة. غيلان يتقدم فرحاً، منتشياً بألق النار. ثلة اخرى تريد ان تغوص في اللحم البشري وتندفع نحو القصور والخمور والنساء. أليس ثمة هنا بشر حقاً؟ أطماع، أطماع !

   ــ خفنا عليك يا امير من عصابة الغيلان.

   ــ خرجوا بمزيد من الغضب !

   ــ انهم يدبرون شيئاً فأجهز عليهم قبل ان يقتلوك.

   ــ مرنا بأن نجتاح قصورهم فلن تقوم لهم قائمة بعدها ابداً !

جيش من الغضب والدمار مستعد لدحرجة كتلة الحديد المصهور. لاتهم الدماء والاشياء، فالكل يريد أن يتربع فوق صناديق الذهب والعروش، وبيدك انت يريدون أن تظهر الهوة السحيقة. تموت عصابة لتولد عصابة !

   ــ اصمتوا! كفوا عن هذا التحريض على القتل، لا تنطقوا أمامي بهذه اللغة الدموية. لست جزاراً، وانتم مجانين ليس في رؤوسكم سوى هوس الثروة والنساء والقصور. ابتعدوا عني، هذا طريقي !

يحدقون فيك مبهورين، كانوا ينتظرون شيئاً آخر. انهم قبيلة اخرى تريد ان تحتل المدينة وتحلب الأرض. لعنة جديدة ستتسلط على الأحياء لتتوالد الأفاعي.

يقول غيلان:

   ــ هل خفت من سيوفهم ؟!

   ــ لا اخاف الا من الله.

لم يكن هناك سوى سالم يحدق فيك باستغرابه الذي لم ينقطع، أمامه كان الهلال يصعد فوق الجبل بوهن.

ـــ 3 ـــ

 كان سالم يمشي في الزقاق الضيق المظلم بحذر، قطط تطالعه بعيونها المشتعلة يمسك الجدار ويسير ببطء. أبصر شبحاً على الجانب الآخر، ارتجف. اقتربت العباءة المعتمة وبرز منها رأس بلا ملامح. سلمه منديلاً.

   ــ ماذا تريدون مني ؟

فح الشبح بهدوء:

   ــ سرب هذا السم إلى عظامه.

   ــ يا الهي! أأقتل هذا الانسان العظيم !؟

   ــ لأنه لا يصلح للملك.

   ــ انني لا يمكن أن افعل ذلك.

   ــ غدا او بعد غد يرحل عن الكرسي، فأما ان تعود جندياً أو الى ما لا تحلم به ابداً.

   ــ انني فقير ولكن لا اقبل أن اخونه. لم أر انساناً بهذه الطيبة، هذا ما كنت أسمعه عن الأولياء.

   ــ هل انت غبي؟ ألا ترى ما يحدث؟ كل شيء ينهار، الجنود يملأون المدن بلا وظيفة، يجتمعون في الشوارع ويقعقعون بالسلاح، والكنوز في السهول تنتظرهم. انقطعت سيول العبيد والجواري من الأسواق. ضاق العيش بالناس. البضائع اختفت. وكل شح الا العوز. ولا توجد دولة. ثمة رجل أشبه بالشحاذ يسير في الشوارع ويثرثر مع الحدادين والنجارين. الى متى سيكون الحال هكذا ؟!

   ــ نعم، هناك فوضى. ولكن ان نقدم على جريمة قتل هذا الإنسان المحبوب الذي رفس أطايب الطعام والأسرة المريحة فذلك أمر رهيب.

   ــ لا توجد جريمة. ثمة رجل عاجز عن ادارة الدولة. ضيع كل شيء. لا نعرف مع من هو. معنا ام مع غيرنا. أموي ام خارجي؟ حيرنا وضيع ما بناه السلف. الجنود يتحرقون شوقاً للحروب. التجار ضاق بهم الصبر وهم يرون سيل البضائع ينقطع. مفاتيح الأشياء كلها بيدك انت !

نحن نعرف عنك الكثير. انت تعيش مع أسرتك في كوخ. لا تستطيع أن تتزوج. أم وأب واخوة كثيرون. كنت دائم التذمر من هذه المعيشة الصعبة. ولكن الخليفة غير مستعد للإصغاء إلى هذا. حلمه مناه ان نعيش بهذا العوز. حلمه أن يبقى الناس على الكفاف لا يفكرون إلا في الآخرة. وأنت تريد أن تحيا في بيت جميل، فيه زوجة وخدم وجوار، كلما ذقت امرأة انتقلت الى اخرى. الخمر تملأ الرأس، والخيول والسفر وحكم ولاية مهمة تغدو فيها أشبه بسلطان .. أمانٍ كلها تجول في النفس ولا تتحقق.

   ــ كأنك شيطاني ايها الرجل !

   ــ أرهقتك حياة الخليفة الغريب، الذي ادمن الصيام وملابس العوام. يسأل عن كل شيء ويرهقك بالرسائل إلى الولاة العصاة والتنقيب في الأسواق. ومع هذا، فالعدل لا ينزل، الفقراء لا يأكلون والأغنياء لا يحكمون !

   ــ ….

   ــ ها قد صمت دون ان تقرر شيئاً. السم سهل، ولن يعرف أحد به، اعجنه بالتمر. وقليلاً قليلاً تتسرب الحياة منه. انه جلد على عظم الآن، ولن يتحمل طويلاً، خذ امسك !

   ــ انني لا اعرف ماذا افعل ؟! لا، لا، لن اخون حبيبي، انه حبي، لا اعرف ماذا افعل ؟! لا، لا، لم احب أحداً كما احببته. انت لا تعرف هذا الرجل. صُنع من الرحمة والحب. ولكنني ايضاً لا استطيع أن اعيش هكذا، ادفن عمري في الأكواخ والمستنقعات. امي تقشر وجهي كل يوم. كيف تكون مع الخليفة ولا تستطيع أن تشتري بيتاً؟ اصرخ فيها: الامور تغيرت منذ أن جاء هذا الرجل. فتصرخ بدورها: لا اراها تغيرت !

اين العدل؟ ما هو؟ هل تنتظر الآخرة فقط؟! والحياة والأنس والفرح والخمرة والسفر والنساء والمنازل الجميلة والحدائق والنور .. متى تأتي؟ انصال بني أمية تحدق بالرجل وإذا لم يمت فسوف يُقتل حتماً. الأشياء لا يمكن أن تبقى هكذا. وانا لن .. اكون مع المقتولين. هات السم !

ـــ 4 ـــ

لا شيء في الامتداد الأزرق الباهت. ماذا أرادوا منك؟ ان تكون عادلا، لا شيء سوى هذه الصحراء الزرقاء الممتدة الى الافق، وانت تزحف فوق الرمل والزبد. القمر مهشم متناثر في السماء، انه ليل، وانت مريض، وتهذي، ما هذا البرد والعرق والقلق؟ وهذه زوجتك؟ وهؤلاء عيالك، ماذا يريدون؟ أن أغير الخلافة لهم، أن أكتب بأسمائهم القصور والبساتين والمدن؟ لو سمعت كلمة لقطعت اللسان الذي نطق بها. وهم خائفون من موتي القريب. يريدون ضمانة للدنيا، والسيوف مشرعة فوق رؤوسهم. لا املك شيئاً اعطيه. أعطيت عمري لكم. وهذا جسدي يتمزق. كرهت السيوف وحامليها. لماذا لا تستطيع هذه المدن أن تحيا بغير القتل؟! في هذا المكان تحلق ضحكات يزيد وتأوهاته، تلتف صرخاته حول عنقي وتخنقني. ينبثق وجهه من الجدران مشتعلا بالنار.

المرأة الساحرة اطلت علي. وجهها جميل. الامتداد الازرق الباهت وراء يديها وعيونها الكثيرة تتألق بالجمر، تلقي الاحجار على الرمل فتكون سيفاً. تصرخ. احمله. تنفتح الحصاة عن ثعبان هائل يلتهمك وتغوص في ممر نتن. يأتي وجهها ثانية وتلقي بالأحجار فتكون سهماً وتصرخ: احمله! تنفلق الحصاة عن قصر ورياح شديدة تطير فيها وتصطدم بأعمدة لكنك لا تتألم، ويظهر الثعبان ثانية وترى ممره المظلم لكنك تخرج منه، وترى الساحرة تبتسم وتلقي الاحجار فتكون ناراً وتصرخ: ادخل فيها، ستكون برداً وسلاماً عليك! فتدخل..

ترى امرأة تركض نحوك. انها هيكل عظمي تأخذك من يدك وتبحثان عن ولدها الضائع. تجريان في الشوارع، يتساقط المطر والثلج فوقكما. تريانه عند السور متجمدا وميتاً. خلف السور كانت الأصوات البهيجة وأضواء القصور وصهيل الخيول. تلتفت الى المرأة فتجد انها الساحرة وقد راحت تضحك ثم غرزت في قلبك خنجراً!

ضجة مخيفة في الطريق. الوجوه التي تحيط به مترجرجة كأنها وراء ماء. انطفأت المصابيح في جسده. لكن اصابعه كانت تهتز، لم تزل نار الحياة تُرى من تحت اكداس الرماد والوهن. يشعر بسعادة أخيرة وخافتة. انه استطاع ان يفعل اشياء كثيرة. الغنم والذئاب تآلفت في حياته. الآن سيرحل ويغوص في الابدية.

تشتد الضجة في الطريق. ثمة صهيل خيول وخيوط نار تتألق في الظلمات. ألا يريدون أن يمر موتك بهدوء. إنها صرخات اهل المدينة، ثمة صياح وبكاء عنيف. الخيول تحمحم وتندفع وتهرس الحصى.

يريد ان ينهض لكنه لا يستطيع. تحمله اكتاف عديدة الى النافذة، ويطل على الطريق، جموع وشموع وقناديل في الحارات وصياح وبكاء. صرخات تتعالى «مات الخليفة ونحن عدنا، هيا اختفوا في جحوركم!».

تتداخل الخيول والبيوت والشموع، يصارع المرئيات والاشياء ليرى بوضوح، ها هي السيوف تظهر مرة اخرى. والجنود يقتحمون المنازل، والرؤوس تتدحرج على الأرض. نار تتوقد فيها، ودم غزير يغسل الطريق المرصوف بالأحجار.

ومن هذا؟ يصارع تداخل الظلمة بالنور، الدم بالتراب، ليعثر في التفاصيل المشوشة على قامة يعرفها، انه سالم يجثم فوق حصان ورمحه يُسدد إلى الصدور النازفة.

يتخشب فوق الاكتاف وتنطفئ المرئيات ويسود الظلام.

2009

 •  0 comments  •  flag
Share on Twitter
Published on December 17, 2024 20:15

قمرٌ فوق دمشق

عبـــــــدالله خلــــــــيفة

قصـــــــةٌ قصـــــــــيرةٌ

ـــ 1 ـــ

كانت الغيمة تركضُ جنوباً. لن يطفئ هذا الطقس الربيعي النار الملتهبة تحت الخروف المتقلب. أشربْ واصغ إلى هذا الصوت المعبأ بالدعوة إلى الحب. أدفق الكأس وصفق.

ثلةٌ من الفتيات الجميلات يرقصن ويصفقن، وتشي اثوابهن الحريرية بنيران موقدة. لن تكون الليلة إلا مع هذه المغنية البيضاء المشرقة القادمة من مدينة تجثمُ قرب طلوع الفجر.

ورجالك وعبيدك يحملقن في الوجوه والسيقان المضيئة ويدفقون هذه السوائل النارية ويصطخبون.

ليس لك يا عمر سوى هذه السنوات الرائعات. تنامُ فوق سحائب بيضاء، وتحدق في المدن والغابات والجبال، وتسكر وتثرثر بما تنساه. لا تفكر في الغد ولا في الأمس.

ينهض ويكادون يقفون (يصمتون) لكن يدعهم مبتسماً محيياً، ويقتربُ من النار تم ألسنتها الحمراء إليه ماذا سيحدث لك؟ أتمضي الحياة هكذا كالمياه الهادئة الرقراقة، ثم تتبخر في السماء العريضة كأن شيئاً لم يكن، وتدخل جحيماً نارياً خالداً؟

ما أجمل هذه الجبال الشامخة نحو السماء! غابات تسكن أجفانها رفوف من الحجر والشجر متألقة، ومياهٌ صافيةٌ تتدفق مع لغو العصافير. فلاحٌ يقودُ حماراً هزيلاً مثقلاً بالحطب.. طيورٌ بيضاء صاخبة. ثمة فارس يتوغلُ في الطريق الحجري المتعرج. في مكان ما قد يشعلون حرباً، أو يغزون مدينة.

ابتعد عن طريق هذا الفارس، فخطواته دم، وحروفه منجنيق وسهام مشتعلة !

لأنه ذاب في الجبال والواحات، وأنس الى الغزلان والثعالب، دهشوا منه. كيف اعتزل الجاه والسلطان، وطاف بالقرى كمهرج يتسول الدعة واللذة ! وكيف انبثقت ايضاً من برميل الشهوة هذا صرخات غضب ورفض لما يقول الخليفة؟

اعتزلتَ بني امية، وهاجرت الى الآبار والينابيع الصافية، تقرأ وترقب النجم، وتتلذذ بالنبيذ، وتطير سعيداً بنقائك في الرمال النظيفة! ومنذ أن تقترب من ذلك القصر، حتى ترتجف ولا تستطيع الا ان تشير الى كل شيء بغضب.

ها هو الفارس المثقل بالأوامر والحديد، يعرج الى خيمة الاصحاب، يترجل. يسمعُ لفظاً عنيفاً. يشيرون اليه. كم يكره هذه اللحظات! لم لا يتركونه لوحده؟ سئم من حرابهم ودواوينهم وكلماتهم المراوغة اللاذعة !

لكن الفارس يتجه نحوه مصراً، حذاؤه يهرس الرمل الناعم، ونصل غمده يفتح الأرض بقسوة، يقترب، يلمع وجهه النحيف المنشرح. ثمة رسالة طيبة يحملها، والا ما كان بهذه الخفة والنشوة. يكاد يقبل الأرض. بين يديه، ويلثم أصابعه. يسحبها بسرعة وألم، لماذا يتطفل بهذا الشكل الفج ؟!

   ــ مولاي، يسعدني ان اخبرك انك عينت خليفة بعد مولاي الراحل !

   صُعق. لو أن الرجل طعنه لما تألم بهذا الشكل، وغاصت ركبتاه في الرمل، وطاح الأفق من السماء. أمات سليمان؟ وهو.. يُسحب الى النفق الناري؟ من المغفل أو الداهية الذي اختاره؟ انهم يكرهونه كما لو كان حية أو خارجياً شرساً!

   ــ ماذا تقول يا رجل؟ بم تهذي ؟

   ــ انت الخليفة الآن يا مولاي، خلا كرسي الأرض، وكل شيء متوقف على خطواتك !

   ــ كيف حدث هذا ايها الملعون؟ هم أعدائي فكيف اختاروني؟ أهي خدعة ما ؟!

   ــ لا، ولكن سليمان رحمه الله، كما تعرف، ترك كتاباً مغلقاً، جعلك فيه الخليفة !

   فليرحمه الله ! ما اقساه وأبغضه إليه الآن. ترك كل تلك الصقور والأفاعي وانتقاه. أكان يريد ان ينير ايامه الاخيرة أم يظلم سنواتي الباقية؟ اختار حمامة لتهدل في اوكار الذئاب. هل يريد أن يحول بردى الى ثعبان ؟!

صرخ في الفضاء:

   ــ لماذا يا سليمان؟ لماذا؟ ماذا أذنبت حتى تقتلني هكذا ؟!

عُهدةٌ مخيفة ألقيت في حضنك. حتى دمك ليس لك. انت مسؤول الآن عن اختفاء الحليب من أثداء النساء، والتهام النيران للأكواخ، وكثرة الثعابين وامتلاء السماء بالصقور!

   ــ لماذا، لماذا؟

   حدق فيه الفارس سالم مدهوشاً.

كنتُ اصحو وقتما أشاء، والهو، كنت اغني، واعانق الفاتنات، اتوغل، واهجوا، وأسكر الى الصباح، أدندن، ارقص، أقرأ أشعار الغزل والفضائح، أتمعن في خدود البدويات وآكلها، أذوب في ضجة الأسواق، أتمعن في بائع عجوز ثرثار. والآن علي أن اتحجر فوق ذاك الكرسي المرتفع، محاطاً بالصقور والنمور. لا اخرج الى شارع. عيني تبحلقُ في مقابض السيوف ودسائس الظلام. عليّ أن احرك بيادق الجنود لتلتهم المدن ويكثر الاسرى والجواري والعبيد. أن أرسل العيون واثقب الجماجم بالسهام المشتعلة. أي لعنة مرسلة!

وذلك الكتاب العظيم، ووصاياه بالناس والأهل، كيف أنفذه؟ ستشدني الخيول في كل اتجاه، ويغدو لحمي غذاءً للنسور والسابلة!

   ــ مولاي ..

   ــ اذهب عني يا غراب الشؤم !

   يتراجع سالم باضطراب، ويكاد يسقط، فتقدم منه حانياً:

   ــ اعذرني، لم اكن اقصد.

يدهش الفارس مرة اخرى. يذهب للخيمة فيسمع انفجار الزغاريد والصيحات، ويهل الجميع عليه مضطرباً فرحاً.

يستغرب: من هؤلاء ؟! النساء الراقصات العاريات يمددن ايديهن الناعمة البيضاء اليه. ستكون خليفة الانس والفرح الدائم. خذ اشرب احتفالا بهذه اللحظة المقدسة الرائعة. احكم الأرض من هذه الخيمة المترعة بالخمرة واللذة، دع ينابيع الشهوة والنشوة تتفجر في كل القصور، وليعلن الانس مولده !

من هؤلاء ؟! كان دائماً مع هذه الثلة من السكارى، رواة الأشعار والقصص، كتب مفتوحة تحصد الساعات بالضحك والمتعة. تلتقط الشوارد والشواهد، وتضيع في طرقات الصحاري المفتوحة على السراب. حرسٌ خاصٌ ادمن اليقظة من أجل رجلٍ لاهٍ لا أهمية له. ما الذي جعله أحق بهذا اللحم الوفير والماء الكثير ودنان النبيذ والجاريات المتغيرات كنهر دائم للشبق المحموم ؟ اين كان ولماذا هو هنا ومع هؤلاء الداعرات وأمام الرمل الكئيب ورائحة الشواء البغيضة ؟!

يقولون:

   ــ غدا أوان ذهابك لعاصمة الملك !

   ــ لا، لا، ينبغي أن يسرع بعضنا ليعد احتفالا كبيراً بمقدمه..

   ــ تحتشد فيه كل المدينة ووفود من كل أنحاء الخلافة..

   ــ وماذا ستفعل بموت الخليفة السابق؟

   ــ لقد انتفخ من الأكل، مات وشبع من التهام الذبائح والنساء !

اشياء غريبة تحتشد حولك. صدور عارية وعيون حمراء منتفخة من الإدمان والسهر والعهر. كروش متدلية، وانت نفسك شيء غريب: جسد منتفخ هائل، حصد كل متع الدنيا وتجمد. لم ترفعْ فأساً ذات يوم!

   ــ هيا، هيا، اتركوني وارحلوا !

يتطلعون فيك باستغراب، ويغرق بعضهم في الضحك.

   ــ خذوا ما تريدون، كل تلك القِرب والدنان والبراميل والذبائح والخيول. اتركوا لي فقط فرساً هزيلة او حتى ذلك الحمار.

يتعثر الجمع، تضطرب الوجوه. أخافتهم الحرية المفاجئة، وسقطت بعض الجواري على الرمل.

   ــ ماذا حدث؟ ماذا حدث لعمر؟!

   ــ ماذا يجري، ماذا سنفعل؟!

   ــ هيا، هيا اتركوني، لا استطيع أن أتحمل عبء وجودكم معي.

يتراجعون مضطربين خائفين مستغربين، يحملون الدنان وتنهار الخيمة الكبيرة فجأة، وينتفض التراب ويتفحم الشواء. تهز حوافر الخيول الجبال، ويلتفت الفرسان والنساء الى الرجل الوحيد الواقف في البرية، لعل كلمة او ضحكة طفولية تنفجر منه في آخر لحظة.

يجد ان الفارس ذا البشارة الملعونة لم يزل منتظراً. يجد ان الحمار أليق به، رغم الثقل الكبير الذي سوف ينزل عليه. الفارس يتبعه ولم يزل في شكوكه واسئلته التي راحت تنهمر وتقلقه.

انه، وهو الجندي الفقير، كان دائماً يقف وراء الأبواب منتظراً رسالة او امراً. منتظراً لفته تدخله الى ممرات الأمراء والخلفاء. لديه عائلة تسكن كوخاً، وكل يوم يرجو ان يتغير حاله. وحينما قيل له ما في الرسالة، أيقن أن بوابة القدر فتحت له، ولكن ها هو الخليفة المنتظر، يتحول الى ابله او مجنون.

كاد يسقط أكثر من مرة في الطريق. كان يعانق الهواء الصاخب الذي يثقب رئتيه. وهو يصرخ: حانت اللحظة، حانت اللحظة ! وما اغربها من لحظة، انفتح الحلم فيها باتساع الدنيا ونفجر !

أيمكن لرجل عاقل يصير في غمضة عين خليفة فيتهالك على التراب خائفاً مذعوراً ؟! إنه ولاشك لم يتصور قط أنه سيغدو خليفة، وهو الآن مضطرب خائف، وما أن يدفئ الكرسي كتلته الممتلئة شحماً ولحما، حتى تصحو شراسته وملذاته فتلتهم المدن والنساء !

ينحدر الحمار بعمر الى أرض مزروعة. ظهور الرجال محنية، واقدامهم تغوص في التراب، لا يتطلعون إليه. يدهش من هذه الأجساد النحيلة الصلبة. يرى غابة من الأكواخ والأولاد العراة. ثمة مستنقع كبير تلهو فوقه أسراب الحشرات. بين الاكواخ نسوة يطحن شيئاً، ثم صغار يبكون امامهن.

ما هذا؟ هل رأيت ذلك من قبل؟ أين كنت؟ لماذا يتعارك الاطفال من اجل عصفور نافق؟ لماذا هذا الدخان الكريه ينبعث من الزرائب؟!

ابتعد، واسرع، دع الطرق البعيدة تحتويك، دعها تصهرك، تذيبك، لا نفس في صدرك، الهواء النقي يهرب الى الصحراء. تستقبلك الازقة بجيوش الذباب وجموع الحفاة. يغوص الحمار في مستنقعات تتشبث ببيوت متهالكة. وجوه مرعبة تحدق من بين الدخان والنار.

ـــ 2 ـــ

الصقور تدخل البيت. كل رجال بني أمية وامرائها يقتحمون خلوتك، عاصفةً من الثياب والأسلحة والعيون المستشيطة غضباً، كقاسيون القاسي وراء النافذة يطل متجهماً على المدينة المزروعة تحته اكواخاً وقصوراً.

كم من خليفة اغتيل بهذه الطريقة، زوبعة الأهل تخنقه، والعرش يتألق ثانية بمخمور يغيب وعيه كل يوم. لكن انت محمي بذلك السيل من البشر، ينابيع الحارات تدفقت وامتلأت الساحة بالرجال والنساء، بالعصي والسكاكين والصراخ. اية رياح غريبة أطلقت كل هذه الوجوه ؟!

ما كان ينبغي أن تدعهم ينقلبون سيلا من طمع ينهب القصور، يتوغل نحو الخزائن والذهب والثياب وينثرها في الساحة، ويصعد فوقها راقصاً مزغرداً، والكلُ ينهبُ. سيحولون المدن الى اطلال وحرائق وأنهار من دم. أهذا هو العدل الذي جئت به؟ هل ستكون رايتك الموت والدخان وتمزيق الكتاب والأهل؟ اية لعنة ستكون أيامك يا عمر؟ قلبت الناموس واطلقت الوحوش وراحت المطامع والبطون تصير ديناً جديداً !

هذا هشام يتقدم، وكأنه ينبثق من ذاتك، ويعطيك كلماتك:

   ــ ماذا فعلت بنا يا عمر، ماذا فعلت..؟

لا تستطيع أن تتكلم. العامة اقتحمت بعض القصور، ولم تتمزق الستائر وتتحطم الابواب فحسب بل قتلت نسوة واطفال ايضاً. لا تستطيع إلا أن تتألم. لو ان هذا السيل الوحشي اندفع من هذه المدينة ناراً  وكرات من حديد مصهور لعجن الأجساد بالتراب.

   ــ لقد اطلقت هؤلاء ليدمروا  كل شيء. ليغتصبوا نساء من اهلك. ليسرقوا بساتينهم وحقولهم. ليسكروا ويقامروا، كل ما بناه الاجداد سينهار فجأة، على رؤوسنا وعلى رأسك !

  ــ اسكت ! لا تحدثني عن الأجداد! تاريخ كله اغتصاب ودماء واحلام مرعبة. اسكت لا تحدثني عن تلك الأمجاد. انني اعرف كيف صارت. كل حجر هنا يئن. كل قطعة من قماش وراءها قرية محروقة. كل لمعة في خد نساءكم من ضمور آلاف الاثداء. كل لحمكم هذا، وارديتكم المزركشة وسيوفكم المذهبة وجواريكم وفحيحكم هو من دخان ونار تلك الحارات والاقدام!

   ــ اذان انت تعلنها حرباً لا رحمة فيها ؟!

ما كان ينبغي أن تكون في هذا المكان. كانت لك الفلوات والغزلان ورحيق الصبايا فجئت الى الدخان والحراب. مسلسل في حديد صدئ، مغمور بالمياه، مربوط الى صرخات الملايين وحقد الاهل..

   ــ .. انني لن أعلنها حرباً على أحد. ما جئت لأشعل الحروب، لا حبا فيكم ولكنه الناموس. ليس خوفاً ولكنه الكتاب الذي لن ابدل شيئاً فيه.

   ــ ماذا أبقيت من الكتاب وصلة القربى ؟ حفرت خندقاً وامتلأ بالدم، نحن لسنا خائفين من أحد. من يحاول الاعتداء علينا فسوف نزيله ونجتثه من الأرض، أي اعتداء جديد يعني امتلاء دار الخلافة كلها بالحرائق وستطفو الجثث فوق الأنهار وتمتلئ الصحاري بالمشردين.

   ــ انني لا اريد أن اقتل احداً ايها الاحمق ! لو أردت ذلك لما خرجتم من هنا أحياء. لن ألوث يدي بدمكم. يكفي أن أدع الناس تأخذ ثاراتها. يكفي أن ادع الجياع يبحثون عن المخازن السرية ويقتحمون البساتين المغلقة، كل شيء سيتحطم على رؤوسكم في غمضة عين. إنني لم أجئ  هنا لأعلن الفتنة !

تخرج قعقعة السلاح والثياب الجميلة والعباءات الفخمة، وتدخل الملابس الرثة والاقدام العارية. وجوه مستبشرة. غيلان يتقدم فرحاً، منتشياً بألق النار. ثلة اخرى تريد ان تغوص في اللحم البشري وتندفع نحو القصور والخمور والنساء. أليس ثمة هنا بشر حقاً؟ أطماع، أطماع !

   ــ خفنا عليك يا امير من عصابة الغيلان.

   ــ خرجوا بمزيد من الغضب !

   ــ انهم يدبرون شيئاً فأجهز عليهم قبل ان يقتلوك.

   ــ مرنا بأن نجتاح قصورهم فلن تقوم لهم قائمة بعدها ابداً !

جيش من الغضب والدمار مستعد لدحرجة كتلة الحديد المصهور. لاتهم الدماء والاشياء، فالكل يريد أن يتربع فوق صناديق الذهب والعروش، وبيدك انت يريدون أن تظهر الهوة السحيقة. تموت عصابة لتولد عصابة !

   ــ اصمتوا! كفوا عن هذا التحريض على القتل، لا تنطقوا أمامي بهذه اللغة الدموية. لست جزاراً، وانتم مجانين ليس في رؤوسكم سوى هوس الثروة والنساء والقصور. ابتعدوا عني، هذا طريقي !

يحدقون فيك مبهورين، كانوا ينتظرون شيئاً آخر. انهم قبيلة اخرى تريد ان تحتل المدينة وتحلب الأرض. لعنة جديدة ستتسلط على الأحياء لتتوالد الأفاعي.

يقول غيلان:

   ــ هل خفت من سيوفهم ؟!

   ــ لا اخاف الا من الله.

لم يكن هناك سوى سالم يحدق فيك باستغرابه الذي لم ينقطع، أمامه كان الهلال يصعد فوق الجبل بوهن.

ـــ 3 ـــ

 ÙƒØ§Ù† سالم يمشي في الزقاق الضيق المظلم بحذر، قطط تطالعه بعيونها المشتعلة يمسك الجدار ويسير ببطء. أبصر شبحاً على الجانب الآخر، ارتجف. اقتربت العباءة المعتمة وبرز منها رأس بلا ملامح. سلمه منديلاً.

   ــ ماذا تريدون مني ؟

فح الشبح بهدوء:

   ــ سرب هذا السم إلى عظامه.

   ــ يا الهي! أأقتل هذا الانسان العظيم !؟

   ــ لأنه لا يصلح للملك.

   ــ انني لا يمكن أن افعل ذلك.

   ــ غدا او بعد غد يرحل عن الكرسي، فأما ان تعود جندياً أو الى ما لا تحلم به ابداً.

   ــ انني فقير ولكن لا اقبل أن اخونه. لم أر انساناً بهذه الطيبة، هذا ما كنت أسمعه عن الأولياء.

   ــ هل انت غبي؟ ألا ترى ما يحدث؟ كل شيء ينهار، الجنود يملأون المدن بلا وظيفة، يجتمعون في الشوارع ويقعقعون بالسلاح، والكنوز في السهول تنتظرهم. انقطعت سيول العبيد والجواري من الأسواق. ضاق العيش بالناس. البضائع اختفت. وكل شح الا العوز. ولا توجد دولة. ثمة رجل أشبه بالشحاذ يسير في الشوارع ويثرثر مع الحدادين والنجارين. الى متى سيكون الحال هكذا ؟!

   ــ نعم، هناك فوضى. ولكن ان نقدم على جريمة قتل هذا الإنسان المحبوب الذي رفس أطايب الطعام والأسرة المريحة فذلك أمر رهيب.

   ــ لا توجد جريمة. ثمة رجل عاجز عن ادارة الدولة. ضيع كل شيء. لا نعرف مع من هو. معنا ام مع غيرنا. أموي ام خارجي؟ حيرنا وضيع ما بناه السلف. الجنود يتحرقون شوقاً للحروب. التجار ضاق بهم الصبر وهم يرون سيل البضائع ينقطع. مفاتيح الأشياء كلها بيدك انت !

نحن نعرف عنك الكثير. انت تعيش مع أسرتك في كوخ. لا تستطيع أن تتزوج. أم وأب واخوة كثيرون. كنت دائم التذمر من هذه المعيشة الصعبة. ولكن الخليفة غير مستعد للإصغاء إلى هذا. حلمه مناه ان نعيش بهذا العوز. حلمه أن يبقى الناس على الكفاف لا يفكرون إلا في الآخرة. وأنت تريد أن تحيا في بيت جميل، فيه زوجة وخدم وجوار، كلما ذقت امرأة انتقلت الى اخرى. الخمر تملأ الرأس، والخيول والسفر وحكم ولاية مهمة تغدو فيها أشبه بسلطان .. أمانٍ كلها تجول في النفس ولا تتحقق.

   ــ كأنك شيطاني ايها الرجل !

   ــ أرهقتك حياة الخليفة الغريب، الذي ادمن الصيام وملابس العوام. يسأل عن كل شيء ويرهقك بالرسائل إلى الولاة العصاة والتنقيب في الأسواق. ومع هذا، فالعدل لا ينزل، الفقراء لا يأكلون والأغنياء لا يحكمون !

   ــ ….

   ــ ها قد صمت دون ان تقرر شيئاً. السم سهل، ولن يعرف أحد به، اعجنه بالتمر. وقليلاً قليلاً تتسرب الحياة منه. انه جلد على عظم الآن، ولن يتحمل طويلاً، خذ امسك !

   ــ انني لا اعرف ماذا افعل ؟! لا، لا، لن اخون حبيبي، انه حبي، لا اعرف ماذا افعل ؟! لا، لا، لم احب أحداً كما احببته. انت لا تعرف هذا الرجل. صُنع من الرحمة والحب. ولكنني ايضاً لا استطيع أن اعيش هكذا، ادفن عمري في الأكواخ والمستنقعات. امي تقشر وجهي كل يوم. كيف تكون مع الخليفة ولا تستطيع أن تشتري بيتاً؟ اصرخ فيها: الامور تغيرت منذ أن جاء هذا الرجل. فتصرخ بدورها: لا اراها تغيرت !

اين العدل؟ ما هو؟ هل تنتظر الآخرة فقط؟! والحياة والأنس والفرح والخمرة والسفر والنساء والمنازل الجميلة والحدائق والنور .. متى تأتي؟ انصال بني أمية تحدق بالرجل وإذا لم يمت فسوف يُقتل حتماً. الأشياء لا يمكن أن تبقى هكذا. وانا لن .. اكون مع المقتولين. هات السم !

ـــ 4 ـــ

لا شيء في الامتداد الأزرق الباهت. ماذا أرادوا منك؟ ان تكون عادلا، لا شيء سوى هذه الصحراء الزرقاء الممتدة الى الافق، وانت تزحف فوق الرمل والزبد. القمر مهشم متناثر في السماء، انه ليل، وانت مريض، وتهذي، ما هذا البرد والعرق والقلق؟ وهذه زوجتك؟ وهؤلاء عيالك، ماذا يريدون؟ أن أغير الخلافة لهم، أن أكتب بأسمائهم القصور والبساتين والمدن؟ لو سمعت كلمة لقطعت اللسان الذي نطق بها. وهم خائفون من موتي القريب. يريدون ضمانة للدنيا، والسيوف مشرعة فوق رؤوسهم. لا املك شيئاً اعطيه. أعطيت عمري لكم. وهذا جسدي يتمزق. كرهت السيوف وحامليها. لماذا لا تستطيع هذه المدن أن تحيا بغير القتل؟! في هذا المكان تحلق ضحكات يزيد وتأوهاته، تلتف صرخاته حول عنقي وتخنقني. ينبثق وجهه من الجدران مشتعلا بالنار.

المرأة الساحرة اطلت علي. وجهها جميل. الامتداد الازرق الباهت وراء يديها وعيونها الكثيرة تتألق بالجمر، تلقي الاحجار على الرمل فتكون سيفاً. تصرخ. احمله. تنفتح الحصاة عن ثعبان هائل يلتهمك وتغوص في ممر نتن. يأتي وجهها ثانية وتلقي بالأحجار فتكون سهماً وتصرخ: احمله! تنفلق الحصاة عن قصر ورياح شديدة تطير فيها وتصطدم بأعمدة لكنك لا تتألم، ويظهر الثعبان ثانية وترى ممره المظلم لكنك تخرج منه، وترى الساحرة تبتسم وتلقي الاحجار فتكون ناراً وتصرخ: ادخل فيها، ستكون برداً وسلاماً عليك! فتدخل..

ترى امرأة تركض نحوك. انها هيكل عظمي تأخذك من يدك وتبحثان عن ولدها الضائع. تجريان في الشوارع، يتساقط المطر والثلج فوقكما. تريانه عند السور متجمدا وميتاً. خلف السور كانت الأصوات البهيجة وأضواء القصور وصهيل الخيول. تلتفت الى المرأة فتجد انها الساحرة وقد راحت تضحك ثم غرزت في قلبك خنجراً!

ضجة مخيفة في الطريق. الوجوه التي تحيط به مترجرجة كأنها وراء ماء. انطفأت المصابيح في جسده. لكن اصابعه كانت تهتز، لم تزل نار الحياة تُرى من تحت اكداس الرماد والوهن. يشعر بسعادة أخيرة وخافتة. انه استطاع ان يفعل اشياء كثيرة. الغنم والذئاب تآلفت في حياته. الآن سيرحل ويغوص في الابدية.

تشتد الضجة في الطريق. ثمة صهيل خيول وخيوط نار تتألق في الظلمات. ألا يريدون أن يمر موتك بهدوء. إنها صرخات اهل المدينة، ثمة صياح وبكاء عنيف. الخيول تحمحم وتندفع وتهرس الحصى.

يريد ان ينهض لكنه لا يستطيع. تحمله اكتاف عديدة الى النافذة، ويطل على الطريق، جموع وشموع وقناديل في الحارات وصياح وبكاء. صرخات تتعالى «مات الخليفة ونحن عدنا، هيا اختفوا في جحوركم!».

تتداخل الخيول والبيوت والشموع، يصارع المرئيات والاشياء ليرى بوضوح، ها هي السيوف تظهر مرة اخرى. والجنود يقتحمون المنازل، والرؤوس تتدحرج على الأرض. نار تتوقد فيها، ودم غزير يغسل الطريق المرصوف بالأحجار.

ومن هذا؟ يصارع تداخل الظلمة بالنور، الدم بالتراب، ليعثر في التفاصيل المشوشة على قامة يعرفها، انه سالم يجثم فوق حصان ورمحه يُسدد إلى الصدور النازفة.

يتخشب فوق الاكتاف وتنطفئ المرئيات ويسود الظلام.

2009

 •  0 comments  •  flag
Share on Twitter
Published on December 17, 2024 20:15

December 4, 2024