حسين العبري's Blog, page 6
September 10, 2010
مسلسل درايش وانتقاد الحكومة العلني والمعلمون الغاضبون ومعاوية الرواحي وأشياء أخرى
لعلي أُرجعُ مسألة انتقاد الحكومة العلني إلى حوالي خمسة عشر سنة خلت. بالطبع كان هناك من ينتقد الحكومة باستمرار على مستويات شخصية أو إدارية أو سياسية أو اقتصادية، سواء أكان الانتقاد علنيا أم سريا، بيد أنها لم تكن ظاهرة لها انتشارها بين الناس. وإني لأتذكرُ تماما في طفولتي كيف أنه من التندرات التي اعتاد عليها الناس في ذلك الوقت أنه كلما قيل أمرٌ ما ضد شخص ما في الحكومة أو ضد أمر حكومي يرفع أحدهم من كُمِّ دشداشته ليريَنا ساعتَه ويقول في تباهٍ سأبدأ في التسجيل، مشيرا أن هناك عيونا للحكومة يسجلون ما يقوله الأفراد فالأفضل أن يستمر الأمر داحل نطاق محدود ولا يخرج انتقادهم للعلن. ولا شك أن حركة النقد الموجه للحكومة رغم أنها خرجت إلى السطح قليلا قليلا إلا أنها كانت سريعة نسبيا. ولا شك أن عوامل كثيرة أدت إلى تفشي هذه الظاهرة بقوة، منها إدراك المجتمع للوضع الاقتصادي الهش للبلاد، وظهور الفساد الإداري في عدد من الدوائر والمؤسسات، وتطور سبل الاتصالات العالمية وخروج المجتمع من دائرة الإعلام الموجه الذي كانت تفرضه وزارة الإعلام عن طريق انفتاح القنوات الأخرى العربية والعالمية وأخيرا وليس آخراً ظهور "غول" الإنترنت. والحق أن العديد من الرؤى والأفكار التي شكّلت العقلية الجمعية للناس تغيّرت خلال السنوات القليلة الماضية؛ فالنظرة للحكومة على أن لها مصلحة واحدة هي الخير للناس، لم تعد موجودة، والأخطاء التي كانت تُرجَع في الماضي إلى سوء الإدارة وقلة الفهم وانعدام الخبرة أصبحت حديثا تُرجَع إلى الفساد والسرقة والمحسوبية واللعب بالأموال العامة. والنظرة إلى الحكومة بأنها رشيدة وعاقلة حَلَّتْ محلَّها النظرةُ إليها أنها لا تعي بالضبط ما تريد، وأنها تُفرِّط في أمور كثيرة وتنتهج مناهج تعسفية وظالمة وخاطئة. لم تطور الحكومة من نفسها في النظر إلى الملفات المهمة، وانتصارها السريع في البداية (السبعينات والثمانينات) أَوهَمَها أنها قادرة على إدارة الدولة بشكل جيد من غير النظر إلى طبائع المراحل واختلافها واختلاف الأوضاع من حولها. بل إنها انحدرت في التعامل مع ملفات بعينها انحدارا مخيفا. ولكي لا أتكلم بعموميات هنا عن الانحدار المخيف الذي أعنيه أضرب مثالا بإدارة ملف القبلية؛ فقد كان واضحا، في البداية على الأقل، أن هناك نوعا من التوجه لإخراج الدولة بحكمة وروية من دائرة القبلية وإدخالها في دولة المواطنة والقانون. وطبعا كل من امتلك القدرة على مشاهدة ما يحصل من إيلاء التعليم الأولوية ونشره للجميع بدون تفرقة ووضع المواطنين على قدم المساواة وخلق جيل متساو وخلق فرص متساوية للناس أسودهم وأبيضهم وكبيرهم وصغيرهم، كل من شاهد ذلك بعين الحصيف كان متفائلا ومستبشرا، وكان في نفس الوقت يرى بعض التجاوزات هنا وهناك، من إعطاء بعض المزايا لبعض الأشخاص بسبب قبائلهم ومراكزهم، لكنه كان يراهن حينها أنها مجرد أمور مرحلية وأنه من غير المعقول أن يتحول الأمر برمته بين ليلة وضحاها إلى وضع مختلف وطريقة مختلفة في التفكير وأن أمر التغيير يتطلب وقتا. لكنّ هذا المشاهد الحصيف يراهن الآن أن ما حصل ويحصل من توزيع للثروات بطريقة مستهترة ومن عودة القبيلة والألقاب يدرك انحدارا شاملاً. ملف آخر لضرب المثال على الانحدار هو موضوع التعليم الذي بلغ ذروته ربما في افتتاح جامعة السلطان قابوس ثم بدأ في الانحدار: لم تخلق الدولة، وكانت قادرة على ذلك، فريقا من السياسيين والاقتصاديين والمفكرين الذين يمكن أن تُسلَّم إلى أيديهم الدولة بآمان بعد عشر سنين أو أكثر قليلا من تغير النظام العام في الدولة. والآن نعود لظاهرة النقد الموجه للحكومة، ولنقل مبدئيا من نعني بالحكومة؟ فإن كانت الحكومة هي من يعمل في الدوائر الحكومية فإن عددا كبيرا من المواطنين يعملون في الحكومة، وبالتالي فإن أي نقد من قبل المواطنين للحكومة هو نقد للمواطنين أنفسهم، وإذا أخذنا بنظرية عشرين\ ثمانين، وقلنا أن هناك عشرين بالمائة من العاملين في الدولة لديهم القدرة على التغيير وبأيديهم مقاليد القرار وثمانين بالمائة لا يملكون قرارا وإنما يؤدون أعمالا تنفيذية ووسيطة، فإن المواطنين الذين ينتقدون الدولة ينتقدون أنفسهم نوعا ما، لكنهم ينتقدون أكثر ما يكون المتحكمين بالقرار، وهؤلاء المتحكمون بالقرار العشرون بالمائة ماذا يرون في أنفسهم؟ يرون أنهم وسطاء وأنهم ليسوا بالفعل مقررين لشيء، وأن ما نسبته عشرون بالمائة فقط منهم هم ربما الذين في أيديهم القرار النهائي. وهكذا نستطيع أن نستمر في تقليص نسبة صانعي القرار الحقيقيين لنضع القرار أخيرا في أيدي مجموعة من القياديين والمتنفذين. وإذاً من المُنتَقَد حين نقول مثلا أن الشارع الفلاني غير مخطط بشكل جيد، أهو العامل أم المهندس أم المقاول أم البلدية أم رئيس البلدية أم وزير الديوان أم السلطان؟ لاحظوا هنا أن وزير الإعلام مثلا هو مواطن إلى حد ما حين يتعلق الأمر بموضوع الطريق غير جيد التخطيط، ولكنْ قد يكون لديه القدرة على عدم الانتظار في الزحام بسبب أنه يمكن ان يذهب إلى العمل متأخرا، ولكنه إذا تضرر فإنه يُلقِي باللائمة على الآخرين أيضا. والمراد أن ظاهرة الانتقاد ليست حكرا على شخص معين وإنما يفعلها الجميع ضد الجميع: أولياء الأمور يدّعون أن المعلمين غير أكفاء (طبعا البعض من أولياء الامور والبعض من المعلمين) والمعلمون يدّعون أن الوزارة لا تعاملهم بجودة ولا تعطيهم حقوقهم المناسبة وهلمجرا، فكل أحد تقريبا يشير في كل شيء تقريبا إلى أحد ما لينتقده, ومع حمى الانتقادات هذه تضيع الحقائق، ولأكنْ دقيقا في استخدام كملة "حقائق": لا تتضح على من تكون المسؤولية في أمر ما. ففي أمر التعليم مثلا لا يمكن أن يُبرَّأ المدرس ولا الطالب ولا ولي الأمر ولا الوزير ولا السلطان، الكل متساوون في صفة انعدام البراءة، لكن نسبهم متفاوتة في الذنب. حين يأتي مسلسل درايش ويقول أن بعض المعلمين لا يعرفون كيف يُعلِّمون يثور بعض المعلمين على درايش ويتهمون منفذيه وكاتبيه بأنهم يسخرون بالمعلم ويتهمون وزارة الإعلام بظلمهم وإهانة كرامتهم، ويُسجِّلون رغبتهم إلى وزارة التربية والتعليم في أن تنتصر لهم. ولو لم يفعل درايش أي نقد لأتُهِم كاتبوه ومنفذوه أنه مُوالٍ للحكومة وتُسيِّره أجندة وزارة الإعلام. هذا هو الظاهر في الصحافة، أما حال المنتديات الالكترونية والمدونات فأصعب جدا لأن لديها القدرة على النشر وقول ما يخاف من قوله عادة علانية، والكثير مما تنشره الصفحات الالكترونية لا تجرؤ الصحف المحلية على نشره سواء أكان خاطئا أم صائبا، وسواء أكان مدير التحرير مع الأمر أو ضده. ولأضرب مثالا على ذلك فإن معاوية الرواحي في مدونته (وهي مدونة فريدة من نوعها ومهمة أرجِئُ الكلام عنها وعن صاحبها إلى شذرة قادمة، وقد قال الكاتب عبدالله خميس في مقاله عن معاوية بعضا مما كنت أرغب في قوله) نشر مقالا عنيفا ضد وزراة الإعلام وشخصيْ مسؤليْها الأكبرين، وكان العنف والإثارة في المقال واضحا لدرجة أنه غطّى على الموضوع المراد نقده، ولا يكاد المرء يعرف من المقال ما هو الشيء المُنتَقد بالضبط، لنكتشفَ بعد ذلك أنها الحلقات الأولى من مسلسل درايش التي شاهدها المدون ولم تُعجِبه ورأى أنها نوع من إهانة مقدمة للمواطن العماني، وفي حين كان كاتبو حلقات شرفات يُعوِّلون في دواخلهم أنهم ينقدون المجتمع ويقدمون قفزةً نوعية في حركة النقد في البلاد يأتي صاحب المدونة لينتقد العمل برمته، ولكم كان الكاتب محمد سيف الرحبي، وهو أحد كاتبي حلقات المسلسل، ذكيا حين أعلن في مقال حديثٍ له أن معاوية لم يشاهد ولا يشاهد المسلسل، فكأنه انتقد روح المسلسل أو حكم عليه من حلقات ثلاث أو أربع. ثم يأتي الكاتب صالح الفهدي فينتقد معاوية على مقاله البعيد عن الذوق ولا ينتقد معاوية لمقاله أو لمقالاته فحسب بل ينتقده حتى في جلسته أمام من هو أكبر منه: رجالِ الدولة والمسؤلين والمهمين في البلد! ثم يقوم عمار في مدونته أيضا بنشر الرسالة التي وجَّهها بعض المعلمين إلى وزير التعليم متهمين حلقة داريش السادسة أنها أهانتهم وقام بنقلها معاوية إلى مدونته. وما حصل مثير للانتباه فعلا، لأن الجميع ينتقد الجميع؛ فالمسلسل ينتقد الحكومة وينتقد المواطنين والمواطنون والمعلمون ينتقدون درايش والحكومة، والكتاب ينتقدون المجتمع والحكومة والمجتمع ينتقد الكتاب والحكومة . بل إن الصيغة التي عبّر عنها أحد المعلمين في سبلة عمان في معرض تنبيهه للخطر مما حصل في درايش من سخرية على المعلمين تقول: يجب أن تنتبهوا أيها الآباء فإنكم إن مرَّرتم نقد درايش للمعلمين فإنكم إنما تسمحون لأولادكم في انتقادكم أنتم أيضا! وفي رأي معلم آخر: يجب ألا يُنتَقد المعلم ليس لأنه لا يوجد معلمون غير جيدين بل لأن انتقاد المعلم غير الجيد سيعم ويشمل المعلم الجيد! أعود فأقول أنها حقا ظاهرةٌ مسألة الانتقادات هذه، وكل ينتقد ليلاه وكل ينتقد على طريقته. والسؤال السطحي والعميق في آن والذي يتبادر على الذهن سريعا: هل هو نقد بنّاء؟ هل نحن بالفعل محتاجون إلى النقد ؟ أو كما يضعها أحد "العقلاء الوسطيين" في عتبه على معاوية الرواحي : هل ينبغي أن تتكلم بهذه الطريقة حتى تخبرنا ان مسلسل درايش غير جيد؟ ألا توجد طريقة أخرى يمكنك فيها يا معاوية أن تقول نقدك بشكل لا يمس الأشخاص ولا يُجرِّحهم؟ وأنا أشارك الطرح الذي يتكرر بين فترة وأخرى في المنتديات الالكترونية: ألا يثير المنتقدون وخصوصا بطريقة التثوير والتنكيل والتجريح، ألا يثيرون البلبلة ويشوهون وجهات نظرهم ؟ أليسوا راغبين فقط في بطولة الاستعراض من غير أن يكون همهم الحقيقي تطور البلاد ونهضة العباد؟ وطبعا كل هذه في رأيي أسئلة مشروعة. لكننا يجب أن نقف قليلا وندخل عميقا في رؤيتنا للانتقادات المقدمة فبداية فالمتكلمون في المنتديات والمدونات يفعلون ما يجب على الصحافة أن تفعله ، لكنه لا الصحافة الحكومية تفعله ولا الصحافة التجارية تفعله ولا التلفزيون الحكومي ولا التلفزيون الخاص ولا الإذاعات الحكومية ولا الاذاعات الخاصة، طبعا ليست المشكلة في الصحفيين فحسب وإلا كانت القضية انعدام مهارة وقلة خبرة لكن القضية أن الصحفيين مكبلون هم أيضا بالقوانين، إذ لا توجد شفافية معقولة في تخطيط الأمور وفي تبيان الأخطاء وفي طريقة إصلاحها. وثانيا لانعدام الشفافية هذا يختلط الحابل بالنابل فلا يُعرَف الحق من الباطل ولا يُعرَف إن كان الانتقاد التالي من قِبَل الأشخاص هو انتقاد صائب ومناسب أم خاطئ ومبالغ فيه. لآخذ موضوع معاوية الرواحي الأخير بعنوان تساؤلات الذي يتكلم فيه عما يسببه خبر ،إن صح الخبر، أن كلا من عبدالله عباس رئيس بلدية مسقط السابق وجمعة آل جمعة الوزير السابق، تقلدا منصبين كبيرن في شركتين حكوميتين، فالآن ماذا تُصدِّق وماذا تُكذِّب؟ وكيف تنتقد بعقلانية في ظل هذا التعتيم المقصود تماما؟ فهل حقيقةٌ ما كان قد قيل سابقا أنهما فعلاه؟ وهل حوكما على ما فعلاه محاكمة عادلة؟ وهل اكتشفت الحكومة أنهما لم يفعلا ما فعلاه فأرادت أن تكفر عن ذنبها؟ ما الذي يحدث بالضبط؟ ما أريد أن أقوله بالضبط أن النقد العلني للحكومة ليس جيدا فحسب بل هو واجب، وهو واجب وطني والسكوت عنه يرقى أن يكون خيانة وطنية. ولأجدد القول في أن الحريات الشخصية والحقوق تؤخذ غصبا ولا توهب، وإنْ كانت الحكومة (أو بعض أفرادها) يدركون أنه يجب أن تمنح الحريات والحقوق للأفراد فإنهم في أغلب الأحيان يفعلون الأمر بطريقة إعلانية إعلامية ترويجية فحسب لكنهم لا يفعلونها حقيقة. فعلى سبيل المثال حين أرى شرطي المرور الواقف متصلبا في الصيف القائظ يُنظِّم حركة المرور أدركُ أهميته وأحترمه لكنهم حين يتكلمون عن مفاخره وأهميته في الإعلام فإنهم يُسقِطونه من نظري، لأنهم يبالغون في الأمور بحيث يفقدونها روحها الحقيقية ويدرجونها في سطحية مقيتة، ويُذرّون الرماد على العيون عن الأخطاء الأخرى التي يرتكبونها. لا أحد مبرأ من الأخطاء والهفوات والتعثر والسقوط لكنْ إن لم تضع الدولة في حسبانها أن تعتيم الحقائق هو ما يؤدي إلى الانتقادات العشوائية فإنها تغفل عن حقيقة كبيرة. ليس الناس على خطأ أو على صواب وليس موظفو الدولة برمتهم قطاع طرق ومفسدون ولا هم برمتهم أخيار وطيبون ومصلحون. الجميع بشر يخطئ ويصيب، والواجب في رأيي أن يرى كل مسؤول في الدولة أن ما يُنتَقد في مؤسسته ودائرته ومكانه أمر جيد له لأنه يُعرِّفه بحقيقة أراء الآخرين، وأقول دفاعا عن بعض المدونين ومنهم طبعا، معاوية الرواحي، أن الأمر أحيانا يتعدى حدود العقل ويثير الحمية ويشيط بالأعصاب ويفلت الإنسان من عقاله، وهذا الذي يدفع للغضب والاندفاع. يجب أن يقول كل الناس ما يرغبون في قوله مهما كان ما يقولونه خاطئا أوصائبا؛ فحين تكون للدولة مناهج وطرائق محددة متفق عليها وقانون ضابط وادعاءٌ عام نزيه وصحافة حرة فلن يحتاج الأمر إلى صراخ وهياج ومراج بل إن كل شخص حينها يحاول أن يفعل التأجيج سيكون منبوذا بتلقائية من الناس، أم في الحالة التي نعيش فيها فيجب على الدولة أن تسرع قليلا من حركة التصحيح ، إن كانت حركة التصحيح والإصلاح موجودة فعلا، فالقضاء يجب أن يكون مستقلا عن وزارة العدل، والإدعاء العام يجب أن يكون مستقلا عن الشرطة، والتشريع لا بد أن يكون له مؤسسة خاصة لكي لا توضع القوانين بشكل اعتباطي، والصحافة يجب أن تأخذ دورها الحقيقي، وماذا لو قال الناس كل ما يريدون؟ فمتى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحراراً؟
September 4, 2010
إيدا عبدالله خميس: الدولة العمانية والأسماء
إيدا عبدالله خميس البلوشي طفلة عمرها ستة أشهر لكنّها بلا اسم حتى الآن! الحق أن لها اسماً هو إيدا، وهو الاسم الذي اختاره والداها لها لكنّ الحكومة لم ترضَ بالاسم واعترضتِ السبيل، وإيدا الآن بلا شهادة ميلاد، وقد تلقّى والداها تحذيراً من أنها لن تُعطَ التطعيمات من المراكز الصحية أو المستشفيات ما لم يكن لها اسمٌ وشهادةُ ميلاد! وممثل الحكومة في الاعتراض على الاسم شرطةُ عمان السلطانية, أما وجه الاعتراض فلأن اسم إيدا غير موجود في القاموس!وقبل هذا بقليل قامتْ الحكومة مُمثلةً بوزارة الداخلية بإنشاء "لجنة تصحيح مسميات القبائل والألقاب والأسماء"، وحاولتْ هذه اللجنة أنْ تُغيِّر إسميْ قبيلتيْ آل توية وآل خليفين، والحجة التي أوردَها أحدُهم، ربما عن بينةٍ وربما بِنِيَّةِ التعليل، أن "آل" تخُصّ الأسرة الحاكمة وأنَّ وضع "آل" في اسم قبيلة أخرى قد يؤدي إلى اللبس! وقبل هذا قامت الحكومة بتغيير بعض أسماء المواقع، فتغيّرتْ مثلاً بلدة "وبال" إلى "منال"؛ لأن الأسماء يُتَيَمَّن بها.وربما نعرف جميعنا أن بعض المصطلحات والكلمات لا يجب أن تُستخدَم استخداما رسميا في الوزارات وخصوصا في وزارتيْ التربية والتعليم والإعلام، وأنه بين فترة وأخرى تصدر قائمة تسرد الأسماء والكلمات التي لا ينبغي بثها أو نشرها أو تداولها. وحين قال جلالة السلطان في كلمته للمواطنين في إحدى جولاته أنه يستهجن أن يُوصَف الشبابُ الباحثون عن عمل بكلمة "بطالة"، قامت وزارة الإعلام بتفسير مقولته على أنه لا يجب بتاتا تحت أي تعليل أن نقول "بطالة" أو "عاطل" بل يجب أن نقول "باحث عن عمل"، من غير أن تبحث هذه المرة في القاموس الاقتصادي عن معنى "الباحث عن عمل"، ومن غير أن يُذهَب إلى التفسير الأقرب، وهو أنه ما لم يكنْ كل العمل داخل البلاد في أيدي عمانية فإنّ البطالة كلمة خاطئة. ولم يكفِ وزارة الإعلام أن تصف الشباب العمانيين العاطلين بأنهم باحثون عن عمل بل شَرَعَتْ في التكلم عن البحث عن عمل في ألمانيا والولايات المتحدة، فكأنها صَدَّرَت المفهوم إلى الخارج ولكنْ من جهة واحدة فحسب إذ لم يستورده أحد حتى الآن. ورغم أن منجزاتنا الثقافية الحديثة قليلة، وهي ليست قليلة نسبيا، فإنه لدينا موسوعة السلطان قابوس للأسماء العربية، وموسوعة أرض عمان التي تقتفي أسماء المدن والبلدان والمواقع العمانية، ناهيك عن أننا أصبحنا مؤهلين أن تكون لنا "موسوعة الأسماء العمانية المُغيَّرة والمُبدَّلة والمُحوَّرة والمهجورة" نبتدئ بها بالانتفاضة التي أصبحت نهضة، والجيش العماني الذي أصبح الجيش السلطاني، وفادي الذي أصبح سالم، وبرج الحمراء الذي كان رمزا لولاية الحمراء والذي أصبح شاة، فلله الأمر من قبلُ ومن بعدُ. وهذا الولع بالأسماء ظاهرة جديرة بالدراسة والتأمل، وقد أسماها الكاتب سالم آل توية في مدونته "مراحين" في مقالته الرائعة: "تضامنوا مع الطفلة إيدا"، بأنها عقدة، وهي حقا عقدة وترقى أن تكون فانتازيا. وهي ظاهرة لأن لها تمظهرات عدة وليست وليدة صدف عمياء أو أخطاء عشوائية أو فردية بل إن ثمة خط وخطة ومنهج، وهي عقدة لأن الأمر أصبح يتعدّى تسمية ما لم يُسمَّ بتغيير ما سُمِّيَ ورفض ما سيُسمى، وهي فانتازيا لأنها تُذكِّرنا بالعقل السحري عند الإنسان البدائي الذي إذا لم يُحِب شيئا غَيَّر تسميته لكي يُحبَّه، والذي يتيمن ويتشاءم. وإذاً كيف نفسّر هذه الظاهرة؟ وما هو سر هذه العقدة؟ ومن أين تنبثق هذه الفانتازيا؟هل الأمر له علاقة بتلك العلة التي يمكن رؤيتها في بعض الثقافات الفرعية في وطننا من أننا نحب أنْ نُبرِز للغريب أننا جيدون مهما كانت الحقيقة؛ فالمجلس أو السبلة، وهو المكان الذي يدخل إليه الغرباء والضيوف يجب أن يكون أفضل مكان في البيت، و"الفوالة" المُقدَّمة للضيوف يجب أن تكون أفضل الموجود؟ ولأن الاسم يتقدم المكان والشخص ويدل عليه فلا بد أن يكون مُهندَسا بدقة، وله لجان خاصة.هل هو امتداد للعقلية السحرية المتيمنة والمتشائمة التي تنتشر في مجتمعنا؟ لقد كان الآباء إذا وُلِد لهم مولود وأُصيِب بمرض يسارعون في إبدال الاسم، بل إنهم يُغيِّرون الاسم أحيانا إلى اسم قبيح أو سيء حتى لا يتأثر بالعين والحسد والسحر. هل للأمر علاقة رمزية؟ فمن هو المُسمِّي أو مُعطِي الاسمَ إن لم يكن الأب؟ فهل ترى الدولة كيانها أبا للموطنين وللأماكن وبالتالي فهي ترى أن وضع الأسماء هو حق من حقوقها ؟ لا يجب أن نغفل هنا أن الظاهرة تحتاج إلى بحث واستقصاء ومحاولات تفسير، والعقدة تحتاج إلى تحليل في الزمن وسبر للأغوار لمعرفة نواتها وكيف تكومت وبماذا تمظهرت في السلوك الخارجي، والفانتازيا تستدعي الابتسام والتندر وتولد الروايات الفانتازية عن عالم يعيش بغرابة في نهاية العقد الأول من القرن الواحد والعشرين، وكل هذا حسن وجميل لو أن الأمر كان مجرد أمر أكاديمي، لكنّ القضية تتعدّى الأكاديمية والابتسام والتندر لأنها بدأت تمس حقوق الإنسان وأخذت منحى تعسفيا وقلّصت من حقوق الإنسان التي منحها له الرب والإنسانية والتجمعات الدولية. وقبل كل هذا الكلام العميق والعقيم والمضحك والمبكي في آن، تظل الطفلة إيدا بنت عبدالله بن خميس البلوشية بلا اسم رسمي ولا شهادة ميلاد منتظرةً أن تفهم شرطة عمان السلطانية ومن خلفها الحكومة العمانية أنّ من حق الإنسان العماني أن يخترع أسماء عربية لأنه عربيٌّ أيضا، وأن من حق الإنسان العماني أن يُسمِّي أولاده وبناته لأنه من أنجبهم، ومن حق البشر العمانيين أن يحتفظوا بأسماء قبائلهم وأماكنهم لأنهم يفعلون الفعل الأولي الذي فعله الحيوان الإنساني حين أصبحت له لغة وفعله آدم حين خلقه الرب.
August 30, 2010
سيرة المسيح بلسان عربي فصيح
وُجِدَت نسخٌ كثيرة من كتاب اسمه "سيرة المسيح بلسان عربي فصيح" موزعة في أحد أيام إبريل هذا العام في بعض مناطق فلسطين. هذا الكتاب هو ترجمة للإنجيل مجهولة المترجم مطبوعة في قبرص ومؤرخة بعام 1987م. ويقول المترجم أنه محاولة لتجاوز الغموض والحرفية وسذاجة اللغة التي اكتنفت معظم الترجمات العربية للإنجيل. اللغة المستخدمة في هذا الكتاب لغة قرآنية من حيث الشكل والترتيب والمفردات المستخدمة. ينقسم الكتاب إلى ثلاثين بابا، ويفتتح بمقطع عنوانه: الكلمة. وكل باب له عنوان، وتحت العنوان وصفٌ له بـ" مقدسي" أو "جليلي" بحسب موقع النزول، وتبدأ الأبواب بـ"بسم الله الرحمن الرحيم"، وكلماته مُشكَّلة وصفحاته مؤطرة كما هو القرآن، وهو يستخدِم كلماتٍ قرآنية وإسلامية؛ فهو مثلا يقول "الله" ولا يقول "الرب"، ولا يستخدم كلمة " الفريسين" كما هي الكلمة في الترجمات الأخرى بل يستخدم كلمة" الفقهاء"! والترجمة غريبة لكنها ممتعة وتثير تساؤلات شائكة. وهنا مقاطع من الكتاب:"بسم الله الرحمن الرحيم(1)سبحان الذي ألقى بكلمته إلى الناس نصراً لهم لِيُخرِج أصحاب الظلمات إلى النور ولو كره الجاهلون (2) إنما عيسى كلمةُ الله من الأزل تَمثَّل لنا بشراً وكنا لمجده مُبصِرين (3) تعالى الله عن أن تراه عينٌ أما الكلمةُ الذي به خُلِقَ كلُّ شيء فهو سر الله المبين (4) وجاء الكلمةُ قومَه فإذا طائفةٌ منهم يكفرون (5) أما الذين آمنوا فأولئك هم أولياء الله وأولئك هم المنصورون (6) لقد جاءكم الأنبياء بالشريعة تهتدون (7) أما عيسى فهو نعمة الله والحقُّ لقوم يوقنون" الكلمة.
"(10) وسأله قومٌ ما نعملُ حتى نكونَ من التوّابين قال يحيى من كان له ثوبان فليتصدَّقْ بأحدهما ومن كان ذا طعام فليُشرِك فيه آخرين (11) وقال نفرٌ من الجباة كيف نكون من المُقسِطين قال يحيى ما فُرِض لكم فخذوه ولا تكونوا طامعين (12) وقال رهطٌ من الجند ماذا نعمل لنكونَ من المُحسنين قال يحيى لا ظلم ولا افتراء بل كونوا بأجوركم قانعين" باب الحمامة."(56) إنما مَثلُكُم كَمَثَل من يقتطع من ثوبٍ جديدٍ لِيُصلِحَ به ثوباً بالياً فيزداد خرْقاً (57)أو كمن يملأ زِقاً عتيقاً خمراً جديدةً فتَشُقُّه شقاً إنما تُوضَع الخمرُ الجديدةُ في الزقاقِ الجديدةِ صوناً لهما وحفظاً (58) إنما يَصِدُّ عن الجديد من اعتادوا القديمَ والراغبون في الجديد أقلُّ عدداً" باب كفر ناحوم."(40) ِقيل لكم إنّ العين بالعين والسن بالسن وصيةَ آبائِكم الأولين وأنا مولاكم فاسمعون من لَطَم خدَك الأيسر فابسطْ له خدَ اليمين ومن أساء إليكم فلا تنتقموا منه وكونوا محسنين (41) ومن نازعك ثوبَك يريدُه فدعْ له عباءَتك ومن سَخَّرَكَ ميلاً فسِرْ معه ميلين غيرَ ضنين" باب أرض الميعاد.
ملاحظة: وضعتُ رابط الكتاب في لائحة " الصحف الأولى" على الهامش الأيسر للمدونة، لمن أراد الاطلاع عليه.
August 26, 2010
الرب المُتَوَهَّم
April 25, 2010
عالقون في الاستعارة
عندما نقول أن فلانا أسد، فإننا نقول ضمنا أن فلانا في الشجاعة مثل الأسد. لذلك فإن سؤالا من قبيل: هل فلان حيوان بالتالي مثل الأسد؟ أو هل فلان له فراء وأنياب مثل الأسد؟ هذه الأسئلة لا يكون لها معنى.
لكن لننظر إلى مثال آخر أبعد غورا: عمان أمنا جميعا. ماذا نقصد بالضبط؟ هل هناك رحم لعمان؟ هل رحم عمان دافئ كرحم الأم؟ ويمكن أن نمتد في أسئلتنا التي بلا معنى إلى نهايات مضحكة: هل لعمان سوائل مماثلة لما في الرحم؟ هل نحن أولاد شرعيون؟ من هو الأب؟ ولكن عادة لا يحدث لبس في مثل هذا الكلام، فلماذا لا يحصل لبس؟ لنفكر سويا: لا يحدث لبس لأننا نستطيع وضع حدود واضحة لكلا الأمرين، فعمان: تلك القطعة من الأرض التي نعيش عليها، والأم: جنس الحيوان (ومن بينها الإنسان) الذي يقوم في إعضاء خاصة فيه بانتاج الحيوانات الجديدة (الأطفال)، وبالتالي فإننا إنما نأخذ صفة واحدة من صفات الأم، أو أكثر من صفة أحيانا، ونستعيرها للدلالة على صفة من صفات الأرض التي نعيش عليها (عمان). لكننا نعرف حدودنا ولا نستمر في المشابهة إلى أبعد من ذلك. وكلما كانت الصفات الموجودة في المجال المصدر(الأم هنا) والصفات الموجودة في المجال المستقبل (عمان هنا)... كلما كانت الصفات المتشابهة أكثر أو أشد توافقا كلما قلنا أن الاستعارة التي صنعناها أفضل. فعمان أمٌ لأنها تحتضننا ولأنها دافئة ولأنها تحبنا ولأنها ترعانا وتطعمنا. بيد ان الحدود تظل واضحة. وإنما نتواطأ سوية، القائلُ والمقولُ له، على الكلام. والكلام بهذا المعنى عملية تواطؤ لأن ما لا يقال في الكلام كثير.
ماذا لو قلنا أن الحياة ثقيلة؟ فالحياة هنا مثل شيء مادي له وزن أو كتلة. هل الحياة فعلا لها هذا الشكل المادي؟ وكيف يمكن أن تشبه الحياة (بهذا المعنى التجريدي) الشيء المادي؟
اليوم طويل: اليوم شيء مادي يمكن قياسه. اليوم مر علينا سريعا: اليوم شيء مادي يتحرك بينما نحن واقفون وكأننا نراه. المشكلة هنا أن الأمر الأول الذي هو اليوم أمر تجريدي، وإنما ندلل عليه بشيء مادي. فما هو اليوم؟ الوقت من شروق الشمس حتى شروقها علينا مرة أخرى. وما هو الوقت؟ حركة عقارب الساعة؟ دوران الأرض حول نفسها مرة واحدة؟ إننا عبثا ما نحاول أن "نقبض" على ماهية الزمن ولكننا في النهاية إنما نقبض على استعارات. وهنا نقبض على استعارة الزمن\ حركة. ولكننا لا نعرف ما هو الزمن حقيقة. الزمن كالسيف: استعارة الزمن\أداة حادة تقطع. الزمن يُسرع: استعارة الزمن\شيء مادي يتحرك. الزمن ثقيل: استعارة الزمن\شيء مادي له كتلة كبيرة.
وقس على ذلك كل المجردات: الأخلاق، الحب، الروح ، العلم، السمو، الشجاعة، النزاهة، الطهارة الأخلاقية، التوهج. الذكاء. وقد نرى هنا أن بعض هذه المجردات مجرادت خالصة، بمعنى أنه لا يوجد لها شق مادي في أصلها، أو كما قلنا سابقا ليست لها حدود واضحة أبدا، وهذا ينطبق تماما على الزمن. لكن هناك من سيجادل ان للحب شق نستطيع أن نحدده؛ فالحب يُحدِث تغييرات جسمية محسوسة، مثل ارتفاع دقات القلب وازدياد سخونة الجسم، والشجاعة تؤدي إلى نتائج مادية ملموسة، كتحطيم الشيء الذي يقف أمام الشخص المتصف بالشجاعة.
إن الاستعارة هنا تصنع التجريد ولا تقارنه فقط بشيء آخر. فحينما أقول أن أخلاقك عالية فإنما استخدم استعارة الأخلاق شيء يمكن أن يكون في مكان مرتفع أو منخفص. ولأن عالمنا العقلي كله مبني على التجريد فإن الاستعارة تصنع عالمنا وحياتنا.
انظر لأقوالنا: سأسلط الضوء على فكرتي: استعارة الفكرة\ شيء مظلم يحتاج إلى تسليط الضوء عليه. أنا واقع في الحب: الحب \ مكان منخفض حوافه مرتفعة مثل حفرة. أنا منجذب إليك: أنت\شيء جاذب مثل مغناطيس. لقد خرجتَ من الإسلام: الإسلام\حاوية، وأنت قمت بالحركة من داخل هذه الحاوية إلى خارجها.
إن هذا يوصلنا إلى استنتاج غاية في الأهمية وهو أننا إنما نُسقط تجاربنا المادية على عقولنا. أي أن أفكارنا وعالمنا غيرالمادي إنما هو انعكاس لتجاربنا المادية.
هل يعني هذا شيئا كبيرا أو مهما؟ أليس هذا فقط معناه أنه بالكلام المتقدم نحاول أن نشرح كيف تتركب المعاني داخل أدمغتنا وحسب؟ نعم، إننا نفعل ذلك حتما ولكن القضية الأكبر هي أننا لا نستطيع الفكاك من الاستعارة. إننا عالقون في الاستعارة. ونحن عالقون لأن تفكيرنا يتغير بتغير الاستعارة التي نستخدمها. وعلى هذا فإن أي شيء(معنوي) يمكن أن يكون أي شيء (مادي).
وانظروا إلى النتيجة التالية: إن لم نتوافق على الاستعارة سنكون في خطر الاختلاف ، فكل سيمضي باتجاه استعارته. الحب حفرة ( وقعت في الحب) وهو مغناطيس (جذبني حبها) وهو شيء متحرك (صدمني حبها) وهو طقس بارد ( وقف جسمي بسبب حبها) وهو سكين (قطعني حبها)، أما إذا توافقنا على الاستعارة فإننا قد نتوهم أنها حقيقة. لنأخذ مثالنا الأكثر شهرة : الزمن بطيء، الزمن يمر علينا سريعا، عمرنا يتقضى، ليل طويل، إننا نكاد نتفق عالميا على استعارة الزمن\حركة ، فهل فعلا الزمن حركة؟ أليست هذه مجرد استعارة؟
ملاحظة: تدين هذه الشذرة لكتابين: كتاب الدكتور عبدالله الحراصي المعنون بـ" دراسات في الاستعارة المفهومية"، وكتاب جونسون ولاكوف المسمى "الاستعارات التي نحيا بها".
March 15, 2010
تأملات عشواء في القنوات الإذاعية
لن يكون قولنا أننا مجبورن على سماع القنوات الإذاعية قولا خارجا عن نطاق المعقول؛ فكل من يملك سيارة، ولديه عمل صباحي يجبره على مغادرة فراشه الكسول، وعمله هذا بعيد نوعا ما عن مكان إقامته، فلا بد أن يقطع دابر الوقت بسماع الإذاعات التي يمكن التقاطها. ولذلك كانت هذه التأملات العشواء التي لا تريد أن تقول شيئا بل تقذف في الهواء ببعض ملاحظات عمياء:
الحرج الديني:
في الإذاعات المحلية يبدأ البث بالنشيد الوطني وتتلوه تلاوة القرآن. بعد التلاوة يقع الحرج، فإنه من غير اللائق أن تُتبع التلاوة بسيل الأغاني مباشرة؛ ففي العقل الجمعي لدينا فإن الأغاني ليست مما يتجانس مع التلاوة، ومع الدين عموما. وإذاً كان لا بد من فاصل يُسهِّل على نفسيات المستمعين تقبل الأغاني القادمة. وطبعا فإن الأمر بسيط في الإذاعات العامة لأنه يمكن بكل بساطة وضع برنامج عام، والأغاني ليست لازمة مهمة للصباح، بينما تقع الأزمة في الإذاعات الغنائية.
ولكن أزمة الابتداء هذه محلولة أصلا لأن معظم القنوات الغنائية مستمرة بلا انقطاع، فلا داعي أصلا لبداية بث، لكنْ تظهر مشكلة أخرى متكررة هذه المرة، وهي الأذانات. إذاعة أف أم عمان الإنجليزية حلت المسألة بأن لا تكون هناك إعلانات للآذانات، وقطعت بالتالي المشكلة من جذورها. إذاعة الشباب، وهي سليلة للإذاعة العامة، لم تجد مخرجها من هذا الحرج، وبالتالي قررت أن تبث في فترة الآذان فاصلا من الأصوات العامة التي هي ليست بموسيقى، بل شيئا من خرير ماء وأزيز فراشات ورفرفة حشرات، ومؤخرا استغلت الوقت الفاصل في الإخبار عن الترددات المختلفة للقناة داخل عمان. هلا أف أم حلّتْ هذا الحرج بأن عمدت إلى قطع الأغاني في وقت الآذان واستبدالها بأناشيد إسلامية، بينما رأت إذاعة الوصال أن تستبدل الأغاني العامة بأغاني "إسلامية". وطبعا يبدو التحرج من بث الأغاني واضحا أكثر في شهر رمضان إذ تنقلب الأغاني في هلا أف أم إلى أناشيد طوال البث النهاري لتحل محلها الأغاني في فترة الإفطار الليلية. والسؤال الذي يستتبع هذه الأفعال جميعها هو: هل يتحرج مسيروا البرامج في إذاعتنا من الأغاني؟ وهل يعدونها حراما او متنافية مع الدين؟ فإن كانوا كذلك، فلماذا إذا يقومون ببثها أصلا؟
اللغة والسياق:
قامت إذاعاتا هلا أف أم والوصال منذ بدايتهما بكسر تلك الرنة الجادة في الإذاعات التي كانت قائمة في السلطنة قبلهما بحيث أنه بدا أحيانا أن الحديث بين المذيعين، أو بين المذيع والمتصل في البرامج التفاعلية، ضربٌ من تبادل الأحاديث العامة في مقهى. ووصل الأمر حسب ما أذكر في بداية "الوصال" أن تعدّت تلك الرنة غير الجادة إلى نوع من الغزل الصريح والمبطن في أحد البرامج الأولى في الوصال. وبدا أن الأمر أحيانا يدخل إلى الإسفاف، لكن تلك الرنة المسفة تراجعت بعد ذلك لنوع مقبول من الكلام العام العائم. المشكلة تبدّت مع إذاعة الشباب الحكومية من حيث اللغة، فمع نجاح الإذاعات المنافسة في اجتذاب أعداد أكبر من المتابعين كان لا بد من عملية كسر الرنة لتبدو أقل جدية وأكثر "شبابية" ( طبعا ليس هذا جيدا أو سيئا في حد ذاته). لكنه أحيانا ما يبدو ما يُعلَن ويُقال غريبا ( على أقل تعبير)، فإذاعة الأف أم الإنجليزية الحكومية تسأل أسئلة أكثر عن بريطانيا وأمريكا وجغرافيتهما وتاريخهما مما تسأله عن عمان (أتمنى أن أكون خاطئا في هذا)، بينما تسف إذاعة هاي إسفافا ظاهرا بأن تسأل أسئلة غاية في الرعونة من قبيل : 38% من الرجال يفعلون ماذا قبل خروجهم من البيت؟ ولنا أن نتساءل أية إحصائيات ودراسات هذه التي تنشر مثل هذا؟ ولماذا يصر المذيعون في الإذاعة على إقحامها دائما؟ وبينما تحاول إذاعة الشباب الموازنة بين متطلبات الشارع في إنقاص حدة اللغة ورتابتها وتقريبها من الجمهور، فإن الوصال تعتمد طريقة "سَكِّنْ تسلم" في قراءة الأخبار (وبالطبع فإنهم يقعون في أخطاء نحوية هائلة عند التعبير عن الأرقام، فيجرون ويرفعون حسب لحن الكلمة من غير ما دقة في اللغة)، ولا يتحرج المذيعون من أن ينطقوا أسماء المدن العمانية والقبائل والشخصيات العمانية السياسية بشكل خاطيء في نشرات الأخبار السريعة المصحوبة بالموسيقي الصاخبة، أما حين الكلام في البرامج العائمة والعابرة والتفاعيلة فإنهم حتى لا يتكلمون العربية المبسطة، ولا العمانية الدارجة، بل ينتقلون للكلام باللهجة اللبنانية!
الوصلات بين البرامج والإعلانات
الحق انه يجب على المعلنين أن يتوقفوا عن إعطاء الإذاعات أو الشركات الخاصة تفصيل وإخراج إعلاناتهم فهي مدعاة للشفقة والسخرية وأخذا بالمنطق الذي أقيمت مفاهيم الإعلانات على قاعدته، فإن هذه الإعلانات تروج لنبذ البضاعة المُعلّن عنها ومجها. ومعظم الإعلانات التجارية تحتوي على تمثيل رديء وإخراج مشوه. الآن ظهرت موجة غريبة من إيجاد إعلانات تروج للقناة حسب ما يدعيه "الموتو" المميز: قناة الوصال تدعي أنها الأولى، وقناة هلا تقول أنها مزاجك بالعربي، وكل ذلك مقبول، لكنهم من منطق أن قناة أغاني يجب أن يُروّج لها بأغنية أو بوصلة غنائية، فإنهم يقحمون بين فترة وأخرى مقاطع غنائية تُعلن لك أن هلا هي مزاجك بالعربي وأشياء من هذا القبيل. إذاعة الشباب معتليةً ذات الموجة، بدأت منذ زمن هي الأخرى، بغناء "موتوها" المميز: "أكثر بكثير من مجر أثير". بدايةً اختيار هذا الموتو غير موفق تماما من ناحية المنطق، فأنت عادة ما تمدح الشيء بقولك: "هو أكثر من شيء جيد" لا أكثر من العادي. بمعنى لو قيل أن الإذاعة أكثر من مجرد إذاعة جيدة، أو أكثر من الإذاعة الأولى، فقد يكون ذلك معقولا، وإن لم يكن صحيحا، أما أن يُقال أن الإذاعة هذه أكثر من مجرد أثير، ففي رأيي أن الأمر بحاجة إلى إعادة نظر. وبعيدا عن المنطق، فإن هذا الموتو ليس قابلا للغناء، وهم يصرون مرة بعد أخرى على غنائه فيأتي غناؤه نشازا كل مرة. الأدهى أنهم لم ينتبهوا لنشاز الرنة في غناء الموتو بل إنهم بدأوا في إذاعة وصلات غنائية للبرامج الأخرى، متناسين أن المؤدين والمؤديات لا يمتكلون أحيانا الصوت الجميل ولا الأداء المميز، ومتناسين أيضا أنه ليست كل الكلمات قابلة للتغني.
February 26, 2010
دار الأوبرا العمانية وهرم ماسلو
February 16, 2010
فلسفة أوين
بداية فإن كلمة فلسفة هنا معناها تصور أو رؤية، ولا تمت بصلة إلى المعنى الأكاديمي العلمي للكلمة، لكن لشيوع استخدامها بمعنى "التصور" فإني أدعوها فلسفة لا تصورا.
وكلمة أوين ليست اسم علم لرجل انجليزي: "أُويِن"، بل هي "أَوَيَن" المحلية، والتي يمكن ترجمتها إلى الانجليزية بـ "as if " وإلى المصرية "إِكْمِنُّه" و"آل يعني"، وبالعربية "كما وأَنَّه"، واختصارها "كأنه".
والمفهوم الذي أود طرحه هو كيف يرى المرء نفسه بالإحالة إلى موضوح محدد أو وظيفة محددة. فمثلا، لنأخذ مثال رجل يعمل مهندسا: يمكن افتراض أحد خيارين أو نقطتين فيما يخص رؤيته لنفسه كمهندس. في النقطة الأولى يرى الرجل في ذهنه أنه "مهندس"، وفي النقطة الثانية فإنه يخرج من ذاته، مجازيا، ويقول "أوين أنا مهندس". ففي النقطة الأولى يتصرف الرجل كونه منهدسا؛ فهو متقمصٌ للدور الذي يعمله. أما في النقطة الثانية فهو يُبدِي نفسه كما لو كان مهندسا، بينما يغلب داخله أناه الأصل الحقيقي ، أي ما-قبل-مهندس، أو ما-خارج-مهندس. ولكأننا نقول في الحالة الثانية أن صفة أو وظيفة "مهندس" ما هي إلا نوع من الثياب يلبسها أنا الرجل، لكن الرجل يعرف تمام المعرفة أنه إنما يتلبّس المهنة، ويتمثّلها، بيد أنه مدرك أن القضية مجرد تمثيل ولباس خارجي، أي أنها مجرد لعبة.
وكلا النقطتين ما هما إلا تمثيل لنهايتي محور مستمر "continuum " يبدأ من رؤية الرجل لنفسه بأنه ليس مهندسا أبدا، وإنما يُمثِّل أنه مهندس، وينتهي بالنقطة التي يرى فيها الرجل نفسه منهدسا مائة بالمائة، بلا شك ولا جدال. والناس عموما، حسب رأيي، يقعون في نقطة على مدى هذا المحور بين هاتين النقطتين، وكلما اقترب شخص من أحد النقطتين فإنه يصبح مريضا إلى حد ما، إن استعملنا المصطلحات الطبية. فإنْ رأى نفسَه في نقطة اليقين فإنه يكون متيقنا إلى درجة تمنعه من رؤية أنه أصلا شيء آخر غير "مهندس" أو مع كونه " مهندسا"، فهو "إنسان" و"كائن" و"أنا" ذو عواطف ورؤى وأفكار، وهذا اليقين يقوقعه على ذاته ويمنعه من تطوير خاصية "مهندس" داخله. أما في النقطة الثانية فإنه يرى نفسه مهرجا أو ممثلا، وأنه ليس مهندسا على الإطلاق. ونقطة النفي هذه كانت لتكون جيدة لو أنه لا يعمل مهندسا، لكنه لأنه مهندس فإنها تجعله يَظهَر أمام الآخرين كمهرج. فالنقطة الأولى، نقطة اليقين، تحيل الشخص دوغمائيا فيما يخص موضوعا بعينه، أما في النقطة الثانية، نقطة النفي، فإنها تحيل الشخص واجهة وقناعا ومهرجا.
وعموما فإن المرء عادة ما يحتوي على نقطتين في المحور، فنهاك نقطته الداخلية ونقطته التي يُظهِرها للآخرين. واعتمادا على كمية الصدق والتوافق بين ما هو داخلي وما هو ظاهر تتقارب النقطتان أو تتفارقان. وعادة ما يؤثر الظاهر على الباطن والباطن على الظاهر؛ فالمرء الذي يتموضع داخليا في نقطة "كاتب أكيد"، يحاول أن يُظهِر نفسه للآخرين ككاتب. والعكس صحيح، فلو أن الصورة التي يأخذها الآخرون، حسب ما يتدبى من ردود أفعالهم، أن امرئا كاتبٌ، فإنه بآلية يقوم بتعديل نقطته الداخلية لتتواءم مع الظاهر المُشاهد.
إن فلسفة أوين هي تصور افتراضي لخروج المرء من وظيفته وخصائصه، وما يمثله لنفسه أو للآخرين، خروجه وتعاليه ورؤيته لنفسه من عَلٍ. وهذه الخاصية ضرورية، حسب ما أرى، لكي يعرف المرء حدود إمكانيته ونقصه وانعدام كماله. وإن ذلك الموقف الذي يقفه كل شخص منا، وبالذات صباحا، حين يُلقِي نظرة على المرآة ليرى وجهه، هو الموقف الذي ينبغي أن يستغلّه كل منا ليقول لنفسه: "أوين أنا مهندس"، "أوين أنا كاتب"، "أوين أنا موظف"، "أوين أنا مدير"، "أوين أنا سائق".
February 9, 2010
نفي المستشفى النفسي الجديد (قصة مزمنة)
ملاحظة: كتب هذا المقال منذ أمد، لكنه لم يجد طريقه للنشر في الصحف اليومية.
في الثمانينات من القرن المنصرم تبدّت العامرات بقعة شبه معزولة عن المدينة مما كرّسها مكانا ملائما للنفي والإزاحة. وقد أدرك مخططو المدينة آنذاك أن كل ما هو غير مرغوب به ومخزٍ وجارح وغير محبوب ليكون واجهة للمدينة الناشئة باضطراد، يمكن أن يُحلّ بكل محبة وتسامح في تلك المنطقة. لذا كانت العامرات مكانا ملائما لمردم البلدية حيث تُحرق النفايات ويُتخلص منها بين أكداس جبال غارقة في العزلة. وكانت كذلك المكان الملائم لنفي الموتى؛ فتوسعتْ مقبرة صغيرة على تخوم جبل عملاق، أقامته الطبيعة حاجزا صلدا بين ما هو ساحلي وما هو داخلي في مسقط، توسعتْ لتحتضن، بكل أبهة وبذخ، موتى المدينة أجمعهم.
وكانت الحال كذلك عام 1984حين تقدمت وزارة الصحة بطلب قطعة أرض تكون مناسبة لإنشاء مستشفى نفسي. وقبلَها، كانت العيادة النفسية في مستشفى الرحمة مكانا غاصا بكل أنواع المرضى النفسيين الذين كانوا يزاحمون المرضى الآخرين ويقفون ندا لهم، ويتوقعون أن يُمنحوا ذات الامتيازات التي تُعطى للآخرين بما فيها الاعتراف بمرضهم ومحاولة علاجهم بالطرق الحديثة. كانت الحال كذلك إذ انتصب فجأة في مكان قصي محجوب عن الأنظار في العامرات مستشفى ابن سينا للأمراض النفسية، سامحا لمواطني مسقط بالنوم قريري الأعين، بلا قلق ولا ضوضاء.
وبذلك احتضنتْ العامرات مردم البلدية والمقبرة الرئيسة ومستشفى " المجانين". وتآلف هذا الثلاثي ليشكل النتيجة المنطقية الوحيدة: كل ما ينبغي أن يُنفى يجب أن يكون في العامرات. بيد أنه لو كان الأمر كذلك فكيف أفلتَ السجن المركزي، حيث سيُنفى المحكوم عليهم والمجرمون، من أن يكون في العامرات؟ أكاد أجزم أن الأمر كان سوء تخطيط، الأمر الذي حاول مخططو المدينة الجدد أن يتداركوه؛ فكانوا قاب قوسين، حين كانوا يبحثون عن مكان جديد للسجن المركزي الجديد، أن يختاروا بقعة النفي هذه بالذات. وهنا أصبح المجاز واضحا: ثمة صلة متينة بين كل من الموتى والنفايات والمجانين والمجرمين، فجميعها بقايا أشياء.
ومنذ حوالي عشرين سنة من تلك اللحظة، أي بعد بناء المستشفى ببضع سنوات، انتبه أحدهم أن مستشفى ابن سينا لم يعد كافيا بسعته المحدودة لأعداد المرضى النفسيين المتزايدة بتنامي أعداد السكان، فكان الاقتراح بإنشاء مستشفى جديد بإمكانيات أكبر. وظل المشروع يتماوج في أذهان المخططين وصناع القرار حتى سطع جليا على بداية الألفية المباركة، وحدد المكان المناسب هذه المرة ليكون في منطقة الخوض بعد أن تفهّم المسؤولون في وزارة الصحة شعارات منظمة الصحة العالمية فيما يخص المرضى النفسيين: نعم للاحتضان، لا للنبذ. إلا أن إيجاد ميزانية كافية استغرق مدة طويلة بعض الشيء لأسباب ليس بأقلها عبثية التضخم الذي يشهده الاقتصاد العالمي برمته.
أما وقد حانت اللحظة الحاسمة لبدء المشروع بعد التأخير الذي بدا للمهتمين أبديا في نزوعه، وُوجِهتْ وزارة الصحة بانتقاد حاد مفاده، أن أحدهم لا بد أن يكون مجنونا لكي يقيم مستشفى للمجانين قرب "بيوتنا"! كانت الوزارة قد تعاقدت مع شركة المقاولات، وتحدد الأول من أبريل من هذا العام ليكون بداية للبناء. لكن مع هذا الانتقاد اللاذع كان لا بد للوزارة أن تكون حذرة في اختياراتها. والآن، أين ستتجه أنظار مخططي المدينة الجدد، حيث المطلوب بقعة معزولة بعض الشيء وبعيدة عن "بيوتنا" كل الشيء؟ أألعامرات مجددا؟ ولكن عامرات الثمانينات شيء وعامرات 2008 شيء آخر، فقد تمددت مراكز مسقط القديمة وانفجر السكان ونزحتْ الطبقة المتوسطة إن صحت التسمية ، إلى العامرات، أي أن بقعة النفي لم تعد بعدُ كذلك. وجاء القرار حازما هذه المرة، وبصرامة غير معهودة، سنبني المستشفى النفسي الجديد في أبعد بقعة في العامرات، في الطريق الممتد باتجاه قريات، في الحشية، خمسة وثلاثين كيلومترا جنوبي شرق المستشفى الحالي، متلاعبين قليلا بشعار منظمة الصحة العالمية فيما يتعلق بالمرضى النفسيين، ليكتسب طابعا محليا: لا للنبذ كثيرا ، نعم للاحتضان قليلا!
إن ما سيحدث هو تثبيت للعقلية التي تَصِمُ المريض النفسي وتُقصِيه، وهو خضوع لفكر رجعي يعود بفكرة العلاج النفسي ومصداقيتها إلى الوراء. ووزارة الصحة أكثر عقلا من أن تقوم بهذه الخطوة بمحض إرادتها، لكنها إذ ستفعله مجبورة لن تكون بأقل مسؤولية أمامنا وأمام الأجيال القادمة. ولا أظن أن التاريخ سوف يتذكر البتة كلام أصحاب "بيوتنا" بل سيقف أمام الحجر المقصي وأمام البشر المنفيين.
February 1, 2010
الإعلام والكتمان
في بلدنا يغلب على الإعلام التكتم، وربما يكون هذا ناشئا من جتهين: المحافظة التي هي سمة المجتمع، والكتمان الذي هو سمة الحكومة. وقد يقول قائل أن كلا الأمرين مرتبطان؛ فكتمان الحكومة ناشئ عن محافظة المجتمع، وتكتم الحكومة يزيد من محافظة المجتمع. بيد أن الكلام على محافظة المجتمع يجب ألا يُؤخذ على علاته. فالمعروف أن أول ما يُسأَل عنه القادم، حين وصوله إلى قرية ما، هو الأخبار والعلوم. وعلى العكس مما نظنه عن مجتمعات القرى المحافظة فإن الأخبار والحوادث، والسيء منها بالذات، تنتشر بسرعة عالية. لكنّ هذا بالطبع لا يعني أن صاحب الحدث السيء لن يقوم بمحاولة الإخفاء إن كان مما يضر بسمعته، بيد أن الحكايات، رغم كل المحاولات، تجد دروبها للتسرب. وينطبق هذا تماما على مدننا، وفي مقدمتهن مسقط، التي يمكن أن توصف بأنها مجموعة قرى متجاورة. وخلاصة القول في هذه النقطة أن الحديث عن مجتمع محافظ في بلدنا هو حديث ليس كامل الصحة، أي أن الكتمان والتستر والمحافظة ليست بالضبط أمرا في غاية الطبيعية في مجتمعاتنا.
في الآونة الأخيرة بدأ الإعلام في التحرر، ولا بد من إضافة صفة "قليلا" لأن القدرة على قول ما يريده الشخص ليست حرة بالمعنى المطلق للكلمة، وتظل محجوبة بقوانين مجتمعية وسياسية وإدارية. ويُصعب وضع التحررالقليل هذا كميزة للعاملين في الإعلام ذواتهم لأن الأمر أيضا كان، بالإضافة إلى جهودهم، بسبب تساهل مقصود من قبل مقص الرقابة العتيد. بل إن سبب كلا الأمرين، جهود الصحفيين في توسيع هامش الحرية وتساهل الرقيب، ناتج من أن وسائل الإتصال غدت مما لا يمكن التحكم فيه بقبضة قوية.
وقول هذا الكلام مرده خبران سمعتهما عبر قنوات الإذاعة، الأول يحكي عن الطالب الذي طعن مدير مدرسته والإختصاصي الإجتماعي، والثاني عن إحصائية حوادث السير الإسبوعية. ورغم أن الحدث الأول يورث صدمة أكبر إلا أن الحدث الثاني أقوى أثرا لأنه متكرر الحدوث إلى الدرجة التي يمكن معها القول أن حوادث السير أصبحت ظاهرة وطنية. ولا يخفى أن نشر الإحصائية الإسبوعية لحوادث السير هو من التتابعات التي أعقبت حديث صاحب الجلالة حول الموضوع، أي أن التدخل الإيجابي للحكومة هو الذي يقبع خلف إعلانه. وكلنا نعرف أنه على الأقل في مسألة حوداث السير وفداحتها وعصفها بالأرواح فإن القضية ليست بسيطة وليست حديثة بيد أننا لا نملك، كأفراد في المجتمع، الوقائع الكاملة للعنف الحاصل داخل المدارس. وكل ما نعرفه هو مجرد فتات معلومات من هنا وهناك تظهر وتختفي من غير أن يكون الناس قادرين على التثبت من صدقها أو بطلانها .
فإذا أضفنا إلى هاتين القضيتين قضايا عديدة أخرى من قبيل حوادث السرقات والاقتحامات، وقضايا القتل والاعتداءات الجنسية والحرائق، وعدد الفقراء، وعدد الذين يقضون نحبهم أسبوعيا جراء إدمان الكحوليات والمخدرات، وعدد الموتى في المستشفيات وسجل السرطانات المسجلة، وعدد المصابين بالقلق والإكتئاب، وعدد المنتحرين، وعدد الإصابات المنزلية العرضية، وعدد السجناء، وكمية النفايات اليومية ، ومتوسط دخل الفرد، ومتوسط القروض الشخصية، ومتوسط ما يملكه الفرد من أمتار مربعة من الأراضي، إذا أضفنا ذلك كله إلى قائمة الأمور المُعلَن عنها فإن الصورة الكلية للمجتمع سوف تكون أكثر وضوحا لكنها ستكون كذلك أكثر رعبا.
فأيهما سنختار إذا، أن نُخبَر ونَعرِف ثم نجد أنفسنا بعدها مغمورين بالرعب والقلق والإحباط أم نُكتَم ونبقى في جهلنا وتظل الصورة الكلية للأمور طيبة وخيرية ومسالمة وآمنة؟ لو كان الخياران متساويي الاحتمالية فأنا سأختار الكتمان والبقاء في الجهل. فالحياة قصيرة، وكمية المحبطات التي تعتورنا كبيرة، والبقاء على الحد الأدنى للحياة يتطلب قلقا في حد ذاته، وبالتالي فإن الاهتمام بأمور أخرى أبعد عن جوارنا القريب أمرٌ لا فائدة منه. وربما يكون هذا التفضيل مرده أن ضجيج العالم صاخب، ومصائبه كثيرة، ولذا فإن كمية هائلة من كل الأخبار هي أشياء زائدة لا فائدة منها للفرد. إن معلومات أنت في غنى عنها هي في رأيي أمر فائض عن الحاجة.
بيد أن ما نحن بصدده من أرقام وحقائق في المجتمع الذي نعيش فيه ليست أمورا قابلة للجهل، وليست بالتالي فائضة عن العلم، ولسنا بعيدين عنها. فحتى وإن أولاها الفردُ ظهرَه فإنها قادمةٌ باتجاهه لا محالة وطارقةٌ بابه إن عاجلا أو آجلا. وأنا أعرف شخصيا ثلاثة من الذين سُرِقتْ بيوتهم في العام الماضي، ولطرافة الأمر فإن أحدهم عَلِمَ بأمر سرقة ذهبه بعد أن قبضتْ الشرطة على الجانين وجاءت بالذهب المسروق إلى بيته. إن معرفة عدد السرقات مثلا سوف تجعلنا متيقظين، وتجبرنا على أن نعيد التفكير في آمان بيوتنا، وتدفعنا إلى أن نوفر أنظمة حماية متقدمة. وكذلك فإن معرفة كمية الآمان في مدارسنا سوف تخلق في أذهاننا الصورة الحقيقية للمدارس، وتخبرنا إلى أي مدى يمكن أن نطمئن على سلامة مدرسينا وأولادنا فيها.
فمعرفة الأمور الحاصلة في المجتمع إذا ليست مما يُمكِن ان يُكتَب في نشرات سرية يقرؤها فقط ضباط الشرطة الأعلى رتبة، بل هي حق من حقوق المواطن لكي يعرف كيف يختار ردة فعله. والخوف من الرعب والقلق الذي قد ينتج من جراء الإعلام عن هكذا أمور هو في رأيي أفضل من النوم برخاء وانتظار مداهمة الأحداث الفاجعة. يجب أن نتحلى بالشجاعة الكافية لنرى الأوجه البشعة والسيئة لمجتمعنا لأن ذلك يجعل تخطيطاتنا للمستقبل أكثر كفاءة.
حسين العبري's Blog
- حسين العبري's profile
- 32 followers
