عبد الله المطيري's Blog, page 12
April 13, 2014
التنوير وابن رشد
التنوير وابن رشد
عبدالله المطيري*
العدد: 1671 التاريخ: 27/04/2005 الصفحة: 24 القسم: الرأي
التنوير العربي، إن صحت التسمية، مستلهم، في كثير من الأطروحات، للتنوير الأوروبي في أهدافه القريبة والبعيدة وفي آلياته ومحركات الفعل والدفع فيه يمكن استخلاص هذه النتيجة من مجمل النتاج الفكري التنويري العربي ومقولاته الرئيسة ولو على مستوى لا يصل لجوهر التنوير الأوروبي بشكل كبير. ولكن إلى ماذا كان يهدف التنوير الأوروبي؟ يقول كانط أحد فلاسفة التنوير الكبار: "التنوير هو خروج الإنسان من حالة القصور، التي يبقى هو المسؤول عن وجوده فيها. والقصور هو حالة العجز عن استخدام الفكر(عند الإنسان) بمعزل عن الآخرين.والإنسان القاصر مسؤول عن قصوره، لأن العلة في ذلك ليست في غياب الفكر، وإنما في انعدام القدرة على اتخاذ القرار وفقدان الشجاعة على ممارسته، دون قيادة الآخرين. ثم قال "لتكن لديك الشجاعة على استخدام فكرك بنفسك" ذلك هو شعار عصر التنوير". إذن كان هدف التنوير الأوروبي هو "الإنسان"، عودة له وبناء لشخصيته الفاعلة وإلزامه مسؤولياته التي هو وحده مسؤول عنها. خصوصا مسؤولياته الفكرية المتمثلة في استقلال الفكر وحريته وخروجه من ربقة الوصايات الخارجية. وهذه كلها عقبات كان صراع التنوير الأساسي مواجهتها، وهز أركانها عن طريق التنظير لمبادئ التنوير، وهذا الأمر قد قام به الفلاسفة الكبار وكذلك ممارسة المسؤولية والحرية في الفكر، وهذا ما قام به بامتياز وشجاعة علماء الطبيعة ورجال الفن التشكيلي والشعري والروائي والموسيقي. لقد كان التنوير عملا واقعا ذا عمق واحد وفضاءات وأجواء وتمظهرات متعددة وبارزة. أما آليات العمل التنويري فقد كانت ترتكز أولا على قيم العقل بوصفها المعتبرة والمعتمدة. ولزوم دعمها في مواجهة ركام الجهالات والثقافات الشعبية الخرافية التي كانت سائدة وقوية الجذور في ذلك الوقت كما كانت ترتكز أيضا على قيم الحرية باعتبارها المناخ الذي لا يمكن للتنوير التحقق إلا فيه. وهذا المرتكز كان يواجه الأعداء الأكثر شراسة وبطشا وفطنة . إنها الطبقة " العالمة " في ذلك الوقت، الكنيسة المتحالفة بقوة مع فكر القرون الوسطى. كان الصراع شديدا وتطلّب كثيرا من التضحيات والأثمان الغالية، ولكن تلك الطبقة تحت وقع الجدل العقلاني الحر، لم تلبث أن تهاوت دون أن يأسف عليها كثيرون. هذه التجربة التنويرية الناجحة تمثل لدعاة التنوير العربي مخيالا مثيرا يمكن استلهامه، وقل إن شئت إعادة التجربة في البيئة الخاصة، هذا الشعور من كثير من المفكرين العرب الكبار يبدو منطقيا، حين نقارن بين الأهداف التي يراد بدء التنوير العربي منها وأهداف التنوير الأوروبي نجد أنها مشتركة، فالإنسان هو أساس البناء، ودون إعادة إنسانيته المتمثلة في عقله وحريته فإنه لا يمكن أن يسهم في بناء وتنمية، فعوائقه الداخلية ما تزال تمسك به وتقيده وتسلب منه أسلحته، وأنّى للإنسان الانطلاق والنجاح في الخارج مادام لم يحسم مع داخله القريب.
لكن الكثير من الخبراء في الشؤون والأوضاع الداخلية العربية يعتقدون أنه ما لم يتم العثور على نموذج للتنوير في التراث الفكري والفلسفي العربي فإن المحاولات التنويرية العربية لن تنجح، فالعقلية العربية ترسخ في أعماقها توجس وتخوف من الآخر المختلف، فهو لا يزال هو الغازي الصليبي أو المستعمر الناهب أو الكافر الذي لا يمكن أن يملك النافع والمفيد لنا.وبالتالي فإن طرح التجربة الأوروبية دون سند تراثي لن تفلح ويستشهدون ببعض التجارب التي لم تتحصل على امتداد وقبول على مستوى واسع. على إثر هذه الفكرة جرت محاولات متعددة في البحث عن نموذج من التراث العربي يمكن استلهامه والاستناد على مقولاته الفكرية في تأسيس حراك تنويري عربي. لم تكن الخيارات بتلك الكثرة والتنوع بل كانت محصورة في الفكر الفلسفي تقريبا وبشكل ما في بعض المقولات المعتزلية, إلا أن الشخصية التي حازت على الاهتمام والعناية الأكبرين هي شخصية وفكر أبو الوليد ابن رشد الحفيد. وذلك لعدة أسباب أراها لعل من أهمها: السبب الأول: أن قيمة العقل في فكر ابن رشد مركزية وأساسية. والعقل عند ابن رشد هو العقل البرهاني الصارم وليس العقل الجدلي أو الخطابي اللذين قد تلبسا بموروث أصبح بحد ذاته عائقا للعمل النهضوي والتنويري فيما العقل البرهاني بقي الأقل تفعيلا وبالتالي فهو بشكل كبير متخلص من التراكمات المعيقة، ويبدو بكرا قادرا على العمل بطاقة وحيوية الشباب كما أنه قادر على العمل بفاعلية مع العقل العلمي ولن يقف عائقا أمامه. السبب الثاني: أن شخصية ابن رشد مطمئنة للمتوَجِس الداخلي فهو الفقيه الكبير والقاضي المعتبر وصاحب المتن الفقهي الموثوق على المذاهب الأربعة "بداية المجتهد ونهاية المقتصد" كما أنه رسم طريقا آمنة تسير فيها الشريعة آمنة بجانب أختها الحكمة "الفلسفة" بوصفهما حقين، والحق لا يعارض الحق. وابن رشد، كما يقول الجابري، هو الذي دافع عن الفلسفة ليس بالفلسفة بل دافع عنها بالفقه. السبب الثالث: أن الفكر الرشدي قد أثبت فعاليته ونجاحا في البيئة الأوروبية من خلال الرشدية اللاتينية. يذكر بول كيرتس أستاذ الفلسفة المتفرغ بجامعة نييورك (بافلو) ضمن مداخلته التي كانت بعنوان "الحرية العقلية والعقلانية والتنوير" والمقدمة في المؤتمر الدولي الخامس الذي ترعاه الجمعية الفلسفية الأفرو آسيوية عن "ابن رشد والتنوير" المنعقد سنة 1994م في القاهرة. يذكر أن ابن رشد أو أفيروس كما ينطق باللاتينية قد أسهم في تطوير التنوير في القرنين السابع والثامن عشر. وهو من الممهدين للرؤية العلمية الحديثة بحكم أنه قدم أرسطو لأوروبا مما سبب إشكالا في الفكر الوسيط الذي كانت تحميه الكنيسة في ذلك الوقت، ولا أدل على ذلك من أن كتب ابن رشد قد أحرقت بقرار من مجلس كنسي إقليمي في جامعة باريس ومنع تدريسها بين عامي 1210 و1215 وأعيد تدريسها في عام 1231 ولكن بعد تعديلها وتصحيح أخطائها الكثيرة، وذلك بقرار من البابا. ومن المعلوم عند مؤرخي الفكر الأوروبي في القرن الثاني والثالث عشر الميلادي أن الرشدية كان لها التأثير الكبير في تطوير الأسكلائية (المدرسية) ودفع العقل إلى الصدارة الرسمية في المسيحية. فهو إذن فكر مجرّب وأثبت فاعليته. السبب الرابع: أن شخصية بن رشد مغلّفة بتراجيديا مثيرة جدا للمثقف العربي، فهو يتماهى معها وكأن الظروف هي هي لم تتغير، فالاضطهاد باسم الدين والسياسة لا يزال المثقف العربي يعانيه وإن كان ابن رشد قد أحرقت كتبه ونفي إلى أليسانة، وهي بلدة لليهود، وأمر ألا يُخرج منها، فإن أحوال المثقفين العرب ليست بالأحسن والأفضل. كل هذه الأسباب وغيرها، ربما، جعلت من ابن رشد الفيلسوف الذي يمكن استلهام كثير من مقولاته في تأسيس وبناء فكر عربي نهضوي. ليس هذا كلاما نظريا فقط، بل إن هناك ما يمكن تسميته بمدرسة رشدية معاصرة في المغرب العربي، فقد قامت هذه المدرسة بتحقيق مؤلفاته من جديد وتقديمها بمقدمات وشروحات حديثة، وذات عمق علمي كبير والمشرف على هذا المشروع هو المفكر المغربي محمد عابد الجابري. ولكن هناك على الطرف الآخر من يخشى أن نقع في حبائل ابن رشد. بمعنى أن نقع في سلفية رشدية، بينما المشروع التنويري مغاير إن لم نقل مضاد للسلفية في منطلقاته ومناهجه وأهدافه، فابن رشد، بحسب هذه النظرة، مهما علت قيمته يمثل فكر القرون الوسطى، ولا يمكن أن نستلهم فكر القرون الوسطى في عصر الحداثة وما بعد الحداثة. ومن وجهة نظري الخاصة أن القضية تتحدد في المنهج الذي نتعامل به مع فكر ابن رشد، فإن كان منهجا تسليميا متلقَيا بسلبية تحت تأثير الهالة ويعتقد أن ابن رشد يملك كل الحلول، فإنه السلفية التي أردنا الفكاك منها. أما إن تم التعامل مع تراث هذا الفيلسوف الكبير بروح النقد ورغبة التجاوز بحكم أنه يحتوي على بذور العقلانية التي يمكن من خلالها زراعة أشجار تخصنا نحن ونزرعها بأيدينا نحن، فإننا سنكسب في القريب حراكا فكريا وثقافيا عقلانيا تنويريا يحاول فك كثير من الاحتقانات الفكرية والثقافية التي تكاد توقف وتعطل كل عمل تنموي وتنويري خصوصا في قضايا العقل والعلاقة بين الدين والفلسفة بل حتى لغوي، فمن المعلوم أن ابن رشد له مساهمات في النحو واللغة.
عبدالله المطيري*
العدد: 1671 التاريخ: 27/04/2005 الصفحة: 24 القسم: الرأي
التنوير العربي، إن صحت التسمية، مستلهم، في كثير من الأطروحات، للتنوير الأوروبي في أهدافه القريبة والبعيدة وفي آلياته ومحركات الفعل والدفع فيه يمكن استخلاص هذه النتيجة من مجمل النتاج الفكري التنويري العربي ومقولاته الرئيسة ولو على مستوى لا يصل لجوهر التنوير الأوروبي بشكل كبير. ولكن إلى ماذا كان يهدف التنوير الأوروبي؟ يقول كانط أحد فلاسفة التنوير الكبار: "التنوير هو خروج الإنسان من حالة القصور، التي يبقى هو المسؤول عن وجوده فيها. والقصور هو حالة العجز عن استخدام الفكر(عند الإنسان) بمعزل عن الآخرين.والإنسان القاصر مسؤول عن قصوره، لأن العلة في ذلك ليست في غياب الفكر، وإنما في انعدام القدرة على اتخاذ القرار وفقدان الشجاعة على ممارسته، دون قيادة الآخرين. ثم قال "لتكن لديك الشجاعة على استخدام فكرك بنفسك" ذلك هو شعار عصر التنوير". إذن كان هدف التنوير الأوروبي هو "الإنسان"، عودة له وبناء لشخصيته الفاعلة وإلزامه مسؤولياته التي هو وحده مسؤول عنها. خصوصا مسؤولياته الفكرية المتمثلة في استقلال الفكر وحريته وخروجه من ربقة الوصايات الخارجية. وهذه كلها عقبات كان صراع التنوير الأساسي مواجهتها، وهز أركانها عن طريق التنظير لمبادئ التنوير، وهذا الأمر قد قام به الفلاسفة الكبار وكذلك ممارسة المسؤولية والحرية في الفكر، وهذا ما قام به بامتياز وشجاعة علماء الطبيعة ورجال الفن التشكيلي والشعري والروائي والموسيقي. لقد كان التنوير عملا واقعا ذا عمق واحد وفضاءات وأجواء وتمظهرات متعددة وبارزة. أما آليات العمل التنويري فقد كانت ترتكز أولا على قيم العقل بوصفها المعتبرة والمعتمدة. ولزوم دعمها في مواجهة ركام الجهالات والثقافات الشعبية الخرافية التي كانت سائدة وقوية الجذور في ذلك الوقت كما كانت ترتكز أيضا على قيم الحرية باعتبارها المناخ الذي لا يمكن للتنوير التحقق إلا فيه. وهذا المرتكز كان يواجه الأعداء الأكثر شراسة وبطشا وفطنة . إنها الطبقة " العالمة " في ذلك الوقت، الكنيسة المتحالفة بقوة مع فكر القرون الوسطى. كان الصراع شديدا وتطلّب كثيرا من التضحيات والأثمان الغالية، ولكن تلك الطبقة تحت وقع الجدل العقلاني الحر، لم تلبث أن تهاوت دون أن يأسف عليها كثيرون. هذه التجربة التنويرية الناجحة تمثل لدعاة التنوير العربي مخيالا مثيرا يمكن استلهامه، وقل إن شئت إعادة التجربة في البيئة الخاصة، هذا الشعور من كثير من المفكرين العرب الكبار يبدو منطقيا، حين نقارن بين الأهداف التي يراد بدء التنوير العربي منها وأهداف التنوير الأوروبي نجد أنها مشتركة، فالإنسان هو أساس البناء، ودون إعادة إنسانيته المتمثلة في عقله وحريته فإنه لا يمكن أن يسهم في بناء وتنمية، فعوائقه الداخلية ما تزال تمسك به وتقيده وتسلب منه أسلحته، وأنّى للإنسان الانطلاق والنجاح في الخارج مادام لم يحسم مع داخله القريب.
لكن الكثير من الخبراء في الشؤون والأوضاع الداخلية العربية يعتقدون أنه ما لم يتم العثور على نموذج للتنوير في التراث الفكري والفلسفي العربي فإن المحاولات التنويرية العربية لن تنجح، فالعقلية العربية ترسخ في أعماقها توجس وتخوف من الآخر المختلف، فهو لا يزال هو الغازي الصليبي أو المستعمر الناهب أو الكافر الذي لا يمكن أن يملك النافع والمفيد لنا.وبالتالي فإن طرح التجربة الأوروبية دون سند تراثي لن تفلح ويستشهدون ببعض التجارب التي لم تتحصل على امتداد وقبول على مستوى واسع. على إثر هذه الفكرة جرت محاولات متعددة في البحث عن نموذج من التراث العربي يمكن استلهامه والاستناد على مقولاته الفكرية في تأسيس حراك تنويري عربي. لم تكن الخيارات بتلك الكثرة والتنوع بل كانت محصورة في الفكر الفلسفي تقريبا وبشكل ما في بعض المقولات المعتزلية, إلا أن الشخصية التي حازت على الاهتمام والعناية الأكبرين هي شخصية وفكر أبو الوليد ابن رشد الحفيد. وذلك لعدة أسباب أراها لعل من أهمها: السبب الأول: أن قيمة العقل في فكر ابن رشد مركزية وأساسية. والعقل عند ابن رشد هو العقل البرهاني الصارم وليس العقل الجدلي أو الخطابي اللذين قد تلبسا بموروث أصبح بحد ذاته عائقا للعمل النهضوي والتنويري فيما العقل البرهاني بقي الأقل تفعيلا وبالتالي فهو بشكل كبير متخلص من التراكمات المعيقة، ويبدو بكرا قادرا على العمل بطاقة وحيوية الشباب كما أنه قادر على العمل بفاعلية مع العقل العلمي ولن يقف عائقا أمامه. السبب الثاني: أن شخصية ابن رشد مطمئنة للمتوَجِس الداخلي فهو الفقيه الكبير والقاضي المعتبر وصاحب المتن الفقهي الموثوق على المذاهب الأربعة "بداية المجتهد ونهاية المقتصد" كما أنه رسم طريقا آمنة تسير فيها الشريعة آمنة بجانب أختها الحكمة "الفلسفة" بوصفهما حقين، والحق لا يعارض الحق. وابن رشد، كما يقول الجابري، هو الذي دافع عن الفلسفة ليس بالفلسفة بل دافع عنها بالفقه. السبب الثالث: أن الفكر الرشدي قد أثبت فعاليته ونجاحا في البيئة الأوروبية من خلال الرشدية اللاتينية. يذكر بول كيرتس أستاذ الفلسفة المتفرغ بجامعة نييورك (بافلو) ضمن مداخلته التي كانت بعنوان "الحرية العقلية والعقلانية والتنوير" والمقدمة في المؤتمر الدولي الخامس الذي ترعاه الجمعية الفلسفية الأفرو آسيوية عن "ابن رشد والتنوير" المنعقد سنة 1994م في القاهرة. يذكر أن ابن رشد أو أفيروس كما ينطق باللاتينية قد أسهم في تطوير التنوير في القرنين السابع والثامن عشر. وهو من الممهدين للرؤية العلمية الحديثة بحكم أنه قدم أرسطو لأوروبا مما سبب إشكالا في الفكر الوسيط الذي كانت تحميه الكنيسة في ذلك الوقت، ولا أدل على ذلك من أن كتب ابن رشد قد أحرقت بقرار من مجلس كنسي إقليمي في جامعة باريس ومنع تدريسها بين عامي 1210 و1215 وأعيد تدريسها في عام 1231 ولكن بعد تعديلها وتصحيح أخطائها الكثيرة، وذلك بقرار من البابا. ومن المعلوم عند مؤرخي الفكر الأوروبي في القرن الثاني والثالث عشر الميلادي أن الرشدية كان لها التأثير الكبير في تطوير الأسكلائية (المدرسية) ودفع العقل إلى الصدارة الرسمية في المسيحية. فهو إذن فكر مجرّب وأثبت فاعليته. السبب الرابع: أن شخصية بن رشد مغلّفة بتراجيديا مثيرة جدا للمثقف العربي، فهو يتماهى معها وكأن الظروف هي هي لم تتغير، فالاضطهاد باسم الدين والسياسة لا يزال المثقف العربي يعانيه وإن كان ابن رشد قد أحرقت كتبه ونفي إلى أليسانة، وهي بلدة لليهود، وأمر ألا يُخرج منها، فإن أحوال المثقفين العرب ليست بالأحسن والأفضل. كل هذه الأسباب وغيرها، ربما، جعلت من ابن رشد الفيلسوف الذي يمكن استلهام كثير من مقولاته في تأسيس وبناء فكر عربي نهضوي. ليس هذا كلاما نظريا فقط، بل إن هناك ما يمكن تسميته بمدرسة رشدية معاصرة في المغرب العربي، فقد قامت هذه المدرسة بتحقيق مؤلفاته من جديد وتقديمها بمقدمات وشروحات حديثة، وذات عمق علمي كبير والمشرف على هذا المشروع هو المفكر المغربي محمد عابد الجابري. ولكن هناك على الطرف الآخر من يخشى أن نقع في حبائل ابن رشد. بمعنى أن نقع في سلفية رشدية، بينما المشروع التنويري مغاير إن لم نقل مضاد للسلفية في منطلقاته ومناهجه وأهدافه، فابن رشد، بحسب هذه النظرة، مهما علت قيمته يمثل فكر القرون الوسطى، ولا يمكن أن نستلهم فكر القرون الوسطى في عصر الحداثة وما بعد الحداثة. ومن وجهة نظري الخاصة أن القضية تتحدد في المنهج الذي نتعامل به مع فكر ابن رشد، فإن كان منهجا تسليميا متلقَيا بسلبية تحت تأثير الهالة ويعتقد أن ابن رشد يملك كل الحلول، فإنه السلفية التي أردنا الفكاك منها. أما إن تم التعامل مع تراث هذا الفيلسوف الكبير بروح النقد ورغبة التجاوز بحكم أنه يحتوي على بذور العقلانية التي يمكن من خلالها زراعة أشجار تخصنا نحن ونزرعها بأيدينا نحن، فإننا سنكسب في القريب حراكا فكريا وثقافيا عقلانيا تنويريا يحاول فك كثير من الاحتقانات الفكرية والثقافية التي تكاد توقف وتعطل كل عمل تنموي وتنويري خصوصا في قضايا العقل والعلاقة بين الدين والفلسفة بل حتى لغوي، فمن المعلوم أن ابن رشد له مساهمات في النحو واللغة.
Published on April 13, 2014 15:24
April 8, 2014
المجرم والضحية وتبادل الأدوار
المجرم والضحية وتبادل الأدوار
عبدالله المطيري ضمن اهتمامي بأعمال المخرج البولندي المهم رومان بولانسكي "ROMAN POLANSKI"سأتحدث هذا الأسبوع عن أحد أعماله المهمة وهو فلم "" DEATH AND THE MEDIAN هذا الفلم أطلق سنة 1994 ولا يزال يشع بقيمة فنية عالية. الفلم يتجسد في ثلاث شخصيات فقط وهو مأخوذ من مسرحية للأديب الأرجنتيني التشيلي Ariel Dorfman الذي هرب من حكم الطاغية بونشيه وحصل على الجنسية الأمريكية سنة 2004. الفلم يقوم على حوارية عالية وعلى تقلب مرعب في المواقف والعلاقات بين الشخصيات الثلاث. لدينا زوج وزوجته وزائر غريب. بين هؤلاء تدور حكاية طويلة هي حكاية الضحية والقانون والمجرم. لم يرد في الفلم أية تسمية لأماكن محددة أو لأسماء بعينها وكأن المقصود هو التعبير عن أن القضية ليست قضية تشيلية فقط بقدر ما هي حكاية إنسانية حدثت وتحدث في كثير من دول العالم. الفلم هو محاولة لكشف عمق الشخصيات الثلاث أو فضحها. ماذا تشعر به الضحية؟ وماذا تعني لها المقاضاة والمحاكمة؟ وكيف هو الألم الذي يسببه لها القانون حين يضعها في صف واحد مع المجرم ويطلب منها مالا تطيقه من إثباتات وأدلة تعجز هي ، باعتبارها ضحية ضعيفة أمام سلطة غاشمة، أن تحصل عليها. من جهته يبدو القانون في ورطه ، فهو من جهة مشدود لمعايير العدالة التي تتطلب وضع المجرم والضحية في صف واحد حتى يصدر الحكم ومن جهة ثانية يبدو أن القانون ذاته يشارك ، من خلال فراغاته الواضحة، في الجريمة بدليل أن الكثير من المجرمين يستطيعون من خلال استغلال ثغرات القانون الخروج من المسئولية ويحملون بكل صفاقة شعار البراءة. من جهته يبدو المجرم غارق في ذاته ولم يستطع بعد رؤية الضحية، لا يزال المجرم يفكر في محيطه الخاص ولا يرى في المعادلة طرف آخر حقيقي ولذا لا يحضر في اهتمامه كونه مجرم بقدر ما يحضر شعوره بالقوة وذكريات السلطة التي تمتع بها ومدى مهارته وإبداعه في ممارسة استبداد السلطة على الناس. لاحظ هنا أن الحديث ليس عن جريمة بالمعنى الفردي بقدر ما هو إجرام السلطة ، أي الجريمة التي تتم باسم مؤسسات الدولة وهي الجريمة التي لا توازيها أي جريمة أخرى. هنا يحضر بولانسكي باعتباره نمط خاص من المخرجين ، تصل عينه إلى قضايا مهمة من هذا النوع وربما كانت تجربته كبولندي تعرضت بلاده لكثير من ويلات الاستبداد هي المحرك لمثل هذا العمل لأنني أعتقد أن مثل هذه الأعمال تتطلب من أجل إنجازها شعورا حقيقيا بالقضية لا أعتقد أن الاحتراف الفني كفيل بتحقيقه. أعني أن القرب من حقيقة الحدث ، كما هو الحال مع الكاتب والمخرج، هو الذي أعطى تلك الدفعات الهائلة من الحضور الحقيقي للشخصيات ضمن شبكة الأحداث عبر شخصيات ثلاث عبرت عن تاريخ طويل من حكاية الإنسان مع الظلم والاستبداد. لدينا هنا مخرج بولندي عاصر كثير من التحولات السياسية والاجتماعية في بلده لدرجة أن فقد الناس الثقة بما يطرح على أنه قانوني وشرعي. أو بعبارة أخرى لدرجة أن يفقد الناس الثقة بالفصل الجوهري بين القانون والإجرام. في المقابل لدينا كاتب تشيلي عانى تجربة ممثالة في بلده حين سيطر عليها دكتاتور غاشم. هذه التجارب تدفع بقوة للتفكير في هذا السؤال الفكري الفني في آن واحد: هل يعكس القانون العدالة؟ ليس بالضرورة. هذه هي الإجابة الغالبة في المبحث الفلسفي على الأقل. لكن في ذات الوقت وبحسب المبحث الفلسفي أيضا فإن القانون إذا فقد إيمان الناس به على أنه عادل إلى درجة ما فإن قيمة هذا القانون تتلاشى ويتحول إلى مجرد عصا في يد الأقوى لا أكثر. في فلسفة القانون نعرف أن القوانين توضع لمواكبة حالات وظروف اقتصادية واجتماعية معينة كما نعرف أيضا أن هذه الظروف تتحرك بسرعة أكبر من سرعة حركة تعديل القوانين والتشريعات. في الفجوة بين هاتين الحركتين تنشأ القوانين غير العادلة أي القوانين التي لا تعالج ظروف الواقع بشكل يراه الناس عدلا. هذه حالة طبيعية إلى حد ما ربما تشير إلى مشكلة التفاعل بين القوانين والواقع لكن ما يطرحه الفيلم هو مشكل أعمق باعتبار أنه يقضي على أي تبرير معقول للانفصال بين العدالة والقانون. هذه الاشكالية تدفع الناس لمعضلة أخلاقية كبرى وهي خلو المكان من أي معيار للفصل بين الجريمة والبراءة. الخيار المجنون أمامهم أن يقبلوا بهذه الفكرة: ذات الفعل قد يكون جريمة وقد يكون سلوكا قانونيا فقط لأسباب متعلقة بميزان القوّة لا أكثر. الخيار المرعب هنا هو أن الجريمة هي ما يحدده الأقوى أنه جريمة ومن المحتمل جدا أن يجعل غدا الجريمة عملا قانونيا لا لتغير الظروف العامة بل لتغير حسابات القوي الخاصة والخاصة جدا. الفيلم يحوم بنا في إشكالات من هذا النوع إشكالات بهذا العمق في حكاية لا يظهر فيها سوى ثلاثة أشخاص غارقين في سؤال الحق والعدل. http://www.alwatan.com.sa/Articles/De...
عبدالله المطيري ضمن اهتمامي بأعمال المخرج البولندي المهم رومان بولانسكي "ROMAN POLANSKI"سأتحدث هذا الأسبوع عن أحد أعماله المهمة وهو فلم "" DEATH AND THE MEDIAN هذا الفلم أطلق سنة 1994 ولا يزال يشع بقيمة فنية عالية. الفلم يتجسد في ثلاث شخصيات فقط وهو مأخوذ من مسرحية للأديب الأرجنتيني التشيلي Ariel Dorfman الذي هرب من حكم الطاغية بونشيه وحصل على الجنسية الأمريكية سنة 2004. الفلم يقوم على حوارية عالية وعلى تقلب مرعب في المواقف والعلاقات بين الشخصيات الثلاث. لدينا زوج وزوجته وزائر غريب. بين هؤلاء تدور حكاية طويلة هي حكاية الضحية والقانون والمجرم. لم يرد في الفلم أية تسمية لأماكن محددة أو لأسماء بعينها وكأن المقصود هو التعبير عن أن القضية ليست قضية تشيلية فقط بقدر ما هي حكاية إنسانية حدثت وتحدث في كثير من دول العالم. الفلم هو محاولة لكشف عمق الشخصيات الثلاث أو فضحها. ماذا تشعر به الضحية؟ وماذا تعني لها المقاضاة والمحاكمة؟ وكيف هو الألم الذي يسببه لها القانون حين يضعها في صف واحد مع المجرم ويطلب منها مالا تطيقه من إثباتات وأدلة تعجز هي ، باعتبارها ضحية ضعيفة أمام سلطة غاشمة، أن تحصل عليها. من جهته يبدو القانون في ورطه ، فهو من جهة مشدود لمعايير العدالة التي تتطلب وضع المجرم والضحية في صف واحد حتى يصدر الحكم ومن جهة ثانية يبدو أن القانون ذاته يشارك ، من خلال فراغاته الواضحة، في الجريمة بدليل أن الكثير من المجرمين يستطيعون من خلال استغلال ثغرات القانون الخروج من المسئولية ويحملون بكل صفاقة شعار البراءة. من جهته يبدو المجرم غارق في ذاته ولم يستطع بعد رؤية الضحية، لا يزال المجرم يفكر في محيطه الخاص ولا يرى في المعادلة طرف آخر حقيقي ولذا لا يحضر في اهتمامه كونه مجرم بقدر ما يحضر شعوره بالقوة وذكريات السلطة التي تمتع بها ومدى مهارته وإبداعه في ممارسة استبداد السلطة على الناس. لاحظ هنا أن الحديث ليس عن جريمة بالمعنى الفردي بقدر ما هو إجرام السلطة ، أي الجريمة التي تتم باسم مؤسسات الدولة وهي الجريمة التي لا توازيها أي جريمة أخرى. هنا يحضر بولانسكي باعتباره نمط خاص من المخرجين ، تصل عينه إلى قضايا مهمة من هذا النوع وربما كانت تجربته كبولندي تعرضت بلاده لكثير من ويلات الاستبداد هي المحرك لمثل هذا العمل لأنني أعتقد أن مثل هذه الأعمال تتطلب من أجل إنجازها شعورا حقيقيا بالقضية لا أعتقد أن الاحتراف الفني كفيل بتحقيقه. أعني أن القرب من حقيقة الحدث ، كما هو الحال مع الكاتب والمخرج، هو الذي أعطى تلك الدفعات الهائلة من الحضور الحقيقي للشخصيات ضمن شبكة الأحداث عبر شخصيات ثلاث عبرت عن تاريخ طويل من حكاية الإنسان مع الظلم والاستبداد. لدينا هنا مخرج بولندي عاصر كثير من التحولات السياسية والاجتماعية في بلده لدرجة أن فقد الناس الثقة بما يطرح على أنه قانوني وشرعي. أو بعبارة أخرى لدرجة أن يفقد الناس الثقة بالفصل الجوهري بين القانون والإجرام. في المقابل لدينا كاتب تشيلي عانى تجربة ممثالة في بلده حين سيطر عليها دكتاتور غاشم. هذه التجارب تدفع بقوة للتفكير في هذا السؤال الفكري الفني في آن واحد: هل يعكس القانون العدالة؟ ليس بالضرورة. هذه هي الإجابة الغالبة في المبحث الفلسفي على الأقل. لكن في ذات الوقت وبحسب المبحث الفلسفي أيضا فإن القانون إذا فقد إيمان الناس به على أنه عادل إلى درجة ما فإن قيمة هذا القانون تتلاشى ويتحول إلى مجرد عصا في يد الأقوى لا أكثر. في فلسفة القانون نعرف أن القوانين توضع لمواكبة حالات وظروف اقتصادية واجتماعية معينة كما نعرف أيضا أن هذه الظروف تتحرك بسرعة أكبر من سرعة حركة تعديل القوانين والتشريعات. في الفجوة بين هاتين الحركتين تنشأ القوانين غير العادلة أي القوانين التي لا تعالج ظروف الواقع بشكل يراه الناس عدلا. هذه حالة طبيعية إلى حد ما ربما تشير إلى مشكلة التفاعل بين القوانين والواقع لكن ما يطرحه الفيلم هو مشكل أعمق باعتبار أنه يقضي على أي تبرير معقول للانفصال بين العدالة والقانون. هذه الاشكالية تدفع الناس لمعضلة أخلاقية كبرى وهي خلو المكان من أي معيار للفصل بين الجريمة والبراءة. الخيار المجنون أمامهم أن يقبلوا بهذه الفكرة: ذات الفعل قد يكون جريمة وقد يكون سلوكا قانونيا فقط لأسباب متعلقة بميزان القوّة لا أكثر. الخيار المرعب هنا هو أن الجريمة هي ما يحدده الأقوى أنه جريمة ومن المحتمل جدا أن يجعل غدا الجريمة عملا قانونيا لا لتغير الظروف العامة بل لتغير حسابات القوي الخاصة والخاصة جدا. الفيلم يحوم بنا في إشكالات من هذا النوع إشكالات بهذا العمق في حكاية لا يظهر فيها سوى ثلاثة أشخاص غارقين في سؤال الحق والعدل. http://www.alwatan.com.sa/Articles/De...
Published on April 08, 2014 16:17
April 1, 2014
حرارة الجدل الفلسفي وسط صقيع شيكاجو
حرارة الجدل الفلسفي وسط صقيع شيكاجوعبدالله المطيريالوطن في أجواء ثلجية لم تمر بها مدينة شيكاجو الأمريكية لعقود طويلة اجتمع الفلاسفة في مؤتمرهم السنوي لعرض ونقاش آخر ما توصّلت له مشاريعهم البحثية. هذا المؤتمر هو المؤتمر الحادي عشر بعد المئة للجمعية الفلسفية الأمريكية APA التي تأسست سنة 1900 وضمت عدد من أهم الفلاسفة في التاريخ المعاصر من أمثال جون ديوي وويليام جيمس وجورج ميد وألفرد وايتهد ودونالد ديفدسون وجون رولز وريتشارد رورتي وجون سيرل وروبرت نوزك وأمارتيا نوسبام. بسبب ضخامة عدد الراغبين في المشاركة ولأجل فتح المجال لأكبر عدد ممكن منهم في الحضور فإن الجمعية تعقد ثلاث مؤتمرات في السنة واحد للشرق الأمريكي وآخر للوسط وثالث للغرب. في هذه المؤتمرات يتوافد طلاب وطالبات الدراسات العليا، أستاذات وأساتذة الجامعات، المهتمات والمهتمين للتواصل مع المجتمع المعرفي الفلسفي الذي ينتمون له. فكرة المجتمع المعرفي هنا جوهرية لأننا كما نعرف من علم اجتماع المعرفة أن المعارف والأعمال البحثية هي نتيجة التواصل داخل شبكة اجتماعية يحييها أفراد يتقاسمون الاهتمامات والأسئلة. أسطورة الباحث الذي يعيش منعزلا لوحده ويعتمد فقط على قدراته الخارقة لا تنتمي للواقع ولا لطبيعة الفكر التواصلية. المشهد المأمول في مثل هذه المؤتمرات أن يجد الباحث فيها من يقرأ ما كتب ويدخل معهم في حوار وجدل. المؤتمر هنا يحتوي عن عدد من النشاطات المختلفة من محاضرات إلى جلسات نقاش إلى أوراق علمية. الجميل في قسم الأوراق العلمية أن المنظمين يخصصون لكل ورقة علمية مقبولة للعرض مناقشة أو مناقش رئيسيين يقرئون الورقة ويكتبون عنها ورقة أخرى. بمعنى أن الباحث هنا يضمن أن هناك باحث آخر سيقرأ بحثه بطريقة احترافية وسيكتب له رد عليه. هذه الآلية تفتح علاقة تواصل أولية وبسيطة بين شخصين على الأقل على أمل أن تجد هذه الشبكة من ينضم لها من الحضور والمستمعين خلال فترة النقاش التي تعقب كل جلسة. هذه الأجواء التواصلية تهيء الباحث بشكل عميق للاستماع وقبول الاختلاف والتفاعل بأريحية وأدب واحترام مع الأفكار والطروحات المختلفة. نتفاجأ أحيانا نحن الطلاب المبتعثين حين نرى أستاذا في جامعة أمريكية يتقبّل بأريحية اختلاف الطالبات والطلاب معه. نتفاجأ حين يعلن في مرّات كثيرة أنه لا يعرف الجواب على سؤال ما ويعد الحضور بالبحث أكثر في الموضوع. الحقيقة أن هذه الأستاذة وهذا الاستاذ هم نتاج تربية منظّمة تبنتها التقاليد الأكاديمية منذ فترات طويلة. هذه الأستاذة كانت ولا زالت باحثة تذهب للمؤتمرات العلمية لا للحصول على التبجيل والتطبيل ولا للتخويف والإحباط بل لتدخل في نقاش أخلاقي وعلمي مع مهتمين ومشتغلين بذات الأسئلة والقضايا. بمعنى أن المؤتمرات هنا هي انعكاس للتصورات المجتمع الأكاديمي عن المعرفة والتواصل وفضاءات الإنجاز البحثي. كان هذا حضوري الأول للمؤتمر وكنت على رغبة كبيرة للتعرف على القضايا المطروحة والتي يمكن أن تعكس تصورا عن أهم الأسئلة المتداولة في الفضاء الفلسفي في أمريكا وكندا. من ناحية المنهج كنت أعلم أن الفلسفة التحليلية هي صاحبة الانتشار الأكبر في هذا الفضاء. الفلسفة التحليلية هنا تأتي في مقابل الفلسفة القارّية المنتشرة أكثر في فرنسا وألمانيا. لا بد من القول أن هذا التقسيم ضبابي ففيلسوف ألمانيا الأهم اليوم يورغان هابرماس فيلسوف تحليلي وفي المقابل تتواجد أغلب المدارس الفلسفية غير التحليلية في الأوساط الفكري الأمريكية. الفلسفة التحليلية تهتم بالدقة والوضوح وتتبنى لغة الحجاج المنطقي ولذا فهي ملائمة للأجواء والمعايير الأكاديمية. هذا من ناحية المنهج ولكن ماذا عن القضايا والأسئلة. الحقيقة أن المؤتمر متنوع بشدة. هذه أمثلة على هذا التنوع: مفهوم المادة عند أرسطو، حرية الإرادة، كارناب حول المودالتي، الفلسفة البوذية في كوريا، علم نفس الأخلاق، الميتافيزيقا النسوية، الليبرالية والعقل الجمعي، الهوية والموت، فلسفة التربية، التسامح الديني، الظاهراتية والعرق، الفلسفة الصينية، كانت وهيجل..الخ. هذه الاهتمامات تعكس القضايا المطروحة بشكل أساسي في الوسط الفلسفي الأكاديمي ومن خلالها يمكن للباحث التنبؤ بحركة الفكر والفلسفة. غالبا ما تعقد هذه المؤتمرات في فنادق كبيرة وفي كثير من الأحيان يسكن المشاركون في ذات الفندق. هذا يوفر حركة سريعة للحضور وتوفير هائل للوقت والجهد. جدول النشاطات يبدأ مبكرا حوالي الثامنة والنصف وينتهي في السابعة وأحيانا التاسعة مساءا. نشاطات عديدة تقام في ذات الوقت ولذا فإنه من المهم للمشارك أن يقوم بتحديد خياراته بدقة لحضور أكبر قدر من النشاطات التي تهمّه. تلك القرارات ليست سهلة. على سبيل المثال كنت في حيرة في صباح أحد أيام المؤتمر بين حضور جلسة عن التسامح الديني وبين جلسة عن التركيب عند كانت وهيجل. في الختام وهذه برأيي من أهم المكاسب في أي مؤتمر هي التعرف على الناس والتواصل معهم على المستوى الشخصي وخارج الإطار الرسمي للمؤتمر. من هنا يبدأ الباحث في تكوين شبكة تواصل خاصة قد لا تبقى في حدود التواصل الأكاديمي وتمتد لمستوى العلاقة الإنسانية الأعمق والأهم. أعتقد أنه من الحالات المثالية أن تعثر على إنسان تحبه وتشترك معه في ذات الاهتمامات. في كثير من الأحيان تعثر على واحدة فقط من الاثنتين. شخص تحبه بدون اهتمامات مشتركة أو شخص باهتمامات مشتركة بدون محبة وود. هذه المؤتمرات تعمل كالخطّابة تماما بمعنى أنها تضع الناس أمام بعضهم لعل وعسى أن تنشأ بينهم علاقات إنسانية أعمق وأوسع من مجرد التواصل الفكري أو الأكاديمي. في الأسبوع القادم سأتحدث عن تفاصيل أكثر عن المؤتمر وعن كلمة رئيس المؤتمر لأعضاء الجمعية الفلسفية الأمريكية. http://www.alwatan.com.sa/Articles/De...
Published on April 01, 2014 17:05
March 27, 2014
كيف يمكن الإمساك بالحب؟
كيف يمكن الإمساك بالحب؟عبدالله المطيري يمكننا القول أن الحب كان أحد أهم موضوعات السينما على مدار التاريخ السينمائي. و يمكن تمديد هذا الحكم أيضا على كل مجالات الفنون الأخرى، فالحب كان على مدار التاريخ الإنساني محطة أمان وجذب ورغبة وبحث وإستشكال وقلق أيضا. ولكن إلى أي حد يستطيع الحب أن يصمد الحب أمام مشاعر الإنسان الأخرى أو رغباته الأخرى أو حاجاته الماسّة الأخرى؟ إلى أي حد يستطيع الحب أن يصمد أمام الحياة وظروفها المتقلبة؟ إلى أي مدى يستطيع الحب أن يرافق اللحظات كلها ، اللحظات التي نعيشها وتمثّل كل حياتنا بحلوها ومرّها؟ هذا هو سؤال فيلم Indecent Proposal(العرض غير المحتشم) الكبير. الفلم من بطولة الرائعين وودي هارلسون و ديمي مور الذين يمثلان دور زوجين عاشقين على مستوى عال من التفاهم والسعادة ، إلا أن ظروف الحياة لا تلبث أن تضع هذا الحب محل اختبار من خلال موقف غريب تقع فيه هذه الأسرة مع أحد أثرياء أمريكا جون قيج والذي يقوم بدوره بإتقان روبرت ريدفورد ، هنا يخوض الحب اختباره الأول كما يخوض كلا الزوجين اختبار قاس يكشف لهما مدى دقة تصورهما عن نفسيهما. الفلم مقتبس من رواية لـ جاك إنجلهارد وإخراج إدريان لاين ويعتمد على إثارة هائلة تخلقها حبكة القصة التي تعتمد على التعمق في فضاءات مجهولة من شخصية الإنسان. استطاع المخرج اختيار أكثر الأحداث تعبيرا عن تحولات القصة ومشاعر أطراف الأحداث مرفقا كل هذا بموسيقى فخمة أفعمت المشاهد بالكثير من الانفعالات الأخاذة. أجاد المخرج تصوير تلك الانفعالات الحادة لتخرج بصورة مؤثرة جدا. سعى الكاتب والمخرج أن تعبّر تلك الانفعلات عن مدى الوهم الذي يتلبسنا أحيانا حين نعتقد أننا نملك شيئا ما ولا نخشى عليه من الآخرين ولكننا نشاهده يتسرب من بين أيدينا ولا نستطيع أن نوقف تدفقه بعد أن سمحنا له بالتدفق لتبدأ بعد ذلك عملية محاولة جمعه من جديد. هذه العملية مضنية ومحفوفة باحتمالات عالية من الفشل والإخفاق المرّ. الفيلم يخلق سؤالا يرتدّ إلى الذات، فهو يطرح سؤالا مهما وينبّه بحدة إلى حالة يمكن أن يقع فيها الجميع ، ليس بالضرورة بهذه الحدة التي حدثت بين الزوجين ولكن بطريقة أهدأ وأقل سرعة : هل يتسرب حبّك بين يديك ؟ هل تتسبب الظروف الخارجية أو روتين الحياة في إذابة جليد حبك ؟ ماذا تفعل من أجل تقوية هذا الحب وشد دعاماته ؟ ليس الحب هنا مقصور في صورة الزوج مع زوجته بل هو ممتد ليشمل كل علاقة حب مع كل شيء ، حتى مع النباتات والحيوانات ومقتنياتنا الغالية التي كثيرا ما نهملها. برأيي أن هذا الفلم إضافة إلى جودته الفنية وفخامة الصورة فيه إلا أنه يحمل فكرة في غاية الأهمية ، رسالة نشعر من خلالها بروعة السينما وروعة الفن وقيمة الاجتماع والإنصات لهكذا أعمال. يستيقظ كثير من الناس كل صباح متسائلين لماذا لم أعد أشعر بذات الحماس لهواياتي كما كنت أشعر في السابق؟ شخصيا أشعر بهذا الشعور خصوصا مع الدراسة الأكاديمية وتحوّل الاهتمامات الفكرية التي طالما أنعشت أيامي لأعمال إلزاميا تفرضها ظروف الدراسة النظامية. قد تكون القضية هنا هي تحوّل الهواية إلى احتراف. لا أستبعد أن يشعر لاعب كرة القدم أو الممثل بذات الشعور حين يذهب لـ"العمل" بدلا من الذهاب للمتعة. السعيد هنا من يحوّل عمله اليومي إلى متعة يومية. هذه مهارة استثنائية وعمل جوهري في تغيير علاقة الإنسان بما يفعل. صراع الانسان هنا هو مع العادة والروتين وتحدي اكتشاف الجديد والمثير كل مرة في ذات الشيء. هناك وصفات كثيرة لإسعاد الحياة وإنعاش نشوتها كل مرة ولكن يبدو أن المعنى الجوهري خلف كل ذلك هو أن نعي أن تلك العلاقة مع ما نحب أو من نحب هي علاقة غير مضمونة أو غير محسومة سلفا. الحب علاقة شروطها عالية جدا ولا تتحقق إلا بإنجازها يوميا وفي ذات الوقت. الحب هنا فعل وعمل وليس مجرد رابطة يتم انجازها ووضعها ضمن صندوق المقتنيات الأزلية. علاقة الحب هنا هي علاقة تتنازعها علاقات أخرى، علاقات منافسة ومغرية. أكبر إغراء لهذه العلاقات المنافسة أنها تبدو أنها ستصب في النهاية في صالح علاقة الحب ذاتها. هنا تصبح تلك العلاقات المنافسة مثل السراب الذي نعتقد أن الحب يقبع خلفه. إغراء المال هو أحد هذه العلاقات المنافسة الهائلة. الحسبة كالتالي: هذا المال سيجعل حبنا أقوى وحياتنا أجمل. ولكن في كثير من الأحيان لا تنتهي الأمور بهذه الصورة أبدا. العلاقة الجديدة تستهلك أكثر مما نتخيل وتغيّرنا أكثر مما نتخيّل. هذه الأجواء هي أجواء الصراع التي يعيشها أبطال هذا الفيلم والتي لا أعتقد أنها بعيدة أبدا عن الأجواء التي يعيشها كثير منا. في حياتنا دائما حب يستحق الرعاية، محبوب يستحق الإهتمام وفي حياتنا كذلك صوارف تبعدنا عن ذلك الحب. في الأخير القرار لنا. ليس قرارا سهلا بالتأكيد ولكنه يبقى في أيدينا.
http://www.alwatan.com.sa/Articles/De...
http://www.alwatan.com.sa/Articles/De...
Published on March 27, 2014 16:46
March 11, 2014
الإبتعاث والرجولة
الإبتعاث والرجولةعبدالله المطيري يسعى هذا المقال لفهم تأثير تجربة الابتعاث على مفهوم الرجولة عند المبتعثين السعوديين. سيكون المقال محدودا داخل تجربة المبتعثين الأزواج داخل إطار العلاقة الزوجية. بمعنى فهم سلوك الرجل السعودي في أسرته والاختلاف الذي تسبب فيه الابتعاث على هذا السلوك. هذا المقال لا يعتمد على دراسة إحصائية تشمل عينة واسعة من المبتعثين ولكنه يعتمد على تجربة شخصية، تجربتي الشخصية، وملاحظاتي على الأصدقاء والمعارف الذين التقيت بهم في الولايات المتحدة الأمريكية على مدار الخمس سنوات الماضية. أول تغيير حدث لي مع قدومي لأمريكا هو تصميم المنزل. في أمريكا غالب تصميمات الشقق والمنازل تعتمد على دمج الصالة بالمطبخ. أي ما يعرف بالمطبخ الأمريكي المفتوح على صالة الجلوس والتي هي غالبا الغرفة التي فيها التيلفزيون وتفتح على البالكونة. هذا التصميم يجعل من أعمال المطبخ جزئا قريبا ومفتوحا على أعمال الترفيه في الصالة. العمل في المطبخ لا يعني هنا الانتقال لجزء منفصل في البيت وبالتالي الانقطاع عن أجواء الاجتماع والتواصل ومشاهدة التلفاز في الصالة. في المقابل المطبخ في غالب البيوت السعودية غرفة معزولة لوحدها والتواجد فيها يعني الانعزال عن باقي البيت بشكل أو بآخر. بالنسبة لي هذا التصميم في السكن الأمريكي جعل من عملية الطبخ عملا ممتعا. باختصار يمكن أن تتابع فلمك المفضّل أو مباراتك الحماسية وتقوم بأعمال المطبخ في ذات الوقت. بالإمكان أيضا أن تقوم بأعمال المطبخ وفي ذات الوقت تتحدث مع من في الصالة سواء من أفراد العائلة أو الضيوف. هذا التصميم المختلف يجعل من أفكار الشراكة الزوجية والتعاون بين أفراد الأسرة عملا ممتعا وقابلا للتطبيق. بالتدريج صبح أعمال المطبخ جزئا طبيعيا من الجدول اليوم والحياة الطبيعية. وبالتدريج يصبح أعمال المطبخ من تنظيف وطبخ ونفخ جزءا لا يقدح في رجولة الرجل. عامل تغيير جوهري إضافي في تجربة المبتعثين هو أن الأسرة تقوم بأعمالها دون مساعدة من عاملة منزلية ثابتة في المنزل. بمعنى أن الأسرة تعتمد على نفسها في القيام بأعمالها المنزلية. بعض الأسر المبتعثة تواصل مشوار سي السيد. بحيث تقوم المرأة بكل الأعمال ويواصل الرجل استمتاعه بالسلبية. أسر أخرى تقوم بتخفيض مستوى الأعمال المنزلية بالاعتماد على الأكل الجاهز والتهاون لدرجة كبيرة في مستوى النظافة والترتيب. النوع الثالث يجري تعديلات في الأدوار لتبدأ شراكة حقيقية تنخفض فيها العلاقة بين الجنس ونوع العمل. بمعنى أن الأعمال المنزلية يقوم بها الزوج والزوجة والأعمال خارج المنزل تقوم بها الزوج والزوجة أيضا. من أهم المشاهد المبكرة الملفتة للانتباه في أمريكا أن توقيع عقد السكن يتم بين المالك من جهة والزوج والزوجة من جهة أخرى. بالنسبة لكثير من السيدات السعوديات يعتبر هذا الإجراء علامة على تحوّل في دورها في الأسرة. الآن لم تعد مجرد تابع لولي يقرر كل شيء بقدر ما هي شريك حقيقي له قيمة تخوله إجراء العقد والمشاركة في المسئولية. هذا الاعتراف القانوني يعني للرجل الشيء الكثير أيضا فهو علامة مبكرة على الدخول في أجواء قانونية مختلفة تحمي حقوق أساسية للمرأة لا يمكن التعدي عليها تحت شعار الأعراف والتقاليد أو المعتقدات الدينية. البيت الآن هو بيت الزوجة والزوج وهذا أساس يمكن أن تبنى عليه علاقة تعكس معناه وقيمه. لا بد من الإشارة هنا أن كثير من المبتعثين خصوصا القادمين لدرجة الماجستير وبسبب ضيق وقت البعثة يعيشون تجربة الابتعاث على أنها تجربة قصيرة وسريعة ومؤقتة مما يحدّ من تأثيرها على الأقل في التجربة الواعية. في المقابل طلاب البكالريوس والدكتوراه بسبب طول البعثة فهم أكثر احتمالا لتحول تجربة الابتعاث لتجربة عمر عميقة ومؤثرة. عميقة لدرجة تشكّل نمط علاقة أسرية وتصوّر لدور المرأة والرجل كفيل بأن يكون مناسب لباقي العمر وليس فقط لتجربة خاطفة كما لو كانت تجربة سفر أو سياحة. أيضا من التجارب المؤثرة بعمق في تجربة المبتعث السعودي خصوصا القادمين من بيئات محافظة هو اختلاط زوجته على الأقل دراسيا بالرجال خصوصا السعوديين. هذه الخطوة جوهرية للكثير ممن لم يتصوّر في يوم من الأيام أن زوجته أو أخته ستكون في صف دراسي مختلط مع شباب سعوديين. هذه التجربة حين تقدم عليها الأسرة تحدث تأثيرات عميقة في العلاقات الأسرية. باختصار هذه التجربة تدخل علاقة ثقة هائلة في التجربة الأسرية أو الزوجية. العلاقة الآن لم تعد قائمة على الستر والإخفاء والحجب والمنع وقطع التواصل بل هي قائمة على الثقة المتبادلة. هذه الثقة تعيد الفضل لأهله. بمعنى أن وفاء الزوجة والزوجة لم يعد راجعا لإخضاع كل منهم لشروط إجبارية بقدر ما هو خيار شخصي وعن قناعة وإيمان. هذا التطوّر يجعل الأسرة أكثر في مزاج أكثر صراحة كما يجعلها أيضا أمام فرصة لإعادة ترتيب لأوراق العلاقة والأدوار التي يقوم بها كل فرد داخل الأسرة. كل التغييرات السابقة، وغيرها كثير، تجعل من تجربة الابتعاث كفيلة خلق إمكانات حقيقية لتشكيل تصورات جديدة عن الأسرة والعلاقة الزوجية. مفهوم الرجولة، والذي تأسس في سياقات ثقافية محليّة على تمييز أدوار الرجل عن أدوار المرأة وعلى وضع علاقة تراتبية تكفل للرجل دور السيطرة والتحكّم، هذا المفهوم يتعرّض لاختبار حاد. اختبار يدفع بالفرد للتساؤل على معنى وقيمة القيم التي تضعف من علاقته بأحب الناس من حوله. القيم التي تؤسس لعلاقة غير عادلة وغير منصفة بين أفراد الأسرة. الابتعاث هنا فرصة للتساؤل حول هذه القيم. الابتعاث يوفّر أجواء محفزة. يوفر تصميم للبيوت يجعل المشاركة أيسر وأمتع. يوفر غطاء قانوني يعترف بأهلية الجميع وشراكتهم كما يوفّر فضاء أكثر حرّية يؤسس لعلاقة ثقة متبادلة. في الأخير، كل هذه عوامل مؤثرة والقرار في الأخير للأفراد أنفسهم.
http://www.alwatan.com.sa/Articles/De...
http://www.alwatan.com.sa/Articles/De...
Published on March 11, 2014 18:27
February 26, 2014
بين الحوار والمناظرة
بين الحوار والمناظرةعبدالله المطيري المناظرة هي أحد الأساليب المعرفية القديمة للجدل الفكري والمواجهة بين ممثلي القضايا والتوجهات. مهمة هذه المقالة فحص وقراءة العلاقة بين المناظرة والحوار كشكلين من أشكال التواصل الإنساني. تأتي هذه الحلقة ضمن حلقات سابقة تهدف لفهم أشكال مختلفة من التواصل كالجدل والتفاوض والدعوة مقارنة بالعلاقة الأساسية هنا وهي العلاقة الحوارية. المناظرة كما الحوار علاقة تقوم على تعدد الأطراف وإدراك كل طرف للآخر ولو صوريا. المناظرة كما الحوار أيضا اعتراف بوجود الآخر كطرف مختلف يمكن الدخول معه في علاقة تواصل معرفي. كثير ممن يرفضون المناظرات بشكل عام أو المناظرة مع طرف بعينه يعلنون عن رفضهم الاعتراف بالطرف الآخر كمقابل معرفي يمكن أن يكون التواصل معه ذا معنى. من يرى الآخر أقل منه قيمة معرفية يرفض مناظرته. من يرى الآخر على أنه عاجز عن الدخول في جدل معرفي يرفض المناظرة أيضا. عامل مهم وحساس أيضا هو أن المناظرة كما الحوار تقوم على ثقة أخلاقية. بمعنى أن المناظِر ينطلق من ثقة في التزام الطرف الآخر بقدر معيّن من القيم الأخلاقية التي تكفل حفظ قدر معقول من الكرامة لجميع الأطراف كما أنها تقي المناظرة من الانحطاط إلى علاقة إيذاء مباشر. يتجنب عادة الناس التواصل مع من لا يثقون في أخلاقهم. في السياق الفكري يتجنب المشتغلون بالفكر أولئك الذين لا يتورّعون عن الكذب والتلفيق والدخول في مؤامرات للقضاء على خصومهم. الحد الأدنى من الالتزام الأخلاقي شرط للمناظرة ولكن المستوى يرتفع أكثر بكثير بالنسبة للحوار. الحوار لا يكفي له الأمان من أذى الآخر بل الثقة في حب الآخر. الشرط الأخلاقي في المناظرة يكفي أن يكون التزاما تقنيا بين أطراف التناظر يشرف عليه منظمي المناظرة. بالنسبة للحوار الالتزام الأخلاقي أعمق لا على أنه ظرف مؤقت بل على أنه واجب دائم وغير قابل للنقض. الاشتقاق اللغوي لوصف المناظرة يدعم المعاني السابقة. جذر الكلمة (نظر) يحيل إلى حالة إدراك من طرف لآخر. أي رؤية لها فاعل ومفعول. النظر لا يتحقق فقط بتوجه العين لموضوعها بل يشترط له إدراكا وقصدية تجعل من الموضوع مدركا باعتباره شيئا ذا معنى. الفعل (ناظَرَ) يشير أيضا إلى حالة مقابل ومماثلة بين الأطرف. النظراء على حالة من المساواة الاعتبارية داخل فعل التناظر بمعنى أن لهم حق متساوي في المشاركة والتفاعل. لا يمكن الحديث عن مناظرة بشروط تميّز طرف عن الآخر. هذه الصورة تفشل مباشرة في الحصول على قيمة المناظرة وتتحول إلى مجرد أحبولة ينسجها طرف للإيقاع بطرف آخر. ولذا فإن قيمة التنظيم ومن يشرف عليه كمقدمي البرامج التلفزيونية مثلا جوهري في إعطاء المناظرات قيمتها ومعناها. البرامج التي لا تحترم هذا المبدأ تسقط مباشرة من الاعتراف العام ولا يتعلّق بها إلا الفئة التي تدعم توجهها الأيديولوجي الخاص مما ينزع عنها الاعتراف ذو المعنى. أي الاعتراف من الأطراف المختلفة. كل العوامل السابق مشتركة بين المناظرة والحوار ولكن هناك فروقات مهمة تجعلنا أمام شكلين من أشكال التواصل. في البداية المناظرة على خلاف الحوار قائمة على خلفية اختلاف سابق. بمعنى أن أطراف المناظرة يحضرون لها على خلفية خلاف سابق معلن وواضح. المناظرة هي امتداد لتلك الحالة ويقصد بها تركيز تلك الاختلافات في سياق منظّم ومركّز. الحوار في المقابل ينطلق من حالة الإلتقاء بين طرفين بدون افتراضات سابقة. الحوار يمكن أن ينشأ مع إنسان لا تعرفه من قبل وربما تلتقي معه للمرّة الأولى. الحوار هو حالة مفتوحة على احتمالات متعددة ومختلفة تنشأ داخل الحوار لا خارجه. كذلك على مستوى المساحة، الحوار علاقة أوسع وأرحب. من شروط المناظرة الجيدة أن يحافظ أطرافها على ثبات موضوع المناظرة. الخروج إلى موضوعات أخرى غالبا يعتبر فشلا وانحرافا عن الهدف المحدد سلفا. في المقابل الحوار علاقة يمتلك زمامها أطرافها بدون ضغط خارجي. بمعنى أن الحوار علاقة حرّة يمتلك أطرافها حق تقرير موضوعها وغرضها وهدفها. المناظرة كذلك علاقة مؤقتة محددة الزمان والمكان فيما العلاقة الحوارية علاقة قد تمتد للعمر كله. الحوار هنا علاقة وجودية بمعنى أنها شكل من أشكال الوجود الإنساني مع الآخرين فيما المناظرة هي علاقة تقنية مؤقتة ذات أغراض محددة ومحدودة. فرق مهم آخر وهو أن المناظرة على خلاف الحوار مرتبطة جوهريا بطرف ثالث خارجي. المناظرة تستهدف الجمهور ويشرف على إدارتها غالبا طرف خارجي. الحوار في المقابل لا يستهدف الجمهور بل في أحيان كثيرة غياب الجمهور يجعل الحوار أكثر نجاحا وصدقا. فكرة غريبة أيضا أن يتم الاشراف على الحوار من الخارج. إدارة أطراف الحوار للحوار بأنفسهم غالبا ما ينظر له على أنه نجاح كبير وعلامة على جودة الحوار وتشكّل علاقة إستثنائية بين أطرافه. بدون الحضور الجماهيري تنخفض بشكل حاد رغبة أطراف المناظرة في التواصل باعتبار أن المناظرة هي بشكل أو بآخر دعاية ذاتية أو دعاية لفكرة محددة. عدم وجود الجماهير يجعل من إمكان تحقيق الدعاية متعذّرا وبالتالي فإن تتلاشى قيمة المناظرة الجوهرية. هذا الدور الأساسي للحضور الجماهيري مؤثر بشكل كبير على سلوك ومنطق المتناظرين. من الحالات الجديرة بالتأمل تلك اللقاءات التلفزيونية التي تجمع أطراف يدخلونها بأهداف مختلفة. يهمنا هنا تلك اللقاءات العمومية التي يدخل فيها طرف بعقلية المحاور ويدخل فيها طرف آخر بعقلية المناظِر. سأحاول في مقالات لاحقة دراسة نموذج أو أكثر على تلك المشاهد والتي يمكن أن تعطي صورة أكثر وضوحا لشكلين من أشكال التواصل الإنساني الحوار والمناظرة. http://www.alwatan.com.sa/Articles/De...
Published on February 26, 2014 16:10
February 18, 2014
بين الحوار والمفاوضة
بين الحوار والمفاوضةعبدالله المطيرينسمع كثيرا في النشرات الإخبارية عن دعوات للفرقاء السياسيين للجلوس على طاولة الحوار. في ذات الوقت يتم ذات الحدث على أنه مفاوضات بين الأطراف السياسية على عدد من القضايا الشائكة. هل طاولة الحوار وطاولة المفاوضات واحدة؟ هذا هو السؤال الرئيس لهذه المقالة. في البداية يمكن ملاحظة أن إطلاق وصف الحوار والمفاوضة على ذات الحدث ربما نتج عن عوامل مشتركة تتيح للمتابع إمكان إطلاق ذاك الوصف أو الوصف الآخر. على سبيل المثال الحوار كما المفاوضة يتكوّن من أطراف متعددة وليس طرف واحد أي أنها عملية تواصل بين أطراف متعددة. ثانيا الحوار كما المفاوضة يستدعي للذهن وجود خلاف بين الأطراف وأن هذا الخلاف هو موضوع الاجتماع. بدون هذا الاختلاف لا يمكن تصوّر وجود التفاوض أو حتى الحوار. حالة التوافق ترد الأطراف المتعددة إلى طرف واحد يجمعهم. كذلك يمكننا القول أن الحوار هو في عمقه تفاوض حول معنى ما. بمعنى أن المتحاورين يقومون بمقابلة المعاني داخل الحوار ويتفاوضون في قيمها ومعانيها. المتفاوضين أيضا وبمجرد قبولهم للجلوس على طاولة التفاوض نفهم مباشرة أن لديهم استعدادا ولو نظريا لحل إشكالاتهم بطريقة سلمية لا بطريقة العنف. كما أنه لا أحد يصف الحرب بالحوار فإنه لا أحد يصف الحرب بالتفاوض. على العكس سماع دعوات الحوار والتفاوض تبشّر بإمكان توقف للقتال أو بشائر هدنة في الأفق. عامل الجنوح للعنف لا للسلم هو ما يبرر رفض كثير من الأطراف التفاوض مع أطراف أخرى لأنها ترفض مبدأ قبول الطرف الآخر أو التعامل معه. مثلا، كثير من الحكومات، على الأقل في العلن، ترفض التفاوض مع الجماعات الإرهابية أو الخاطفين أو من شابههم باعتبار أنها ترفض إعطاء تلك الجماعات إعترافا ولو اعتباريا بالوجود أو التمثيل أو القيمة. إذن في الصورة العامة الحوار والتفاوض تحمل معاني وسمات مشتركة تجعل من الحديث عنهما كسلوك متشابه معقولا من الوهلة الأولى. لكن في المقابل ورغم التشابه الظاهري إلا أننا أمام سمات اختلاف بين السلوكين تتعلق بالسياق و بغرض الاجتماع وأدوات التعامل. بالنسبة للسياق فإن سياق التفاوض هو سياق غير آمن. بمعنى أن التفاوض يأتي في سياق متأسس على صراع سابق وانسداد لخيارات الأفراد الأولى. بمعنى أن التفاوض هو غالبا الخيار الثاني للأطراف لا الخيار الأول. الخيار الأول هو الغلبة والحصول على كل شيء بدون تقديم تنازلات. التفاوض هنا هو حل وسط بين الخيار الأول (الغلبة بدون تنازل) وبين النتيجة الأخيرة والخطيرة وهي الخسارة الكاملة والخروج بدون أي مكاسب. هذا السياق الذي ينشأ التفاوض داخله يجعله من التفاوض صراع ناعم للقوى. بمعنى أن كل طرف يأتي محملا بشروط محددة للقوى والتفاوض هو في الأخير إتاحة لهذه القوى للتوازن بطريقة هادئة وبعيدة عن العنف المباشر. هذا الصراع للقوى ليس فقط بين الأطراف المتحاربة ولكنه يتحقق كذلك في مفاوضات الشركات والقوى الاقتصادية فيما بينها أو حتى في تفاوض صاحب العمل مع طالبين العمل على الأجور وطبيعة العمل. كذلك يتحقق في التفاوض على معاني الرموز في العلاقات الاجتماعية. في المقابل فإن السياق الحواري سياق آمن. بمعنى أنه سياق لتسليم القوى لا لاستعمالها للضغط على الطرف الآخر. في الحوار يسعى كل طرف لتأمين الطرف الآخر لا تخويفه. الحوار هنا يأتي لا كخيار ثاني بل كخيار أول. بمعنى أن الحوار ليس خطة رديفة للخطة الأساسية التي هي السيطرة على الطرف المقابل وتحويله إلى تابع مطيع. هناك بالطبع من يفهم الحوار بهذا الشكل ولكن دعوى الحوار هنا تتحول إلى مجرد استراتيجية دعوية تفقد مباشرة معنى الحوار وتتحول إلى حيلة أخرى لتحقيق الهدف الأساس الأول. من هنا يمكن أن نرى أن غرض التفاوض يختلف كذلك عن غرض الحوار. في التفاوض الطرف الآخر ليس مقصودا بحد ذاته بل بقدر ما هو قوّة مقابلة أو منافسة. التفاوض هنا علاقة أداتية مباشرة. بمجرد أن يفقد أحد أطراف التفاوض المكانة المادية التي أهلته للمنافسة فإنه يختفي من تصوّر المفاوضين ويغيب مباشرة عن المشهد. في الحوار الطرف الآخر غاية في ذاته وليس مجرد وسيلة. بمعنى أن الحوار هنا هو سلوك طبيعي للتواصل مع الآخرين بما يكفل لهم الحضور والظهور. الحوار هنا ليست حالة طوارئ أو حالة استثناء بل هي إدراك لمعنى الوجود مع الآخرين وإدراك لأزمة تحويل الآخرين لمجرد أدوات للاستعمال. كذلك أدوات التفاوض هي استراتيجيات ضغط لتحقيق الغرض الأساسي وهو أن تعطي أقل قدر ممكن وتأخذ أكبر قدر ممكن. الأدوات هنا هي أدوات للمناورة وعينك على نقاط القوة ونقاط الضعف عند الطرف المقابل. أدوات التفاوض هنا هي أدوات الصراع الميداني ولكنها مقدمة في شكل كلمات وعبارات. من هنا نفهم أن التفاوض هو حلقة في مسلسل طويل. أو لقطة في مشهد. التفاوض هنا هو صورة ملطّفة لساحة الصراع الفعلية على في مجال التنافس. المتفاوضون السياسيون يحضرون متكئين على أسلحتهم وجنودهم على الأرض. الشركات الاقتصادية تفاوض متكئة على قواها المالية وسيطرتها على السوق. صاحب العمل يفاوض متكئا على أرقام البطالة وفقر المتقدمين للعمل. في المقابل أدوات الحوار هي النوايا الطيبة والرغبة الصادقة في التواصل السلمي والعميق مع الطرف الآخر. في الحوار ثقة لا توجد في التفاوض. المفاوض الذي يعتمد على مجرد الثقة بالطرف الآخر مفاوض ساذج وسيخسر بالتأكيد. المحاور في المقابل ساذج ولكنه في علاقة تتأسس على السذاجة. بمعنى أنها علاقة معلنة الأهداف والغايات وسليمة من المناورات والضغوطات. الحوار هو علاقة نذهب لها اختيارا لنمارس فيها الثقة والأمان بينما التفاوض حالة حذرة تلجأ لها اضطرارا في صفحة جديدة من صراع القوى. أو بعبارة أخرى: المتحاورن أحباب والمتفاوضون أغراب.http://www.alwatan.com.sa/Articles/De...
Published on February 18, 2014 14:32
February 11, 2014
بين الحوار والدعوة
بين الحوار والدعوةعبدالله المطيريالوطن
المطّلع على البحوث والدراسات المكتوبة عن الحوار في السياق الثقافي السعودي سيلاحظ كم هائل من التركيز على إظهار وبيان وجود الحوار في التراث الديني قبل مئات السنين. ستعثر على عدد كبير من الدراسات عن الحوار في القرآن والسنة وتاريخ الصحابة. في المقابل هناك كم هائل من الدراسات عن الدعوة في الاسلام ومناهجها وطرقها. ستجد أساليب الدعوة في القرآن والسنة وحياة الصحابة والسلف ومن هذا القبيل. في كثير من الأحوال ما يقال عن الدعوة هو ما يقال عن الحوار أو بعبارة أدق يظهر الحوار هنا على أنه وسيلة من وسائل الدعوة. هدف هذا المقال هو فحص مفاهيم الحوار والدعوة والعلاقة بينهما. في البداية سأسجل ملاحظة على الاستعمال القرآني للحوار والذي أعتقد أنه لا يتوافق مع استعمال كثير من الباحثين عن أسس للحوار في الأصول الدينية. في القرآن لم ترد كلمة "الحوار" ولكن ورد فعل الحوار "يحاور" والمصدر "تحاور" في ثلاثة مواقع. الاستعمال الأول ورد في الآية "﴿وَكَانَ لَهُ ثمرٌ فَقَالَ لِصَاحِبِهِ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَنَا أَكْثَرُ مِنكَ مَالاً وَأَعَزُّ نَفَراً﴾.الكهف:34 الاستعمال الثاني ورد في آية "قَالَ لَهُ صَاحِبُهُ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلاً﴾.الكهف:36 والثالث ورد في الآية "قدْ سَمِعَ الله قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى الله وَالله يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا إِنَّ الله سَمِيعٌ بَصِيرٌ﴾.المجادلة:1. يمكن أن نلاحظ من هذه الاستعمالات الثلاث أنها وردت لوصف نقاشات بين طرفين من الناس وهو غير مرتبط كما في الآية الأولى والثانية بكون الشخص على موقف حق أو باطل. بمعنى أن وصف الحوار أطلق على سلوك الاثنين بنفس القيمة رغم أن السياق يذكر الأول على أنه خاطئ ومغتر بماله وجاهه والثاني على محقّ ومذكّر لصاحبه بضعفه وطور تخليقه. الاستعمال الثالث ورد لفظ الحوار كمرادف للجدل أو كوصف للنقاش الذي دار بين الرسول من جهة وخولة زوجة أوس بن الصامت وكانت خولة فيه تدعو الله أن ينزل حكم جديد في قضية الظهار. هذا الحوار الذي انتهى بتحقق مراد الزوجة للعودة لزوجها بعد شبهة الطلاق بينها وبينه. النقطة الجوهرية هنا هي أن الاستعمال القرآني للحوار ورد في ثلاث مواقف كانت أولا بين أفراد على مستوى متساوي كما في الآيتين الأولى والثانية. بمعنى أنها حوارات بين شخص وشخص آخر بدون تفاوت أولي في المنزلة. في الآية الثالثة رغم أن الحوار بين النبي من جهة وخولة من جهة إلا أنه كان جدلا بمعنى أن خولة كانت تناقش وتحاج في قضية لم تكن محسومة بالنسبة لها وحسمت لاحقا في آيات لاحقة. هذه نقطة مهمة لفهمنا للحوار. نلاحظ هنا أنه القرآن لم يصف مثلا الحديث بين الله وإبليس أو بين الله والملائكة أو بين الله والأنبياء بالحوار. الأفعال المناسبة هي الأمر،النهي، القضاء، التنزيل، الوحي. هذه النقطة مهمة لتوضيح معنى أساسي للفرق بين الحوار والدعوة أو الحوار والأمر والنهي. ليس كل كلام بين طرفين حوار. الحوار يحتاج إلى صفتين جوهريتين. الأولى أن يكون موضوع الحوار مفتوحا وغير محسوم بمعنى أن هناك إمكانية لشيء جديد ومختلف. نجد هذا واضحا في مثال خولة حيث أصرّت على طلب إعادة مراجعة وصف ما حصل بينها وبين زوجها ليتحول من ظهار يفرّقهما للأبد إلى خطأ يمكن جبره بكفّارة أو تعويض. في المثالين الأولين نقطة جوهرية وهي أن المتحاورين على درجة اعتبارية واحدة بمعنى أن أحدهم لا يدخل الحوار بسلطته التي تحسم الحوار. بعنى أن الحوار لا يُحسم بسلطة أحد المتحاورين بقدر ما ينشأ ويستمر على طاقة إتاحة المساحة لكل طرف بالمشاركة والاختلاف والرفض أو القبول. مما سبق يمكن القول أن تعميم وصف الحوار التي يطلقها كثير من الباحثات والباحثين على كل حديث بين طرفين يفتقد للدقة وتختفي معه القيمة التي تميّز الحوار عن غيره من أشكال التواصل. الحديث بين طرفين قد يكون أمر ونهي وقد يكون توجيه وقد يكون عتب وقد يكون دعوة وقد يكون تعليم..الخ. الحوار في المقابل حالة خاصة من التواصل تتطلب الاقرار بانفتاح موضوع الحديث من جهة لإمكانية جديدة وتتطلب الشعور بأن الحديث لن يحسم باستعمال سلطة من أحد الأطراف. الداعية هنا أمام إشكاليتين تفصل السلوك الذي يمارسه عن الحوار. أولها أنه لا يمكن له إنشاء حوار مع الآخرين وموضوع الحوار بالنسبة له محسوم ومنتهي وكل وجهة نظره تخالفه تعتبر باطلة وخالية من الصلاحية. هذه إشكالية يواجهها الداعية الديني والأيديولوجي بشكل واضخ وهي ما تؤدي غالبا لفشل هؤلاء في الدخول في حوارات حقيقية مع الآخرين. لا يعني هذا بالطبع أن يعود الفرد لحالة الصفر في كل حوار ويتخلى عن أفكاره ولكن المطلوب أن يدرك حق الآخر في الاختلاف وإمكانية أن يكون اختلافه مؤسسا على نظرة لها معقوليتها ووجاهتها. الإشكالية الثانية التي يواجهها الداعية هي حضوره في علاقة تساوي مع من يتحدث معه. حضوره كموجّه وناصح وهادي للطريق السليم يقطع طريق الحوار. الحوار يتطلب إدراكا للآخر على أنه عضو فاعل ومنشئ أساسي لحالة الحوار والتواصل. الانطلاق من تراتبية ناصح ومنصوح، داعي ومدعو، موجِّه وموَجَّه، تحوّل العلاقة إلى أي شيء آخر عدى أن تكون علاقة حوار. يرتبك الدعاة كثيرا حين يعلن الناس اختلافهم معهم وحين يبدئون في عرض وجهات نظر مختلفة. في كثير من الحالات يقطع الداعية حالة الحوار المزعومة ويعود إلى الهجوم أو التهديد أو التخويف. بمعنى أن يستعمل السلطة التي لم يتخل عنها أبدا. تسليم هذه السلطة هو جوهر الحوار ومضمونه الأساسي.
http://www.alwatan.com.sa/Articles/De...
المطّلع على البحوث والدراسات المكتوبة عن الحوار في السياق الثقافي السعودي سيلاحظ كم هائل من التركيز على إظهار وبيان وجود الحوار في التراث الديني قبل مئات السنين. ستعثر على عدد كبير من الدراسات عن الحوار في القرآن والسنة وتاريخ الصحابة. في المقابل هناك كم هائل من الدراسات عن الدعوة في الاسلام ومناهجها وطرقها. ستجد أساليب الدعوة في القرآن والسنة وحياة الصحابة والسلف ومن هذا القبيل. في كثير من الأحوال ما يقال عن الدعوة هو ما يقال عن الحوار أو بعبارة أدق يظهر الحوار هنا على أنه وسيلة من وسائل الدعوة. هدف هذا المقال هو فحص مفاهيم الحوار والدعوة والعلاقة بينهما. في البداية سأسجل ملاحظة على الاستعمال القرآني للحوار والذي أعتقد أنه لا يتوافق مع استعمال كثير من الباحثين عن أسس للحوار في الأصول الدينية. في القرآن لم ترد كلمة "الحوار" ولكن ورد فعل الحوار "يحاور" والمصدر "تحاور" في ثلاثة مواقع. الاستعمال الأول ورد في الآية "﴿وَكَانَ لَهُ ثمرٌ فَقَالَ لِصَاحِبِهِ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَنَا أَكْثَرُ مِنكَ مَالاً وَأَعَزُّ نَفَراً﴾.الكهف:34 الاستعمال الثاني ورد في آية "قَالَ لَهُ صَاحِبُهُ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلاً﴾.الكهف:36 والثالث ورد في الآية "قدْ سَمِعَ الله قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى الله وَالله يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا إِنَّ الله سَمِيعٌ بَصِيرٌ﴾.المجادلة:1. يمكن أن نلاحظ من هذه الاستعمالات الثلاث أنها وردت لوصف نقاشات بين طرفين من الناس وهو غير مرتبط كما في الآية الأولى والثانية بكون الشخص على موقف حق أو باطل. بمعنى أن وصف الحوار أطلق على سلوك الاثنين بنفس القيمة رغم أن السياق يذكر الأول على أنه خاطئ ومغتر بماله وجاهه والثاني على محقّ ومذكّر لصاحبه بضعفه وطور تخليقه. الاستعمال الثالث ورد لفظ الحوار كمرادف للجدل أو كوصف للنقاش الذي دار بين الرسول من جهة وخولة زوجة أوس بن الصامت وكانت خولة فيه تدعو الله أن ينزل حكم جديد في قضية الظهار. هذا الحوار الذي انتهى بتحقق مراد الزوجة للعودة لزوجها بعد شبهة الطلاق بينها وبينه. النقطة الجوهرية هنا هي أن الاستعمال القرآني للحوار ورد في ثلاث مواقف كانت أولا بين أفراد على مستوى متساوي كما في الآيتين الأولى والثانية. بمعنى أنها حوارات بين شخص وشخص آخر بدون تفاوت أولي في المنزلة. في الآية الثالثة رغم أن الحوار بين النبي من جهة وخولة من جهة إلا أنه كان جدلا بمعنى أن خولة كانت تناقش وتحاج في قضية لم تكن محسومة بالنسبة لها وحسمت لاحقا في آيات لاحقة. هذه نقطة مهمة لفهمنا للحوار. نلاحظ هنا أنه القرآن لم يصف مثلا الحديث بين الله وإبليس أو بين الله والملائكة أو بين الله والأنبياء بالحوار. الأفعال المناسبة هي الأمر،النهي، القضاء، التنزيل، الوحي. هذه النقطة مهمة لتوضيح معنى أساسي للفرق بين الحوار والدعوة أو الحوار والأمر والنهي. ليس كل كلام بين طرفين حوار. الحوار يحتاج إلى صفتين جوهريتين. الأولى أن يكون موضوع الحوار مفتوحا وغير محسوم بمعنى أن هناك إمكانية لشيء جديد ومختلف. نجد هذا واضحا في مثال خولة حيث أصرّت على طلب إعادة مراجعة وصف ما حصل بينها وبين زوجها ليتحول من ظهار يفرّقهما للأبد إلى خطأ يمكن جبره بكفّارة أو تعويض. في المثالين الأولين نقطة جوهرية وهي أن المتحاورين على درجة اعتبارية واحدة بمعنى أن أحدهم لا يدخل الحوار بسلطته التي تحسم الحوار. بعنى أن الحوار لا يُحسم بسلطة أحد المتحاورين بقدر ما ينشأ ويستمر على طاقة إتاحة المساحة لكل طرف بالمشاركة والاختلاف والرفض أو القبول. مما سبق يمكن القول أن تعميم وصف الحوار التي يطلقها كثير من الباحثات والباحثين على كل حديث بين طرفين يفتقد للدقة وتختفي معه القيمة التي تميّز الحوار عن غيره من أشكال التواصل. الحديث بين طرفين قد يكون أمر ونهي وقد يكون توجيه وقد يكون عتب وقد يكون دعوة وقد يكون تعليم..الخ. الحوار في المقابل حالة خاصة من التواصل تتطلب الاقرار بانفتاح موضوع الحديث من جهة لإمكانية جديدة وتتطلب الشعور بأن الحديث لن يحسم باستعمال سلطة من أحد الأطراف. الداعية هنا أمام إشكاليتين تفصل السلوك الذي يمارسه عن الحوار. أولها أنه لا يمكن له إنشاء حوار مع الآخرين وموضوع الحوار بالنسبة له محسوم ومنتهي وكل وجهة نظره تخالفه تعتبر باطلة وخالية من الصلاحية. هذه إشكالية يواجهها الداعية الديني والأيديولوجي بشكل واضخ وهي ما تؤدي غالبا لفشل هؤلاء في الدخول في حوارات حقيقية مع الآخرين. لا يعني هذا بالطبع أن يعود الفرد لحالة الصفر في كل حوار ويتخلى عن أفكاره ولكن المطلوب أن يدرك حق الآخر في الاختلاف وإمكانية أن يكون اختلافه مؤسسا على نظرة لها معقوليتها ووجاهتها. الإشكالية الثانية التي يواجهها الداعية هي حضوره في علاقة تساوي مع من يتحدث معه. حضوره كموجّه وناصح وهادي للطريق السليم يقطع طريق الحوار. الحوار يتطلب إدراكا للآخر على أنه عضو فاعل ومنشئ أساسي لحالة الحوار والتواصل. الانطلاق من تراتبية ناصح ومنصوح، داعي ومدعو، موجِّه وموَجَّه، تحوّل العلاقة إلى أي شيء آخر عدى أن تكون علاقة حوار. يرتبك الدعاة كثيرا حين يعلن الناس اختلافهم معهم وحين يبدئون في عرض وجهات نظر مختلفة. في كثير من الحالات يقطع الداعية حالة الحوار المزعومة ويعود إلى الهجوم أو التهديد أو التخويف. بمعنى أن يستعمل السلطة التي لم يتخل عنها أبدا. تسليم هذه السلطة هو جوهر الحوار ومضمونه الأساسي.
http://www.alwatan.com.sa/Articles/De...
Published on February 11, 2014 16:53
February 4, 2014
معضلة الحوار العمومي
معضلة الحوار العموميعبدالله المطيري يحكى عن مارتن بوبر أنه كان قلقا من الحوارات العمومية. أعني الحوارات التي تقام في فضاء مفتوح يشارك المتحاورين فيه طرف ثالث متابع هو الجمهور. كان بوبر يعتقد أنه بمجرد تواجد مكبرات الصوت أو كاميرا التلفزيون فإن المشهد برمته يرتبك. المشهد الحاضر في ذهن بوبر هو مشهد جماعة من المتحاورين في فضاء خاص تتوافر فيه شروط عالية من التواصل الحر والأمين. فضاء لا يقلق أعضاءه من الصورة التي قد تنعكس عنهم في الخارج. داخل الحوار يشعر كل متحاور أن صورته في يد أمينة. بمعنى أن شريكه في الحوار قادر على فهمه في حالات ضعفه وانكساره وجهله وخجله وأنه لن يستثمر كل هذه المشاهد ضده أو يفصلها عن باقي مشاهده الجميلة. هذا الفضاء الخاص الحميمي يرتبك بالكامل حين يتم الانكشاف على الخارج. هذا يعني دخول أطراف جديدة غير معروفه لأطراف الحوار وكذلك غير ملتزمة بالدخول بالحوار. بمعنى أنها أطراف متابعة مشاهدة بدون أي التزامات. هذا العنصر الإضافي يجعلنا أمام مشهد جديد بالكامل. يصف بوبر هذا العامل الإضافي بـ"الهوّة التي تفصلنا عن الحوار الحقيقي". عامل إضافي جوهري أشار له بوبر في معرض اعتراضه على الحوار العمومي هو أنه يفتقد للعفوية وهو ما "يحتاجه أكثر من أي شيء آخر". العفوية هنا ربما تعني الحديث دون قلق الحسابات المعقدة. أو الحديث الآمن. الحوار العمومي بالضرورة حديث في السياسة وسيتم فهمه وتأويله والجدل معه داخل الفضاء السياسي العام. هذا الفضاء مشكل من عدّة وجوه. أولا أنه مشحون ومليئ بالانحيازات المسبقة. نعلم أن هذه الوضعية تجعل من الحوار مهمة أكثر مشقة وصعوبة. الحوار في الأخير حالة انفتاح وترحاب وضيافة وهذا ما يصعب تحقيقه في الشأن العمومي والذي هو سياسي بالضرورة. إشكالية أخرى للحديث العمومي كفعل سياسي في الفضاء العام هو خوف المتحاورين على أنفسهم من نتائج قد تترتب على صراحتهم وتعبيرهم بصدق عن ما يعتقدون. هناك الحوار العمومي أخطر وأقلّ أمانا خصوصا في السياقات المتوترة وغير المستقرة على حماية واحترام حرية التعبير وحق أشكلة القضايا والأحداث. الحوار العمومي هنا هو عالم مفتوح من الاحتمالات الخطيرة التي يمكن أن تقضي على عفوية المتحاورين وانطلاق تفكيرهم بحرية. الحوار العمومي هنا هو انفتاح على عالم ليس بالضرورة عالم صديق. الحوار في عمقه لجوء وبحث عن الصدق والأمان ودفء التواصل البشري. بوبر اليهودي الذي عاش الحربين العالميتين في ألمانيا يعلم أكثر من غيره أن الفضاء العام خطير والحديث فيه محفوف بشتى أنواع سوء الفهم. قد لا نستغرب أن الحوارات المسجلة لبوبر على قلتها حدثت في أمريكا، المكان الذي شعر هو فيه بقدر أكبر من الحرية والأمان. هل هذا يعني أن الحوار العمومي محكوم عليه بالفشل والاستحالة كحوار حقيقي لصورة من أعلى صور التواصل البشري؟ فلنجرب إذن الوجه الآخر للحوار العمومي. الحوار العمومي، خصوصا المسجل والمنقول تقنيا، في المقابل هو انكشاف على عدد لا محدود من الناس. هو إمكان ممتد وغير محدود لتواصل جديد مع إنسان جديد رغم قسوة الجغرافيا والحدود وشروط الزمان. الحوار العمومي هو يد ممدودة هكذا في الفضاء للإنسان رغم الزمان والمكان. حتى اليوم لا يزال البشر يتواصلون مع حوارات سقراط واليونان رغم أنها قد سبقتهم بآلاف السنين. لو لم تدوّن تلك الحوارات وتحفظ وتنقل لانقطع كم هائل من التواصل البشري العابر للتاريخ والقارات. تحويل حوارات سقراط وغيرها من الحوارات إلى مدونات عمومية جعلت من عدد المشاركين في تلك الحوارات يفوق كثيرا وبشكل مذهل أفرادها الأصليين. التدوين العمومي بشكل آخر جعل تلك الحوارات سرمدية مفتوحة للمستقبل باستمرار. في حواره الأخير مع تلاميذه ومحبيه قبل تنفيذ قرار الإعدام يناقش سقراط قضايا خلود الروح والحياة بعد الموت والمعرفة وغيرها من القضايا. لا يزال هذا الحوار مفتوحا لآلاف القرّاء الذين يدخلون في قضاياه وإشكالاته ويمدّون آفاقه إلى مساحات أوسع وأوسع. يمكننا القول هنا أن تدوين أفلاطون لحوارات أستاذه سقراط جعل من تلك الحوارات تمتد، حتى الآن، لأكثر من 2400 سنة وتشمل عدد لا يمكن إحصاؤه من القراء والمحاورين. هذه فضيلة هائلة للحوار العمومي لا يمكن تجاهلها. باختصار الحوار العمومي هو رحم غير محدود القدرة لإنجاب الحوار. أيضا، الحوار العمومي هو موقف من أجل الحوار. بمعنى أنه موقف معلن وصريح من اللاحوار. أعني هنا أن نقل الحوار للفضاء العمومي هو موقف معلن تجاه ثقافة قطع التواصل الإنساني التي تبثها الحواجز الثقافية والسياسية والدينية والعرقية. العالم كما كان وكما نعرفه اليوم مليء بدعوات قطع التواصل ورسم علاقات العداوة والخصومة بدلا من علاقات التواصل والتعاون. هذه الحواجز تحضر في التعليم والإعلام بمعنى أنها خطابات عمومية. دعوات قطع التواصل لا تهدف فقط إلى قطع التواصل العمومي بل تدرك أنها لن تنجح حتى تقطع إمكانات التواصل الفردي الحر. من هنا يمكن فهم الحوار العمومي على أنه أيضا حالة من حماية الحوار الفردي الخاص. إنه دفع لسقف التواصل عاليا بعيدا عن رؤوس أولئك الحالمون بفرصة للتواصل مع الآخر والانكشاف عليه. الحوار العمومي في هذه الحالة ليس مشغولا بهدف خارجي مفارق للتواصل مع الذات والآخر بل هو مشغول بتحقيق شرط هذا التواصل قبل كل شيء. التواصل العمومي هنا هو إعلان عن حالة أبدية من التواصل لا يمكن قتلها أو دفنها. معضلة الحوار العمومي هنا هي أنه يؤدي، كما في الجزء الأول من هذا المقال، إلى إضعاف احتمال حدوث الحوار ويحيطه بعوامل تدفع في اتجاه إحباطه. في المقابل، فإنه ضرورة لحماية الحوارات الفردية ورحم لتوليد الحوارات. سأتوقف مع هذه المعضلة ولي عودة لها لاحقا. http://www.alwatan.com.sa/Articles/De...
Published on February 04, 2014 16:46
January 28, 2014
الحوار والجدل والتواصل الإنساني
الحوار والجدل والتواصل الإنسانيعبدالله المطيري لا يزال الحديث هنا محاولة للتفكير في شكلين من أشكال التفكير وشكلين من أشكال التواصل: الجدل والحوار. المقالة السابقة كانت مخصصة لفهم الجدل والحوار كشكلين من أشكال التفكير. أي كآليتين للفهم والإفهام. يشترك الحوار والجدل في كونهما يتأسسان على وجود الآخر. التفكير الجدلي يتحرك دائما بوصفه مقابلا وفي علاقة مزاحمة لفكرة أخرى. الحوار كذلك ينوجد كتفاعل مع آخر هناك لو اختفى تلاشى معه الحوار. أيضا الجدل والحوار تتأسس على معنى الاختلاف والمغايرة بمعنى أن الحوار يقوم على جدلية التواصل والاختلاف. إذا تشابه المتحاورون أو أعطى أحدهم ذاته للآخر توقف الحوار وأصبحنا أمام شخص واحد في صورتين. الجدل كذلك يقوم على اختلاف الأفكار ومقابلة كل فكرة للأخرى. حين يتوقف الاختلاف يتوقف الجدل كذلك. الفرق الذي وصلنا له في المقال السابق هو أن الجدل تفكير إجرائي بينما الحوار تفكير غائي. الجدل هنا هو آلية لفحص ومقابلة الأفكار قد يحدث لأي غرض. الحوار في المقابل مقود بغاية التواصل وفتح آفاق ونوافذ جديدة. كل حوار يتضمن جدل وليس كل جدل يؤدي لحوار. الحوار علاقة أشمل مع الذات والآخر والكون والجدل آلية ومنطق قد تتحقق داخل الحوار وقد تتحقق داخل فكر غير حواري أو فكر قطيعة. لكن ماذا عن الجدل والحوار كشكلين من أشكال التواصل الانساني؟ بدلا من تحليل العلاقتين نظريا سأعود هنا إلى حالة تاريخية مشهورة حضر فيها الحوار والجدل بشكل واضح. إنها أثينا القرن الخامس قبل الميلاد. أثينا سقراط والسوفسطائيين. السوفسطائيون هم مجموعة من الفلاسفة الذين احترفوا الجدل. بمعنى أنهم من المتخصصين في المنطق والنقد ومقابلة الحجج والبراهين لكنهم، أو على الأقل جزء كبير منهم، جعلوا هذه القدرة مهنة لهم يعتاشون منها. بمعنى أنهم عملوا كمعلمين لأولاد المقتدرين يدربونهم على فنون القول والخطابة والتأثير على الجماهير ونقد الخصوم وتفكيك كلامهم. أثينا كانت بيئة طلب كبيرة لمثل هذه المهارات لعدة أسباب منها أن النظام السياسي كانت في حالات متعددة نظاما ديموقراطيا يقوم على الاقناع والتأثير على الناخبين. أيضا كان النظام القضائي الإغريقي يقوم على إجراء محاكمات علنية بحضور عدد كبير من المحكّمين من عموم الناس ويتبادل الإدعاء والدفاع تبادل الحجج والخطابات لإقناعهم. هذه البيئة جعلت إجادة الجدل وسيلة من وسائل النجاح الاجتماعي والاقتصادي والسياسي. في المقابل عندنا سقراط والذي كان أيضا ماهرا ومجيدا لمهارات الجدل والخطابة ومقابلة الحجج وطرح الأسئلة ولكنه رفض أن يتحوّل حرفيا لها بمعنى أنه رفض أن يعتاش على تعليم الجدل. كان سقراط في إشكال عميق مع كثير من السفسطائيين ومع منهجهم الجدلي. كانت مشكلة سقراط الأساسية مع أطروحتين أساسيتين لدى السوفسطائيين الأولى معرفة كل شي والثانية أنه لا يمكن معرفة أي شيء. لاحظ هنا أن كلا الدعوتان تعيقان التواصل المعرفي. الجماعة الأولى كانت تعتقد أنها بقدراتها الخطابية والمنطقية الجواب على كل سؤال. المعرفة كانت تتحقق لديهم بمجرد رسمها بالألفاظ داخل علاقات معقولة ظاهريا. مهمة سقراط هنا هو الدخول في حوارات دقيقة مع أصحاب هذه الدعاوى لكشف جهلهم. كثير مما نقله أفلاطون عن سقراط يصب في هذه المهمّة، مهمة تفكيك الدعاوى النهائية وفتح الباب مرّة أخرى للسؤال والتفكير. في المقابل الجماعة الثانية كانت تقول بعدم إمكان المعرفة أو التشككية الجذرية. والتي تقول بأن إمكان المعرفة مستحيل. أيضا باستخدام آليات الجدل والخطابة يمكن فتح ثغرات في قلب أي جواب مطروح على أي سؤال وبالتالي فإن البحث عن معرفة يقينية هو مجرد وهم وسعي وراء السراب. على الفيلسوف أن يزهد عن هذه المهمة ويستمتع فقط بالتفكيك بعد أن عزّ البناء. سقراط أيضا كان على إشكال كبير مع هذه الجماعة باعتبار أنه يعتقد أن العزوف عن البحث في العدالة والخير والحق يعني كارثة بشرية وانعدام لوجود أفق لحل المشكلات التي تهدد حياة البشر وحياة سقراط نفسه. سقراط كان متهما بإفساد الشباب بجدالاته وأسئلته وإهانة آلهة الإغريق ومقدساتهم مما أدى به إلى الإعدام. الخطر برأي سقراط يكمن في شخصيتين: شخصية تدعي أنها تعرف الحق المطلق وشخصية يائسة من أي قول عن الحق المطلق. سقراط الذي كان يطوف على الناس في الأماكن العامة يحاورهم كان يرغب في استمرار الحوار والتواصل بين الناس. كان يحلم بأن يستعيد الناس تلك الرغبة والثقة في إمكان فتح أفاق جديدة للفكر والحياة والعيش المشترك. الصورة السابقة يمكن أن تعطينا تصورا للفرق بين الحوار والجدل كشكلين من أشكال التواصل الإنساني. سقراط هنا هو جدلي ولكن ليس فقط. بمعنى أنه جدلي ولكن هذا الجدل بالنسبة له أولا لم يكن حرفة لا تتجاوز قيمتها المكسب المالي أو الاقتصادي أو السياسي وثانيا لم يكن الجدل هذا غاية في ذاته أو عملا يمكن أن يستغرق قيمته ومعناه بذاته. الجدل بالنسبة له كان شكل من أشكال التواصل مع الناس لتحقيق ربما الهدف الفلسفي الأول "إعرف نفسك". معرفة الذات وما يتعلق بها من القيم والأخلاقيات لا تتحقق ضمن آلية جدل غير مدفوعة بقيم تتجاوز النفع الضيق أو آلية جدل يائسة من تحقيق المعرفة. الحوار هنا نوع من الثقة في المعرفة والإنسان. ثقة في أن المعرفة ممكنة وأن الإنسان، كل الإنسان، قادر على الوصول إليها. هذا الحوار سيواجه إعاقة هائلة من الاقتصار على آلة الجدل بدون أن تتحرك داخل قيم ومعاني تجعل منها ذات هدف وغاية. المجادلة بلا قيم تواصل ورغبة في التعرّف على الذات والآخرين هي فقرة في حلقة مقطوعة الأطراف. في المقابل الحوار هو وصل لهذه الأطرف وإعادة للحياة فيها.
http://www.alwatan.com.sa/Articles/De...
http://www.alwatan.com.sa/Articles/De...
Published on January 28, 2014 14:45
عبد الله المطيري's Blog
- عبد الله المطيري's profile
- 15 followers
عبد الله المطيري isn't a Goodreads Author
(yet),
but they
do have a blog,
so here are some recent posts imported from
their feed.

