عبد الله المطيري's Blog, page 2
May 24, 2016
الأخلاق بين القول ومضمونه
الأخلاق بين القول ومضمونهعبدالله المطيريسأبدأ هذه المقالة بملاحظة شخصية. لاحظت خلال فترة دراستي الماضية في الولايات المتحدة والتي التقيت فيها بعدد من السعوديين من مناطق وتوجهات مختلفة أن العامل المهم في التواصل الجيد معهم لا يتحدد بشكل أساسي بالتوافق الفكري. بمعنى أنني لاحظت أن توافق الأشخاص فكريا لا يؤدي بذاته لاستمرار تواصلهم، كما أن الاختلاف الفكري بينهم لا يؤدي بالضرورة للقطيعة بينهم. لذا تجد مختلفين في الأفكار أصدقاء ومتفقين في الأفكار بدون علاقات مشتركة. إذا لم يكن التوافق الفكري من عدمه هو العامل الأساسي في تحديد ارتباط الناس ببعضهم وتواصلهم مع بعض، فما هو إذًا العامل أو العوامل الأساسية؟
سأحاول هنا التفريق بين القول كعلاقة تجمع طرفين وبين مضمون هذا القول. سأستفيد هنا من تقسيم شهير للفيلسوف لافيناز بين ما تتم عادة ترجمته للإنجليزية بين Saying and the said. سأحاول ترجمة ذلك إلى القول وما يقال. القول هنا يحيل إلى العلاقة التي تجمع طرفي الكلام والتي تؤسس إمكانية الكلام. هذه العلاقة مبنية على حقيقتين أساسيتين: أولا أن أطراف الكلام يعيشون معا ويجمعهم وجود مشترك وأن الكلام بينهم لا يمكن أن يتأسس إلا بوجود الطرفين ولا غنى لأحدهم عن الآخر. هنا حالة من المساواة الأولى. الحقيقة الثانية هي المسؤولية التي يشعر بها كل طرف من أطراف القول للآخر. في الإنجليزية يبدو الرابط واضحا لغويا. الرد من طرف لآخر يعبر عنه بـ response والمسؤولية يعبر عنها بـresponsibility. نلاحظ هنا أن لا حديث ينشأ بين الأطراف ما لم يكن كل طرف يشعر بالمسؤولية للاستجابة لما يقوله الطرف الآخر. الحوار طلب وجواب أو نداء واستجابة. القول هنا لا يتحقق بدون هذا الانشغال بالآخر والاهتمام به. الحديث يموت حين يفتر الاهتمام بين الطرفين. هذا كان جانب القول أما جانب ما يقال فهو جانب مضمون الكلام من معلومات وأفكار وأطروحات.
يبدو أن الجانب الأول "القول" هو العامل الأهم الذي يجمع الناس رغم اختلاف مضمون هذا القول. من المهم هنا التوضيح أن "القول" أو "الحديث" أو "الحوار" في هذا المقال كما عند لافيناز وإن كانت تحيل للجانب اللغوي إلا أن التواصل اللغوي هنا هو تعبير عن حالة وجودية أوسع فاللغة كالعالم. الصورة إذاً تصبح كالتالي: حين يجد الإنسان من يقدّر وجوده ويعبر عن اهتمامه فإنه قد حقق أساس العلاقة التي تجمعه بهذا الإنسان ويبقى مضمون التواصل ثانويا ما دامت هذه العلاقة قائمة. لذا نجد الناس يقدرون من يحترمهم ويجيد الاستماع لهم ويعبر عن الاهتمام بوجودهم معه حتى لو اختلفوا في مضمون حديثهم. لدى لافيناز تفريق جوهري بين القول ومضمون القول. القول كمسؤولية من الذات تجاه الآخر غير محدودة والآخر فيها لا يمكن اختزاله. بينما مضمون القول بطبيعته يجب أن يوضع في سياقات عقلية مفهومة خاضعة لمعايير عقلية تحد المعنى وتحصره. لذا من المهم جدا هنا التأكيد على أن الإنسان لا يمكن اختزاله فيما يقول. ما يقوله هو بعد واحد في هذه العلاقة يجب أن لا تنسينا العلاقة الأساسية، وهي حقيقة وجودنا المشترك ومسؤوليتنا عن الآخر. الآخر هنا لا يمكن رده للذات. أي لا يمكن اختصاره في معايير ذاتية، لا يمكن فهمه ولا تصوره بالكامل. الآخر هنا يتجاوز باستمرار لكل ما نعتقد ونتصور عنه. لذا كل أحكامنا عنه قاصرة بطبيعتها ومحدودة ولا يمكن الاكتفاء بها.
لذا حين يجد الإنسان من يتفق معه فكريا (في مضمون الأفكار والمواقف) ولكن يجد أن العلاقة مع هذا الإنسان لا تلبي معاني عميقة في حياته فإن التواصل بينهما يتعطل. أحد الأصدقاء اشتكى من صديق له بسبب أنه يتقمص دور المعلم والأستاذ في حواراتهم. هذه التراتبية التي يشعر بها صاحبنا تتعارض مع مبدأ المساواة الذي يقوم عليه جانب القول كما ذكرنا. التراتبية هنا تحصر وجود الطرف الآخر في فضاء ضيق وتتعارض مع الانفتاح الكامل عليه. لهذا نجد أن هذه التراتبية تجرح في كثير من الأحيان كرامة الطرف الآخر، لأنها باختصار تحد من فرص مشاركته وتقلص من حضوره في هذه العلاقة. إنها قفص تكرهه النفوس المتطلعة للحرية. كذلك التراتبية تثير الشكوك في المنطلقات الأخلاقية للطرف المتعالي، فهي توحي بعلاقة استعمال بين الطرفين. الطرف المتعالي يتعامل مع الطرف الآخر كمشروع تلميذ أو كوسيلة لنشر وتوسيع دائرة أفكاره أو كوسيلة لإثبات قدراته وتميزه المعلوماتي. في المقابل نجد العلاقة القائمة على الانفتاح والاستماع والتقدير المتبادل تعطي الفرد شعورا بالكرامة والتقدير والثقة في الذات. هذا الشعور يخلق وجودا آمنا ومفتوحا للمستقبل. حين يكون الاستماع مبدأ العلاقة فإن الأطراف لا يقلقون من الخطأ في ما يقولون، فهم يعلمون أن مضمون الكلام لن يحسم علاقتهم مع الآخر. هناك دائما فضاء مفتوح لما هو جديد ومختلف. هناك دائما مستقبل لذات أخرى. الاختلاف هنا لا يخيف فهو لن يقطع العلاقة. العلاقة قائمة على مبادئ سابقة على الاتفاق والاختلاف.
لهذا يبدو أن ما يطلبه منك الشخص الآخر ليس موافقته فكريا، بل احترامه كشخص والتعبير عن هذا الاحترام باستمرار، خصوصا مع الاختلاف الفكري. هذه مهمة ليست بالسهلة ولعل المقالات القادمة تكون استمرارا للتفكير فيها.http://alwatan.com.sa/Articles/Detail...http://alwatan.com.sa/Articles/Detail.aspx?ArticleId=30704
سأحاول هنا التفريق بين القول كعلاقة تجمع طرفين وبين مضمون هذا القول. سأستفيد هنا من تقسيم شهير للفيلسوف لافيناز بين ما تتم عادة ترجمته للإنجليزية بين Saying and the said. سأحاول ترجمة ذلك إلى القول وما يقال. القول هنا يحيل إلى العلاقة التي تجمع طرفي الكلام والتي تؤسس إمكانية الكلام. هذه العلاقة مبنية على حقيقتين أساسيتين: أولا أن أطراف الكلام يعيشون معا ويجمعهم وجود مشترك وأن الكلام بينهم لا يمكن أن يتأسس إلا بوجود الطرفين ولا غنى لأحدهم عن الآخر. هنا حالة من المساواة الأولى. الحقيقة الثانية هي المسؤولية التي يشعر بها كل طرف من أطراف القول للآخر. في الإنجليزية يبدو الرابط واضحا لغويا. الرد من طرف لآخر يعبر عنه بـ response والمسؤولية يعبر عنها بـresponsibility. نلاحظ هنا أن لا حديث ينشأ بين الأطراف ما لم يكن كل طرف يشعر بالمسؤولية للاستجابة لما يقوله الطرف الآخر. الحوار طلب وجواب أو نداء واستجابة. القول هنا لا يتحقق بدون هذا الانشغال بالآخر والاهتمام به. الحديث يموت حين يفتر الاهتمام بين الطرفين. هذا كان جانب القول أما جانب ما يقال فهو جانب مضمون الكلام من معلومات وأفكار وأطروحات.
يبدو أن الجانب الأول "القول" هو العامل الأهم الذي يجمع الناس رغم اختلاف مضمون هذا القول. من المهم هنا التوضيح أن "القول" أو "الحديث" أو "الحوار" في هذا المقال كما عند لافيناز وإن كانت تحيل للجانب اللغوي إلا أن التواصل اللغوي هنا هو تعبير عن حالة وجودية أوسع فاللغة كالعالم. الصورة إذاً تصبح كالتالي: حين يجد الإنسان من يقدّر وجوده ويعبر عن اهتمامه فإنه قد حقق أساس العلاقة التي تجمعه بهذا الإنسان ويبقى مضمون التواصل ثانويا ما دامت هذه العلاقة قائمة. لذا نجد الناس يقدرون من يحترمهم ويجيد الاستماع لهم ويعبر عن الاهتمام بوجودهم معه حتى لو اختلفوا في مضمون حديثهم. لدى لافيناز تفريق جوهري بين القول ومضمون القول. القول كمسؤولية من الذات تجاه الآخر غير محدودة والآخر فيها لا يمكن اختزاله. بينما مضمون القول بطبيعته يجب أن يوضع في سياقات عقلية مفهومة خاضعة لمعايير عقلية تحد المعنى وتحصره. لذا من المهم جدا هنا التأكيد على أن الإنسان لا يمكن اختزاله فيما يقول. ما يقوله هو بعد واحد في هذه العلاقة يجب أن لا تنسينا العلاقة الأساسية، وهي حقيقة وجودنا المشترك ومسؤوليتنا عن الآخر. الآخر هنا لا يمكن رده للذات. أي لا يمكن اختصاره في معايير ذاتية، لا يمكن فهمه ولا تصوره بالكامل. الآخر هنا يتجاوز باستمرار لكل ما نعتقد ونتصور عنه. لذا كل أحكامنا عنه قاصرة بطبيعتها ومحدودة ولا يمكن الاكتفاء بها.
لذا حين يجد الإنسان من يتفق معه فكريا (في مضمون الأفكار والمواقف) ولكن يجد أن العلاقة مع هذا الإنسان لا تلبي معاني عميقة في حياته فإن التواصل بينهما يتعطل. أحد الأصدقاء اشتكى من صديق له بسبب أنه يتقمص دور المعلم والأستاذ في حواراتهم. هذه التراتبية التي يشعر بها صاحبنا تتعارض مع مبدأ المساواة الذي يقوم عليه جانب القول كما ذكرنا. التراتبية هنا تحصر وجود الطرف الآخر في فضاء ضيق وتتعارض مع الانفتاح الكامل عليه. لهذا نجد أن هذه التراتبية تجرح في كثير من الأحيان كرامة الطرف الآخر، لأنها باختصار تحد من فرص مشاركته وتقلص من حضوره في هذه العلاقة. إنها قفص تكرهه النفوس المتطلعة للحرية. كذلك التراتبية تثير الشكوك في المنطلقات الأخلاقية للطرف المتعالي، فهي توحي بعلاقة استعمال بين الطرفين. الطرف المتعالي يتعامل مع الطرف الآخر كمشروع تلميذ أو كوسيلة لنشر وتوسيع دائرة أفكاره أو كوسيلة لإثبات قدراته وتميزه المعلوماتي. في المقابل نجد العلاقة القائمة على الانفتاح والاستماع والتقدير المتبادل تعطي الفرد شعورا بالكرامة والتقدير والثقة في الذات. هذا الشعور يخلق وجودا آمنا ومفتوحا للمستقبل. حين يكون الاستماع مبدأ العلاقة فإن الأطراف لا يقلقون من الخطأ في ما يقولون، فهم يعلمون أن مضمون الكلام لن يحسم علاقتهم مع الآخر. هناك دائما فضاء مفتوح لما هو جديد ومختلف. هناك دائما مستقبل لذات أخرى. الاختلاف هنا لا يخيف فهو لن يقطع العلاقة. العلاقة قائمة على مبادئ سابقة على الاتفاق والاختلاف.
لهذا يبدو أن ما يطلبه منك الشخص الآخر ليس موافقته فكريا، بل احترامه كشخص والتعبير عن هذا الاحترام باستمرار، خصوصا مع الاختلاف الفكري. هذه مهمة ليست بالسهلة ولعل المقالات القادمة تكون استمرارا للتفكير فيها.http://alwatan.com.sa/Articles/Detail...http://alwatan.com.sa/Articles/Detail.aspx?ArticleId=30704
Published on May 24, 2016 17:06
May 17, 2016
في التواضع والضيافة
في التواضع والضيافةعبدالله المطيريالتواصل مع الآخر يتأثر بشكل كبير بتصوراتنا عن الذات وعن الآخر. هذه التصورات تؤثر على المشهد والأساسي: الوجود مع وللآخر. الوجود مع الآخر حقيقة إمبيريقية تفرضها حقيقة التجاور والقرب بين البشر. الوجود للآخر (تحمل مسؤولية الآخر) يبدو في كثير من الأحيان نتيجة مباشرة للوجود مع الآخر. نلاحظ مثلا مرور متسول ما أمامك في الطريق وأثر هذا المرور. مشهد مروره ومشاعرك تجاهه مهمة لإيضاح فكرة هذا المقال. أولا مشهد مرور المتسول لا يمكن تجاهله حتى وإن حاولت صرف النظر عن هذا الشخص. سيبقى مروره يسري في ذهنك وفي مشاعرك. مرور هذا الإنسان غالبا مربك لسببين: أولا شعورك بالمسؤولية تجاه هذا الإنسان رغم أنك لا تعرفه شخصيا ولكنك تعرف أنه إنسان. السبب الثاني أنك تعلم أنك لن تستطيع حل مشكلة هذا الإنسان. يربكنا هذا المشهد حتى يرحل عنا هذا الشخص أو نرحل عنه ويتولى بعد المكان تخفيف إحساسنا بالمسؤولية إلى أجل محدود. هذا هو المشهد الأول المباشر: الوجود مع وللآخر. تصوراتنا عن ذواتنا وعن الآخر تأتي لتقول لنا ماذا نفعل تجاه هذا المشهد الأول. على سبيل المثال أحيانا نتبنى تصورا عن الآخر (المتسول في هذه الحالة) على أنه مدمن مخدرات لنمنع ردة فعلنا المباشرة في مساعدته والتبرع له. هذا التصور عن هذا الإنسان يهدف لخلق علاقة مع الآخر تخضع لحسابات مختلفة عن حالة المشهد الأول. مثلا في تربية العنصرية نجد الأطفال في البداية لا يفرقون بين بعضهم البعض بناء على الدين أو العرق أو الجنس. هذا هو المشهد الأول لكن تأتي لاحقا التصورات الثقافية عن الذات والآخر لتتحكم في المواقف المباشرة الأولى. هنا يبدأ الطفل في تعلم أن لا يلعب مع الطفل الآخر بسبب لونه أو بسبب دينه أو بسبب جنسه. هذه التصورات تعمل على حجب الذات عن الآخر في كثير من الأحيان. في المقالة السابقة تحدثت عن كيف تحجب الثقة المفرطة في الذات والشك المفرط في الآخر فرص التواصل بينهما. هذه الحالة يعبر عنها هذا الموقف: س: لماذا لا تقول ما يُفهم، ص: لماذا لا تفهم ما يُقال. في هذا المقال سأحاول التركيز على دور التواضع في فتح مساحة لتواجد الآخر مع الذات من جديد. التواضع هنا عودة للمشهد الأول ومقاومة للتصورات السائدة عن الذات والآخر. سأتحدث عن مستويين من التواضع: التواضع بالمعنى الأخلاقي والتواضع بالمعنى المعرفي وعن كيفية عمل هذا التواضع كضيافة للآخر.
التواضع بالمعنى الأخلاقي يعني العودة لحالة المشهد الأول: الوجود مع وللآخر. هذا التواضع يعمل ضد التصورات التي تؤسس لهذه الحالات الطاردة للآخر: الوجود للذات، الوجود المستقل، الوجود المكتفي بذاته، الانغلاق على الذات، الآخر كوسيلة لتحقيق رغبات الذات، الآخر في حدود ما تريده الذات، الآخر في حدود ما تفهمه الذات. العودة للمشهد الأول تعني إدراك دور الآخر كشريك للذات، ليس فقط في العالم بل كشريك في تشكيل الذات نفسها. التعبير الدقيق لهذه الحالة هو أنه لا وجود للذات بدون الآخر. الآخر هنا ليس أداة تستعملها الذات لتحقيق رغباتها وأهدافها، بل كشرط وأساس لوجود الذات. هذا المشهد تعبير عن حالة الضيافة حين يعتقد المضيف أن لا وجود ولا معنى لضيافته بدون تلك الزيارة التي يقوم بها الآخر. الضيافة هنا ليست استعراضا للقوة رغم أن الضيف قد يكون في أشد حالات ضعفه. الضيافة إعلان بأن هناك دائما مكانا للآخر. وجود الآخر في هذا المكان يجعله هو صاحب الفضل وهذا هو فعلا شعور أهل الضيافة: الامتنان للضيف والشعور بكرم قدومه وزيارته. لا شيء يناقض الضيافة مثل التفاخر والاستعراض بها. الضيافة نقيض الكبر. التكبر طارد للآخر بينما التواضع إعلان لمساحة دائمة مفتوحة في الذات للآخر.
التواضع بالمعنى المعرفي يعني إدراك الذات لمحدودية معرفتها. هذا الإدراك يفتح الباب لقبول الاختلاف والحوار. إدراك محدودية الذات يعني فتح المجال للآخر في المشاركة والإضافة. التواضع المعرفي يؤسس للعمل التعاوني في إنتاج المعرفة. لهذا نعلم لماذا يواجه مدعو الحقائق المطلقة مشاكل جوهرية في التواصل مع الآخر. في الحقيقة المكتملة الناجزة النهائية لا دور للآخر إلا دور التبعية والتنفيذ. من هنا نفهم كيف يكون الكبر عنفا ضد الآخر. الكبر يحد من وجود الآخر ويكبت حضوره خارج استعمال الذات المتكبرة. الكبر هنا عداوة لحرية الآخر. المتكبر هنا يشبه بيتا مغلق الأبواب أو بيتا مصمتا بلا أبواب. المتواضع في المقابل يشبه بيتا مشرع الأبواب أو بيتا مشرعا بلا باب. التواضع المعرفي عبارة عن جملة تنتظر الآخر ليكملها، عبارة عن حكاية جماعية لا تنتهي وحوار بلا خاتمة.
التواضع هنا بمستوييه الأخلاقي والمعرفي يعمل ضد الثقة المفرطة في الذات والشك المفرط في الآخر. التواضع هنا يعيد الثقة بين الذات والآخر ويعيد فتح المساحة المشتركة، المساحة البينية، المساحة المفتوحة للجديد والمختلف والمفاجئ.
التواضع ضيافة لأنه انفتاح على الآخر. المتواضع الحقيقي لا يشعر أنه متواضع فهو لا يشعر بالفوقية ليقاومها بل يعتقد أن ما يفعله هو الحال الطبيعي. المضياف في المقابل يشعر أن الضيافة هي الحالة الطبيعية ولا يعتقد أنه يقوم بما هو غريب. الضيف بالنسبة للمضياف الكريم هو صاحب الفضل كما هو الآخر بالنسبة للمتواضع.
http://www.alwatan.com.sa/Articles/De...
التواضع بالمعنى الأخلاقي يعني العودة لحالة المشهد الأول: الوجود مع وللآخر. هذا التواضع يعمل ضد التصورات التي تؤسس لهذه الحالات الطاردة للآخر: الوجود للذات، الوجود المستقل، الوجود المكتفي بذاته، الانغلاق على الذات، الآخر كوسيلة لتحقيق رغبات الذات، الآخر في حدود ما تريده الذات، الآخر في حدود ما تفهمه الذات. العودة للمشهد الأول تعني إدراك دور الآخر كشريك للذات، ليس فقط في العالم بل كشريك في تشكيل الذات نفسها. التعبير الدقيق لهذه الحالة هو أنه لا وجود للذات بدون الآخر. الآخر هنا ليس أداة تستعملها الذات لتحقيق رغباتها وأهدافها، بل كشرط وأساس لوجود الذات. هذا المشهد تعبير عن حالة الضيافة حين يعتقد المضيف أن لا وجود ولا معنى لضيافته بدون تلك الزيارة التي يقوم بها الآخر. الضيافة هنا ليست استعراضا للقوة رغم أن الضيف قد يكون في أشد حالات ضعفه. الضيافة إعلان بأن هناك دائما مكانا للآخر. وجود الآخر في هذا المكان يجعله هو صاحب الفضل وهذا هو فعلا شعور أهل الضيافة: الامتنان للضيف والشعور بكرم قدومه وزيارته. لا شيء يناقض الضيافة مثل التفاخر والاستعراض بها. الضيافة نقيض الكبر. التكبر طارد للآخر بينما التواضع إعلان لمساحة دائمة مفتوحة في الذات للآخر.
التواضع بالمعنى المعرفي يعني إدراك الذات لمحدودية معرفتها. هذا الإدراك يفتح الباب لقبول الاختلاف والحوار. إدراك محدودية الذات يعني فتح المجال للآخر في المشاركة والإضافة. التواضع المعرفي يؤسس للعمل التعاوني في إنتاج المعرفة. لهذا نعلم لماذا يواجه مدعو الحقائق المطلقة مشاكل جوهرية في التواصل مع الآخر. في الحقيقة المكتملة الناجزة النهائية لا دور للآخر إلا دور التبعية والتنفيذ. من هنا نفهم كيف يكون الكبر عنفا ضد الآخر. الكبر يحد من وجود الآخر ويكبت حضوره خارج استعمال الذات المتكبرة. الكبر هنا عداوة لحرية الآخر. المتكبر هنا يشبه بيتا مغلق الأبواب أو بيتا مصمتا بلا أبواب. المتواضع في المقابل يشبه بيتا مشرع الأبواب أو بيتا مشرعا بلا باب. التواضع المعرفي عبارة عن جملة تنتظر الآخر ليكملها، عبارة عن حكاية جماعية لا تنتهي وحوار بلا خاتمة.
التواضع هنا بمستوييه الأخلاقي والمعرفي يعمل ضد الثقة المفرطة في الذات والشك المفرط في الآخر. التواضع هنا يعيد الثقة بين الذات والآخر ويعيد فتح المساحة المشتركة، المساحة البينية، المساحة المفتوحة للجديد والمختلف والمفاجئ.
التواضع ضيافة لأنه انفتاح على الآخر. المتواضع الحقيقي لا يشعر أنه متواضع فهو لا يشعر بالفوقية ليقاومها بل يعتقد أن ما يفعله هو الحال الطبيعي. المضياف في المقابل يشعر أن الضيافة هي الحالة الطبيعية ولا يعتقد أنه يقوم بما هو غريب. الضيف بالنسبة للمضياف الكريم هو صاحب الفضل كما هو الآخر بالنسبة للمتواضع.
http://www.alwatan.com.sa/Articles/De...
Published on May 17, 2016 16:25
May 10, 2016
أبو تمام وعوائق التواصل
أبو تمام وعوائق التواصلعبدالله المطيريالانغلاق على الذات موقف وجودي يمكن ملاحظته وتأمله من أكثر من جهة. الأسبوع الماضي تحدثنا عن صورة من صور الانغلاق على الذات التي يمارسها عادة أفراد "الطبقة المتعلمة". هذا الانغلاق يظهر من خلال تصوراتهم عن سعادة وتعاسة "طبقة العامة" في إطار معاييرهم الذاتية. الصورة النمطية للانغلاق على الذات تتمثل في تصور الآخر والحكم عليه انطلاقا من تصورات ومعايير الذات فقط. بهذا يكون "العامي" يسبح في نعيم الجهل، لأنه فقط لا يعرف ما يعرفه المثقف ولا يشقى الشقاء الذي يعرفه ويعترف به المثقف والمتعلم. في المقابل الانفتاح على الآخر يعني أن يكون تصورنا لسعادة الآخر انفتاحا على الآخر وعن تصوره هو للسعادة والتعاسة. الانفتاح هنا رحلة للآخر لا لقولبته وتعليبه في تصورات ذاتية، بل لفتح تجربة الوجود معه وله. العلامة الأخرى للانغلاق التي سأحاول التركيز عليها هنا هي انقطاع التواصل بين الذات والآخر. أعني بهذا الانقطاع فشل الذات والآخر في الانفتاح المتبادل. أي فشل أطراف التواصل في الحضور المشترك دون طغيان أحدهما على الآخر.
لا أعرف تعبيرا أكثر دلالة على هذا الانقطاع بين "طبقة المتعلمين" و"طبقة العامة" من هذا التعبير المتداول بكثرة في التراث: يحكى أنه قيل لأبي تمام "لماذا لا تقول ما يُفهم؟ فقال ولماذا لا تفهمون ما يقال". هنا نلاحظ كيف يرمي كل طرف مهمة الوصول للآخر على غيره. المستمع يناشد أبا تمام لتغيير خطابه ليكون مفهوما للناس فيما يرى أبو تمام أن هذه المهمة منوطة بالناس وليست مهمته. هنا كل طرف يقول: سأبقى في مكاني وعليكم الوصول لي. صورة أكثر حدة لذات الموقف نجدها في قول الشاعر: علي نحت المعاني من معادنها.. وما عليّ إذا لم تفهم البقر.
التعبيرات السابقة تشير إلى مشكلة في التواصل. هذه المشكلة ناتجة، كما سأحاول الإيضاح في هذه المقالة، عن حزمة من التصورات المعقدة عن الذات والآخر. لإيضاح ذلك سأتحدث عن تجربة شخصية كمثال لمثل هذه الحالات. قبل سفري للدراسة في الولايات المتحدة صيف 2009 كنت أشارك في نشاطات ثقافية متعددة في السعودية وفي عدد من القنوات الفضائية. في أحيان كثيرة كانت تصلني هذه الملاحظة: لماذا لا تبسّط وتوضح الأفكار فكثير من المتابعين لا يفهمون أطروحاتك. ردة فعلي التقليدية كانت إعادة المسؤولية على المتابع. كنت أقول القضايا التي أتحدث فيها معقدة بطبيعتها والقارئ يجب أن يبذل جهدا كبيرا لتصبح الصورة واضحة أمامه. كنت واثقا لدرجة كبيرة من أدواتي اللغوية، والجماعة التي كانت في بالي أثناء الكتابة والحديث هي جماعة الثقافة. في أميركا بدأت تجربتي الفكرية باللغة الإنجليزية كمتعلم جديد لهذه اللغة كانت ثقتي في أدواتي اللغوية محدودة. عندما تحدث صعوبات في التواصل مع الآخرين كنت أضع اللوم أو الجزء الأكبر منه على نفسي. بالتالي كنت أحاول تطوير مهاراتي في التواصل مع الآخرين قدر الإمكان. جزء أساسي من هذه المهارات هو محاولة إيضاح الأفكار من خلال دقة التعبير وتوفير السياق المناسب وضرب الأمثلة. لأول مرة تعلمت إجراءات مراجعات الكتابة والصياغة والمحاولات المتكررة للوصول لأوضح صيغة مناسبة. كل هذه الإجراءات كان لها هدف واحد: توفير أفضل الفرص لتواصل الذات مع الآخر. اعتقادي بأن اللوم ليس بالضرورة على الآخرين وإشراك ذاتي في مسؤولية إشكال التواصل سهّل من هذه المهمة. في المقابل لا يبدو أن أبا تمام أو محدثكم قبل البعثة كانا على استعداد للثقة في الآخرين والشك قليلا في الذات.
من هذه التجربة الشخصية يمكنني القول إن جزءا كبيرا من إشكال التواصل مع الآخر هو التصورات المسبقة عن الذات والآخر. الثقة المفرطة في الذات والشك العميق في قدرات الآخر هما جوهر التواصل المعطوب. هذا العطب في التواصل يصبح عميقا جدا إذا كان السياق الثقافي والمعرفي يقلل من قيمة "العامة" ويعاملهم بمثابة القطيع الذي لا يستجيب إلا لعقلية الراعي. تصور الناس باعتبارهم "غاغة" أو "السطحيين" و"السذج" يقف عائق أمام التواصل مع هؤلاء الناس. على المستوى الذهني هذه الأوصاف تقف عائقا أمام إمكانية تواجد الآخر كشريك فكري مع الذات، كطرف في الحوار، وعامل أساسي في فهم وحل المشاكل. على المستوى الأخلاقي هذه التصورات عن الآخر تخلق علاقة تحد من الحضور الأخلاقي للآخر كطرف قادر على تصور الخير وتحمل المسؤوليات الأخلاقية. هنا نلاحظ سبب اندفاع كثير من "المتعلمين" للعب دور المنقذ والمخلّص. هذا الإنقاذ والخلاص غالبا ما يبرر العنف ضد الآخر الذي لا يعرف مصلحته ولا يستطيع تحمل مسؤولياته بنفسه.
في أفق هذه التصورات عن الآخر ليست هناك حاجة للانفتاح على الآخر باعتبار أن أهلية مشاركته قد تم القضاء عليها. الباقي هنا هو الانغلاق على الذات والاكتفاء بتصورها عن الآخر. الآخر خارج تصورات الذات عنه، خارج القوالب التي وضعناه فيها من اللامفكر فيه أو المستحيل التفكير فيه. لا مكان هنا للجديد والمختلف والمفاجئ عن ومن الآخر. أو بتعبير آخر لا مكان للآخر الحر في هذه التصورات.
http://www.alwatan.com.sa/Articles/De...
لا أعرف تعبيرا أكثر دلالة على هذا الانقطاع بين "طبقة المتعلمين" و"طبقة العامة" من هذا التعبير المتداول بكثرة في التراث: يحكى أنه قيل لأبي تمام "لماذا لا تقول ما يُفهم؟ فقال ولماذا لا تفهمون ما يقال". هنا نلاحظ كيف يرمي كل طرف مهمة الوصول للآخر على غيره. المستمع يناشد أبا تمام لتغيير خطابه ليكون مفهوما للناس فيما يرى أبو تمام أن هذه المهمة منوطة بالناس وليست مهمته. هنا كل طرف يقول: سأبقى في مكاني وعليكم الوصول لي. صورة أكثر حدة لذات الموقف نجدها في قول الشاعر: علي نحت المعاني من معادنها.. وما عليّ إذا لم تفهم البقر.
التعبيرات السابقة تشير إلى مشكلة في التواصل. هذه المشكلة ناتجة، كما سأحاول الإيضاح في هذه المقالة، عن حزمة من التصورات المعقدة عن الذات والآخر. لإيضاح ذلك سأتحدث عن تجربة شخصية كمثال لمثل هذه الحالات. قبل سفري للدراسة في الولايات المتحدة صيف 2009 كنت أشارك في نشاطات ثقافية متعددة في السعودية وفي عدد من القنوات الفضائية. في أحيان كثيرة كانت تصلني هذه الملاحظة: لماذا لا تبسّط وتوضح الأفكار فكثير من المتابعين لا يفهمون أطروحاتك. ردة فعلي التقليدية كانت إعادة المسؤولية على المتابع. كنت أقول القضايا التي أتحدث فيها معقدة بطبيعتها والقارئ يجب أن يبذل جهدا كبيرا لتصبح الصورة واضحة أمامه. كنت واثقا لدرجة كبيرة من أدواتي اللغوية، والجماعة التي كانت في بالي أثناء الكتابة والحديث هي جماعة الثقافة. في أميركا بدأت تجربتي الفكرية باللغة الإنجليزية كمتعلم جديد لهذه اللغة كانت ثقتي في أدواتي اللغوية محدودة. عندما تحدث صعوبات في التواصل مع الآخرين كنت أضع اللوم أو الجزء الأكبر منه على نفسي. بالتالي كنت أحاول تطوير مهاراتي في التواصل مع الآخرين قدر الإمكان. جزء أساسي من هذه المهارات هو محاولة إيضاح الأفكار من خلال دقة التعبير وتوفير السياق المناسب وضرب الأمثلة. لأول مرة تعلمت إجراءات مراجعات الكتابة والصياغة والمحاولات المتكررة للوصول لأوضح صيغة مناسبة. كل هذه الإجراءات كان لها هدف واحد: توفير أفضل الفرص لتواصل الذات مع الآخر. اعتقادي بأن اللوم ليس بالضرورة على الآخرين وإشراك ذاتي في مسؤولية إشكال التواصل سهّل من هذه المهمة. في المقابل لا يبدو أن أبا تمام أو محدثكم قبل البعثة كانا على استعداد للثقة في الآخرين والشك قليلا في الذات.
من هذه التجربة الشخصية يمكنني القول إن جزءا كبيرا من إشكال التواصل مع الآخر هو التصورات المسبقة عن الذات والآخر. الثقة المفرطة في الذات والشك العميق في قدرات الآخر هما جوهر التواصل المعطوب. هذا العطب في التواصل يصبح عميقا جدا إذا كان السياق الثقافي والمعرفي يقلل من قيمة "العامة" ويعاملهم بمثابة القطيع الذي لا يستجيب إلا لعقلية الراعي. تصور الناس باعتبارهم "غاغة" أو "السطحيين" و"السذج" يقف عائق أمام التواصل مع هؤلاء الناس. على المستوى الذهني هذه الأوصاف تقف عائقا أمام إمكانية تواجد الآخر كشريك فكري مع الذات، كطرف في الحوار، وعامل أساسي في فهم وحل المشاكل. على المستوى الأخلاقي هذه التصورات عن الآخر تخلق علاقة تحد من الحضور الأخلاقي للآخر كطرف قادر على تصور الخير وتحمل المسؤوليات الأخلاقية. هنا نلاحظ سبب اندفاع كثير من "المتعلمين" للعب دور المنقذ والمخلّص. هذا الإنقاذ والخلاص غالبا ما يبرر العنف ضد الآخر الذي لا يعرف مصلحته ولا يستطيع تحمل مسؤولياته بنفسه.
في أفق هذه التصورات عن الآخر ليست هناك حاجة للانفتاح على الآخر باعتبار أن أهلية مشاركته قد تم القضاء عليها. الباقي هنا هو الانغلاق على الذات والاكتفاء بتصورها عن الآخر. الآخر خارج تصورات الذات عنه، خارج القوالب التي وضعناه فيها من اللامفكر فيه أو المستحيل التفكير فيه. لا مكان هنا للجديد والمختلف والمفاجئ عن ومن الآخر. أو بتعبير آخر لا مكان للآخر الحر في هذه التصورات.
http://www.alwatan.com.sa/Articles/De...
Published on May 10, 2016 18:23
May 4, 2016
هل "الجاهل" سعيد فعلا؟
هل "الجاهل" سعيد فعلا؟عبدالله المطيري نسمع كثيرا هذا البيت للمتنبي: "ذو العقل يشقى في النعيم بعقله/ وأخو الجهالة في الشقاوة ينعم". كما تروى المقولة التالية عن أبي سفيان الثوري: "من يزدد علما يزدد وجعا ولو لم أعلم لكان أيسر لحزني". كما ينسب للفرزدق قوله: "إذا قلّ عقل المرء قلّت همومهُ/ ومن لم يكن ذا مُقلَة كيف يُبصرُ؟!".
هذه المقولات وغيرها كثير تشير إلى علاقة طردية بين الجهل والسعادة. يبدو لي أن الصورة كالتالي: العلم يفتح آفاق الإنسان ويساعده على أن يرى ما لم يكن يراه في السابق. هذا يعني رؤية المزيد من المشاكل والآلام في هذا العالم مما يرفع من احتمالات شقاء الإنسان. في المقابل "الجاهل" وبسبب رؤيته المحدودة فإنه يبقى محجوبا عن هذه المشاكل والآلام مما يحميه من الشقاء الناتج عنها ويرفع من احتمالات سعادته. هذه هذي الصورة المتداولة ولكنني أعتقد أنها غير صحيحة وناتجة عن تصورات نمطية غير دقيقة للبشر الذين عادة ما ينظر لهم "المثقفون" أو "المتعلمون" على أنهم جهلة أو عامة. هذه الصور النمطية ناتجة كذلك عن تصورات غير دقيقة للتجربة الإنسانية وعلاقتها بالسعادة. الصورة النمطية عند المثقفين عن العامة أن حياتهم محدودة لأنهم لا يعرفون ما يعرفه أهل المعرفة. هذه المحدودية تحمي أصحابها من رؤية ما يراه أهل المعرفة من المشاكل السياسية والاقتصادية والأخلاقية، وبالتالي تخفف من احتمالات تعاستهم. هذه برأيي صورة من الخارج لا أكثر ونظرة يصح أن نصفها بنظرة من البرج العالي. أي أنها تنظر لحياة "العامة" من عين غيرهم وتحكم عليهم من الخارج. هذه مشكلة جوهرية خصوصا حين نفكر في السعادة. السعادة حالة شعورية شخصية ذاتية لا يصح فيها التقييم الخارجي. بمعنى أن حكم الآخرين بأن فلانا سعيد لا معنى له إذا لم يكن ذلك الشخص يشعر بالسعادة. لذا فإن أحكام "أهل المعرفة" على "العامة" بأنهم سعداء لا معنى لها إذا لم نأخذ بعين الاعتبار رؤية هؤلاء الناس "العامة" عن سعادتهم. الواقع والملاحظات عن الناس في التاريخ تقول إن الحزن جزء أساسي من تجربة البشر جميعا، وأن الصورة التي يرسمها "أهل المعرفة" لـ"العامة" بأنهم يسبحون في أنهار السعادة لا صحة لها. ربما لا يحزن هؤلاء الناس لذات الأسباب التي يحزن لها المثقف ولكن هذا لا يعني أنهم يحزنون أو أنهم يحزنون أقل من غيرهم. هنا يبدو "أهل المعرفة" في صورة المنغلق على ذاته، فلا حزن إلا الحزن الذي يشبه حزنه ولا تعاسة إلا ما يطابق تعاسته. هذا الانغلاق يمكن توضيحه بأمثلة بسيطة كالتالي:
(س) من الناس الذين تنطبق عليهم الصورة النمطية للمثقفين، أي أنه لا يشغل باله بالقضايا العامة أو أنه متبن للتصورات السائدة ولا يشغل نفسه بالتفكير النقدي ولا بالمساءلة مما يريح باله من هذا الجانب. لكن صاحبنا (س) طمّاع وحسود وهذا الطمع والحسد يحيل حياته إلى جحيم لا يطاق. في هذا المشهد تتبخر كل الصور النمطية عن راحة بال وسعادة "العوام" أو "الجهلة". الحسد والطمع مشكلتان لا يحمي منهما الجهل ولا التخلف. السعادة في المقابل لا تأبه لمعايير المثقفين ولا لأسبابهم. التعاسة قد تنتج عن أسباب متعددة ولا يهم فيها أي حكم خارجي على هذا السبب أو ذاك من الخارج. الغيرة التي تسيطر على العاشق وتتسبب في تعاسته عدو للسعادة، مهما قلنا عنها إنها سبب تافه أو بسيط. الصورة النمطية عن حياة العامة أنها حياة بسيطة غير دقيقة، لأنه لا توجد حياة بسيطة على هذه الأرض. كل تجربة بشرية معقدة ومركبة. نلاحظ مثلا حياة الأطفال السابقة على تعريفات المعرفة والجهل هي حياة في غاية التركيب والتعقيد لا تزال تحيّر علماء الطفولة. هذا التعقيد والتركيب يستمر ويمتد مع امتداد الحياة. هذا التعقيد والتركيب قد يقود الإنسان إلى تصورات عن فراغ حياته كما نجد عند بعض المنتحرين لكن هذا صحيح فقط في الأحكام الذاتية لا الخارجية. كل إنسان جزء من الشبكة الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والنفسية في تجربته المعيشية ولا مجال للهروب منها. مهما تصور "أهل المعرفة" الإنسان البسيط فإن حياته لا تقل تعقيدا عن حياتهم على الأقل من وجهة نظره فهو مشغول بقضايا مهمة وأساسية في حياته قد تنحصر في تربية أطفاله ولكن هذه التربية بالنسبة له تعادل أهمية وتعقيد إدارة العالم. تفاصيل هذه المهمة تؤثر بشكل عميق في سعادته يعادل أو ربما يزيد عن تأثير القضايا العالمية والشعبية في حياة "المفكر" أو "المثقف". نعلم تماما أن "أهل المعرفة" رغم الصور النمطية التي يحبون الظهور بها كمهتمين بالقضايا الحقيقية نجد أن كثيرا منهم لم ينجح في تجاوز "تفاهات الحياة" من الحسد والغيرة من الأقران والطمع في المال والشهرة والمنصب والانتصار على الخصوم. نعلم تماما الدعم الذي قدمه عدد كبير من "أهل المعرفة" من مثقفين ورجال دين وشعراء للظلم طمعا في مكاسب ذاتية.
هذه المناقشة تسعى لنقد المقولات المتداولة التي تربط السعادة بالجهل والتعاسة بالمعرفة. هذه المقولات تكشف علاقة ذات "أهل المعرفة" بالآخر "العامي أو الجاهل". التصور النمطي عن الآخر مشغول بالذات ويعجز عن رؤية الآخر بشكل أعمق. المثقف الذي يشاهد جموع الناس من شرفة سكنه ويغبطهم على السلوان والدعة مشغول بذاته ولا يرى تعقيدا ولا حزنا إلا ما وافقه. سأحاول في المقالة القادمة تسليط مزيد من التحليل عن انغلاق "أهل المعرفة" على ذواتهم في أحكامهم على الآخر.http://www.alwatan.com.sa/Articles/De...
هذه المقولات وغيرها كثير تشير إلى علاقة طردية بين الجهل والسعادة. يبدو لي أن الصورة كالتالي: العلم يفتح آفاق الإنسان ويساعده على أن يرى ما لم يكن يراه في السابق. هذا يعني رؤية المزيد من المشاكل والآلام في هذا العالم مما يرفع من احتمالات شقاء الإنسان. في المقابل "الجاهل" وبسبب رؤيته المحدودة فإنه يبقى محجوبا عن هذه المشاكل والآلام مما يحميه من الشقاء الناتج عنها ويرفع من احتمالات سعادته. هذه هذي الصورة المتداولة ولكنني أعتقد أنها غير صحيحة وناتجة عن تصورات نمطية غير دقيقة للبشر الذين عادة ما ينظر لهم "المثقفون" أو "المتعلمون" على أنهم جهلة أو عامة. هذه الصور النمطية ناتجة كذلك عن تصورات غير دقيقة للتجربة الإنسانية وعلاقتها بالسعادة. الصورة النمطية عند المثقفين عن العامة أن حياتهم محدودة لأنهم لا يعرفون ما يعرفه أهل المعرفة. هذه المحدودية تحمي أصحابها من رؤية ما يراه أهل المعرفة من المشاكل السياسية والاقتصادية والأخلاقية، وبالتالي تخفف من احتمالات تعاستهم. هذه برأيي صورة من الخارج لا أكثر ونظرة يصح أن نصفها بنظرة من البرج العالي. أي أنها تنظر لحياة "العامة" من عين غيرهم وتحكم عليهم من الخارج. هذه مشكلة جوهرية خصوصا حين نفكر في السعادة. السعادة حالة شعورية شخصية ذاتية لا يصح فيها التقييم الخارجي. بمعنى أن حكم الآخرين بأن فلانا سعيد لا معنى له إذا لم يكن ذلك الشخص يشعر بالسعادة. لذا فإن أحكام "أهل المعرفة" على "العامة" بأنهم سعداء لا معنى لها إذا لم نأخذ بعين الاعتبار رؤية هؤلاء الناس "العامة" عن سعادتهم. الواقع والملاحظات عن الناس في التاريخ تقول إن الحزن جزء أساسي من تجربة البشر جميعا، وأن الصورة التي يرسمها "أهل المعرفة" لـ"العامة" بأنهم يسبحون في أنهار السعادة لا صحة لها. ربما لا يحزن هؤلاء الناس لذات الأسباب التي يحزن لها المثقف ولكن هذا لا يعني أنهم يحزنون أو أنهم يحزنون أقل من غيرهم. هنا يبدو "أهل المعرفة" في صورة المنغلق على ذاته، فلا حزن إلا الحزن الذي يشبه حزنه ولا تعاسة إلا ما يطابق تعاسته. هذا الانغلاق يمكن توضيحه بأمثلة بسيطة كالتالي:
(س) من الناس الذين تنطبق عليهم الصورة النمطية للمثقفين، أي أنه لا يشغل باله بالقضايا العامة أو أنه متبن للتصورات السائدة ولا يشغل نفسه بالتفكير النقدي ولا بالمساءلة مما يريح باله من هذا الجانب. لكن صاحبنا (س) طمّاع وحسود وهذا الطمع والحسد يحيل حياته إلى جحيم لا يطاق. في هذا المشهد تتبخر كل الصور النمطية عن راحة بال وسعادة "العوام" أو "الجهلة". الحسد والطمع مشكلتان لا يحمي منهما الجهل ولا التخلف. السعادة في المقابل لا تأبه لمعايير المثقفين ولا لأسبابهم. التعاسة قد تنتج عن أسباب متعددة ولا يهم فيها أي حكم خارجي على هذا السبب أو ذاك من الخارج. الغيرة التي تسيطر على العاشق وتتسبب في تعاسته عدو للسعادة، مهما قلنا عنها إنها سبب تافه أو بسيط. الصورة النمطية عن حياة العامة أنها حياة بسيطة غير دقيقة، لأنه لا توجد حياة بسيطة على هذه الأرض. كل تجربة بشرية معقدة ومركبة. نلاحظ مثلا حياة الأطفال السابقة على تعريفات المعرفة والجهل هي حياة في غاية التركيب والتعقيد لا تزال تحيّر علماء الطفولة. هذا التعقيد والتركيب يستمر ويمتد مع امتداد الحياة. هذا التعقيد والتركيب قد يقود الإنسان إلى تصورات عن فراغ حياته كما نجد عند بعض المنتحرين لكن هذا صحيح فقط في الأحكام الذاتية لا الخارجية. كل إنسان جزء من الشبكة الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والنفسية في تجربته المعيشية ولا مجال للهروب منها. مهما تصور "أهل المعرفة" الإنسان البسيط فإن حياته لا تقل تعقيدا عن حياتهم على الأقل من وجهة نظره فهو مشغول بقضايا مهمة وأساسية في حياته قد تنحصر في تربية أطفاله ولكن هذه التربية بالنسبة له تعادل أهمية وتعقيد إدارة العالم. تفاصيل هذه المهمة تؤثر بشكل عميق في سعادته يعادل أو ربما يزيد عن تأثير القضايا العالمية والشعبية في حياة "المفكر" أو "المثقف". نعلم تماما أن "أهل المعرفة" رغم الصور النمطية التي يحبون الظهور بها كمهتمين بالقضايا الحقيقية نجد أن كثيرا منهم لم ينجح في تجاوز "تفاهات الحياة" من الحسد والغيرة من الأقران والطمع في المال والشهرة والمنصب والانتصار على الخصوم. نعلم تماما الدعم الذي قدمه عدد كبير من "أهل المعرفة" من مثقفين ورجال دين وشعراء للظلم طمعا في مكاسب ذاتية.
هذه المناقشة تسعى لنقد المقولات المتداولة التي تربط السعادة بالجهل والتعاسة بالمعرفة. هذه المقولات تكشف علاقة ذات "أهل المعرفة" بالآخر "العامي أو الجاهل". التصور النمطي عن الآخر مشغول بالذات ويعجز عن رؤية الآخر بشكل أعمق. المثقف الذي يشاهد جموع الناس من شرفة سكنه ويغبطهم على السلوان والدعة مشغول بذاته ولا يرى تعقيدا ولا حزنا إلا ما وافقه. سأحاول في المقالة القادمة تسليط مزيد من التحليل عن انغلاق "أهل المعرفة" على ذواتهم في أحكامهم على الآخر.http://www.alwatan.com.sa/Articles/De...
Published on May 04, 2016 04:29
April 26, 2016
في سياقات العدالة
في سياقات العدالةعبدالله المطيريأبتهج كثيرا حين تنطلق نقاشات عمومية عن العدالة. أي حين ينشأ جدل عمومي حول ما نعتبره عدلا أو ظلما أو حقا أو باطلا. هذا النقاش يدفعنا بالاتجاه المعاكس لجدالات نحن وهم. الجدالات الأخيرة (نحن/هم) تنتمي لما أسميته سابقا بمنطق الجماعة وهو منطق للحشد يتم فيه تعطيل سؤال الحق والباطل ويستبدل بسؤال هل أنت معنا أم معهم. قبل أيام عجّت وسائل التواصل الاجتماعي بنقاش تقرير قديم تمت إعادة تداوله عن مطالبة سيدات منطقة معينة في السعودية بالعمل في المنازل كعمل شريف. الأطروحة كانت كالتالي: هؤلاء السيدات لا يملكن شهادات تؤهلهن للعمل في الوظائف الحكومية وهن قادرات على العمل جسديا، فلماذا لا يعملن في مجال الخدمة المنزلية وهو مجال عليه طلب متزايد؟ طبعا هذه الأطروحة أثارة غضبا شديدا واعتراضات مختلفة. ما سأحاول عمله في هذا المقال هو تصنيف ردود الفعل ومحاولة ربط كل صنف بتصور معيّن للعدالة.
الفكرة أن العدالة يمكن أن تفهم في سياقات مختلفة وهذا الجدل العمومي سيكون المثال الذي يفترض أن يوضح هذه الفكرة. أول ردود الفعل اعترض على مبدأ الفكرة وهو العمل في هذا المجال: خدمة المنازل. غالب الناس لم يحدد سبب هذا الرفض المبدئي، لكن يمكن أن نستشف احتمالات خلف هذا الرفض، منها: أن هذا العمل من الأعمال الوضيعة التي لا يرضاها الإنسان على نفسه. من هنا يكون الغضب على كاتبة التقرير أنها دعت الآخرين لعمل وضيع لا ترضاه هي على نفسها. هنا نحن أمام حكم قيمة بوضاعة هذا العمل وشعور بالمساواة بين المعترض مع صاحب الأطروحة. هذا التصور للعدالة يقوم على تصور للكرامة الإنسانية الفردية ويعتقد أن كل ما يقلل من هذه الكرامة نقيض للعدالة بالضرورة. هذا التصور ينطلق من الصورة التي ستنتج عن أطروحة التقرير: أنا سأقوم بتنظيف منازل الآخرين. هذه الجملة تصطدم بتصور هذا الإنسان لكرامته الذاتية. يمكن تخفيف هذا التصور ليكون: نعم هذا العمل شريف لكنه في آخر القائمة لو كان لدينا فرصة للاختيار. هنا يكون اعتراض الكرامة نابع من حصر الخيارات في الخيار الوحيد القابع في آخر القائمة. في مثل هذه الاعتراضات لن يتم القبول من أي شخص آخر أن يطلب مني العمل في هذه المهنة. الحالة الوحيدة التي يمكن أن تجعلني أعمل في هذه المهنة أن يكون ذلك بقراري الخاص. اتخاذ القرار شخصيا يحفظ للفرد مستوى معينا من الشعور بالكرامة ويزيل عن تصوره فكرة انقياده لإرادة كائن آخر. في هذا التصور نلاحظ أهمية الكرامة الإنسانية في تصورات العدالة، ويصبح من المهم في أي نظرية أن تراعي كرامة الآخرين في تصوراتها.
واحدة من طرق حفظ هذه الكرامة نجدها عند (جون رولز) حين يقوم بتثبيت حقوق أساسية للأفراد لا تخضع للمفاوضات والتجاذبات السياسية تحفظ لهم حق المساواة في الحقوق والحريات الأساسية. يفترض في هذه الحالة أن لا يُترك الفرد أمام خيار واحد هو خياره الأسوأ.
الاعتراض الآخر جاد من منظور مناطقي. الاعتراض كان كالتالي: تخصيص منطقة معينة غير مقبول ويشير إلى التفاوت التنموي بين المناطق. هنا نلاحظ كذلك إحساسا بالحق في المساواة يعترض على أطروحة ناتجة عن تمييز طويل ضد منطقة معينة من مناطق الوطن. لكن ماذا لو كانت صاحبة التقرير من نفس المنطقة؟ أتوقع أن هذا سيحدث تغييرا مهما في التعامل مع الأطروحة. لو كانت صاحبة الطرح من ذات المنطقة التي يشعر أهلها بالتمييز المناطقي ضدهم فلا أظن موقفهم الغاضب سيتغيّر. بل ربما سيرتفع بسبب شعورهم بالخيانة ممن كانوا يعتقدون أنها ستنتصر لهم. أما لو كانت الكاتبة من منطقة لا يشعر أهلها بالتمييز ضدهم ووجهت المطالبة لنساء هذه المنطقة "غير المتعلمات" بالعمل في الخدمة المنزلية فلا أعلم كيف ستكون ردة الفعل. الأكيد أن أطروحتها ستلبي اشتراطا أخلاقيا مهما هو أن الأطروحة التي ينتج عنها تفاوت في القوى بين الأفراد: عامل/صاحب عمل، خادم/مخدوم يجب أن تقدم للذات لا للآخر. هنا سندخل في جدل مع أفراد الجماعة التي يتم تصنيفها "الذات"، أي جماعة المنطقة التي تنتمي لها الكاتبة. هذا الاعتراض ناتج عن تصور يربط العدالة بالمساواة المناطقية، لكن ماذا لو أزلنا المنطقة من الأطروحة الأساسية؟ أي أن تصبح الفكرة كالتالي: يجب أن نشجع غير المتعلمات من السعوديات على العمل في الخدمة المنزلية. هنا تخلصنا من تحديد أي منطقة بعينها داخل الوطن السعودي. هل انتهت المشكلة؟ لا أظن.
الأطروحة الأخيرة ستثير مشكلة العدالة بالمعنى الطبقي الاقتصادي. نحن هنا أمام طبقتين: الطبقة المتعلمة والطبقة غير المتعلمة. الطبقة المتعلمة (الغنية) تريد من الطبقة غير المتعلمة (الفقيرة) العمل في خدمة المنازل عندها. الاعتراض من منظور العدالة هنا سيكون: هل هذه التقسيمة: متعلمون وغير متعلمين وما ينتج عنها نتيجة لظروف عادلة أم نتيجة لظروف غير عادلة؟ الظروف العادلة يمكن فهمها بطرق مختلفة منها: تكافؤ الفرص. هنا يصبح المعنى: هل كوني غير متعلم وأنت متعلم ناتج عن فرص متكافئة بيننا؟ إذا كان الجواب بالنفي فإن غير المتعلم يحتاج للدعم الخاص لرفع فرصه في العمل والمنافسة، بدلا من حصره في خيار واحد. هذا الفهم يفتح أهمية نقاش العدالة التوزيعية بين المناطق وبين الأفراد والجماعات داخل هذه المناطق.
النقاش السابق يفترض أن يشير إلى سياقات مختلفة لفهمنا وتعاملنا مع قضايا العدالة. العدالة مرتبطة بشكل جوهري برؤية الناس لكرامتهم الشخصية وعلاقتهم بغيرهم. العدالة كذلك مرتبطة بتصوراتنا للمساواة بين المناطق أو الأعراق أو الذكور والإناث. لا ننسى كذلك الفهم الطبقي للعدالة وعلاقته بتوزيع الثروات وتكافؤ الفرص في المجتمع. كان النقاش الجماعي فاتحة مهمة لنقاش قضية العدالة وعلى أمل المزيد من النقاش في قضايا العدالة التي تربط الأخلاق بالواقع.http://www.alwatan.com.sa/Articles/De...
الفكرة أن العدالة يمكن أن تفهم في سياقات مختلفة وهذا الجدل العمومي سيكون المثال الذي يفترض أن يوضح هذه الفكرة. أول ردود الفعل اعترض على مبدأ الفكرة وهو العمل في هذا المجال: خدمة المنازل. غالب الناس لم يحدد سبب هذا الرفض المبدئي، لكن يمكن أن نستشف احتمالات خلف هذا الرفض، منها: أن هذا العمل من الأعمال الوضيعة التي لا يرضاها الإنسان على نفسه. من هنا يكون الغضب على كاتبة التقرير أنها دعت الآخرين لعمل وضيع لا ترضاه هي على نفسها. هنا نحن أمام حكم قيمة بوضاعة هذا العمل وشعور بالمساواة بين المعترض مع صاحب الأطروحة. هذا التصور للعدالة يقوم على تصور للكرامة الإنسانية الفردية ويعتقد أن كل ما يقلل من هذه الكرامة نقيض للعدالة بالضرورة. هذا التصور ينطلق من الصورة التي ستنتج عن أطروحة التقرير: أنا سأقوم بتنظيف منازل الآخرين. هذه الجملة تصطدم بتصور هذا الإنسان لكرامته الذاتية. يمكن تخفيف هذا التصور ليكون: نعم هذا العمل شريف لكنه في آخر القائمة لو كان لدينا فرصة للاختيار. هنا يكون اعتراض الكرامة نابع من حصر الخيارات في الخيار الوحيد القابع في آخر القائمة. في مثل هذه الاعتراضات لن يتم القبول من أي شخص آخر أن يطلب مني العمل في هذه المهنة. الحالة الوحيدة التي يمكن أن تجعلني أعمل في هذه المهنة أن يكون ذلك بقراري الخاص. اتخاذ القرار شخصيا يحفظ للفرد مستوى معينا من الشعور بالكرامة ويزيل عن تصوره فكرة انقياده لإرادة كائن آخر. في هذا التصور نلاحظ أهمية الكرامة الإنسانية في تصورات العدالة، ويصبح من المهم في أي نظرية أن تراعي كرامة الآخرين في تصوراتها.
واحدة من طرق حفظ هذه الكرامة نجدها عند (جون رولز) حين يقوم بتثبيت حقوق أساسية للأفراد لا تخضع للمفاوضات والتجاذبات السياسية تحفظ لهم حق المساواة في الحقوق والحريات الأساسية. يفترض في هذه الحالة أن لا يُترك الفرد أمام خيار واحد هو خياره الأسوأ.
الاعتراض الآخر جاد من منظور مناطقي. الاعتراض كان كالتالي: تخصيص منطقة معينة غير مقبول ويشير إلى التفاوت التنموي بين المناطق. هنا نلاحظ كذلك إحساسا بالحق في المساواة يعترض على أطروحة ناتجة عن تمييز طويل ضد منطقة معينة من مناطق الوطن. لكن ماذا لو كانت صاحبة التقرير من نفس المنطقة؟ أتوقع أن هذا سيحدث تغييرا مهما في التعامل مع الأطروحة. لو كانت صاحبة الطرح من ذات المنطقة التي يشعر أهلها بالتمييز المناطقي ضدهم فلا أظن موقفهم الغاضب سيتغيّر. بل ربما سيرتفع بسبب شعورهم بالخيانة ممن كانوا يعتقدون أنها ستنتصر لهم. أما لو كانت الكاتبة من منطقة لا يشعر أهلها بالتمييز ضدهم ووجهت المطالبة لنساء هذه المنطقة "غير المتعلمات" بالعمل في الخدمة المنزلية فلا أعلم كيف ستكون ردة الفعل. الأكيد أن أطروحتها ستلبي اشتراطا أخلاقيا مهما هو أن الأطروحة التي ينتج عنها تفاوت في القوى بين الأفراد: عامل/صاحب عمل، خادم/مخدوم يجب أن تقدم للذات لا للآخر. هنا سندخل في جدل مع أفراد الجماعة التي يتم تصنيفها "الذات"، أي جماعة المنطقة التي تنتمي لها الكاتبة. هذا الاعتراض ناتج عن تصور يربط العدالة بالمساواة المناطقية، لكن ماذا لو أزلنا المنطقة من الأطروحة الأساسية؟ أي أن تصبح الفكرة كالتالي: يجب أن نشجع غير المتعلمات من السعوديات على العمل في الخدمة المنزلية. هنا تخلصنا من تحديد أي منطقة بعينها داخل الوطن السعودي. هل انتهت المشكلة؟ لا أظن.
الأطروحة الأخيرة ستثير مشكلة العدالة بالمعنى الطبقي الاقتصادي. نحن هنا أمام طبقتين: الطبقة المتعلمة والطبقة غير المتعلمة. الطبقة المتعلمة (الغنية) تريد من الطبقة غير المتعلمة (الفقيرة) العمل في خدمة المنازل عندها. الاعتراض من منظور العدالة هنا سيكون: هل هذه التقسيمة: متعلمون وغير متعلمين وما ينتج عنها نتيجة لظروف عادلة أم نتيجة لظروف غير عادلة؟ الظروف العادلة يمكن فهمها بطرق مختلفة منها: تكافؤ الفرص. هنا يصبح المعنى: هل كوني غير متعلم وأنت متعلم ناتج عن فرص متكافئة بيننا؟ إذا كان الجواب بالنفي فإن غير المتعلم يحتاج للدعم الخاص لرفع فرصه في العمل والمنافسة، بدلا من حصره في خيار واحد. هذا الفهم يفتح أهمية نقاش العدالة التوزيعية بين المناطق وبين الأفراد والجماعات داخل هذه المناطق.
النقاش السابق يفترض أن يشير إلى سياقات مختلفة لفهمنا وتعاملنا مع قضايا العدالة. العدالة مرتبطة بشكل جوهري برؤية الناس لكرامتهم الشخصية وعلاقتهم بغيرهم. العدالة كذلك مرتبطة بتصوراتنا للمساواة بين المناطق أو الأعراق أو الذكور والإناث. لا ننسى كذلك الفهم الطبقي للعدالة وعلاقته بتوزيع الثروات وتكافؤ الفرص في المجتمع. كان النقاش الجماعي فاتحة مهمة لنقاش قضية العدالة وعلى أمل المزيد من النقاش في قضايا العدالة التي تربط الأخلاق بالواقع.http://www.alwatan.com.sa/Articles/De...
Published on April 26, 2016 16:04
April 19, 2016
العناد كعلامة على التبعية
العناد كعلامة على التبعيةعبدالله المطيريتحليلنا للعناد هنا هو استمرار للتفكير في الأطروحة الأساسية وهي أن هناك نوعا من التبعية مغلفا بشعارات الاستقلال. التابع "المستقل" هو شخص يتحرك بناء على مواقف الآخرين ولكن في الاتجاه المعاكس. قرار هذا الشخص تابع لقرارات الآخرين ولكنه يختلف عن التابع بدون شعارات أنه يتخذ الاتجاه المعاكس. بمعنى آخر يمكننا معرفة موقف هذا الشخص مسبقا من خلال معرفة مواقف الآخرين. إذا كنا نستطيع تحديد موقف التابع المباشر كموافق للآخرين فإننا كذلك نستطيع أن نحدد موقف التابع بشعارات الاستقلال بأنه سيخالف الآخرين. القضية بالنسبة لهذا الموقف ليست اتخاذ موقف بناء على معايير الصواب والحق ولكنها اتخاذ موقف من الآخرين. القضايا هنا لا تهم، الآخرون والعلاقات معهم هي ما يحدد مواقف التابع الذي يدعي الاستقلال. كمثال على هذه الحالة أريد تحليل موقف العناد. العناد يمكن تعريفه على أنه رفض لتغيير المواقف بغض النظر عن الأدلة. أي أن الشخص العنيد يرفض أن يغيّر موقفه حتى ولو اتضحت له أدلة جديدة تخالف الأدلة التي استند عليها في تحديد موقفه. يمكن تقسيم العناد بناء على هذا التعريف بالعناد العملي والعناد النظري. العناد العملي يضعنا في هذا المشهد: -1 أ يتبنى الموقف س، -2 أ يعلم فعلا أن هناك أدلة على أن الموقف س غير صحيح. -3 أ يبقى على موقفه الأساسي بتبني س. هذا المشهد يفترض أن يحدد العناد بدقة ويفرّق بينه وبين الأحكام التي نصدرها على الآخرين بأنهم معاندون لأنهم لا يتفقون معنا. العناد هنا هو اجتماع موقفين عند ذات الشخص وليس عند غيره. هو ذاته يعلم بوجود ما يخالف موقفه ويعلم بصحة هذه الأدلة ورغم ذلك يبقى على موقفه. أو أن يتخذ موقفا مبدئيا برفض النظر في الأدلة، وهذا ما يمكن تسميته بالعناد النظري. مشهد المعاند النظري كالتالي: -1 ب يتبنى الموقف ص. -2 ب يقرر أن يستمر في تبني ص بغض النظر عن الأدلة. 3 - ب يستمر في تبني ص. هذا ما يمكن وصفه بالدوغما أو الانغلاق الفكري بحيث يتم حسم الموقف الفكري بغض النظر عن أي تطورات في الفكر أو في الواقع.
العناد يعتبر مشكلة لعدة أسباب معرفية وأخلاقية ومنطقية. أولا: أنه يناقض الموقف الطبيعي في بناء المواقف على الأدلة. الذي يجعل المواقف تتفاوت هو قربها وبعدها من الإثباتات والبراهين. العناد يلغي هذه الفكرة ويجعل الأدلة والبراهين هامشية. العناد هنا يعطّل البحث المعرفي والتساؤل وتعديل وتطوير المواقف. العناد هنا تعبير عن انقطاع التواصل بين البشر باعتبار أن التواصل قائم على أن ما نقوله لبعض يمكن أن يؤدي لتغيير المواقف بيننا. إذا كان هذا الباب مغلقا سلفا فنحن مع مواقف ذاتية بلا علاقات.
ثانيا: العناد تترتب عليه مواقف ظالمة تجاه الآخرين. المعاند يعتقد أن دائرته المغلقة كافية لتبرير قراراته التي قد تؤدي إلى نتائج سلبية على الآخرين. المشكل الأخلاقي هنا يتمثل في أن المعاند لا يعطي الآخر حقه في الأخذ بعين الاعتبار ما يجد من تطورات وبراهين وأدلة. لتصوّر هذه النقطة يكفي أن نتخيل قاضيا معاندا! الإشكال الثالث خلف العناد أن يحتوي على تناقض. المعاند يقول إنه يرفض الأخذ بالأدلة الجديدة لأنه يعلم يقينا أن موقفه الأول صحيح. إذا كان هذا العلم صحيحا فالمفترض ألا يخشى المعاند من الأدلة الجديدة لأنها لن تتعارض مع موقفه الأساسي باعتبار أنه صحيح دائما وأبدا. لذا فالمعاند يناقض نفسه بانغلاقه على ذاته ورفض استمرار النظر في الأدلة رغم اعتقاده أنه على حق. صاحب الحق أولى بالانفتاح من الانغلاق.
إذا كانت هذه المشاكل حقيقية في العناد فلماذا إذن يعاند الناس؟ التفسير الأقرب برأيي للعناد هو تفسير نفسي سيكولوجي. لا يوجد تبرير معرفي للعناد. نلاحظ هنا أن تعريفنا للعناد لا يشمل أولئك الذين يقاومون إحباطات الآخرين لهم ويثقون في ذواتهم. هؤلاء لا تزال الصورة معقولة في موقفهم فأطروحات الآخرين مرفوضة ليس ابتداءً بل مقارنة بما يعرفونه عن ذواتهم. طبعا قد تكون تصوراتهم عن ذواتهم غير دقيقة ولكنه هذا موضوع أعمق يحتاج نقاشا منفصلا. التفسير السيكولوجي/ النفسي للعناد كالتالي: المعاند يريد إثبات وجوده وقوة شخصيته أمام الآخرين. المعاند يخاف جدا من موافقة الآخرين لأنها تثير خوفه على استقلاله. المعاند يخاف من الآخرين لذا فهو قلق من التعاون معهم. الصراع مع الآخرين هو ما يعطيه الأمان على وجوده. المعاند هنا نتيجة لتجربة صعبة هزّت ثقة هذا الإنسان في نفسه وجعلته لا يعرف طريقا لاستعادة هذه الثقة إلا بالصراع مع الآخرين. العناد هنا محاولة لاستعادة مكانة الذات ولكن بشكل مضطرب. إذا كان الطفل التابع يبحث عن وجوده الاجتماعي من خلال تقليد الآخرين وطاعتهم فإن الطفل العنيد يبحث عن وجوده الذاتي من خلال مخالفة الآخرين. الطفل الأكثر استقرارا وأمنا يحقق وجوده الاجتماعي بحسبة مفتوحة ليست محددة سلفا، فهو قد يوافق الآخرين متى ما رأى الموافقة، وقد يخالفهم متى ما رأى ما يقنعه بمخالفتهم. هذا الانفتاح هو التعبير الدقيق عن الاستقلال والحرية. المعاند أسير دوغما ووثوقية تحجب عنه التواصل مع الآخرين بحرية وباستقرار.
http://www.alwatan.com.sa/Articles/De...
العناد يعتبر مشكلة لعدة أسباب معرفية وأخلاقية ومنطقية. أولا: أنه يناقض الموقف الطبيعي في بناء المواقف على الأدلة. الذي يجعل المواقف تتفاوت هو قربها وبعدها من الإثباتات والبراهين. العناد يلغي هذه الفكرة ويجعل الأدلة والبراهين هامشية. العناد هنا يعطّل البحث المعرفي والتساؤل وتعديل وتطوير المواقف. العناد هنا تعبير عن انقطاع التواصل بين البشر باعتبار أن التواصل قائم على أن ما نقوله لبعض يمكن أن يؤدي لتغيير المواقف بيننا. إذا كان هذا الباب مغلقا سلفا فنحن مع مواقف ذاتية بلا علاقات.
ثانيا: العناد تترتب عليه مواقف ظالمة تجاه الآخرين. المعاند يعتقد أن دائرته المغلقة كافية لتبرير قراراته التي قد تؤدي إلى نتائج سلبية على الآخرين. المشكل الأخلاقي هنا يتمثل في أن المعاند لا يعطي الآخر حقه في الأخذ بعين الاعتبار ما يجد من تطورات وبراهين وأدلة. لتصوّر هذه النقطة يكفي أن نتخيل قاضيا معاندا! الإشكال الثالث خلف العناد أن يحتوي على تناقض. المعاند يقول إنه يرفض الأخذ بالأدلة الجديدة لأنه يعلم يقينا أن موقفه الأول صحيح. إذا كان هذا العلم صحيحا فالمفترض ألا يخشى المعاند من الأدلة الجديدة لأنها لن تتعارض مع موقفه الأساسي باعتبار أنه صحيح دائما وأبدا. لذا فالمعاند يناقض نفسه بانغلاقه على ذاته ورفض استمرار النظر في الأدلة رغم اعتقاده أنه على حق. صاحب الحق أولى بالانفتاح من الانغلاق.
إذا كانت هذه المشاكل حقيقية في العناد فلماذا إذن يعاند الناس؟ التفسير الأقرب برأيي للعناد هو تفسير نفسي سيكولوجي. لا يوجد تبرير معرفي للعناد. نلاحظ هنا أن تعريفنا للعناد لا يشمل أولئك الذين يقاومون إحباطات الآخرين لهم ويثقون في ذواتهم. هؤلاء لا تزال الصورة معقولة في موقفهم فأطروحات الآخرين مرفوضة ليس ابتداءً بل مقارنة بما يعرفونه عن ذواتهم. طبعا قد تكون تصوراتهم عن ذواتهم غير دقيقة ولكنه هذا موضوع أعمق يحتاج نقاشا منفصلا. التفسير السيكولوجي/ النفسي للعناد كالتالي: المعاند يريد إثبات وجوده وقوة شخصيته أمام الآخرين. المعاند يخاف جدا من موافقة الآخرين لأنها تثير خوفه على استقلاله. المعاند يخاف من الآخرين لذا فهو قلق من التعاون معهم. الصراع مع الآخرين هو ما يعطيه الأمان على وجوده. المعاند هنا نتيجة لتجربة صعبة هزّت ثقة هذا الإنسان في نفسه وجعلته لا يعرف طريقا لاستعادة هذه الثقة إلا بالصراع مع الآخرين. العناد هنا محاولة لاستعادة مكانة الذات ولكن بشكل مضطرب. إذا كان الطفل التابع يبحث عن وجوده الاجتماعي من خلال تقليد الآخرين وطاعتهم فإن الطفل العنيد يبحث عن وجوده الذاتي من خلال مخالفة الآخرين. الطفل الأكثر استقرارا وأمنا يحقق وجوده الاجتماعي بحسبة مفتوحة ليست محددة سلفا، فهو قد يوافق الآخرين متى ما رأى الموافقة، وقد يخالفهم متى ما رأى ما يقنعه بمخالفتهم. هذا الانفتاح هو التعبير الدقيق عن الاستقلال والحرية. المعاند أسير دوغما ووثوقية تحجب عنه التواصل مع الآخرين بحرية وباستقرار.
http://www.alwatan.com.sa/Articles/De...
Published on April 19, 2016 17:55
April 13, 2016
التبعية تحت شعار الاستقلال
التبعية تحت شعار الاستقلالعبدالله المطيري التبعية والاستقلال تعبيرات لوصف علاقة الإنسان بالآخرين. التبعية عادة ما يقصد بها انسجام مواقف الذات مع جماعة محددة من الآخرين نتيجة للثقة التامة بهم أو نتيجة للخوف منهم. الاستقلال في المقابل يعني عدم وجود هذا الانسجام بين الذات وتلك الجماعة المحددة من الآخرين. عادة ما تعتبر الموافقة علامة على التبعية، والاعتراض علامة على الاستقلال. لدينا التابع الذي يوافق على ما يقوله محيطه، ولدينا المستقل الذي يعارض أو يختلف مع ما يراه محيطه. هدفي في هذه المقالة هو إرباك التقسيمة السابقة من خلال تقديم حالات مخالفة لها تصبح فيها المعارضة تعبيرا على التبعية، والموافقة تعبيرا عن الاستقلال. ما أريد قوله بسيط: ليس كل موافق للجماعة تابعا وليس كل معارض لها مستقلا. سأحاول نقل المعيار من الموقف من الجماعة إلى الموقف من الذات، والقضايا أولا في سياق أخلاقي سابق للمعرفي.
الحالة الأولى التي يفترض أن تساعدنا على إرباك التقسيمة السابقة هي حالة المعارض التابع. العبارة تبدو في ظاهرها متناقضة، فالمعارضة تتعارض مع شرط التبعية وهي الموافقة. أحتاج هنا أن أقدم مثالا على المعارض التابع لتوضيح هذه الفكرة. المعارض التابع هو شخص لا يزال يتحرك بتوجيه من الجماعة، ولكن في الاتجاه المعاكس. الحالة المعروفة للتبعية أن يتحرك الفرد بتوجيه الجماعة موافقا لها. هذا الفرد ليست لديه حسبة مستقلة للأمور. السؤال الأساسي عنده هو: ما رأي الآخرين (تحديدا السلطة المعرفية والاجتماعية الخاصة به) في الموضوع. بحثه في الموضوع خطوة تالية لموقف الآخرين من الموضوع. التابع المعارض لا يزال يدور في ذات الفلك، وهو أن مواقف الآخرين، وليست حسبته الخاصة، هي ما يحدد موقفه من القضايا. الفرق أن قيادة الجماعة له تأخذه باتجاه المعارضة بدلا من الموافقة. العنيد مثال جيد على التابع المعارض. المعاند يتحرك نتيجة لمن حوله. إن تحركوا لاتجاه اليمين تحرك باتجاه اليسار، وإن تحركوا باتجاه اليسار تحرك باتجاه اليمين. نلاحظ هنا أن حركته الخاصة محكومة بحركتهم، فهم لا يزالون يتحكمون في توجهاته. على مستوى فردي في العلاقات بين الأفراد سأحاول التفكير في هذه الحالة: مجموعة من الأشخاص في مجلس وبينهم شخص من النوع عالي الصوت والمتحمس لمواقفه. مواقف الجالسين منه متفاوتة، منهم "س" الذي انبهر بهذه الشخصية وآمن بها وأصبح موافقا على غالب ما تقول. لدينا كذلك "ص" الذي نفر من هذه الشخصية وأصبح مخالفا لها في غالب ما تقول. ما أريد أن أقوله هنا هو أن "س" و"ص" يختلفون هنا في الاتجاه، ولكن موقفهم من هذه الشخصية واحد، "موقف هذا الشخص هو ما سيحدد موقفي".
"س" اختار الاتجاه الموافق و"ص" اتخذ الاتجاه المعاكس. لكن في كلا الحالتين لا يزال هذا الشخص هو من يحدد موقف "س وص". من هذا يمكن فهم ما يقوله بعض الدعاة من أن الشخصية المعارضة بحدة لك يمكن أن تتحول إلى شخصية تابعة إذا تم حل الموقف الشخصي معها. هذا تعبير دقيق يشير إلى أن المعارضة (يمكن) أن تكون علامة على التبعية لكنها مشوبة بإشكال شخصي بين الأفراد لا أكثر. يمكن هنا أيضا أن نجد معنى في المقولة الرائجة لوصف المعارض الدائم "خالف تعرف". العبارة تشير إلى أن الهدف الحقيقي للمعارضة هنا هو الشهرة أو تعزيز المكانة الاجتماعية، وهو الهدف ذاته الذي يمكن تحقيقه بالموافقة وتبني مواقف الأصوات العالية في الجماعة. بالتأكيد العبارة السابقة يمكن أن تستخدم في حق وباطل، لكن لها معنى محتمل مهم في تحليل المواقف المعارضة.
إذا كان التحليل السابق دقيقا فإن الموقف من مواقف الآخرين ليس معيارا دقيقا لتحديد الاستقلال من التبعية. المعيار الذي أقترحه هنا هو أن ما يحدد التبعية من الاستقلال هو موقف الذات من القضايا وليس من الآخرين. أي أن تكون القضايا لا الآخرين هي المحرّك الأساسي لحركة التفكير. الذات المستقلة هي من تجد طريقها للتفكير في قضاياها بغض النظر عن مواقف الآخرين. هذا لا يعني بالتأكيد القطيعة مع الآخرين، ولكنه يعني التواصل معهم على مستوى لا يحسم الموقف من البداية باتجاه الموافقة أو المعارضة. الاستقلال هنا يعني أن يكون التفكير في القضايا ذا أولوية على التفكير في مواقف الآخرين من هذه القضايا. مع تجاوز مواقف الآخرين تصبح العلاقة مباشرة مع القضايا والمواقف تعبيرا عن خيارات الذات الحرة. المعيار هنا لا يخلط بين الاستقلال والصواب أو بين التبعية والخطأ، بمعنى أن المستقل قد يخطئ والتابع قد يصيب. معيار الاستقلال والتبعية يعبر عن موقف وجودي وأخلاقي سابق للموقف المعرفي. الاستقلال هنا فضيلة ليس لأنه موقف من الآخرين، بل لأنه تعبير عن تحمل الإنسان لمسؤوليته الأخلاقية والوجودية في حياته. أي أن يتحمل الفرد مسؤوليته الأخلاقية في التفكير والبحث فيما حوله، وأن تكون مواقف في الحياة مهمة لدرجة محاولته التواصل معها مباشرة. المستقل أخلاقي لأنه يعتقد أن القضايا التي حوله أهم من أن حساباته الأنانية في العناد أو راحة البال. المستقل هنا يعبّر عن الاهتمام بالآخرين بالمعنى العميق للكلمة. الاهتمام بالآخرين وقضاياهم لا يجب أن يكون مجرد نتيجة لعلاقة الذات بهم، بل هو سابق أخلاقيا لذلك.http://www.alwatan.com.sa/Articles/De...
الحالة الأولى التي يفترض أن تساعدنا على إرباك التقسيمة السابقة هي حالة المعارض التابع. العبارة تبدو في ظاهرها متناقضة، فالمعارضة تتعارض مع شرط التبعية وهي الموافقة. أحتاج هنا أن أقدم مثالا على المعارض التابع لتوضيح هذه الفكرة. المعارض التابع هو شخص لا يزال يتحرك بتوجيه من الجماعة، ولكن في الاتجاه المعاكس. الحالة المعروفة للتبعية أن يتحرك الفرد بتوجيه الجماعة موافقا لها. هذا الفرد ليست لديه حسبة مستقلة للأمور. السؤال الأساسي عنده هو: ما رأي الآخرين (تحديدا السلطة المعرفية والاجتماعية الخاصة به) في الموضوع. بحثه في الموضوع خطوة تالية لموقف الآخرين من الموضوع. التابع المعارض لا يزال يدور في ذات الفلك، وهو أن مواقف الآخرين، وليست حسبته الخاصة، هي ما يحدد موقفه من القضايا. الفرق أن قيادة الجماعة له تأخذه باتجاه المعارضة بدلا من الموافقة. العنيد مثال جيد على التابع المعارض. المعاند يتحرك نتيجة لمن حوله. إن تحركوا لاتجاه اليمين تحرك باتجاه اليسار، وإن تحركوا باتجاه اليسار تحرك باتجاه اليمين. نلاحظ هنا أن حركته الخاصة محكومة بحركتهم، فهم لا يزالون يتحكمون في توجهاته. على مستوى فردي في العلاقات بين الأفراد سأحاول التفكير في هذه الحالة: مجموعة من الأشخاص في مجلس وبينهم شخص من النوع عالي الصوت والمتحمس لمواقفه. مواقف الجالسين منه متفاوتة، منهم "س" الذي انبهر بهذه الشخصية وآمن بها وأصبح موافقا على غالب ما تقول. لدينا كذلك "ص" الذي نفر من هذه الشخصية وأصبح مخالفا لها في غالب ما تقول. ما أريد أن أقوله هنا هو أن "س" و"ص" يختلفون هنا في الاتجاه، ولكن موقفهم من هذه الشخصية واحد، "موقف هذا الشخص هو ما سيحدد موقفي".
"س" اختار الاتجاه الموافق و"ص" اتخذ الاتجاه المعاكس. لكن في كلا الحالتين لا يزال هذا الشخص هو من يحدد موقف "س وص". من هذا يمكن فهم ما يقوله بعض الدعاة من أن الشخصية المعارضة بحدة لك يمكن أن تتحول إلى شخصية تابعة إذا تم حل الموقف الشخصي معها. هذا تعبير دقيق يشير إلى أن المعارضة (يمكن) أن تكون علامة على التبعية لكنها مشوبة بإشكال شخصي بين الأفراد لا أكثر. يمكن هنا أيضا أن نجد معنى في المقولة الرائجة لوصف المعارض الدائم "خالف تعرف". العبارة تشير إلى أن الهدف الحقيقي للمعارضة هنا هو الشهرة أو تعزيز المكانة الاجتماعية، وهو الهدف ذاته الذي يمكن تحقيقه بالموافقة وتبني مواقف الأصوات العالية في الجماعة. بالتأكيد العبارة السابقة يمكن أن تستخدم في حق وباطل، لكن لها معنى محتمل مهم في تحليل المواقف المعارضة.
إذا كان التحليل السابق دقيقا فإن الموقف من مواقف الآخرين ليس معيارا دقيقا لتحديد الاستقلال من التبعية. المعيار الذي أقترحه هنا هو أن ما يحدد التبعية من الاستقلال هو موقف الذات من القضايا وليس من الآخرين. أي أن تكون القضايا لا الآخرين هي المحرّك الأساسي لحركة التفكير. الذات المستقلة هي من تجد طريقها للتفكير في قضاياها بغض النظر عن مواقف الآخرين. هذا لا يعني بالتأكيد القطيعة مع الآخرين، ولكنه يعني التواصل معهم على مستوى لا يحسم الموقف من البداية باتجاه الموافقة أو المعارضة. الاستقلال هنا يعني أن يكون التفكير في القضايا ذا أولوية على التفكير في مواقف الآخرين من هذه القضايا. مع تجاوز مواقف الآخرين تصبح العلاقة مباشرة مع القضايا والمواقف تعبيرا عن خيارات الذات الحرة. المعيار هنا لا يخلط بين الاستقلال والصواب أو بين التبعية والخطأ، بمعنى أن المستقل قد يخطئ والتابع قد يصيب. معيار الاستقلال والتبعية يعبر عن موقف وجودي وأخلاقي سابق للموقف المعرفي. الاستقلال هنا فضيلة ليس لأنه موقف من الآخرين، بل لأنه تعبير عن تحمل الإنسان لمسؤوليته الأخلاقية والوجودية في حياته. أي أن يتحمل الفرد مسؤوليته الأخلاقية في التفكير والبحث فيما حوله، وأن تكون مواقف في الحياة مهمة لدرجة محاولته التواصل معها مباشرة. المستقل أخلاقي لأنه يعتقد أن القضايا التي حوله أهم من أن حساباته الأنانية في العناد أو راحة البال. المستقل هنا يعبّر عن الاهتمام بالآخرين بالمعنى العميق للكلمة. الاهتمام بالآخرين وقضاياهم لا يجب أن يكون مجرد نتيجة لعلاقة الذات بهم، بل هو سابق أخلاقيا لذلك.http://www.alwatan.com.sa/Articles/De...
Published on April 13, 2016 04:21
March 30, 2016
مكان مشترك للقدح والبحث
مكان مشترك للقدح والبحث عبدالله المطيريكان الحديث هنا عن البحث والقدح كنمطين من أنماط التفكير والتفاعل مع الواقع. القدح يقوم على منطق الاكتفاء الذاتي في التفكير واتخاذ المواقف. القدح هنا تعبير عن الذات أو إعلان لوجود الذات. فاعلية الذات هنا أهم من منتجها عن الواقع. ما يقلق القادح هو إعلان وجوده من خلال قرارات وأفكار تشير في كل تفاصيلها إلى فرادته. من المهم للقادح هنا ألا يكون شريكا ولا مثيلا لأحد. أي وضع له في صورة مشتركة لا يكون هو زعيمها يجرح مشاعره ويقلق وجوده. لفت انتباهي كثيرا أن كثيرا من المثقفين السعوديين لا يحبون الحديث عن تتلمذهم على أحد أو تأثرهم بأحد. في أحسن الأحوال يختار المثقف مؤثرا بعيدا جدا في التاريخ أو المكان لا يؤثر على قيمته بين أقرانه. بمعنى أن تأثره بأحد من أفراد بيئته القريبة قد يخفف من فكرة عبقريته الخارقة على الأقل في معايير بيئته. القادح هنا مشغول بذاته قبل وبعد أي شيء آخر. في المقابل الباحث مشغول بالخارج بدرجة أكبر. الفيزيائي شغوف بالطبيعة والبيولوجي شغوف بالكائنات الحية. عملهم يهدف لتقديم تصورات دقيقة عن هذه العوالم الخارجية لذا تتوارى كثيرا ذاتياتهم في مقابل الأبحاث التي يعملون عليها. هذا كان التقسيم الأساسي لكنه قد يبدو حتى الآن تقسيما في النوع وليس في الدرجة.
سأحاول هنا تقديم تصور آخر للقدح والبحث على أنهما درجات في سياق واحد. يقول جون ديوي إن من أكبر مغالطات الفلاسفة تحويل الاختلاف في الدرجة إلى اختلاف في النوع يورطنا في ثنائيات حادة. سأبدأ هنا بذكر المشتركين بين القدح والبحث. كل من القادح والباحث مشغول بذاته ولكن بشكل مختلف. القادح مشغول بذاته بشكل متسارع ومكثّف. يحتاج لتأكيد وجود هذه الذات باستمرار. الباحث أكثر استقرارا وأمانا لذا فإن ذاته تتأكد بشكل أبطأ وأعمق. التفكير القادح سريع ومفاجئ وذاتي. لكن أليست هذه الصفات موجودة كذلك في البحث؟ البحث في الأخير ليس عملية آلية روتينية بل عمل إبداعي. الإبداع في البحث يبدأ أحيانا بأفكار خاطرة ومفاجئة وقد تبدو بلا مبررات واضحة من الوهلة الأولى. شرارة الإبداع في الأخير هي الوقود الذي يحرك البحث والتقدم العلمي. يبدو أن كيفية التعامل مع هذه الشرارة هو ما يميّز البحث عن القدح كما سأحاول الإيضاح لاحقا. كذلك من العوامل المشتركة أن القادح وإن شغلت ذاته الاهتمام الأكبر مقارنة بالواقع والحقيقة إلا أنه لا يستطيع مغادرة الواقع بالكامل وإلا اعتبر مجنونا. المشكلة التي يواجهها القادح أنه يصعب عليه الفصل بين الوصف والتقييم. الوصف يحتاج قدرا معيّنا من الموضوعية وتخفيف انحيازات الذات. القادح متأقلم مع التقييم لأن التقييم بطبيعته ذاتي ويعبّر عن موقف الذات مع ما حولها. إذا كانت الصورة السابقة دقيقة فإنه يمكن الحديث عن البحث والقدح كدرجات في خط التفكير والتعامل مع الواقع. سأحاول هنا تقديم مثال عن عمل القدح والبحث في سياق واحد بشكل طبيعي.
من الأساليب المنتشرة للتفكير في قضايا معينة أسلوب العصف الذهني. أحد التعريفات المشهورة لهذا النشاط تقول التالي: العصف الذهني هو مجموعة من أساليب الإبداع التي من خلالها يتم البحث عن حلول لمشاكل من خلال جمع قائمة من الأفكار العفوية والمباشرة من أفراد جماعة العصف. العملية كالتالي: يجتمع جماعة من الأشخاص وتعرض عليهم مشكلة ما ويطلب منهم إطلاق العنان لمخيلاتهم للبحث عن حل لهذه المشكلة. المطلوب من أفراد الجماعة ألا يقوموا بفرز ذاتي لأفكارهم بل يذكرون ما يخطر في بالهم حتى ولو بدا غريبا ومفاجئا وبدون علاقة واضحة. في هذه المرحلة من البحث نحن في حالة قريبة من القدح. من إطلاق العنان للأفكار للخروج بدون رقابة النقد والتحليل الدقيق. طبعا هناك فرق هائل بين الإبداع وبين إطلاق الأفكار جزافا، لكن هذا الفرق يجب ألا يحجب عنا لحظة العصف التي يمكن أن تولد فيها لحظات الإبداع. بعد هذه المرحلة يتم جمع الأفكار المطروحة وفلترتها ونقدها. بمعنى أن كل هذه الأفكار تخضع لعملية البحث الهادئة التي لم تعد هنا عفوية بل منهجية تراعي اعتبارات كثيرة متعلقة بطبيعة المشكلة وظروف الواقع والأهداف التي يسعى الباحث لتحقيقها. هذه المرحلة تعني استبعاد بعض الأفكار وقبول بعضها. هنا نمر بمرحلة مهمة وهي مرحلة النقد الذاتي حين تقوم الجماعة أو الأفراد بمواجهة أفكارهم وفرزها وإعادة تقييمها. هذه المرحلة تبدو صعبة على القادح باعتبار أنه يربط بشكل حاد بين ذاته وبين أفكاره ويعتبر أن كل نقد أو رفض لأفكاره هو نقد ورفض لذاته.
القدح في المشهد السابق يبدو خطوة أو مرحلة طبيعية في التفكير الباحث والمتأمل، لكنه يصبح مشكلة حين يصبح المرحلة الوحيدة. الجرأة في التفكير واتخاذ المواقف وإطلاق العنان للمخيلة في كافة الشؤون طاقة بشرية هائلة يمكن استثمارها ويمكن إهدارها. في بيئات العنف على ذوات الناس يتم توجيه هذه الطاقة للدفاع عن الذات بدلا من كونها طاقة تمارس من خلالها هذه الذات انطلاقها في العالم للتساؤل والبحث. مع القدح تتحول هذه الطاقة إلى طاقة صراعية بدلا من كونها طاقة تعاون وبناء. القدح هنا يمكن أن يكون شرارة بناء ويمكن أن يكون حصنا يحجب الذات باسم الدفاع عنها.http://www.alwatan.com.sa/Articles/De...
سأحاول هنا تقديم تصور آخر للقدح والبحث على أنهما درجات في سياق واحد. يقول جون ديوي إن من أكبر مغالطات الفلاسفة تحويل الاختلاف في الدرجة إلى اختلاف في النوع يورطنا في ثنائيات حادة. سأبدأ هنا بذكر المشتركين بين القدح والبحث. كل من القادح والباحث مشغول بذاته ولكن بشكل مختلف. القادح مشغول بذاته بشكل متسارع ومكثّف. يحتاج لتأكيد وجود هذه الذات باستمرار. الباحث أكثر استقرارا وأمانا لذا فإن ذاته تتأكد بشكل أبطأ وأعمق. التفكير القادح سريع ومفاجئ وذاتي. لكن أليست هذه الصفات موجودة كذلك في البحث؟ البحث في الأخير ليس عملية آلية روتينية بل عمل إبداعي. الإبداع في البحث يبدأ أحيانا بأفكار خاطرة ومفاجئة وقد تبدو بلا مبررات واضحة من الوهلة الأولى. شرارة الإبداع في الأخير هي الوقود الذي يحرك البحث والتقدم العلمي. يبدو أن كيفية التعامل مع هذه الشرارة هو ما يميّز البحث عن القدح كما سأحاول الإيضاح لاحقا. كذلك من العوامل المشتركة أن القادح وإن شغلت ذاته الاهتمام الأكبر مقارنة بالواقع والحقيقة إلا أنه لا يستطيع مغادرة الواقع بالكامل وإلا اعتبر مجنونا. المشكلة التي يواجهها القادح أنه يصعب عليه الفصل بين الوصف والتقييم. الوصف يحتاج قدرا معيّنا من الموضوعية وتخفيف انحيازات الذات. القادح متأقلم مع التقييم لأن التقييم بطبيعته ذاتي ويعبّر عن موقف الذات مع ما حولها. إذا كانت الصورة السابقة دقيقة فإنه يمكن الحديث عن البحث والقدح كدرجات في خط التفكير والتعامل مع الواقع. سأحاول هنا تقديم مثال عن عمل القدح والبحث في سياق واحد بشكل طبيعي.
من الأساليب المنتشرة للتفكير في قضايا معينة أسلوب العصف الذهني. أحد التعريفات المشهورة لهذا النشاط تقول التالي: العصف الذهني هو مجموعة من أساليب الإبداع التي من خلالها يتم البحث عن حلول لمشاكل من خلال جمع قائمة من الأفكار العفوية والمباشرة من أفراد جماعة العصف. العملية كالتالي: يجتمع جماعة من الأشخاص وتعرض عليهم مشكلة ما ويطلب منهم إطلاق العنان لمخيلاتهم للبحث عن حل لهذه المشكلة. المطلوب من أفراد الجماعة ألا يقوموا بفرز ذاتي لأفكارهم بل يذكرون ما يخطر في بالهم حتى ولو بدا غريبا ومفاجئا وبدون علاقة واضحة. في هذه المرحلة من البحث نحن في حالة قريبة من القدح. من إطلاق العنان للأفكار للخروج بدون رقابة النقد والتحليل الدقيق. طبعا هناك فرق هائل بين الإبداع وبين إطلاق الأفكار جزافا، لكن هذا الفرق يجب ألا يحجب عنا لحظة العصف التي يمكن أن تولد فيها لحظات الإبداع. بعد هذه المرحلة يتم جمع الأفكار المطروحة وفلترتها ونقدها. بمعنى أن كل هذه الأفكار تخضع لعملية البحث الهادئة التي لم تعد هنا عفوية بل منهجية تراعي اعتبارات كثيرة متعلقة بطبيعة المشكلة وظروف الواقع والأهداف التي يسعى الباحث لتحقيقها. هذه المرحلة تعني استبعاد بعض الأفكار وقبول بعضها. هنا نمر بمرحلة مهمة وهي مرحلة النقد الذاتي حين تقوم الجماعة أو الأفراد بمواجهة أفكارهم وفرزها وإعادة تقييمها. هذه المرحلة تبدو صعبة على القادح باعتبار أنه يربط بشكل حاد بين ذاته وبين أفكاره ويعتبر أن كل نقد أو رفض لأفكاره هو نقد ورفض لذاته.
القدح في المشهد السابق يبدو خطوة أو مرحلة طبيعية في التفكير الباحث والمتأمل، لكنه يصبح مشكلة حين يصبح المرحلة الوحيدة. الجرأة في التفكير واتخاذ المواقف وإطلاق العنان للمخيلة في كافة الشؤون طاقة بشرية هائلة يمكن استثمارها ويمكن إهدارها. في بيئات العنف على ذوات الناس يتم توجيه هذه الطاقة للدفاع عن الذات بدلا من كونها طاقة تمارس من خلالها هذه الذات انطلاقها في العالم للتساؤل والبحث. مع القدح تتحول هذه الطاقة إلى طاقة صراعية بدلا من كونها طاقة تعاون وبناء. القدح هنا يمكن أن يكون شرارة بناء ويمكن أن يكون حصنا يحجب الذات باسم الدفاع عنها.http://www.alwatan.com.sa/Articles/De...
Published on March 30, 2016 03:38
March 22, 2016
العقل القادح والعقل الباحث
العقل القادح والعقل الباحثعبدالله المطيري هذا المقال محاولة للتفريق بين نوعين من التفكير، وبالتالي نوعين من طرق التعاطي مع الأمور، ونوعين من النتائج والمقولات.
في الواقع، الأمور أعقد من الصور التي نحاول أن نرسمها هنا بالتأكيد، لكن الهدف هو رفع معدلات التمييز بين أنماط التفكير والتعاطي والأطروحات، استعدادا للتواصل معها، ونقدها بشكل أكثر وعيا.
وصف "القادح" متداول في السعودية، لكنني غير متأكد من وضوحه لغير السعوديين.
القادح، هو الشخص الذي يأخذ قراره من رأسه. هو يقدح شرارة الرأي والقرار باستقلال. غالبا ما يستخدم هذا الوصف للأغراض التالية:1- وصف الشخص بأنه صاحب قرار بشكل سريع وأحيانا مفاجئ. 2- أن هذا الشخص مستقل في قراره.
القدح كما سنرى في هذا المقال سيعطي معنى خاصا لعمليات اتخاذ القرار والاستقلالية. سيكون مقالنا محاولة لوصف وتحليل العقل القادح حين يفكر في الواقع، ومقارنته بالعقل الباحث.
لن يكون التفكير هنا على التفكير القادح حين يفكر الإنسان في نفسه أو حين يتخذ قرارات تخصه. المهم هنا هو حين ينتقل العقل القادح للتفكير في قضايا عامة كالقضايا الاجتماعية والاقتصادية والسياسية.
بمعنى آخر، التفكير في القضايا العامة بمنطق القدح. التفكير القادح سينقل معه خصائص الاستقلال واتخاذ القرار. هذا سيترجم إلى التالي حين يتعرّض العقل القادح للقضايا العامة: ١- يجب أن يتخذ القادح قرارا "حاسما" في القضايا العامة. ٢- أن قراراته هذه يجب أن تعكس استقلاله.
العقل القادح يعتقد أنه مطالب باتخاذ قرارات حاسمة في القضايا العامة التي تواجهه وإلا سيشعر بأن خاصية القدح عنده قد انخفضت.
كذلك القادح يشعر بأن قراره هذا يجب أن يعكس استقلاله الكامل غير المشوب بالتعاون أو المشاركة أو استشارة الآخرين.
على سبيل المثال، حين يواجه القادح قضية الأراضي البيضاء ومشكلات الإسكان في السعودية، يعتقد أن الحفاظ على "قدحيته" أن يتخذ رأيا سريعا في هذه القضية.
سرعة وحدة الرأي مهمة لتأكيد القدحية. في الأخير "القدح" عمل سريع ولحظي وينتج نارا حارقة. رأي القادح في قضية الإسكان والأراضي لن يكون له علاقة ضرورية بإشكالات وتفاصيل القضية.
كل هذا ثانوي مقارنة بشكل الرأي السريع والحاسم. كذلك التفكير القادح يتحسس كثيرا من الآراء المشتركة والأعمال التعاونية. القدح يتطلب شخصية القائد الأوحد الذي لا يحتاج أحدا لاتخاذ القرار.
القادح قلق جدا من التشكيك في طهارته من مشاركة الآخرين، لذا يبدو حادا جدا ضد من يشير إلى تشابهه مع الآخرين.
النموذج المثالي للقادح هو الشاعر المرتجل. الشاعر يحتاج فقط إلى الجلوس مع نفسه لانطلاق الإبداع. الارتجال هنا علامة جوهرية على سرعة القدح وطهارته من تأثير الآخرين.
في المقابل، العقل الباحث يتحرك وفق قيم أخرى مختلفة. بالنسبة للباحث العلمي الموقف من القضايا والأسئلة محكوم بمعايير تقف في وجه الآراء المباشرة والسريعة. القدح باعتباره آخر عيب علمي. الباحث العلمي لا يستعجل في اتخاذ مواقف قبل أن يجري سلسلة طويلة من الخطوات المنهجية.
أيضا فكرة الاستقلالية غير مهمة في البحث العلمي. القيمة المهمة المقابلة هي الموضوعية. الموضوعية تعني أن المواقف والقرارات والنتائج التي يصل إليها الباحث خاضعة لمعايير خارجية يستطيع الآخرون معرفتها، ومحاسبة بحثه بناء عليها.
البحث العلمي كذلك بحث تعاوني قائم على الشراكة مع عدد كبير من الباحثين السابقين. الباحث العلمي يتحرك منهجيا ضد سيطرة أناه على البحث. ذات الباحث هنا ليست الموضوع الأساسي. في المقابل إظهار الذات أو الدفاع عنها هو المنطق الداخلي المحرك للقدح. من خلال عملية مطولة من كشف المعلومات والمنطق البحثي ونتائج البحث، فإن الباحث يطرح هذا الإعلان المهم "النتائج التي وصلت لها ليست منتجا خاصا بي بل منتج سيصل إليه كل من استعمل ذات المعلومات والمنطق". في المقابل القادح يقول "النتائج والقرارات التي تنتج عني خاضعة تماما لخصوصيتي".
ينتج عن هذا التفريق نتائج مهمة، منها أن الباحث متواضع بطبيعة عمله بينما تسيطر ذاتية القادح على حضوره مع الآخرين.
نتيجة ذلك نجد الحوار مع الباحث أسهل بكثير من الحوار مع القادح. الباحث عند استعداد للتفريق بين ذاته وبين أفكاره، لذا الاختلاف معه لا يتحول في ذهنه إلى هجوم على شخصه. في المقابل القادح يربط بشكل جوهري بين ذاته وبين أفكاره، لذا فكل اختلاف مع أفكاره هو تهديد لذاته. القادح يشعر بالتهديد الشخصي حين يتم تحليل أفكاره أو نقدها. يشعر بأن عبقريته تفقد فرادتها وسحرها حين تكشف صفحاتها عيون النقاد. القادح يرحب فقط بتبجيل عبقريته وسرّه الكامن. البحث العلمي في المقابل ضد الأسرار والقدرات الخارقة والعبقريات المزعومة.
القادح بهذا التعاطي مع العالم لا يعطي معرفة عن العالم بقدر ما يعطي معرفة عن ذاته. البحث المعرفي في المقابل بحث في المشترك، لذا فهو متجه إلى خدمة الآخر ومساعدته على رؤية الواقع بصورة أوضح.
قد لا يفلح الباحث في تحقيق أهدافه ولكن هذا هو الهدف الذي يسعى إلى تحقيقه. في البيئات العنيفة، يتجه الناس إلى القدح كشكل من أشكال الدفاع عن ذواتهم. القادح يريد أن يقول "أنا هنا" في بيئة تمارس العنف على هويته. كل يوم يسمع القادح هذا الصوت "أنت لا شيء" ليرد بهذا الصوت "أنا كل شيء".
في المقابل، البحث لا يتحقق إلا في بيئات آمنة لا يشعر فيها الفرد بالخطر على وجوده. الباحث يسمع هذا الصوت "ذاتك لها كل الاحترام والتقدير ولن تتأثر بنتائج بحثك"، ليرد بهذا الصوت "هذا بحثي وسأكون ممنونا لمن يكتشف عيوبه".
هنا، نفهم لماذا حرية البحث واستقلال المؤسسات البحثية والأكاديمية جوهري للبحث العلمي، وأن انتشار القدح علامة على العنف.http://alwatan.com.sa/Articles/Detail...
في الواقع، الأمور أعقد من الصور التي نحاول أن نرسمها هنا بالتأكيد، لكن الهدف هو رفع معدلات التمييز بين أنماط التفكير والتعاطي والأطروحات، استعدادا للتواصل معها، ونقدها بشكل أكثر وعيا.
وصف "القادح" متداول في السعودية، لكنني غير متأكد من وضوحه لغير السعوديين.
القادح، هو الشخص الذي يأخذ قراره من رأسه. هو يقدح شرارة الرأي والقرار باستقلال. غالبا ما يستخدم هذا الوصف للأغراض التالية:1- وصف الشخص بأنه صاحب قرار بشكل سريع وأحيانا مفاجئ. 2- أن هذا الشخص مستقل في قراره.
القدح كما سنرى في هذا المقال سيعطي معنى خاصا لعمليات اتخاذ القرار والاستقلالية. سيكون مقالنا محاولة لوصف وتحليل العقل القادح حين يفكر في الواقع، ومقارنته بالعقل الباحث.
لن يكون التفكير هنا على التفكير القادح حين يفكر الإنسان في نفسه أو حين يتخذ قرارات تخصه. المهم هنا هو حين ينتقل العقل القادح للتفكير في قضايا عامة كالقضايا الاجتماعية والاقتصادية والسياسية.
بمعنى آخر، التفكير في القضايا العامة بمنطق القدح. التفكير القادح سينقل معه خصائص الاستقلال واتخاذ القرار. هذا سيترجم إلى التالي حين يتعرّض العقل القادح للقضايا العامة: ١- يجب أن يتخذ القادح قرارا "حاسما" في القضايا العامة. ٢- أن قراراته هذه يجب أن تعكس استقلاله.
العقل القادح يعتقد أنه مطالب باتخاذ قرارات حاسمة في القضايا العامة التي تواجهه وإلا سيشعر بأن خاصية القدح عنده قد انخفضت.
كذلك القادح يشعر بأن قراره هذا يجب أن يعكس استقلاله الكامل غير المشوب بالتعاون أو المشاركة أو استشارة الآخرين.
على سبيل المثال، حين يواجه القادح قضية الأراضي البيضاء ومشكلات الإسكان في السعودية، يعتقد أن الحفاظ على "قدحيته" أن يتخذ رأيا سريعا في هذه القضية.
سرعة وحدة الرأي مهمة لتأكيد القدحية. في الأخير "القدح" عمل سريع ولحظي وينتج نارا حارقة. رأي القادح في قضية الإسكان والأراضي لن يكون له علاقة ضرورية بإشكالات وتفاصيل القضية.
كل هذا ثانوي مقارنة بشكل الرأي السريع والحاسم. كذلك التفكير القادح يتحسس كثيرا من الآراء المشتركة والأعمال التعاونية. القدح يتطلب شخصية القائد الأوحد الذي لا يحتاج أحدا لاتخاذ القرار.
القادح قلق جدا من التشكيك في طهارته من مشاركة الآخرين، لذا يبدو حادا جدا ضد من يشير إلى تشابهه مع الآخرين.
النموذج المثالي للقادح هو الشاعر المرتجل. الشاعر يحتاج فقط إلى الجلوس مع نفسه لانطلاق الإبداع. الارتجال هنا علامة جوهرية على سرعة القدح وطهارته من تأثير الآخرين.
في المقابل، العقل الباحث يتحرك وفق قيم أخرى مختلفة. بالنسبة للباحث العلمي الموقف من القضايا والأسئلة محكوم بمعايير تقف في وجه الآراء المباشرة والسريعة. القدح باعتباره آخر عيب علمي. الباحث العلمي لا يستعجل في اتخاذ مواقف قبل أن يجري سلسلة طويلة من الخطوات المنهجية.
أيضا فكرة الاستقلالية غير مهمة في البحث العلمي. القيمة المهمة المقابلة هي الموضوعية. الموضوعية تعني أن المواقف والقرارات والنتائج التي يصل إليها الباحث خاضعة لمعايير خارجية يستطيع الآخرون معرفتها، ومحاسبة بحثه بناء عليها.
البحث العلمي كذلك بحث تعاوني قائم على الشراكة مع عدد كبير من الباحثين السابقين. الباحث العلمي يتحرك منهجيا ضد سيطرة أناه على البحث. ذات الباحث هنا ليست الموضوع الأساسي. في المقابل إظهار الذات أو الدفاع عنها هو المنطق الداخلي المحرك للقدح. من خلال عملية مطولة من كشف المعلومات والمنطق البحثي ونتائج البحث، فإن الباحث يطرح هذا الإعلان المهم "النتائج التي وصلت لها ليست منتجا خاصا بي بل منتج سيصل إليه كل من استعمل ذات المعلومات والمنطق". في المقابل القادح يقول "النتائج والقرارات التي تنتج عني خاضعة تماما لخصوصيتي".
ينتج عن هذا التفريق نتائج مهمة، منها أن الباحث متواضع بطبيعة عمله بينما تسيطر ذاتية القادح على حضوره مع الآخرين.
نتيجة ذلك نجد الحوار مع الباحث أسهل بكثير من الحوار مع القادح. الباحث عند استعداد للتفريق بين ذاته وبين أفكاره، لذا الاختلاف معه لا يتحول في ذهنه إلى هجوم على شخصه. في المقابل القادح يربط بشكل جوهري بين ذاته وبين أفكاره، لذا فكل اختلاف مع أفكاره هو تهديد لذاته. القادح يشعر بالتهديد الشخصي حين يتم تحليل أفكاره أو نقدها. يشعر بأن عبقريته تفقد فرادتها وسحرها حين تكشف صفحاتها عيون النقاد. القادح يرحب فقط بتبجيل عبقريته وسرّه الكامن. البحث العلمي في المقابل ضد الأسرار والقدرات الخارقة والعبقريات المزعومة.
القادح بهذا التعاطي مع العالم لا يعطي معرفة عن العالم بقدر ما يعطي معرفة عن ذاته. البحث المعرفي في المقابل بحث في المشترك، لذا فهو متجه إلى خدمة الآخر ومساعدته على رؤية الواقع بصورة أوضح.
قد لا يفلح الباحث في تحقيق أهدافه ولكن هذا هو الهدف الذي يسعى إلى تحقيقه. في البيئات العنيفة، يتجه الناس إلى القدح كشكل من أشكال الدفاع عن ذواتهم. القادح يريد أن يقول "أنا هنا" في بيئة تمارس العنف على هويته. كل يوم يسمع القادح هذا الصوت "أنت لا شيء" ليرد بهذا الصوت "أنا كل شيء".
في المقابل، البحث لا يتحقق إلا في بيئات آمنة لا يشعر فيها الفرد بالخطر على وجوده. الباحث يسمع هذا الصوت "ذاتك لها كل الاحترام والتقدير ولن تتأثر بنتائج بحثك"، ليرد بهذا الصوت "هذا بحثي وسأكون ممنونا لمن يكتشف عيوبه".
هنا، نفهم لماذا حرية البحث واستقلال المؤسسات البحثية والأكاديمية جوهري للبحث العلمي، وأن انتشار القدح علامة على العنف.http://alwatan.com.sa/Articles/Detail...
Published on March 22, 2016 20:06
March 15, 2016
العدالة ونقد الذات
العدالة ونقد الذات
عبدالله المطيريمن حق الإنسان، وربما من الواجب عليه، أن يدافع عن حقوقه بقدر استطاعته. يجب عليه أن يكشف الظلم الذي تعرض له والتمييز الذي واجهه. هذا أمر متفق عليه ولا أظننا نحتاج كثيرا لتأسيس هذا الحق نظريا. معظم المشكلات التي تواجه الناس تتمثل في معرفة ما هي حقوقه وكيفية حماية هذه الحقوق، أما مبدأ الدفاع عن الذات فهو طبيعي في الإنسان كجزء من طبيعته البيولوجية. ما أريد الحديث عنه هنا، هو الجانب الآخر من هذا المشهد، وهو موقف الإنسان من الامتيازات التي حصل عليها. أقصد بالامتيازات هنا الفرص التي حصل عليها نتيجة وجوده في تنظيم اجتماعي غير عادل. على سبيل المثال يحصل الذكور في المجتمعات العنصرية ضد النساء على فرص أكبر من النساء، ليس بسبب جهدهم وجدارتهم، ولكن بسبب وجودهم في مجتمع يميز ضد المرأة. هنا، لا يشترط للفرد أن يقر هذه الامتيازات غير العادلة، ولكن طبيعة الحياة تفرض عليه أن تدخل هذه العوامل في تعاملاته اليومية. سؤالي هنا: ما الموقف الأخلاقي من هذه الامتيازات؟ وما أثرها في تفكير الفرد في قضايا العدالة في مجتمعه؟ سأحاول توضيح هذه الأسئلة خلال المثال التالي: المواطن "س" والمواطنة "ص". المواطن "س" يعيش في مدينة كبيرة تتوافر فيها معظم الخدمات. المدرسة قريبة جدا من البيت بطاقم تعليمي جيد ومستقر، ولن يحتاج مغادرة مدينته للدراسة الجامعية، بسبب توفر جامعات بتخصصات مميزة في مدينته. المواطن "س" يعيش في مدينة يتوافر فيها الإنترنت بسهولة، ويصل الماء إلى منزله خلال مشروع التحلية. في المقابل، المواطنة "ص" تعيش في منطقة في أطراف البلد. المدرسة تحتاج إلى وسيلة نقل وسائق ذكر. الطاقم التعليمي في المدرسة يتغير بشكل سريع بسبب نقل المعلمات، مما يربك تعليم الطالبات وعلاقتهن مع معلماتهن. أقرب جامعة تبعد مئات الأميال في مدينة أخرى، وستحتاج إلى ولي أمر للانتقال إلى تلك المدينة للدراسة. الإنترنت ضعيف جدا، والمياه لا تصل إلى منزل المواطنة "ص"، ويحتاج أهلها إلى شراء الماء في ناقلات كبيرة بعد انتظار يمتد في أوقات الأزمات إلى ساعات طويلة. يبدو أنه من الواضح هنا أن المواطن "س" والمواطنة "ص" لا يحصلان على فرص متكافئة في العيش في هذا المجتمع. الأمور أصعب بكثير أمام المواطنة "ص" دون أن تكون لها أي مسؤولية في هذه الصعوبات، سوى أنها ولدت في هذه الظروف. طبعا هنا، لا بد من التذكير أن المواطن "س" يعاني كذلك من تمييز ضده، فهو مثلا بسبب لون بشرته يعاني من تعامل سلبي في مجال عمله، يحرمه من الحصول على مناصب أعلى يستحقها بحسب إمكاناته ومجهوده. سؤالنا هنا يتعلق بالواجب الأخلاقي على المواطن "س" حين يتحدث عن العدالة. بمعنى هل تتطلب العدالة من المواطن "س" أن يعلن ويكشف الامتيازات التي حصل عليها مقارنة بالمواطنة "ص" جنبا إلى جنب مع السلبيات التي تعرّض لها؟ المتوقع من "س" أن يعترض على التمييز الذي يتعرّض له ويطالب بتشريع قوانين تحمي حقوقه. ولكن هل يجب عليه كذلك كشف الامتيازات التي حصل عليها كجزء من تحليله وفهمه للعدالة في مجتمعه؟ دعونا نتصور المشاهد الثلاثة التالية: المشهد الأول، يتحدث فيه "س" عن التمييز الذي يقع عليه بسبب لون بشرته، ولكنه يرفض تماما الإقرار بأنه حصل على امتيازات مقارنة بشرائح معينة من المواطنين، وتحديدا المواطنة "ص". الصورة الحادة للموقف ستكون "لون بشرتي كان سببا في التمييز ضدي، ولكن النساء لا يعانون من تمييز ضدهم". أتوقع أن الغالبية ستتفق أن المواطن "س" هنا مشغول بمصلحته الشخصية وليس مشغولا بالعدالة. العدالة تتطلب في داخلها النظر إلى حقوق الآخر كما ننظر إلى حقوق الذات. المشهد الثاني: المواطن "س" يطالب بحقوقه ويسكت عن الامتيازات غير العادلة التي حصل عليها. "س" يسكت عن التفاوت في التنمية بين المناطق، مثلا حين يناقش قضايا العدالة بسبب أنه ينتمي إلى منطقة استفادت من التنمية مقارنة بغيرها. هذا المشهد وإن كان أخف من السابق إلا أنه يثير الريبة في موقف "س" من العدالة. بالنسبة للمواطنة "ص" يبدو المواطن "س" غير مهتم بها، ولا يقدم لها يد العون، وكأنه يقول: نعم، أعتقد أنك تعانين ظروفا أصعب مني، ولكنني لن أساعد في تخفيف هذه الظروف. صحيح أنني لن أقف في طريق دفاعك عن حقوقك، ولكني لن أساعدك أيضا. عمليا "س" هنا يحافظ على إبقاء "ص" في حالها السيئ، لأنه لا يريد المشاركة في تحسين ظروفها للدفاع عن نفسها. المشهد الثالث: يدافع فيه "س" عن حقوقه، وفي الوقت ذاته يكشف الامتيازات التي حصل عليها بسبب منطقته وذكوريته. هنا، "س" لا يتحدث بلسان حاله بقدر ما يتحدث بلسان "ص" كذلك. هنا يقترب "س" من الإدراك الحقيقي لمنطق المساواة الضروري لتحقيق العدالة. التحليل السابق يقوم على فكرة أساسية، وهي أن الجور الذي يقع على فرد أو جماعة، هو في الوقت ذاته امتياز يتحقق لأفراد أو جماعات أخرى. مثلا حرمان فئة معينة من اعتلاء مناصب معينة، يعني رفع فرص فئة أخرى في الحصول على تلك المناصب. العدالة فرصتها أكبر حين نمسك بطرفي المشهد. الفرصة أكبر حين يتحدث المستفيد عن الامتيازات غير العادلة، لأنه بذلك يعطي شهادة من الصعب التشكيك فيها، وفي الوقت ذاته يعلن أن هذه التقسيمات غير العادلة لم تمنعه من رؤية الأمور من منظار الأقل نفعا في المجتمع. أو باختصار، المواطن "س" في المشهد الثالث يخبرنا أنه تجاوز أنانيته، وهذا هو لب الأخلاق والعدالة.
http://www.alwatan.com.sa/Articles/De...
Published on March 15, 2016 16:43
عبد الله المطيري's Blog
- عبد الله المطيري's profile
- 15 followers
عبد الله المطيري isn't a Goodreads Author
(yet),
but they
do have a blog,
so here are some recent posts imported from
their feed.

