مرام عبد الرحمن مكاوي's Blog, page 5
February 17, 2017
الإنفاق الحكومي على التعليم باق..ويجب أن يتمدد
بعد أقل من خمس سنوات ستتغير أكثر من ثلث المهارات العملية التي يعتبر توفرها في القوى العاملة اليوم أمرا ضروريا. ويشكل ذلك -ولا شك- تحديا لقطاعات واسعة من المجتمعات الإنسانية، وعلى رأسها قطاعا التعليم والتدريب. فلم يعد مطلوبا منهما -كما في السابق- مجرد مواكبة سوق العمل والتطورات الحديثة، وإنما عليهما التنبؤ بهذه التغييرات سلفا واستباقها من خلال برامج فعالة ومرنة، إذ من المتوقع أنه بحلول عام 2020، فإن الثورة الصناعية الرابعة ستكون قد قدمت لنا كثيرا من الفتوحات العلمية التي ستغدو جزءا من حياتنا العادية، وعلى رأسها الروبوتات المتقدمة، والنقل الذاتي، والذكاء الاصطناعي، والتكنولوجيا الحيوية، وعلم الجينوم. هذه التطورات ستحدث تحولا كبيرا في الطريقة التي نعيش ونعمل بها. فكيف سيكون تأثيرها المباشر علينا؟
يقول المراقبون بأن بعض الوظائف سوف تختفي وأخرى ستنمو، لكن من المؤكد أن القوى العاملة في المستقبل القريب سوف تحتاج إلى تحسين وتطوير سريع في علومها ومعارفها ومهاراتها ونظرتها لدورها الوظيفي، لتكون قادرة على مواكبة هذه التغييرات السريعة، ولتظل عاملا فاعلا في هذا الفصل الجديد من تقدم البشرية.
في تقرير منتدى دافوس الاقتصادي بشأن مستقبل الوظائف والقوى العاملة طلب من رؤساء الموارد البشرية ومسؤولي الإستراتيجية من كبار أرباب العمل في الشركات العالمية ملاحظة التحولات الراهنة بدقة، لتحديد ما هي المهارات المطلوبة في قطاعاتهم خلال الفترة المقبلة، مع الأخذ في الاعتبار خصوصية كل قطاع والنطاقات الجغرافية التي يتحرك فيها. وتم الخروج بأهم عشر مهارات مطلوبة سيتم البحث عنها في الموظفين ابتداء من عام 2016 وحتى 2020 وهي: 1- القدرة على حل المشكلات المعقدة، 2- التفكير النقدي، 3- الإبداع، 4- القدرة على إدارة الأشخاص باقتدار، 5- القدرة على التنسيق مع الآخرين، 6- الذكاء العاطفي، 7- البصيرة والقدرة على اتخاذ القرار، 8- تفكير يركز على ثقافة الخدمات (Services)، 9- مهارات التفاوض، وأخيرا 10- المرونة الإدراكية، ويقصد بها قدرة الإنسان على تكييف قدراته بشكل إستراتيجي للتغلب على مشكلات جديدة أو غير متوقعة في بيئته.
ولا يحتاج المرء إلى كثير من الوعي والمعرفة ليدرك أن معظم الخريجين والدارسين حاليا في الجامعات يفتقرون للكثير من هذه المهارات إن لم يكن كلها، لا سيما في منطقتنا العربية وبيئتنا المحلية.
يعتقد الخبراء بأن مهارة الإبداع والتفكير هي من أكثر المهارات التي طالها التغيير والتي باتت تستحوذ على اهتمام مديري الموارد البشرية. فمهارة الإبداع هي واحدة من أهم المهارات التي أصبح سوق العمل بحاجة إليها، لا سيما مع هذا الكم الهائل من المنتجات الجديدة والتكنولوجيات الحديثة، والطرق غير التقليدية للعمل. وبالتالي يصبح مطلوبا من العاملين في هذه القطاعات أن يصبحوا أكثر إبداعا للاستفادة من هذه التغييرات، وتوظيفها بما فيه فائدة أعمالهم ومنحها ميزات تنافسية. فالروبوتات قد تساعدنا مثلا على الوصول إلى حيث نريد أن نكون في وقت أسرع، لكنها لا يمكن أن تكون -حتى الآن على الأقل- ذات تفكير خلاق مثل البشر.
ومع أن مهارة المرونة والتفاوض لا زالت ضمن القائمة، إلا أنها تراجعت شيئا فشيئا وباتت في مركز متأخر، وقد تخرج قريبا، حيث إن تقنيات الذكاء الاصطناعي، ومعها البيانات الضخمة (big data) والتحليلات التي تنتج منها بواسطة المعادلات الحسابية والبيانات الإحصائية، سيتم توظيفها بحيث ستكون مسؤولة بشكل شبه كامل عن اتخاذ القرارات من خلال أنظمة دعم القرار (Decision Support Systems)، بل يتوقع أنه بحلول 2026 ستكون هذه الأنظمة والآلات جزءا من مجالس إدارة الشركات.
التغيير لن يكون واحدا في كافة القطاعات، بل سيكون مختلفا في شكله وفي سرعته من قطاع لآخر. ويلاحظ أن قطاعات الترفيه والإعلام قد سبقت غيرها وشهدت بالفعل تغييرات كثيرة في السنوات الخمس الأخيرة (2011-2016). في حين أن قطاعي البنوك والاستثمار لم يشهدا بعد التحولات الجذرية المتوقعة. أما العاملون في قطاعات التصنيع والتسويق فعليهم أن يستعدوا لثورات تقنية هائلة تستلزم أن يطورا مهاراتهم الحاسوبية ومهاراتهم التقنية سريعا.
السؤال الذي يطرح نفسه هنا: كيف يؤثر علينا ذلك كله هنا في المملكة بشكل خاص؟
نحن نعاني سلفا -كما يزعم أرباب الوظائف- مشكلة عدم مواكبة مخرجات التعليم العام والعالي لاحتياجات سوق العمل، لا سيما في القطاعات الوطنية الحيوية مثل التقنية. ولذلك لدينا ظاهرة عجيبة تتمثل في بطالة الخريجين في نفس القطاعات التي نعاني فيها نقصا يستوجب أن نستجلب له المتخصصين من الخارج، وتحديدا من العالم الغربي، وندفع لهم الرواتب الفلكية والبدلات الأسطورية والامتيازات الذهبية مقابل ذلك، فكيف سيكون الوضع مع التغييرات الجديدة؟
مثلا من أهم التخصصات المطلوبة حاليا والتي سيزداد الطلب عليها بشكل جذري خلال السنوات الخمس المقبلة علم البيانات (Data Science) الذي يضم تخصصات الحاسبات والإحصاء والرياضيات بشكل أساسي، فهل في جامعات المملكة كلها، الحكومية منها أو الخاصة، برنامج واحد، سواء لمرحلة البكالوريوس أو الدراسات العليا، يدرس هذا التخصص؟.. أظن بأننا سنكون محظوظين لو أن بضع جامعات قدمت منهجا دراسيا واحدا عنه.
التغيير لن ينتظر أحدا منا! والثورات السابقة الزراعية والصناعية والرقمية لم تنتظرنا، وهذه الثورة الجديدة لن تحيد عن مسار أخواتها. ولذلك فإنه على قادة الأعمال والحكومات والمؤسسات التعليمية في العالم أن تكون سباقة في اقتناص الفرص، عبر تحديث برامجها العلمية والتدريبية للطلبة والموظفين، من أجل رفع مهارات الشباب وإعادة تأهيل الناس لعالم جديد. وبالتالي يتمكن المواطنون كما الدول ليس فقط باللحاق بالركب، وإنما الاستفادة المثلى من الثورة الجديدة.
وعلى صعيد محلي، يصعب تحقيق رؤية 2030 إذا لم يتم تطوير برامج المدارس والجامعات، وبالتالي فإن تقليص الإنفاق الحكومي في هذا القطاع بالذات يمكن أن يأتي بنتائج عكسية. فبدلا من تحقيق الرؤية يكون هذا الإجراء أكبر عائق في طريقها. فكل الاستثمارات معرضة للربح والخسارة إلا الاستثمار في العلم والمعرفة.. أي الاستثمار في عقل الإنسان.
أصبوحة ثقافية عن قاب قوسين
February 11, 2017
خمس ليال في الرياض
أتحدث عن تجربة شخصية أثناء حضوري دورة في العاصمة العزيزة، والسبب هو أنها من التجارب التي يتقاطع فيها الخاص بالعام، فلا أصدق من الكتابة عن واقع
عايشته للتو. هي تجربة عن تنقل مواطنة لوحدها، مضطرة، في ربوع وطنها، ومدى سهولة أو صعوبة ذلك عليها. ومع أن السفر كان لغرض علمي متعلق بوظيفتي كأستاذة وباحثة، إلا أنه يمكن القياس عليه في حال كان السفر لغرض آخر كالسياحة أو الزيارة أو العلاج أو الدراسة وغيرها.
يبدأ الأمر من مطار جدة الدولي، الذي لم أصادف مثله في بدائيته المزمنة في كل رحلاتي الخارجية، باستثناء مطار ماليه في المالديف ومطار كولمبو في سريلانكا. فالتنقل في هذا المطار وإنهاء إجراءات السفر هو من ابتلاءات الحياة الدنيا، التي ترجو الله أن يكفر بها عنك ذنوبك. ويلوح في الأفق مطار جديد، كان يفترض أن يفتتح منذ بضعة أعوام، والخوف من أنه بعد هذا الصبر تتغير المباني وتظل الإدارة وموظفوها على ما هي عليه.
في الطائرة ستستمتع بعرض مجاني اسمه: لعبة الكراسي! التي أرى أنه من الممكن التقليل منها بالسماح وقت اختيار المقعد بتحديد جنس الراكب، لعل وعسى نقلل من الوقت المستهلك لحل هذه الإشكالية التي لا نراها على خطوط أخرى بهذا الزخم.
تصل إلى الرياض، تكون قد حجزت سيارة سلفا عبر الفندق بكلفة عالية، هي ضريبة تقبل بها امرأة تريد رحلة آمنة ومريحة في بلد لا يعتبر تنقل المرأة وحدها فيه أمرا مستحبا. تصل للسيارة الفاخرة لتجدها (مكلبشة بالحديد)، ويا للمفاجأة السعيدة! أما السبب، فلأنه في الصالة الداخلية الجديدة في المطار هناك لوحة -بحجم الآدمي- مكتوب عليها، بالعربية والإنجليزية: موقف مخصص للمعاقين غرامة 200 ريال! فما الذي جعل السائق يتجاهلها بهذا الاستهتار: الجهل؟ أم قلة التدريب؟ أم الاستهتار بأن المخالفات من هذا النوع ليست جدية هنا؟ في كل الأحوال ستقضي بعدها 20-30 دقيقة في انتظار حل المشكلة ودفع المخالفة.
الرياض مدينة جميلة ونابضة بالحياة. فمع أني لم أتجول في كافة مناطق الرياض، لكن الطرق التي تجولت فيها كانت واسعة ونظيفة وسليمة، لن تلمح وأنت خارج من المطار مناظر “الورش الخربة” إياها، بل مبان حديثة وجميلة مثل جامعة الأميرة نورة، ومركز الملك عبدالله للدراسات والبحوث البترولية.
الفندق الذي اخترته كان جيدا، من فئة الخمس نجوم، سعرا وتصنيفا، لكنه، كبقية فنادق المملكة التي جربتها، يفتقد تلك اللمسة السحرية، وتلك العناية المتقنة بالتفاصيل التي تليق بفنادق هذه الفئة، التي نجدها، ليس في أوروبا وأميركا فحسب، وإنما بشكل أفضل في الخليج وآسيا. ومن الأشياء التي استغربتها في الفندق أنه باستثناء موظف الأمن، وموظف واحد ألمحه لماماً في الاستقبال، فإن كل من يعمل في هذا الفندق هم آسيويون ومعهم موظف استقبال عربي، ومدير الفندق عربي كذلك. نتحدث عن نجاح سعودة الخضار أليس كذلك؟
الوضع نفسه سيتكرر في البوابة الاقتصادية، وهي منطقة اقتصادية تضم عددا كبيرا من الشركات الأجنبية، خاصة العاملة في مجال التقنية، حيث لا تكاد تجد سعوديا إلا كموظف أمن يتعامل مع الداخلين للبوابة بصرامة شديدة (كأنها ثكنة عسكرية)، أو كموظف استقبال طارئ، فيما يعج المكان بالموظفين من كل جنس ولون من الشرق والغرب، مع تواجد آسيوي كثيف. نتحدث عن نجاح سعودة محلات الجوال أليس كذلك؟
ونأتي لأكبر صعوبة واجهتني كامرأة في هذه العاصمة الواعدة، وهي المواصلات. لأول مرة في حياتي أجد نفسي مضطرة لركوب سيارة أجرة في المملكة لوحدي (لسبب ما لم أقتنع باستخدام شركتي أوبر وكريم إلا في نهاية الرحلة). وأيضا أصنفها من ضمن أسوأ تجارب التاكسي في العالم، لا ينافسها في ذلك إلا تجاربي في إسطنبول قبل ست سنوات. هل نتحدث عن السيارات القديمة المهترئة من الداخل والتي ستأخذ نفسا عميقا حتى لا تضطر لاستنشاق رائحة المسك التي تفوح منها؟ أم عن سائقين يفتقر معظمهم للتدريب على كل شيء؟ أظنها من التجارب القليلة التي مررت بها والتي لا يعرف السائق فيها معظم شوارع المدينة، فتضطر لتوجيهه عبر خرائط جوالك لتصل إلى الفندق أو أكبر مركز تجاري في الحي. ناهيك عن عدم وجود طريقة لمعرفة ما إذا كانت التسعيرة التي يمنحك إياها مستحقة أم غير مستحقة؟! فلا يوجد عداد ولا غيره.
من جانب سياحي، تعاني الرياض كما بقية المدن السعودية، من موضوع إقفال المحلات التجارية لأداء الصلاة، والمشكلة ليست في الإقفال نفسه، ولكن في أن تستغرق الصلاة 10 دقائق ويكون الإقفال 40 دقيقة، بل يسبق الإقفال الأذان! إذ اعتذر منا النادل في أكثر من مطعم عن خدمتنا إلا بعد صلاة العشاء التي كان متبقيا على رفع أذانها أكثر من ربع ساعة، وهو أمر سينفر أي زائر.
كانت تجربة جميلة، خاصة مع الكرم غير المستغرب من أهل الرياض الكرام، رغم عدم وجود سابق معرفة، فتحية للزميلة العزيزة من جامعة الإمام التي ساعدتنا كثيرا. وستنتهي الرحلة بشكل جيد إلا من موقف مزعج فيه الكثير من قلة الاحترام قام به اثنان من موظفي الخطوط السعودية في المطار، وللأسف لم أجد حولي من أستطيع أن أتقدم بشكوى له، وهذا يثبت ما ذكرته آنفاً: تستطيع تغيير المبنى.. لكن كيف ستغير أسلوب وطريقة البشر دون تدريب مستمر ومكثف؟
بلادنا لا تفتقر للكفاءات، ولا للتنوع الثقافي، ولا للتميز الجغرافي أو حتى المناخي، فلدينا الصحاري والشواطئ والمدن والقرى، ولدينا الإمكانات المادية والمعنوية التي يمكن أن تجعل بلادنا منافسا قويا للسياحة في المنطقة، وتجعلنا -نحن- راغبين في زيارات مناطقها المتنوعة في إجازاتنا القصيرة، في حال توفرت المقومات الأساسية التي نجح بها غيرنا. هذه المقومات تشمل: الارتقاء بشبكة المواصلات الجوية وكافة مرافقها وموظفيها، وشبكة المواصلات البرية وكافة مرافقها وموظفيها، والارتقاء بالمنظومة السياحية عبر رفع مستوى الفنادق والمراكز التجارية وأماكن الترفيه، ومعاقبة من لا يلتزم بالجودة والمعايير بشكل صارم. فلا أظن ذلك السائق الذي دفع الغرامة المؤلمة سيقف مرة أخرى في موقف المعاقين. وأخيرا، قليل من المرونة الثقافية.. التي تنفع ولا تضر.
January 20, 2017
ترفيه ..بلا هيئة
في وسط المآسي التي تعصف بالمنطقة يبدو الحديث عن الترفيه نوعا من الترف، إلا أن الواقع يقول بأنه يستحيل على الإنسان أن يعيش سعيدا متوازنا راضيا دون أن يرفه عن نفسه شيئا يسيرا، ودون أن يستمتع ولو بأبسط الأشياء المتاحة له، ولذلك اخترع الناس الهوايات بأنواعها المتنوعة، بسيطة كانت أم خطيرة.
قبل أيام كتبت في حالتي على صفحتي الخاصة على موقع فيسبوك: “أذكر زمانا كنت أتطلع فيه لعطلة نهاية الأسبوع”! فمؤخرا باتت هذه العطلة الأسبوعية ثقيلة، خاصة كأم تشعر بأنها لا تعرف كيف ترفه عن ابنها. ففي كل جمعة وسبت أبحث عن مكان تقضي فيه أسرتي وقتا ممتعا، سواء لنا نحن الراشدين أو حتى الأطفال، فلا نجد إلا خيارات محدودة جدا، هذا وأنا أعيش في جدة، وينتهي بنا الحال إما الذهاب للغداء في مطعم، أو المشي بلا هدف في أحد المجمعات التجارية، أو -على الأغلب- سنبقى في المنزل، تجنبا للزحام والقيادة المزعجة في سباق الراليات الذي تشهده شوارع العروس بشكل يومي. والنتيجة أن تتأثر النفسية وتقل الإنتاجية وتصبح الأيام مكررة مملّة.
وتذكرت وقتها تلك العطلات القصيرة الخاطفة إلى مدن الخليج: دبي وأبوظبي والدوحة والمنامة والكويت، والتي كنا نهرع إليها متكبدين تكاليف وعناء السفر مع طفل صغير لقضاء ليلتين فقط نستعيد فيهما حماستنا للحياة. ففي تلك المدن نجد في كل مرة ما يدهشنا ويجعلنا نرغب في تجديد الزيارة، خاصة مدن دولة الإمارات العربية المتحدة، حيث كانت آخر زيارة لنا لمدينة خليجية إلى عاصمتها الفتية. فصحيح لا تملك أبوظبي وهج شقيقتها دبي ولا سحرها ولا خياراتها المتنوعة، ولكنها تملك مقومات أخرى: الهدوء، وقلة الازدحام، وأسعار أفضل، وأجواء عربية وأسرية أكثر. في أسواق أبوظبي ومتنزهاتها تلمح عددا كبيرا من المواطنين الإماراتيين وغيرهم من الإخوة العرب والمسلمين، مما يجعلك تشعر كمواطن خليجي بحميمية أكثر وكأنك في إحدى مدن بلادك.
من تجاربنا المتعددة السابقة تعلمنا أن أفضل مكان لقضاء الوقت في الإمارة هو جزيرة ياس، هذه البقعة التي تضرب أفضل مثال لكيف يمكن أن تستثمر الدولة سياحيا في منطقتنا. فهي قريبة من المطار ولكنها بعيدة نسبيا من وسط مدينة أبوظبي نفسها، وبالتالي لا تجد نفسك كسائح عالقا في حركة المرور اليومية المزدحمة، إن وجدت. كما تجد مختلف المرافق السياحية بالقرب منك، فلا تضطر للذهاب بعيدا. ففي المنطقة مجموعة من الفنادق المتميزة بنفس ذلك المستوى الراقي من الخدمة الذي نجده في دبي، وهناك شاطئ خاص بهذه الفنادق، في غاية النظافة وتحيط به كافة المرافق من كل جانب. في ياس أيضا تم بناء مدينة ملاهي “عالم فيراري” المدهشة التي تخدم شرائح الأطفال والشباب والعائلات على حد سواء، ومدينة ألعاب مائية، ومسطحات خضراء للعب الغولف. وبالطبع لا بد من وجود مركز تجاري متكامل الخدمات للتسوق والأكل والترفيه، كالسينما والألعاب الإلكترونية، تقام فيه مختلف الفعاليات والمناسبات. في الجزيرة كذلك مضمار للسباقات.
يمكنك كسائح أن تظل أسبوعا في هذا المنتجع الجميل في هذه المدينة الصحراوية الوادعة دون أن تشعر بالملل. فلا غرابة أن تتحول أبوظبي مثل جارتها دبي إلى مدن جذب لمختلف شعوب العالم، حتى دون وجود معالم تاريخية كالأهرام، أو جوٍّ معتدل وطبيعية خلابة كما في بلاد الشام. ستقابل في الإمارات سياحا ومقيمين من دول كنت تسمع بهم فقط في دروس الجغرافيا أو وأنت تشاهد فيلما وثائقيا على قناة ناشيونال جيوغرافيك مثل: بيلاروسيا وكولومبيا.
في أقل من 48 ساعة في ياس، ستشعر خلالها بأن كل فرد في العائلة الصغيرة قد أخذ نصيبه من متعة بريئة، كالمشي على شاطئ نظيف لا تحجبه الأسوار، والسباحة في المدينة المائية، واللعب في الملاهي، والاستمتاع بمتابعة سباقات السيارات والدبابات النارية الحقيقية، ومشاهدة أحدث الأفلام في السينما، والتبضع والأكل في أسواق ومطاعم لا تغلق عدة مرات خلال اليوم، مع توفر كافة المرافق الخاصة بالصلاة والعبادة، وكل ذلك في جوٍّ آمن وهدوء مريح وشوارع نظيفة، وحركة مرور انسيابية دون توتر وتضجر من طول الانتظار في السيارة.
في آخر زيارة، وبينما كنت أتجول بعيني بحثا عن مكان لم يسبق لنا اكتشافه، وجدت لوحة ضخمة تشير إلى أنه في هذا الموقع سيقام فرع لمدينة ملاهٍ تابعة لشركة “وارنربرذرز” الشهيرة (WB). حينما تذكرت تلك اللوحة استحضرت هيئة الترفيه الوطنية التي يبدو أنها ستكمل عامها الأول دون أن تعرف: ما الترفيه الذي ينشده السعوديون؟ ولا هم يعرفون لماذا بالضبط أنشئت الآن؟ وماذا باستطاعتها أن تقدم لهم مما لم تستطع هيئة السياحة فعله؟
عندما أقارن الترفيه عندنا بذلك الذي أعايشه في الخليج، يبدو الفرق واضحا جدا وقتها: من يريد أن ينشط السياحة، أو يخلقها من العدم، فليس بحاجة لعمل كل هذه الاجتماعات والاستبيانات والدراسات التي لم تتمخض عن شيء ملموس حتى الآن. هو سيلقي نظرة خاطفة على ما يرده السائح في أي مكان في العالم -فالسعوديون ليسوا مخلوقات فضائية- ويعمل على تطبيقه بشكل فوري بفتح الباب للاستثمار فيه، مع استثناء ما يتعارض مع تشريعات الدولة وقوانينها.
في الماضي كنا نقارن وسائل الترفيه ومرافق السياحة لدينا بما نجده في أوروبا وأميركا، وكنا نعزي أنفسنا بأن الفارق الحضاري والثقافي بيننا وبين الغرب كبير، وبالتالي فليس من العدل أن نتوقع المستوى نفسه من الترفيه والجودة والخدمات السياحية في المملكة. لكن حين بتنا نقارن ما لدينا بالإمارات وقطر وحتى البحرين وعمان، فقد باتت المقارنة موجعة، فإذا كان الناس هم الناس، والجو هو الجو، والموارد نفسها، والطبيعة ذاتها، فلماذا إذاً نشعر حينما نصل لمطاراتهم القريبة بأننا قد سافرنا إلى المستقبل، وحين نعود إلى مدننا بأننا رجعنا إلى الماضي؟
هل نحتاج حقا إلى هيئة ترفيه لنشعر بقليل من السعادة داخل بلادنا؟ أم أننا نحتاج إلى وقفة جادة وفورية لتطوير كافة الخدمات والمرافق الخدمية ومن ضمنها السياحية
هل ستقرر عائلة إماراتية ذات يوم أن تزور جدة لتقضي عطلة نهاية أسبوع سعيدة ومتميزة واستثنائية؟
January 15, 2017
علمونا كيف نحيا أخبرونا كيف نموت
لا شك في أن الحادث الأليم الذي وقع في إسطنبول، والذي استقبل به العالم العام الجديد، ترك أثرا كبيرا في وجدان الناس، لا سيما من تضرروا منه بشكل مباشر سواء من الناجين أو من أسر الضحايا، أو من أولئك الذين تضرروا ماديا ومعنويا في زمن عصيب سياسيا واقتصاديا.
فالحزن على الضحايا الشباب، الذين فقدوا حياتهم ضمن مسلسل الموت المجاني الذي يجتاح شرقنا الأوسط الحزين منذ بضع سنين، لا ينتهي، خاصة أن كثيرا منهم من بلادنا، بل ومن مدينتنا العزيزة جدة.
عرفت مؤخرا أن إحدى الضحايا كانت خريجة القسم نفسه الذي درست فيه، والجامعة التي تخرجت فيها وأعمل فيها حاليا، وهي تصغرني بدفعتين فقط، مما يعني أننا كنا نرتاد المبنى نفسه معا لثلاث سنوات على الأقل، وكانت -رحمها الله- زميلة لبعض صديقاتي ومعارفي.
أمر لم نتعود عليه، أن يكون ضحايا العمليات الإرهابية قريبين منا على هذا النحو. فنحن نعيش -بحمد الله- في دولة آمنة مستقرة، ولم نشعر بهذا الفقد حتى في أوج الحروب التي دخلتها بلادنا مضطرة أو وقعت على مرمى حجر منها. لعل هذا السبب جعلنا أكثر تأثرا بالحادثة من غيرها، فوجدت نفسي أبكي ليلا على ضحايا لم أعرفهم يوما أو أقابلهم في حياتي. لكن لاحقا سيتعاظم حزني الممزوج بالغضب، ليس على وفاتهم -فذلك أجلهم- وإنما على ما بدر من بعض من ينتسبون زورا إلى الإسلام والمسلمين تجاه أولئك الذين ما عادوا قادرين على الدفاع عن أنفسهم.
تعودنا في أي عمل إرهابي أن يصبّ الناس جل غضبهم على المجرمين، وأن يترحموا على الضحايا المساكين، خاصة إن كان بينهم عرب ومسلمون، وعلى أن يلعنوا الإرهاب والإرهابيين، إلا أن حادثة “رينا” في إسطنبول جاءت بشيء جديد.
فنظرا لأن الحادثة وقعت في مكان يصنفه البعض “ملهى” والبعض الآخر “مطعما”، ولأنها أتت ضمن احتفالات رأس السنة الميلادية الجديدة، فهنا صار الضحايا مسؤولين عن موتهم، أو بالأصح صاروا مستحقين لهذه العقوبة الإلهية، وإن نفذتها يد الشيطان!
فبدلا من الأحاديث التي تبين حرمة دم المسلم، لا سيما والقتل غيلة، تحولنا إلى الحديث عن سوء الخاتمة، وأهمية التوبة والرجوع إلى الله تعالى.
البعض كان أهون من غيره في انتقاد سلوك الضحايا، فجاء انتقاده مبطنا (يا الله إنك تحسن خاتمتنا!)، والبعض الآخر جاء كلامه فظّا وقحا، فيه قذف وتعريض دون وجه حق ودون علم، ضد من لم يعد قادرا على الدفاع عن نفسه، لأنه أفضى إلى ما قدم، وتلك درجة رفيعة من الوضاعة.
فحتى لو افترضنا جدلا أننا نتحدث عن أشخاص مسيئين، فإن ذكرهم بالسوء بعد موتهم يتنافى مع تعاليم الإسلام، تلك التعاليم التي جعلت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ينهى المسلمين في المدينة عن سب أبي جهل وهو من رموز الكفر، احتراما لمشاعر ابنه عكرمة الذي سيقبل مؤمنا مهاجرا، فكيف بشتم الموتى من المسلمين الموحدين؟
ألم يفكر هذا الذي ينشر كلامه القبيح على وسائل التواصل الاجتماعي، في أن للضحايا أهلا بقلوب محروقة على فلذات أكبادهم، وأن هذا الكلام يزيد الحرقة واللوعة؟
هؤلاء الشامتون المستنكرون مستعدون للترحم على القتلة والمجرمين والديكتاتوريين، ممن ارتكبوا جرائم كبرى، باعتبار أنهم تابوا، أو رزقوا نطق الشهادتين ساعة الموت، لكن تلك الرحمة تختفي عندما يكون الميت شابة جميلة، تتناول طعام العشاء ليلة رأس السنة في إسطنبول على أضواء الألعاب النارية، واغتالتها رصاصة مجرمة.
شعرت بحزن خاص وتعاطف كبير مع والد المرحومة شهد سمان، وهو يجد نفسه مضطرا إلى أن يخرج من شرنقة حزنه، ليجري المقابلات الصحفية هنا وهناك، ويكتب التغريدات، ليدافع عن عرض ابنته، ويبرر سبب وجودها في إسطنبول في تلك الليلة الحزينة. مع أن سبب وجودها لا يعني أحدا سواها وسوى أهلها، ولها ربّ يحاسبها.
كثير من الجهلاء لا يدركون أن عيد رأس السنة ليس عيدا مسيحيا، وأن كثيرا من الأشخاص إنما يحضرون احتفالاته لمشاهدة عروض الألعاب النارية والتقاط الصور التذكارية.
قد لا يكون هذا الأمر مما يناسبنا نحن، فشخصيا لا أحتفل برأس السنة الميلادية، ولم أحضر خلال سنوات حياتي الطويلة في الخارج احتفالاتها، لكن هذه قناعاتي الشخصية، وليس لزاما عليّ فرضها على الآخرين، أو النظر إليهم بدونية لأنهم يمارسونها.
كذلك الأمور ليست دائما كما تبدو، أمرٌ تعلمناه من القرآن الكريم في قصة الخضر وموسى عليهما السلام، فكل فعل كان يستنكره كليم الله لأنه ظاهريا يبدو شرا محضا، إلا أن في باطنه خيرا كثيرا.
قد يموت شخص في مكان ظاهره الفساد ميتة سوية ويرزق الشهادة، وقد يموت آخر في المسجد الحرام ويخلد في النار، لجرم ارتكبه قبل أو ساعة موته، فالعبرة بالنيات والنيات لا يعلمها إلا الله تعالى.
حقيقةً، أستغرب سكوت بعض الدعاة عن مثل هذه الممارسات التي توزع صكوك الغفران، وتصدر الأحكام بالجنة والنار، وكأن لديهم اطّلاعا على علم الغيب!
نعاني في المملكة منذ أمد طويل من أولئك الذين يتحكمون في حياتنا، ويفرضون علينا قناعاتهم، ويخبروننا بكيف نعيش حياتنا: كيف وأين يجب أن ندرس ونعمل ونتنقل ونفرح ونحزن ونحتفل ونتزوج، وقد صادروا منا كل فرح حتى صارت بلادنا طاردة في الإجازات، ومدننا خاوية أوقات الأعياد والمناسبات، وصرنا نتوسل فرحة يتيمة في كل بلدان الدنيا إلا بلادنا.
اليوم، انتقلوا إلى مرحلة متقدمة، وهي التحكم في الطريقة التي يجب أن نموت بها بحيث نكون مستحقين لاحترامهم، وبالتالي لدعواتهم لنا بالرحمة والمغفرة، وليسلم عرضنا منهم بما أننا سندخل في قائمة من ينبغي أن يسكت عن سيئاتهم وتُذكر محاسنهم، أما إن حدنا عن ذلك ومتنا ميتة لم تعجبهم فلا نلومن إلا أنفسنا!
الأكثر ازعاجاً في كل هذا الموضوع، أن كل ذلك الاستنكار إنما يتم باسم الإسلام والغيرة عليه، وهذا الدين العظيم بريء من كل هذا القيء، فهو الذي علمنا فضليه عظيمة: “من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرا أو ليصمت”.
ليتهم صمتوا!
January 4, 2017
الجامعات: هل تخرج لنا قياديات
تحدثتُ قبل فترة مع خريجة سعودية قامت بعمل تطوعي مثير للإعجاب، حيث ساهمت مع زميلتها في افتتاح مركز للتعليم والتدريب للصغار والكبار، خاصة في مجال
التقنية، داخل أحد أكثر الأحياء فقرا في مدينة جدة. وما زلت أتحين الفرصة المناسبة لأزور المركز بنفسي وأحكم عليه عن قرب. والحقيقة مما لفتني في محادثتنا الهاتفية القصيرة هو ثقتها بنفسها ونضجها، بحيث لم أشعر بأنني أتحدث مع شابة في الثالثة والعشرين، أي في عمر طالباتي في الجامعة تقريبا. حين سألتها عن الجامعة التي تخرجت فيها؟ كان الجواب من إحدى الجامعات الأهلية الشهيرة في مدينتنا. ولم يكن ذلك مستغربا، فقد اعتدنا في السنوات الأخيرة على مشاهدة الكثير من الأعمال الملهمة والمساهمات الإبداعية من خريجات الجامعات الخاصة في جدة، سواء على صعيد العمل الحر، أو الفنون، أو المبادرات التطوعية أو حتى الالتحاق بأفضل الشركات العالمية كموظفات، أو مواصلة الدراسات العليا في أفضل الجامعات الغربية. وهو أمر تطلب مني بعض الوقت لأتقبله وأعترف به -أنا خريجة المدارس والجامعات الحكومية- ولأغير نظرتي السابقة عن المدارس والجامعات الخاصة، باعتبارها مصانع للشهادات ونوادي لبنات الأثرياء. فما الذي يجعل هؤلاء الخريجات مختلفات عن خريجات جامعاتنا الحكومية؟
في البداية سأؤكد بأنني درست وأدرس الكثير من الطالبات الجيدات في جامعتي، ومن بينهن طالبات رائعات واستثنائيات، سواء على المستوى التعليمي أو الأخلاقي. ولكن لم أسمع عن واحدة منهن، أو من أي جامعة حكومية أخرى، قامت بمبادرة مجتمعية أو أنشأت عملها الخاص فور التخرج. ومرد ذلك برأيي، على الأقل في تخصص علوم الحاسبات ونظم وتقنية المعلومات الذي أُدّرسه وأتابعه، ليس نقصا في المهارات العلمية والمعرفية، فعدد من جامعاتنا الحكومية المميزة لديها اعتمادات دولية معتبرة وتصنيفات عالمية متقدمة، وإنما النقص يكمن في جانب الشخصية، وأخذ زمام المبادرة والشجاعة والإقدام. فجل طالباتنا في جامعاتنا الوطنية تنقصهن تلك الروح القيادية المتوثبة التواقة لتجربة الجديد دون خوف، وعلى خوض معترك الحياة العملية دون تردد ودون الخشية من الفشل أو نظرة الآخرين لهن.
والسؤال الذي يطرح نفسه هنا: إذا كانت الطالبة السعودية هي نفسها الطالبة السعودية في الجامعة الحكومية أو الأهلية، بل بعضهن درسن معا في نفس المدرسة الثانوية، حكومية كانت أم خاصة، أي أن المدخلات لهذه الصروح التعليمية واحدة، فما الذي يجعل المخرجات مختلفة فيما يتعلق بتطور السلوك والشخصية والخصائص القيادية؟
برأيي أن الجواب يكمن في أمرين أساسيين: الثقة والحرية، وبعدهما يأتي مستوى الأنشطة اللا صفية. وإحقاقا للحق فإن ثمة تفاوتا كبيرا بين الجامعات في المدن والمناطق المختلفة بهذا الخصوص.
ما زالت الطالبة في جل الجامعة الحكومية تُعامل كقاصر، فهي مجبرة على إبراز بطاقتها وقت الدخول كل صباح للجامعة، وفتح عباءتها لتتمكن موظفة الأمن من التأكد من ملاءمة ما ترتديه للصرح التعليمي. وفي بعض الجامعات، لاسيما الناشئة منها، ما زالت الطالبة تُمنع من إحضار الهواتف الذكية، أو الحاسوب المحمول معها، وممنوعة من الانصراف في وقت مبكر، حتى لو انتهت محاضرتها، وبعضهن يفرض عليهن زي معين بلون معين وكأنهن طالبات في الثانوية.
ولا يقتصر الأمر على ماذا تلبس الطالبة أو ماذا تحضر معها من أجهزة إلكترونية، وإنما حتى على ما تمارسه من نشاطات داخل الجامعة، فأبسط نشاط رياضي أو ثقافي أو تقني أو تعليمي يحتاج إلى سلسلة من الموافقات التي تبدأ من القسم وتنتهي لدى إدارة الجامعة العليا، وهناك دائما ما يشبه التوجس من حصول أمر غير مناسب. ويمكن أن تُرفض بعض النشاطات دون سبب واضح أو منطقي، فقط بسبب الخوف من أن يسمع أحدٌ من خارج الجامعة بنشاط ما فيسيء الظن ويتقدم بشكوى، فبدلا من دعم الطالبات ومقابلة أي شكوى محتملة برد مقنع، فإن الأسهل على هذه الجامعات هو سد الباب الذي يأتي منه الريح!
باختصار كمية المحاذير والممنوعات التي توجد في الأقسام النسائية الجامعية بالجامعات السعودية الحكومية كبيرة جدا، وهو أمر يصيب عضو هيئة التدريس بالاختناق أحيانا، خاصة بعد تجربة الانفتاح في فترة الابتعاث، حيث الجامعة هناك جزء من المجتمع وليست مفصولة عنه بأسوار عالية، وليس ثمة أوقات دخول وخروج محددة منها. الجامعة هناك مكان لاكتساب المهارات القيادية والحياتية وبناء الشخصية وصقلها بالتوازي مع اكتساب العلوم والمعارف.
ما زلت أذكر دهشتي آنذاك حين انتقلت لدراسة الماجستير في بريطانيا فور تخرجي (2002-2003)، وكتبت وقتها مقالا نشرته العزيزة “الوطن” في صفحة “نقاشات”: جامعات أم مدارس كبيرة؟ واليوم بعد خمسة عشر عاما، أعود لأكرر السؤال نفسه كعضو هيئة تدريس. فمجرد التفكير في استضافة شخصية نسائية ملهمة مثلا للحديث مع الطالبات، سواء في التخصص أو في القيادة أو ريادة الأعمال وغيرها، يحتاج سلسلة من الموافقات والأذونات، وقد لا ينتهي الأمر مع ذلك بنتيجة إيجابية، حتى لو كانت هذه السيدة الرائدة من خريجات الجامعة نفسها!
قد يقول البعض إن ما يحدث في هذه الصروح النسائية هو امتداد لواقع المرأة السعودية بشكل عام، فهي تعايش يوميا مختلف القيود الحياتية في كل أمورها، وهذا صحيح، وقد يطلب آخرون ألا نلوم الجامعات التي هي في الأصل تخشى ضغوطات المجتمع وحملات احتساب الغيورين، وهذا أيضا صحيح أيضا، ولكن لماذا يبدو الوضع مختلفا في الجامعات الأهلية التي تقع على مرمى حجر من نظيراتها الحكومية؟
لماذا يعد تنظيم المسرحيات شيئا طبيعيا فيها؟ لماذا من السهل على أي زائرة من خارج الجامعة أن تحضر بعض النشاطات المفتوحة للعامة؟ لماذا يعد تنظيم النشاطات الرياضية والثقافية والتراثية أمرا اعتياديا وطبيعيا وسهلا؟
والسؤال الأكثر إيلاما، لماذا أتيحت الفرصة لطالبات الجامعات الخاصة وحدهن لمقابلة شخصيات عالمية زارت المملكة، مثل هيلاري كلينتون، ورئيس وزراء بريطانيا السابق ديفيد كاميرون، والاستماع لتجاربهم، بل والتقاط الصور التذكارية معهم؟ فقانون البلد واحد، فما الذي يجعل الجامعة الأهلية تتمتع بهذا الهامش المثير للإعجاب من الحرية النسبية، في مقابل الهامش المثير للإحباط في الجامعات الحكومية؟ هل هناك بالفعل تعليمات مشددة من وزارة التعليم تتجاهلها الجامعات الأهلية؟ أم أن الجامعات الحكومية تؤثر السلامة من تلقاء نفسها وليس لديها الاستعداد لخوض معارك، بحجة بناء شخصية الطالبات، وإكسابهن تجارب حياتية غنية في فترة الجامعة؟ أم أن هناك بالفعل تنظيمات مختلفة بين التعليم العالي المدفوع والمجاني تؤدي في النهاية إلى نتيجة تخدم خريجة الجامعة الأهلية؟
December 27, 2016
عمل المرأة: شر مستمر

التطورات الإيجابية لتي خطتها المرأة في بلادنا على أصعدة عديدة جعلتها قادرة على المساهمة في تنمية بلادها ونهضتها، وأكسبتها ثقة قادة البلاد، فهي اليوم تدخل مجلس الشورى السعودي مستشارة للمرة الثانية، وتتبوأ مناصب رفيعة. وكلها أمورٌ تدعو إلى الفخر والتفاؤل بمستقبل أفضل. إلا أنه يبدو أحياناً أن بعضنا يعزف ألحاناً منفردة عندما يتعلق الأمر بالمرأة.
فنحن كما ذكرت نلاحظ تطوراً في الجانب السياسي والثقافي والصحي والعلمي للمرأة، لكننا في الوقت نفسه نقرأ ونسمع ونشاهد لمن يكرس وضعاً مغايراً، وكأنه يطالبنا فيه بالعودة إلى الوراء والتراجع عن هذه المكتسبات. ولن أتحدث هذه المرة عن خطب شيوخ المساجد أو برامج الدعاة وغيرهم، ولا عن تغريدات بعض الباحثين عن الشهرة، وإنما عن إحصائيات غريبة تتحفنا بها جهات حكومية، وعن نصوص منهجية تعليمية مكتوبة، يتم تدريسها للطلبة، ذكوراً وإناثاً، في مراحل التعليم العام والجامعي. فنحن ندرس أبناءنا شيئاً ثم يعايشون شيئاً آخر في المجتمع، ونستغرب لاحقاً، ونسأل: لماذا يتشنجون ضد المرأة؟ أو لماذا ينتقدون تعليمهم ومناهجهم؟ لماذا يبدو بعض السعوديين أحياناً وكأنهم يعانون من حالة فصام مزمنة؟
المثال الأول من الهيئة العامة للإحصاء، والتي تقول في تقريرها الأخير إنه بحسب إحصاءاتها فإن عدد المطلقات من العاملات أكثر من المطلقات ممن لا يعملن خارج المنزل. والحقيقة لا أعرف هل المشكلة في الإحصائية نفسها، أم في طريقة قراءتها ونشرها في الإعلام، إلا أن المحصلة واحدة: عمل المرأة هو سبب طلاقها. وطار البعض فرحاً بهذه الإحصائية، ووجد فيها ضالته ليطلب من المرأة أن تدع عنها تقليد الغرب والرجوع إلى بيتها وطلب رضاء زوجها حفاظاً على أسرتها. وهو في نظرته هذه يعتبر عملها ترفاً، وكأن وجود معلمة لبناته أمر ثانوي، أو طبيبة تولد زوجته أمر ترفيهي، وكأن راتب كل النساء يستخدم للكماليات فقط، وبالتالي حان الوقت لنوقف هذه اللعبة السخيفة، “عمل المرأة”!
وكما هو متوقع تمت قراءة الإحصائية باعتبار الطلاق أمرا سلبيا بالمطلق، مع أن الطلاق قد يكون أمراً إيجابياً جداً لأحد الأطراف أو للطرفين معاً، فما فائدة البقاء مع زوج خائن أو عنيف أو مجرم أو إرهابي أو بخيل أو لا يصلي ولا يقيم أركان الدين؟ أمثال هؤلاء لا تصبر عليهن الحرة إلا مجبرة أو مضطرة، فإن مكنتها الوظيفة أن تقف على رجليها وحدها وتتخلص منه فهذا يعني أنها كانت لها شيئاً إيجابياً، فمن لا يُسر بالحرية بعد السجن ظلماً؟!
المثال الثاني، من كتاب يتم تدريسه في واحدة من أرقى جامعات الوطن بالعاصمة، كمقرر لمادة “مبادئ الاقتصاد الكلي”، وقام بتأليفه أستاذان جامعيان –من نفس الجامعة- يسبق اسميهما (أ.د.) أي أنهما حاصلان على أرفع درجة علمية في العالم الأكاديمي في تخصصهما الدقيق، وهو أمر يتطلب سنوات من العمل والخبرة والنشر العلمي. فماذا يعلمان الشباب والبنات الذين يفترض أنهم سيديرون اقتصاد البلاد بعد التخرج؟
في الفصل السابع (البطالة والتضخم) جاء بأنه عند دراسة أسباب البطالة تبين أن لها عدة أسباب، ومنها “(5) عمل المرأة”! فهل غاب عن أساتذة الاقتصاد أن النسبة الكبرى من وظائف النساء في هذا البلد هي وظائف نسائية بحتة؟ وهي مصممة لتكون نسائية بدعم وطلب المجتمع نفسه. فالمعلمة والطبيبة وأستاذة الجامعة والإدارية في قطاع نسائي، وبائعة المستلزمات النسائية، وموظفة البنك والاتصالات في الفروع النسائية، وموظفة القسم النسائي في القطاعات الحكومية كالأحوال والتفتيش وغيرها، هي وظائف خاصة بها ولها، لم تتنافس مع أي رجل وتنتزعها منه، فكيف إذًا تكون سبباً في بطالته؟! وبالرجوع إلى عدة إحصاءات متعلقة بمشاركة المرأة السعودية في قطاع العمل الخاص في السنوات الأخيرة، فإن النسبة لا تتجاوز 16%. الطريف أن عمل المرأة جاء متقدماً على سبب مثل “(6) الاستعانة بالأيدي العاملة الأجنبية”.
فالمعلومات المذكورة، والتي على الطالبات المسكينات كتابتها في الامتحانات ليست فقط مزعجة ومسيئة، وتنظر للمرأة على أنها شيء ثانوي وطارئ في المجتمع، بل إنها أحد مشكلاته بدل أن تكون مواطنة وشريكة من حقها الحصول على فرص متساوية كالرجل، ولكنها كذلك خاطئة. ترى بماذا ستشعر تلك الطالبة التي تسهر ليلة الامتحان وهي تتخيل ملابس التخرج وتخطط لبناء مستقبلها، ثم تجد نفسها تحفظ أن أحلامها في حد ذاتها مشكلة؟
حتى الشاب الذي يدرس هذا المقرر سيعتقد أن المرأة سبب مشكلاته، فتجده يعارض غداً توظيفها، ولا يتقبل وجودها في بيئة العمل إن كانت مشتركة مثل المستشفيات، وقد لا يسمح لزوجته أو أخته أو ابنته بالعمل. عندها نلومه ونقول عنه ضيق الأفق ورجعي، وننسى أننا من حشونا رأسه بهذه التفاهات منذ أن كان طفلاً إلى أن شب عن الطوق، فهل ذنبه أنه كان تلميذاً نجيباً؟
خلال السنوات العشر الماضية أرسلت المملكة مئات الآلاف من السعوديين إلى الخارج مع أسرهم، وكان من بينهم عدد كبير من الطالبات النجيبات، فهل تم إرسالهن للخارج لدراسة الحاسبات والطب والقانون وتقنية النانو والعلوم الإدارية والفنية والأدبية وغيرها من أجل الجلوس في المنزل؟
عندما تريد أن تخلق نهضة وتصنع رؤية وتبني وطناً وتحيي أمة لا يصح أن يغرد كل قطاع في وادٍ، لا بد أن يكون لدينا مشروعنا الوطني الكبير الذي تسير في ركابه القافلة بكل أفرادها. ولو اعتبرنا مشروعنا هو رؤية 2030 التي تهدف إلى استغلال كافة ميزاتنا التنافسية وتنويع اقتصادنا والنهوض بطاقة شبابنا، فإنه لا بد من إعادة صياغة المناهج الدراسية والخطب والإعلام بما يتماشى معها.
مثل هذه الأفكار العنصرية تجاه المرأة السعودية يجب أن تختفي، بغض النظر عن الغلاف الذي ترتديه: مرة غلافا دينيا ومرة اقتصاديا وفي مرة ثالثة إحصائيا. ودون هذه الغربلة فسنظل نراوح مكاننا، وسيستمر وضع العراقيل في وجه كل تطور ونهضة، وسنظل سنوات نتجادل حول بديهيات، وحين نفيق يكون الزمن ومن حولنا قد تجاوزونا بسنوات ضوئية.
December 17, 2016
لماذا يجب أن يتعلم أطفالنا البرمجة
باتت التقنية واحدة من العوامل الرئيسية التي تؤثر في حياتنا اليومية. ومع ذلك، فإن الغالبية العظمى منا تعتبر من “المستهلكين” للتكنولوجيا، أي الذين يعتمدون على
الشركات أو على المتخصصين في تكنولوجيا المعلومات لتلبية احتياجاتنا التقنية. بينما الأفراد الذين لديهم أفكار خلاقة ويمتلكون المهارات التقنية اللازمة لتحويل أفكارهم إلى واقع ملموس، أي القادرون على “صناعة” التقنية وليس مجرد استهلاكها، فقد حققوا ثروة كبيرة على مدى العقدين الماضيين في قطاع تكنولوجيا المعلومات. فقد قام لاري بيج وسيرجي برين بصناعة محرك البحث الشهير جوجل، فيما اخترع مارك زوكربيرج فيسبوك، وأطلق جاك دورسي كلا من شبكتي تويتر وفورسكوير، في حين قدم جيف بيزوس للعالم موقع أمازون الشهير.
كل هؤلاء المشاهير في عالم الإنترنت وتقنية المعلومات كانت لديهم بضعة أشياء مشتركة:
-1 كانوا صغار السن نسبيا عندما بدؤوا أعمالهم. 2- كانت لديهم أفكار ذات قيمة عالية، والأهم من ذلك، كانوا “تقنيا” مستعدين لتحويل تلك الأفكار المثيرة إلى منتجات حقيقية. كلهم كانوا يمتلكون المهارة البرمجية اللازمة لإطلاق مواقعهم الخاصة ولبناء قواعد بياناتهم الغنية. فاستطاعوا أن يقدموا للعالم منتجات ملموسة ومفيدة وقابلة للاستخدام، وحققت هذه المنتجات النجاح والانتشار على مستوى العالم.
اليوم، لم تعد تعتبر البرمجة مجرد تذكرة لدخول سوق العمل كمبرمج تكنولوجيا المعلومات أو متخصص في علوم الحاسبات. فقد باتت هذه المعرفة ضرورية لابتكار مكان العمل الخاص بك، ولصناعة مشاريعك والنهوض بعملك الحر. أي أنها تمكن الفرد من إطلاق طاقته، وتفتح له الأبواب ليصبح من كبار رجال الأعمال فيما لو حقق مشروعه النجاح المأمول والأمثلة كثيرة.
نتحدث كثيرا عن جيل الشباب وعن كونهم “المواطنين الرقميين الأصليين” Digital Natives عندما يتعلق الأمر بعلاقتهم مع التكنولوجيا. فهم على عكس الأجيال السابقة الذين يوصفون بأنهم “مهاجرون إلى عالم التقنية” (Digital Immigrants)، قد خبروا التقنية صغارا، فوجودها في حياتهم أمرا طبيعيا وتلقائيا. لكن إن سألنا الغالبية منهم: ما الذي تفعله بالضبط مع هذه التكنولوجيا؟ ما علاقتك بها؟ فسيكون الجواب غالبا هو: التصفح والدردشة والألعاب والتواصل مع الأصدقاء. وقد يكون من بينهم من يستخدمها للدراسة أو البحث عن العمل أو في مجالات السياحة والترفيه، ولكن كلها استخدامات لمنتجات الآخرين. فالواحد منهم يستهلك ولا يبدع. فالأمر أشبه بقدرة الإنسان على القراءة دون الكتابة، فالمهارة أو الطلاقة الرقمية الحقيقية، كما يقول المختصون، تتطلب ليس فقط القدرة على الدردشة والتصفح والتفاعل ولكن أيضا القدرة على التصميم والإنشاء والابتكار.
حتى وقت قريب، ركز التعليم الرسمي على تعليم الطلاب، وخاصة في المستويات الدنيا (6-12 سنة)، على مهارات القراءة والكتابة الأساسية: القراءة والكتابة والمفاهيم الحسابية الأساسية. قد تكون هذه المهارات الحيوية كافية للقرن العشرين ولكن هذه ليست للقرن الحالي. لقد غيرت التكنولوجيا كل شيء. من كيف نعيش حياتنا اليومية، إلى كيف ندرس، وكيف نقوم بأعمالنا التجارية وكيف نتعاطى مع الاقتصاد والسياسة. وبالتالي هناك حاجة إلى مجموعة جديدة من المهارات ليظل الأفراد قادرين على المنافسة في زمن العولمة. فالتعلم مدى الحياة صار جزءا من حياة الكبار في ظل اقتصاد متغير.
هناك اليوم حاجة ماسة لمراجعة المهارات الأساسية التي يجب أن تُدَّرس للأطفال في سنوات دراستهم الأولى، فتكون هي تلك التي تمكنهم من مواصلة التعلم في المستقبل. فبالإضافة إلى القراءة والكتابة والرياضيات، هناك حاجة ماسة لمعرفة كيفية فهم وحل المشكلات، ولتطوير مهارات التفكير المنطقي والتحليل النقدي، وجميع المهارات الثلاث يمكن أن تُكتسب كجزء من تعلم برمجة الكمبيوتر. وبعبارة أخرى، فإنهم بحاجة إلى تعلم التفكير الحوسبي Computational Thinking. لكن غالبية المدارس حتى في العالم المتقدم، لا تزال تدرس عددا محدودا من المواد الخاصة بالبرمجة بشكل خجول، هذا إن فعلت.
في عام 2013، حث باراك أوباما الشباب في أميركا على الاهتمام ببرمجة الكمبيوتر في خطاب مسجل وموجود على يوتيوب، من أجل أن يكونوا منتجين لا مستهلكين، وكان مما جاء فيه: “لا تقم فقط بتحميل التطبيق ..شارك في تصميمه!”. وفي عام 2016، دق بيل جيتس ومارك زوكربيرج، مع عدد من رواد التكنولوجيا وحكام الولايات وقادة مراحل التعليم العام والأساسي في أميركا، ناقوس الخطر، وذلك من خلال رسالة مفتوحة إلى الكونجرس تحث على الاعتراف بتأخر أميركا في جانب تعليم التقنية للأطفال، وعن حاجة الأطفال الأميركيين والمراهقين والشباب لمعرفة كيف يبرمجون وإلا فإن صدارة أميركا في هذا المجال ستتراجع، وريادتها العالمية ستكون مهددة.
وفي زيارتين قمت بهما هذا العام إلى أميركا وبريطانيا، وجدت رفوف المكتبات العامة والتجارية الكبرى تمتلئ بالعناوين التقنية المتعلقة بتعليم البرمجة وقواعد البيانات للأطفال، بينما لم تسفر رحلتي في معارض الكتب في ثلاث مدن عربية، ولا عبر الإنترنت عن إيجاد كتاب واحد يعلم البرمجة للأطفال باللغة العربية.
وفي بلد نام مثل المملكة العربية السعودية، حيث 24 % من السكان تحت 15 سنة، بحسب الهيئة العامة للإحصاء، فإن تعلم مهارات التقنية وبرمجة الكمبيوتر للناشئة يعتبر مهارة أساسية وجوهرية خاصة لصناعة مجتمع المعرفة. وأيضا لتحقيق رؤية 2030 التي تهدف لتقليل الاعتماد على النفط، والتي من محاورها اقتصاد مزدهر: فرص مثمرة تنافسية جاذبة، استثمار فاعل؛ فإن وجود قاعدة عريضة من التقنيين المؤهلين من شأنه أن يرفع تنافسية المملكة ويجلب الاستثمارات الأجنبية. ومع ذلك فالبرمجة لا تُدرس إلا لفترة وجيزة للطلبة في المدارس الثانوية، وبشكل بدائي. وتُعطى في وقت لاحق على المستوى الجامعي، حيث يتم تدريس البرمجة بشكل معمق فقط لطلاب علوم الحاسب وفي بعض كليات الهندسة. فهي حتى ليست متوفرة كمادة اختيارية لطلبة بقية الكليات العلمية أو الأدبية أو الإدارية.
وفي مشروع قمنا به مع الطلبة خلال العام الدراسي المنصرم، لإنتاج تطبيق يعلم الأطفال البرمجة باللغة العربية وأسميناه (المبرمج الصغير) أردنا معرفة ما إذا كانت البرمجة تُدرس في المراحل الابتدائية، سواء الحكومية أو الأهلية أو العالمية، ووجدنا أن الجواب كان للأسف لا. وحين سألنا العديد من الطلبة الجامعيين الذين يتعلمون حاليا كيفية البرمجة، أجابونا بأنهم يواجهون صعوبات كبيرة في الوقت الذي تعلم البرمجة عندما يتعلق الأمر باستيعاب بعض المفاهيم الأساسية فيها لأنها جديدة تماما تقريبا بالنسبة لهم.
تنبهت بعض الدول المحيطة بنا للتغييرات في سوق العمل ولأهمية المهارات التقنية والبرمجية، فأعلنت دولة الإمارات العربية في الصيف المنصرم البدء في إدخال البرمجة وعلوم الكمبيوتر لكافة المراحل الدراسية.
فالسؤال الذي أختم به مقالي ليس: هل نبدأ بتعليم البرمجة لصغارنا.. وإنما: متى؟!
December 7, 2016
البلطجة الإلكترونية في إعلام المواطن
يمكن تعريف البلطجة الإلكترونية (Cyber Bullying): على أنها استخدام وسائل الاتصال الإلكترونية للضغط على الشخص عن طريق إرسال رسائل متعددة فيها
طابع التخويف أو التهديد أو السخرية أو التحقير أو الفضيحة. وإذا كان الاستقواء وممارسة التنمر والبلطجية مرفوضين في كل صورهما وممارساتهما، سواء بالفعل كما يفعل الطلبة في المدارس حينما يجتمعون لأذية زميل بعينه، أو باللفظ كما يفعل بعض الرؤساء أو الأزواج أو المعلمين مع غيرهم، أو حتى كتابة كما يفعل بعض العنصرية حينما يشوهون بالأصباغ البيوت أو دور العبادة، إلا أنها في الصورة الإلكترونية الحديثة تبدو أسوأ بكثير. وذلك لأنها غير محدودة بعدد معين من الأفراد، وليست محصورة ببقعة جغرافية يمكن للضحية الهرب منها أو تجنبها، ولأن هؤلاء المتنمرين مجهولون، لا يمكن الوصول إليهم بسهولة، وبالتالي رفع شكوى ضدهم بشكل واضح كما هي الحال خارج الواقع الإلكتروني. صحيح لدينا حتى هنا في المملكة قوانين خاصة بالجرائم المعلوماتية، لكن صدقا من يستطيع الإبلاغ عن كل حساب في تويتر وفيسبوك وإنستجرام وواتساب؟!
ما زال الجميع يثني على وسائل التواصل الاجتماعي التي غدت إعلام المواطن، فهي لا تنافق ولا تجامل، وليست لديها المحاذير والمخاوف التي تقيد الإعلام الرسمي، سواء الحكومي منه أو الخاضع لمؤسسات أهلية. وبالتالي تمكنت هذه الوسائل من كشف الكثير من الحقائق، وفضح الجرائم، وإيصال من لا صوت لهم، وكانت أحد أسباب محاربة الفساد ومعالجة المشكلات. فميزتها أن أي شخص، في أي مكان، يستطيع قول أي شيء دون قيود أو انتظار رحمة مقص الرقيب، لكن هذه الميزة هي في الوقت نفسه نقمة، لأنه لا توجد طريقة للتثبت من صحة الأخبار، أو منع تدفقها، أو معرفة من يقف خلفها بسهولة. وأي دولة أو منظمة أو شركة أو شخص يمكن أن يقع ضحية لهذه الشبكات، ولهذا الهجوم المنظم الشرس دون سابق إنذار، ودون سبب منطقي أحيانا، وإنما تكفي إشاعة ما تنشرها بضعة حسابات لتشتعل التعليقات والتغريدات وتنهمر بلا توقف.
وإذا كانت الدول والشركات والمؤسسات قادرة على إصدار البيانات الإعلامية للدفاع أو النفي، فلديها مكاتب للعلاقات العامة ومستشارون قانونيون يخبرونها بماذا عليها أن تفعل، ويهددون أو يقاضون من يسيء فعلا، فإن الأمر مختلف كليا حينما يتعلق بالأشخاص. فباستثناء الشخصيات العامة أو ذات الصفات الاعتبارية، والتي تستطيع إلى حد ما تكليف من يدافع عنها، فإن الشخص العادي يقف مدهوشا عاجزا متألما أمام طوفان الإساءة والكراهية.
ومجتمعنا السعودي ليس بدعا عن المجتمعات الأخرى، بل نجد أنه قد وجد ضالته للتعبير عن رأيه في شبكات التواصل الاجتماعي، وبالأخص تويتر، وأصبح الكثيرون يمارسون الحرية بذلك الشكل اللا منضبط، حيث كل ما يُعرف ولا يُعرف يقال، إما باسم صريح أو (وهو الأغلب) بالتستر خلف اسم مستعار، بل باتت هذه الممارسة البلطجية من المسلمات المتقبلة، والتي يجدها البعض طريفة! فهم أقنعوا عقلهم الباطن بأنها ليست ممارسات مسيئة وليس فيها بلطجة ولا عنصرية، بل هي “طقطقة” أو “تفجير الجبهات” عبر “الهشتقة”، بحيث يختلط الجد بالهزل، ويتسلى البعض في حين تكون سمعة وكرامة ومستقبل ورزق ومشاعر إنسان ما وعائلته على المحك. وهي أمور قد تتطور في المستقبل، وهو ما حصل في مجتمعات غربية عديدة، بحيث تدفع الإنسان للانتحار للتخلص من العار. من الأمثلة التي شاهدناها مؤخرا، ما تعرض له الشاعر الشاب حيدر العبدالله، بسبب القصيدة التي ألقاها أمام خادم الحرمين الشريفين، بمناسبة زيارته المنطقة الشرقية. فبغض النظر عن رأينا في القصيدة أو في طريقة إلقائها، فإن الشاعر لم يرتكب جريمة يستحق عليها كل تلك السخرية وكل ذلك الهجوم. والأمر نفسه يتكرر مع عدة أشخاص تعرضوا لأذى نفسي شديد بسبب البلطجة الإلكترونية ونظرية “إذا طاح الجمل كثرت سكاكينه” وعقلية القطيع. ولا أقصد هنا الأشخاص الذين يقومون متقصدين بتصريحات أو خطب مسيئة يعرفون بأنها سوف تستفز الرأي العام، وبعضها يستوجب مساءلة قانونية، وإنما زلات اللسان أو سوء الفهم الذي يمكن أن يتسبب في تجريد شخص من دينه أو سمعته الأخلاقية أو وطنيته وانتمائه. ولا يُترك المجال للضحية لإيضاح وجهة نظرها، فالقطيع غير معني بها أصلا، فهو قد أصدر الحكم سلفا، ويقوم حاليا بتنفيذ الحكم.
فأبسط مقال وأقصر تغريدة يمكن تحويرها بحيث تصب في المعنى المعاكس تماما لما كُتبت لأجله، وعبثا تحاول محاورة من تتوسم أنهم راغبون في الفهم، وقد يستمر الهجوم أياما أو أسابيع، والحل الوحيد لإيقاف هذه الحملات الإجرامية هو تجاهل هذه الحسابات التي تبدو أحيانا وكأنها لشخص واحد، أو كأنها موجهة من جهة ما، والقيام بحظر أصحابها، وشيئا فشيئا يخمد الموضوع ومن ثم يقفل.
نوع آخر أسوأ من هذه الحملات يتورط فيه ليس العوام وأصحاب المعرفات الوهمية، إنما المثقفون والكتاب والصحفيون وأرباب الفكر والقلم، ممن اختاروا الاستقطاب لأقصى اليمين أو اليسار، أو متزلفون يبحثون عن تحقيق منفعة ذاتية على حساب تشويه سمعة الآخرين. هؤلاء يحاولون استعداء الدولة ضد شخص ما عن طريقة قراءة خاطئة متعمدة لكتاباته الصحفية أو تغريداته الشخصية. فمثلاً لو كتبت تشكو حال المسجد الأقصى، أو ذكرت قصة عن عدل عمر أو شجاعة عليّ -رضوان الله عليهما- لحولوها بقدرة قادر إلى انتقاد للدولة، وطعن في قادتها، ومحاولة للثورة والفتنة! ويتهم المغرد بأنه يستخدم أدبيات “القاعدة” و”داعش”! على هذا القياس الفاسد، فإنه علينا أن نهجر القرآن لأن مجرمي داعش يستشهدون به، وننزع الحجاب لأنهم يفرضونه، ونلغي آيات الجهاد لأنهم يتترسون بها!
التقنية أعطتنا الكثير، ولا يمكن تصور حياتنا بدونها، لكنها في الوقت نفسه وضعتنا أمام تحديات دينية وأخلاقية واجتماعية وقانونية كبرى، وما زال العالم منذ 20 سنة أو أكثر وهو يحاول أن يوائم بين إرث إنساني عمره آلاف السنين وبين الوافد الجديد، فيصيب مرة ويخفق مرات.
البلطجة الإلكترونية أو التنمر عبر الشبكة هو حقيقة واقعية لا بد من التعامل معها بحزم ووضوح، بحيث يسمح بحرية التعبير ولا يضيق عليها، وفي الوقت نفسه يحمي الضرورات الخمس التي جاءت التشريعات السماوية بحمايتها، ومعها العرض والكرامة، فالخطوط الحمراء لا يجب أن يتم تجاوزها تحت أية ذريعة.
المقال في صحيفة الوطن
مرام عبد الرحمن مكاوي's Blog
- مرام عبد الرحمن مكاوي's profile
- 36 followers

