حسين العبري's Blog, page 5

November 29, 2010

بارانويا

يطور الرجال بعد الأربعين بارانوياهم الخاصة بهم:
إنهم يرون أنفسهم مظلومين;
فمسؤولوهم المباشرون كشفوا مواهبهم،
 لكنهم لم يمنحوهم ترقيات مناسبة.
والدولة عرفت مدى ذكائهم،
 وبدل أن تقدرهم خافت منهم.
وأولادهم، بعد كل ما بذلوا لهم،
 ها هم يتخلون عنهم، ويسلكون دروبا أخرى في حيواتهم،
ولم تكافئهم الحياة بما يستحقون، وهمشتهم. 
حتى أجسامهم التي طالما حملوها في كل مكان ذهبوا إليه،
 ها هي تبدأ في خذلانهم.
لقد فاز جيرانهم وزملاؤهم،
وتزوجوا نساء فاتنات، 
وانجبوا أولادا رائعين،
وتقلدوا مناصب عالية.
إن الرب لا بد أنه غاضب عليهم، وإنما يعاقبهم، 
لكن على ماذا؟
فهو يعرف، أكثر من غيره، كم هم طيبون ومخلصون وأمناء:
لقد آمنوا به،  وأخلصوا لوطنهم، 
وقاموا بما يجب أن يقوم به الرجال مع عائلاتهم من واجب،
إن المؤسسة لم تكن لتقوم لولا تفانيهم،
والعائلة ما كانت لتنجح لولا دأبهم:
لقد كان كل خير وحب وإخلاص وتفان يأخذ تعريفه من دواخلهم.
من أين إذا تسلل هذا الخطأ الفادح
من أين تنزلت هذه القسوة القاصمة.
كيف لم ير الناس والدولة والأولاد مدى حسنهم،
وإن كان جميع هؤلاء قادرين على الخطأ، 
فكيف تخلى الله عنهم؟


في العمانيين مكارثية من نوع خاص،
مكارثية بريئة، فقط إن صح التعبير;
فهم يبتسمون لمهنئيهم بالعيد،  
أو معزيهم في مجالس العزاء، ويسألونهم، 
هكذا، وبلا مقدمات:
ألم  تسجن، أو تكن مسجونا، بتهمة الخيانة؟
لقد صدق فيهم دعاء النبي،
أو صدّقوا في أنفسهم ما قيل أن النبي قاله فيهم:
ولا تسلط عليهم أحدا من غيرهم!


كنت قد تعبت،
لأني لم أكن أعرف أيهما أفضل،
فإن قالوا: مجتهد، فإنهم يسحبون عني صفة العظمة،
ويحيلونني إلى قليل من قراءة ومثابرة وشيء من سهر،
وإن قالوا: موهوب، فإنهم يفترضون أن قوة خارج ذاتي منحتني عظمتي،
ويحيلونني إلى روبوت. 
وهكذا دائما يسعون إلى تقزيمي 
ويضغطونني بين شيئين عاديين.
بيد أني أدركت المعادلة:
فالحق أنهم لا يقولون شيئا عني بقدر ما يقولون شيئا عن أنفسهم;
فهم يلقون بعاديّتهم عليّ في محاولة لفهمي،
ويفترضون، سلفا، أنني شبيه بهم:
إن هذا، بالضبط، هو خطؤهم الأصل.  


من فوق سني عمرها الثمانين قالت الملكة لملك البلاد الشابة،
موشوشة إياه في جلسة قهوة شرقية لطيفة:
لا تتبع أثري ولا تقتفي خطاي;
لا أملك طائرتي الخاصة،
ولم يمنحوني أجرة حفلة لموظفي قصري،
وها أنا ملكة على كثير من البلاد، 
وألقابي تغطي صفحة كاملة في جريدة يومية،
لكني لا أملك شيئا.


لا يا معاوية! 
لسنا جرير و الفرزدق،
مع أنك تغرف من بحر
وأنا انحت في صخر.
جرير والفرزدق هما معاوية وحسين زمن فائت!


 
 •  0 comments  •  flag
Share on Twitter
Published on November 29, 2010 08:05

November 26, 2010

غوص


كنت كلما فعلت شيئا أحسبه حسنا
سربته إلى أصدقائي ومعارفي،
لأحظى بتربيتة على الظهر،
أو ابتسامة إعجاب،
مع الوقت، أصبحت محتاجا لتربيتة كل يوم،
وابتسامة كل حين،
ما أفقدني ثقتي بنفسي،
وجعلني أسيرا لنزوات الآخرين.
ثم اخترعت تقنيتي الخاصة:
أصبحت كلما وقفت أمام المرآة ابتسم معجبا بنفسي،
وأربت على كتفي بكفي.
الآن، أشكو من قلة قدرتي على معرفة حسني من سوئي.


يشاع أنهم بصدد تغيير النشيد السلطاني ليصبح النشيد الوطني،
إنه تغيير جريئ وينم عن حكمة ثاقبة.
هل لي باقتراح تغيير آخر؟
نعدل من ألوان العلم قليلا:
نقلب الأخضر أزرق ليدل على البحر، 
و الأحمر نقلبه أصفر،
وننزله للأسفل ليرمز للتاريخ والصحراء;
فالأحمر رمز الدم والثورة والعنف،
وهو مضاد للأبيض،
الذي سنجعله في المنتصف ومتعامدا على اليمين
ليرمز للسلام والاستقرار.
تتبقى لنا المشكلة الكبرى:
ماذا نفعل بالسيفين والخنجر، 
وكلها آلات سفك وحرب؟


حينما أفعل شيئا يسيئ الآخرين بشدة
أتمنى أن تحدث لي حادثة، 
كأن تضرب سيارتي سيارة أخرى،
ليس مرد ذلك إحساس بالذنب،
بل رغبة في تخفيف شعور الآخرين بالسوء;
فالآخرون لا يحقدون عادة على إنسان مريض أو مصاب،
حتى وإن اعتدى عليهم.
فقط يخيفني أحيانا تحقق أمنياتي;
لذا أتمنى دائما حادثا بسيطا، 
يحقق التعاطف ولا يبقي أثرا دائما.


يحدث أحيانا أن يبدأ الناس بالموت تباعا،
وكنت قد لاحظت أن ذلك يحدث عادة بعد الأعياد بقليل،
وطالما كنت أبحث عن تفسير لهذه الظاهرة.
نفسيا، لعل القابلين على الموت يدركون في العيد مرور الزمن عليهم،
اكتساحه أجسادهم،
لعلهم يشعرون أن أحباءهم لم يدركوا عيد هذه السنة،
وأنهم أصبحوا منذورين للوحدة.
طبيا، لعلهم يأكلون لحما وشحما كثيرا في العيد،
ويطفحون سكرا مع الحلوى;
فيقتطعون جزءا من أيامهم بفرحهم.
هرطقةً، لعل عزرائيل يحبذ، لمجرد الاقتصاد، 
أن يقبض الأرواح القابلة للموت في مكان ما مرة واحدة،
دون معاودة الصعود والهبوط،
وربما تكون تلك طريقته للاحتفال بالعيد.


الجشطالتيون، أصحاب مبدأ أن الكل يساوي أكثر من مجموع الأجزاء،
يرون أن المخ يكمل المشاهد الناقصة;
فحين تشاهد دائرة مقطعة يراها مخك مكتملة.
لعل هذا يفسر الحب والإنسانية والمثل العظمى،
فكل هذه لا وجود كامل لها:
إنها اختراع أدمغتنا لإكمال ما نراه من مشاهد مقطعة.

 
 •  0 comments  •  flag
Share on Twitter
Published on November 26, 2010 23:39

November 24, 2010

تحليق



الزمن خط بين الله والإنسان;
فكل ما هو تحت الخط بشري،
وكل ما هو فوقه من الله.
إذا رفعت الخط للأعلى استحوذت على مساحة الله وغدوت ربا۰
إذا أنزلته للأسفل أدخلت ذاتك في زمرة الله وكنت حلوليا۰
إذا لم تؤمن بالخط فأنت مادي۰
إذا لم تعرف وجوده من عدمه فأنت غنوصي۰
إذا وضعت شيئا على الخط ليقربك من الله زلفى فأنت وثني۰
 إذا قطعته لترى الله فإنك تغدو مجنونا،
أما إذا قطعه الله لينزل الملائكة عليك فأنت نبي۰


الزمن مرآة ونافذة أنت مضغوط بين سطحيهما;
فنافذتك ماضيك،
ومرآتك مستقبلك،
ولذا فمستقبلك انعكاس لماضيك وامتداد له.
لا يمكن أن تعبر إلى مستقبلك،
ولكن يمكنك دائما أن ترى من النافذة،
بل ويمكنك أن ترمي بنفسك فيها.
الحياة مراوحة بين السطحين.
الانتحار ان تكسر مرآتك.
الموت ان تنكسر المرآة من غير ان تمد يدك باتجاهها.


لا أقبل السخافات اليومية، 
ولا الكلام البذيء الذي ينحدر بي في تجاويف دبقة،
ولا أفعل إلا ما يقربني من ذروة المجد.
وأعف عيني عن مواطن القذارة،
وأذني عن ملاقط السوء. 
وأمشي كما تمشي كتيبة جيش على إيقاع الموسيقى المنهضة،
وأشعر دائما أنني المنتظر وخليفة الله في أرضه ووارثها عن ملوكها.
وأحيانا أرى نفسي جديرا بمنصب نبي.
وأراني أثب على السحب الراكضة، 
وأستوطن قمم الجبال الشاهقة.
ولكنْ حينها،
تدركني الرغبة في دخول الحمام.


يحدث أحيانا قبيل أن يشنق المنتحر نفسه أن ينقطع الحبل.
هاكم نصيحتي! 
ليأخذ من يريد شنق نفسه حبلين;
فالمرء لا يعرف متى يداهمه سوء الحظ.


(لأعدْ صياغة معاوية)
الزمن يعرّف العلاقات:
الزواج علاقة مدى الحياة تنتهي بأحد قاصمين: موت أو طلاق،
الحب علاقة طويلة تنتهي بإحدى مصيبتين: فراق أو زواج،
الصداقة بينها وبينك علاقة أقصر بنتائج مبهمة،
أما حين يقصر الوقت أكثر فإن العلاقة تغدو عهرا.


لم أكن أعرف أنها صادقة;
فقد قالت ببساطة  أنها ستنتحر إن تركتها۰
ولما أن تركتها فعلت ما قالت وانتحرت۰
بيد أني لم أشعر بالذنب;
لأني عرفت أن القدر استخدمني، كما استخدمها،
في حركة التدافع الاجتماعي.

 •  0 comments  •  flag
Share on Twitter
Published on November 24, 2010 05:32

November 23, 2010

هرطقات

ليس هذا زمان النبوات،
ولا أوان المعجزات،
وإلا طلبت انفلاق البحر،
وانشقاق القمر،
وانفراج السماوات،
ومائدة تكون عيدا لي ولأصدقائي،
وأن يُسرى بي على سرج البراق،
ويعرج بي عليا،
و أرقى إلى سدرة المنتهى متشبثا بجناح جبريل،
وأن أرى الله جهرة من غير أن تتزعزع الجبال أو تتحول عهنا.
ليس هذا أوان المعجزات ولا زمان النبوات، 
وإلا دعوت الله أن أكون نبيا!


السيوف نخرجها من أغمدتها في العيد،
نمسح عنها غبار نصالها،
وندعكها بالزيت لنعيد لها صفاءها۰
نحملها معنا إلى الصلوات،
ونتوكأ عليها في الاحتفالات، 
ونسندها أكتافنا في الرزفات، 
ونهزها بلطف أمام خصومنا المتوهمين في العزوات،
ونرميها للأعلى، 
لنري لمعانها النظارة من حولنا وهي تشق الهواء،
ونمسك بمقابضها المفضضة حال انحدارها. 
ثم ندخلها أجربتها ونعلقها في السبلات،
في انتظار عيد آخر أو احتفال وطني تال،
نحتاج فيه إلى تسلية جديدة،
تعتقنا من كآباتنا المزمنة،
وتدر علينا تاريخا لامعا بالهفوات.
السيوف عزيزات قرون سابقة أذلها البارود،
ونحن نجتر عذابات لمعانها الصامتة.


أغطي حلاوة التمر بالقهوة،
ومرارة القهوة أغطيها بالتمر،
وحزني أغطيه بابتسامة،
وأغطي غضبي بصر أسناني وشد قبضتي،
وأغطي جسمي بدشداشتي،
ورأسي أغطيه بمصري،
وحبي بعقلانيتي،
وكرهي بموضوعيتي،
وأغطيني بشخصيتي.
يا لي من لقيا ثمينة لعالم آثار! 

انت زين وانا زين
لكننا لا نصلح أن نكون أصدقاء.
وأنت زينة وأنا زين
لكننا لا نصلح أن نكون أحباء:
تعجبني التسويات التي يخرج فيها الكل رابحا.

أشجع المنتخب العماني حتى ينهزم،
وأشجع المنتخب الأول حتى يغلبه الثاني،
وأشجع الثاني حتى يغلبه الثالث،
وأشجع الغالب حتى يُغلَب.
وهكذا في كل بطولة
 أتفاجأ، عند نهايتها، بأن حدسي كان صحيحا،
وأن فريقي هو الفائز;
فكل لعبة لدي هي مدعاة للفرح. 
1 like ·   •  1 comment  •  flag
Share on Twitter
Published on November 23, 2010 06:57

November 19, 2010

مشرذمات



القادة والرسل والأنبياء،
تزوجوا شرقا وغربا
ليجمعوا شمل القبائل تحت سقف واحد.
وينشروا الدين والثورة والنوايا الحميدة.
يحق لنا إذا، ونحن شعوبهم وحفدتهم، أن نقتدي بهم،
ونوحد القبائل على إثرهم ،
وننشر البذور في الأراضي الخصيبة;
 فالهرمونات التي حفزتهم،
ها هي الآن تحفز أحفادهم ورعاياهم شرقا وغربا.


في اجتماع مهيب، تحلق علماء الفلك،
وفرشوا خرائطهم الفلكية وقياساتهم وصورهم، 
ثم قرروا، بلا رجعة، ودونما هوادة،
أن يسقطوا صفة الكوكب عن بلوتو.
بلوتو الغارق في ظلام كينونته البعيدة الباردة
لم يكترث لقرارهم،
ولم يعلق الراصدون إن كان قد سمع بهم،
وظل يدور في مداره، كحاله قبل اجتماعهم.


بعد الاحتفالات،
أكانت وطنية أم دينية،
يتعين على أحدهم أن يلتقط الأعلام المرمية
و بطاقات الدعوات وجلود الأضحيات، 
وبقايا المأكولات وعلب المشروبات،
أن يمسح دماء الحيوانات ويكنس روثها.  
يتعين على أحدهم إزالة زينة الشوارع والملصقات، 
أن يفصل الكهرباء عنها ويعيد تخزينها في صناديق. 
على أحدهم أن يعدنا للكآبة التالية للزعيق،
وللواقع الخالي من الزخرفات،
أن يعيد عقالنا بالحزن ويصفدنا بالمآتم والخيبات.


هلال هذا الشهر قابل للرؤية
هكذا يقول فلكيو المرصد الجبلي،
ثم ينزوون تاركين لنا أن نراه أو لا نراه،
مخلين بيننا وبين نزوات السحب الكافرة،
حتى إن غم علينا، 
طوّلنا شهرنا المنصرم، وقصّرنا شهرنا القادم،
ورجعنا إلى بيوتنا نحمد الله على نعمة المواقيت والأهلة.


الأربعون وقت مناسب للاحتفال،
فقد تجاوز فيه المرء آلام الطفولة والشباب،
وخف حقده على أهله وأبويه، وبات متعودا على الحياة
ولما يدخل بعد في عذابات الشيخوخة.
وانكساراتها الحتمية.
الأربعون ذروة الصعود وبداية الهبوط،
في تلة الحياة،
ليس معنى هذا بالضرورة أنك ستحيا حتى الثمانين،
فبعض التلال منحدِر النهاية;
فهناك السكر الناخر لأوعيتك الصغيرة
والسرطان الضارب في عمق أنسجتك،
والسكتات الدماغية والجلطات القلبية
والفشل الكلوي والزهايمر العصبي
والعمى المظلم والصمم الخبيث والشلل النصفي، 
وهناك الحوادث القدرية والكآبات الدورية
والفيروسات الهادة والبكتيريات المضادة للأدوية، 
وهناك انعدام المعنى المزمن
والنخر الحاد للوجود،
وهناك الموت
هادم اللذات ومشتت الجماعات
وشيخ الآفات بامتياز. 
 •  0 comments  •  flag
Share on Twitter
Published on November 19, 2010 12:02

November 16, 2010

تباديل

 القدر بمفهومه الشائع إما خاطئ أو دعوة للكسل.
لو كنت أؤمن بالقدر لكنت جلست في غرفتي بلا حراك،
وأكون توكلت على قدري.
حينها إما أن يكون القدر موجودا وأنا أفعل تعاليمه،
أو أنني أكتب قدري على كنبتي .


حين تحدث لي حادثة قاصمة
فإن إيماني بالقدر يخفف من حزني;
لإني ألقي الحادثة على كاهله۰
هكذا يجب أن يكون القدر:
تقنية دفاع نفسية " ما بعدية"۰


 محترفو الرياضة يعرفون متى يتوقفون،
 يتركون ملاعبهم في ذرى أمجادهم.
ليت القادة يفعلونها،
علنا نحبهم أكثر.


عيدان داهمانا معا،
كان ينبغي لزينة البيت أن تضاء ضعفين،
لكننا لم نعرف أي زر نضغط:
الدين أم الوطن؟
ولم يكن بإمكاننا ضغطهما معا; 
فكهرباء البيت لا تكفي لكلا الجهدين.


الحيوانات، يا لها من شريك!
مستعينة بمبادئ بافلوف،
 حملت الكلاب السوفيتية المتفجرات الى دبابات الألمان.
ومستعينة بمبادئ الوطنية،
 حملت النوق العمانيين في مسيرة الولاء.
ومستعينة بمبادئ الدين الحنيف،
حملت العجول والشياه رؤوسها  
مانحة رقابها لذابحيها يوم العيد.
يا لها من حيوانات!


لنحسن الظن!
لعل جارنا يريد توحيد البيت المنقسم:
هل الولايات العمانية المتحدة اسم مناسب حينها للاتحاد؟


واقع في الوهم من يتزوج اثنتين:
إنه يظن أن المشكلة في الزوجة،
لكن المشكلة في الزواج.










 

 


۰
 •  0 comments  •  flag
Share on Twitter
Published on November 16, 2010 07:34

November 10, 2010

مغزليات


الجميل في العيد الوطني،أنه دائما يأتي في غمرة الاحتفالات بالعيد الوطني!الأجمل في عيد هذه السنة،أنه يأتي في غمرة الاحتفالات بالعيد الوطني الأربعين!
*****
حين يتجسس عليَّ جاري ببعض أولادي،فإني أعلِّقهم بمشانق على الشرفة المواجهة لداره،بعد أن أكون قد اقتلعتُ قلوبَهم وطبختُها وأرسلتُها في طبقٍ إليه؛حتى أُعلِّم أولادي الآخرين معنى الحب.
*****
أحيانا حين أنظر إلى نفسي في المرآة أجعل مرآة أخرى ورائي،وحين أراني متعدداً ومُتصاغِراً إلى ما لانهاية،اكتشفُ أنني الوحيدُ الكائنُ بين صفتحيهما،والأهم، أنني أكون العظيم;فالآخرون، إما متصاغرون أمامي أو متصاغرون خلفي.
*****
عصير لاكنور جريبفروت...خمسمئة بيسة،عصير لاكنور كوكتيل... خمسمئة بيسة،أكياس شاي ممتاز، الحجم الصغير.. ثلاثمئة بيسة،حلويات دانيت، ثمان قطع ..ريال ومئتا بيسة،عصير دناو بالمشمش... ستمئة بيسة،موز بوفان.. سبعمئة بيسة،تفاح ذهبي..ستمئة بيسةمانجو كينيا...ريالان وثلاثمئة بيسة،مشمش صغير... ريال وثمانمئة وتسعون بيسة،جريبفروت.. ريال ومئتان وتسعون بيسة:القصيدة الأسبوعية لعازب من العرابة.
*****
الجنس يُخفِّض عتبةَ التقزز،كما يُخفِّض الحبُ عتبةَ الاستقباح،لا غرابة إذاً إن كان الجنسُ داعراً والحبُ غبياً.
*****
الجميل في العيد الوطني أنه يأتي في الشتاء،وإلاّ كيف نقيم احتفالاً في العراء.هكذا، على دول المدارات الحارة أن تُولَد في الشتاء،وإنْ بعملية قيصرية.
*****
يُقلِّل الزواجُ من الانتحار،ذلك لأن المتزوج ميتٌ أصلاً.ليس معنى هذا أن الزواج في مرتبة الانتحار؛فالانتحار تعبير عن الإرادة،فيما يُعبِّر الزواج عن الانصياع لغريزة النوع.
 •  0 comments  •  flag
Share on Twitter
Published on November 10, 2010 21:52

November 8, 2010

توافيق


يقولون في عمان هذه الأيام:"المرأة شريكة في التنمية".بأخذ المسلَّمة الأولى صحيحةً،في أن التنمية موجودة في عمان،فإن المسلَّمة الثانية تغدو كافرة؛ذلك أنّ الرجل لا شريك له،ثم أنّ "الرجل" بالذات لا شريك له. *****امرأة صينية، أو لعلها يابانية،سألت لما أن كانت في بلد عربي،عما يدفعنا للصوم في رمضان.سمعتها امرأة عربية غيور،فقالت ببراءة:كيما نشعر بالفقراء.ردت اليابانية، أو لعلها الصينية:والأغنياء؟هكذا يكون الدين حين تُفكِّر فيه امرأتان، بمنطق، ببراءة. *****باحث أوروبي في الاجتماعيات والهويات،مُموَّلاً، ربما، من السي آي أيه،زار عمان ليرسم خارطتها الثقافية.في مسقط، قال أحدهم: هنا مسقط، عمان هناك، في الداخل.في صلالة، قال "أحدهم" آخر: هنا صلالة، عمان هناك، في الشمال.في الشارقة، قال "أحدهم آخر" آخر: هنا عمان.كتب في تقريره،الذي ربما يكون مُوجَّها للسي آي أيه:الأمر أصعب مما يبدو.*****بنك عمان الدولي، أو آي بي،أصدر إعلانا واحدا منذ أن بدأت الإعلانات في غزونا بدناءة،يقول الإعلان:حسابي فيأو أي بيبنك عمان الدولي.ثم تردد جوقة من ثلاثة أو أربعة مواطنين،في الرمال والجبال والمدينة،لازمةً تقول: وأنا وبعد.تغير كل شيء تقريبا منذ صدور الإعلان،فالناس لم يعودو هم الناس،والريال لم يعد هو الريال،ولا البلاد هي البلاد،ولا النظام هو النظام،وحدها فقط  "وأنا بعد" ظلت "وأنا بعد"،إلى الدرجة التي أصبح فيه الرجل، حين يكون مع آخرين، وتهاتفه زوجته مُوشوِشةَ:أحبك،يرد عليها مواريا:أو آي بي! *****القبلات الجديدة لحبيبة سابقة،والقبلات القديمة لحبيبة حالية، لرجل قصير الذاكرة،لها نفس اللذة؛ذلك لأنها جميعها تأتي بعد انقطاع.المغزى:قد يكون قصر الذاكرة أمرا جيدا بعد كل شيء. *****ما أجِده على العمانين،وأنا واحد منهم،أنهم قصيرو نظر؛فحين ينظرون باتجاه الأمام يرون عشرين عشرين،وحين ينظرون للخلف يرون سبعين،وهكذا، فكل ما يحفلون به، يبدأ وينمو ويهرم ويموت في خمسين سنة. *****أفضل خصلة في الرجل الذي أراه في المرآة،أنه يقترب حين أقترب،ويبتعد حين أبتعد،حتى أنه يختفي حين لا أراه. *****لما أنْ يُرفَع الأذان وموسيقى السيارة صاخبة،أَعقِلُ الموسيقى ليلعو الأذان،أو أرفع الموسيقى ليختفي الأذان،أو أغلق النافذة،فأعطي ما للأذان للأذان،وما للموسيقى للموسيقى.

 •  0 comments  •  flag
Share on Twitter
Published on November 08, 2010 06:54

November 4, 2010

تباديل وتوافيق


نعم يا معاوية،هذا الوطن يحتاج إلى مزيد من الجنون،حتى يعقل.*****أحلمُ بدولة يحكمها قانون مثل قانون المرور،يعاقب فيه المنتهك لخطوطه المرسومة بـ:الغرامات، والسجن، وقليل من الموت.أعرفُ أن الموت، في هذه الحالة، قد لا يكون من نصيب المنتهك،لكنّ الموت سيأتي للجميع لا محالة.وإذاً،قليل من التضحيات واجبة حتى نستقيم.*****لا تبدو الورود رمزاً مناسبا للحب،لأن مهديَتها تقول أنّ حبّها قويٌ ودائم،والورد ليس قوياً ويذبل بعد يوم من قطفه،مع هذا، ليست الورود الاصطناعية حلاً.شخصياً أُفضِّلُ شيئاً آكلُه،لأن أبي كان يقول بامتعاض حين يراني أبذر مالي: "لا أكلة ولا شربة"،ثم، إن أقصر درب إلى قلبه معدته.*****عمارة مقشوعة وعمارة مرفوعة،هكذا تتقصف أعمارنا!*****كوب قهوة ممتلئ هو ما أحتاجه،أو قوطي ديو مفتوح مخضر حتى آخره،حتى يستقيم المعوج وينبض الراكد:ما أبسط المتع!*****كل شيء في حياتي ينتهي بهذه اللحظة،حتى "هذه اللحظة" تنتهي بهذه اللحظة!*****كل مرة أشاهد فيها نفسي في المرآة أتوقع أن أحدا آخر يراني:ليست هذه دعوة للإيمان بل دعوة للجحود؛فلو أن أحدا آخر موجود غيري لكان خلفي،وآنذاك فلا ضير;فالذي ينعكس على سطح المرآة هو الموجود،أما ما لا ينعكس فأغمره بوجودي!*****آخر مرة قابلت فيها  مثقفا عمانيا،أخبرني أنه خرج من البلد في سن صغيرة،قبل أن يخرج مثقفٌ عمانيٌّ آخر في سن أكبر.السؤال الآن:والمولود خارج عمان؟صديق قال لي أن أباه خرج من البلد قبل المُثقَّفيْن المذكوريْن آنفاً،ليعمل حارساً في البحرين;السؤال الآن:هل أبوه أكثر ثقافة من المثقفيْن المذكوريْن آنفاً،مع العلم أنه خرج في سن أصغر؟*****آخر مرة شاهدتُ فيها ممثلاً عمانيا كان يتكلم على الهاتف بصوت مرتفع،فلم انتبه له حتى رنَّ هاتفه!*****آخر مرة قابلتُ فيها وزيراً كان في مستشفى الجامعة:سألني بلطف إن كان بإمكانه أن يستخدم الهاتف الموضوع على طاولة الاستقبال،ولما أن قلتُ له: بالتأكيد،وتنحيتُ قليلا،وشوشَ لي أحدُ الثلاثة الذين كانوا خلفه، وكان قد فطن أنني تعاملت مع الوزير بطريقة عادية،ولكأنني لا أعرفه:"إنه الوزير".حينها شعرت بالندم من أنني لم أقل له: لا،لأنني سأكون حينها قد ساهمت، ولو بجزء ضئيل، في خدمة هذا الوطن.*****نعم يا معاوية،أتفق معك أن الأغنية مُلغِزة:فهل حبُّ الوطن "دومه اختياري" أم أنه "دومه اختياري"؟العارفون سيبتسمون فهم يعرفون أن المقصود من السياق،أنه "دوم اختياري"،والآخرون العارفون سيبتسمون أيضا فهم يعرفون من السياق أيضا,أنه "دوم اختياري".يجب أن نتفق أنه،ربما،تكون الأغنية حمّالةَ أوجه.*****لما أن كنتُ صغيراً كان لدي كتاب واحد أقرؤه،والآن لدي ألف كتاب أقرؤها.المغزى:لا يفقد كل شيءٍ قيمته بالكثرة،والحياة لا توفر دوماً تناقضاتٍ طريفة.*****تبهرني دائما المقولات الشائعة الجاهزة:"الاستثناء يؤكد القاعدة "،لو هي قاعدة حقا لماذا تحتاج إلى تأكيد؟." بين العبقرية والجنون شعرة"،من قام بالقياس؟." خير جليس في الزمان كتاب"،ماذا عن " أعز مكان في الدنا سرج سابح"؟*****كل مرة يقول أحدهم لك أنه لا يقصد،فهناك احتمال كبير أنه يقصد!*****لماذا الرجل عادة يكون أطول عن المرأة ؟لكي يرى العابرات خلفها.لماذا ليس كل الرجال طويلين إذا؟لأنه ليس كل الرجال رجال!*****حين ينتصب عضو الرجل يصبح رأسـ(ه) أكثر تقدما من أنفه،طبعا هناك استثناءات تؤكد هذه القاعدة:۱- الرجال قصيري العضو،۲- الرجال طويلي الأنف،۳- الرجال متضخمي الكرش،٤- الرجال طويلي الأرجل،٥- الرجال الذين حين ينتصبون يُقدِّمون رؤوسهم للأمام،٦- الرجال الذين حين ينتصبون يُرجِعون أسافل ظهورهم للوراء،۷- الرجال الذين يتساوى انتصابهم مع أنوفهم،هؤلاء، الأخيرون، هم الذين حبتهم الطبيعة بالاعتدال.*****كل مرة أجدُ على الزجاج الأماميِّ لسيارتي ورقةَ إعلانات،موضوعة تحت ماسح الزجاج،أرمي بالورقة غاضباً،حتى أُغرِي بلدية مسقط بالانتقام لي!*****كل مرة يقول لي مرضاي شيئا أتبيّنُ من خلاله تدهورَ أخلاق الناس،أغتبطُ لإني، كطبيبٍ نفسيٍّ، أكونُ أول المشاهدين للحدث،لكنني أتذكرُ حينها المرةَ الوحيدة التي جلستُ فيها في محكمة،الجالس هناك هو حقا الفائز بالسبق،على الأقل فالأوّلون مرضى.بالطبع، لا يعني هذا أن المحامي أو القاضي أو المتهم خيرٌ من الطبيب النفسي.*****كل مرة ترى فيها، أو ترين،طفلا، أو طفلة،في مجمع تجاري مبتسما أو مبتسمة،اغمضْ عينيكَ أو اغمضي عينيكِ،وتذكري أو تذكرْشقاوته أو شقاوتها في بيتها أو في بيتهعند والديه أو والديها.عينةُ رؤيتكَ له أو لهاأو رؤيتكِ لها أو لهليست عينةً احصائيةً جيدة،وأيضاً المساواة بين الذكر والأنثى متعبة.*****أحببتُ محمد عبده حين كان صديقٌ لي يحبه ويقول هو جيد،ثم أحببت علي بحر حين أحببتُ فتاةً تحب سماعه،ثم أحببتُ أم كلثوم حين أحببتُ فتاةً ثانية تحبها،ثم أحببتُ عبدالحليم حين تعرّفتُ على صديقٍ ثانٍ يحبه،ثم أحببتُ راشد الماجد حين تعرّفتُ على فتاة ثالثة تحبه،هذه الأيام لا أحب أحدا. لماذا؟الاختيارات:۱- لأني لا أعرف فتاة في الوقت الحالي ولا صديق۲- لأن الفتاة الرابعة التي أحبها شديدة التدين نوعا ما، ولا تحب سماع الأغاني والصديق الثالث غير مهتم بالأغاني،۳-لأني لم أعد أتأثر بالآخرين،٤- لا شيء مما ذكر!*****يعجبني أحيانا أن أمارس الخبث المفتعل،فحين يتكلم صديقٌ، بحبٍ، عن فيروز، أقول:إنها ظاهرة رحبانية.وحين يتكلم صديقٌ آخر عن عبدالحليم، أقول:لكنّه هاوٍ أمام أم كلثوم،وعن يوسا أقول:لكنّ ماركيز ساحر،وعن ماركيز،لكنّ بورخيس حقيقي،وعن محمود درويش.. أدونيس مجدد،وتولستوي.. ديستويفسكي حي،وسارتر.. هيدجر الأصل،وهكذا، حتى أفقد كل أصدقائي!*****أحببتُ مرة فتاةً ثم تباعدتْ دربانا،وحين رأيتُها صدفةً بعد ستة أشهر،كنتُ قد نسيتُ اسمها!*****وراء زخرفات الجدار اسمنت وحديد،وراء الطبقة الجلدية الشهية للمرأة..شحوم وأوعية دموية وألياف،وراء صور الناس معادن خبيثة.لماذا تُصرُّ إذاً أن تكونَ حافراً وجراحاً ومُنقِّباً؟*****لا شعر في رأسي،وأسناني تؤلمني بين حين وآخر،وقد خلعتُ ضرسين حتى تاريخه،وأصابُ بحساسية تطفح من جلدي بثوراً،ويثقلني وجعُ ظهرٍ مزمن،ويقطرُ بعضُ أسفلي دمُ بواسير،وأصابُ بآلامٍ في مفاصلي،وتحرقني معدتي،وقد بدأتْ عيني اليسرى ترفُّ،وتنتابني كآبة دورية تأكلني من داخلي:مع العلم أني لم أتخطَّ عتبةَ الأربعين بعدُ.هل أنا في "أحسن تقويم"؟*****حين انتقلتُ إلى شقتي الجديدة،قبل أربع سنوات،جئتُ بثلاجة ومكيفين وبضع كنبات وخزانة ملابس..ورفوف كتب وسرير متوسط الحجم.ثم جاء التلفزيون والطاولة وكرسي الطاولة.واقترحَ أحدُهم سجاداً.وجاء أحدُهم بميكروويف ثم إبريق كهربائي لتسخين الماء،وأكواب وصحون وأوانٍ.ثم أحضر عاملُ التنظيف مماسح ومطهرات،وورق حمامات وورق تنشيف.وأحضرتُ بدوري فوطاً وصابوناً ومُلطِّفا وأمواس حلاقة..وشامبو من نوعين،وجيئ بعطورٍ وورود ودببة وبطاقات حب.ثم اشتريتُ هاتفا وحاسوبا محمولا ومودما وآي باد،وفلاشا وهارد ديسك وهارد ديسك آخر لتشغيل الأفلام،وماكينة ركض.ثم أُهدِيتُ نعالات جديدة ودشاديش ومشغّل اسطوانات،وحامل ملابس ومصباح قراءة وغيارات للسرير.الآن,أقضي وقتي كله،في المقاهي،هارباً من الأشياء!
 •  0 comments  •  flag
Share on Twitter
Published on November 04, 2010 22:13

October 29, 2010

رسالة إلى القارئ

قارئي العزيز..
أنت مخطئ. أنت لا تعرفني؛ فكفّ عن إصدار أحكامك عليّ من بُعد. فأنا مختلف تماما عن الفكرة التي في رأسك. فأنا إنما أكتب في حالتين: في قمة صفائي، وفي قمة غضبي. وفي الحالة الأولى فإنني أخدعك بأن أترك عليك انطباعا جيدا لا يُدلّل عليّ دائما، وإنما يُدلّل على أفضل حالاتي وأكملها بهاء. وهو ليس أنا بالضرورة، إنما هو أنا مزاد تلميعا وتحسينا، أنا في قمتي وجذوة نشاطي الذهني، أنا مع فناجين قهوتي وأرقي وسطوتي وعلوّ مجدي. وفي الحالة الثانية فإنني أكتب غاضبا على العالم وعليك؛ ولذا فإن أحكامي إنما تتخذ صبغة الحقد والكره على كل ما تشكله الكتابة، وأنت طبعا جزء منها مُسمَراً على الجدار ومُوجَها لك كل أسهم ناري.
أنت تظن أنني أعيش في الكلمات من أجلك، وهذا بحق كلام أبعد ما يكون عن الحقيقة؛ فأنا أعيش في الكلمات من أجلي. ولو كان هناك أدنى شك في ذلك فإنني أتنحى من الآن تاركا لك المجال لقراءة ما تهوى. إنك تظن أنك ما زلت تعيش في مكانك الجميل البسيط الممتلئ هدوءا، محاطا بكل أفراد العائلة، تجلس كواحد من العُرّابة حقير وتقرأني وتشد على شفتيك بقسوة ثم بلين مظهرا انبساطا عاما مما كتبتُه، ملقيا نظرة عميقة على ولدك القابع بجانبك، وقائلا من خلف نظارتك الغارقة في أنفك »هنا يكمن كاتب جيد»، ظانا أن هدوءك هذا إنما هو معادل لقلقي الذي أبذله من جسدي ومن عينيّ كي تفترش أنت بعد ذلك كل هذه الطمأنينة. إنك لا تعرف إذن أنك غارق في أنانيتك العقيمة وأناك الضحل، وأن وعيا نافذا ينقصك. فإنما أنا أتسلى. وإنما أنا أتسلى بالحديث فيك وعنك. وهل تعلم؟ أن مآسيك تروق لي لأشكل منها نسيج قصصي وشخصياتي. إنك تعجبني وأنت تبكي وتذرف دموعك بحرقة لأنني أنا في هذه اللحظة بالذات سوف آتي لأقتنص الدمعة وهي لا تزال متحجرة في العينين، وحين تبدأ في الهبوط سوف أقتنصها مرة أخرى لكي أعيد إحياءها في الكلمات وأحقق بذلك مجدي. إني أحشو ذاتي من مآسيك، وأخطو للسلم الذي أعتليه على جسدك. وإن هذا السلم سوف يوصلني حتما للمجد بينما تكون أنت جالس ما زلت تذرف دمعك ظانا أنني قمت بهذه الأعمال جميعها من أجل إظهارك.
إنت بدأت تتساءل الآن لماذا أفعلُ هذا؛ فبكلامي  ستنتبه لوضعك معي، وسوف تتيقظ من سباتك الطويل لتعرف أنني إنما أقوم بخداعك. ولكنْ هل سيهم هذا حقا؟ هل ستنتبه حقا؟ إنك ستُعجب مرة أخرى بنفسك ظانا أنك أنت من منحني الحق في التكلم بهذا الكلام، وأنك أنت من منحني القصة والتفاصيل لقول كل هذا. وهنا بالذات أمارس أنا غوايتي ومخاتلتي المزدوجة والمركبة بينما تقع أنت مرة أخرى في شَرِكِ الغباء والخداع. وتعلم؟ سوف أكرر ذلك لأني فقط أعرف أنك ستكرر غباءك وعدم فهمك للأمور؛ فأنت تفتقد النفاذية التي أمتلكها. وحتى لو وصل الأمر أنني لم أكتب إلا لأندّد بك وألعنك فسوف مع هذا تنقاد ورائي وخلف سحري. وسوف تقول داخلك بحقد » اللعنة! إنني أكرهه، مع هذا لا أعرف لماذا أنا أتبعه«. وتعلم؟ أنت خلفي دائما لأنني من يقوم بفعل العلاقة أولا وأكتب. طبعا إن هذا حقي بعد كل شيء؛ فأنت تُعيد بناء ما أكتب كلمة كلمة وحرفا حرفا، وانت ستتبع كل كلمة أكتبها من أجل أن تصل في النهاية إلى ما أريده أنا منك؛ فيا لعظمتي أنا! ويا لدهائي! ويا للطبيعة الطيبة التي تمدني بما أشتهي! وياللشيطان الذي يبذل قصارى جهده لإرضائي!. ووالله لو دخلتُ جحر ضبّ لدخلتَه ورائي؛ فان فضولك قتلك منذ أزمان سحيقة، منذ أن بدأتُ أنا أكتب وانت تقرأ، ولعلك تلاحظ أن هذا ابتدأ منذ أزمان غائرة في الذاكرة، وأصبح نسيجا فيك، فهل تستطيع بعد ذا أن تتخلص من أعضائك واحدا واحدا من اجل ان تتخلص مني؟ وكيف ستفعل ذلك إن كان تفكيرك كله قائم عليّ وبي؟
هل انت تحترمني بعد كل هذا؟ إن هذا ليس بإرادتك حتى، إنما أنا انتزع هذه الاشياء انتزاعا. ولستُ بالتالي محتاجا إلى تفهمك أو تفضلك عليّ، أنت صنعتي، وإنما أنت من ينبغي أن يشكرني، ويقول لي باحترام جم »هاك يدي! خض بنا البحر، ونحن وراءك«. وإنني لن أعدم النبل ولا الشجاعة لأخوض بك البحر ما دمتُ سوف تجعل شراعك تابعا لشراعي، وما دمتُ سوف تقول في النهاية كرها أو طواعية مشيرا إلى الذي يقف هناك على منصة التتويج »هذا هو بطلنا الحقيقي«. وسأتكرم أنا بنظرة فاحصة وأقول دعوهم يمرون هؤلاء المهمشين المنكوبين المظلموين إنهم رفاقي في الكفاح، فارموا لهم شيئا مما تبقى من المجد ؛ لقد ساعدوني يوما ما، لكني لم أعرف أسماءهم ولست راغبا أن أعرف؛ فانما هم أحسن ما يكونون حين يكونون غفلا وبلا أسماء، وانا هكذا أكون أحسن ما أكون على منصة التتويج ومُشارا إلي بالبنان وممجدا بحق وبدون حق.
أنت لا تصنعني، إنها الطبيعة التي تمنحني الحق أن أصنع نفسي من خلالك، وأن اقوم بالسحر لأنني أنا الساحر الموهوب وأنت المسحور الظان بنفسه ظن الخير. فهل لي بعد ذا أن أقدم شكري لأحد؟ فأمنا الطبيعة لا تتكلم، ولن أغفل ان أفك عقدة لسانها المزموم بما يمكن أن اقوله، وأدس عليها، فيما أدس، كلامي أنا، ورغباتي انا، وسطوتي أنا؛ ما دمتُ أنا المتلكم الرسمي لكيان أبكم، وما دمتَ أنت السامع لي. وسوف تزداد أنت احتراما لي وتنكيس رأس، فأنا الآن لست وحيدا بل من على شرفتي تسندني الطبيعة الطيبة المستعدة أن تمضي معي حتى أبواب الجحيم. 
وتعرف من أين تنبع حكمتي وموهبتي؟ من لا شيء!. صدق أو لا تصدق، فليست هي السماء الطيبة التي تمدني بما أريد، وليس هو الشيطان الذي يصيبني بلعنة الكتابة الأبدية، ويمزق وجودي، ويجعلني اعصر جدران معدتي. لا وجود لوادي عبقر، وليس هذا من شأن الجن؛ فأنا حتى الآن، وهذا سر بيني وبنيك، لم أتشرف بلقاء واحد منهم، وليس هو شأنا من شؤون جبل ألومبوس: لقد اندثرت الآلهة الطيبة منذ زمن، وحلت محلها الآلة الشجاعة بمسنناتها التي لا ترحم. الجن والشيطان والآلهة.. إن كل هذا ابتدعته أنا من أجل أن أوهمك أنني تعب جدا، وأنني أحزن من أجلك، وأقلق من أجلك، وأنني أدعك تنام وعلى ثغرك ابتسامة بينما أنا أناطح السحاب والجبال من أجل أن تصبح صباحا فتقرأ لي، وتقول »واو! يا له من شجاع؛ لقد فعلها مرة أخرى، لقد سهّد عينيه وصدّع رأسه«. نعم، إنك ستأخذ كتابتي بين إبطك كشيء قيم ثمين، وستمشي جاهدا أن تصل إلى مقر عملك لكي تجلس هناك وتفتتح يومك بي وبما أقول، وتقول في ذاتك إنه انما يعنيني أنا، وإنما أرادني أنا؛ فأنا الموظف المعدم، وأنا الفقير المحروم، وأنا المهلوك تحت ركام البيروقراطية اللعينة، وأنا الذي انتحبُ في الشارع من أجل الحياة السعيدة التي ارتجيها، فبعد ذا من سيكون المقصود غيري؟! مع هذا فإني أقولها هنا: إنه لست انت. إنني اخترع فحسب، أهلوس، أكذب، أصنع، أخرُق، سمِّ كل ما يقوله لك القاموس حين تفتح على حرف الميم وتبحث تحت كلمة مخاتل. تصور أنني قلت لك أنني أقف طويلا قبل أن أكتب، وأنني أتلجلج، وأن الساعات تمر من دون أن تخرج مني كلمة واحدة، أو أتفوه ببنت شفة، وتصور أنني قلت لك أنني كنت اقرأ منذ صغري، وأنني دودة كتب لا تمل، ما الذي يمكن أن تقوله إن أنا أخبرتك بهذا؟. إنها ليستْ عظمتي التي صنعتني بل مثابرتي، وإنني اعتمدتُ على توهمك في ازجاء الحماس داخلي، وإنها ليست عبقريتي بعد كل شيء. لا،إن هذا كثير عليك، وأنا اعترف حتما أنني لا يجب أن أقسو عليك وعلى طبيعتك اللينة. إنني أضحك معك، أمزح فحسب، إنها العظمة طبعا، العبقرية، وماذا سيكون غيرها إذن؟ هل سينبع كل هذا الكلام من لا شيء؟ هل تظن أن الالهة ترمي بالنرد، وأن الطبيعة يمكن أن تخاتل في شخصي، وتقع في كل هذا السوء غير المسبوق؟ إن العبقرية تمتصني! وهل ترى أفعالي التي تكون بلهاء أحيانا؟ إنها عوارض العبقرية، وشواهد الإبداع التي تفصل المسافة بيني وبين الجنون بشعرة. وأما ما ترى من مشيي في الأسواق، ومحادثتي لكل البشر، صغيرهم وكبيرهم، أما هذا فإنه تواضع الكاتب؛ فالعبقرية لا تُمنح إلا لهؤلاء المتواضعين الجديرين المحقين العادلين المَرضِيّ عنهم. وهل ترى ابتسامتي؟ انها ابتسامة الكاتب. فبعد كل شيء أنتم أبنائي الذين أحبكم، فأي صدر ستجدون إلا صدري؟ وانظروا إلى معصمي، إن ساعتي الفضية تطوّق اليد التي تكتب، والأنامل المبقعة بالحبر تستحق أن تُقبل. إن عظمتي ليست لي بعد كل شيء، إنها لكم، إنني أشملكم بها، فماذا ستقولون حين تقفون من على بعد، وترقبوني على الشاشة مضاء ولامعا كنجم؟ ستقولون إننا نعرفه. وإنني أمنحكم الحق أن تهللوا لأنفسكم وتقولوا بفخر وعزة »إنه صاحبنا، إنه ابننا، إننا نسكن في ذات الحي الذي يسكن فيه، إنه أحد مواطنينا، وهو رجل طيب ويستحق هذا الوسام، إن هذا الشرف هو لنا بعد كل شيء، فالخير يعم. ولست أنا بعد ذلك بالمعترض إن كان هذا سوف يزيد من بهائي؛ فإن كان الشعاع الذي سيصلك مني لن يكلفني طاقة كبيرة فما المانع؟ إننا نرمي بالريالات في الشارع أحيانا من أجل لفتة، أو نبل متواضع، أو من أجل فتاة رثة تبيع اللبان؛ فهل بعد هذا سوف أتردد في بذل بعض كلمات، الثمن الزهيد للسيطرة عليك وقودك من أنفك وسحقك حتى النخاع؟. هل تريدني أن اقول أنك كادح ومثابر؟ نعم، إنه يمكنني أن اقول ذلك ما دمت سأقف هناك فوق هذه التفاصيل، وأحرك باصبعي قلمي، وأقول لقد كان يرحمه الله ،فأنا إنما أكتبك بعد أن تكون قد مُتَّ داخلي وتحولتُ الى تصورات وأفكار وحركات وكلمات، نعم، لقد كان رحمه الله مثابرا، لقد مضى رحمه الله وحطم أكثر من ثلاثين فارسا بسيفه، نعم، لقد كان رحمه الله عصاميا طوال حياته: لقد بنى نفسه بنفسه. أو ترى؟ إنني أصنعك بلحمة الكلمات، وإنك تتشكل وتنبني وتتطور أمام باصري. ها أنت تريد شيئا، لأمنحْك إياه. هل تريد موتا طيبا؟ هل تريد صراعا عادلا مع السلطة؟ هل تحب أن أكشف أسرارك؟ لا تخف، لن يقول عنك أحد شيئا سيئا؛ سوف نقول بعد كل شيء أنك لست المذنب، إنها السلطة، إنه الزمن، إنها الحياة، إنه القدر: لن نعدم أحدا نعلق عليه فعل الخطيئة؛ فأنت لم تكن موجودا، وحتى إن كنت موجودا فأنت لا تستطيع ان تفعل شيئا؛ فأنت مشلول، وحتى إن لم تكن كذلك، وفعلت كل هذا، فأنت لست المذنب حقا؛ إنه المجتمع، الجينات، الوراثة، البيئة الفاسدة، الطبع السيء، اترك الامر لي؛ إنني ربّ الحكاية وصانعها وحاملها والمحمولة إليه!
أعرف أنني أفسدك بكل هذا الوعي، وبكل هذه المعرفة. لا تخف. إنما أنا من سيجمع هذه الفوضى بعد أن أكون قد حققت غاياتي؛ لا بأس بشيء من الطُعم حتى أتمكن من جرك إلى شباكي المتينة المصنوعة من جدائل الحكي وألياف الكلمات الطاهرة. هذه »قذارة«! هل تعجبك هذه الكلمة؟ تشمئز؟ تثيرك؟ امسكها هيا، تقدم. إنها لا تحتوي على أي قذارة، إنها فقط دالٌ على شيء وليست هي الشيء نفسه، هيا تلمس بأصبعك حروفها، هل تجد أنها دبقة أو مغطاة بالوحل أو نتنة أو لزجة؟ إنها طهارة اللغة. أتعرف الآن أنني استعمل ما استعمل من كلمات وأنت تظن أني استعمل معانيها؟ هل انتبهت للسر؟ حسنا، إنها قذارة! فانظر الى المرآة، وحدق في عينيك، وقل معي » قذارة، قذارة«، وانظر كيف تتقزز، وكيف يكون وجهك، وكيف تخرج كل القذراة من فمك. ثم ماذا لو أني جعلتك تعرف بعض الأشياء؟ حسنا، لا شك أنني سأخفي عنك أشياء اخرى. هل تظن أنني قادر على منحك كل ما أملك في جعبتي من حيل وأساليب ملتوية وتنويعات سحرية؟ وهب أنني فعلت ذلك فإنما أنا أجعلك تظن أنك خرجت من نطاقك إلى نطاق أوسع، وحسنا، أنا أطوق هذا النطاق الأوسع، وسأجعلك تخرج منه إلى نطاق أوسع لأطوقك أيضا بنطاق أكبر منه: إنني أحيط بك دائما ما دمت أنت قارئي.
وإليك هذا، هل تعلم حينما أقول لك مثلا أنني أفضل من الفلسفات فلسفة معينة؟ أتعلم حقا ما أقوله لك؟ أوه، إنك تؤكد كل تصوراتي عنك حين لا تعرف بالضبط ما الذي أعنيه. بالطبع أعرف أنك لا تستطيع أن تعرف ما الذي في عقلي، وكيف لك أن تعرف؟ فإنه ليس أي عقل بعد كل شيء؛ أنه عقل الكاتب. إنني فقط أدّعي. إنني أدعي أنني أعرف الفلسفات جميعها، وأنني من مقارنتي لها وجدت الفلسفة المعينة تلك أحق بالاتباع! فيا لكمية ادعائي ومخاتلتي! أرأيت؟ إنني ألعب بالكلمات من أجل أن تقول أنت »يا للهول«، »يا لله«، »ياللعنة«، من أين يخترع هو هذا؟ من أين يأتي بكل هذا؟ ما هو السر؟ القهوة التي يشربها في الصباح؟ الأقلام التي يستخدمها؟ حبيبته؟ سيارته؟ أصدقاؤه؟ ما السر؟ هيا، ما السر؟ اخبرنا. متى انزرعت بذرة العبقرية فيه؟ كيف ترعرع بجانبنا ولم نستطع أن نلمس تلك النبتة الطاهرة؟ إننا نعرف أبوه وأمه وكامل عائلته!
ولكن لا داعي للحزن؛ فكما تكونون نكتب لكم. وإن هذا يدخلك في اللعبة يا قارئي العزيز، فأنت في النهاية من سيقرأني: إن بيننا مصلحة مشتركة، ولكن لنعترف: أنا أتقدمك بخطوة، وألعب بك وأعبث بأفكارك؛ إن هذه وظيفتي بعد كل شيء. هل تحسب أنني يمكن أن اكون طيبا أو نبيلا؟ لكن كيف؟ أنت تريد مني ما لا أستطيع يا قارئي الطيب الساذج، كيف سأكتب عن الخير إن لم أكن أنا فوق الخير؟ وكيف سأكتب عن الشر إن لم أكن أنا فوق الشر؟  فوق هذا وذاك يقف عرشي؛ ولذا لا أستطيع أن أكون محايدا معك، إنها الطبيعة التي للأشياء، فهوّن عليك، إننا لن نختلف. قل لي ماذا تريد ان تقرأ؟ سوف بالطبع أعد لك طلبك؛ خادم القوم سيدهم، هل تريد ان تكون طيبتك نابعة من كرمك؟ حسنا لك هذا، أرأيت؟ إنني كاتب طيب بعد كل شيء؛ فأنا احقق أغراضك في النهاية، لا داعي لكل هذا الاكفهرار، أعرف أن الفكرة لا تروق لك، لكن لا بأس، أنت محتاج أن تردد معي فحسب مائة مرة »إنني أحب هذا الكاتب، إنني معجب بهذا الكاتب، إن هذا الكاتب جيد« كررها فحسب بصوتٍ عالٍ حتى أسمعك، هيا، كف عن اللجلجة، إني أرفع أصبعي تجاهك فحذار أن يصيبك غضبي أو تحلّ عليك لعنتي: سوف أمزقك، سوف أرميك قطعة قطعة للذئاب. لن اجرؤ؟ حسنا، لأعترف: هذا يعتمد على المصلحة التي ستنالني؛ أنا كما تعرف برجماتي بعد كل شيء، هل تراني كنت سأكتب كل هذا من غير أن تصيبني متعة ما، إنها السطوة التي أصيبها من خلال إذلالك، السلطة التي أتشبث بها زاعما أنني افعل ذلك من أجلك. ألا تريد أن تخوض الجدال؟ أنا سأخوضه عنك. ألا تريد أن تنبش الاسرار؟ أنا سأنبشها عنك، أستمر أنت في أمنياتك وأحلام يقظتك، أنا سوف أحقق لك ما تريد، لكن لا تأتي بعد كل هذا وتحاول مقاسمتي سلطتي، انني ألتزم بك من اجلي، نعم، هذا هو التعبير المناسب، إنني التزم بقضاياك، وأحاول أن أقلّص قطر دائرة التزامي إلى الصفر لأتحرر من وعودي تجاهك. تريد الحقيقية، لك الحقيقة. تريد التمجيد، سأمنحك التمجيد، قل ما شئت، أنا رهن اشارتك، لكن حين تستمتع بكل ما أكتب اجعلني فوقك؛ إني، في النهاية، استحق هذا. إنه ليس كرمك الذي يعطيني ما أستحق بل هي شجاعتي في الكشف، وعمق نظرتي، وبينما انت تتلمس المنبه صباحا لتُخرِس رناته التي يجب أن توقظك أكون أنا قد انتشلت ظهري من على كرسي الكتابة القاسي، فعلى هذا الكرسي أحكم على نفسي من أجلك؛ فلا تقاسمني مجدي وسلطتي، واعط ما لله لله، وما لقيصر لقيصر، وخذ أنت ما يتبقى.
وفي النهاية ماذا يجب عليك ان تفعل؟ تنهض صباحا لتكدح ولتعمل؟ تسوق سيارتك إن كانت لديك واحدة في طريق مزدحم؟ وتقف لترى رصيدك في البنك يضمحل شيئا فشيئا قبل نهاية الشهر؟ وتذرف دمعك من أجل حبيبتك التي فارقتك؟ وينفطر قلبك على ولدك الذي أغواه الشيطان فأصبح مدمن مخدرات؟ وماذا يعني كل هذا؟ كل هذا إنما هو داخلك، واقعك الضيق، عالمك الهش، أما حين أحول أنا هذه المضغة الفاسدة إلى كلمات، أما حينها فحسب، فإنك تدخل معي في المجد: إن صباحك لا يغدو صباحا عابرا بل سيلتحف بالخلود، وكل مرة سيأتي هنا من يعيد صباحك، ويراك تحرك سيارتك في طريقك المزدحم، وسيقطر حرقة وأسى من أجل حبيبتك، ولا شك سوف يفعل الأمر ذاته حين يصل الى رصيدك المضمحل ومديرك القاسي ومؤسستك المتآمرة عليك. وهل لي أن أضيف هنا أنني أستطيع حتى أن أجعلك بطلا وجوديا غارقا في لُجّة هذا العالم، ومنفياً في الزمان، ومرميا بك في معمعة هذا الوجود، مسلحا فقط بالقلق وبالغثيان وصخرة على رأسك يجب أن تحملها لفوق لتسقط من جديد. أرأيت؟ إن همومك الترابية التافهة تتحول في يدي إلى تبر، إنها مجرد وقائع بسيطة في حياتك لا تساوي شيئا، ربما في نهاية الاسبوع استطعت أن تُحدّث أصدقاءك بها وأنت نصف ثمل قبل أن يجيش بك البكاء، لكن هذا قصارى ما ستفعله. أما حين يصل الموضوع إلى يدي فإنني أنتشلك من العدم، من العبور مغمورا على هامش الوقت، من تتابع حياتك باتجاه الفناء، وأقدم لولدك من بعدك والده الثائر، والده الشهم، النبيل، الذي أبى أن ينصاع لحركة القدر الظالم ولحركة الحياة المُفجعة، وظل قابضاً على الجمر من أجل أن يعيش ولده بطمأنينة، ويرضع سلام العالم ويأكل من على طبق الحياة المثلى التي خلقتها أنا لك. فإني أخلقك في الكلمات، وأمد لك من عمرك، وأرضعك أكسير الحياة الذي سيوقف الزمن عند صباحك المزدحم، ورصيدك المضمحل، ولي أن أتتبع أشياءك إلى نهاياتها وتفوز بقبلة الحبيبة المشتهاة التي أطلتَ انتظارها لكن والدها سوف يترصدك، وينهال عليك ضربا أبناءُ عمها، وسوف يمعنون في تعذيبك، ولن تستطيع ان تتقدم بعدُ خطوة واحدة في اتجاهها إلا بأمري وبقدرتي، وحينها فحسب سوف أفكّ عقدتك وأجعل والدها يعترف أمام نفسه أولا، ثم أمام الآخرين، أنه كان مخطئا، وسيأتي أولاد عمومتها إليك بباقات الزهور إلى حجرتك المرتبة في المستشفى ليقدموا اعتذاراتهم، وسوف تخرج صحيحا بلا خدوش مستديمة، وستعيش حياتك معها بالذي ترغب فيه من حب ونحوه.
أتستطيع الآن أن ترى على أي جانب أنت تقف؟ على الجانب البعيد، المعزول من سلاح الكلمات الفاعل، بينما أنا أُشهر هذا السلاح من أجلك، إنني بعد كل شيء مهم لك: إنك بي تحيا، وبي سيعزّك أولادك، وبي ستدخل باب العظمة. وأنا لا أطلب منك بعد كل هذا أمرا عظيما، أو جزية كبيرة، إنه يكفيني ان تردد بين فترة وأخرى لولدك الجالس على يمينك من خلف نظارتك » يا له من كاتب عظيم«. إن هذا بالطبع ليس مهما لي لكوني محتاجا له، لكني سوف أرضى عنك لأنك بهذا تخبرني أنني أفعل شيئا جيدا لك؛ فباعترافك أجني أنا ثمرة كرمي ونبلي، وبنبلي وكرمي أتفضلّ عليك، وهكذا، إنها حلقة أديرها أنا بخيوطي من فوق.
أنت مخطئ. فلا تزد خطأك شدة بمحاولتك التعريف بي؛ فإنني يجب أن أنتهي عند النقطة التي في نهاية النص، إنني لا أضعها هناك تأدبا أو حساً بعلامات الترقيم بل أفعل ذلك لأضع فاصلا بين خط الواقع الضحل الغبي الذي تمثله أنت واللاواقع الباهر العجائبي الطاهر الذي أخلقه أنا لك. لكنْ بعد هذه النقطة فأنا انتزع نفسي من أمامك وأدخل في عالمي الخاص؛ لقد قلتُ ما أردت أن أقول، وضمّنت ما أريد بخفة بين سطوري، لكنني لست مستعدا بعد هذا لإضاعة وقتي معك. وهل تظن أنني يجب أن أكون صبورا معك أو متسامحا أو متأدبا؟ وحين ألقاك في الشارع يجب أن أغرس يدي في يدك؟ وأن ابتسم لك وأنا أرى في عينيك التماعة قافزة بلقاء كاتب عظيم؟ إن هذا ظن خاطئ ومشوّه؛ فأنا لو كنت أرغب باتخاذ مزيد من الأصدقاء لنشرت إعلاناتي في الجرائد والمجلات لكنّ اصدقائي يكفونني في الوقت الحالي، ولديّ قائمة طويلة في الانتظار، ولن يهمني أن تكون أنت راغبا في ذلك؛ فإنه بعد تلك النقطة الفاصلة بين سطوري وبينك ينفصل عالمانا، وانسحب أنا باتجاه العدم الذي جئتُ منه مُودِعا عالمك القزم وراجعا الى قواعد انعدام وجودي الآمنة. إنني أعرف أن الجغرافيا تحاصرنا أحيانا، وأن مسقط صغيرة، وأنني في النهاية سوف أسلك ذات طريقك، ولا بد لي أن أصطدم ببعض معارفك هنا أو هناك، على شاطئ البحر والموج صاخب المزاج، في الطاولات المعزولة لمطعم غريب، في المقاهي المسقوفة في شارع مزدحم، في مهرجان متلاطم الألوان؛ فأين سأذهب من ظلم هذه الجبال وعَنَتِ حجارتها القاسية؟ ومن أين أستطيع أن ألج البحر وأنا كل ما أملك بضع كلمات وقليل من العقل؟ وإن كنتَ فقيرا أو معدما فلا تحسبن أنني قادر على مساعدتك، إنني بالكاد أستطيع مساعدة نفسي، ثم إنني لستُ كريما، إن أسلوبي في الكتابة شيء آخر. صدق أو لا تصدق. وما تحسبه أنت جميلا قد يكون أحقر ما كتبتُ، وما تعتبره أنت مشكوكا في قيمته قد يكون بالنسبة لي الأقرب إلى القلب؛ فأنت تقرأ لك. وعلى العموم، فأنا لن اطلب رأيك ولا مشورتك فمرّ عليّ مرور الكرام، ولا تحاول أن تبدو فاهما ومثقفا، فأنا لست فاهما ولا مثقفا، وإنما أكتب أحيانا ما يجول في خاطري لأني أحب ذلك، ويروق لي أن أراني مُضخّما وأنيقا  ومُنسابا في الكلمات. لا بأس إن أنت أشرت إليّ من البعيد مُعرِّفا صديقا لك »إنه كاتب عظيم«، »إنه كاتبنا، وإني أعرفه جيدا«، »تجمعني به صداقة جيدة«، قلْ ما شئت، اكذبْ باسمي لكن لا داعي للاقتراب مني؛ فأنا لا أملك المال ولا الوقت ولا الشجاعة لأن أقوم بالرد عليك والتربيت على ظهرك. تقرأني؟ خيرٌ وبركة. معجبٌ بي؟ يا للهول. قرأتَ مقالاتي الأخيرة؟ أعجبتكَ قصتي؟ جيد، إن هذا لرائع، إن هذا لعظيم، فقط اجعلني وراء ظهرك الآن، تنحّ قليلا لكي أرى الشمس: لقد اخترتُ وسيلة لقائي بك عن طريق الكلمات، وهذا ما أعتبرُه ارادتي الحرة مُعبَرا عنها في أبهى صورة وأدق معنى، أما ما بعد ذلك فلا يهم. لم تنمِ الليل؟ أرّقتكَ الفكرة؟ تبادلتَ النقاش أنت وأصدقاؤك؟ حبيبتك تقول أنني كاتبٌ جيد؟ حصلَ أن ابن عمك قد درس معي؟ كل هذا لا يهمني، لا اهتم لسماعه، أو جيد أن تقوله لأحد آخر، طرفٍ ثالث: وشوشْ له في أذنه واستخدم أفضل ما تعلمتَه مني من كلمات، مُضخِما ما هو قابل للتضخيم، ولا تسرف كي لا تعطي انطباعا بالاسراف أو التحيز، وقلْ الأمورَ بثقة، وهنا سأعتبرك مُريدا جيدا، ونافعا. لكنْ  حين رؤيتي انسحبْ بدون مصافحات وأياد ممتدة، وبلا أسماء. فأنا، باختياري الكلماتِ وسيلةً، أسحبُ الرفض على جميع الوسائل الأخرى، شرعيها ولا شرعيها، وبسيطها ومعقدها. أعرفُ أن هذا فيه شيء من الظلم لأنه يجعلني متحكما ومالكا لوسيلة التخاطب ومبتدئا بها لكنّ هذه هي شروط اللعبة، وأنا لم أُنشئها لوحدي لكنني وجدتُها ووجدتُ أني قادرٌ على الاستفادة منها، وأنت وجدتَها وانزلقتَ في مكائدها، فلا خبثي شرٌ في ذاته ولا غفلتُكَ خيرٌ في ذاتها، وإنما كلانا رهن قدر مرح، وركامٌ على تلة زمنٍ عالٍ يراكمنا ويراكم غيرنا. فهل تريديني بعد ذا أن أهاجم القدر الذي يمنحني ابتسامة الصباح وسر الكلمات ورائحة شباكها اللزجة؟
في اللحظة الفلانية في اليوم الفلاني نَمتْ فكرةٌ في رأسي فكتبتُها، لم أعرف جدواها، وهذا كل شيء، ثم أعلنتها على الملأ . طبعا أنا أتوقع أنك ستقرأها، لكن لا يهم، لأنني كتبتُها وأنا أتوقع أن أحدا ما سوف يقرأها، لكنّ هذا محض توقع. وحين قمتُ بخداع ناشري أو أنه استطاع خداعي، واتفقنا أنا وهو أن ننشر ما كتبتُ فإننا إنما نَزِنُ مصالحنا الخاصة التي ليست مادية دائما، ونعرف في النهاية أنه لن تقع خسارة ما لنا كلينا، وأن الفائدة المضافة سوف تعود إلينا إن عاجلا أو آجلا، وأنك قد تكون الخاسر الوحيد أو تكون أحد المستفيدين؛ فالخسارة إن تكون فهي لك، والفائدة إن تكون فلربما شملك نصيب منها. ولتعلمْ أنه بعد لحظة النشر أو لحظة الكتابة، أيهما تشاء، لا أكون مسؤولا عن كلماتي؛ فإنني قلتُها في زمن معين، ومكان معين، وكان في رأسي أفكار بعينها، وأهداف بعينها، وليس هذا معناه أنني سأظل جامدا في اللحظات، ومتفقا مع ما قد أنتجته الآلة الدماغية التي أحملُها، فإنني انطلقُ في الزمان مثل منحنى، وأكون في كل لحظة في نقطة غير التي كنت فيها، وربما انحرفتْ مساراتي ودخلتُ في المجال السالب؛ فإني، ذاتي، لا أعلم ما يُراد لي مثلك تماما، إنما انا ألعب على مستوى أعلى قليلا، وأحاول أن أجيد اللعبة التي علمتني إياها الأيام. فإن كنتُ أنا »سين واحد« التي أزعجتْك ذات مساء فلا تأخذنّ الأمر مأخذ الحقد فإنما تفاعلك وردة فعلك هي التي أزعجتْك، فلا تُحمِّل كلماتي ما من شأنه أن يُخل بالموضوعية العلمية والمنطقية التي تُسند بعضَ هذا العالم؛ فكلماتي كانت هناك خاليةً من الروح، ومرميةً في الصفحات بلا نور، ولا نار، ولا حرقة، ولا غضب، ولا أي ما من شأنه أن يفعل شيئا للآخرين. ثم أتيتَ أنت بمحض إرادتك وبكامل قواك العقلية فألقيتَ بوعيك في الصفحات، فهل أتحمل أنا عبث العابثين وشقوة الفضوليين؟ ثم إنك حين تكون مُحاطا بفعل القراءة أكون أنا قد انتقلت في الزمان الى أنا »سين اثنين«، التي هي حتما شيءٌ آخر عن أنا »سين واحد«. وهكذا، ترى أنك في النهاية حتى وإن كنتَ صادقا في اتهامك كلماتي بإغضابك، أو إكراهك على فعل شيء، أو بالتلاعب بعقلك وكأنك يافعٌ صغير، حتى لو حصل هذا فإنما غريمك قد مات وعليه سقطتْ دعواك بحكم انتقال المُدّعَى عليه إلى مكان نعرف عنه أنه ليس بمقاطعة بشرية نستطيع فيها مقاضاته أو ملاحقته. فهوِّن عليك، واعتمدْ على ذاتك، فإن نشري لما أكتبُ ليس معناه بالضرورة المنطقية السببية اقرأني، إنما هذا تفسيرٌ واحد، استقراء حدسي فحسب لما يمكن أن يكون عليه الحال، فقد يعني هذا أنني متعبٌ، أنني قرف من هذا العالم، إني أكرهك، سوف أحاول خداعك، وعلى هذا فلا أريدك أن تظنَ أنني محض خير ومحض فضيلة ومحض حب فأنت تعرف مُسبقا، كونك أيضا كائنا حيا، أن مثل هذه الأشياء غير موجودة في نطاق الحس العادي الذي نعيش فيه. إنني شهواني أحيانا، وغاية في الضغينة والحقد أحيانا، وأتخابث أحيانا، وأحبُ أن أُفرغ مثانتي وأحقادي، وتحدوني رغبة الركض أحيانا، وأكون لامباليا وأنانيا وكل تلك الأشياء التي تعرفها والتي عادة نقول عنها أنها تقع في الجانب الآخر لما نريد ان نكون عليه. فما أدراك أي هؤلاء كنتُ حين كنت غريمك الواقف في سين واحد، والذي تريد ظلما أن تعلّق عليه خطيئتك؟ يجب أن تتفحص ذاتك، وأن تكون قادرا على أخذ المسؤولية والالتزام بما تقرأ: إنه التزام القارئ؛ فانت ملتزم بنفسك، وعلى قدر التزامك هذا فإنك تحدد ما تريده لها من خير، وما يُمكن أن تحمِّله إياها من شر. وأنا في المقابل سأكون ملتزما بذاتي، وسأحاول أن أبرز ما أظنه خيرا أو شرا حين أكون بكامل وعيي، أما حين أكون مُصابا بتسلط اللاوعي عليّ فصدقني لن يفيدك أن تُحمّل الذنب على والدي، ولا على نشأتي، ولا على الوراثة، فإن فعلك هذا إنما هو عملية ازاحة، وإنما النقطة التي تقصدُها وقد ضللتَها هي ذاتك أنت وأناك أنت.
ولا تحسبنّ بعد ذا أني مشاركك في الذنب؛ فإني حين أكتبُ أضعُ ضميري على الرف، وأحاول قدر استطاعتي ان انسى ما يمكن أن تحققه كلماتي من شر أو خير، فإنه أنا لست الأول الذي يفعل هذا ولست الأخير، ولن تكون أنت أول مظلوم على وجه هذه الأرض ولا آخرهم. فتنحَّ قليلا عن مركز الكون، واعلم أنك كسائر الذرّ السابح في ملكوت هذا العالم المتناثر والمنطلق مبتعدا عن مركزه. ولن أُفيدك في شيء حين يُثقلُ عليك ضميرك، ولا تحسبنّ انني سوف أعترف بما كتبتُ أو أدعيّ أنني كتبتُه بمحض وعيي وإرادتي، وسوف أفعل كل ما من شأنه أن يُظهر صفحتي بريئةً؛ فلستُ أحمي المغفلين. فارجعْ إلى أربابك وقلْ لهم ما تشاء، وادعُ عليّ من على صهوة منابرهم، ومن على سرج كآبتك، فلن أُعدمَ من يساعدني على إغلاق أبواب السماء في وجه دعواتك المتهالكة.  وحين تأسُرك كلماتي فامدحني، وقلْ ما شئت، ولاتتردد في اضفاء المديح عليّ، وافتخر بي أمام أقرانك. أما إن كانت صدمة الكلمات أكبر من أن تُتَحمَّل وفقدتَ القدرة على التعبير فاجعلْ عينيك تنسابان بالدموع المالحة، وانشرْ في وجهك معالم الحبور والغبطة وأنت تُشير إلى كتابي الذي بين يديك؛ إنني أستحق هذا بعد كل شيء، وإنما تقوم، أنت، الآن، بواجب الخدمة الذي يتحتم عليك أن تقوم به.
إنني المعلاق الذي تعلق فيه أمانيك وأحلامك ورغباتك ومثلك الغارقة في الهلام. أنت تريد من يدافع عن حقوقك ويكشف الآمك لأن ذلك متعب نوعا ما؛ فالزعيق يحتاج إلى طاقة كبيرة وزخم شديد، وأنت مشغول بلقمة العيش، بالتخبط في الحياة الظالمة، بالبحث حول فتات الموائد، بالقضايا الصغيرة التي تتناسب مع حجمك واهتماماتك، فكيف لك بعد ذا أن تُتقن الحديث عن مطالبك العادلة؟ وعن رغبتك في الوصول ألى الأفضل؟ عن أحلامك في السطوع؟ في تجاوز الحد الفاصل بين المغمور والمشهور؟ في رفع الرأس؟ في التكلم بكرامة؟ إنني أُشعل وطنيتك، وأُلهب ضميرك البارد، وأجعلك تشعر وكأنما العالم ملك يمينك ورهن قبضتك، وأنك قادر على الهجوم، وقادر كذلك على الدفاع. إنك موقن بهلاك العالم لأنك تستعير بصيرتي، وتعرف حدود معرفتك وقدرتك لكنك مع هذا ترغب في أن تكون لك القوة والقدرة على صب اللعنات: إن شخصيتك الوادعة التي سرّبها والدك إليك عن طريق الأوامر القاطعة والإشارات المهدِّدة تمنعك وتجعلك مؤدّبا أمّا أنا فأمنحك اللغة البذيئة والعنف اللفظي الذي تحتاجه لمجابهة أعدائك. وسوف تشعُر بالغبطة وأنت تقرأ؛ فقد تحررتْ منك الطاقة العدائية التي تُلهبُك وانبسطتْ قبضة يدك بعد أن لوحتَها بغضب، وسوف تنساب الدموع من عينيك فرحاً بالقبلة التي تظنها أنها لك، وإنما هي للبطلة التي أودعتُها قصتي كي تجعلك تحسُ أن حياتك ليست على ما يرام: إن حبيبتك قبيحة بعض الشيء، وزوجتك ممتلئة قليلا وإنها، بعد هذا، غير صالحة للحب، ولا تحترم مشاعرك؛ فأنت تحتاج إلى واحدة تشبه البطلة التي أخلُقُها لك، وإن أولادك قذرون، ولا تعرف كيف ستواجه هذا العالم مسلحاً بكل هذا الجهل والغُبن حتى أحضر أنا هنا، هكذا مرة واحدة، وأسطعُ من علٍ بكامل بهائي، وأمنحُك تهويماتي وتعاليمي مرصوصةً في الكلمات، ومشارا لها بالأحرف، وبهية، وناصعة، ولا تحتمِل إلا أن تكون محاطةً بهالات المجد. وأني أعرف أن بعض كلماتي سوف تدغدغ مشاعرك علويها وسفليها، وسوف تجعلك تنتشي طربا من خفتك اللامعهودة، ومن أناك النبيل، ومن ذاتك المعبَّر عنها بنقاء. وحين أفعل ذلك باتجاه الأسفل فإنك تبلعُ ريقك المحبوس، وتمسح بلسانك على شفتيك اليابستين، وتتحرك حنجرتُك في حركة بلع عصبية وسريعة، وتندلق من عينيك ومن زاوية فمك الملتهب قطرات الشهوة الندفة التي تضيئ داخلك المظلم الغائر في النزق والشهوات؛ فقد قبّل البطل حبيبته، وها أنت الآن تتحد فيه، ومن على جسمه الغض الفتيّ تنقذفُ بكامل فحولتك نحو سراديب اللذة الأبدية كيما تشعر بعدها بالعذوبة الهانئة تنساب من بين يديك ومن خلفك، وتشم رائحتها الدبقة تلطم أنفك بسلام، وتنام بعدها وأنت تُغلق خلفك ابواب هذا العالم العفن. إنها هذه البقعة التي افتحها لك ما يجعلك تشعر أنه ثمة أمل في هذا العالم المتداعي، أنه ثمة وميض لشيء ما، نور ينفلج من الداخل، ورغبة في التحسن؛ فالمعدوم أصبح غنياً، والظالم انهالَ عليه الزمن بجبروته الذي يفوق كل جبروت، والرغبة ولّدتِ المتعة، والمحسن كُوفئ بالحسنى أو أُجِّل حسن حسابه لما بعد من غير أن تفوت عليه فرصة أن يتمتع بهناءة القلب وبراحة البال، والظالم غُصَّ بثمرة ظلمه وعَنَتِه؛ فيالكلماتي العادلة! ويالميزاني الدقيق! الجنة التي أخلقها لك أجعل عليها أسوارا، وأصفُّها في الصفحات، وأُسلِّمُك مفاتيح خزائنها، وما عليك إلا أن تترصد اللحظات، وتتسللَ خلف زوجتك التي تكون آنذاك منشغلة بالطبخ أو غارقة في وسوسة هذا العالم وصخبه، أو توصدَ باب مكتبك وتمنع شعاع الرؤية من أن يوصل صورتك إلى مديرك في الحجرة المقابلة، وبعدها تستطيع أن تدير المفتاح لتضيئ يومك وتقرأ ماضيك وتكتشف مستقبلك؛ فقد انفتحت طاقة الكشف بين يديك، وها أنت تنسى العالم، وتتحد مع الصمت الذي تبثُه الكلمات الصاخبة، وتذوب بين أحضان الدفء البارد. وإن هذا بالضبط ما ينقصك ليسحَبَك الغد إلى شوارعه الصاخبة بمزابل الحياة، وليجعلك تنسى الشعرات البيضاء التي ما تني تظهر على فوديك، وتجعلَ نسمات الزمن تمرّ على خديك بطراوة من غير ما تشنجٍ أو قشعريرةٍ حادة. لقد أُعيد خلقُكَ، وارتدتْ لك الروح يوما آخر، فما عليك إلا أن تجترّ بعض طاقتي، وتتصرف من خلف ستار المرح الذي تمنحه سخرية الكلمات.
إن ما أملكُه، ولا أدري إن كنتَ قادراً على فهم هذا فإنه غاية في الصعوبة، ما أملكه هو النفاذية، القدرة على الاختراق، البعد، العمق الذي تخترقه نظراتي؛ فبينما تنزلقُ نظراتك أنت على سطح الأشياء من غير ما فهم لها تتغلغلُ نظراتي في الأشياء وتتجاوزها: إنها تقفُ خلفها وعلى قمتها وفوقها ومحيطة بها. إن العالم الذي أراه ليس عالمك بل هو عالم آخر، عالم حقيقي، ناصع الحقيقة، مبرأ من الحساسية، ومن التطريزات والتمظهرات الخارجية. وليس هذا معناه أنني لا أملكُ القدرة على رؤية الأشياء الأخرى؛ فأنا لست نوعا آخر عنك، إنني ما أزال بشريا، ولكنني امتدادك الذي تجاوزك بمراحل، ويقفُ سابقا عليك في الزمان؛ فكل ما تعرفه وتراه من هذه الأشياء الملقاة بعبث في هذا العالم أعرفُه أنا وأراه، لكني أتجاوزُك بالاحاطة والادراك وعمق الرؤية؛ فالأشياء بالنسبة لي هي أمرٌ آخرٌ عن أشيائك المَوات المدثّرة بالصمت وباللاشيء. فكل شيء عجائبي وينبع من مشكاة الفن، وإنك لا تستطيع مثلي أن تسمعَ تلك النغمة الواضحة التي تبثُها الأشياء؛ فأنت مغمور في ضوضاء الشوارع وأنّات الحياة، وإنْ تصعدْ قليلاً، قليلا فحسب، فسوف ترى من على القمة كيف تبدو كلُّ اشيائك تافهة وحقيرة وغاية في الضعة، لكنّ ذلك مستحيل؛ فأنت لا تستطيع أن تتجاوز المقام وتتعدى عتبة المشاع والعادي. وهذا ما يجعلك  مُقيدا بفرحك الصغير وبحزنك الصغير، بمشاعرك المتذبذبة التي لا يمكن أن تكبُرَ إلا لتصغرَ مرة أخرى وتقذفك في أشيائك الصغيرة التافهة. أنت تحزنُ لكنّ السماوات لا ترقص لحزنك، وتفرحُ فلا تتزلزل الأرض لفرحك؛ لأنه خارج حدود ذاتك فإنّ هذه الأمور تُعدُّ حوادثاً، أشياء عارضةً وذات محدودية بسيطة. إنها تفقدُ معناها حال الخروج عنك، فمن أين لك أن يسمعَك الآخرُ والأبواقُ صنعتُها محفوظة الحقوق لي، وهي رهن أناملي. أنا لا أنكر أنك تتألمُ، ولا أنكرُ أنك تفرح أيضا، وتغتبط بأشيائك الصغيرة، لكنّ هذا كل شيء، نقطة قاصمة، انتهى موضوعك: لن تُفرِح الآخرين، لن تجعلَهم يحزنون لحزنِك، فكيف ستوصِلُ مشاعرك وشجونك من غير ما أدوات؟ ومن أين ستكون الأدوات إلا من مصنعي أنا؟ ومن أين لي أن أمنحك أسرارها ما لم تقرأ لي؟ إنك بكلماتي تُضاعفُ محيط دائرتك، وتعلو على نفسك وتتوسع حياتك لتشمل حيوات أخرى غابرة وأخرى ما تزال في العدم، وترى نفسك بعد ذا عبر المرايا التي أُمرّرُها أمامك فتستطيع المقارنة وتتجمل وتتحسن وتنحو باتجاه الأحسن؛ فبالمقارنة مع أبطالي وقصصي فحسب تعرفُ أنك تافهٌ، وتعرفُ أن زوجتك غارقةٌ في التهافت، وأنك تحتاج الى حبيبة حقيقية: أنا أصنع لك المثالي، الحالم، البعيد، المطلق، الغاية في كل شيء، الذي يعرفُ كيف يجعل الحياة تسير رغم عثراتها، ويعرفُ كيف ينظّم الأمور رغم عشوائيتها. وما عليك بعد ذا إلا أن تتأفف من حياتك وتتضجر ممن حواليك فقد مَنَحَتْك الكلماتُ أصدقاءَ واعين ومرحين، وحبيبة لا تَمَل من التقبيل، وألواناً تُبهج العين، ونهايات سعيدة أو متحكمٍ فيها على أقل الظنون.
لقد سطّرتُ العديد من الصفحات ولا أحسبني بعدُ قلت شيئا؛ فأنا أريد شيئا معينا من هذا كله، إن لي غاية، أنا لا أعرفها تحديدا لكنْ مع هذا أتوهم أنني أعرف شيئا منها. دعني أخبرك الحقيقة: أنت تهمني، تهمني حقا؛ فأنت جزء مني، أأستطيع أن أعيش أنا بدونك؟ أن أُحقق مجدي المزعوم؟ من سيضخّم اسمي إن لم تكن أنت؟ من سيقرأني وينتفض سرورا ويُلقي بالأوراق رغبة في الرقص أو غضبا حين يكون ما أكتب مُغضِبا؟. لكنّك غافل عن هذا، وهذا الذي أود أن أقوله لك، غافل عن أهميتك  في صنعي. أرأيت؟ إنني طيب بعد كل شيء، ووادع القلب؛ فمصلحتك تهمني. وإني أُبصّرك حقوقك، ولك بعدها أن تقول: نعم، لقد عرفت ما تبغي، ولي أنا أن أحكم فيما أفعل، أو تقول أنا أعرف هذا من قبلُ ولم تأتِ بجديد. والأمران لديّ سيان، لكنني أحمل أمانة، حقا إنني أتكلم جدا، إنني أحمل أمانة الكلمات. فهل ترى من عبث أن أستطيع أنا استخدام هذه الأداة؟ وهل هي فقط عشوائية الكون التي تحرّكني؟ أو ليس من هدف؟ أو ليس من نظام يُحرّك كل هذا؟ ونعم، إنني أعرف أنك أيضا طيب القلب، ووادع السريرة ونقيها. أنا لا أختلف معك في هذا، وإنما فقط أود أن أُخبرك أنك غافل عن أصول هذه اللعبة، وغير مدرك ما آلت إليه بعد كثير لعب، ولا تعرف أين موقعك أنت من كل هذا؛ وهذا ما يجعلني راغبا أيما رغبة في إخبارك عن الشؤون التي تخصك في كتاباتي. وصدِّق أو لا تُصدِّق فأنا راغب في مزيد من المجد؛ فحين تكون أنت ذكيا، وواعيا، فهذا له معنى واحد فقط، أنني أعرف كيف أصنع قرّاء واعين، وأذكياء. لا أريد ان أكتسب أنا مجدي من غبائك، وقلة فهمك؛ فهذا شأن اللصوص الهواة الذي ينبنون من السقطات، إنما أنا محترف، وكلما كان ذكاؤك شديدا، وفطنتك نافذة، كان مجدي أنا مضاعفا. إن رقة القلب لا تنفي أن بيننا مصالح مشتركة، وإن مصالحنا المشتركة هذه لا تعني بالضرورة أن يستغل أحدنا الآخر من غير علم الآخر؛ فهل ثمة عالم بلا مصالح؟ لكن المصالح تظهر وتستتر، وتكون شيئا وتكون أشياء أخرى، لذا أرغب ان تشكّ في كل كلمة أقولها، وتحاول أن تدقق فيها، وتغربلها بغربال ذكائك؛ فأنا ذو هفوات، وإنما من خلال مسّك لهذه الهفوات، وإعلانها على الملأ أتطورُ أنا، وتزداد أسلحتي فتكا، وقدرتي مُضيّا. فأنا لا أرغب فيك خاملا، ولا مستقبلا عاما. وهكذا، أودّ فحسب أن أخبرك أنني راغب في التطور، لكنّ هذه الرغبة لا تتحقق وجودا إلا بك، وبتطورك معي. تصوّرْ أنني قلتُ كلاما كبيرا، كلاما عاقلا جدا، وعلى مستويات أعلى من مستواك، أتُراك تفهمها وتعقل ما فيها؟ فأين يضعني ذلك؟ في خانة من لا يُفهم، في خانة ذوي الأبراج العاجية. أنا لا أشكُ في قدرتي، وأنا أعرف أنني قلتُ كلاما جيدا، وقابلا لأن يزيد العالم أناقةً وجمالاً، وإلا فإن ذلك لا شك سيقرصُ كرامتي، وأعرف أن المشكلة في المعادلة هي في طرفك أنت، غير الموزون، لكنّني يجب بعد ذا أن أُقلّل من معياري، وأُنقِص من قيمة طرفي لكي يتناسب معك، أو أن تقوم أنت برفع معيارك وتزيد من قيمة طرفك حتى يتناسب معي، وأعرف أن ثمة حلول أخرى أيضا، فمثلا، أنا أستطيع أن أظل كاتبا لما أشتهي، وأنت تظلُ غير ما فاهم لما أقول، ولا راغب في ذلك، وأظل انا أضرب رأس الكلمات في السطور حتى يأتي من صُلبِك من يستطيع أن يُقدّر كلماتي حقّ قدرها، لكنني، أنذاك، سأكون قد مُتُّ وانتابني العدم، وأنا لا أريد أن يكرّموني بعد وفاتي؛ فإن هذا حق لي، وليس حقا للأجيال القادمة. تستفيدُ الأجيال القادمة، يدْعون لي، ينبُشون قبري ويحملون رفاتي، التي ستكون طاهرة حتما، إلى مقبرة أكثر بذخا، ويعتبرون تقديسي كرامةً وطنية، لِيفعلوا ما شاءوا؛ فأنا لا أكونُ بعدُ ملكي، بل أكون مُلكا مَشاعا. ولتُملِ عليهم أهواؤهم أي شيء، فمن ذا سيعارض؟ صحيح أنني أنتج هذا الشيء الذي تراه أنت في رداء الكلمات، وأنا لا أقول مطلقا أنه جاءني من الفضاء الخارجي، أو ثبّته داخلي أقوامٌ لا مرئيين؛ فأنا تسلسل مجتمعكم، وابنكم، ورهين حضارتكم، وقد اكون متجاوزا لكم في الزمان، لكنني ما أزال مشدودا لكم بخيط الحاضر حتى غاية موتي. ولا أريدُ أن تأتيَ هذه الغاية وأنا بعدُ مغمور في الشوارع المؤدية إلى النسيان، وفي الحانات المُعدَمة إلا من قليل ذوق. 
والحق أنك يجب أن تكون ذا كرامة بعد كل شيء؛ فلا تجعلْ الكتّاب يتقاذفونك هنا وهناك مثل لعبة نطاطة. واعلمْ أن أكثر ما يقولون تهويم وكلام لا يُقال إلا لملء ثقوبهم المهترئة. واعلم أنهم بعد أن يقولوا كلامهم الأوليّ، فإنهم يضيعون في الصنعة، وفي الكرامة المزعومة. ولن يُجديك شيئا أن يَبهُتَ نظرك في سواد مدادهم، وأن يضيع وقتك هباء في اللحاق بما يهرفون؛ فأنا منهم، وابن صنعتهم، وأنا إنما أتمرد عليهم من أجلك، حقا يجبُ أن اعترف هنا أنني أتمرد من أجل ذاتي، لكنّك مع هذا حائزٌ لا محالة على نصيب جيد. فليس معنى أن أقوم بخدمة ذاتي ومصالحي أنني لا أخدمك معي. وأنا بفعلي هذا التمرد إنما أزداد بهاءً وازداد غرورا؛ فإنني أجعلُ مني أكبر منهم، وأعلمَ منهم، وأفضل منهم، فأنا أُفضّلك عليهم لتفضلني عليهم، أرأيت؟ إن مصالحنا مشتركة، وأنت بحجبك الثقة عنهم إنما تزيد من ثقتك بي. واعلمْ أنهم حين يكتبون فلا شك تتداولهم رغباتهم التي قد تكون بعيدة كل البعد عنك، فلا تثق فيهم، ولا تطمئن لتصريحاتهم. واعلمْ أنهم مدّعون، فخذ ما يقولون مأخذ المُوسوِس الحذِر، والمتفضل الميسور، وانقصْ من ادعاءاتهم كيفما تشاء؛ فإنهم حين اكتشفوا فيك مُحبّا لما يقولون روّجوا اسمهم بك، واستغلوك لمزيد من الشهرة. وهم ليسوا بعد ذا مهتمين لأمرك، أو قلقين لهمّك، فبعدَ أن يُجمّدوا أحزانك وهمومك في الكلمات فإنهم ينصرفون عنك بكامل إرادتهم، ولربما نَسوك حتى اشعار آخر، حين يحتاجونك مرة أخرى للتمثيل بك، فإنهم، بعد كل شيء، لا بد أن يكتبوا عن هؤلاء البشر، وقد أغراهم النقاد بالقول أنهم لا بد أن يكتبوا عن همومك ومشاكلك حتى يتسنى أن يقول عنهم هؤلاء الأخيرون أنهم جيدون. فاحفظْ ذلك، وانظرْ فيما أنت فاعل؛ فإنني لا أستطيع بعدُ أن أساعدك علنا وإلا عُددتُ خائنا لهم. وإني خائنٌ لهم، لكنني لا أميلُ لتضخيم العنف إزاءهم، وإنما ألجأُ لهذا الحل السلمي الذي يجعل منك أنت محكّ الأحداث؛ فإنا حين اكتشفتُ مخاتلتهم وعنتهم وسوء نواياهم ركضتُ فارا إليك لأجعل منك خصمي وحكمي، وإلا ما الذي يجعلني اندلقُ لك بالأسرار وبخبايا صدور الكتاب. إنني، في النهاية، أفقدهم، لكنني مع هذا أحاولُ أن أكسبك في صفي. وعلى كلٍ فإنني أعترفُ مع هذا أن طبيعة الموضوع مُخاتلة بعض الشيء، وأن الأدب عموما صنعة من لا صنعة له، وأن معظم هؤلاء مُدّعون وهائمون ولا يفقهون من أمرهم شيئا. طبعا إني أَتركُ لك أن تحكم عليّ؛ فأنا، كونك أنت قارئا لي، أعرفُ مدى نباهتك وفطنتك. فلا يغرنّك قولهم أنهم إنما يضعون الكتابة مفتوحةً كيما تتمكنَ أنت من الإبحار في نهاياتك المقترحة. بمعنى آخر، إنهم يتخلون حتى عن واجبهم في الكتابة وإعطاء معنى لما يكتبون، ويشيعون أن هذا واجبك أنت أن تمنح لكلماتهم معنى، ولجملهم شيئا من العقل والعاطفة. وهم بهذا يصيبون متعة مضاعفة؛ فهم يُنقصون من وظائفهم، ويتهربون من معايير الجودة المُحكمة، فإن لم تفهمْ فهو بسبب غبائك، وإن لم تحسْ فهذا لأنك عديم الاحساس؛ فكل قيمة سالبة أو شك في الجودة يرجع إليك، وكل قيمة موجبة أو مديح يرجع إليهم. ولا يغرنّك ما يدّعون من اتقان الصنعة حين يحمّلون طاقة كلماتهم على اللاوعي الذي يبثونه حال سكرهم، فهم إنما يفعلون ذلك احتقارا لك، وغضا من قيمتك، فيكتبون ما يخطر في بالهم من تهويمات، ومن كلام مكرر ومعاد، ويذرفون كرامة الكلمات، ويدلقون بهجتها في الشوارع من غير ما حياء. وهم لو أنهم افتروا على الكلمات فإن ذلك لأمرٌ عظيم في ذاته، لكنّهم افتروا على الكلمات وعليك، ووازوك بالكلمات، ولم يفرّقوا بين الكلمات المُبرئَة من الآلام والأحزان وبينك الغارق في هذه الآلام والأحزان. فأصبحتْ عندهم عملية الكتابة هدفا ومقصدا بعد أن كانت أداة للوصول بك إلى شيء، ولا تغترّن بأقوالهم فهم حين لم يعرفوا ما يقولون، وبانتْ سوءاتهم انتفضوا يبحثون عن حيل جديدة لإيقاعك في شَرَكهم فاخترعوا موت الكاتب ليُدغدغوا مشاعرك، فتحسب أنك الحي الفاعل، وأنك المقصد والمبتغى، وهم ربما ابتدأوا هكذا، ظانين أنهم إنما يفعلون الأشيا
1 like ·   •  0 comments  •  flag
Share on Twitter
Published on October 29, 2010 09:28

حسين العبري's Blog

حسين العبري
حسين العبري isn't a Goodreads Author (yet), but they do have a blog, so here are some recent posts imported from their feed.
Follow حسين العبري's blog with rss.