عبـــــــدالله خلــــــــيفة's Blog: https://isaalbuflasablog.wordpress.com , page 11

February 14, 2025

إحترام تاريخ اليسار – كتب: عبدالله خليفة



لا تريد قواعد اليسار والقوى التحديثية الديمقراطية سوى إحترام تاريخ اليسار ونضالاته وتضحياته.
علينا أن نكون في منتهى الحذر والحرص في هذه السنوات الدقيقة، التي تتبدل فيها ألعاب السياسة، وتهيمن فيها القوى الحكومية والدينية على مسرح السياسة بما يفيدها ويقوي مواقفها في صراع لا آفاق فيه، ولا يعزز تطور بلدنا.
مرحلة تحتاج منا إلى ضبط أعصاب سياسية ورؤية المستقبل، ولا أن تستهين بعض القيادات بمستوى هذه القواعد، التي ضحت طوال عقود، وهي ليست سوى ممثلة بسيطة لأجيال من المناضلين منذ أن تكونت الحياة السياسية الحديثة في البحرين.
لقد تم تغيير اسماء المنظمات وأشكال وجودها ولم يعترض أحد، ثقة بالعائدين والحضور الفضفاض، أملاً في تطور نضالي مستقل عن الجهتين الحكومية والدينية.
وسكتت هذه القواعد عن أشياء عديدة من تحالفات غير ممثلة لتاريخه ومن تفرد ومن فوائد شخصية وغيرها.

ما تطلبه هذه الأصوات هو فقط إحترام تاريخ هذا اليسار وعدم التلاعب به، وأن ينأى بنفسه عن المجريين الحكومي والديني، وأن يشقَ طريقه بإستقلال، وبنمو إنتاجه الفكري إستعادة لتاريخهِ بشكلٍ نقدي، وأن يعيدَ نتاجاته وأعماله الفكرية، وأن ينظر لها كتاريخ ليس كله إنجازات وبطولات ففيه أخطاء، ويجب درسه بتمعن وموضوعية.
إننا أكبر من أن ندخل في لعب سياسي وتوظيف أنفسنا لخدمة هذا الطرف أو ذاك، أو لكي نحصل من هذا الطرف أو ذاك على مقعد، وليست علاقتنا النضالية سوى مع هذا الشعب، تبصيراً بطرقِ الحياةِ المستقبلية التي لا يعرفُ دروبَها الصعبة مع هؤلاء، ويتضررُ أشد التضرر بمفاجآتها وهواتها العميقة.

وأن نحافظ على صوتنا في قول كلمة الحق، لا نسمح لأحدٍ أن يشتريه من أجل مقعد في مجلس شورى أو في برلمان!
إن تجمدَ أبصار اليسار هو عمى للوطن كله، لأن اليسارَ لا يسعى للكراسي والأرباح، بل يسعى لتطور الوطن وخدمة الشعب بدون مصلحة وبدون الرغبة في الحصول على النفوذ والإمتيازات كما يفعل غيره!
حين يعطونك مالاً أو أشياء مادية وكراسي في البرلمان الذي تعجز عنه في ديمقراطية متكاملة، إنما يريدون إخراسَ صوتك، وأن تبلع لسانك عن نقد الأخطاء، ويجب أن تكون مثل هذه الحقوق المادية الثمينة عن طريق البرلمان أو عن طريق جهاتٍ مستقلة مسؤولة عن إصلاح وطني شامل، ترضي عنها مختلف الجهات المتضررة من التاريخ السابق بشرط أن تكون هي نفسها غير مُضرةٍ لآخرين محطمة لوجودهم البشري ولمصالحهم المادية.
أما أن تُرضى أنت فقط دون المواطنين فمعناه إنك مميز مستقل فوق القانون وفوق الشعب!
وتكون قد دخلت في مصيدةِ السكوت وعدم القدرة على النقد، فدعْ غيركَ يواصلُ الطريقَ ما دامت أنت عجزت عنه!
في هذا الزمن لا يستطيع اليسارُ أن يكون لنفسهِ سياسةً ممكنة التنفيذ وواضحة المعالم، فهذه تحتاج لسنوات طيولة قادمة، حين تتسع قواعده، وتنضج رؤيته، وتتجذر قواعد الديمقراطية في صفوفه وفي المجتمع.
وأي مرشح للمجلس النيابي من اليسار عليه أن يشير لمثل هذه الصعوبات، وكونه مجرد جندي في ظروف صعبة مع كتل لها برامج غامضة، مشحونة بالمواقف المذهبية اليمينية، التي تمزقُ البلدَ، ومع وزارات حكومية صعبة تجمد أعمال البرلمان، وإن اليسار يعمل في ظروف إستثنائية بين كل هذه الفرق وذلك من أجل أن يعرف الناس الحقيقة وأن لا يُعودوا بوعود كاذبة. فلنحقق قواعد صلبة منذ الآن!
أما الصمت على أخطاء الفريقين الحكومي والديني فهو مضر بمستقبل اليسار، ودون أن تكون لنا الجرأة في توضيح كل هذه المشكلات، وكسب الأنصار الجدد، وتوسيع رقعة اليسار، فيكون الأمر مضيعة للوقت والسير على خطى الآخرين في كسب الأموال!
والأمر ليس كذلك مغامرات ومهاجمات للحكومة وطفولية، بل كسب مواقع حقيقية وخلق إصلاحات، بالتعاون مع الكتل الأخرى، دون الإنزلاق لمواقفها المذهبية.

 •  0 comments  •  flag
Share on Twitter
Published on February 14, 2025 23:14

(التحرير) تبقى عالياً ومضيئــــــةً



لم يكن نادياً أو حلقة ثرثرة!
لم يكن تنظيماً للوجاهة والتجارة!
كان جدولاً صغيراً يجمع طاقات العقل والنضال والتغيير، في بذور صغيرة، وحلقات محدودة وسط بحر من اليأس والجهل والبحث والعذاب.
كانت نفس الخنادق المتعادية، ونفس الجهاز الواقف فوق جبل من العذابات والاستغلال، يكون فساده الخاص، وحياته المرفهة، وخططه التي تمشي فوق عظام البشر وأحلامهم!
وكان أصدقاؤنا في النضال المشترك هم أكثر الناس منافسة لنا وتقزيماً لحضورنا وهدماً لأفكارنا، لكن أفكارنا ليست هوىً شخصياً أو لعبة نتسلى بها، تاركين آباءنا في جبل بابكو يحترقون وسط الزيت المشتعل، وأمهاتنا يتمزقن بين تسفيط السمك واحتراق الأكواخ!
كانت أفكارنا السياسية الموضوعية الصغيرة ثمينة وعظيمة وسط التخبط السياسي وروح المغامرات التي تقوم بها ثللٌ من المراهقين والعفويين، الذين يريدون تغيير الخليج المصفح، بالنار، أو الذين يربطوننا بأجسامِ دولٍ أخرى كبيرة، ويقترحون مشروعات سياسية بين ليلة وضحاها، دافعين بحشود من الشباب إلى اعترافات السجون واليأس والضياع الاجتماعي!
تنظيمات هلامية تنشأ ولا تعبأ بالنصائح، تنطلق فقط من روح منافسة طفولية، وكأن(التحرير) هي فقط العقبة الكؤود أمام هذا الوطن لكي ينطلق، وليست هي كما هي حجر الزاوية الذي رفضه البناؤون، ولكنه لم يترك البناء وأقام معمار الوعي الطبقي، وأسس عمارة العقل الوطني المناضل!
وفي كلِ عاصفةٍ سياسية، وحين يترنح المركبُ البحريني في بحر الخليج المتقلب المشحون بالزيت الحار، يبحث الناسُ عن الربان، وفي عواصف الدخان والتضليل والتطبيل، تأتي كلمة التحرير مثل القنديل في بحر الظلمات، صغيرة، تكاد تنطفئ من الرياح، ولكنها مشعة لأنها الباحثة عن الحقيقة الموضوعية، وقراءة الواقع بالعلم وليس بالعاطفة الحارقة، وهي التحرير بنصائحها التي توجه التنظيمات لكي تترك انتفاخاتها وتغدو صغيرة صلبة تشق سكاكين القمع البريطاني الاستعماري أثناء العمل السري، وتدعو للنضال من أجل التحرر والوصول للديمقراطية وصنع الدستور وتأسيس النقابات، والمشاركة في الانتخابات وعدم المقاطعة، وعدم تفجير التجربة السياسية الغضة والانزلاق مع القوى المعادية لنمو الديمقراطية!
وهي التي ترفض استيراد المخططات السياسية من الخارج وتدين الاغتيالات وغزو دولة شقيقة جارة، وتبحث عن المصالح الوطنية وتشكل خطَ تغييرٍ مناسب لظروف الخليج والجزيرة العربية، حيث كميات كبيرة من الأمية والجهل ومن بحيرات الزيت والغاز، المشحونة للخارج، وحيث البعض يكدس المليارات ويشتري الجزر والشركات الكبرى في الغرب والشرق، ويترك أزقتنا وقرانا بلا شوارع مبلطة وبلا مصابيح وبلا بيوت تصمد للزمن وكثرة العيال!
وتزداد المواقف السياسية تعقيداً وتفجيراً في جسمنا الوطني، ويريدُ أناسٌ أخذنا إلى مسلخة طالبان، وآخرون إلى حمامات الدم في إيران ولبنان، وإعادتنا لعصر الحريم وتكميم الأفواه والعقول، وليس ثمة يسار صامد عظامه الفكرية من الصلب الصوان غيرنا، وعبر كلمات قليلة تقال، وبرنامج وسواعد كثيرة تنزل إلى النضال السياسي العام، يتشكلُ مجرى سياسيٌ جديد، وتبدأ الفسيفساءُ السياسية تمضي معنا، ومن هنا تزدادُ الحرقة من جهة، وتزاد الأعباء الجسام من جهةٍ أخرى!
إن مقاومة المشروعات الطائفية والشمولية الحكومية تتطلب كما كان النضال الأول مزيداً من العقل والعلوم والإرادة السياسية المتجهة للجمهور، مزيداً من التجذر في هويتنا البحرينية والعربية والإسلامية والإنسانية، وترك النخبوية والنزول للشوارع نحو مشروعات الخلايا وديمقراطية النقابات وقراءة الكتب وصنع الأفلام والمسرحيات والأبحاث، فثمة كسل وشحم كبير في أجسادنا، وليس ثمة شيء يزيل الأورام مثل النضال البرلماني المستمر لعقود، نحو جعل طبقاتنا الشعبية العمالية تغدو القوة الاجتماعية الأساسية المؤثرة في صناديق الاقتراع، وبحيث نوجه رأسمالية الدولة الحكومية الشمولية إلى أن تكون رأسمالية دولة ديمقراطية تصبُ الفائضَ الاقتصادي على البيوت الفقيرة والمدارس والصحة ولمزيد من التطوير الصناعي المكثف والعلمي وليس من أجل استيراد المصانع الملوثة للبيئة والناشرة للأمراض الوخيمة.
عقل التحرير يتحرك الآن في عالم الحداثة والعولمة والتركيب، ولحلول مبتكرة لقضايا الوطن والناس.
30/11/2006

 •  0 comments  •  flag
Share on Twitter
Published on February 14, 2025 23:07

January 27, 2025

قصـــــــصٌ قصـــــــــيرةٌ لـ عبـــــــدالله خلـــــــيفة

حادثة تحت المطرالغرباء ـ الفتاة والأميرالحارسعلي بابا واللصوصمحاكمة علي باباالعرائسالخنفساء الجدالدربالأميرة والصعلوكالاصناملعبة الرملالعوسجرؤياياقوتخميسمقامة التلفزيونمقامة المسرحمقامات الشيخ معيوفاللقاء الاحجار إعدام مؤلف: مسرحية فكاهية من فصل واحد ❜ المذبحةالصورةالحي والميتالحب هو الحب ❜  ناشرٌومنشورٌ اعلام على الماءاطيافشظاياانا واميالخروجانهم يهزون الارض!الطائر الغرباءإمرأةالأم والموتأماه أين أنت؟الطريق إلى الحجعاليةٌالموتُ حُبـَـاً وراء البحر…تحقيقدهشة الساحرالضميرحفار القبوررجب وامينةطائران فوق عرش النار العَلـَمالمذبحةأعلامٌ على المـــــــــــاءالبركان الطوفانوراء الجبالسيد الضريحعند التلال طريق النبعالماء والدخانغليــانُ المياهنجمة الخليجوتر في الليل المقطوعالسـفــــــرالــــــرمل والحــــــجرالوجــــــــهالنفقزينب والعصافيردموعُ البقرةانطولوجيا الحميرإذا أردتَ أن تكونَ حماراًحوتالبقالغولةالطـــــــــــائــــــــــر الأصفـــــــــــــر❜  على أجنحة الرماديقظة غريبة ❜ گبگب الخليج الأخير

 •  0 comments  •  flag
Share on Twitter
Published on January 27, 2025 21:54

January 16, 2025

January 5, 2025

محمد جابر الانصاري في تحولاته الفكرية

الاضواء 1/7/1989

كتب: عبـــــــدالله خلـــــــيفة الاضواء 1/7/1989

لعب الاستاذ محمد جابر الانصاري دورا فكريا تنويريا كبيرا في حياتنا الثقافية، على امتداد ثلاثين عاما كان مثال الباحث الدؤوب المفتش في كل الاركان عن زوايا الضوء والابداع والنقد، محاولا دوما الكشف عن الجديد والمتميز، دون الانقطاع عن التراث والجذور.
وفي كتابه، واطروحته «تحولات الفكر والسياسة في الشرق العربي 1930 ــ 1970» يقوم الدكتور الانصاري بانعطافه غريبة في فكره، ويطرح اجتهادات مثيرة للتساؤل والبحث. وفي هذا الكتاب يحاول المؤلف تقديم تفسير لتطور الوعي الحديث في المشرق العربي من منطلقات خاصة. ومهما كانت الاجتهادات فيظل الكتاب نظرة معينة لهذه التشابكات المعقدة في الوعي العربي المعاصر المتواجد في بنى اجتماعية وجدت نفسها ممزقة، ملحقة، تابعة للمراكز الاساسية في العالم الرأسمالي الحديث.
وسوف نطرح في حلقات متتالية وجهة نظر موسعة في هذا الكتاب في المقدمتين الثانية والاولى لطبعتي الكتاب، واللتين صدرتا تباعاً في الكويت ثم قبرص، يسوق المؤلف منهج دراسته باقتضاب شديدن وبأسلوب يشبه ايقاعات الصحافة السريعة، لا بأسلوب مقدمات البحوث المعتادة، حيث المعالجة الدقيقة للرؤى والاجتهادات السابقة، وتحليلها ونقدها بعمق، وتجاوزها عبر تقديم التفسير الذي توصل اليه المؤلف د. الانصاري يتجاوز ذلك كله ويدخل مباشرة في موضوعه.
وفي البدء علينا ان نفحص العنوان الذي اختاره، انه «تحولات الفكر والسياسة في الشرق العربي». فالفكر هنا بلا تحديد، ليس هو الوعي بتياراته المتعددة، بل هو ذلك الفكر المجرد المطلق العام. ووضع «الفكر» هكذا بلا تحديد اجتماعي أو أيدلوجي له، ليس مصادفة، بل جزء من المنهج. حيث سيلعب الفكر الدور المطلق، وما الظروف التي يلبسها، أو تلبسه، سوى أردية مؤقتة وعارضة له. انه الساحر الذي سيطلع من المجهول ويقفز فوق المراحل والقرون محتفظا بهويته الخاصة، بجوهره الذي لا يتغير.
انه فكر «عربي ــ اسلامي»، حيث سيكون تمازج هذين العنصرين أساس ما يسميه أحيانا «المزاج الحضاري العام»، انه فكر عربي، انه نحن، هويتنا. وهو لأنه عربي، لأنه شرقي، لأنه الداخل الحضاري الخاص بنا، المجهول من قبل الغريب، الآخر، وخاصة: الغرب، الذي لن يستطيع ان يفهمه، أو يعرفه، لانه ليس من «جوهره».
فهذا الفكر، جوهر خاص، له عالمه المستقل، ليس هو علاقات موضوعية تعكس بناء اجتماعيا ضمن تشكيلة اقتصادية، اجتماعية، وليس هو تيارات متصارعة ضمن هذه التشكيلة، لا انه ليس كذلك، بل هو جوهر مفارق، خميرة خاصة سحرية وجدت فينا، ولا يستطيع احد أن يعرفها غيرنا، لن يعريفها الا اذا عرفها ضمن معرفتها الخاصة. اي لن يفهمها الا بأدواتها الناتجة من جوهرها الخاص المختلف عن جواهر البشر الآخرين.
يقول في المقدمة الثانية:
[تم اخضاع الفكر العربي والاسلامي الحديث ــ ومعه كثير من ظواهر الحياة العربية المعاصرة ــ لمعايير ومقاييس ومناهج خارجية . . ليبرالية امبريقية وضعية . . أو . . ماركسية ديالكتيكية «يقصد: مادية جدلية!»، الأمر الذي أدى الى فهم تلك الظواهر الفكرية والاجتماعية، والحكم عليها من منظور له انحيازات أيدلوجية وقيمية معينة مستمدة من مركزية حضارية أخرى هي مركزية الحضارة الاوربية الغربية بشقيها الليبرالي والماركسي، وبجذورها الاغريقية ــ الرومانية ــ المسيحية] ص 5، الطبعة الثانية.
ومن الواضح ان المقدمة نفسها لم تفلت من طريقة التفكير الوضعية الغربية، وما الرسالة كلها وطريقة البحث الا شكل من أشكال البحث «الغربية» وحتى الاسلوب لا ينتمي الى البلاغة العربية القديمة فلماذا لم يكتب بأسلوب الجاحظ مثلا كي يكون عربيا خالصا وبشكل جوهري؟!
هذا مجرد تذكير بالشكل، لكن لنتوغل الى الفكرة الخطرة: فقد اعتبر ان مسيرة «الفكر» العربي الحديث، ولنستخدم مصطلحاته مؤقتا، قد تمت بأدوات انتجت من عالم آخر، هو عالم الغرب. وهذا خطأ «جوهري» في رأيه. فجوهرها الخاص السحري المستقل لا يفهم من خلال «علم» الغير، والغير هو عالم الغرب بكافة تياراته من فكرة الديمقراطي الى الثوري، فأولك البشر، مختلفون عن «بشريتنا نحن».
الحضارة الغربية تمثل مركزية مناقضة لمركزيتنا، لجوهرنا الغامض، وهاتان المركزيتان، الجوهران المتفارقان، لن يلتقيا، على صعيد القسمات الخاصة. قد يلتقيان في صراع حضاري الا أنهما سيفترقان، كعنصرين غير قابلين لتركيبة جديدة.
نحن الأنا الشرقي العربي، في مواجهة الآخر، الغرب، ولن يستطيع هذا الآخر مهما كان فكره ان يفهمنا، فنحن لن نفهم الا بأدوات خاصة ننتجها بشكل خاص. (هنا نجد الاطاحة الكاملة بالعلوم!).
والآخر، الغرب، سيظل مفارقا لنا، مختلفا عنا، ليس في حضارته الحديثة، بل في كل تاريخه، ويمتد ذلك من أيام الاغريق قبل آلاف السنين ويصعد حتى الحضارة الرومانية، ويتواصل في الحضارة المسيحية (والتي نتجت في الشرق ذاته!). ويستمر الى انتهاء الزمن.
ان الجوهرين مطلقا التناقض، انهما ليسا منطقتين في عالم واحد تتفاعلان حسب التطور العام للأنسانية، وتباين الانظمة والطبقات والتيارات الخاصة بكل مرحلة، بل هما كوكبان اثنان، كل منهما يدور في فلكه، وان حدث التداخل والاصطدام فهو مؤقت، وبعدئذ يعود كل منهما الى فلكه!
هكذا جرى سابقا عندما تصادم «الجوهران» في عصر الدولتين الاغريقية والرومانية، وافترقا، ذهب الاغريق والرومان الى كوكبهم وبقينا في كوكبنا، والتحما ثانية في عصر المأمون التحاماً «علمياً» ثم افترقا على أحسن ما يكون كما يقول ثم التحما ثالثة ورابعة دون ان يمتزجا.
يقول:
[واذا شئنا النظر الى التاريخ في استمراريته قلنا ان التوفيقية الحديثة هي لقاء آخر متجدد بين تراث الشرق الادني والعقل الاوربي (منذ نشأته الاغريقية). وان ما حدث هو مواجهة لموجة «هيلنية» جديدة قادمة هذه المرة من أوربا الغربية بثوب عصري] ص 18.
ولنلاحظ هنا كيف ان «الجوهر» ــ العقل، يقفز فوق المراحل التاريخية والمناطق، فالفكر الاوربي هو هو ذاته، سواء كان في عصر الاغريق عندما كان وثنياً عبودياً، وديمقراطياً، أو في عصر الرومان عندما كان عبوديا وارستقراطيا وثنيا كذلك، وهو ايضا ذاته، عندما صار مسيحيا اقطاعيا معاديا للعقل، أو معاديا لذاته، وهو نفسه عندما صار أمبرياليا مسئوليا على العالم، وهو ايضا نفسه عندما صار اشتراكيا معاديا للرأسمالية، أما الحروب والصراعات الضارية وآلاف السنين من المعاناة والخبرة والارتداد والصعود فكلها زبد!!
ان الفكر الغربي هو هو!
ولعلنا هنا يمكن ان نتساءل: لماذا اذن أحرق البابوات المفكرين الاحرار ولماذا حدثت الثورة الفرنسية واعدمت الاقطاعيين والرهبان اذا كان كل شيء واحدا؟!
هكذا اذن يتحول الوجود الاجتماعي الذي شكل الوعي الى بخار، ويغدو الفكر مستقلا كليا، متوحدا في ذاته، لا مصدر له، لا تناقض فيه، يعبر عن جوهر غامض لا ندري من أين يأتي.
ولكن أحيانا. سيضطر المنهج الى معانقة عابرة للظروف والمشكلات الاجتماعية، لا كشفا لهذا الفكر عن مصدره الحياتي، بل طيرانا فوق الأرض البعيدة التي لم تستوعبه.
فالجوهر الشرقي سيظل في سرمديته، وسيظل الفكر مفارقا لجذوره، متعاليا فوق الظروف والاقطار، ولهذا يقول في ص 166 ــ 167 بعد بحث كبير في البنية الاقتصادية وصراعها الاجتماعي.
[وهكذا يصح القول ــ أخيرا ــ انه اذا كانت الاردية «الليبرالية» في الفترة السابقة قشورا على جسم قديم، فان الاردية «الراديكالية» الاشتراكية الوحدوية لم تكن اكثر انسجاما وتجذرا على الجسم القديم ذاته. هذا الجسم الذي لم يتضح بعد ماذا سيكون وكيف سيحيا. ان «الثابت» فيه هو مكاناته القديمة الموروثة التي «تتوافق» في كل مرحلة مع مكونات أو «متحولات» جديدة وافدة ــ تفرضها الظروف أو طبيعة المرحلة ــ ثم تنفك عنها وتسقطها لتعود وتتوافق ــ بعد فترة ضياع وبحث ــ مع مكونات جديدة اخرى ــ انسب وقتيا وهكذا . . دون اندماج عضوي ودون تلقيح خلاق. ويبقى القديم على قدمه، ولا يترسخ الجديد، بل يسقط قشرة بعد قشرة، ومرحلة اثر مرحلة.] ص 166 ــ 167.
اذن فان الجوهر ، حسب هذا الفكر الميتافيزيقي، سيبقى شيئا خارج الظروف، وداخلها ايضا، ان الاشياء الاخرى تفرض وجودها عليه، لكنه ينفصل عنها، فجوهرنا التصقت به أوشاب وأردية كالقومية والليبرالية والاشتراكية ولكنه نفضها عنه، لانها ليست جزءا من طبيعته وجوهره. وهكذا فان الجوهر العربي سينأى بنفسه عن الجوهر الاوربي. أي الى ان يكون هو هو، أي ان يصير الجوهر ما في حقيقته، دون أي تلاقح مع العالم الآخر، ان يصبح هو نفسه بلا مؤثرات حضارية من حضارات أخرى.
سوف نتابع في هذه الحلقة، مناقشة كتاب «تحولات الفكر والسياسة في الشرق العربي» مركزين على نقطة جديدة في الموضوع، وهي بحث صفات الجوهرين المختلفين، «الشرق» و«الغرب». واللذان لا يلتقيان، واذا التقيا فالى حين.
وقد كان على المؤلف من وجهة النظر المنهجية ان يركز على هذه النقطة، محللا هذه الفكرة المركزية المحورية، حتى يتسنى لنا من بعد اكتشاف تجسيداتها عبر الفصول.
ولكنه بدلا من ذلك راح يبثها هنا وهناك، بعبارات قليلة محدودة، مما جعلها فكرة غامضة سحرية لا تقبل التحليل المجهري، ولعل هذه الطريقة هي بعض بوادر «منهجنا الشرقي الخاص». الذي بدأ المؤلف يكتشفه، ومعه جملة من الكتاب في المنطقة العربية، بعد الحقبة النفطية. رغم ان اصول البحث وطريقته تمت بالشكل «الاوربي» ايضا!
هناك اسرار غامضة تتعلق بهذا الجوهر الشرقي الخالد، الذي نظل نبحث عن صفاته حتى نتعب، هو وحده الذي يتجلى عبر المراحل، فنعرف بعضه ونجهل اشياء كثيرة.
كيف كان الماضي؟ المؤلف لا يبحث ذلك بل يلمح الى ذلك تلميحا. وكيف هو في الوقت الراهن؟ انه يتشكل ويظهر هنا وهناك لكنه يعود للأختفاء.
هذا الطلسم الشرقي سيظل لغزا، وقابلا لكل تفسير جديد، أو هو خاضع للمعادلات الحياتية المتناقضة للمؤلف.
وعلينا ان نبحث ــ بجهدنا ــ عن صفات الجوهرين المتناقضين المتقابلين: «الغرب والشرق»، عبر تلك النتف الصغيرة وفلتات اللسان، علنا نعرف سر هذين الجوهرين الغامضين؟
وفي البدء، ماهي صفات الجوهر الآخر: الغرب؟
الغرب كما قلنا جوهر شامل كامل خاص مغلق له توليفته المستقلة كليا، ويبدأ من الحضارة الاغريقية والرومانية مرورا بالمسيحية الى العصر الراهن ونقيضة الاشتراكي كذلك. والاشتراكية رغم انها تقع في «الشرق» الا انها ضمن مواصفات الحضارة الغربية، فنحن ولله الحمد، ابرياء من من دنس الرأسمالية والاشتراكية معا!
يقول في هامش ص 157:
«يجب أن نتذكر دائما ان الاتحاد السوفيتي واوربا الشرقية جزء من الغرب حضاريا وفكريا وصناعيا، والتحول من الغرب الليبرالي الى الغرب الماركسي هو انتقال من كفة الى أخرى في ميزان واحد، رغم خطورة مغزاه سياسيا» (؟!).
ولا نعلم هنا اين يضع الصين الشعبية وفيتنام وغيرها من الدول الاشتراكية في العالم النامي، لعله يضعهما ــ كما أخبرنا في دراسة سابقة ــ انها تنتمي الى «الظاهرة الصفراء» وليس الى الغرب الاشتراكي!
وعموما فقد ادركنا هنا ان تعبير الغرب يضم هنا القيم العقلانية والحداثة والصناعة.
فما هي ميزات الحضارة الاغريقية غير الاهتمام بالبحث العقلي والديمقراطية والعلم والصناعة؟ وما هي ميزات الحضارة الرأسمالية غير البحوث والعلم والانظمة البرلمانية؟ وما هي ميزات الاشتراكية غير التطور الصناعي والحداثة «الجماعية»؟
اذن نستشف هنا بعض الميزات المخصصة أساسا وكليا لذلك الجوهر المختلف، والتي شاءت له ظروفه الخاصة وكيانه، ان يتحلى بالديمقراطية والصناعة والحداثة والاشتراكية.
نحن اذن لا نصلح لليبرالية والعلمانية والعلمية والديمقراطية وأمثالها من القسمات المخصصة أساسا للغرب، ولا نعرف من الذي قسم هذه القسمة الضيزى غير هذا «الفكر».
يقول في هامش آخر:
«لاحظ كثير من الباحثين ان اثر «الليبرالية ــ العلمانية» والاصلاحية الغربية عموما انحسر فجأة بأنحسار السيطرة السياسية، الأمر الذي يدل على انها لم تتجذر ورحلت برحيل اصحابها» ص 113.
أي حسب وعي هذا الفكر، فإن قسمات هذه الحداثة ليست من جوهرنا. بل فرضت علينا فرضا، لقد حاول الغرب اصلاحنا وتحديثنا ولكن مع انحسار سيطرته السياسية انحسرت هذه المحاولة التحديثية، لماذا؟ لانها تختلف عن جوهرنا، انها من جوهر عالم آخر.
خذوا مثال «الديمقراطية»، أي الحكم البرلماني والانتخابات وما الى ذلك من قسمات، انها ليست صفات انسانية شائعة للبشر جميعا، بل هي مخصصة لقوم محددين على هذا الكوكب، واي محاولة لتوسيع رقعة هذه الديمقراطية ستؤدي الى انهيار التجربة!
يقول المؤلف:
«ولم يكن اخفاق الديمقراطية الليبرالية قصرا على الشرق والغرب، اذا سرعان ما اثبت سير التجربة داخل القارة الاوربية ذاتها، وبعد سنوات قليلة، ان غرس هذه الفكرة في غير موطنها الاصلي (!) بغرب اوربا وشمال امريكا (الاقليم الاطلنطي الشمالي) ــ وان اتصف بالحماسة الرسولية ــ يفتقر الى الأسس الواقعية. فلقد أخذت النظم الديمقراطية المستحدثة في شرق اوربا ووسطها تتساقط بسرعة واحدا بعد الأخر» ص 84.
أرأيت التحديد الدقيق والعلم الشرقي المضبوط الذي يعرف اين تقع حدود الديمقراطية. انها تبدأ فقط من غرب أروبا. ثم انظر إلى تلك العبارة الجزلة في تحديد امريكا التي تنتهي لديها الديمقراطية: «الاقليم الاطلنطي الشمالي» حتى لا يتوهمن أحد أن الديمقراطية يمكن ان تتسلل الى جنوب الاطلنطي أو ان تفكر تلك الشعوب المقهورة ان الديمقراطية تصلح لادارتها، عوضا عن انظمتها العسكرية الديكتاتورية، أو ان مظاهراتها يمكن ان تجلب لها تلك الديمقرطية المقصورة فقط على غرب اوربا لا وسطها ولا جنوبها ولا شرقها ولا ابعد من ذلك! (ونستغرب كيف الغى ــ دون ان يدري ــ بلاد الاغريق اصل الديمقراطية!).
فلا تتعبوا انفسكم ايها المستعبدون فقد اكتشف «العلم الشرقي السحري» ان الديمقراطية لم تخلق لكم!
ثم تأخذ الأمور مجالا ابعد واكثر حدة، فبعد ان استقرت كل تلك الفضائل والايجابيات في كفة الغرب، لم يكتف المؤلف بذلك، بل اهداها الحضارة الحديثة بكل ميزاتها.
يقول المؤلف وهو يستعرض وجهة النظر الغربية حول الشرق «قد يكون الحكم التالي الذي يطلقه برنارد لويس مبالغا فيه ويحمل طابع التقليل(!) من الحركات التحديثية الا انه يمثل جانبا مهما من حقيقة الوضع: «الشيء الواضح الوحيد هو أن من بين جميع الحركات الكبرى التي هزت الشرق الاوسط في آخر قرن ونصف كانت الحركات الاسلامية وحدها اصيلة (؟) في تمثيلها لمطامح أهل هذه المنطقة فالليبرالية والفاشية والوطنية والقومية والشيوعية والاشتراكية كلها اوربية الاصل مهما اقلمها اتباعها.. وبالرغم من ان كل الحركات الاسلامية قد هزمت . . غير انها لم تقل كلمتها بعد!» ص 114.
المدح الذي يسوقه المستشرق البرجوازي برنارد لويس للحركات الاسلامية ليس خاليا من المنطق الاستعماري: «فرق . . تسد»، ولكن لا نريد ان نناقش هذا الآن، علينا ان نرى ان الحكم الذي اصدره برنارد لويس تطابق مع حكم المؤلف الانصاري.
فعبارة «قد يكون الحكم.. ويحمل طابع التقليل» التي ساقها في البداية وكأنه يخفف من وقع احكامها، عاد ونقضها بعبارة «الا انه يمثل جانبا مهما». وهنا نرى الطابع «الصحفي» الخفيف لمثل هذا البحث، فمثل هذه الخفة لا يسوقها اي دارس يقوم بتحليل تيارات وعي أمة في عصر كامل، فكيف تكون هذه العبارة مبالغا فيها «قليلا»، وهي قد ألغت كل التاريخ العربي الحديث وكل المعارك والعروبة والقومية التحررية وكل الانجازات التي يفتخر بها العرب في شتى الحقول؟ كيف تكون العبارة مبالغا فيها «قليلا» وهي قد ازالت عرابي وسعد زغلول ومصطفى كامل ومحمد فريد وحسين مروة وجمال عبدالناصر وجورج حبش ونجيب محفوظ وحنا مينا والسياب الخ . . أي كل تلك الحركات الوطنية والابداعية العظيمة، فكلها فقاعات لا تنتمي الى تاريخنا «الحقيقي»؟!!
لماذا؟ لأنها أصلا كانت من التاريخ الاوربي والتصقت بنا، ليبرالية سعد زغلول وتحررية عبدالناصر واشتراكية خالد محي الدين والتحديث في دول الخليج كله زيف وباطل، لأن هذه القيم خلقت أصلا للغرب واستلها هؤلاء ووضعوها في غير مكانها ضد ارادة الامة ذات «الجسد الاسطوري» الذي لا يعرف اسراره سوى المستشرق برنارد لويس..!
واذا رأينا ان كل تلك الصفات هي صفات غريبة، وهي التي اعطته الكيان العقلاني المستنير والصناعي والديمقراطي، فماذا سيبقى للجوهر الآخر، الشرق، أو العرب؟
ماذا بقى للجوهر الآخر، الذي لابد ان يتميز عنه، لانه لو تطابقت الصفات ما كان جوهرا مختلفا!؟
المؤلف لا يفصح عن صفات «جوهرنا» ولكن مسار العرض يقود اليها بشكل حتمي. فما هي؟
يقول متحدثا عن أجيال من المفكرين الاصلاحيين أمثال الطهطاوي ومحمد عبده ولطفي السيد وقاسم أمين هؤلاء الذين أسسوا النهضة الولى الليبرالية ولم يتخلوا أيضا عن الاسلام:
«غير ان هذه الموجة الغربية من القيم والافكار والنظم لم تنغرس في التربة العربية الاسلامية ولم تتجذر فيها بقوة، بل ظلت طافية على السطح ومنحصرة في افراد ومجموعات صغيرة من المثقفين ولم تتحد مع الاسلام (!) في اندماج عضوي» ص 83.
لنلاحظ أولا انه يقول موجة غريبة بلا تحديد اجتماعي وايدلوجي كجزء من المنهج الذي يلغى جذور الفكر، في حين انها تمثل موجة برجوازية بشكل محدد. ثم يختزل نشاط التحديث البرجوازي الليبرالي في مصر بخفة شديدة عبر القول ان القيم والنظم (البرجوازية) ظلت طافية على السطح ومنحصرة، اي انها كانت بعيدة عن «الجوهر»، حيث ظل ذلك الجوهر الاسطوري بمنأى عن الحداثة.
علينا اذن ان ننشى كل منجزات الليبرالية والتحررية المصرية العظيمة التي تحولت هنا ايضا الى مجرد فقاعة. علينا ان ننسى كفاح عرابي الذي حاول المزاوجة بين القومية والاسلام مكافحا بشراسة الاستعمار الزاحف. وكذلك الكوجة الضخمة من الليبرالية والوطنية التي قادها حزب الوفد في نصف قرن من الكفاح والتي خلق فيها أجيالا من المتنورين والمبدعين والمؤسسات والتشريعات الحديثة، والتي لم يتخل فيها أيضا عن آرائه الدينية «الاسلامية والمسيحية معا»
. علينا ان ننسى نجيب محفوظ ونلقيه في البحر حيث أن أدبه كان تعبيرا حيا ودقيقا عن رؤية هذا الحرب!
علينا حقا كي نجاري هذه الفكرة ان ننتزع كل هذا التلاقح الذي أحدثته الموجة الليبرالية العربية في حياة الأمة مثل تشكيل المسرح الحديث والقصيدة الحديثة والقصة القصيرة والرواية والدراسة النقدية والاكاديمية والصحافة . . فكل هذه نتاج ذلك التلاقح (الذي ظل طافيا على السطح)!
علينا ان نلغي نتاج محمد تيمور ومحمود تيمور وطه حسين وتوفيق الحكيم وعبدالرحمن الشرقاوي وجماعة الديوان والصحف والمطابع والجسور وتخطيط المدن والعلوم الخ.. فكل هذا كان من ثمار التلاقح مع الغرب بين الموجة الغربية والتربية العربية!
«استخدمنا الاسماء المصرية تحديدا لأن الكتاب دار بشكل خاص على النهضة العربية في مصر».
اذن الجوهر العربي منطق هذا «الفكر» عاطفي غير عقلاني، زراعي، غير تحرري، غير ديمقراطي، غير ليبرالي، غير اشتراكي، غير رأسمالي الخ..!!
وبمعنى آخر فان أحد الجوهرين وهو الغربي سيكون هو المسيطر مادام يمتلك مفاتيح الصناعة والعلم والتقدم والحداثة والنهضة، وسيكون الجوهر الآخر الشرقي، هو المسيطر عليه، بحكم عدم تملكه الحداثة والصناعة، وانتاجه المواد الاولية فقط.
وهكذا يسوقنا المسار الفكري الى نتائجه الحتمية: فنحن في عالم واحد، في كوكب واحد، استطاع شق منه ان يمتلك مقومات الحداثة والتطور بحكم انها هي جوهره، في حين ان الشق الآخر، ليست له هذه المقومات، فهو عاجز عن امتلاك سمات الحداثة والعلم والديمقراطية . . لكن لابد من علاقة ما بين هذين الجوهرين، وهي علاقة سيحددها الشق الذي يمتلك الميزان الافضل. اذن سيكون هناك شق مسيطر وشق مسيطر عليه.
فالشق المتخلف الذي هو نحن لا يستطيع ان يكون رأسماليا حديثا، ولا يستطيع ان يكون اشتراكيا، وهما صيغتا التجاوز اللتان لا توجد صيغة اخرى غيرهما في عالم اليوم .. اذن يبقى الشق المتخلف متخلفا وتابعا الى الابد!
لكي يعالج الدكتور محمد جابر الانصاري صدام الذات والآخر، الشرق العربي والغرب، فلا بد أن يدخل تضاريس هذا الصدام، أي أن يكتب عن ظروفه الملموسة، وهنا لا بد أن يتوجه الى معرفة «البنية الاجتماعية» التي تشكلت فيها هذه الظاهرة.
ويأتي الكتاب الى مقصده الأساسي، نقد تجربة جمال عبدالناصر الوطنية، التي كانت لحظة هامة من لحظات التوفيقية بين الذات والآخر، بين الشرق والغرب، وهي لحظة ليست أصلية، لأنها واجهت الغرب بيد وتعاونت معه بيد أخرى . بمعنى انها حاربت الاستعمار الغربي ولكنها تعاونت مع الدول الاشتراكية، وتلك جريمة كبيرة بحق الذات.
أي أنها لا بد أن تكون أصولية، تعود الى الذات الماضية فحسب، تحارب الاشتراكية والرأسمالية معاً. ان عبدالناصر اذن هو تتويج لسلسلة خيانات هذه الذات من الامام محمد عبده الى سعد زغلول والنحاس !!
الذات الأصلية تتمثل في الاقطاع القديم، كما تشكل لدى بني أمية وبني العباس والسلاجقة والدولة العثمانية، وكل رجوع الى هذه الذات هو الأصالة وكل خروج عنها، وكل ذهاب للغرب، وخصوصا الغرب الاشتراكي، خيانة أو «توفيقية» بتعبير الكاتب!
سوف يركز الكتاب على التجربة الناصرية، التي هي في الواقع تتويج لعقود الثلاثينات والأربعينات، وما الرجوع الى بداية النهضة العربية الا محاولة استكشاف لكيفية مجيء هذا النبت الاجتماعي السياسي المتفجر عام 1952. أي سيجري البحث في مرتكزات «الطبقة المتوسطة الصغيرة» التي قادت المرحلة وكان على رأسها عبدالناصر. هذه الطبقة التي تعددت فيها الاتجاهات من الاتجاه العلمي اليساري، وهو اتجاه غربي مرفوض لدى المؤلف وان كان يستعيد بعض منهجيته، وهناك اتجاه توفيقي وسطي حاول أن يدمج بين «الذات والآخر» «الشرق والغرب»، عبر لويس عوض ونجيب محفوظ وغيرهما وستكون الثورة الناصرية هي مسايرة عسكرية لهذا الاتجاه التوفيقي «التلفيقي» بمعنى آخرز
ان المؤلف لم يقل ذلك بهذه الصراحة والجراة ولكن هذا ما يحدده المنطق!
في البدء، سوف يطرح معلومات متعددة عن فترة ما بعد 1930. سوف يستعين ببعض الباحثين الاقتصاديين، فهناك الباحث شارل عيساوي ومعلوماته حول الاقتصاد المصري الحديث حيث يكتب بمنهجية علمية عن الاصلاحات البريطانية التي حدثت في الفترة بين 1898 ــ 1920. ان هذه الاصلاحات أقيمت باعتبارها [جزءا تابعا للاقتصاد الرأسمالي الحديث يمده بالمواد الخام الضرورية للصناعة الغربية، ثم باعتبارها سوقا استهلاكية مضمونة لاستراد تلك الضمانات] ص 147.
اذن تم اخراج مصر من سيطرة الاقتصاد الاقطاعي والتبعية لتركيا، وادخالها ضمن بنية التبعية للاقتصاد البريطاني الاستعماري. ولا شك ان هذا الالحاق له بنيته الخاصة، فما هي قوانين التبعية الجديدة؟
ولنلاحظ قبل ذلك ان الانصاري يعتبر تبعية مصر الفلاحين لتركيا الاقطاعية شيئا غير مستنكر،وكأنها لا تمثل عملية اضطهاد خاصة واستغلال يقوم به الباشوات الاتراك والشركس للفلاحين المصريين، فهذه تجري ضمن قوانين الذات الشرقية المنسجمة!!
ثم لا يحاول الكاتب ان يستفيد من الاستشهاد المأخوذ من عيساوي بل ينسفه عبر هذا الاستنتاج: [وبرغم هذه التبعية الجديدة، فأن التحول من الاقتصاد التقليدي الى الاقتصاد العصري أدى الى زيادة الثروة العامة] ص 147.
ان الحديث عن اقتصاد تقليدي، ثم اقتصاد عصري أمر يلغي المنهجية العلمية. فقد سحب مسئولية النهب الاقطاعي التركي لمصر عبر كلمة «تقليدي»! ثم غيب مسئولية التهب البريطاني عبر كلمة «عصري»!
ثم كان الاستنتاج بائسا «زيادة الثروة العامة»! لقد قامت بريطانيا بتطوير زراعة القطن فقط ثم خنقت زراعة معظم المواد الزراعية ومنعت الصناعة المصرية. [راجع لوتسكي، تاريخ الاقطار العربية ص 280 ــ 284 دار الفارابي].
هذه طريقة المؤلف في الاستفادة من المراجع خفة وسرعة واستنتاجات كبيرة بدون صبر علمي.
عبر الحديث عن «اقتصاد عصري» ألغى عملية البحث في تطور علاقات الانتاج وبنية التبعية. فهو ليس اقتصادا عصريا بل بناء متخلف شبه اقطاعي ــ شبه رأسمالي، تابع.
عبر هذه الخفة لم يتم التوغل في كشف الطبقات المسيطرة وحجم ثرواتها واسلوب حصولها على الثروة، كما لا نجد كشفا للطبقات الأخرى: الفلاحين العمال، البرجوازية الصغيرة، البرجوازية . . عبر التحليل الملموس، وليس بالتعبيرات الانشائية غير الدقيقة.
يتوجه الكاتب للكلمات العامة الفضفاضة والاستعانة بفقرات كبيرة جدا من كتب الرافعي زنجيب محفوظ ولويس عوض، بدلا من ان يقف بصبر لدراسة الخريطة الاجتماعية عبر سنوات 1930 ــ 1970. ثم يتابع نشوء التيارات وهي بشكل بذور، ثم يرى كيف تتفاعل مع تلك الخريطة.
انه لا يتتبع الهرم الاجتماعي بشكل ملموس، بل يقفز من موضوع الى آخر دون تحليل. فمثلا بعد ان يوضح ضخامة الفقر في مصر قبل سنوات الحرب يقفز الى انتشار التعليم حيث زاد عدد المتعلمين.
أي أن ضخامة الفقر وانتشار التعليم هي التي جعلت مصر تقترب من الثورة! وهذا كلام عام ولا علاقة له بالبحوث. فلا بد من دراسة تفصيلية عميقة للطبقات لكي نكتشف الأزمة على مختلف المستويات.
وبعد ذلك يقترب من تحديد بعض جوانب الهرم الاجتماعي المصري فيقول انه كانت ثلاث قوى جديدة هي: طبقة وسطى محلية من الوسطاء ومديري الأعمال والتجار، ونخبة من المثقفين وأصحاب المهن العالية، وطبقة عاملة مدنية. ويحدد بأن الطبقة المتوسطة الصغيرة «أي البرجوازية الصغيرة» باعتبارها القوة الاجتماعية الهامة التي سوف تتحرك في هذه الفترة دون ان نعرف الأسباب الاقتصادية ــ الاجتماعية التي أهلتها لذلك.
لقد شهدت حقبة ما بعد الحرب العالمية الاولى اقتراب الطبقة المتوسطة الصغيرة من الفقراء كما يقول بسبب الأزمة المتفاقمة.
ونجد المؤلف هنا يحاول ان يستعين بمنهجية غربية معروفة: [ولأن الطبقة المتوسطة المحلية الجديدة هي التي وعت الواقع(؟) بحكم موقعها الاقتصادي والثقافي قبل الفلاحين والعمال، الذين لم يتفتح وعيهم بعد، فانها هي التي تصدت للتغيير والقيادة، وأدركت مدى الهوة القائمة بين بؤس الأغلبية الساحقة وترف الأقلية الضئيلة، وكانت هي ذاتها مهددة ــ اقتصاديا ــ بالرجوع الى درك الطبقات الفقيرة كلما اشتدت وطأة الاستغلال وانعدمت عدالة التوزيع] ص 156.
ولكون البرجوازية الصغيرة قد تغلغلت في روافد التغيير الثلاثة: الجيش، الأحزاب، المؤسسة التعليمية، فقد حدثت ثوراتها المتتالية، ولم ينجح الأصوليون ممثلو «الذات»، وفشل التقدميون لأنهم لا يمثلون الذات، واستطاع التوفيقيون الجدد: عبدالناصر، البعث، في احداث توليفة توفيقية انتهازية جديدة لكنها وصلت الى الفشل لأنها توفيقية، أي حاولت ان تدمج بين الذات ولآخر، نحن العرب والغرب بشقيه، ونحن في انتظار شيء آخر غير توفيقي!!
ولنحاول فهم التاريخ المصري في هذا القرن عبر آلية أخرى. سنقول بشكل مقتضب جدا، ان التطورات الاقتصادية والاجتماعية في الثلث الأول من القرن قد أوضحت عجز الطبقات البرجوازية الكبيرة والارستقراطية عن حسم الصراع ضد الاستعمار البريطاني بطريقتها الخاصة، فبدأت الأشكال السياسية والايدلوجية التي أوجدتها تتعرض للتأكل والانهيار.
إن الأشكال السياسية مثل أحزاب الوفد والسعديين لم تستطع ان تستوعب قدرات الشعب وتقوده للقضاء على السيطرة البريطانية، كما ان الايدلوجية التي اعتمدت عليها في صنع النهضة عبر الأشكال البرلمانية والاصلاحية السلمية المتدرجة لم تلب حاجات الجماهير الملحة وتجسدها ضد الانكليز. من هنا راحت الطبقة البرجوازية الصغيرة تتقدم لاحتلال مسرح الأحداث.
ولا يعني ذلك ان صراع البرجوازية [الوفد] ضد الاستعمار كان بلا جدوى، بل على العكس كان حلقة ضرورية ومهمة، وهي التي مهدت للحلقة التالية. فذلك الصراع دفع القوى الأخرى للصعود وخلق الشروط الاجتماعية والفكرية لصراع البرجوازية الصغيرة ضد الاستعمار. وبدون اجراءات الوفد في المجال التعليمي والسياسي لم يكن بامكان عبدالناصر أن يدخل الكلية الحربية وبالتالي أن يصل للسلطة.
اذن كان صعود عبدالناصر حلقة جديدة مكن حلقات تطور الصراع الوطني، أي ان أزمة نظام التبعية الذي صنعته بريطانيا راحت تتعمق، لتنكسر مع قيام السلطة الناصرية.
ليس مستغربا من نظام عبدالناصر الوطني الذي تربعت فوق قيادته البرجوازية الصغيرة، الطبقة المتناقضة، ان يكون مليئا بالتناقضت، وان يجمع بين القطاع العام وتوسع الملكية الصغيرة، بين اليسار واليمين، بين الشرق والغرب، فهذه هي خصائص الطبقة، ومع ذللك فالمؤلف يستغرب من جمعها بين هذه المتناضات وهذا دليل على توفيقيتها!
ان هذا النظام قام باحداث نقلة هائلة في الحياة، تنمية واسعة، تحقيق الاستقلال، تنمية ثقافية، بعث حركة تحرر وطني عاصفة الخ..! ولقد أدت تناقضاتها الداخلية المتفاقمة للتمهيد لعودة الرأسمالية الكبيرة والارتباط مجددا بالسوق الرأسمالي.
أذن الوسطية الناصرية، أو هذه الحلقة المهمة في الصراع ضد التبعية، ليست نتاج ذات غامضة، فأنت ذاتها، بل نتاج طبقة متناقضة، عملت الكثير ثم عجزت.
إن المؤلف بدلا من ان يصل الى هذا الاستنتاج الموضوعي، يعود الى أصوليته وفكرته الاسطورية عن «الذات» الموهومة.
فيقول: [.. أي ان هذه البرجوازية الصغيرة ستتصدى لمهام مرحلة التحرر من الاستعمار الغربي، ثم ستتجه نحو محاولة اقامة الدولة القومية «الحديثة» وسيكون قدرها الصعب أن تدفع الغرب بيد لتأخذ حضارته وعونه بيد أخرى. وهو قدر لا يحتمل تناقضه ولا تحتمل مأساويته الا من خلال صيغة توفيقية، قد لا تكون عضوية ولا أصلية، ولكنها مرنة، وضرورية نفسيا وعمليا، تقفز فوق النقائض لتوفق بين «الأصيل» و«الوافد» ــ بين الذات والآخر ــ مبقية في الوقت ذاته على الفارق الكياني بينهما] ص 157.
هنا سنجد ثورة عبدالناصر تخون «الذات» لأنها اتجهت الى أخذ المساعدة من العالم الاشتراكي «الغرب» فهي حاربت الغرب الاستعماري ولكنها اتجهت للغرب الاشتراكي باليد الأخرى.
وكان ينبغي الرجوع الى الأصول، الى مثال الدولة العثمانية، حتى لا يخون عبدالناصر هذه الذات!
ان الانفتاح على الغرب الاشتراكي، والجماعات الديمقراطية والتقدمية في الغرب الرأسمالي كذلك، لم يكن قدرا صعبا، ولا مأساويا، ولا يتناقض مع أصالة المصريين، لكنه كان (قدرا) مأساويا على الاقطاعيين وكبار الرأسماليين اذا أردنا الدقة في التعبير!!
وكانت آراء عبدالناصر وموقفه استمرارا لخط الوطنية المتصاعد وتعبيرا عن معاناة ملايين العرب ومطالبهم في الحرية والتقدم!
هناك فكرة مركزية خاطئة تهيمن على فكر الأنصاري في كتابه «تحولات الفكر والسياسة» تتمثل في كون التاريخ البشري ليس عملية عالمية واحدة متداخلة، بل هو تاريخ عناصر ومجموعات مستقلة كليا.
وفي هذه الفكرة يكمن أساس الوعي الأصولي الخاطئ. فالحضارات البشرية متفاعلة، متداخلة، وتمثل كلها نمو قدرة الانسان على هذا الكواكب. فلا يمكن حقيقة تحديد أية أنواع عنصرية أو قبلية أسست تاريخ الانسان الأساسي والطويل في العصرين الحجريين القديم والحديث الذي بلغ مئات الآلاف من السنين، وما قبلهما أيضا، حيث وضعت تلك العصور أسس الحضارة الانسانية من زراعة وصناعة أدوات وتأسيس مجتمعات وثقافة.
(راجع بهذا الصدد كتاب: إنتصار الحضارة لجيمس هنري برستد، مكتبة الأنجلو المصرية حول العصور القديمة، ويمكن إكتشاف جذور الحضارة العربية الموغلة في القدم عبر كتابات العلامة جواد علي في «المفصل في تاريخ العرب قبل الاسلام، عشر مجلدات».
ولكن لا يعني هذا التداخل العميق لحضارات الانسان، عدم وجود بُنى إجتماعية مستقلة نسبيا، تنمو عبر صراعاتها وتفاعلها مع الخارج.
إن لكل عصر مستوى معينا من تطور الانتاج، ويشكل هذا بُنى إجتماعية متعددة على الأرض، حسب الظروف الملموسة لكل شعب، وعموما لا توجد خصائص «جوهرية» لشعب من الشعوب، فالخصائص المحددة خاضعة لظروف محددة. ولا توجد سمات سحرية خارج الزمان والمكان. بل ان الشعب ذاته يتنوع بحصائصه، حسب الطبقات والمستويات الاجتماعية المتباينة.
ومن الواضح أن تاريخ البشرية هو نتاج هذا النمو المتباين للمجموعات والشعوب والأمم، وصراعاتها، وتفاعلها، في شروط محددة.
وقد واجه العرب بعد خروجهم من الجزيرة العربية لنشر الاسلام والفتوح، معضلة الحضارات الأخرى (التي تفاعلوا معها سابقا بشكل محدود)، وقد كانت تلك الدول العبودية القديمة قد وصلت الى نزف حاد للقوى المنتجة البشرية والمادية ودخلت مرحلة أزمة عميقة. وكان دور العرب هو إحداث قفزة تطورية في المنطقة، والاستفادة من نتاج الشعوب الأخرى سواء عبر تنظيمات ريها أو زراعتها أو علومها ودفع هذا النتاج الى الامام، وقد حدثت قفزات معرفية ضخمة سواء في العلوم أو الآداب أو الفلسفة، عبر الأخذ والاستيعاب تبعا للحاجات الداخلية.
وهذا التطور لم يحدث ــ بطبيعة الحال ــ بدون صراعات.
فقد فسرت القوى الاجتماعية المتعددة «الاسلام» حسب أوضاعها، فقد وقف الخوارج، وغيرهم، طويلا ضد الأمويين، وحين طرح الأولون مفهوما تشاورياً وعادلا ً وعامياً، يعتقدون أنه هو النابع من الدين، طرح الآخرون مفهوماً أرستقراطياً يجعل الثروة والحكم من نصيبهم فحسب، واعتقدوا أن مفهومهم نابع هو أيضاً من الدين!
ولقد كان لنشوء طبقة تجارية صناعية في عصر الدولة العباسية أثر مهم في توسيع طابع الاستنارة والاجتهاد، فحدث انفتاح واسع على آثار الأمم الآخرى بدون انغلاق، وتم إستيعاب فلسفات متعددة كفلسفة أرسطو وأفلاطون وغيرهما، وأستوعبت آداب الأمم الأخرى وكان من نتاجها حكايات كليلة ودمنة وألف ليلة وليلة، وهكذا غدت الحضارة العربية ــ الاسلامية منارة معرفية ثقافية، لاستيعابها تجارب البشر وخبراتهم المضيئة تبعاً لمصالحها وأهدافها هي.
(راجع: النزاعات المادية في الفلسفة العربية الاسلامية لحسين مروة و«نحن والتراث» لمحمد عابد الجابري وغيرهما)..
وبعد إنكسار الطبقة البرجوازية الوليدة ــ وكانت هزيمة المعتزلة تعبيراً فكرياً عنها ــ وحدوث التفتت الاقطاعي، برز الاقطاع العسكري السلجوقي والتركي وفرض تصوراته المتخلفة، فكان الانغلاق واغلاق الاجتهاد والغاء العقلانية الاسلامية المستنيرة وفرض أئمة النصوص.
يقول المفكر الاسلامي د. محمد عمارة:
(فلما حدث الانقلاب التركي والمملوكي وتعسكرت الدولة. «. . .» غدت فيه مقولات التيار العقلاني فكراً محرماً ومجرماً يلاحقه الاضطهاد.. وغدا فيه أئمة هذه العقلانية موضع التنديد وأسرى للملاحقة والسجن والاضطهاد.) اخبار الخليج، العقلانية الاسلامية، 18/7/1989.
ومن هنا فإن نهوض الأمة العربية مجدداً في العصر الحديث، ومحاولاتها استيعاب المنجزات البشرية المتقدمة، سواء في العلوم أو الفنون أو التطبيقات الاجتماعية هو أمر ضروري ولابد منه، لمصلحة بقاء وتطور الأمة، فليس لديها مخزون سحري داخلي كامن في أعماقها تتوجه اليه لتطلع منه الحضارة كما يقول السحرة المعاصرون، بل لابد لها من أن تتعلم من الآخرين وتستفيد من إنجازاتهم، لكون ذلك هو قانون تطور البشرية: قانون الاستيعاب المتبادل للخبرات والمنجزات المفيدة في التطور الداخلي لكل منها.
واستيعاب الحضارة له تاريخيته وشروطه. فمصر عندما بدأت تستوعب الحضارة الغربية الحديثة كان على رأس السلطة فيها طبقة اقطاعية هي أسرة محمد علي. لقد ساهمت هذه الأسرة في البداية بإحداث أول حلقة من حلقات الاتصال الحضاري وأنجزت بعض الأشياء الا أن أسلوبها في العيش الباذخ قد كسر تطور الحلقة. وبدأت طبقة أخرى في إستيعاب الحضارة الغربية ونقل منتجاتها الى الحياة المحلية مع تكييفها للمصلحة الداخلية. وكان لهذه الحلقة البرجوازية انجازات كبيرة غير أنها راحت تتآكل كما أوضحنا سابقاً.
ثم بدأت القوى الاجتماعية الدنيا في مواصلة عمليات تحويل المجتمع والاستفادة من إنجازات الحضارة الغربية والشرقية ولكن هذه أيضا وصلت الى الأنهيار بفعل التناقضات الداخلية في نظام عبدالناصر. ثم عادت الطبقة البرجوازية الى التأثير في المنطقة العربية، أثناء مرحلة النفط، وتفجر الصراع بين جناحها الأصولي، الذي يطرح أسلوباً فاشياً دينياً، وجناحها الحديث المعتدل.
ويساهم كتاب الأنصاري هذا في ترجيح كفة الجناح الأول. عموماً لقد فشلت البرجوازية بأجنحتها عن أحداث التحول الحضاري الجذري الشامل، بينما لم تجرب الطبقات الشعبية الفرصة بعد.
إن هذا التعدد في الحلقات لا يدل على وجود نزعة متأصلة الى التوفيقية كما يرى الأنصاري، بل هي مجرد حلقات في تطور طبقات محددة. وعدم قيامة بربط هذه النزعات بتكوينها الاجتماعي المحدد هو الذي يجعله يعتبرها نزعة أصلية خارقة صوفية.
يقول: [إن ما حاولنا البرهان عليه في هذا البحث هو حقيقة كون هذه الروح التوفيقية نافذة الى صميم التكونات التاريخية المجتمعية الحضارية وانعكاساتها العقلية والشعورية في هذه المرحلة من التاريخ العربي.] ص 212.
أي أنه في الخاتمة وصل الى أن التوفيقية هي جزء من «جوهر» الذات العربية «الآن!» لقد كان قوله سابقاً أن الذات العربية هي من جوهر خاص غير قابل للذوبان في «الجوهر الآخر» الغرب، لكن هذا الجوهر يتحول الآن، ويغدو مفارقاً لذاته، ويصير من جوهره أن يفقد جوهره!
أي أن العرب الذين كانوا محتفظين بهويتهم الخاصة المستقلة عن البشر تماماً، صارت هويتهم الخاصة أن يمزجوا بينها وبين هوية مناقضة لهم!
كنا نتصور أن المؤلف وقد تتبع الأصيل والوافد، وصراعهما، أن يضع خطوطاً حمراء عازلة، نستعيد عبرها الذات العربية الضائعة، في دنس التغريب، في الحضارة العالمية الشاملة الآن، أن يعيدها الى دائرتها الخاصة، نقية، عذراء غير مدنسة بحضارة الغرب «الكافرة»!، ولكنه يفاجئنا أخيراً بعد كل رحلة العذاب هذه بأن هذه التوفيقية هي جزء أصيل من تكوين الذات العربية الذي لا نستطيع له تغييراً!!
ويجد سر ذلك في عامل جديد، لم يُطرح ابداً، وكالساحر يستخرجه من قبعته ويقول: انها الجغرافيا!
يقول: [اما الانتقاد الموجه الى «التوفيقية» من الجانبين السلفي والعلماني فليس غير اشارة الى طبيعة الجدلية القائمة بين التوفيقية ونقيضها (السلفي والعلماني)، وغير تعبير عن نوع (الديالكتيك) الخاص بطبيعة الفكر والمجتمع المعاصر في هذا الشرق العربي «الأوسط» ليس جغرافياً فحسب، وإنما على الأرجح فكرياً وحضارياً!] ص 215.
هنا ينسف الكاتب كل مقولاته السابقة ويجعلها في مهب الريح، فالتوفيقية لا تغدو نزعة انتقائية معادية للذات الأصلية، بل تكوينا لابد منه، فرضته ظروف الجغرافيا، ولو كان العرب في استراليا مثلا ما كانوا توفيقيين!
ولعل في هذه الفقرة شيئاً من التراجع عن الأصولية المتزمتة، وفتح الأبواب لتعدد التيارات، رغم كونه مبنيا على أساس غير مبدئي، لأنه أقيم فقط فوق أساس جغرافي. في حين أن الوعي العربي الطليعي في مختلف مراحلة التاريخية كان يقيم جدلية عميقة مع العالم تبعاً للمصالح العربية وتطور المجتمع.
وأيضا سرعان ما يتراجع عن هذا الانفتاح وفي السطر التالي مباشرة: [وفي التحليل النهائي فإن الأهمية البالغة للأيدولوجية التوفيقية تنبع من حقيقة كونها تعبيراً عن واقع اللاحسم في الحياة العربية المعاصرة] ص 215.
هنا تغدو التوفيقية (أقرأها: الوعي البرجوازي الديمقراطي بتياراته) راجعة لأسباب تاريخية محددة وموقوتة بأسبابها، أي ليست قدراً جغرافياً. أي أمامنا فقط النزعة الأصولية (أقرأها: الوعي البرجوازي الفاشي ذو الواجهة الدينية) وهي الوحيدة الممثلة للذات العربية. في حين تمثل التيارات الديمقراطية والاشتراكية الغرب!
إن الفقرتين اللتين عرضناهما للمؤلف سابقاً تمثلان انتقائية خاصة به، فهو يضع رجلاً في التيار البرجوازي الليبرالي، ورجلاً أخرى في التيار الأصولي، منتظراً إنتصار احدهما ليضع قميه كلتيهما عنده!
إنه يقف بين الخطين المتصارعين في ذات الطبقة ليقول حينئذ.. كلمته!!
وهذه أسوأ أنواع التوفيقية!!!


【من الليبرالية الى الأصولية!】

في كتابة المثير للجدل «تحولات الفكر والسياسة في الشرق العربي 1930 ــ 1970» حاول د. محمد جابر الأنصاري ــ بدون جدوى ــ ان يبرهن على فشل كافة النزعات التنويرية والتحررية في المنطقة العربية ابتداء من الاسلام المستنير لدى محمد عبده الى ليبرالية سعد زغلول وقومية ميشيل عفلق وتحررية جمال عبدالناصر، لكن قوة فكرتة واحدة لم يتحدث عن فشلها، أو توفيقيتها حسب وعيه، كما انها تتطابق مع الجوهر العربي، تلك هي «الأصولية»!
وانتقال الكاتب الليبرالي من تحرريته الى النزعة الأصولية، ليس ظاهرة غريبة بعد الامكانيات المادية والمعنوبة التي اكتسبتها تلك الأصولية، لكنها خسارة فادحة للفكر التنويري في المنطقة حيث يشكل الفكر الأصولي تهديدا جديدا وتقسيما للحياة العربية الممزقة أصلا.
وحتى لا نستبق النتائج سنحاول المسير في كتابه الثاني الجديد «العالم والعرب سنة 2000» الصادر عن دار الآداب، لنتعرف على الوعي الأصولي، وهو يناقش المستقبل هذه المرة، لا الماضي، كما في الكتاب السابق.
فإذا كان التصور الأصولي في الكتاب السابق قد اتجه لتفنيد الحركات الليبرالية والاسلامية المستنيرة والقومية والاشتراكية في العالم العربي، عبر كشف مايسميه بـ«التوفيقية» في مبادئها، بمعنى أنها تخلت عن «الأصول»، عبر الجوهر الخاص بنا، وحاولت أن توفق بينه وبين الوافد، الفكر الغربي الديمقراطي والمستنير، دون أن تملك الحق في التوفيق، إذا كان هذا التصور الأصولي هناك قد بين عدم «أصولية» تلك الحركات وغربتها عن «الجسم» العربي، الخاص بنا.
فإن التصور الأصولي هنا، في هذا الكتاب «العالم والعرب»، سوف يوضح الطريق الذي يجب أن يسلكه هذا الجسم العربي الى المستقبل. واذا كان «توضيح» ان كل تلك الحركات هي ضد «جوهرنا»، أو أصولنا، فأين سيتجه جوهرنا هذا؟
ما هي قدراته على تحديد مشكلات العرب وانقاذهم بعد أن أباد معرفيا جميع الحركات النهضوية والفاعلة على الساحة العربية من الشرق الى الغرب؟
ما هي الامكانيات العلمية والثقافية لهذا التصور ليكتشف العالم القادم، وليحلل القرن الحادي والعشرين ويمتلك المصير العربي؟!
لعل هذا التصور لديه شيء هام يستبصر به المستقبل، ويمتلك «وصفة» للجسد الذي أعيته العلل وأعجز «الأطباء»!
لهذا لا بد من المرافقة والتأني في الكشف عن هذا البرنامج لاصلاح ما «عجزت» عنه، حسب المصدر السابق، كل تيارات العرب الساعية الى النهضة والتقدم. لعلنا نجد كلمة مضيئة في هذا الليل المعتم!
والكاتب، خلافا لما يفعل الأصوليون الواضحون الصريحون، يعبر عن أصوليته بطريقة غير مباشرة، التفافية، فيدع تصوره مطاطيا قابلا لايحاءات متعددة، فهذا أصولي غير متجهم الوجه، ولكننا سوف ندقق في كشف هذه الأصولية غير الصريحة، ونبين التناقضات التي تحتدم في وعيها.
والكتاب الحالي، خلافا للكتاب السابق ذي الوحدة الموضوعية، هو عبارة عن مجموعة من المقالات، اختصت فيها الظاهرة اليابانية ــ الصفراء ــ بالثقل الكمي والنوعي. من هنا جاءت المقدمة كأنها تلخيص واعطاء نظرة عامة على الكتاب ككل، لكنها في الحقيقة لم تكن تلخيصا محضا، فقد أضافت شيئا جديدا، وحاولت أن تخفف من انطباع يتولد لدى قارئ الكتاب بعد أن ينهيه.
لا بد من مطالعة هذه الفكرة المهيمنة، ولماذا تم التخفيف منها؟ وهل يمكن ذلك حقا؟
يقول في المقدمة عن موضوعات الكتاب:
«ثم اختص «الفصل الثاني» من الكتاب بظاهرة عميقة متجددة من ظواهر التحجول في عصرنا، وهي ظاهرة الإحياء الروحي والانبعاث الإيماني والتحرر من النظرة المادية الضيقة التي خنقت الروح في القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين». ص 7 .
ثم يضيف بعد ذلك:
«وظاهرة الاحياء الايماني في الغرب ــ إذا وازيناها بظاهرة الصحوة الاسلامية في عالمنا العربي وبظاهرة «لاهوت التحرير» في بلدان امريكا اللاتينية ــ تشير الى ان العالم، وهو يقترب من القرن المقبل ويستعد لخوض غماره، قد أوشك أن يسترجع قيمة أساسية جدا من قيم الوجود». ص 7.
وعلى الرغم هنا من اتجاهه للغرب، أي صار الجوهر الغربي مقبولا في جانب، وهو المرفوض كلية كما رأينا س

 •  0 comments  •  flag
Share on Twitter
Published on January 05, 2025 23:12

December 31, 2024

December 23, 2024

الثورة السورية أيضاً

≣ الثورة السورية وضياعُ الطائفيين
29/5/2011
≣ ملامحُ المعارضةِ في سورية
6/6/2011
≣ اللغةُ الدينيةُ ومخاطرُها على انتصارِ الثورة السورية
9/8/2011

الثورة السورية وضياعُ الطائفيين
29/5/2011
تطرح الثورة السورية الشجاعة العظيمة قيماً كبرى للتضحية وتجاوز الشموليات السياسية والطائفية.
الدمُ كثيفٌ مسفوحٌ من هؤلاء البسطاء الأبطال الذين يَظهرون من الأزقة والقرى والبوادي ومن ضمير الشعب المحاصر المهان من قوى بيروقراطية حكومية مهيمنة اقتصاديا وعسكريا، فقدت أي اتصال لها بالقيم الإنسانية الموجودة لدى طبقات مختلفة حتى متصارعة، عائدة هذه الدولة للممارسات الفاشية.
قضية الثورة السورية هي قضية في جوهر حركة الأمة العربية في هذه المرحلة من أجل تقدمها وحريتها.
تصطدم مثلما نصطدم في بعض الدول العربية بإرادةٍ مسلوبة لأمة كبيرة أخرى هي الأمة الفارسية، يريدُ طغيانُها أن يمشي المشرق العربي على مستوى تخلفها، وبإرادة دولتها العسكرية الشمولية، وقد جَرتْ وأفسدتْ قيادة سوريا التي كانت «قومية علمانية» والتي ينخرها الفساد والتعالي على الشعب والتسلط بقسوة عليه فانزلقت في ذات الموقف.
الأمة الفارسية مُصادرةٌ ارادتها، مغلوبٌ أمر شعبها المناضل الذي عانى الكثير، وبين الإرادتين السياسيتين موقف مشترك هو رفض طريق الديمقراطية والحداثة والعلمانية، لأنه طريق يفككُ سيطرتيهما على الشعبين، ويتيح للشعبين اختيار طريق آخر غير طريق الانعزال عن الحداثة والديمقراطية المنتشرتين في كل البشرية.
ليس في موقفنا تناقضٌ، نحن الديمقراطيين البحرينيين، بين تأييدنا للثورة السورية وشجبنا لمغامرة الرجعيين الطائفيين في البحرين لتسلق سلم الثورات العربية لخدمة الدولة الشمولية الإيرانية والقيام بثورة مضادة، ضد تطور بلدنا الديمقراطي.
إن عمل الطائفيين الرجعيين البحرينيين يصبُ في خانة تصعيد الاستبداد وخنق الحريات المتصاعدة، ومسايرة النظام الدكتاتوري الإيراني الطائفي، العدو اللدود للمناضلين الديمقراطيين الإيرانيين والعرب على السواء.
إذا كان ثمة مأثرة للثورة السورية فهي توحد السنة والمسيحيين والعلويين والشيعة البسطاء في وجه نظام عسكري أهوج، خانَ بصيصَ ديمقراطيتهِ وعلمانيته، وحوّلَ البلدَ إلى حصالةً مسيجةً بالدم والنار لهيمنة طبقة ضيقة، ولم يسمح فيها بأي تعددية وأي كلمة حرة وأي نفس إنساني، حتى انفجر البسطاء مادة الشعب الباقية ليعيدوا هواء الحرية لبلدهم.
هؤلاء البسطاء سكبوا دماءهم من أجل التوحيد في درعا وحمص ودمشق واللاذقية وحلب والكثير الكثير من المدن الصغيرة والبلدات التي قفزتْ لعنان السماء في وعي الكرة الأرضية كلها، وغدتْ شجاعة هؤلاء البسطاء وهم يُسحلون بالدبابات أسطورة يصغيها الشعبُ السوري لذاكرة بعض قوى البشرية التي انطفأت بتراكم الغبار السياسي فوق عيونها.
هؤلاء المضحون اختاروا مسارَ الأمة العربية وهي تكنسُ أنظمةَ الاستبداد الفردي والطغيان الرأسمالي الحكومي، وتبحثُ عن مسارات الحرية في لغتها الشعبية المتواضعة، التجريبية التي لا يشكلها تنظيرٌ راهن، لكن مضمونها هو التغيير بعيداً عن تسلط الأجهزة وتدخل دول في شؤون دول أخرى.
إن وكلاءَ الدكتاتورية الإيرانية الذين يتلفعون بالمذاهب الإسلامية المناضلة وبأفكار «اليسار» واليمين، لن ينجحوا في وقف تصاعد إرادة الأمة العربية للحرية، مهما وضعوا من مساحيق ثورية زائفة على وجوههم الرجعية، ولن ينقلوا الأمة العربية وشعوبها لمعاداة الشعوب الإيرانية، فنضالُ الأمتين الكبيرتين مشترك ومتلاحم عبر العصور، وإن تشوه بقوى الاستغلال والتعصب الديني القومي لشق صفوف العاملين والقوى الحية خاصةً في وقت الالتباس السياسي التاريخي الراهن ولكنه لن يستمر إلى النهاية.
هم مجرد طبقة رقيقة ثقيلة مسمومة من فساد تجمع فيها الحقد القومي المذهبي بفشل طريق سياسي وجهل فكري مثير للرثاء، لن تفلت من مياه ساخنة ثورية من الشعوب ليذهبوا في مجاري التاريخ حيث يتحللون إلى الأبد.
الشعب السوري هو من يبقى ويرتفع فوق ذرا التاريخ، الشعب الذي دُفن في الأزقة المعتمة بالأشباح وعواصف الحديد.
حين يقارب المواطنُ الإسلام يغدو توحيديا مسالما ينشد الحرية، ويقترب من معايير الحداثة والإنسانية المجمعة على التقدم، ولكن حين يغدو طائفيا تتصاعد فيه كل قوى التفتيت وخدمة القوى العتيقة العاجزة عن التطور، التي لا تمتلك سوى توجيه الناس نحو كهوف افغانستان أو نحو جنون العسكر.

ملامحُ المعارضةِ في سورية –
6/6/2011
استطاعتْ الطبقةُ المسيطرةُ على القطاع العام والأجهزةِ الأمنية والعسكرية أن تعيدَ تشكيل المجتمع السوري لصالحها، فتمددتْ بقوة في القطاع الخاص كطبقةٍ ثرية متداخلة مع النظام، وبالتالي حولتْ الطبقات الأخرى لكياناتٍ مسحوقة أو تابعة، أو متلاشية، أو ضبابية في وجودها الاقتصادي ~ الاجتماعي.
هناك فئاتٌ وسطى وقوى عمالية مستقلةٌ لكن مهيمنٌ عليها عبر السوق وعبر النقابات والمؤسسات النقابية والسياسية.
واعتمد النظامُ على قطعِ شرايين هذه القوى عن الخارج، لعدم الاتصال وتكوين علاقات، كما قطعَ أشكالَ وجودِها المستقلة وعلاقاتها الداخلية السياسية المتضافرة.
أي أن الطبقةَ المسيطرةَ أسستْ حطاماً سياسياً، نراهُ في الجماعات القومية القديمة كالاتحاد الاشتراكي ومشتقاته، الذي كان صيغةً أخرى من رأسماليةِ الدولة الشمولية الناصرية، أو نراه كذلك في القوى المنشقةِ عن البعث كقياداتٍ كبيرة مثل رفعت الأسد وعبدالحليم خدام، وهي بالتالي رأسمالية حكومية شمولية أخرى، لكنها تمثلُ الانتقالَ من شريحةٍ سياسية مسيطرة إلى شريحة غيرِ مسيطرة، فيما تمثل التوجهات القومية والانشقاقات البعثية المتمردة الأخرى انهياراً في مضمون رأسمالية الدولة، فهي فئات التصقتْ بالدولة ولكنها عُوملتْ بقمعٍ وتقزيم حتى كادت أن تتلاشى.
كان بعثُ عبدالحليم خدام بعثَ صراعٍ على القيادة العليا بينما كانت مقاومة القوميين والبعثيين الآخرين مقاومة قواعد شعبية تضاءلتْ وقُزمتْ مع الزمن، وانقطعتْ صلاتُها بالجمهور بحكمِ ذينك القمع والإبعاد عن مراكز الإنتاج والإدارة. ولكن كلا الجانبين افتقدَ الجمهور الحاضن للأفكار السياسية، ذاك في منافيه وهذا في حصارهِ وسجونهِ والأحكام المريرة عليه.
وفي كلا الجانبين يُبرزُ هذا تصاعدَ قمةِ رأسماليةِ الدولة وتوحدها بمختلفِ الأجهزةِ القوية المتنفذةِ وبروز الحاكم المطلق من بينها. وهو الذي تكرسهُ أحجامُ الملكيات العامة المُسَّيطر عليها من قبل دوائرهِ، ومن قبل قوى العسكر الحامية حيث لا توجد أفكارٌ وأخلاقٌ تحمي نظاماً مثل هذا. ويؤدي هذا إلى بروز المُلكية الخاصة الكبيرة التي طلعتْ من بين أشداقِ الملكية العامةِ وصارتْ لهذه الطبقة المسيطرة، ويعبرُ هذا عن التناقض العميق والانهيار الداخلي الكبير للقطاع العام، أي للقوة الاقتصادية الموحِّدة للبلد خلال عقود معينة ثم غدا سبب انقسامه، وبهذا التناقض المحوري الذي هو جذر الأزمة السياسية تفككتْ الدولةُ والمجتمع.
ومثل ذلك التضاؤل للأجسام السياسية السورية نجده كذلك يتجسد في التباينات الشيوعية، بين قوى التحقتْ برأسماليةِ الدولة وعطاياها، كخالد بكداش وتنظيمه وغيره، وقوى رفضتْ الذوبانَ في الأجهزة واستقلتْ لكنها صُفيت أو حُوصرت، فكان الذوبان هنا مماثلاً للقوى الأخرى. فالفكرةُ تتخلى عن استقلاليتها ونموها التحليلي المعرفي عند خالد بكداش، فيما تُحاصرُ وتُقمعُ فتجددُ عند رياض الترك، إن رياضَ قائد المجموعة المستقلة الديمقراطية واصل نضالاً بطولياً ظل كبقاءٍ رمزي وسط الوحشية البعثية.
هذا التملك الشمولي الحاد للمُلكية العامة من قبل الطبقةِ المسيطرةِ بأجنحتِها السياسية والاقتصادية والعسكرية والايديولوجية يؤدي إلى الافقارِ المادي والافقارِ الثقافي للشعب، فالناسُ تفتقد التطور المعيشي، وملكياتها الخاصة الصغيرة والمتوسطة تُحاصر من قبل الملكية العامة الناهبة، ويُضيّقُ عليها بشتى عمليات الاستغلال، لكنها تفتقد القوى السياسية والفكرية المعبرة عنها، ولهذا وهي تنتفضُ تشتغلُ وحدها، كعامةٍ بطوليةٍ تكرستْ فيها كلُ أدوارِ القيادة نزولاً للشارع وتوسيعاً لحضورها في كل المدن والقرى وتوجيهاً للعملية السياسية وإنتاجاً لأفكارِها عبر الشعارات البسيطة الوطنية والدينية المعبرة عن برنامج عام في جوهره لا يمثلُ سياسةً محددة وخطة طريق للخروج من أزمة النظام.
ولهذا نرى في مؤتمر أنطاليا بتركيا ذلك الطيف الواسع لقوى سياسية غدتْ شبحيةً، فهي ليست لها أجسام اجتماعية وسط الشعب، مثلما أن المؤتمر مهاجر، وهي ليست مثل المعارضة الليبية التي شكلتْ قيادةً انتقالية، وكرستْ نفسَها كنفي مؤسساتي للنظام.
النظام بإزالته للقوى السياسية المستقلة لم يبقِ جسوراً مع الشعب، فالحوارُ مستحيلٌ هنا، وتحطيم القوى السياسية العنيف جعله يواجه الشعب نفسه وجهاً لوجه، فلم يجد سوى الدبابات والمدافع والقناصة والأشباح ليكون هو السائد، لكن الأسلوب ذاته يوسع الثورة وينشرها فالدماء تستدعي الدماء. ولم تستطع القوى الشعبية البسيطة أن تخترق النظام وطبقته السائدة بموظفيها وقواها التابعة الصغيرة التي تجد أكبر حضورها في مدينتي دمشق وحلب، مثلما لم تستطع أن تخترق الجيش، ولهذا يبقى الصراعُ مفتوحاً على آفاق مجهولة حتى هذه اللحظة.

اللغةُ الدينيةُ ومخاطرُها على انتصارِ الثورة السورية
9/8/2011
الشعب السوري الجبار بتضحياته الجسيمة العظيمة يجب أن يُدعم بكلِ قوةٍ من قبل العالم المتفرج على ذبحه عبر آلة قتل النظام الشرسة.
وحسناً تحركت كلماتٌ واحتجاجات بعضِ الدول العربية وتصاعدتْ لغةُ الرفض العالمية.
لكن موضوعنا هنا شيءٌ آخر، وهو يتعلق بمشكلاتِ تطورِ الثورة نفسها، ومن المؤكد أن الجماهيرَ الشعبيةَ العادية هي قوةُ التضحيةِ الكبرى، وهي تتدفقُ في الشوارعِ بلحمِها الممزق، وبوعيها البسيط تصنعُ الحشودَ والكلمات والشعارات.
هذه لحظاتٌ مفصليةٌ تاريخيةٌ خطيرةُ يجب درس شعيراتِها، ونحن أمام لحظة تصادم وافتراق بين نظام زَعم الحداثة والعلمانية، وبين جماهير القرى والبوادي ومدن الكادحين الريفية والمدنية، وكلٌ منهما له وعيهُ الخاص، فالجماهيرُ لم تندمج بذلك الوعي التحديثي المبتور الناقص، حيث لا حداثةَ من دون ديمقراطية، كما أنه لا ديمقراطيةَ من دون حداثة.
وتصادمُ الجماهيرِ الشعبيةِ والنظام يجب ألا يغيبَ عنه، إيجابياتُ النظامِ الحداثي البعثي الشمولي هذا، كما يجب ألا تغيب سلبياتُ الجماهير ومستوى وعيها الراهن.
النظام الدكتاتوري الوحشي الراهن كانت له إيجابيات، لقد طوّرَ الحداثةَ والإصلاحَ الزراعي وأقام قطاعاً عاماً كبيراً وشكَّل بؤرةً قوميةً تحديثية نضالية في المنطقة، لكن القبضةَ الأمنيةَ العسكريةَ دهورتهُ وجعلتهُ يتآكل وقزمّتْ طبقتَهُ الحاكمةَ في بضعة لصوص كبار وفي عائلة.
فيجب ألا تكون الثورةُ نَسفاً ودَماراً بل تكملةً وإضافةً وتجاوزاً للسلبيات.
الرائعُ هنا هو عظمةُ الجماهير الشعبيةِ وهي تتمسكُ بالنضال السلمي، فيما هي تُذبح!
لكنها تخوضُ النضالَ من عاميتها ومن ريفها ومن باديتها، وأي مثقف حتى لو كان مغنياً تُشق حنجرته ويُلقى في السماد البشري.
ومن هنا فهي تناضلُ عبرَ وعيها الديني المُسيّسِ البسيط، لكن هذا الوعي الديني خطرٌ على الثورة ونجاحها، لأنه وعي لم يستطع أن يفهمَ الأوضاعَ الدقيقة، وتشكلَ من خلالِ جملٍ سياسية باترة خطرة.
مثل شعار(يَله أرحلْ يا بشار، الله معنا يا ثوار)، فهو يجعل الثورةَ ذات هدف شخصي، موجهة لفرد، وتقوم الجماهير هنا باحتكار للدين، وتجعل من نفسها في صف إلهي فيما تجعل الخصم في موقف شيطاني أو إلحادي!
هذا المستوى تجاوزه الوعي السوري المثقف، ولغة الجمهور النقدية الشخصية تجعل الفئات المثقفة والتجارية الواسعة خاصة في المدن الكبرى تُحجم عن تأييد الثورة لما ترى فيها من خطورة على التعددية والتقدم.
ويتوجه الجمهور كذلك لإسقاط (البعثية)، وهو تعميمٌ آخر لحزب كبير، مؤثر في الجيش والحياة السياسية الاقتصادية العامة، والجمهور بلا قوى عسكرية مساندة، فيريدُ إلغاءَ رئيس دولة وحزب وكأنه ينسخُ التجربةَ المصرية التي لها مسار آخر، والجيش هناك ذو علاقة بالغرب تسليحاً وتدريباً وتأثيراً، فيما الجيش السوري مشبع بدكتاتورية حزبية طويلة، من هنا فإن شعارات ديمقراطية أكثر مقاربة تغدو ضرورية، شعارات تركز في إزالة الدكتاتورية، وقيام مجتمع ديمقراطي وطني متقدم، من دون الهجوم على الحزب، تاركة سبل تنفيذ ذلك من قبل جهات عدة تتكاثر أفضل مما تنحصر وتتآكل مع عظم التضحيات وطول المواجهة.
ولهذا فإن شعار (إسقاط النظام) يقف هو الآخر صعباً إن لم يكن مستحيلاً، كما أنه يعبر عن تصادم قوتي التحديث الشمولي والجمهور العامي، من دون حل وسط، فإمكانية السقوط صعبة، وما بعد السقوط غامض ومحفوف بالمخاطر.
ويعبر ذلك عن قوة العامة وتضحياتها الجسيمة في الأرياف خاصة، لكنها لا تستطيع أن تتقدمَ إلى المستقبل من دون (الطبقة) الوسطى المدنية المؤثرة في الدولة والجيش والأمن والاقتصاد، وهو أمرٌ يتضحُ في إحجام المدينتين الكبريين دمشق وحلب عن المشاركة في الثورة باندفاع واسع مؤثر.
إن الشعارات تعبر عن وعي شعبي ديني عادي لم يتغلغل لفهم الصعاب الكبرى التي تواجهه والمستقبل المنتظر من خلال كلماته ونضاله.
إن غيابَ الاستراتجية السياسية هو من مسئولية المثقفين الفاعلين في الأحداث، الذين يعيش كثيرٌ منهم في حالة عداء كلية للتجربة الحكومية الراهنة، بدلاً من رؤيتها كمرحلة، وكنظام ذي إنجازات مهمة، ينبغي تجاوز سلبياتها في مسائل الحكم الشمولي، والعنف، وهو أمرٌ سيكون رسالة للكثير من قوى الفئات المتوسطة المدنية والعسكرية للالتحاق بالثورة وإخراج سوريا من مذابحها الراهنة، والانتقال لمرحلة جديدة مكملة ومطورة للسابق، مع عقاب القوى المفسدة والمنتهكة لحقوق الإنسان.
وكانت هذه المشكلة من نصيب الثورة المصرية كذلك التي دخلت التحول نفسه بشكل عفوي من دون استراتيجية سياسية تجاه النظام ومؤسساته الاقتصادية والسياسية ودستوره وقوانينه، فدخلت في تجريب وغموض تصادمي طويل وأوجدتْ أعداءً لم يكونوا أعداء ودخلت في صراعات جانبية تاركة النظام الاقتصادي يتعثر ويفقد الناس أرزاقهم.

 •  0 comments  •  flag
Share on Twitter
Published on December 23, 2024 21:10

الثورة السورية أيضاً

≣ الثورة السورية وضياعُ الطائفيين
29/5/2011
≣ ملامحُ المعارضةِ في سورية
6/6/2011
≣ اللغةُ الدينيةُ ومخاطرُها على انتصارِ الثورة السورية
9/8/2011

الثورة السورية وضياعُ الطائفيين
29/5/2011
تطرح الثورة السورية الشجاعة العظيمة قيماً كبرى للتضحية وتجاوز الشموليات السياسية والطائفية.
الدمُ كثيفٌ مسفوحٌ من هؤلاء البسطاء الأبطال الذين يَظهرون من الأزقة والقرى والبوادي ومن ضمير الشعب المحاصر المهان من قوى بيروقراطية حكومية مهيمنة اقتصاديا وعسكريا، فقدت أي اتصال لها بالقيم الإنسانية الموجودة لدى طبقات مختلفة حتى متصارعة، عائدة هذه الدولة للممارسات الفاشية.
قضية الثورة السورية هي قضية في جوهر حركة الأمة العربية في هذه المرحلة من أجل تقدمها وحريتها.
تصطدم مثلما نصطدم في بعض الدول العربية بإرادةٍ مسلوبة لأمة كبيرة أخرى هي الأمة الفارسية، يريدُ طغيانُها أن يمشي المشرق العربي على مستوى تخلفها، وبإرادة دولتها العسكرية الشمولية، وقد جَرتْ وأفسدتْ قيادة سوريا التي كانت «قومية علمانية» والتي ينخرها الفساد والتعالي على الشعب والتسلط بقسوة عليه فانزلقت في ذات الموقف.
الأمة الفارسية مُصادرةٌ ارادتها، مغلوبٌ أمر شعبها المناضل الذي عانى الكثير، وبين الإرادتين السياسيتين موقف مشترك هو رفض طريق الديمقراطية والحداثة والعلمانية، لأنه طريق يفككُ سيطرتيهما على الشعبين، ويتيح للشعبين اختيار طريق آخر غير طريق الانعزال عن الحداثة والديمقراطية المنتشرتين في كل البشرية.
ليس في موقفنا تناقضٌ، نحن الديمقراطيين البحرينيين، بين تأييدنا للثورة السورية وشجبنا لمغامرة الرجعيين الطائفيين في البحرين لتسلق سلم الثورات العربية لخدمة الدولة الشمولية الإيرانية والقيام بثورة مضادة، ضد تطور بلدنا الديمقراطي.
إن عمل الطائفيين الرجعيين البحرينيين يصبُ في خانة تصعيد الاستبداد وخنق الحريات المتصاعدة، ومسايرة النظام الدكتاتوري الإيراني الطائفي، العدو اللدود للمناضلين الديمقراطيين الإيرانيين والعرب على السواء.
إذا كان ثمة مأثرة للثورة السورية فهي توحد السنة والمسيحيين والعلويين والشيعة البسطاء في وجه نظام عسكري أهوج، خانَ بصيصَ ديمقراطيتهِ وعلمانيته، وحوّلَ البلدَ إلى حصالةً مسيجةً بالدم والنار لهيمنة طبقة ضيقة، ولم يسمح فيها بأي تعددية وأي كلمة حرة وأي نفس إنساني، حتى انفجر البسطاء مادة الشعب الباقية ليعيدوا هواء الحرية لبلدهم.
هؤلاء البسطاء سكبوا دماءهم من أجل التوحيد في درعا وحمص ودمشق واللاذقية وحلب والكثير الكثير من المدن الصغيرة والبلدات التي قفزتْ لعنان السماء في وعي الكرة الأرضية كلها، وغدتْ شجاعة هؤلاء البسطاء وهم يُسحلون بالدبابات أسطورة يصغيها الشعبُ السوري لذاكرة بعض قوى البشرية التي انطفأت بتراكم الغبار السياسي فوق عيونها.
هؤلاء المضحون اختاروا مسارَ الأمة العربية وهي تكنسُ أنظمةَ الاستبداد الفردي والطغيان الرأسمالي الحكومي، وتبحثُ عن مسارات الحرية في لغتها الشعبية المتواضعة، التجريبية التي لا يشكلها تنظيرٌ راهن، لكن مضمونها هو التغيير بعيداً عن تسلط الأجهزة وتدخل دول في شؤون دول أخرى.
إن وكلاءَ الدكتاتورية الإيرانية الذين يتلفعون بالمذاهب الإسلامية المناضلة وبأفكار «اليسار» واليمين، لن ينجحوا في وقف تصاعد إرادة الأمة العربية للحرية، مهما وضعوا من مساحيق ثورية زائفة على وجوههم الرجعية، ولن ينقلوا الأمة العربية وشعوبها لمعاداة الشعوب الإيرانية، فنضالُ الأمتين الكبيرتين مشترك ومتلاحم عبر العصور، وإن تشوه بقوى الاستغلال والتعصب الديني القومي لشق صفوف العاملين والقوى الحية خاصةً في وقت الالتباس السياسي التاريخي الراهن ولكنه لن يستمر إلى النهاية.
هم مجرد طبقة رقيقة ثقيلة مسمومة من فساد تجمع فيها الحقد القومي المذهبي بفشل طريق سياسي وجهل فكري مثير للرثاء، لن تفلت من مياه ساخنة ثورية من الشعوب ليذهبوا في مجاري التاريخ حيث يتحللون إلى الأبد.
الشعب السوري هو من يبقى ويرتفع فوق ذرا التاريخ، الشعب الذي دُفن في الأزقة المعتمة بالأشباح وعواصف الحديد.
حين يقارب المواطنُ الإسلام يغدو توحيديا مسالما ينشد الحرية، ويقترب من معايير الحداثة والإنسانية المجمعة على التقدم، ولكن حين يغدو طائفيا تتصاعد فيه كل قوى التفتيت وخدمة القوى العتيقة العاجزة عن التطور، التي لا تمتلك سوى توجيه الناس نحو كهوف افغانستان أو نحو جنون العسكر.

ملامحُ المعارضةِ في سورية –
6/6/2011
استطاعتْ الطبقةُ المسيطرةُ على القطاع العام والأجهزةِ الأمنية والعسكرية أن تعيدَ تشكيل المجتمع السوري لصالحها، فتمددتْ بقوة في القطاع الخاص كطبقةٍ ثرية متداخلة مع النظام، وبالتالي حولتْ الطبقات الأخرى لكياناتٍ مسحوقة أو تابعة، أو متلاشية، أو ضبابية في وجودها الاقتصادي ~ الاجتماعي.
هناك فئاتٌ وسطى وقوى عمالية مستقلةٌ لكن مهيمنٌ عليها عبر السوق وعبر النقابات والمؤسسات النقابية والسياسية.
واعتمد النظامُ على قطعِ شرايين هذه القوى عن الخارج، لعدم الاتصال وتكوين علاقات، كما قطعَ أشكالَ وجودِها المستقلة وعلاقاتها الداخلية السياسية المتضافرة.
أي أن الطبقةَ المسيطرةَ أسستْ حطاماً سياسياً، نراهُ في الجماعات القومية القديمة كالاتحاد الاشتراكي ومشتقاته، الذي كان صيغةً أخرى من رأسماليةِ الدولة الشمولية الناصرية، أو نراه كذلك في القوى المنشقةِ عن البعث كقياداتٍ كبيرة مثل رفعت الأسد وعبدالحليم خدام، وهي بالتالي رأسمالية حكومية شمولية أخرى، لكنها تمثلُ الانتقالَ من شريحةٍ سياسية مسيطرة إلى شريحة غيرِ مسيطرة، فيما تمثل التوجهات القومية والانشقاقات البعثية المتمردة الأخرى انهياراً في مضمون رأسمالية الدولة، فهي فئات التصقتْ بالدولة ولكنها عُوملتْ بقمعٍ وتقزيم حتى كادت أن تتلاشى.
كان بعثُ عبدالحليم خدام بعثَ صراعٍ على القيادة العليا بينما كانت مقاومة القوميين والبعثيين الآخرين مقاومة قواعد شعبية تضاءلتْ وقُزمتْ مع الزمن، وانقطعتْ صلاتُها بالجمهور بحكمِ ذينك القمع والإبعاد عن مراكز الإنتاج والإدارة. ولكن كلا الجانبين افتقدَ الجمهور الحاضن للأفكار السياسية، ذاك في منافيه وهذا في حصارهِ وسجونهِ والأحكام المريرة عليه.
وفي كلا الجانبين يُبرزُ هذا تصاعدَ قمةِ رأسماليةِ الدولة وتوحدها بمختلفِ الأجهزةِ القوية المتنفذةِ وبروز الحاكم المطلق من بينها. وهو الذي تكرسهُ أحجامُ الملكيات العامة المُسَّيطر عليها من قبل دوائرهِ، ومن قبل قوى العسكر الحامية حيث لا توجد أفكارٌ وأخلاقٌ تحمي نظاماً مثل هذا. ويؤدي هذا إلى بروز المُلكية الخاصة الكبيرة التي طلعتْ من بين أشداقِ الملكية العامةِ وصارتْ لهذه الطبقة المسيطرة، ويعبرُ هذا عن التناقض العميق والانهيار الداخلي الكبير للقطاع العام، أي للقوة الاقتصادية الموحِّدة للبلد خلال عقود معينة ثم غدا سبب انقسامه، وبهذا التناقض المحوري الذي هو جذر الأزمة السياسية تفككتْ الدولةُ والمجتمع.
ومثل ذلك التضاؤل للأجسام السياسية السورية نجده كذلك يتجسد في التباينات الشيوعية، بين قوى التحقتْ برأسماليةِ الدولة وعطاياها، كخالد بكداش وتنظيمه وغيره، وقوى رفضتْ الذوبانَ في الأجهزة واستقلتْ لكنها صُفيت أو حُوصرت، فكان الذوبان هنا مماثلاً للقوى الأخرى. فالفكرةُ تتخلى عن استقلاليتها ونموها التحليلي المعرفي عند خالد بكداش، فيما تُحاصرُ وتُقمعُ فتجددُ عند رياض الترك، إن رياضَ قائد المجموعة المستقلة الديمقراطية واصل نضالاً بطولياً ظل كبقاءٍ رمزي وسط الوحشية البعثية.
هذا التملك الشمولي الحاد للمُلكية العامة من قبل الطبقةِ المسيطرةِ بأجنحتِها السياسية والاقتصادية والعسكرية والايديولوجية يؤدي إلى الافقارِ المادي والافقارِ الثقافي للشعب، فالناسُ تفتقد التطور المعيشي، وملكياتها الخاصة الصغيرة والمتوسطة تُحاصر من قبل الملكية العامة الناهبة، ويُضيّقُ عليها بشتى عمليات الاستغلال، لكنها تفتقد القوى السياسية والفكرية المعبرة عنها، ولهذا وهي تنتفضُ تشتغلُ وحدها، كعامةٍ بطوليةٍ تكرستْ فيها كلُ أدوارِ القيادة نزولاً للشارع وتوسيعاً لحضورها في كل المدن والقرى وتوجيهاً للعملية السياسية وإنتاجاً لأفكارِها عبر الشعارات البسيطة الوطنية والدينية المعبرة عن برنامج عام في جوهره لا يمثلُ سياسةً محددة وخطة طريق للخروج من أزمة النظام.
ولهذا نرى في مؤتمر أنطاليا بتركيا ذلك الطيف الواسع لقوى سياسية غدتْ شبحيةً، فهي ليست لها أجسام اجتماعية وسط الشعب، مثلما أن المؤتمر مهاجر، وهي ليست مثل المعارضة الليبية التي شكلتْ قيادةً انتقالية، وكرستْ نفسَها كنفي مؤسساتي للنظام.
النظام بإزالته للقوى السياسية المستقلة لم يبقِ جسوراً مع الشعب، فالحوارُ مستحيلٌ هنا، وتحطيم القوى السياسية العنيف جعله يواجه الشعب نفسه وجهاً لوجه، فلم يجد سوى الدبابات والمدافع والقناصة والأشباح ليكون هو السائد، لكن الأسلوب ذاته يوسع الثورة وينشرها فالدماء تستدعي الدماء. ولم تستطع القوى الشعبية البسيطة أن تخترق النظام وطبقته السائدة بموظفيها وقواها التابعة الصغيرة التي تجد أكبر حضورها في مدينتي دمشق وحلب، مثلما لم تستطع أن تخترق الجيش، ولهذا يبقى الصراعُ مفتوحاً على آفاق مجهولة حتى هذه اللحظة.

اللغةُ الدينيةُ ومخاطرُها على انتصارِ الثورة السورية
9/8/2011
الشعب السوري الجبار بتضحياته الجسيمة العظيمة يجب أن يُدعم بكلِ قوةٍ من قبل العالم المتفرج على ذبحه عبر آلة قتل النظام الشرسة.
وحسناً تحركت كلماتٌ واحتجاجات بعضِ الدول العربية وتصاعدتْ لغةُ الرفض العالمية.
لكن موضوعنا هنا شيءٌ آخر، وهو يتعلق بمشكلاتِ تطورِ الثورة نفسها، ومن المؤكد أن الجماهيرَ الشعبيةَ العادية هي قوةُ التضحيةِ الكبرى، وهي تتدفقُ في الشوارعِ بلحمِها الممزق، وبوعيها البسيط تصنعُ الحشودَ والكلمات والشعارات.
هذه لحظاتٌ مفصليةٌ تاريخيةٌ خطيرةُ يجب درس شعيراتِها، ونحن أمام لحظة تصادم وافتراق بين نظام زَعم الحداثة والعلمانية، وبين جماهير القرى والبوادي ومدن الكادحين الريفية والمدنية، وكلٌ منهما له وعيهُ الخاص، فالجماهيرُ لم تندمج بذلك الوعي التحديثي المبتور الناقص، حيث لا حداثةَ من دون ديمقراطية، كما أنه لا ديمقراطيةَ من دون حداثة.
وتصادمُ الجماهيرِ الشعبيةِ والنظام يجب ألا يغيبَ عنه، إيجابياتُ النظامِ الحداثي البعثي الشمولي هذا، كما يجب ألا تغيب سلبياتُ الجماهير ومستوى وعيها الراهن.
النظام الدكتاتوري الوحشي الراهن كانت له إيجابيات، لقد طوّرَ الحداثةَ والإصلاحَ الزراعي وأقام قطاعاً عاماً كبيراً وشكَّل بؤرةً قوميةً تحديثية نضالية في المنطقة، لكن القبضةَ الأمنيةَ العسكريةَ دهورتهُ وجعلتهُ يتآكل وقزمّتْ طبقتَهُ الحاكمةَ في بضعة لصوص كبار وفي عائلة.
فيجب ألا تكون الثورةُ نَسفاً ودَماراً بل تكملةً وإضافةً وتجاوزاً للسلبيات.
الرائعُ هنا هو عظمةُ الجماهير الشعبيةِ وهي تتمسكُ بالنضال السلمي، فيما هي تُذبح!
لكنها تخوضُ النضالَ من عاميتها ومن ريفها ومن باديتها، وأي مثقف حتى لو كان مغنياً تُشق حنجرته ويُلقى في السماد البشري.
ومن هنا فهي تناضلُ عبرَ وعيها الديني المُسيّسِ البسيط، لكن هذا الوعي الديني خطرٌ على الثورة ونجاحها، لأنه وعي لم يستطع أن يفهمَ الأوضاعَ الدقيقة، وتشكلَ من خلالِ جملٍ سياسية باترة خطرة.
مثل شعار(يَله أرحلْ يا بشار، الله معنا يا ثوار)، فهو يجعل الثورةَ ذات هدف شخصي، موجهة لفرد، وتقوم الجماهير هنا باحتكار للدين، وتجعل من نفسها في صف إلهي فيما تجعل الخصم في موقف شيطاني أو إلحادي!
هذا المستوى تجاوزه الوعي السوري المثقف، ولغة الجمهور النقدية الشخصية تجعل الفئات المثقفة والتجارية الواسعة خاصة في المدن الكبرى تُحجم عن تأييد الثورة لما ترى فيها من خطورة على التعددية والتقدم.
ويتوجه الجمهور كذلك لإسقاط (البعثية)، وهو تعميمٌ آخر لحزب كبير، مؤثر في الجيش والحياة السياسية الاقتصادية العامة، والجمهور بلا قوى عسكرية مساندة، فيريدُ إلغاءَ رئيس دولة وحزب وكأنه ينسخُ التجربةَ المصرية التي لها مسار آخر، والجيش هناك ذو علاقة بالغرب تسليحاً وتدريباً وتأثيراً، فيما الجيش السوري مشبع بدكتاتورية حزبية طويلة، من هنا فإن شعارات ديمقراطية أكثر مقاربة تغدو ضرورية، شعارات تركز في إزالة الدكتاتورية، وقيام مجتمع ديمقراطي وطني متقدم، من دون الهجوم على الحزب، تاركة سبل تنفيذ ذلك من قبل جهات عدة تتكاثر أفضل مما تنحصر وتتآكل مع عظم التضحيات وطول المواجهة.
ولهذا فإن شعار (إسقاط النظام) يقف هو الآخر صعباً إن لم يكن مستحيلاً، كما أنه يعبر عن تصادم قوتي التحديث الشمولي والجمهور العامي، من دون حل وسط، فإمكانية السقوط صعبة، وما بعد السقوط غامض ومحفوف بالمخاطر.
ويعبر ذلك عن قوة العامة وتضحياتها الجسيمة في الأرياف خاصة، لكنها لا تستطيع أن تتقدمَ إلى المستقبل من دون (الطبقة) الوسطى المدنية المؤثرة في الدولة والجيش والأمن والاقتصاد، وهو أمرٌ يتضحُ في إحجام المدينتين الكبريين دمشق وحلب عن المشاركة في الثورة باندفاع واسع مؤثر.
إن الشعارات تعبر عن وعي شعبي ديني عادي لم يتغلغل لفهم الصعاب الكبرى التي تواجهه والمستقبل المنتظر من خلال كلماته ونضاله.
إن غيابَ الاستراتجية السياسية هو من مسئولية المثقفين الفاعلين في الأحداث، الذين يعيش كثيرٌ منهم في حالة عداء كلية للتجربة الحكومية الراهنة، بدلاً من رؤيتها كمرحلة، وكنظام ذي إنجازات مهمة، ينبغي تجاوز سلبياتها في مسائل الحكم الشمولي، والعنف، وهو أمرٌ سيكون رسالة للكثير من قوى الفئات المتوسطة المدنية والعسكرية للالتحاق بالثورة وإخراج سوريا من مذابحها الراهنة، والانتقال لمرحلة جديدة مكملة ومطورة للسابق، مع عقاب القوى المفسدة والمنتهكة لحقوق الإنسان.
وكانت هذه المشكلة من نصيب الثورة المصرية كذلك التي دخلت التحول نفسه بشكل عفوي من دون استراتيجية سياسية تجاه النظام ومؤسساته الاقتصادية والسياسية ودستوره وقوانينه، فدخلت في تجريب وغموض تصادمي طويل وأوجدتْ أعداءً لم يكونوا أعداء ودخلت في صراعات جانبية تاركة النظام الاقتصادي يتعثر ويفقد الناس أرزاقهم.

 •  0 comments  •  flag
Share on Twitter
Published on December 23, 2024 21:10

December 19, 2024

دراسة نقديّة جديدة في الرواية التاريخيّة (رأس الحسين) للروائي عبدالله خليفة

د. عدنان عويّد ــ كاتب وباحث من سورية.
نشر بتاريخ: 14 تشرين 2/ نوفمبر 2024

نقلا عن صحيفة المثقف العراقية

قراءات نقدية

بداية لا بد لنا من التمييز ما بين الرواية والتاريخ:
الرواية: هي شكل من أشكال التعبير الأدبي، تستخدم لتوثيق الأحداث وتصوير الواقع والشخصيات وإيصال الأفكار والمشاعر بطريقة فنيّة وجماليّة تجذب انتباه القارئ وتثير تفاعله. هذا ويكون المعيار الأول الذي يُحكم به على الرواية أو لها، هو مدى قدرتها على خلق شخصيات إنسانيّة واقعيّة، تتحرك في إطار اجتماعي بعينه، بحيث تعكس خصوصية هذا الاطار الاجتماعي في الزمان والمكان، بكل ما تطرحه شخصيات الرواية من علاقات وصراعات وما تعيشه من تناقضات وطموحات.
أما التاريخ: فهو علم من العلوم الاجتماعيّة التي تهتم بدراسة ماضي المجتمعات البشريّة، يدرسه علماء مؤرخون مختصون وفقاً لما يتوفر لديهم من الوثائق التي يعدّونها عند دراستهم للأحداث الماضية. أو بشكل أكثر دقة نقول: هو دراسة الماضي كما هو موصوفاً في الوثائق المكتوبة. أي دراسة الأحداث التي حدثت إن كانت قبل السجلات المكتوبة وتسمى أحداث ما قبل التاريخ، أو دراسة الأحداث التاريخيّة المدونة أو القائمة على الذاكرة، أو المتعلقة في الأوابد التاريخيّة القائمة والشاهدة على تاريخ أمّة من الأمم أو شعب من الشعوب. ودراسة التاريخ تهدف إلى اكتشاف، وجمع، وتنظيم، وعرض، وتفسير المعلومات المشتغل عليها وضبطها أكاديميّا لتحديد موضوعي السبب والنتيجة لهذه الأحداث المراد دراستها.
إذا من خلال تحديد مفهومي الرواية والتاريخ يتبين لنا أن الرواية غير التاريخيّة تقوم على تصوير أحداث متخيلة تمثلها شخصيات يصنعها الروائي، هي أقرب إلى الواقع في دلالاتها وأهداف سردها الرامية إلى التأثير الذي يريد الروي تركه عند المتلقي.
ولكون الرواية جنساً أدبيّاً كما يقول بعض النقاد لا قواعد له ولا وازع، ومفتوحا على كل الممكنات. فالرواية التاريخيّة تأتي في هذا السياق، واحدة من هذه الممكنات التي ترتكز على تصوير الأحداث والشخصيات التاريخيّة، وتقدم نظرة عميقة في دراسة أحداث الماضي، لنقل القرّاء إلى فترات زمنيّة مختلفة. وبالتالي فمن خلال الرواية التاريخيّة، يمكن للقرّاء التواصل مع التاريخ وفهمه بشكل أفضل عبر الشخصيات الواقعيّة والأحداث الملحميّة التي تروى بأسلوب روائي مشوق.
وعلى هذا الأساس نقول: إن أية رواية تتعامل مع التاريخ يجب على الروائي أن يكون أكثر عقلانيّة ومنطقيّة وواقعيّة وحياديّة مع الأحداث التاريخيّة التي يريد تصويرها حتى لا يفقد الحدث التاريخي مصداقيته، ويتحول مضمون السرد الروائي للحدث التاريخي هنا إلى ما يألفه أو يريده الروائي، وبما يناسب أوتاره النفسيّة والأخلاقيّة والقيميّة والدينيّة والفكريّة والوجدانيّة.
إن الرواية التاريخيّة ستقوم بالضرورة على التداخل والمناورة والمجاوزة والاستضلال والتحويل، الأمر الذي يُخرج كل من الواقع والتخييل عن خصوصيتهما، لذلك سيطغى على السرد الروائي وأحداثه إضافة للتداخل، الغموض والأوهام والتخيل والأساطير والخرافة والمواقف الأيديولوجيّة أو الرغبويّة في تحويل المعطيات المتعلقة بالنص التاريخي إلى مواقف فكريّة تخدم أجندات أو مواقف دينيّة أو سياسيّة معاصرة لا تنتمي للحقيقة بصلة بقدر ما تنتمي للوهم. وهذا ما يجعلنا نؤكد حقيقة تتعلق في علاقة الفن الروائي وعلم التاريخ وهي: (إن أيّة محاولة لخلق موازنة بسيطة بين مفاتيح التاريخ والرواية يجعل الجمع بينهما مستحيلاً، فالتاريخ في معطياته العلميّة يظل بالضرورة نفعيّاً يبحث عن الحقيقة ويسعى لها سعيهاً بكل أدوات العلم المتاحة، بينما الرواية هي خطاب جمالي ترتاد الخيال، وتحلق في عوالمه التي لا نهاية لها. فالرواية التاريخيّة إذن يتجاذبها هاجسان، أحدهما الأمانة العلميّة، والآخر مقتضيات الفن الروائي، مما يجعل الجمع بينهما إجرائيّا كالجمع بين الماء والنار،(1).
يقول لوكاش: «إن كاتب الرواية التاريخيّة لا يلتفت إلى الماضي إلا من خلال قضايا حاضره، وهذا يقتضي أن يعتمد هذا النوع من الروايات على حقبة تاريخيّة موثقة تكون مادة للحكي، يملأ الأديب تجاويفها بما أوتي من ملكة التخييل، ويضفي عليها لمساته الفنيّة والجماليّة ليعيد تشكيل هذه المادة تشكيلاً فنيّاً جماليّاً، شرط أن يمتلك قدرة كبيرة على الحفر بالمرحلة بكل أبعادها الاجتماعيّة والأنثربولوجيّة.».(2).
وانطلاقا من هذا الموقف المنهجي في رؤيتنا لمفهوم الرواية والتاريخ، وإلى أي مدى يستطيع الروائي امتلاك القدرة على الربط بين المتخيل (الرواية) مع العلم (التاريخ)؟، وما الأدوات الفنيّة التي يمكن أن يستعملها في هذه المهمة، والأهم إلى أي مدى يكون حياديّاً، لا تطغى عليه عواطفه وانتماءاته ورغباته الأيديولوجيّة. وهذا ما سنسلط الضوء عليه في رواية (رأس الحسين)، للروائي عبدالله خليفة.
وقبل الدخول في عالم الرواية لا بد لنا من وقفة أوليّة للتعريف به: هو، «عبدالله خليفة» خريج المعهد العالي للمعلمين بمملكة البحرين في سنة 1970، وقد عمل في سلك التدريس حتى سنة 1975. اعتقل من سنة 1975 إلى 1981. عمل منذ سنة 1981 في الصحافة الاجتماعيّة والثـقافيّة في الصحف البحرينيّة والخليجيّة، ونشر في العديد من الدوريات العربيّة. عضو في اتحاد الكتاب العربي في سوريا. وشارك في مؤتمر اتحاد الكتاب العرب بتونس سنة 2002، ببحث تحت عنوان «التضامن الكفاحي بين المسلمين»، وشارك في مؤتمر بجمهورية مصر العربية سنة 2003، ببحث تحت عنوان «المثقف العربي بين الحرية والرغبة» من خلال اتحاد الكتاب المصريين. كتب منذ نهاية الستينيات في عدة أنواع أدبيّة وفكريّة، خاصة في إنتاج القصة القصيرة والرواية والنقد والدراسة. توفي في أكتوبر 2014 عن عمر يناهز 66 عامًا بعد معاناة مع المرض.
وفي روايته (رأس الحسين)، اشتغل في الحقيقة على حدث تاريخي إشكالي في أبعاده الدينيّة والسياسيّة. فعلى المستوى الديني، كان هناك سؤال مشروع يطرح نفسه على المتابعين لقضية الحسين وهو: لماذا كل هذا الزخم الديني والتقديسي الذي حظيت به شخصيّة «الحسين» أمام غيره من آل البيت وخاصة والده «علي بن أبي طالب»، حيث فاق حضورالحسين حضور والده، وهو ابن عم الرسول، وزوج ابنته فاطمة، وهو (بوابة العلم) كما وصفه الرسول، وهو من قال عنه عمر : (لو لا عليّ لهلك عمر)، وهو من شارك الرسول في قتاله كفار قريش في كل حروبه وغزواته نصرة لدين الإسلام، وهو أخيراً وليس آخراً من قال فيه الرسول ما قال في حديث الغدير: (اللهم والي من والاه وعادي من عاداه.).
أما على المستوى السياسي، فأين موقعه من موقع والده أيضاً، وهو الذي نام في فراش الرسول عندما قررت قريش قتله، وهو الخليفة الرابع الذي ولاه الجمهور لعدله وتمسكه في الحق ودفاعه عن المظلومين، وهو القائل: (لم يترك لي الحق صاحباً). وهو من نازعه معاوية على الخلافة وآلت إليه بتحكيم فاقد للشرعيّة، وبقتال أدى إلى انقسام المسلمين وظهور الخوارج ومقتله على يد الفرقة الباغية.
هذه إشكاليات تاريخيّة، لم تحسم فيها كتب التاريخ الأمر بعد، كون التاريخ أقلام السلطة من جهة، وأنه ظل شفاهيّا سائباً حتى جاء عصر التدوين 145 للهجرة، ولعبت في تدوينه الأهواء والمصالح بعد أن تفرق المسلمون إلى فرق وشيع دينيّة سادها صراع سياسي وعقيدي، كان ولم يزل أهم صراع فيها هو صراع شيعة عليّ مع البيت الأموي والعباسي لا حقاً حيث اعتبروا أن الأمويين بالذات ظلموا عليّاً وسلبوا حقه الشرعي في الخلافة، وامتد الصراع دائراً بين السنة والشيعة حتى تاريخه.
أما هذه المعطيات التاريخيّة حول قضية الحسين المبهمة في دلالاتها، يأتي المفكر الإيران الإسلامي الشيعي في انتمائه، وهو «عليّ شريعتي» ليبن لنا حقائق الصراع السني الشيعي، وخاصة في مرحلة الصراع العثماني الصفوي، في كتابه: (التشيع العلوي والتشيع الصفوي)، ليقول: إن هذا الصراع بين العثمانيين والصفوين، ساهم في جعل الصفويين يركزون على شخصيّة (الحسين بن عليّ) ومنحه كل هذا الزخم العقيدي والسياسي والتقديسي، وهو الرجل صاحب العدل والمتمسك بالحق والفضيلة، حتى لو دفع روحه ثمناُ لذلك، متخذين من مسألة زواجه من أبنة يزدجرد (شهربانويه بنت يزدجرد الثالث). موقفاً سياسيّاً وعقيديّا عملوا من خلاله على مصادرة الإسلام وجعل أأمته في ذرية الحسين، وهم الأئمة الاثني عشر، وعلى هذا الأساس لم يزل هذا المذهب بقيادة ايران وهي الحامية له، والعاملة على نشره في العالم الإسلامي.

المعمار السردي والفكري للرواية:
إن الروائي «عبد الله خليفة» في روايته (رأس الحسين)، يشتغل على مسألة مقتل «الحسين» انطلاقا من الموقف الصفوي الشيعي، وبالتالي منحه في هذه الرواية مكانة لا تعلوها مكانة من الشخصيات الإسلاميّة وفي مقدمتها الرسول نفسه ووالده علي بن أبي طالب. كما بينا قبل قليل، وما سنبينه في عرضنا التالي:

تقوم الرواية على مسألتين أساسيتين هما:
المسألة الأولى: اغتصاب الأمويين الخلافة من «علي بن أبي طالب» بقوة السلاح، فجاء «الحسين بن علي» ليطالب في الخلافة من «يزيد بن معاوية» معتبرها حقاً مشروعا له، رغم أن «الحسن بن علي» أخاه الأكبر قد تنازل عنها لمعاوية وفقاً لاتفاق بينهما. لقد حاول «يزيد» إرضاء «الحسين»، مقابل تنازله عن موقفه، إلا أنه رفض، وكان هناك من يحرضه على الثورة ضد «يزيد» من أهل المدينة المنورة والعراق وخاصة في الكوفة، وعندما جاء من المدينة المنورة إلى الكوفة لتجهيز جيش لقتال يزيد، لم تجر الأمور كما يشتهي حيث تخلي عنه الكثير ممن شجعه على الثورة من أهل الكوفة خوفاً من واليها «عبيدالله بن يزيد»، ولم يبق معه إلا أهله وأخته زينب وبعض المقاتلين، ومع ذلك قرر قتال جيش يزيد فكانت معركة «كربلاء» التي قتل فيها ومن معه من الرجال، وقطع رأسه الذي شكل العمود الفقري لعمارة هذه الرواية وسردها.
أما المسألة الثانية: فهي نمط شخصية الخليفة «يزيد بن معاوية» التي اشتهرت بالفساد، كشرب الخمر واقتناء الجواري وقضاء ليالي الغناء والطرب، من جهة، وإهمال الرعيّة وشؤون البلاد وجمع الأموال والثروات الطائلة على حساب جوع الرعية وقهرها وظلمها وتسليط الفاسدين على رقابها من جهة ثانية. وهنا يأتي موقف «الحسين بن علي» المعارض لسياسة «يزيد» ومطالبته بترك الخلافة لأهلها الشرعيين كي يقوم بإعادة أمور البلاد إلى وضعها الصحيح الذي يرضي شرع الله.
إن أهم حدث في الرواية والذي ابتدأت به الرواية هو مقتل «الحسين» وقطع رأسه في معركة غير متكافئة.
وأهم شخصيات الرواية بعد «الحسين» الخليفة «يزيد بن معاوية»، ويأتي بعدها شخصيات ثانوية ومنهم (ابنه معاوية وزينب بنت علي، وزوجة الحسين وهند زوجة يزيد)، وهناك شخصيات أخرى من عساكره الذي خاضوا معركة كربلاء وهي من شكل الحيز الأكثر في أحداث البناء المعماري للرواية الدرامي والسردي. وهم («الشمر بن جوشن» الذي قطع رأس الحسين في معركة كربلاء. وحمزة المهرج المسيحي الذي أسلم، وقد عرف بعدّة أسماء أخرى مثل (جعدة وصموئيل). وهناك «عمر بن سعد» قائد حملة كربلاء. و«عامر التميمي وابن عمه عمران». وشخصيات هامشية من العساكر كـ«مجبل وبكار وهشام» وهناك والي الكوفة «عبيد الله بن زياد»).

أهم دلالات الرواية كما جاءت في سياقها التاريخي على لسان شخصياتها:
ظهور الدلالات النرجسيّة والفوقيّة وامتلاك شهوة السلطة للخليفة «يزيد بن معاوية»، عندما أخبره قائد الحرس بمقتل «الحسين بن علي» قائلاً: (هزم جيش الحسين يا مولاي وقطعت رأسه وسحق وجنده كما يسحق القمح). ص 30. فرد عليه يزيد: (هذه بشارة.. لم يعد الرجل المغرور يهدد ملكي .. انتهى الحسين.. الآن سوف أنام مستريحاً، سوف أهدأ… وزعوا الحلوة على الأطفال.) ص 30. ثم اتجه إلى القائد قائلاً: (قل لي.. كيف تضرع لي لأسامحه؟.. كيف بكلا من أجل أن لا يموت؟.. ألم يكن اسمي آخر ما تفوه به؟.. ألم ينحني ليطلب الرأفة مني؟.. الم يزلزل اسمي الهائل العظيم؟.. فيردّ عليه قائد الحرس: (لا يا مولاي لم يتذلل.. لم يقل ذلك يا سيدي.) ص 30.
وفي الرواية أيضاً موقف «معاوية بن يزيد» من الخلافة وانعزاله وزهده بالدنيا والسلطة وخاصة بعد مقتل الحسين.. يقول له والده بعد فشل حواره معه حول عودته إلى عالم الخمر والسهر والجواري والضحك: (دعك من هذا التألم والتحسر على رثاء البشر ومسايرة القوم، وكن قوياً جباراً تسحق الناس العصاة بقبضة يديك العنيفة.. كفى لا تتخاذل ليس نحن الذين نسكب دمعة أو ترتجف أيدينا وقت الذبح.) ص 44. يرد عليه معاوية: (اتركني يا أبي، دعني أقرأ القرآن وأصلي.. إني لم أر المجزة وقلبي مثل طائر مذبوح.) ص 44.
وهناك ايضاً بدء تبدل موقف حمزة المهرج من جند الخليفة «يزيد» بعد مقتل الحسين وما تركه هذا الفعل من تأثير نفسي وأخلاقي عليه، وهو الذي اختطف رأس الحسين من الشمر كي يقدمه للخليفة يزيد طمعاً في الجائزة أو المكافأة لعله يحسن وضعه الاجتماعي والمادي، وهذا كان موقف كل من العساكر الشمر وهشام أيضا، حول من سيحتفظ برأس الحسين للفوز بالمكافأة. هنا يبدأ يتخيل أن رأس الحسين يخاطبه فيتحدث معه عن العاصفة الترابية التي نزلت انتقاماً على عساكر الخليفة يزيد، وهم يحملون رأس الحسين على سن الرمح عالياً تباهياً بنصرهم. يقول حمزة مخاطباً نفسه متحسرا على تركه قصر الخليفة والتحاقه بعسكر الخليفة لقتل الحسين: (كيف يا حمار تركت القصر بجواريه وملاهيه لتلتحق بهؤلاء الذئاب البدو القساة الحفاة الذين يبيعون دينهم بدنياهم.). ص 36. وهنا يأخذ شعوره بالذنب يتصاعد حتى يجد نفسه يتحدث مع رأس الحسين. فمع هبوب العاصفة الرمليّة الشديدة يخاطب حمزة رأس الحسين قائلا: (متى تخف هذه العاصفة؟.). فيرد عليه رأس الحسين الذي يحمله ويلفه في خرقة: (سوف تخف هذه الرمال الثائرة بعد ساعة أو ساعتين، فلا تخف، ولكن كيف ستخرجون من متاهة الحساب وعذاب الضمر وأسئلة أخرى). ص47. فيرد حمزة مخاطباً الحسين: (هذه تتكفل بها أنت يا سيد الشهداء.) ص47. ثم يتابع الحور بين حمزة ورأس الحسين منتقدين سلوكيات عساكر المسلمين وقيمهم: (تقتلون وتشربون الخمر، وتمارسون الفساد ثم تذهبون إلى الحج وتبدؤون الصلاة وممارسة الطقوس وكأن كل شيء قد ذهب وعفا الله عنه.) ص47. وهم بهذا الحوار ينتقدون أيضاً يزيد وولده معاوية وفساد الخلافة الأموية ص 49.
إن موقف حمزة المستاء يظهر أكثر وضوحاً عند اقتراب القافلة من دمشق بساقه التي طعنها أحد العساكر الطامعين برأس الحسين لأخذ الجائزة، وقد أردفه عامر خلفه على حصانه كي يعالج ساقه في دمشق يقول مخاطباً نفسه: (إنني أتتبع عبر الأخبار موكب رأس الحسين.. هل يمكن أن يحمل رأسه إلى الخليفة؟.. أهذه هي الخلافة التي نريدها؟.. بعد أن انتشرت الجثث في الصحراء وسال خيط من الدم طويلاً إلى الحقول والمدن). ص 98.
كما نجد في متن الرواية موقف «زينب بنت عليّ بن أبي طالب» شقيقة الحسين وحوارها مع الخليفة يزيد عند وصوله إلى قصر الخليفة مع من تبقى من آل البيت. تحدث نفسها مقارنة بين هذا الملجأ (القصر) الذي يقطنه يزيد.. كيف كان زمن والدها ملجأً للفقراء والمساكين وكيف تحول الآن إلى وكراً للسرقة ومقر للقتل والبغاء.) ص 52.
دخلت زينب قاعة القصر لتجد أمامها «عبد الله بن زياد» والي الكوفة جالساً على كرسيه، فتهمس لنفسها: (يا لله هذا النجس هو من أباد سلالة المصطفى). ص 52. وهنا يدور حديث بينها وبين والي الكوفة الذي بادرها بالقول: (ما حل بكم نتيجة لعصيانكم طاعة الخليفة، وهذه نتيجة العصيان، لقد أذلكم الله.).. فردت زينب عليه: (كيف يذل الله من أطاعه وعمل للناس خيراً ويقف مع من قتل خير البشر. كيف يقف مع من هو اتفه من ذيل بعير أجرب، وسيف مأجور عند قاتل نهم للمال والنساء.. بل قل هي السياسة والقوة، وهي اليوم لكم وغداً عليكم، فلا تستعجلون قطع رقابكم ونهب خزائنكم.). ص 53. وهنا نقف قليلاً عند قولها واصفة الحسين بأنه: (خير البشر). وهي في وصفها هذا تتجاوز والدها عليّ والرسول نفسه في الخيرية!!!!.
كما نجد في المتن موقف «الشمر بن جوشن» الانتهازي وندمه أخيراً على قطع رأس الحسين وهو يخاطب حمزة قائلاً: (لستُ خائفاً، ولكنني حزين.. ذلك القطع للرقبة لا يزال مرئيّاً أمامي وكل الكؤوس لا تستطيع أن تزيله.. النوم لا يأتي فمنذ قتلته لم أنم، وجوه كثيرة تظهر لي.. وجوه لم أرها من قبل تتجسد أمام عيني.. ثمة بكاء مرير مثل نشر العظام.) ص 61.
أما عن حالة الرعيّة في هذه الرواية فَيُسَلّطُ الضوء على تغير مواقف الرعيّة وسخطهم على خلافة يزيد بعد انتشار مقتل الحسين وقطع رأسه. فهذه إحدى بنات الحسين تقول لرباب: (نحن النسل الذي يريدون أن يجتثوه). ص 66. ثم تتابع واصفة حال الرعية: تأملي هذه الوجوه الشائخة من الحمالين ومقدمي العلف والحرس المساكين المرتعشين خوفاً من أية نأمة سوط.. هؤلاء الأهالي المتجمهرين وراء السيوف.. المدمنون على الصمت والخوف.. وهذه السطوح المرتجفة والمقاهي الثرثارة). ص 68. ها هو رأس الحسين يظهر أمام الرعيّة مرفوعا على رأس رمح وكأنه راية للحريّة.) ص 68. ويهتف صوت: (أيها الناس أن الزور الذي يقولونه لكم لكي لا تستقبلوا الحسين، هو كذب محض.. الحسين هنا.. الحسين لم يتوار.. الشهداء أحياء.) ص 69. وصوت آخر يصرخ: (أيها الناس.. إن الموت ما أخطأ الفتى جاء إليه بإرادته لأنكم دعوتموه للقتال وتخليتم عنه.). ص 70. وهذا الموقف المستاء ذاته ظهر عند المسحيين في موقف الأب «يوحنا» عندما اقتربت القافلة التي حاربت الحسين من الدير في الصحراء قرب دمشق طالبين الماء والطعام ورفضه تقديم مطالبهم.
ونجد في متن الرواية موقف «الخليفة يزيد» من «زينب» وما تبقى من آل البيت، حيث بدأ يتغير موقفه مع بدء تغير مواقف الرعيّة وتعاطفها مع آل البيت.. شعور بالندم والذنب راح يجتاح يزيد ليطلب السماح من زينب وانهاء المسألة كلها كي تعود الأمور إلى مجراها الطبيعي.
قال يزيد لزينب وعائلة الحسين مبرراً قتله للحسين: (بأن الحسين شق عصا الطاعة على حكمه رغم أنه حاول إرضائه بما يريد.) ص 120. فترد عليه زينب: (كان لا بد أن يقاتلك يا يزيد وأنت أسوأ من يمكن ان يحكم.. أنظر ماذا فعلت.. سفكت دماءً كأنها بحيرة من الماء.. فمن العار إن لم يتجرأ عليك الحسين وهو زهرة رجال العرب.). ص 120.
اما آل مروان بن الحكم الطامحون بالحكم وعدم ضياعه من البيت الأموي وتذمرهم مما جرى من سوء خلافة يزيد، الأمر الذي دفع مروان وبعض أهله يأتون إلى قصر يزيد متذمرين فيقول مرون للخليف يزيد: (يا خليفتنا ورأس دولتنا، لقد تماديت كثيراً في سطوتك، فهذه المدينة التي لم تعرف سوى الهدوء والحلم، تعيش الآن في خوف دائم لا أحد يأمن على نفسه في الليل، وعبيدنا وموالينا راحوا يتذمرون ويهربون.. والغزوات توقفت، والعسكر في الثغور صار نائماً.. وما هذه الرأس التي علقتها وأردت الشكيمة منها فصارت سبباً للفزع والخوف والشكوك.). ص 149.
في نهاية الرواية يتخلى الجميع عن يزيد بعد أن سمعوا تخلي الشمر بن الجوشن وحمزة وغيرهم من عساكر يزيد الذين شاركوا في حملة كربلاء عنه.. وهنا يقول يزيد: (صارت مملكتي كلها مخاوف.). ص 171. اما حمزة فيقود ثورة شعبية ضد الخليفة مع بعض الرجال المتذمرين من مواقف يزيد يُقتل فيها الكثير من الناس ويختفي رأس الحسين: ص.147.
من خلال كل ما جئنا إليه في هذه المواقف، أجد أن الرواية تقوم في فضائها الأساس على موقف أيديولوجي للكاتب يؤمن إيمانا مطلقا بموقف الحسين وشخصيته وقدسيته، الأمر الذي أشعرنا بعدم الحياديّة في طرحه لقضية الحسين وانحيازه المطلق لمواقف الحسين ومن يمثلها في تاريخنا المعاصر، وهذا ما يفقد الرواية مصداقيتها، وربما ستجد صداها عند من يتمسك اليوم بموقف الحسين من الشيعة الجعفريّة بشكل خاص، على اعتباره يشكل وسيلة لإحياء مشروع سياسي ناضل الشيعة عبر تاريخهم الطويل من أجل تحقيقه، وهو عودة الخلافة لمستحقيها كما أشارت الرواية بأكثر من موقف في متنها.

الرواية في الشكل:

دلالات اسم الرواية:
اسم الرواية هو الاسم أو الرمز الذي يوضّح مضمون الرواية، فهو يمثل الخطوط المميزة والهامة في بنيتها، وعلامة فاعلة في تحديد السمة المعنوية لها. فالاسم هو الدعامة التي يرتكز عليها هذا البناء، في حالة ثباته وتفاعله وتواتره، وعاملا ً أساسيّا من عوامل وضوحه. ويأتي هنا اسم (رأس الحسين) بكل دلالاته ليمثل ظاهرة تاريخيّة لها حضورها في التاريخ الإسلامي ماضيّاً وحاضرا. فالحسين ومأساة كرباء أخذتا تشكلان اليوم وبشكل خاص عند كتلة كبيرة من المسلمين الشيعة (الجعفريّة) موقفاً إنسانيّاً وسياسيّاً وعقيديّاً (مذهبيّاّ)، راحت هذه الكتلة تشتغل عليه بمفردات أيديولوجيّة وأسطوريّة مشبعة بمفاهيم الحريّة والعدالة وثبات الموقف ومناصرة الحق ومواجهة الظلم. وهذا هو مضمون الرواية في الأساس وأهدافها.
أما صورة الغلاف فقد حملت دلالات الحدث لواقعة كربلاء التاريخيّة من جهة، مثلما عبرت في ألوانها الحارة المشبعة بالسواد، لتدل على عمق المأساة ودرجة الحزن الكامنة في هذا الحدث التاريخي كما يراها الكاتب، والكثير من محبي الحسين، مع وجود بقعة لون أقرب إلى الصفار أو الضوء في صورة الغلاف، تشير إلى فسحة من الأمل في خلاص هذه الأمّة من قهرها وظلمها واستلابها وتشيئها واغترابها الذي عاشته منذ قرون عديد ولم تزل فيه.

الشكل العجائبي للرواية كنمط حداثي:
تعتبر رواية (رأس الحسين) من الروايات التي تدخل في فضاء أو عالم الرواية العجائبيّة. والمقصود بالرّواية العجائبيّة، تلك الرواية التي ينقطع التشخيص فيها عمّا يمت للحقيقة أو المشاكلة، وهذا ما يساهم في إضعاف صلتها بالواقع، لتصبح هي مرجع ذاتها، وفق قوانين الفوق – طبيعي أو الواقعي، فيصبح من أهم خصائصها تداخل الواقع مع الخيال، وترك القارئ أو المتلقي على حيرة بين عالمين متناقضين، عالم الحقيقة الحسيّة وعالم الوهم والتخييل، وحضور اللاسببيّة في أحداث الرواية وشخوصها وسردها.
ولذلك فإن العجائبيّة تحتضن مختلف البنيات النفسيّة المتعبة والتواصلات الاجتماعية الهشّة الهلاميّة التي تكرس السلبيّة وزيادة هدر قدرات العقل وتعطيل المنطق.
إن العجائبي في المحصلة يفسح المجال واسعا أمام حضور وفاعليّة الخيال والقلب والحُلم والرغبة في اليقظة واللامعقول، لتحقيق ما عَجز عنه العقل في الواقع، فالخيال والحلم والوهم يقدمون حلولاّ ملتبسة لواقع حقيقي ملموس، وبالتالي يتحوّل الواقع بفعل آليّة عمل هذا المنطق اللاعقلاني العجائبي، إلى شلالٍ لتحقيق كل الأمنيات، وتبرير استمرار تأثير ما فوق الطبيعي في الطبيعي، وغير العقلي في العقلي، ليزداد الغموض في رؤية الإنسان وتصوّره لنفسه ولرغباته.
في الوقت الذي يُنتظر من إنسان اليوم الحصول على المعرفة العقلانيّة القائمة على السببيّة، والتشبع بروح الحداثة والتحلي بالمنطق وسلامة التفكير وقوة الخلق والابتكار وروح التجديد والإبداع، وأن العمل دليل الحياة، مع امتلاك أخلاق التسامح والصبر والاستمرار في هذه الحياة والتمتع بها.
ففي مثل هذا التوجه نحو المعرفة العقلانيّة التنويريّة، ستسعفهم هذه المعرفة العقلانيّة وتطاوعهم المادة لفهم قوة «الشيء» مهما كان صغيراً.(3).
ففي رواية (رأس الحØ

 •  0 comments  •  flag
Share on Twitter
Published on December 19, 2024 21:59