نفي المستشفى النفسي الجديد (قصة مزمنة)

ملاحظة: كتب هذا المقال منذ أمد، لكنه لم يجد طريقه للنشر في الصحف اليومية.

في الثمانينات من القرن المنصرم تبدّت العامرات بقعة شبه معزولة عن المدينة مما كرّسها مكانا ملائما للنفي والإزاحة. وقد أدرك مخططو المدينة آنذاك أن كل ما هو غير مرغوب به ومخزٍ وجارح وغير محبوب ليكون واجهة للمدينة الناشئة باضطراد، يمكن أن يُحلّ بكل محبة وتسامح في تلك المنطقة. لذا كانت العامرات مكانا ملائما لمردم البلدية حيث تُحرق النفايات ويُتخلص منها بين أكداس جبال غارقة في العزلة. وكانت كذلك المكان الملائم لنفي الموتى؛ فتوسعتْ مقبرة صغيرة على تخوم جبل عملاق، أقامته الطبيعة حاجزا صلدا بين ما هو ساحلي وما هو داخلي في مسقط، توسعتْ لتحتضن، بكل أبهة وبذخ، موتى المدينة أجمعهم.

وكانت الحال كذلك عام 1984حين تقدمت وزارة الصحة بطلب قطعة أرض تكون مناسبة لإنشاء مستشفى نفسي. وقبلَها، كانت العيادة النفسية في مستشفى الرحمة مكانا غاصا بكل أنواع المرضى النفسيين الذين كانوا يزاحمون المرضى الآخرين ويقفون ندا لهم، ويتوقعون أن يُمنحوا ذات الامتيازات التي تُعطى للآخرين بما فيها الاعتراف بمرضهم ومحاولة علاجهم بالطرق الحديثة. كانت الحال كذلك إذ انتصب فجأة في مكان قصي محجوب عن الأنظار في العامرات مستشفى ابن سينا للأمراض النفسية، سامحا لمواطني مسقط بالنوم قريري الأعين، بلا قلق ولا ضوضاء.

وبذلك احتضنتْ العامرات مردم البلدية والمقبرة الرئيسة ومستشفى " المجانين". وتآلف هذا الثلاثي ليشكل النتيجة المنطقية الوحيدة: كل ما ينبغي أن يُنفى يجب أن يكون في العامرات. بيد أنه لو كان الأمر كذلك فكيف أفلتَ السجن المركزي، حيث سيُنفى المحكوم عليهم والمجرمون، من أن يكون في العامرات؟ أكاد أجزم أن الأمر كان سوء تخطيط، الأمر الذي حاول مخططو المدينة الجدد أن يتداركوه؛ فكانوا قاب قوسين، حين كانوا يبحثون عن مكان جديد للسجن المركزي الجديد، أن يختاروا بقعة النفي هذه بالذات. وهنا أصبح المجاز واضحا: ثمة صلة متينة بين كل من الموتى والنفايات والمجانين والمجرمين، فجميعها بقايا أشياء.

ومنذ حوالي عشرين سنة من تلك اللحظة، أي بعد بناء المستشفى ببضع سنوات، انتبه أحدهم أن مستشفى ابن سينا لم يعد كافيا بسعته المحدودة لأعداد المرضى النفسيين المتزايدة بتنامي أعداد السكان، فكان الاقتراح بإنشاء مستشفى جديد بإمكانيات أكبر. وظل المشروع يتماوج في أذهان المخططين وصناع القرار حتى سطع جليا على بداية الألفية المباركة، وحدد المكان المناسب هذه المرة ليكون في منطقة الخوض بعد أن تفهّم المسؤولون في وزارة الصحة شعارات منظمة الصحة العالمية فيما يخص المرضى النفسيين: نعم للاحتضان، لا للنبذ. إلا أن إيجاد ميزانية كافية استغرق مدة طويلة بعض الشيء لأسباب ليس بأقلها عبثية التضخم الذي يشهده الاقتصاد العالمي برمته.

أما وقد حانت اللحظة الحاسمة لبدء المشروع بعد التأخير الذي بدا للمهتمين أبديا في نزوعه، وُوجِهتْ وزارة الصحة بانتقاد حاد مفاده، أن أحدهم لا بد أن يكون مجنونا لكي يقيم مستشفى للمجانين قرب "بيوتنا"! كانت الوزارة قد تعاقدت مع شركة المقاولات، وتحدد الأول من أبريل من هذا العام ليكون بداية للبناء. لكن مع هذا الانتقاد اللاذع كان لا بد للوزارة أن تكون حذرة في اختياراتها. والآن، أين ستتجه أنظار مخططي المدينة الجدد، حيث المطلوب بقعة معزولة بعض الشيء وبعيدة عن "بيوتنا" كل الشيء؟ أألعامرات مجددا؟ ولكن عامرات الثمانينات شيء وعامرات 2008 شيء آخر، فقد تمددت مراكز مسقط القديمة وانفجر السكان ونزحتْ الطبقة المتوسطة إن صحت التسمية ، إلى العامرات، أي أن بقعة النفي لم تعد بعدُ كذلك. وجاء القرار حازما هذه المرة، وبصرامة غير معهودة، سنبني المستشفى النفسي الجديد في أبعد بقعة في العامرات، في الطريق الممتد باتجاه قريات، في الحشية، خمسة وثلاثين كيلومترا جنوبي شرق المستشفى الحالي، متلاعبين قليلا بشعار منظمة الصحة العالمية فيما يتعلق بالمرضى النفسيين، ليكتسب طابعا محليا: لا للنبذ كثيرا ، نعم للاحتضان قليلا!

إن ما سيحدث هو تثبيت للعقلية التي تَصِمُ المريض النفسي وتُقصِيه، وهو خضوع لفكر رجعي يعود بفكرة العلاج النفسي ومصداقيتها إلى الوراء. ووزارة الصحة أكثر عقلا من أن تقوم بهذه الخطوة بمحض إرادتها، لكنها إذ ستفعله مجبورة لن تكون بأقل مسؤولية أمامنا وأمام الأجيال القادمة. ولا أظن أن التاريخ سوف يتذكر البتة كلام أصحاب "بيوتنا" بل سيقف أمام الحجر المقصي وأمام البشر المنفيين.

 •  0 comments  •  flag
Share on Twitter
Published on February 09, 2010 21:41
No comments have been added yet.


حسين العبري's Blog

حسين العبري
حسين العبري isn't a Goodreads Author (yet), but they do have a blog, so here are some recent posts imported from their feed.
Follow حسين العبري's blog with rss.