بين الحوار والمناظرة

بين الحوار والمناظرةعبدالله المطيري     المناظرة هي أحد الأساليب المعرفية القديمة للجدل الفكري والمواجهة بين ممثلي القضايا والتوجهات. مهمة هذه المقالة فحص وقراءة العلاقة بين المناظرة والحوار كشكلين من أشكال التواصل الإنساني. تأتي هذه الحلقة ضمن حلقات سابقة تهدف لفهم أشكال مختلفة من التواصل كالجدل والتفاوض والدعوة مقارنة بالعلاقة الأساسية هنا وهي العلاقة الحوارية. المناظرة كما الحوار علاقة تقوم على تعدد الأطراف وإدراك كل طرف للآخر ولو صوريا. المناظرة كما الحوار أيضا اعتراف بوجود الآخر كطرف مختلف يمكن الدخول معه في علاقة تواصل معرفي. كثير ممن يرفضون المناظرات بشكل عام أو المناظرة مع طرف بعينه يعلنون عن رفضهم الاعتراف بالطرف الآخر كمقابل معرفي يمكن أن يكون التواصل معه ذا معنى. من يرى الآخر أقل منه قيمة معرفية يرفض مناظرته. من يرى الآخر على أنه عاجز عن الدخول في جدل معرفي يرفض المناظرة أيضا.     عامل مهم وحساس أيضا هو أن المناظرة كما الحوار تقوم على ثقة أخلاقية. بمعنى أن المناظِر ينطلق من ثقة في التزام الطرف الآخر بقدر معيّن من القيم الأخلاقية التي تكفل حفظ قدر معقول من الكرامة لجميع الأطراف كما أنها تقي المناظرة من الانحطاط إلى علاقة إيذاء مباشر. يتجنب عادة الناس التواصل مع من لا يثقون في أخلاقهم. في السياق الفكري يتجنب المشتغلون بالفكر أولئك الذين لا يتورّعون عن الكذب والتلفيق والدخول في مؤامرات للقضاء على خصومهم. الحد الأدنى من الالتزام الأخلاقي شرط للمناظرة ولكن المستوى يرتفع أكثر بكثير بالنسبة للحوار. الحوار لا يكفي له الأمان من أذى الآخر بل الثقة في حب الآخر. الشرط الأخلاقي في المناظرة يكفي أن يكون التزاما تقنيا بين أطراف التناظر يشرف عليه منظمي المناظرة. بالنسبة للحوار الالتزام الأخلاقي أعمق لا على أنه ظرف مؤقت بل على أنه واجب دائم وغير قابل للنقض.      الاشتقاق اللغوي لوصف المناظرة يدعم المعاني السابقة. جذر الكلمة (نظر) يحيل إلى حالة إدراك من طرف لآخر. أي رؤية لها فاعل ومفعول. النظر لا يتحقق فقط بتوجه العين لموضوعها بل يشترط له إدراكا وقصدية تجعل من الموضوع مدركا باعتباره شيئا ذا معنى. الفعل (ناظَرَ) يشير أيضا إلى حالة مقابل ومماثلة بين الأطرف. النظراء على حالة من المساواة الاعتبارية داخل فعل التناظر بمعنى أن لهم حق متساوي في المشاركة والتفاعل. لا يمكن الحديث عن مناظرة بشروط تميّز طرف عن الآخر. هذه الصورة تفشل مباشرة في الحصول على قيمة المناظرة وتتحول إلى مجرد أحبولة ينسجها طرف للإيقاع بطرف آخر. ولذا فإن قيمة التنظيم ومن يشرف عليه كمقدمي البرامج التلفزيونية مثلا جوهري في إعطاء المناظرات قيمتها ومعناها. البرامج التي لا تحترم هذا المبدأ تسقط مباشرة من الاعتراف العام ولا يتعلّق بها إلا الفئة التي تدعم توجهها الأيديولوجي الخاص مما ينزع عنها الاعتراف ذو المعنى. أي الاعتراف من الأطراف المختلفة.      كل العوامل السابق مشتركة بين المناظرة والحوار ولكن هناك فروقات مهمة تجعلنا أمام شكلين من أشكال التواصل. في البداية المناظرة على خلاف الحوار قائمة على خلفية اختلاف سابق. بمعنى أن أطراف المناظرة يحضرون لها على خلفية خلاف سابق معلن وواضح. المناظرة هي امتداد لتلك الحالة ويقصد بها تركيز تلك الاختلافات في سياق منظّم ومركّز. الحوار في المقابل ينطلق من حالة الإلتقاء بين طرفين بدون افتراضات سابقة. الحوار يمكن أن ينشأ مع إنسان لا تعرفه من قبل وربما تلتقي معه للمرّة الأولى. الحوار هو حالة مفتوحة على احتمالات متعددة ومختلفة تنشأ داخل الحوار لا خارجه.     كذلك على مستوى المساحة، الحوار علاقة أوسع وأرحب. من شروط المناظرة الجيدة أن يحافظ أطرافها على ثبات موضوع المناظرة. الخروج إلى موضوعات أخرى غالبا يعتبر فشلا وانحرافا عن الهدف المحدد سلفا. في المقابل الحوار علاقة يمتلك زمامها أطرافها بدون ضغط خارجي. بمعنى أن الحوار علاقة حرّة يمتلك أطرافها حق تقرير موضوعها وغرضها وهدفها. المناظرة كذلك علاقة مؤقتة محددة الزمان والمكان فيما العلاقة الحوارية علاقة قد تمتد للعمر كله. الحوار هنا علاقة وجودية بمعنى أنها شكل من أشكال الوجود الإنساني مع الآخرين فيما المناظرة هي علاقة تقنية مؤقتة ذات أغراض محددة ومحدودة.    فرق مهم آخر وهو أن المناظرة على خلاف الحوار مرتبطة جوهريا بطرف ثالث خارجي. المناظرة تستهدف الجمهور ويشرف على إدارتها غالبا طرف خارجي. الحوار في المقابل لا يستهدف الجمهور بل في أحيان كثيرة غياب الجمهور يجعل الحوار أكثر نجاحا وصدقا. فكرة غريبة أيضا أن يتم الاشراف على الحوار من الخارج. إدارة أطراف الحوار للحوار بأنفسهم غالبا ما ينظر له على أنه نجاح كبير وعلامة على جودة الحوار وتشكّل علاقة إستثنائية بين أطرافه. بدون الحضور الجماهيري تنخفض بشكل حاد رغبة أطراف المناظرة في التواصل باعتبار أن المناظرة هي بشكل أو بآخر دعاية ذاتية أو دعاية لفكرة محددة. عدم وجود الجماهير يجعل من إمكان تحقيق الدعاية متعذّرا وبالتالي فإن تتلاشى قيمة المناظرة الجوهرية. هذا الدور الأساسي للحضور الجماهيري مؤثر بشكل كبير على سلوك ومنطق المتناظرين. من الحالات الجديرة بالتأمل تلك اللقاءات التلفزيونية التي تجمع أطراف يدخلونها بأهداف مختلفة. يهمنا هنا تلك اللقاءات العمومية التي يدخل فيها طرف بعقلية المحاور ويدخل فيها طرف آخر بعقلية المناظِر. سأحاول في مقالات لاحقة دراسة نموذج أو أكثر على تلك المشاهد والتي يمكن أن تعطي صورة أكثر وضوحا لشكلين من أشكال التواصل الإنساني الحوار والمناظرة. http://www.alwatan.com.sa/Articles/De...
 •  0 comments  •  flag
Share on Twitter
Published on February 26, 2014 16:10
No comments have been added yet.


عبد الله المطيري's Blog

عبد الله المطيري
عبد الله المطيري isn't a Goodreads Author (yet), but they do have a blog, so here are some recent posts imported from their feed.
Follow عبد الله المطيري's blog with rss.