تأملات عشواء في القنوات الإذاعية

لن يكون قولنا أننا مجبورن على سماع القنوات الإذاعية قولا خارجا عن نطاق المعقول؛ فكل من يملك سيارة، ولديه عمل صباحي يجبره على مغادرة فراشه الكسول، وعمله هذا بعيد نوعا ما عن مكان إقامته، فلا بد أن يقطع دابر الوقت بسماع الإذاعات التي يمكن التقاطها. ولذلك كانت هذه التأملات العشواء التي لا تريد أن تقول شيئا بل تقذف في الهواء ببعض ملاحظات عمياء:

الحرج الديني:

في الإذاعات المحلية يبدأ البث بالنشيد الوطني وتتلوه تلاوة القرآن. بعد التلاوة يقع الحرج، فإنه من غير اللائق أن تُتبع التلاوة بسيل الأغاني مباشرة؛ ففي العقل الجمعي لدينا فإن الأغاني ليست مما يتجانس مع التلاوة، ومع الدين عموما. وإذاً كان لا بد من فاصل يُسهِّل على نفسيات المستمعين تقبل الأغاني القادمة. وطبعا فإن الأمر بسيط في الإذاعات العامة لأنه يمكن بكل بساطة وضع برنامج عام، والأغاني ليست لازمة مهمة للصباح، بينما تقع الأزمة في الإذاعات الغنائية.

ولكن أزمة الابتداء هذه محلولة أصلا لأن معظم القنوات الغنائية مستمرة بلا انقطاع، فلا داعي أصلا لبداية بث، لكنْ تظهر مشكلة أخرى متكررة هذه المرة، وهي الأذانات. إذاعة أف أم عمان الإنجليزية حلت المسألة بأن لا تكون هناك إعلانات للآذانات، وقطعت بالتالي المشكلة من جذورها. إذاعة الشباب، وهي سليلة للإذاعة العامة، لم تجد مخرجها من هذا الحرج، وبالتالي قررت أن تبث في فترة الآذان فاصلا من الأصوات العامة التي هي ليست بموسيقى، بل شيئا من خرير ماء وأزيز فراشات ورفرفة حشرات، ومؤخرا استغلت الوقت الفاصل في الإخبار عن الترددات المختلفة للقناة داخل عمان. هلا أف أم حلّتْ هذا الحرج بأن عمدت إلى قطع الأغاني في وقت الآذان واستبدالها بأناشيد إسلامية، بينما رأت إذاعة الوصال أن تستبدل الأغاني العامة بأغاني "إسلامية". وطبعا يبدو التحرج من بث الأغاني واضحا أكثر في شهر رمضان إذ تنقلب الأغاني في هلا أف أم إلى أناشيد طوال البث النهاري لتحل محلها الأغاني في فترة الإفطار الليلية. والسؤال الذي يستتبع هذه الأفعال جميعها هو: هل يتحرج مسيروا البرامج في إذاعتنا من الأغاني؟ وهل يعدونها حراما او متنافية مع الدين؟ فإن كانوا كذلك، فلماذا إذا يقومون ببثها أصلا؟

اللغة والسياق:

قامت إذاعاتا هلا أف أم والوصال منذ بدايتهما بكسر تلك الرنة الجادة في الإذاعات التي كانت قائمة في السلطنة قبلهما بحيث أنه بدا أحيانا أن الحديث بين المذيعين، أو بين المذيع والمتصل في البرامج التفاعلية، ضربٌ من تبادل الأحاديث العامة في مقهى. ووصل الأمر حسب ما أذكر في بداية "الوصال" أن تعدّت تلك الرنة غير الجادة إلى نوع من الغزل الصريح والمبطن في أحد البرامج الأولى في الوصال. وبدا أن الأمر أحيانا يدخل إلى الإسفاف، لكن تلك الرنة المسفة تراجعت بعد ذلك لنوع مقبول من الكلام العام العائم. المشكلة تبدّت مع إذاعة الشباب الحكومية من حيث اللغة، فمع نجاح الإذاعات المنافسة في اجتذاب أعداد أكبر من المتابعين كان لا بد من عملية كسر الرنة لتبدو أقل جدية وأكثر "شبابية" ( طبعا ليس هذا جيدا أو سيئا في حد ذاته). لكنه أحيانا ما يبدو ما يُعلَن ويُقال غريبا ( على أقل تعبير)، فإذاعة الأف أم الإنجليزية الحكومية تسأل أسئلة أكثر عن بريطانيا وأمريكا وجغرافيتهما وتاريخهما مما تسأله عن عمان (أتمنى أن أكون خاطئا في هذا)، بينما تسف إذاعة هاي إسفافا ظاهرا بأن تسأل أسئلة غاية في الرعونة من قبيل : 38% من الرجال يفعلون ماذا قبل خروجهم من البيت؟ ولنا أن نتساءل أية إحصائيات ودراسات هذه التي تنشر مثل هذا؟ ولماذا يصر المذيعون في الإذاعة على إقحامها دائما؟ وبينما تحاول إذاعة الشباب الموازنة بين متطلبات الشارع في إنقاص حدة اللغة ورتابتها وتقريبها من الجمهور، فإن الوصال تعتمد طريقة "سَكِّنْ تسلم" في قراءة الأخبار (وبالطبع فإنهم يقعون في أخطاء نحوية هائلة عند التعبير عن الأرقام، فيجرون ويرفعون حسب لحن الكلمة من غير ما دقة في اللغة)، ولا يتحرج المذيعون من أن ينطقوا أسماء المدن العمانية والقبائل والشخصيات العمانية السياسية بشكل خاطيء في نشرات الأخبار السريعة المصحوبة بالموسيقي الصاخبة، أما حين الكلام في البرامج العائمة والعابرة والتفاعيلة فإنهم حتى لا يتكلمون العربية المبسطة، ولا العمانية الدارجة، بل ينتقلون للكلام باللهجة اللبنانية!

الوصلات بين البرامج والإعلانات

الحق انه يجب على المعلنين أن يتوقفوا عن إعطاء الإذاعات أو الشركات الخاصة تفصيل وإخراج إعلاناتهم فهي مدعاة للشفقة والسخرية وأخذا بالمنطق الذي أقيمت مفاهيم الإعلانات على قاعدته، فإن هذه الإعلانات تروج لنبذ البضاعة المُعلّن عنها ومجها. ومعظم الإعلانات التجارية تحتوي على تمثيل رديء وإخراج مشوه. الآن ظهرت موجة غريبة من إيجاد إعلانات تروج للقناة حسب ما يدعيه "الموتو" المميز: قناة الوصال تدعي أنها الأولى، وقناة هلا تقول أنها مزاجك بالعربي، وكل ذلك مقبول، لكنهم من منطق أن قناة أغاني يجب أن يُروّج لها بأغنية أو بوصلة غنائية، فإنهم يقحمون بين فترة وأخرى مقاطع غنائية تُعلن لك أن هلا هي مزاجك بالعربي وأشياء من هذا القبيل. إذاعة الشباب معتليةً ذات الموجة، بدأت منذ زمن هي الأخرى، بغناء "موتوها" المميز: "أكثر بكثير من مجر أثير". بدايةً اختيار هذا الموتو غير موفق تماما من ناحية المنطق، فأنت عادة ما تمدح الشيء بقولك: "هو أكثر من شيء جيد" لا أكثر من العادي. بمعنى لو قيل أن الإذاعة أكثر من مجرد إذاعة جيدة، أو أكثر من الإذاعة الأولى، فقد يكون ذلك معقولا، وإن لم يكن صحيحا، أما أن يُقال أن الإذاعة هذه أكثر من مجرد أثير، ففي رأيي أن الأمر بحاجة إلى إعادة نظر. وبعيدا عن المنطق، فإن هذا الموتو ليس قابلا للغناء، وهم يصرون مرة بعد أخرى على غنائه فيأتي غناؤه نشازا كل مرة. الأدهى أنهم لم ينتبهوا لنشاز الرنة في غناء الموتو بل إنهم بدأوا في إذاعة وصلات غنائية للبرامج الأخرى، متناسين أن المؤدين والمؤديات لا يمتكلون أحيانا الصوت الجميل ولا الأداء المميز، ومتناسين أيضا أنه ليست كل الكلمات قابلة للتغني.

 •  0 comments  •  flag
Share on Twitter
Published on March 15, 2010 01:24
No comments have been added yet.


حسين العبري's Blog

حسين العبري
حسين العبري isn't a Goodreads Author (yet), but they do have a blog, so here are some recent posts imported from their feed.
Follow حسين العبري's blog with rss.