الإعلام والكتمان
في بلدنا يغلب على الإعلام التكتم، وربما يكون هذا ناشئا من جتهين: المحافظة التي هي سمة المجتمع، والكتمان الذي هو سمة الحكومة. وقد يقول قائل أن كلا الأمرين مرتبطان؛ فكتمان الحكومة ناشئ عن محافظة المجتمع، وتكتم الحكومة يزيد من محافظة المجتمع. بيد أن الكلام على محافظة المجتمع يجب ألا يُؤخذ على علاته. فالمعروف أن أول ما يُسأَل عنه القادم، حين وصوله إلى قرية ما، هو الأخبار والعلوم. وعلى العكس مما نظنه عن مجتمعات القرى المحافظة فإن الأخبار والحوادث، والسيء منها بالذات، تنتشر بسرعة عالية. لكنّ هذا بالطبع لا يعني أن صاحب الحدث السيء لن يقوم بمحاولة الإخفاء إن كان مما يضر بسمعته، بيد أن الحكايات، رغم كل المحاولات، تجد دروبها للتسرب. وينطبق هذا تماما على مدننا، وفي مقدمتهن مسقط، التي يمكن أن توصف بأنها مجموعة قرى متجاورة. وخلاصة القول في هذه النقطة أن الحديث عن مجتمع محافظ في بلدنا هو حديث ليس كامل الصحة، أي أن الكتمان والتستر والمحافظة ليست بالضبط أمرا في غاية الطبيعية في مجتمعاتنا.
في الآونة الأخيرة بدأ الإعلام في التحرر، ولا بد من إضافة صفة "قليلا" لأن القدرة على قول ما يريده الشخص ليست حرة بالمعنى المطلق للكلمة، وتظل محجوبة بقوانين مجتمعية وسياسية وإدارية. ويُصعب وضع التحررالقليل هذا كميزة للعاملين في الإعلام ذواتهم لأن الأمر أيضا كان، بالإضافة إلى جهودهم، بسبب تساهل مقصود من قبل مقص الرقابة العتيد. بل إن سبب كلا الأمرين، جهود الصحفيين في توسيع هامش الحرية وتساهل الرقيب، ناتج من أن وسائل الإتصال غدت مما لا يمكن التحكم فيه بقبضة قوية.
وقول هذا الكلام مرده خبران سمعتهما عبر قنوات الإذاعة، الأول يحكي عن الطالب الذي طعن مدير مدرسته والإختصاصي الإجتماعي، والثاني عن إحصائية حوادث السير الإسبوعية. ورغم أن الحدث الأول يورث صدمة أكبر إلا أن الحدث الثاني أقوى أثرا لأنه متكرر الحدوث إلى الدرجة التي يمكن معها القول أن حوادث السير أصبحت ظاهرة وطنية. ولا يخفى أن نشر الإحصائية الإسبوعية لحوادث السير هو من التتابعات التي أعقبت حديث صاحب الجلالة حول الموضوع، أي أن التدخل الإيجابي للحكومة هو الذي يقبع خلف إعلانه. وكلنا نعرف أنه على الأقل في مسألة حوداث السير وفداحتها وعصفها بالأرواح فإن القضية ليست بسيطة وليست حديثة بيد أننا لا نملك، كأفراد في المجتمع، الوقائع الكاملة للعنف الحاصل داخل المدارس. وكل ما نعرفه هو مجرد فتات معلومات من هنا وهناك تظهر وتختفي من غير أن يكون الناس قادرين على التثبت من صدقها أو بطلانها .
فإذا أضفنا إلى هاتين القضيتين قضايا عديدة أخرى من قبيل حوادث السرقات والاقتحامات، وقضايا القتل والاعتداءات الجنسية والحرائق، وعدد الفقراء، وعدد الذين يقضون نحبهم أسبوعيا جراء إدمان الكحوليات والمخدرات، وعدد الموتى في المستشفيات وسجل السرطانات المسجلة، وعدد المصابين بالقلق والإكتئاب، وعدد المنتحرين، وعدد الإصابات المنزلية العرضية، وعدد السجناء، وكمية النفايات اليومية ، ومتوسط دخل الفرد، ومتوسط القروض الشخصية، ومتوسط ما يملكه الفرد من أمتار مربعة من الأراضي، إذا أضفنا ذلك كله إلى قائمة الأمور المُعلَن عنها فإن الصورة الكلية للمجتمع سوف تكون أكثر وضوحا لكنها ستكون كذلك أكثر رعبا.
فأيهما سنختار إذا، أن نُخبَر ونَعرِف ثم نجد أنفسنا بعدها مغمورين بالرعب والقلق والإحباط أم نُكتَم ونبقى في جهلنا وتظل الصورة الكلية للأمور طيبة وخيرية ومسالمة وآمنة؟ لو كان الخياران متساويي الاحتمالية فأنا سأختار الكتمان والبقاء في الجهل. فالحياة قصيرة، وكمية المحبطات التي تعتورنا كبيرة، والبقاء على الحد الأدنى للحياة يتطلب قلقا في حد ذاته، وبالتالي فإن الاهتمام بأمور أخرى أبعد عن جوارنا القريب أمرٌ لا فائدة منه. وربما يكون هذا التفضيل مرده أن ضجيج العالم صاخب، ومصائبه كثيرة، ولذا فإن كمية هائلة من كل الأخبار هي أشياء زائدة لا فائدة منها للفرد. إن معلومات أنت في غنى عنها هي في رأيي أمر فائض عن الحاجة.
بيد أن ما نحن بصدده من أرقام وحقائق في المجتمع الذي نعيش فيه ليست أمورا قابلة للجهل، وليست بالتالي فائضة عن العلم، ولسنا بعيدين عنها. فحتى وإن أولاها الفردُ ظهرَه فإنها قادمةٌ باتجاهه لا محالة وطارقةٌ بابه إن عاجلا أو آجلا. وأنا أعرف شخصيا ثلاثة من الذين سُرِقتْ بيوتهم في العام الماضي، ولطرافة الأمر فإن أحدهم عَلِمَ بأمر سرقة ذهبه بعد أن قبضتْ الشرطة على الجانين وجاءت بالذهب المسروق إلى بيته. إن معرفة عدد السرقات مثلا سوف تجعلنا متيقظين، وتجبرنا على أن نعيد التفكير في آمان بيوتنا، وتدفعنا إلى أن نوفر أنظمة حماية متقدمة. وكذلك فإن معرفة كمية الآمان في مدارسنا سوف تخلق في أذهاننا الصورة الحقيقية للمدارس، وتخبرنا إلى أي مدى يمكن أن نطمئن على سلامة مدرسينا وأولادنا فيها.
فمعرفة الأمور الحاصلة في المجتمع إذا ليست مما يُمكِن ان يُكتَب في نشرات سرية يقرؤها فقط ضباط الشرطة الأعلى رتبة، بل هي حق من حقوق المواطن لكي يعرف كيف يختار ردة فعله. والخوف من الرعب والقلق الذي قد ينتج من جراء الإعلام عن هكذا أمور هو في رأيي أفضل من النوم برخاء وانتظار مداهمة الأحداث الفاجعة. يجب أن نتحلى بالشجاعة الكافية لنرى الأوجه البشعة والسيئة لمجتمعنا لأن ذلك يجعل تخطيطاتنا للمستقبل أكثر كفاءة.
حسين العبري's Blog
- حسين العبري's profile
- 32 followers
