إسلام عشري's Blog: litfreak1234.wordpress, page 5

February 10, 2019

أرنوست لوستيج- صور الراحلين خاصتنا

ليس لأحبائنا المغادرين أي قبور. فإن أرواحهم ترقد في ذاكرتنا؛ لأن أفكار من يحيا بالفعل قد تشتتت أدراج الريح. إنهم من يشغلون عقولنا، من نراهم في أحلامنا وكوابيسنا كذلك.


وهذا أيضاً هو ما نراه في الصور التي التقطها أحدنا، يوري دوجك، الذي قام لذلك بترك سلوفاكيا، والذهاب بقدر ما يستطيع، على طول الطريق إلى كندا وعاد فقط مؤخرا لالتقاط وجوه أولئك الذين نجوا وما تبقى -أو على الأقل آثار- ما كان في السابق.


لم يعد الكثير؛ فقط صدى يتلاشى تدريجيا. مثل تجاعيد بوجه، وجه مجعد من الغم والقلق والمعاناة.


كل تجعد وكل تغضن في هذا الوجه يتحدث عن صراع، عن الظلم فوق العادي. كل تجعد يجسد مصير واحد من هؤلاء الذين عادوا، لأنه قتل شخص آخر بدلا منهم، والذين رغما من أنفسهم، يجب أن يتحدثون عما لا يقدرون عن قوله.


هل سبق لك أن رأيت كتاب صلاة قديم قد نجا من طوفان، وصفحاته في وقت لاحق في أوقات أفضل نشفت من الشمس؟ هل سبق لك أن حاولت فك صلاة عبرانية أو لاتينية بحبر أسود قد لفحته حرارة السنين المارة وهي مخبئة لأسرار الدمار بعد الحرب؟


هل شاهدت شواهد القبور مكسرة، ومبعثرة في مقابر يهودية تميل نحو الشمس المشرقة أو الآفلة؟ وهل رأيت الثغرات المحدثة بشواهد القبور التي اغتصبها الجشع، الطائشون وغير المبالين، الذين لا يفهمون معانى كلمات مثل الاحترام والتقوى والاعتبار للموتى؟


هل رأيتم معابد يهودية في خرائب؟ وقد تحولت الأماكن المقدسة إلى مستودعات للقمامة، وحطام، و قد ولى حزن الجمال والنعمة الماضيين؟ هل رأيتهم إياها متضخمة من الأعشاب والحشائش ويغطيها ضباب من الغبار المتعفن؟


إن سلوفاكيا أرض جميلة، وبعض سكانها، أولئك الذين يجسدون روح البلد، قد وصلوا إلى أعلى المثل العليا التي يمكن أن يتطلع إليها الإنسان. ومع ذلك، وكما هو الحال في كل مكان آخر ستجد أيضًا أشخاصًا جشعين هنا، وفي حالة مقابر اليهود لا يتردد البعض -حرفيًا- في المشي فوق الجثث. إنها رحلة طويلة من عدم الإحساس إلى المزيد من القسوة. التصوير في هذه الصور تفوق الاحتمال.


ما الذي يخجل منه من نجوا من القتل الجماعي للحرب العالمية الثانية ؟ كم عددهم هناك؟ وأين هم؟


تقول لنا الإحصائيات أن ما بين ستة وسبعة ملايين يهودي لقوا حتفهم في الحرب العالمية الثانية، بما في ذلك أولئك الذين اعتبرهم النازيون يهوداً بأيديولوجيتهم العنصرية المنحرفة. لم يعد أحد يحسب أولئك الذين نجوا لأنهم يعيشون في جميع أنحاء العالم كما عاشوا كذلك في أماكن ولادتهم.


وبالكاد قد يتفهم أي شخص ما عانوه، ربما لأن هناك أشياء وأحداث وخبرات لا يمكن  إيصالها.


وحتى صورهم، التي تم التقاطها من خلال عدسة المايسترو، لا يمكنها سوى التواصل مع جزء صغير من الكل. ولكن في هذا الجزء يتجسد كل شيء. وعلينا الاعتماد على قوة خيالنا لملء الفراغات.


يمكننا أن نتصور فقط ما هي الأسرار المخبأة في وجوه كل واحد منهم، من هؤلاء الرجال والنساء، حالما اقترب الأطفال والشبان من البوابات على الجانب البعيد، حاملين علامات في سنوات متقدمة من التجاعيد والشعر الرمادي ومرض الشيخوخة. تعبيراتهم عن أناس يعرفون بالفعل.


وهكذا تحولت أنقاض المقابر اليهودية وصوراً لحفنة من الذين نجوا إلى أماكن راحة تذكرنا بأولئك الذين ماتوا، المعروفون وغير المعروفين . بآبائنا وأمهاتنا وأخواتنا وأشقائنا، الذين قضوا نحبهم وهم أبرياء.


 


 


براج- 2008


أرنوست لوستينج


[image error]

 •  0 comments  •  flag
Share on Twitter
Published on February 10, 2019 22:12

عصيان الأرانب السحرية- آريل دورفمان

 


 


بعدما غزت الذئاب أرض الأرانب أول شيء فعله قائد القطيع نصب نفسه ملكا. ثاني شيء أعلن أن تواجد الأرانب مصيره إلى زوال.. من الآن وإلى الأبد ممنوع تداول أسمائهم. ولأجل أن يأمن جانبه، ملك الذئاب الجديد مضى إلى كل كِتاب يعرفه وبقلم رصاص كبير شطب على الكلمات، ومزق الصور الخاصة بكائنات الذيول الزغبة تلك حتى اطمأن أنه لا يوجد أي أثر يقفى لأعدائه باقيا. بيد أن ثعلبا رماديا كالحا مسنا والذي صادف أن يكون مستشاره جلب له أخبارا سيئة.


“الطيور.. سيدي المذئب، أصروا أنهم رأوا بأم أعينهم بعض من.. بعض من.. تلكم المخلوقات، من الأعلى”


“كيف ذلك، أنا لم أبصر شيء من هنا، من عرشي!” قالها الذئب.


“بأوقات سيئة كهذه” صرح الثعلب “الناس تجب أن ترى بأعينها لتتأكد!”


“أتساوي الرؤية بالاعتقاد؟ هات القرد الذي أخذ الصور، ذلك الذي يعيش بالجوار، سأعلم ذينك الطيور درسا” كان القرد هرما وضعيفا.


“ماذا يريد الذئب ابن الذئاب هذا مني؟” تساءل وهو يلتفت لزوجته وابنته..


الابنة الصغيرة كان لديها الاجابة  ” أكيد يريد أخذ صور للأرانب.. أبي”


الأم “اسكتي.. اسكتي.. الأرانب ليس لها وجود”


كانت القردة الصغيرة موقنة بوجود الأرانب بقرارة نفسها، فمنذ غزت الذئاب العاوية بلدتها والأرانب لم يعدوا يزورونها كما كان يحدث قبلا. لكن بأحلامها أكملت سماع المطر الأخضر لأصواتهم يغنون بالجوار وانعكست برأسها، مثل بحيرة صغيرة تحت ضوء القمر. وعندما كانت تستيقظ، كان يوجد دائما هدية  صغيرة لها أسفل سريرها. كان اختراق الحوائط والأبواب المستعصية  مثل الماء للأرانب.


“لهذا السبب أنا أنام جيدا..” قالتها البنت وأتبعت “ولهذا السبب كذلك الملك الذئب طلب الصورة، لكي يبعد الكوابيس عنا… أبي، إنك ستجلب لي صورة لهم يوما ما، أليس كذلك؟”


شعر القرد برعشة تزحف صعودا وهبوطا لفروته “خذي الفتاة لغرفتها” قالها لزوجته “.. حتى تعي أنه هنالك أشياء بعينها لا يجب التحدث عنها”


لم يكن ملك الذئاب في أحسن حالاته المزاجية حينما قدم له القرد.


“متأخر.. وأنا في عجلة.. أريد صورا لكل حدث مهم في حياتي..كل شيء أفعله، دعني أخبرك بنفسي عن أشيائي الأكثر أهمية.. هل يمكنك تخمين ماذا سنفعل بتلك الصور؟ لن تخمن؟ سوف نضع واحدة بكل شارع، بكل أجمة، بل كل بيت.. سأكون وقتها موجودا أرى كل مواطن بعيني الخاصة. من الأفضل لك ألا تنتهي هذه المشاهد من حياتي معلقة على صدور حوائطهم.. أتعلم أيضا من سيوزع هذه الصور؟ لن تخمن أيضا؟..”


كان القرد يرتعد لدرجة أن الكلمات لم تخرج منه “الطيور.. والقرود القبيحة” بعد الآن سيقرضون منقاريهم قبل أن يدسوها ويتواتروا الأخبار غير المعقولة عن الأرانب، وإلا سأعلقهم جميعا بسلبة لا تنتهي بحيث لا يمكنهم الهرب، أتفهم؟”


وعى القرد جيدا حتى أن قبضته المرتعشة ضغطت درفة الكاميرا ملتقطا أول صورة.


“امض” زمجر الذئب “وحمضها، أريدها على كل جدار بالمملكة”


لكن المصور آب بعدها بدقائق، لم يجرؤ على دخول الغرفة الملكية، وسأل الحراس جلب مستشاره دون أي كلمة. مرر له الصورة التي التقطها للتو.


رمش الثعلب مرة، ثم رمش ثانية.. بركن الصورة بعيدا عن الضلع، صورة وحشية للملك الذي-كانت يداه مرفوعتين عاليا في الهواء كما لو كان قد فاز ببطولة ملاكمة- ظهر دون جهد دونما أذنه بالصورة، بينما أذن أحدهم متطرقة لسماع كل المحادثة.


“يا قرد يا أعمى” نهره بوجهه الثعلب “كيف لك ألا تلاحظ شيء مثل هذا.. عميت عن هذا الشيء!.. ألا تعرف كيف تتحكم بهذه الكاميرا؟”


“بشأن الصورة” أجابه القرد “ذلك بسببك أنت وحرسك لم أتمكن من الاقتراب كفاية”


“لن يحدث ذلك مجددا..أعدك” أتبع “امسح تلك ال.. أُذن، قبل أن يكتشف سيدنا المذئب”


من شنطته، أخرج القرد سائلا خاصا يستخدم لازالة أية تفاصيلة زائدة قد تزعج عميله. بدأت أذن الدخيل في الاختفاء كما أنها لم تكن.  وسعد ملك الذئاب بالبورتريه وأمر بطباعته بكافة أرجاء المملكة. بساعتين بعدها ذهب بنفسه بحملة تفتيش ليتأكد أنه لا توجد نافذة لا تلتمع عليها أنيابه اللامعة الكبيرة الخطرة.


“ليس سيئا” قالها لنفسه “لكن الصورة عفا عليها الزمن. الناس تريد رؤية آخر أعمالي. خذ لي أخرى.. بسرعة.. اظهرني أخيف تلك الحمامات وأٌبعِدها بعيدا.. واجلبها لي حالا.. آخر مرة انتظرت عُمْراَ”


لم يقوَ القرد على الممانعة هذه المرة أيضا.. بمجرد ما فعل استدعاه المستشار مرة مجددا “ثانية.. حدث نفس الشيء” غير أن هذه المرة كان الوضع أسوأ من أذن دخيلة.. ركن كامل من الصورة الجديدة امتلأ عن آخره بوجه لا تخطؤه العين ل.. نعم لا حاجة لإنكار ذلك.. لأرنب يغمز بعينه في تحدٍ سافر للحراس المجاورة”


“لابد من مضاعفة الحراسة” تمتم الثعلب “لحين حدوث ذلك امحِ صورة هذا الغازي”


“عظيمة” هكذا صاح الملك الذئب بعدما حصل على صورته “انظر بوجوه تلكم الحمامات الخائفة وهن يحاولن الهرب.. أريد منها مليون نسخة. أريدها على عبوات البن والكوبونات داخل الحبوب الغذائية.. هلم.. هيا بنا.. نحطم لنا سدا.. يالا أيا قرد.. المجد في انتظارنا”


كان القنادس يعملون طيلة صيف وشتاء لمدة ثلاث سنوات على سدهم الرائع فقط ليسمح لهم بري الوادي البعيد. بينما تسلق ملك الذئاب شجرة “أيها القرد. أريد منك التقاط اللحظة المناسبة عندما قدمي تندفع بقلب السد.. لو فوتت اللقطة، المرة القادمة، سأقع فوقك سأجلب لنفسي مصورا جديدا.. آمستعد ؟”


لم يكن القرد فقط بدوره مستعدا، كذلك كان المستشار، الذي كان يتنفس بظهر القرد مشرئبا فوق كتفه، يسمع ويرى، لا شيء يمكنه الفكاك من تلك العيون الثاقبة المخيفة، حتى أن أذنا زغبة لن تقدر على الظهور.


لذلك لا القرد ولا الثعلب صدقا أعينهم، بعدما رأوا بقلب الصورة أرنبا مقلوبا على جنبه كما لو كان مسترخيا برحلة خلوية. بجواره أرنبة أخرى رفعت قبضتها، وتضع إبهامها بفتحة أنفها.


الثعلب “هذا وباء”.. “دعني أخبرك أن حياتنا أصبحت بخطر”


“هيا نبدأ بالإزالة” قالها للقرد غير واعٍ.


“أنت امح.. وأنا سوف أدعو فرقة من الصقور والنسور التي سترى هذه الحيوانات مهما بلغت درجة سرعتها أو ضآلتها”


طار ملكه الذئبي المفدى من السعادة عندما رأى الصورة، صورته بلحظة ما كان يكسر حجر أساس سد القنادس على مقربة، كان يمكن رؤية عائلات من القنادس يفرون، لم يكن بقربهم ظل واحد لأرنب.


“ابعثها الآن! دولة قوية دولة متعلمة، دولة أذنها مواكبة لأحدث الأخبار.. والآن ما نفعله الآن لنحصل على مزيد المتعة؟”


“نستطيع أن نرتاح قليلا” اقترح عليه القرد، بقبضاته المقشرة من سائل الإزالة الحارق.


الذئب نظر نحوه كما صخرة “ومن طلب رأيك أصلا.. أنا المسئول هنا.. ها لهذا السبب ولدت بهذه الأسنان، خير لك أن تصلي لكي لا تشعر بهم وهي تقرقش عظامك.. هيا نحن المستقبل والغد والفجر! سنمضي بعيدا لأبعد نقطة ضوء..”


ولكن بكل صورة جديدة، تصير الأرانب أكثر غزارة وجرأة، وقليلة الحياء. جلالة الملك المذئب دمر طواحين السكر، طرد السناجب من أشجارها وأخفى عنهم بندقها، نتف ريش البط، وساق الخراف عن السهل، نقب الحفر في الطريق لكي يكسر أرجل الخيل. شيد أقفاصا جديدة، وزنزانات مظلمة… وكلما رفَّت عينه الصفراء المخيفة كلما زادت أعداد الأرانب من كل لون والتي استشرت بأحشاء الصور. حتى السحب بدت منتفخة بالفراء، والشوارب والذيول القطنية..


“يا طائري الصغير” ساخرا الملك الهائل ممسكا بسنونو كان على وشك الطيران بحقيبة ملآنة بالصور “..


“ما النغمة التي ستغنيها الآن أيها الرأس الفارغ؟ من هو الذي في قلب الصورة.. هاه.. من الملك؟”


أدخل الطائر جناحيه لداخله بإحكام حتى لا تند عنه صأصأة بالخطأ “النور.. الكاميرا.. حركة.. حركة.. القرد!” طلب الرايخ الحاكم  “ادعُ ذلك.. اكتب.. أرِّخ ذلك: الملك الذئب يأخذ الطاعة من رسول”


أطاع القرد خانعا، لكنه لم يخفي قنوطه. حيث لا أحد شاهد التمردات حيث تأخذ هذه الصور، كانوا دائما هناك يقطمون الخس، لحين الحاجة لظهورهم منذ قدم زعيم وكبير الذئاب..


“اقضوا عليهم” همسَّ الثعلب، والذي أمر بمزيد من السائل الحمضي المركز “لا تترك أثرا لأنف”  لكن ضوت الصور معيبة، وبها مساحات فارغة بكل أنحائها. عرف القرد أن الحل الوحيد هو بإقناع الملك المذئب بأن يجلس لعرشه العالي.. ظنا بأن الأرانب تحيا تحت الأرض فلن يكونوا قادرين على إيجاد طريقهم لإطار الصورة.


الملك لحسن الحظ، بش وجهه لهذه الفكرة “سوف أبدو مثيرا للإعجاب فوقه.. وبنفس الوقت أستطيع أن أبقى عينا على تلك الطيور. ستكون مفاجأة رائعة للمخلوقات بأن يصطبحوا بصورتي الجديدة بإفطارهم.. قرد..هل تسمعني؟”


عندما برح القرد المنهك من عمله، جر نفسه للمنزل، شعر بأصابعه تؤلمه من السائل السيئ، حتى أن آخر صورة بيضها للملك أمام باب منزله, لم يكن الحارس قد فارقه حتى هذه اللحظة “لا داعٍ للفزع سيدي القرد” وقهقه “إجراء روتيني احترازي لمعرفة لو أن أحدهم قد تصل يده لصور سعادته الذئبية”


ألقى القرد نفسه للداخل: “ابنتنا؟ هل هي بخير؟ هل قالت شيئا؟”


“أنا بخير..أبي” قالت الفتاة الصغيرة.


“الذئاب مضت، أليس كذلك؟ وأنت أكيد جلبت لي صورة خاصة.. أنت تعرف لمن، الصورة التي طلبتها منك؟”


شعر القرد أنه ابنعث من الجدران الأربع، من بين الأربع صور المعلقة عليها، ثماني أعين لكبير الذئاب تحدق بكل كلمة قد يلفظها.


“دعي أباكِ يرتاح” قالتها الأم “الصور الوحيدة التي التقطها هي الصور التي وضعتها على الحائط في البيت مثل المواطنون الصالحون” لكن بالنهار القريب استقيظ القرد على قبلة من الصغيرة التي قربت شفتيها من أذنه وهمست بشيء ما بنعومة بحيث هو فقط من يمكنه سماعها “شكرا.. إنها أفضل هدية جلبتها لي. أنت أب سحري”


“شكرا؟ شكرا على ماذا؟” بتلقائية أدارت وجهها للحائط حيث تقبع صورة الملك الذئب, فتح أبوها عينيه على سعتها، وبأحد أركان تلك الصورة مثل الشمس الشارقة فوق الجبال، بلمحة فقط بخطوة فقط بظهورها التدريجي، والآن البزوغ الواضح.. زوج من.. نعم.. زوج من.. النواعم، الزهرية، أذنان مدببتان!


قفز القرد من سريره. يبدو أن السائل الذي وضعه لم يعد يعمل. الأرانب وجب عليها أن تتسلل طيلة الليل إلى الصور ولكن لطريقة ما نجحوا.


نطقت الفتاة أخيرا “أظنهم علموا أني كنت خائفة”.. “وأتوا يروني وأنا نائمة”


لبس والدها ملابسه بوقت أقل مما تأخذه رعشة لتمر بعموده الفقري وطار إلى القصر دون إفطار. هل حدث ذلك فقط في منزله أم أن نفس الغزو يحدث بكل أرجاء المملكة؟ لو حدث. ماذا يفعل لإزالة الأرانب من كل هذه الصور الملصقة؟


كان جلالة الملك مازال يغط في النوم، لكن كان مستشاره بالفعل يفرك ويعض ذيله “إنه طاعون” قالها “لحسن الحظ الأمور تحت السيطرة.. الصور المسيئة بالفعل أحرقت.. أما بشأنك.”


“أقسم أنه..”


“ولا كلمة أريدها منك”..” لحظِّك أن تلك الكائنات غير موجودة بالفعل. تخيل مدى الضرر التي ممكن أن تلحق لو كانت موجودة.. لنكف عن الكلام.. الذي نحتاجه هو صورة جديدة لاستبدال كل الصور التي احتلت”


هرعوا إلى العرش الجديد والذي وضع على أربع قوائم خشبية بعيدا عن أيدي الفيروس الجديد للآذان الشريرة..


“أنا أريد لقطتين”. طلب جلالته “واحدة لي مستندا على العرش وأخرى أجلس عليه، مستمتعا بالهواء الطلق وأرسلهم للخارج أيضا من أجل تلك الصحف الأجنبية كي يتوقفوا عن مهاجمتي”


بهذه المرة، لم يكن بالصور الناتجة أي مشكلة، لم يكن بها سوى جزرة كرمز الأرانب..


“ألم أقل لك؟ ألم أخبرك أنه ليس لهم وجود؟” كان المستشار غبطا “لعله أمرا ما وأنت تقرب بالعدسة”


لعدة أيام تالية لم يعد هنالك المزيد من المفأجات غير السارة. شعر ملك الذئاب بالسعادة تحلق فوق رؤوس مريديه. ترك ملازميه يرون الأشياء، بينما توقف هو ليتموضع لأخذ الصور، وإصدار الأوامر وإيصال الخطب وتشريع القوانين. تفحص اللقطات بعناية بالغة ورغم ذلك صاح “مبروك” أصبحت أكثر دقة.. قرد. يبدو أنك ستشق طريقك فقط بمجاورتي. لم أعد أرى الآن تلك البقع الباهتة التي أتلفت صوري الأولى”


لكن بالصباح، يتقظ القرد على صوت ابنته “إنهم عادوا.. أبي” همست بأذنه “الصور التي التقطها من المؤكد أنها سحرية!”


بإحدى تلك الصور، عند القدم العالية للعرش، جيش صغير من الأرانب كانوا يقرضون ويمضغون وينشرون قطع الخشب، يعملون ببطء وبجد، توقفوا عن العمل الآن ولوحوا للمشاهدين. كان المستشار ينتظر.. بينما القرد أمكنه رؤيته وهو ينتفش وينقبض كما سرب من النحل.


“كم العدد هذه المرة” سأل القرد، الثعلب قاطبا “تم التخلص من الصور.. لكن الطيور وصل لهم ريحا بما حدث والآن يخبرون كل شخص أن تلك.. الكائنات البشعة موجودة”


“نيافة المذئب بدأ يشك بشيء” ” لماذا هذه الطيور سعيدة وتصوصو” يسألني، أجبته إنهم حزمة من العقول الفارغة، المملؤة بالهواء الساخن.


القرد “وماذا كانت إجابته؟”


قال الملك بأن المنطاد ملآن بالهواء الساخن أيضا ولكن بأي لحظة ممكن أن تفرقع. لو أنهم لم يلتزموا الصمت، سوف يجعلهم يختفون. نبه المستشار عن فكرة أخرى:سوف يعقد تسجيلا من الذئب لكل الذئاب  لأحد الخطب الحديثة حول رقاب العصافير. فقط لن يحملوا صور الملك بل سيحملون أقواله عبر كل المملكة، ولا أحد سيسمع بعد الآن أي من أغانيهم.


“السمع هو التصديق” هكذا قال جلالة الذئب “سوف نعطيهمن روح التراتيل، وروح المارشات العسكرية، بضع دروس في التاريخ، الاقتصاد، وبالطبع الأخلاق”


أصبحت حياة القرد العجوز لا تطاق. ليس فقط من جهة البومات النافقة الخاصه بالملك وجوقته من الوحوش المحاربة الذي قد يوقف الظهور الخجول في الصورة القادمة، لأذن فضولية، أو زوج من الآذان الفرائية أو بعض الشوارب البيضاء أو بضعة من الغوغاء الجائعه تقضم أجزاء من أرجل الكرسي الملكي.


أبدل الثعلب رئيس الحرس الملكي بأفعى من نوع البواء جلبت مباشرة من غابة بدولة مجاورة. وضع أيضا عناكب بمئة عين في الاماكن الاستراتيجية  بكل الغرف الذئبية. بيوم واحد نصف السكان أمروا بأن يحلقوا فرائهم اللامع كيلا يختبأ بداخله جاسوس ما.


عاقب البقرات، متسببا في إطلاقهم خوارات معادية، أمر بأن يصادر لبنهم الخاص وأخيرا أزاد طبقة صوت الملك فى النشرات. ولكن رغم تلك الجهود بدا صوت فى الظهور مواظبا، مشاغبا، فرحا. بينما نخر آلاف الأسنان الصغيرة  تلتمع تحت العاصفة الجارفة.


شعر القرد بدوار.. كان النسق الممتد يخبل .خلال الليل أرجل الكرسي الملكي كانت ستشق فى دقيقة، كانت تقطم على مضض، بواسطة لاحمي الخشب من الذين كانوا يفضلون تقسيم الكرسي أجزاءا. اضطر القرد للاعتماد على بعض الخدع الفوتوغرافية ومثل المسح الآن القص بالمقص لإخفاء الآذان لتبدو مثل الظلال، والظلال لكي تبدو مثل الجرائد. حتى أنه بدا يستخدم بورتريهات قديمه للملك بمحاوله تعديلها لتبدو مثل الحديثة.


حتى ليلة، كان ذلك متاخرا. استيقظ القرد العجوز على يد غامضة أفزعته من نعاسه. كان ذلك المستشار يطوق جناحه بحراسه شرسة من الجنود، أرسلها الملك الذئب لأجله.


استيقظ المنزل بأكمله  الآن. الطفلة الصغيرة شاهدت أباها يلبس هدومه.


“قلي مرحبا بجنابه المثعلب” قالها القرد.


“أبي” قالتها، وعمت الدهشة لأنها لم تتحدث كعادتها بصوت منخفض، بصوت خائف مجددا حتى ولو كانت هناك جنود مسلحة غير موجودة.


“اليوم أنت سوف تحضر لي الصورة التي طلبتها منك”


“آه الصورة” أبدى المستشار اهتمام “صورة لأي شيء.. لأي شيء؟”


أتبعت الطفلة متجاهلة إياه: اليوم سوف تجلب لي صورة للأرانب.. صحيح أبي.. لأجل حائطي”


مست القردة الأم جبهة الفتاة كما لو انتباها حمى “ألم يخبرك والدك أن الأرانب ليس لها وجود؟  ألم نغلق عليك غرفتك وأنت بها من أجل إخبارك الكذب؟”

“إنهم حقيقة.” قالت “كل شخص يعرف أنهم حقيقة”


“كما توقعت” قالها المستشار.


“هيا بنا”


كان فخامة الذئب  ينتظرهم فوق كرسيه المالك، حول كل قدم مائة من الحراس والثعابين يحرسونه.


“أيها القرد.. إنك خائن!” أبرق له الملك.


“استخدمت صورك بواسطة أشخاص قالوا أن مخلوقات غريبة وخبيثة -والتي هي غير موجودة بالمرة كما يعرف الجميع- تحرض هذه الليلة لقلب نظام حكمي.. يقولون أن كرسيَّ يهتز وأن نسلي سوف يزول. هل لديك دليلا على أن عرشي يهتز؟ من يجرؤ على قول ذلك؟ وأنا أقصفه مثل مائة طائرة مقاتلة في الهواء؟”


“سوف نبدأ لأن نسجل لهذا الصوت..  وأنت أيها القرد.. سوف تساعدني في إخماد هذه الشائعات. اللمس هو الاعتقداد. ستجعلني أقف بزاوية واسعة، بصورة ثلاثية الأبعاد ستغطي كل الحوائط بالألوان، لأني فيها سأتوج نفسي إمبراطور للذئاب.. المذئب الأعظم. ولو أن أرنبا مهوشا أظهر خشمه سوف أجعلك تأكل الصور واحدة واحدة. مليون صورة، أنت ستأكلها، ليس أنت فقط، لكن أيضا زوجتك وابنتك، وكل القرود بالدولة.. الآن.. خذ تلك الصورة”


ثبت القرد رأسه المرتجة فوق ملابسه السوداء خلف الكاميرا وركز على الكرسي، نفث عن نفسه بتأوه بسيط.. للآن الأرانب تظهر فقط بعدما تكون الصورة حمضت. لكنهم كانوا موجودين الآن مباشرة أمامه في العدسة، أحرار منتشرون  يعضون ليس فقط خشب الكرسي ولكن مقابض السيوف من الحراس المشدوهين بينه وبين صلصلة الثعابين.


زعق الملك المستقبلي “ما الأمر؟” قالها كمن لا ينظر أسفل ذقنه لكي يبدو مثاليا بصورته لأعقابه.


أزاح القرد الكاميرا لجوار الكرسي، متمنيا ألا يجد جيش الأرانب طريقه للصورة.. والتي تحركت أسرع مما فعل. تشعبطوا بالأرجل فوق بعضهم كما لو كانوا قرودا أو طيورا.. حاول الجنود إخافتهم بطريقتهم في صمت، واعين ألا يجذبوا انتباه الملك، لكن كان الغزاة أنشط. ظل الذئاب يتقافزون واحد فوق الآخر، ويضربون فوق رؤوس بعضهم البعض. القرد أدرك أن فلقا من الطيور أتت من فوق ترفرف بحرية عبر الرواق، بدون سلك يربطهم أو يسجلهم.


“هيا” أمره زعيم الذئاب.. ضيق القرد عينه بشدة. كان الأفضل له ألا يشهد ما سيحدث. ففي اللحظة التي ضغط على الشراعة الخشبية سمع دوشة تصم الآذان. علم ماذا سيرى حينما يفتح عينه ولكن لم يصدق شيئا مما حدث. مثل شجرة البق المخوخة من القلب. كان العرش قد تحطم على الأرض، بالملك، والحراس، والأفاعي والمستشار..كلهم.


فتَّح القرد. كان عند قدم حامله الثلاثي يرقد أكبر وأسوأ ذئب متعجرف في الكون، ضلوعه مكسرة، فراؤه الأسود شق من النصف، عيناه الصفراوتان غابت للحمرة، وكان ينتحب من الألم.


“قرد” زعق الذئب للعالم “هذه الصورة.. ليس لديك حق بأن تنشرها” بهذه اللحظة فقط كل أضواء القصر انطفأت. كان القرد لا زال مشلولا.. لم يكن يعلم لم يمضي.. وكما لو أن شخصا من الظلمة ظهر فجأة في الممر. عرف ما يجب فعله.


حمل كاميره وحقيبته وحضنها لصدره كما كنز، وفرَّ.


كانت تنتظره على باب البيت ابنته “انتظري” قالها لها “انتظري.. أحضرت لكِ شيئا” وبدون أي كلمة أخرى تسابقت خطاه نحو الغرفة المعتمة ليحمض آخر صورة بكل سرعة ممكنة.


عندما خرج بعد دقائق.. زوجته وابنته وقفا على كراسيهم. ينظرون إلى صور الملك الملقى على الأرض.


“هنا” قالها القرد العجوز إلى ابنته، مقلبا الضوء الساطع.


“هنا.. هذه هي الصورة التي سألتيني إياها طوال الوقت..أخيرا جلبت لكِ هديتك”

“شكرا أبي” قالتها الفتاة الصغيرة “رغم أني لستُ بحاجة إليها بعد الآن”


أشارت حولها نحو الغرفة، وناحية الشارع وخلال الحقول حيث بدأت الشمس في البزوغ.. العالم كله كان ممتلأ بالأرانب.


 


 


 


 


 


 


 


 


 


 


 


 


 


[image error]

 •  0 comments  •  flag
Share on Twitter
Published on February 10, 2019 00:29

January 26, 2019

قصتان من دانييل خارمس

سيدات عجائز متساقطة:

بسبب الفضول الزائد، وقعت سيدة مسنة من النافذة واصطدمت بالأرض. ندت بعدها سيدة أخرى عن النافذة لترى السيدة التي وقعت بالأرض، ولكن بسبب فضولها الزائد ما لبثت أن وقعت من الشباك واصطدمت بالأرض.


ثم سقطت سيدة مسنة ثالثة من النافذة، ثم رابعة، ثم خامسة.


عندما وقعت السيدة السادسة، شعرت بالملل من مشاهدتهن. ذهبت إلى السوق مالتسيف حيث -كما يقولون- شخص ما يقدم شالا منسوجا للعميان.


……………….

الراهب:


إنهم يدعوني الراهب، لذلك سأصدع أذنيك لأن ذلك يبدو ضروريا، على الرغم أني لا أقترب من شهرة جان جاك روسو.. لماذا يعرف هو كل شيء؟ من ختان الرضع إلى كيفية تعريف الفتيات بالزواج؟


أنا أيضا أود أن أعرف كل شيء. بالواقع أنا أعرف كل شيء ولكني لست متأكدا بشأن نظرياتي.


أما بشأن الرضع فهو لا يجب ختنهم بل يجب محوهم من الوجود. لهذا أود إنشاء حفرة مركزية في المدينة، وسوف أرمي الرضع فيها. حتى لا ينبغي أن تأتي رائحة التحلل من الحفرة. ويمكن أن تغمر كل أسبوع بالجير.


في نفس الحفرة، أود دفس كل الكلاب الألسكية بها.


الآن بشأن تحفيز البنات للزواج؛ في رأيي:


يجب عمل صالة، بحيث يتجمع جميع الشباب مرة واحدة في الشهر مثلا. من هم بين 17 إلى 35 سنة يجب عليهم التعري، والتبجح في القاعة.


إذا افتتن شاب بفتاة، هذا الزوج يتجه إلى زاوية ويسمح لهما بتفحص أجزائهما بالتفصيل. ولا مانع من بطاقة معلقة في الرقبة، مع اسم ولقب وعنوان. ثم، يمكن أن ترسل بريد لمن كان يطمع لشخص ما، لجعل التعارف أكثر حميمية.


وينبغي لأي رجل بالغ من العمر أو امرأة بالغة ي/تتدخل في هذه الأمور.. أقترح قتلهما بفأس وسحبهما خارجا من القاعة لنفس المكان الرضع إلى الحفرة المركزية.


كنت قلت لك أكثر من المعرفة في داخلي، ولكن للأسف لا بد لي من الذهاب إلى متجر للتبغ.


عند المشي في الشارع، آخذ معي عصا سميكة.  أعتبرها معي لتضرب أي من الرضع الذين قد يتعثرون تحت قدمي. يجب أن يكن هذا السبب وصفوهم لي بالراهب. كل ما عليك فقط الانتظار، أيها الخنزير، وسوف أطرب أذنيك بالمزيد!







[image error]

 •  0 comments  •  flag
Share on Twitter
Published on January 26, 2019 12:26

December 28, 2018

بدلة جده الرمادية- الفتى الذي لم يعد كذلك

 


 


“لكنني رأيت ذلك بعيني.


أتفهمون؟ بعيني رأيته” إيليا سيلفينسكي..


 


كان يقول في وقتها “جدي..أريد أن ألمس بيدي السماء!”


لكل كلمة قالها؛ أراد الجد أن يقول: كلنا نريد، هذا مطلب أكثر من سبعة بليون شخص على كوكب الأرض. وسبب أفعالهم كذلك.


أراد أن يقول ذلك. لكن أدرك أنه بشكل محتوم  سيضطر لشرح مرادف بليون لطفل لم يبلغ سنته العاشرة بعد. وربما تعثر بالرقم أمامه، ووقع في حيص بيص، وضرب أخماسا في أسداس أمامه. ربما كل الأجداد- لو كانوا بمكانه- سيتفقون معه. بالذات المليونيرات منهم.


من ساعة الواقعة. من يناير. طال انتظاره لصرف منحة الدفن، وكان يحك أنفه، بذقنه، بعصبية. كمن شعر بأنفة شديدة تسد نفسه، كأنما وجد شعرة فوق حسائه. كان يتحدث بعصبية، وكانت الكلمة تخرج منه بطلوع الروح كما شعرة من عجين. هو عامة، لا ينتظر الكثير كأن يخبطه رقما كبيرا بالوديعة يفقده وعيه.


 


“انظر.. هذا نورس.. الذي تراه قبالتك.. لو لم تكن قد رأيته من قبل!” لم يكن يعلم إذ ما كان نورسا،  أو أبا منجل أو أبا فصادة حتى. كان طائرا، أمامه وكفى. بمنقار خشبي مثقوب، المهم أن يجعل الطفل يراه.


بذكر الطائر الذي كان يحجل، تذكر أنه بصغره -الجد لا الطفل- كان يخطف إوزة من عشة غريبة، ويضعها تحت إبطه كموظف بالمعاش، يحيي بها المارة، والعابرين، وكل أطقم الممثلين بالشوارع. الآن ألامه تمنعه من ذلك. لا مزيد من العبث برأس جد الفتى، يضع الإوزة جانبا، يطرحها من عقله، ويعاود النظر إلى الطائر؛ غير محدد النوع. هيا أيها الطائر. تابع ما كنت تفعله.


لا ألعاب من أي نوع، كأن تطير بين أجنحتك وتطلق شخصا من فمك، أو أسماك، ليس بقصتي  أي أسماك، لا أطيقها. لكن لم تكن مدينتي طبعا قيد التكوين. كان الفتى الصغير ماضيا وقتئذ وراء الطائر، تابعا إثره مثل أشعياء الحسين.


يمتلك الفتى ساعة واحدة، يعابث الطائر، أو يلقمه كسرة خبز، قبل أن يمضي به الجد إلى البنك. جال بدماغه مليون خاطر، دون أن يقف إلى واحد. لكن بمرور الأيام امتلك الفتى حقيقة حقيبة من السباب -عن كره- لسب هذه الأوقات الفارغة.


 


كانت الشتمة الأولى التي أمتلكها بامتحان الابتدائية ، وكان الولد بجواره قد أخبره بفزورة يحزرها:


“ما اللفظ الجنسي المكون من حرفين، الذي إذا قلبت أحرفه أصبح عضوا ذكريا، ومرة أخرى عضوا مؤنثا؟”،”..هاه..حزرت؟”


قال الطفل، وقتها “غُلب..حماري”


فمال على أذني، وألقى بجملته التي، وهجت له وجهه إلا الآن..


بمناسبة الحمير هناك واقعة جسدت أمامه، حصل منها على شتمته الثانية، كان الأولاد يتباهون باصطحاب الحمير خلف سور المدرسة، وعندما كان يسألهم بكل براءة، كانوا يبتسمون، ابتسامة ممزوجة بالخبث، ويشيرون لأعضائهم التناسلية، ويتغامزون، وأكثرهم جرأة قال:


“لأجل أن ندقهم”


لم يعلم الفتى ما ربط بين دق الحمير بسور المدرسة، مثلا خشية أن يقع، وظل بحيرة من التخمينات الثقيلة على جسيده كما حقيبة المدرسة، لألم حقيبة شتائمه وأبقيها مغلقة. لأن الجد الآن، والطفل قد وصلا إلى البنك.


الجد واقف أمام الموظف، وأمامه فتاة خمرية، كان الطفل هائما بأرجلها، بأظافرها، بالفراء الزغبي اللابد بين كتفيها. حقيبتها الجلدية، المكالمة التي أنهت استغراقه بها، وتوقفت عن كونها مانيكانا صالحا لتأمله. ودخلت في مكالمة طويلة. ختمتها:


“لا تنس.. يا حبيبي” الطفل لم ينس.عُلم. تلقى كل هذا، وحفظه كأنه البارحة. كان وقع ما حفظه فوق ظهره ثقيلا، يهوي فوق عموده الفقري. لدرجة أنه كان يحتاج إلى شخصين معه ليحمله. من حين لآخر كان الحادث يلتمع بعقله كأنه ذلك العقد الماسي الذي كانت تحمله برقبتها، كأنه فيلما عظيما، لا يملك إلا مشاهدته كل فترة، والإعجاب به. ويمارس الاستمناء عليه.


نسيت الجد وهو واقف، يالا لقلة ذوقي. سيجب أن أنتظر قليلا لحين مرور الفتاة المزغبة بعد أن ترتدي ملابسها مجددا وتضبط مكياجها وتمضي من الذكرى. بغضون يومين من انتهائهم من البنك، سيكون سارحا، وسيلمع حادث الوفاة بذهنه حينئذ وهو يفتح الحقيبة من البنك. مجلات قد جمعها المرحوم له، من مجلات النجوم، الكواكب، صور لعبد الحليم، وردة الجزائرية، بليغ، متبولي، والمهندس، بوسترات، وغيره، وغيره.. شيك بالآخير لا يتعدى به الرقم ثلاث أصفار. من المؤكد أن الجد كره الفتى وقتئذ ورأسه شاطت وأخرجت بخارا كما أفلام الكرتون. ولم أن هناك تروموترا للخطر، كان سيخبر الفتى بأن يبتعد عن الجد. لأن ترومومتر الغضب للجد سيتعدي الأربعين بشُرط.


فكر الجد بأن يشتري أشياءا كثرة، سيشتري جزمة جديدة، له. سيشتري إبرة وخيط، وماكينة خياطة مكان زوجته الراحلة، وهنا، وهنا فقط حمل الحقيبة ومضى ومعه الفتى.


كان مرسوما على وجه الفتى العبوس. لا يمكن تحديدا رسم العبوس، ولكن حركات الحواجب، انعقادها معا كنورس خارج من الجبهة، المسارات الدقيقة بين أحافير الوجه. أشياء لا تحتاج لتفسير. لأترك التفعيص في مفهوم العبوس جانبا. لنعود إلى دائرتنا الضيقة المحدودة بين الجد والفتى. حتى لا أحيد عن قصة الفتى، وأظلمه إلى ما يشبه تلك النصوص. لنقترب أكثر منه وأكثر بعد وفاة والده، لنكتشف حقيقة من هو؟


الآن وقد فاق العشرين، بعد أن دار على ست أشغال كعبا دائرا، ونحل وبره. كل محالات المدينة كانت بطريقها بالعبوس بوجه الفتى الضيق. ابتلعته اللعبة منذ كان صغيرا. قبل العمل ليقبل العملة، يعمل بوظيفة، لكنه يتركها بعد فترة لأجل مهنة أكثر دخلا فقط، لن أشرح أكثر. المهم النقود، نقود لم تكد تكفي لتشتري كابا يقي لحم رأسه.


كان جده يشاور بقبعة الصيادين على رأسه، للعابرين، دون تبادل أي أسماء. لكن الفتى أو لم يعد يصلح أن أصفه كذلك، لم يتوقف عن العمل يوما، هذا فقط ما تريد معرفته، ويريد معرفته.


امتلأ الجد لدرجة أنه لم يكن بإمكانه أن يلمس إصبع قدميه من كرشه المترامية أمامه، كان يستعد للموت بزجاجة، ويبدأ فعل ما يفعله الأجداد الأموات، من حين لآخر يلقي بشفقته نحوه.


“أنا لا أنتظر كلمة من أحد..”


من حين لآخر  أيضا كان يروح بأول الشهر ليصرف شيكا من الوديعة، التي أخذها من عرق الفتى، وقفاه المسلخ. الفتى الذي لم يعد كذلك، المجلات ما زالت على المكتب. لم يقرؤها حد، لم يمتد إليها يد. فقط علق بوسترا لناهد شريف، وهي تنحني لتلتقط شيئا من الأرض، وهي تنظر للكاميرا.


اعتدت أن أمضي لحيث كان الفتى يقف، بدون أي مبرر وجودي، أقطع من أجازتي من الشغل، وأمضي بكل يوم اثنين، لأقف مكانه، لأجرب شعوره مجددا.


أقف على قدمي كل إسبوع، مهما كلفني الأمر. بجيب ممتلئ بالنقود، أخر ممتلئ بالفركة، أخر بالتبغ، والحشيش. أظل دائرا بالساقية، ست أيام بالأسبوع. أعصب رأسي كروبن هود شريف عما يغير رأيي بالحياة. الحياة حلوة، رغم أن لا شيء يستحق الذكر حقا..


من وقت لثانٍ أمضي لبيت دعارة، ومعي فتاة، ساعتها أنزل كما ناهد شريف بالبوستر لألتقط شيئا، أنا الآخر..


أقود نفسي، لأجد نفسي أقد بهداوة إلى الثلاثين، وأنا أفعل كل هذا. ولا أعرف لما.


تفصيلا صغيرا، رأيته من الفتى الذي لم يعد كذلك، كانت بدلة جده رمادية.


 


 

 •  0 comments  •  flag
Share on Twitter
Published on December 28, 2018 00:12

December 11, 2018

قصة نجيب محفوظ

[image error]


 


(*)


قد بدأت أتقصى الأخبار تحديدا في أواخر الثمانيات. كنت قد بلغت الخمسين، وسويت معاشي بالفعل كعامل بشركة السنترال. وكان جل ما كنت أفعله التدخين من داخلي كمرجل حبيس ببدلتي الزرقاء الشاحبة أمام البلكونة. إلى يوم دخلت عليَّ زوجتي وقالت لي وهي تمسك بجريدة:


“انظر..الراجل ده شبهك!..”وأشارت موجهة إصبعها إلى صورة. كنت أنظر إلى صورة بالجريدة، كأني أنظر في مرآة.كان يشبهني بالضبط دونما فرق.. كان ذلك المدعى نجيب محفوظ وهو يتسلم جائزة نوبل من مقدم الجائزة بمملكة السويد.. (**)


كان مكتوبا بالبنط العريض : “نجيب محفوظ يتسلم جائزة نوبل كأول أديب مصري..” وكلام آخر لجانب الخبر ..لكن ما شد انتباهي حقيقة كان عن تسلمه مبلغ من سبع أرقام. أموال كسيل الرصاص. مبلغ سبع أرقام وقتئذ كان رقما، له العجب.


وجدت هذه تبسم وهي تقول “شوفت.. أهو قدك، ومعاه فلوس قد عينيه…”


شخرت لها وقلت قبل أن ألقها بأقرب غرض لدي “روحي يا ولية..حضري الجذمة الغالية بتاعتي..ولمعيها كويس..عاوزاها بتلمع.. مراية…”


ولكنها تلكأت وترجرجت بمؤخرتها للوراء “إنت صدقت يا راجل ..إنك إنت اللي بقيت مليونير..إنت جرى حاجة لنافوخك يعني على آخر الزمن..مسم!”


كان لديه، تلك الحسنة الآخاذة مثل زبيبة خارجة من الجلد، بخده الأيمن، وبقعة حسن لجوار فكه الأيسر..أخذت الصحيفة تحت إبطي، ودلفت نحو الشارع، وأنا أتلقى التحية. وبداخلي مشاعر مختلطة، من الفخر، والسعادة. وفجأة برقت إلى عامل المقهى:


“وزع كوكا كولا يا ابني..لكل الشارع.. على حسابي..”


وقبل أن أمشي وتتسع الرقعة بيني وبين صبي المقهى العقيم عن الكلام..


– كوكاكولا من النوع الكبير..


“طب والحساب يا سي الأستاذ؟” ومشيت بسرعة قبل أن تنازع الجملة وتسارع نفسها، وتدخل أذني..


 


وخرجت أشق طريقي وتتناقلني الأزقة والشوارع وأنا أوزع التحيات دون حساب. دون طوية في نفسي؛ حتى وصلت إلى فندق كازابلانكا الذي لم أكن أجرؤ أن أمر بيوم من أمام أسكفته العريضة. ولكن الآن كل المشاكل أصبح لها حلا.


 


أيوه يا أفندم..اتفضل يا أستاذ..


 


هذا الرجل يظهر أنه يفهم غرضي. وأراح بيده الباب نحو دخولي. المدخل الذي بدأ كمدخل موشى بالفسيفساء الزمردية، التي كانت تبرق وتطفئ من بعيد. والتي أنارت لي وقتما اقتربت للبهو الفسيح. بموسيقى ترد الروح، وصوت السيدة تصدح ب” اتغيرت..مش بإيديا.. وبدأت أكره حنيني إليك..” اخترت أن ابتعد وأتجه للبهو..


 



أيوه يا أفندم..اتفضل يا أستاذ..

كان صوته قريبا من صوت فتى المدخل الذي بالكاد لم يغادر أذني.



عاوز غرفة هادية بسريرين.. ويفضل لو كانت بفارندة على الشارع..
تمام يا أفندم..الأجرة في الليلة 3 جنيه..
إنت مش عارف أنا مين.؟..أنا نجيب محفوظ..

 


سجل عنده، دون أن يلتفت إليَّ.  بثلاث جنيهات بثلاث جنيهات ..أنا لن أمض به ليال ألف ليلة وليلة.. قبل أن أمضي فقط قلت له:


“لو سمحت ..مش عاوز أي إزعاج..”


 


لم أتجابن حقيقة، فقررت بلحظة أن أستمر بتمثيل الدور. كلما سألني أحدهم في الطريق إلى غرفتي. أجبت ” أيوه هوه..نجيب..محفوظ..”


 


يوم واحد من التمسك بالحياة المحفوظية لن يُضير. جررت حقيبتي. لكن ما أن لمحني العامل حتى قدم وقال “ميصحش يا أستاذ..”  هممت بأن أدس يدي في جيبي وأخرج له عملة منكمشة، لكنه رد يدي وقال “خيرك سابق يا أستاذ..” وبالفعل بدا المتجولون وهم يتهامسون بشأني وكنت أسمعهم .. “عارف ده مين.. مش هتصدق..ده نجيب محفوظ..” ولكني كنت أتجاهلهم تماما..


 


وقبل أن أنفرد بغرفتي وأغير ملابسي، تلبد سلك الهاتف برعشة ورن كذيل فأر مرتعد وهاتفني صوت “أستاذ نجيب؟..”



نعم..
إحنا جيرانك في غرفة رقم … وكنا حابيبن لو تشاركنا القعدة شوية..

 


في سري ..”هو إحنا لحقنا..” المشاكل بدأت.. أغلقت الخط بوجهه ولم أعبره. وطلبت فرخة بأكملها ..أتت إلى باب الغرفة، وهي نائمة بطبق ذهبي زاهٍ. ونظرت إلى الغرفة لأول مرة كأني أراها. . ورق حائط فخم. أثاث فاخر؛ لم أصدق عيني. وأنا أجلس فوقه، وأتحسسه بجسدي.


 


قبل أن أرتدي هدوئي وأنام. رن الهاتف مرة أخر كأنه هاتف يوقظني من حلم جميل..


 



أستاذ نجيب..
إحنا جيرانك في أوضة.. وكنا حابين نتعرف عليك..

كل ما أردته أن أترك بهدوء. ولا يزعجني أحد. ولا يخالطني أحد. أمسكت نفسي قبل أن أمطر فتحات التليفون بالسباب. وتخيلت نفسي بفيلم قديم كالذي كنت أمضي لرؤيته بسينما الريفيرا.


باليوم التالي حدث ما لم يكن بحسباني. الرجل الذي حدثته قدم إليًّ وفي عينيه نفرة غاضبة..



حضرتك بقى ..نجيب محفوظ..المغرور..

 


وهذا ما دفعني لدفعه، وضربه فوق دماغه. لا أعلم لم فعلت ذلك، هل حمقة لفعلي ولنفسي، أم حمقة للأستاذ..ولك أن تتحدث ما حدث من ضجة صاخبة، وأدى ذلك لامتلاء الصالة بالرواد، ووصل الخبر إلى الصحف.


 


نجيب محفوظ تعدى على أحد النزلاء بفندق كازبلانكا..بالضرب..


ونجيب ملء السمع والبصر لم يتعدَ على أحد قط بالضرب، والمزيد من هذا الهراء السعيد. كان علي أن أركض ببرنسي السعيد الذي نفذت به من الحادثة سليم.. وهذا ما دفعني إلى أن أضع ذيلي بأسناني وأمضي دون عودة.


 


وقررت أن أقذف الحكاية برمتها من عقلي، ولمدة يومين كنت أسطع بالشارع من وقت لآخر. كنوع من التشويق والتسويف لفعلتي الآثمة.  وقلبي يلق بقدمي. ظللت لأسبوع ببيتي أمرن يدي على توقيع نجيب محفوظ..  وأتدرب كذلك أمام المرآة “يا مرآة حقا ..اجيبني ..أنا نجيب محفوظ..محفوظ…”


وهذا ما أتى بأكله في الفندق التالي. لم أحتج الكثير حتى اعتدت الوقفة كنجيب، المشية كنجيب. أحرر الشيكات، بالتوقيع، بمنتهى الثقة. ألتحف بي العديد من الناس، لا أحبهم، ولا أفضل توادهم ولكني كنت مضطرا لتمسكي بالدور، ولأتم كل شيء على أكمل وجه. ومن حين لآخر يتمسح بي أحدهم يلمس يدي، وآخر يأخذ يدي ويقبلها بلزوجة مبالغة تبركا. وهذا خنزير كسائر من حوله من الخنازير. واضطرت لذلك لتمسكي بالدور. وكان عليَ بعد زيادة النفقات أن أغادر هذا  وأترك هذا. عرفت البادي كير. وتضريم الأظافر. من حين لآخر كانت تأتيني دعوة لحضور، لأمر هام، للتجول بمكان خاص. ورغم ذلك كنت أمشي بالشارع، كمن يوقع مساميرا من جيبه. بحذر شديد، ولكن مشكوف. كنت أشتري ثياب غالية. وأتفسح، وأتبجح. والآن بعد أن كشف أمري.


كان علي أن أبدأ من الصفر..من جديد..


 


 


(*): القصة خيالية بأكملها، وأماكنها كذلك تخيلية، ليس لها أي علاقة بالواقع..


(**) لم يحدث أن استلم نجيب محفوظ جائزة نوبل. واستلمت عوضا عنه ابنتيه فاتن وأم كلثوم..


 

 •  0 comments  •  flag
Share on Twitter
Published on December 11, 2018 11:11

December 2, 2018

ثرثرة شتوية 2

[image error]


إهداء: إلى أستاذ مكاوي سعيد


(*)


ما إن خلت منضدة رابضة أسفل مظّلة المقهى، حتى غادرتُ موقعي المكشوف متجهاً نحوها. قبل أن تأتي كنت أنظر لموبايلي، حيث ترقد صورتها أمام عيني، كأنما أستدعيها قبل أن تأتي إلي. أول ما أتت أخذتها بيدي مثل شارة تتابع بسباق عدو؛ إلى ركن منزو هادئ. كنت قد احتبست نفس سيجارة بصدري وكان قد حان الوقت كي أفلته من أنفي. تزحلقت يدي على جاكتها أو أي كان ما تدعي لبسه. حدثتني عن صديقة قد تصدف وتمر بنا، ويجب عليها أن تبرقها برسالة تذكرها. فقلت في بالي من قد يخاطر وينزل- بخلافها- في هذه العتمة إلا خريجي العباسية! من يكون لديه عائلة ويتركها في هذه السقعة المثلجة إلا لو كان خائن وزوجته نائمة في العسل. تركتها على الكرسي تستريح قبل أن تتداعى مني من المشي؛ وإن كانت تستحق لتأخرها. كنت أقرض أظافري بأنه ربما قابلها مرتمي من هنا أو من هناك، أو ربما التهم قرش ذاكرتها ولم تتذكر الموعد. قبلها بيوم ظللت أتقافز أمامها مثل أخيلة الظل لأذكرها من حين  لآخر بالموعد، لعلَّ ذلك يفلح بذاكرتها، وتنبت بالموعد المحدد. حينها أتتني مكالمتها بصوتها الطفولي الشقي ذاته، سألت عن حالي وأحوالي ومحتالي وعاتبتني مدعية أني لم أعد أتصل بها! سألت عن عائلتي، عن جدتي المشلولة كذلك. كانت مكالمة ثقيلة كما خروج جني من مصباح أمام عيني. لكني ظللت أحتمل مناهدتها ولم أفزع حتى انتهت. كنت أشعر بالفخامة والعظمة لمجرد أنها تكلمني. كأن دوارا، كان يلتبس جسدي وقتئذ. كنت أفكر بكل ذلك وأنا أدفع الحساب. بسرعة قياسية أدهشتني وبُغتُّ بها واقفة على رأسي تتعجلني الدفع.


 


اندهشت لكوننا مشينا كثيرا حتى تنملت أقدامنا. وسألتها كعادتي مباغتا مثل مضرب ذباب دبق بوجهها “مالكيش أهل تكلميهم تطمنينهم عليكي دلوقت؟” ولكنها أجابت “أكلم مين دلوقت؟” وعلى حين انسجامنا وسباحتنا معا بالحديث المجدي وغير المجدي. ظهر أحدهم مثل فرقع لوز من زقاق ضيق على غرة. وسألتني وهي تتأبط ذراعي “طلع منين ده يا أخويا؟” ثم، لطمت وصوتت، واستدعت كل عائلتها بمنحى يدعو للعجب وهي تشير إلى الشاب كأنما رأت شبحا. كل ما حاولت فعله، أن هدأتها كما حدأة تحدف كتاكيتا. ولكني فؤجئت بأنها تحمل موسا تحت شفتيها. ما لبثت أن أخرجته، وطوحت به في الهواء عاوية، وشجت به عباءة السكون أمام الولد المرتعد. وعندما أبعدت اليد المقتحمة بغلظة قالت “حصل خير..” لحقت بها متعجلا وبداخلي مشاعر مضطربة، لا أعرف من أين أبدأ الحديث معها مجددا. نظرت إلى حيث تشير. أشارت بلا مبالاة نحو حذاء نسائي برقبة مكسوة بالفرو من الداخل. أخبرتني أن أمضي للداخل لأقيس الحذاء. أردت أن أماطل، أو أطلع من بالها هذه الفكرة السيئة علها تفكر بشيء آخر. لا، لم يكن يبدو أنها تمزح. فجأة سألتني عن رأيي فيما قالته أخيراً، وضحكت بشدة تجاه صمتي قائلة إنها تعرف أني لا أحب أن أسمع حديثها عن أختها التوأم. غالبا كنت أماطل وأنظر في ساعتي، لأن الوقت قد سلبني لساني. أخبرتني حينما رأت ذلك بأنه لم يتبق سوى بضعة شوارع إلى منزلها، وهناك يمكنني أن أسترح.


 


كان الغيم قد انتصر أخيراً. وفشلت مصابيح الشوارع وواجهات المحال المفتوحة القليلة في تبديد الظلمة، بيد أنها أشارت إلى عمارة مهكعة أمامي. قائلة أن في داخلها بعض المتاجر ومصانع الملابس الصغيرة التي تبيع بأسعار مقبولة. جرتني من يدي مثل طفل صغير لأول مرة يرى أمه مذ زمن. وفشلت في إبعاد كل السيناريوهات المتعلقة لكونها تشبه ريا وسكينة. وأن موسيقى حسب الله سوف تستقبلني في الطريق. فور مشاهدتي اللوحة المعلّقة على باب المصعد التي تفيد بعطله، أخبرتها بحزم أني لن أصعد غير طابقين. لكن بالفعل كان هناك باعة لبالةٍ ما. كنت أغالب عامة ظنوني الماجنة بشأنها وشأن أختها التوأم كذلك. ظللت أتلفت لأن خواطري السيئة قد غادرتني وأنا غير مهتم بالفعل. أخرجت كوفية من كومة أمامها، ومدتها مثل ثعبان ولفت لي رقبتي “حلوة عليك..يا جميل”..أنا بالفعل لم أكن أفكر غير في ردة فعلها لو قلت لا، والشفرة أمامي بإنش، ثم اقتربت مرة أخرى لتعدل من وضعها، وفجأة وجدتها تثب على طرفيها لتمس شفتاها فمي. أدرت ظهري بالكاد لها، من عدلتي، شاهدت أنها أخيرا وقفت أمام فرجة الباب وإنها على وشك المغادرة.


وقفت تتقافز مثل كرة جلد ” خلاص هتمطر!” خرجت أتبعها وأنا أجد السير خلفها. أدخل أنفاسي اللاهثة بداخلي.  وكان البقية بالشارع يتسابقون لحجز مكانا خلف تندة أو مظلة أمام المحال. التفتت نحوي أخيراً وهي تسألني إن كنت مستعداً للدخول معها في سباق عدو أسفل المطر. وكل ما كان يدور ببالي هل بقى الكثير أمام رؤيتي للسرير الذي وعدت به أم لا..كنت فقط أتبعها لكي لا أفقدها وهي تخلفني ظهرها. ووجدت نفسي مدفوعا نحوها، لا أدري ذلك برغباتي، أم رغباتها. لكني أردت أن أعرف كل شيء، لا أعرفه، عنها.


 


(*):  لينك القصة الأصلية مرفقا من جريدة الحياة


http://www.alhayat.com/article/722545/ثرثرة-شتوية


(**)تم نشر ثرثرة شتوية: من قبل الأستاذ مكاوي سعيد منذ 11 يناير  2016. بالطبع تم تطعيم هذه القصة بعبارات من القصة السابقة. معتبرا بأن الأستاذ مكاوي لن يمانع بذلك غالبا.

 •  0 comments  •  flag
Share on Twitter
Published on December 02, 2018 11:50

November 9, 2018

خمس قصص لكافكا

 


النسر:


قام نسر بمهاجمة قدمي، سبق له أن مزق حذائي والجورب إلى شرائح بالية، وصولا لقدمي ذاتها. مجددا ومجددا نقر قدمي، ثم حلق عدة مرات حولي دون كلل ثم عاد لنقر أصابعي. شاب مر بي، نظر لي برهة ثم سألني لما لا أفعل شيء لأدرأ النسر عني. “أنا عاجز” هكذا قلت له ثم أكملت  “لما جاء وهاجمني حاولت دفعه بعيدا عني في البداية، لكنه قوي. حاول نقر وجهي بيد أن فضلت التضحية بقدمي عن وجهي. بقى تقريبا أصبعا لينقره.”


“لماذا تترك نفسك لعذاب مثل هذا، طلقة واحدة وتسقط أمر ذلك العُقاب عن كاهلك”


-حقا!.. هل ستفعل ذلك من أجلي؟


“هذا أقل واجب.. فقط سأمضي لبيتي لأجلب بندقيتي.. هل يمكنك الانتظار لنصف ساعة آخرى؟”


-لست واثقا بشأن ذلك.  وقفت لحظة جامدا من الألم،ثم قلت:


– افعل على أي حال


“جيد.. سأعود بسرعة قدر الإمكان”


خلال هذه المحادثة، سمع النسر ما دار وهو ينقل ناظره بيني وبين الشاب النبيل. تطلب الأمر منه خفقة جناح، مال بها للخلف ليكتسب قوة دافعة من قوس تخيلي. أنشب بعدها منقاره عبر فمي. أقحمه بعمق. بوقوعي شعرت بارتياح لكونه غرق هو الآخر في دمي، الذي أغرق كل فج و غمر الشواطئ بالفيضانات.


 


…………………………………….


المسافر:


أسدلت السرج فوق الحصان بالإسطبل، الخادم لم يستوعب أوامري. لذلك غدوت إلى الاسطبل بنفسي لأسرج حصاني. من مسافة سمعت نفير بوق، سألت الخادم إن كان سمعه ومفاده. لم يفدني بشيء ولم يسمع شيء. عند البوابة أوقفني وسألني:


-أين وجهتك سيدي؟


“لا أعرف  بعد…حسبي الخروج من هنا.. حسبي الخروج.. بعيدا عن هنا، لا شيء غير ذلك، هذه الطريقة الوحيدة لأصل هدفي”


-إذا..أنت لديك هدف؟


“بالطبع.. قلت لك للتو ، البعد عن هنا…ذلك هدفي”


 


 


 


الجسر:


كنت متيبسا باردا، تمددت فوق وادٍ ضيق. أصابع قدمي امتدت على طرف، وأضافري نشبتها بالطرف الآخر. سرعان ما تشبثت بالطين المفتت حولي. رفرفت ذيول معطفي في فدى الجانبين حتى أنها تشابكت مع فيض لأسماك التروت المرقط الجليدي. لا سائح شرد لذاك العلو، الجسر لم يقبع بأي خريطة بعد؛ لذلك تمددت وانتظرت؛ أنا لا أملك سوى انتظارا. من دون الوقوع، لا جسر وقف على حيله وتوقف عن كونه جسر.


كان نحو المساء الأول- كان الأول أم كان الألف؟  لا أعرف- خواطري تتضارب في حلقة مفرغة. مساء بصيف، تدفق الماء صار يسمع صوته، آنئذ سمعت خطوة آدمية، صوبي..صوبي.


قو نفسك، جسر، استعد لتتماسك من كونك حزم ضوئية. العابر يعتمد عليك. لو أصبحت خطواته غير واثقة سيرتاب بشكل خفي، أما لو عثراته أظهرت له ما معدنك كجبل الرب ستلقي به سالما إلى أرضه.


أتى. ووطأني بالغرزة المعدنية المدببة بآخر عصاه. ثم رفع ذيول معطفي ووضعها علىَّ.  بعدها أدخل موضع عصاه بشعري الكثيف وتركها فترة لا بأس بها، متناسيا إياي بينما شرد بنظره حوله.


حينئذ – كنت أتبعه بين الوادي والجبل- قفز بكلتي قدميه في الهواء فوق جسدي. ارتجفت من الألم، غير واعٍ لما حدث. من كان ذلك؟ صبي؟ حلم؟ ضال؟ منتحر؟ متسكح؟ مدمر؟ والتفت لإراه. جسر يحاول الالتفات. لم استطيع الثبات للحظات، عندما شعرت بالوقوع. وقعت وفي لحظة تمزقت بفعل الصخور التي كانت تحدق بي دوما بثبات عبر المياه المسرعة.


 


 


 


 


 


 


 


جرذ صغير:


 


-أليس


قالها الفأر.


-الكون غدا يتضائل كل يوم، بالبدء كان كبيرا درجة خوفي، ظللت أجري وأجري، كنت سعيدا وقتها برؤية الجدران يمينا ويسارا، ولكن تلك الحوائط بدأت تضيق بي حتى إني بغرفتها الأخيرة، وعن هنا المصيدة التي وجب المضي إليها


” أنت فقط تحتاج لتغيير وجهتك ” قالها القط، ثم التهمه.


 


 


 


 


 


رفض:


 


عندما أصادف فتاة جميلة، وأدعو بنفسي “كني طيبة كفاية لتمضي معي” وتمضي لجواري بدون كلام، هذا ما يدور ببالها “أعلم أنكَ لست دوقا باسم متعجرف، لست أمريكيا عريضا بهيئة هندي أحمر، بلا رصيد، وبعيون مكتئب وبجلد حساس لمجرد لمس هواء البراري والانهار الدائر له. وأنك لن تعبر البحار السبعة أينما كانوا. وأنا لا أعرف أينما كانوا. لابد أنك تصلي، لأن فتاة جميلة مثلي تسير معك؟”


-نسيتي أني لا أملك أوتوموبيل لأفسحك بين أزقة الشوارع و.. أنا أيضا لا أرى رجلا يحوم  بمحيط نصف دائرة حولك، ليضغط  تنورتك النافرة من الخلف أو ينثر ملح التبرك فوق رأسك؛ فبرغم صدرك المزموم بدقة بالمشد الدانتيل، ولكن عندكِ الوركين والفخذين على خلافه، بارتدائك الفستان هذا، مع الجونلة المطرزة والتي أدخلت السعادة إلى قلوبنا بالخريف الماضي، ومع ذلك تبتسمين- دعوة لأي غريب عابر- من وقت لآخر.


“نعم، كلانا على حق، فلنذكر نفسنا بهذا  الكلام الموثوق بصحته من وقت إلى آخر”


-آليس من الأفضل الآن أن يمضي كلا منا إلى حال سبيله؟[image error]

 •  0 comments  •  flag
Share on Twitter
Published on November 09, 2018 08:43

October 28, 2018

ألسادير غراي- النجم

[image error]


 


سقط نجم من أعالي الأفق، ربما بكندا (كان لديه عمة بكندا). الثاني كان أقرب، فقط بخلف الأشغال الحديدية. لذا لم يكن مستغربا عندما وقع الثالث بالفناء. وكان قد أضاء وميض من الضوء الذهبي جدران المنطقة المجاورة، وسمع  له صوتا موسيقيا خفيضا. استحال الضوء إلى حمرة قانية واختفى. وأدرك أن هناك شيئا أسفل النجم، كان يبرد بالهواء الليلي. متحولا عن نافذته شاهد الولد ما لم يشاهده أحدٌ. وحيث تقع منضدة والده، المملؤة بقسائم كرة القدم، متجهما، وبينما أمه تكمل كواءها على عجالة، أمام صف من الغيارات الداخلية، بصوت خافت قال: “أنا خارج”


وقالت والدته “أرى أنك لست كذلك بعد، إلى اللقاء إذن”


انزلق الولد عبر اللوبي، ومنه إلى الدرج؛ صافقا الباب خلفه.


كانت السلالم بارقة ببرود، وباردة لدى وطأته فوقها بكشافه الكهربائي الضعيف. وخطا بثلاث وثبات نحو الباحة الصامتة السوداء، وبدأ يشمشم أمامه، وخلفه. نابشا أصابعه بالعشب الرقيق حول قاعدة منشبة الملابس. ووجد النجم بمنتصف ورقة ملفوف تالفة. كان دائريا وناعما، بحجم بلية زجاجية، وكان يبرق بضوء يتراوح ما بين المخملي الأخضر، والأصفر. حمله، ووضعه بجيبه، عائدا إلى أعلى.


وبسريره ليلا، استرق نحوه نظرة أقرب. كان ينام إلى جوار أخيه، الذي ما كان سهل الإيقاظ. لكنه تقلب بعيدا بحذر أسفل الملاءات، فاتحا قبضته وحدق. كان قد سطع النجم أبيضا، وأزرقا، صانعا مسافة حوله كما كهف بجبل جليدي. قربه إلى عينه. وبعمقه،  رأى تشكيلات من الرقائق الجليدية، كان ذاك أروع شيء قد رآه. ثم اخترق ببصره شعبة الرقائق الكريستالية إلى، محيط من الأمواج السوداء- الزرقاء- المتلألئة، أسفل سماء مليئة بالمجرات الضخمة. وسمع صوتا هادئا بعيدا مثل الصوت بصدفة، وخر نائما والنجم مثبت بيده.


استمتع برفقته قرابة أسبوعين، رامقا إياه بكل ليلة أسفل الملاءات، أحيانا كان يرى أشكال الثلج، وأحيانا وردة، جوهرة، قمرا، أو منظرا طبيعيا. بأول الأمر أبقاه مخبئا طيلة النهار، لكن لاحقا، أخذه معه للعناية به؛ وقد أعطاه التكور الدافئ الرقيق الناعم بجيبه شعور الراحة حينما يشعر بالوحشة، أو الإهانة.


وبالمدرسة بظهيرة يوم، قرر أن يلقي إليه بنظرة خاطفة. كان يجلس إلى دكة بمؤخرة الفصل لمفرده. كان المدرس يمر عبر الطلاب، بالصف الأمامي، وكل الرؤوس منثنية إلى الكتب. وبسرعة أظهر النجم، ونظر إليه. كان يحوي عينا منفردة ببؤبؤ أخضر بارد، والذي غبش، وارتعد كما لو يرى عبر الماء.


“ماذا لديك هنا، كاميرون؟”


ارتجف،  وأغلق يده.


“البلي للساحة، وليست بالفصل، من الأفضل أن تعطيها إليَّ”


“لا يمكنني..سيدي”


“أنا لا أتسامح عن العصيان، كاميرون..اعطني هذا الشيء..”


رأى الطفل وجه مُدرسه، فوقه. فمه مفتوح، يفتحه ويغلقه وفوقه شارب مقلم. فجأة، أدرك ما عليه فعله، وضع النجم بفمه، وابتلعه. وبينما اندفع الدفء تجاه قلبه، شعر بالارتياح والخمول. وغرب وجه المدرس عنه بمسافة. وانحسر المدرس، والفصل، والعالم كما صواريخ عبر دفء السواد القريب، تاركين خلفهم ذنبا من النجوم الرائعة. وكان ولدنا قد أصبح واحدا منهم.


 


 

 •  0 comments  •  flag
Share on Twitter
Published on October 28, 2018 03:29

August 23, 2018

أولغا توكارتشوك- أقبح امرأة في العالم

[image error]


 


أولغا  توكارتشوك- من بولندا


 


كان  قد تزوج من أقبح امرأة في العالم. ولكونه مشهورا بأنه منظم للسيرك، قام برحلة إلى فيينا لأجل رؤيتها. لم يكن فعلا متعمدا على الإطلاق؛ لم يخطر له مسبقا أنه ربما قد يتخذها كزوجة له. لكن بمجرد أن رآها، وبمجرد أن تجاوز الصدمة الأولى، لم يتمكن من أن يدير عينيه عنها. كان لديها رأس كبير مدفونا بين الكتل والتورمات. وكانت عيناها الصغيرتان، والباكية دوما موضوعين أسفل حاجبيها القصيرين المجعدين. بديا عينيها من بعيد كما لو كانا شقين ضيقين. وظهر أنفها كما لو كان مكسورا بعدة مواضع، كان طرفه أزرقا داكنا؛ مغطى بشعيريات متفرقة. كان فمها ضخما، ومتورما، دوما متروك مفتوح، دوما مبتل، بسِنة حادة مدببة لداخله. وفوق كل هذا؛ وكأن هذا غير كافٍ، كان وجهها بالغ الطول، ذا شعر حريري هائش.


رآها لأول مرة وهي تطل من خلف الحجاب الكرتوني لخشبة المسرح بالسيرك المتنقل كي تظهر نفسها إلى الحضور. هبت عاصفة مدوية من التعجب والاشمئزاز معا فوق روؤس الجميع وسقطت عند قدميها. كانت تبتسم ربما، لكن بدت كما تجهم يرثى له. كانت تقف واثقة من نفسها، مدركة لحقيقة أن دستا من الأعين تحدق بها، بتوقٍ متشربين بكل تفصيل، حيث يمكنهم- الحاضرون-  وصف هذا الوجه لأصدقائهم وللجيران أو إلى أولادهم، أو كي يتمكنوا من استدعائه مجددا، بينما يقارنون بينه وبين أوجههم بالمرآة، ويتنفسون بعدها زفرة من الارتياح. كانت تقف بصبر،ربما بقدر من التفوق، وحدقت لما فوق الرؤوس نحو أسطح المنازل وراءهم.


وبعد صمت مطول، ممتلئ بالدهشة، أخيرا صرخ شخص “حدثينا عن نفسكْ”


ندت إلى الجماهير، إلى البقعة والتي منها أتى الصوت. كانت تبحث عن الشخص الذي قال ذلك، لكن حينئذ جرت مدربة سمينة بالسيرك من تحت الأجنحة الكرتونية للمسرح وأجابت نيابة عن أقبح إمراة في العالم “إنها لا تتحدث”


“إذن اخبرينا حكايتها” هذا ما طلبه الصوت، لذا السيدة السمينة ابتلعت ريقها وبدأت بالتحدث.


بعد الأداء، وبينما كان يتناول كوبا من الشاي بواسطة موقد القصدير الصغير خاصتها والذي أدفأ  ما بداخل مقطورة السيرك؛ وجدها ذكية جدا. بالطبع كان بإمكانها الحديث، وكلامها مفهوما كذلك. راقبها عن قرب مصارعا افتتانه بهذا المسخ الخاص بالطبيعة. كان يمكنها معرفة ذلك.


سألته  “اعتقدت أن خطبتي سوف تكون غريبة ومثيرة للاشمئزاز كما وجهي، أليس كذلك؟”


لم يجيب.


شربت شايها بالطريقة الروسية، صابة إياه من الساموفار(1) إلى أكواب صغيرة، كانت بلا مقابض. كانت تمتص مكعب سكر بين كل رشفة. وسرعان ما اكتشف أنها تعرف العديد من اللغات، لكن كما يبدو أنها لا تجيد التحدث بأي لغة منهم. من وقت لآخر كانت تنقل من لغة لأخرى. لم يعد هناك مدعاة للاندهاش، فقد نشأت منذ طفولتها المبكرة بالسيرك بجماعة عالمية مليئة بالأغراب، من كل نوع، فلا يوجد مثيل لأحدهم بنفس المكان.


“أنا أعلم بماذا تفكر” ناظرة إليه بتلك الأعين الحيوانية الصغيرة المنتفخة. وبعد فترة من الصمت قالت “فأي شخص ليس لديه أم، ليس لديه أيضا لغة أم كذلك. أستخدم العديد من اللغات، لكن ولا واحدة منها تخصني”


لم يجد الجرأة للرد. على الرغم من كونه لا يعلم لماذا، فجأة بدأت تعصبه. كانت تقول ملاحظات لماحة. وحالها متماسكة ودقيقة على عكس ما كان يتوقعه منها. لذا حياها مودعا، ولدهشته أعطته يدها، لفتة نسائية للغاية، بإيماءة سيدة، في الواقع؛ يدها جميلة كانت. بدوره، انحنى نزولا إليها، لكن لم يمسها بشفتيه.


كان ما يزال يفكر بأمرها، بينما كان يستلقي على ظهره بسرير الفندق. تفرس قدما داخل العتمة، ظلمة الفندق المخيمة، هذا النوع من الظلمة والذي حذا بخياله أن ينبعث. استلقى هناك متسائلا عن كنه أن يصبح مثلها، عما يكون شعورها بداخلها، وكيف يبدو العالم عبر عيون مثل أعين الخنزير خاصتها، ماذا بشأن تنفسها الهواء عبر هذا الأنف، المشوه؟ هل تشتم حتى نفس الأشياء كما الأشخاص الطبيعيون؟ وشعورها بلمس جسد مثل هذا كل يوم أثناء الاغتسال؟ أو الحك؟ أثناء أداء كل هذه الأشياء الصغيرة المعتادة؟


لم يشعر بالأسى بمرة تجاهها أبدا. ولو كان قد تعاطف معها، لم يفكر أبدا في التقدم إليها.


اعتاد بعض الناس رواية هذه القصة كما لو كانت علاقة حب عابرة غير سعيدة، قائلين بأن قلبه توقف مباشرة بطريقة ما لدى رؤيتها، وقتما وقع بحب ملاكه الرقيق كاشفا ما بداخلها؛ رغم وجهها الكريه. ولكن لا، لم يكن تفكيره بشيء من هذا القبيل. ببساطة، بعد مقابلتها بهذه الليلة لم يتوقف عن التخيل بشأن كيف سيمارس الحب مع مخلوق مثل هذا؟ أن يُقبلها، ويعريها..


ظل يحوم حول السيرك بعدها عدة أسابيع. كان يغادر ثم يعاود مرة أخرى مجددا. إلى أن اكتسب ثقة المدير وتفاوض بشأن عقد للفرقة في مدينة برنو(2). وإلى هناك تبعهم، وبدأ أهل السيرك باعتباره فردا منهم. تركوه يبيع التذاكر، ولاحقا تولى الأمر عوضا عن سيدة تقديم السيرك السمينة، ويمكن القول أنه كان جيدا بهذا العمل، بقيامه بتحميس الجمهور قبل أن ترفع ستارة المسرح الرثة.


قال صارخا”اغمضوا أعينكم” وأتبع “خاصة السيدات والأطفال، لأن بشاعة هذا المخلوق تصعب على الأعين الحساسة تحملها. لا أحد قد رأى وحش الطبيعة هذا عاد قادرا أن يقع بالنوم بسلام من جديد. وفقد بعض الناس منهم إيمانهم بالخالق..”


دلى رأسه عند هذه اللحظة ، بدا كما لو أنه ترك جملته غير مكتملة، على الرغم من كونها مفهومة؛ هو لم يكن يعلم ماذا يقال أيضا. هو أطلق كلمة “الخالق” لكن في ضوئها الملائم. نعم من الممكن لبعض الناس أن يفقدوا إيمانهم بهذا الخالق، بالنظر إلى تلك المرأة خلف الستارة، لكن بداخله أصبح مقتنعا بالعكس: فقد حدث، وأثبت الخالق وجوده باختياره سيدة التقديم خارجا، واهبا هذه الفرصة إليه. أقبح امرأة في العالم.  سابقا قد تقاتل الأغبياء مع الحمقى، وقتلوا بعضهم لأجل السيدات الحسناوات. وكذلك وهب بعض من الحمقى ثرواتهم بهوى النساء. لكنه لم يكن مثلهم. فقد خطب وده أقبح امرأة كما حيوان أليف، حزين. كانت مختلفة عن كل السيدات الأخرى، حتى أنها وفرت له فرصا مالية عبر الاتفاق. سيوفر إذا ما جعلها زوجته. خاصة أنه كان لديه شيء لم يكن لدى كل الناس.


بدأ بشراء الورود لها -ليس بوكيهات خاصة- فقط باقات صغيرة رخيصة ملفوفة بالفويل بعقدة منديل ورقية سخيفة. أو كان يعطيها منديل عنق قطني، شريطا لامعا، أو علبة صغيرة من شوكلاتة اللوز. بعدها يشاهد، منوَّما، وهي تربط الشريط حول جبهتها، وعوضا عن كونها قطعة تزيين، تستحيل الربطة الملونة رعبا. يراقبها بينما تبتلع الشوكلاتات بلسانها المنتفخ، الزائد عن الطبيعي، مسببة لعابا بنيا بين أسنانها العريضة المتباعدة ويقطر نزولا إلى ذقنها المخشوشن.


كان يحب أن ينظر إليها وهي لا تعلم أنه يشاهدها. ينسل في الصباح ويختبئ خلف الخيمة أو المقطورة، ثم يتسلل كي يكمن أقرب ويشاهدها لساعات بوضع مناسب، حتى عبر الشقوق بالسياج الخشبي. كانت قد اعتادت أن تتشمس، وبينما تفعل تمضي وقتا طويلا بتمشيط شعرها المجعد ببطء، كما لو كانت بغيبوبة، تجدل إياه إلى ضفائر أرفع ثم على الفور تفكها من جديد. أو عوضا عن ذلك تصنع الكورشيه، والأبر بيدها تتلألأ بضوء الشمس وهي تطعن الهواء الصاخب للسيرك، أو بأيد عارية تغسل  ملابسها بحوض الغسيل ، بقميص فضفاض.بحينئذ كان الجلد حول ذراعيها وأعلى صدرها مغطى بفراء شاحب. بدا جميلا. ناعما، كما لو كان لحيوان.


كان بحاجة إلى هذا التجسس، لأنه يوما بعد يوم بدأ اشمئزازه ينقص، يذوب في الشمس، يختفي مثل بركة بعد ظهيرة حارة.  باتت تدريجيا عيناه  تعتاد  على عدم التماثل المؤلم لديها، على نسبها المكسورة، على كل قصورها وزياداتها. وأحيانا كان يظن أنها حتى تبدو طبيعية.


وكلما بدأ يشعر بعدم الارتياح، أخبرهم عن مضيه بعيدا في عمل ضروري، أن لديه اجتماع مع فلان أو علان، وربما ذكر اسما غريبا، أو على العكس اسما شهيرا. كان يبرم الصفقات، يجري المحادثات، يلمع الأحذية، يغسل قميصه المفضل، وينطلق بطريقه. لم يكن يبتعد كثيرا. من الممكن أن يتوقف بأقرب بلدة، ويسرق محفظة أحدهم، ويسكر. لكن رغم ذلك لم يكن أبدا متحررا عنها، لأنه عامة يبدأ في التحدث عنها. لم يستطع على بعدها، حتى خلال تلك المغامرات.


الشيء الأكثر غرابة كان، أنها أصبحت أثمن ممتلكاته. كان يدفع رغم قبحها لشرب النبيذ وقتما أراد، وأكثر من ذلك، كان يسامر فتاة جميلة بوصفه لوجهها القبيح، وفتاة أخرى التي أخبرته بأن يغرب للحديث عنها لاحقا، بهذه الأمسية، عندما كانوا متمددين حوله عاريين.


عندما يعود، سوف يكون لديه دوما قصة جديدة حول قبحها جاهزة لقولها للجمهور، مدركا أن لا شيء يصبح واقعا حتى يكون لديه قصته الخاصة به. في البدء جعل فتاته  تحفظها عن ظهر قلب، لكنه سرعان ما أدرك أن المرأة الأقبح لم تكن جيدة برواية القصص: تتحدث بملل، وتنفجر بالبكاء بنهايتها، لذا بدأ بروايتهم نيابة عنها. سيقف إلى جانب، مشيرا بيده نحوها، ويتابع حديثه “عاشت أم هذا الكائن غير المحظوظ الذي يظهر أمامكم، والذي رؤيته أبشع شيء يمكن لأعينكم البريئة أن تحتمله بقرية على حدود الغابة السوداء. وهناك، بيوم صيفي، وبينما كانت تقطف التوت من الغابة، تم مطاردة الأم بواسطة خنزير وحشي، والذي هاجمها بلوثة من الجنون والشهوة الفظة.”


بهذه اللحظة كان يسمع دون تقطع صرخات، مكتومة، مصعوقة من الرعب، وبدأ بعض النسوة ممن كن يرغبن بالفعل في المغادرة بجذب أكمام أزواجهن المتمنعين.


كان لديه العديد من النسخ:


“أتت هذه المرأة من أرض ملعونة من قبل الرب. من نسل سلالة شريرة، بلا قلب والتي لم تظهر رحمة إلى متسول مريض، ولأجل ذلك عاقب ربنا هذه القرية بأكملها بهذا القبح الوراثي الفظيع..”


أو “هذا هو المصير الذي يصيب أطفال النساء الساقطات. ها أنتم ترون ثمار داء الزهري، مرض رهيب، والذي يعاقب للنجاسة حتى الجيل الخامس!”


لم يشعر قط بالذنب. أي واحدة من هذه القصص من الممكن أن تكون صحيحة. لأن المرأة الأقبح أخبرته “كنت دوما هكذا. وجدوني بالسيرك وأنا رضيعة. ولا أحد يتذكر ما حدث قبلها”


عندما أتى موسمهما الأول معا لنهايته، وكان قد سافر السيرك بمنحنى كسول عودة إلى فيينا لأجل بياته الشتوي، حينئذ تقدم إليها. احمرت خجلا وارتعدت. ثم قالت بهدوء “حسنا” وبرفق أراحت رأسها على ذراعه. كان بإمكانه شم عطرها. كان صابونيا وناعما. أبقى هذه اللحظة بعدها تراجع للوراء وبدأ بإخبارها بشأن خططه معا لحياتهما المستقبلية ، ذاكرا كل الأماكن التي سوف يزورانها. وبينما كان يسير إلى الغرفة، أبقت عينيها مثبتة إليه، لكنها كانت حزينة وصامتة. في بالأخير تولت الحديث عنه وقالت أنها تفضل العكس تماما، بأن يقيما بمكان ناءٍ، ألا يضطرا للذهاب أبدا إلى أي مكان، أو رؤية أي شخص. إنها سوف تطبخ، وسوف يكون لديهما أطفال وحديقة.


“لن تكوني قادرة أبدا على التعامل مع ذلك” ورد ساخطا “لقد نشأتِ في السيرك. أنتِ تريدين، تحتاجين، إلى أن يتم النظر إليكِ. ستموتين دون نظر الناس إليكِ”


لم تجب.


تزوجا بالكريسماس، بكنيسة صغيرة ضئيلة. كاد الكاهن الذي أجرى بينهما المراسم أن يغمى عليه. كان صوته يرتجف وهو يتلو. الحضور كانوا أشخاصا من السيرك، أخبرها وقتها أنه ليس له عائلة، وأنه مثلها وحيد تماما في هذا العالم.


وبينما كان كل الموجودين ينعسون في كراسيهم، كانت كل الزجاجات فارغة وحان أوان الذهاب إلى الفراش(حتى إنها كانت تتعلق بكمه منتشية)، أخبر الجمع بأن ينتظر، وأرسل لأجل المزيد من النبيذ. لم يكن بمقدوره السكر،رغم كونه يحاول قدر ما يمكنه الاستطاعة. لكن كان شيء بداخله متيقظا للغاية، مشدودا كما وتر. لم يكن بمقدوره أن يرخي أكتافه، أو يمدد ساقيه، لكن جلس وقتئذ حازما منتصبا، وجنتاه زاهية، وعيناه تلتمع.


همست بأذنه “حبيبي، هيا بنا نذهب” بيد أنه تعلق بحافة الطاولة كما لو ثبت بواسطة مسامير غير مرئية. افترض معظم الحضور الملاحظين أنه ببساطة خائف من أي حميمية معها، عاريا، خائف من العلاقة الحميمية الإلزامية بموثق إتفاقية ما بعد الزواج. هل كان هذا في الحقيقة؟


سألته بالظلمة “المس وجهي” لكنه لم يفعل. فقد رفع نفسه بعيدا عنها مباعدا بين يديه لذا كان كل ما يمكنه رؤيته بالظلام صورتها الظلية، أخف قليلا من الظلمة بباقي الغرفة، رقعة باهتة بلا أي ملامح جلية. ثم أغمض عينيه- لم يمكنها رؤية ذلك- وأخذها، مثل أي امرأة أخرى، بلا أي فكرة برأسه، كما اعتاد.


بدآ الموسم المقبل لمفردهما. كان لديه بعض الصور التي التقطها لها، ووزعها بأنحاء العالم. وأتت الحجوزات عبر التلغراف. أتى لديهم الكثير من العروض وسافرا على الدرجة الأولى. كانت دوما ترتدي قبعة بطرحة رمادية ثقيلة، ومن خلفها رأت روما، فينيسيا، الشانزليزيه. جلب لها فساتينا عديدة وبرم لها الكورسيه بنفسه، كي يتمكنا  من المشي عبر الشوارع المزدحمة لمدن أوروبا، بديا كما زوجين آدميين مناسبين. على الرغم من ذلك، وخلال هذه الأوقات السعيدة، كان ما زال يضطر إلى الهرب من وقت إلى آخر. كان من هذا النوع من الرجال: الهارب الأبدي. فجأة تنتابه نوبة من الهلع، قلق مرضي لا يطاق. يبدأ بالتعرق والاختناق، بعدها يأخذ حفنة من المال، يجلب قبعته، يركض عبر السلالم، يجد نفسه قريبا، بانسياق واقعا بإحدى تلك الغطسات قرب الميناء. هنا وهنا فقط يسترخي، ووجهه يتراخى، وشعره يرفرف، والرقعة الصلعاء المختئبة دوما خلف شعره المسرح للخلف تبرز بوقاحة للجميع ليراها. سوف يجلس ويشرب بروية وفرح، تاركا نفسه طافيا إلى أن تسرقه بعض العاهرات المقيمات.


وفي المرة الأولى التي عايرته أقبح امرأة بشأن سلوكه، لكمها بمعدتها، لأنه إلى الآن كان لايزال خائفا من لمس وجهها.


لم يعد يروي قصصا عن الزهري أو الخنزير في الغابات كما كانا يمارسان روتينهما. فقد تسلم خطابا من بروفيسير للطب من فيينا، وأضحى يفضل تقديم زوجته بمنظور علمي:


“سيداتي، سادتي، لدينا هنا مسخ من الطبيعة، متحولة، خطأ للتطور، الحلقة الحقيقية المفقودة. عينات من هذه النوعية نادرة الحدوث. احتمالية أن يولد المرء هكذا ضئيلة كما احتمالية أن يضرب نيزك هذه البقعة بالذات بينما أنا أتحدث”


اعتادا بالطبع على زيارة بروفيسير الجامعة من وقت لآخر، وبالجامعة وقفا لالتقاط الصور معا. كانت جالسة، وهو واقف خلفها، ويده على كتفها.


ومرة، بينما كان يجرى قياسا للزوجة، طلب البروفيسير كلمة مع الزوج.


قال”أتساءل إذا ما كان تشوهها وراثيا؟” ثم “هل فكرت بشأن إنجاب الأطفال؟ هل جربت؟ هل زوجتك؟.. إممم.. هل أنت بالحقيقة قد……إممم………؟”


وبعد فترة ليست ببعيدة، ربما ليس كذلك على صلة بهذه الدردشة السرية، أخبرته أنها حامل. من هذه اللحظة انفصم الرجل. أراد لها الحصول على طفل فقط مثلها، ليمكنهم الحصول على المزيد من العقود، المزيد من الدعوات. لو كان بحاجة لزيادة فسوف يضمن الآن عيشة طويلة؛ حتى لو ماتت زوجته خلال هذا، ولم لا يكون كذلك مشهورا؟ ولكن بعدئذ فكر في حال إذا ما أتى الطفل وَحَشا، وكونه يفضل أن ينزعه من بطنها لحمايته من دمها المعيوب، المسمم عوضا عن رؤيته مقضي عليه بحياة كما حياتها. ورأى أحلاما، كان هو نفسه ذاك الابن في بطنها، مسجونا هناك، ملعونا بأن يُحب من سيدة مثل هذه، وبحبسه بداخلها، تخيل أنها تدريجيا تغير وجهه. أو حلم آخر كان ذاك الخنزير البري في الغابة، ويغتصب فتاة بريئة. واستيقظ غارقا بالعرق، وهو يرجوها بشأن الإجهاض.


أعطى مظهر بطنها الشجاعة للجمهور، وجعل من السهل لهم غفران قبحها الوحشي. بدأوا بطرح أسئلة، والتي أجابتها بخجل ومُسَالَمة، وبطريقة مقنعة. وبدأ المعارف الأقرب لهم بعقد المراهنات بخصوص الطفل، وعما إذا كان فتاة أو ولد. احتملت كل هذا بوداعة كما حَملْ. وبالمساء تحيك ملابسا للطفل.


قالت “تعلم؟” توقفت للحظة، مثبتة عينيها ببقعة بعيدة “الناس هشة للغاية، ووحيدون جدا. أشعر بالأسى حيالهم بينما هم جالسون أمامي، محدقون بوجهي. كما لو كانوا بحاجة لإلقاء نظرهم جيدا نحو شيء، ملء أنفسهم بشيء. أحيانا أعتقد أنهم يحسدونني. فعلى الأقل أنا شيء. إنهم يفتقرون إلى أي شيء استثنائي، لكونهم بحاجة لأي تميز يخصهم.”


جفل حينما قالت ذلك.


ليلا قد وُلَدت، بلا أي جلبة، بهدوء، كما حيوان. جاءت القابلة فقط لقطع الحبل السري. أعطاها قبلا حفنة من العملات، ليتأكد أنها لن تنشر عنها أي حكايات مبكرا. كان قلبه يطرق خارجه، أضاء كل اللمبات مرة واحدة، لكي يكون قادرا على إعطاء هذا الشيء  نظرة دقيقة. كان الطفل بشعا، أسوأ بمراحل عن أمه. كان عليه أن يغلق عينيه ليمنع نفسه من التقيؤ. فقط وبوقت لاحق، أقنع ذاته بأن المولود الجديد كان فتاة، كما زعمت أمه.


ولذا هذا ما قد حدث: مضى إلى مدينة مظلمة، كانت فيينا، أو ربما كانت برلين. كان يتساقط ثلجا مبللا، وخفيفا. خطا حذائه بخفة فوق أحجار الرصيف. شعر بنفسه منقسما بداخله سعيدا من جديد، ولكن بائسا بنفس الوقت.


سَكَر، وبقى واعيا. حلم أحلام يقظة، وشعر بالخوف. بعد عدة أيام لاحقة عندما عاد، كان لديه بالفعل أفكار بشأن ارتباطاتهم الارتحالية الترويجية. كتب إلى البروفيسير، والذي رتب للمصور لأن يقدمْ، وسجل بيد ترتعد خلال الفلاش بعد وميض المغنيسيوم القباحة الوحشية لكلا المخلوقين.


واعتقد أنه بمجرد أن ينتهي الشتاء، وتزهر(3) الفورسيثيا، وتجف أحجار طرق المدن الكبيرة،  بطرسبرغ، بوخارست، براغ، وارسو، أبعد من ذلك وأبعد على طول الخط إلى نيويورك وبوينس آيرس. وبمجرد أن تمتد السماء فوق سطح الأرض مثل شراع أزرق سماوي ضخم، فإن العالم بأسره سوف يسحر ببشاعة زوجته وابنته، وسوف يركع أمامهم على ركبتيه.


وعند هذه اللحظة وليس قَبْلها قبَّلها على وجهها لأول مرة على الإطلاق. ليس على الشفه، لا، لا.. بل فوق الحاجب. نظرت إليه بأعين صافية، بشرية تقريبا. ثم عاوده السؤال، السؤال الذي بمرة لم يستطع أن يسأله “من أنتِ؟ من أنتِ؟ من أنتِ؟” ظل يكرره لنفسه، فاشلا بملاحظة أنه بدأ بطرح أسئلة تخص الآخرين كذلك، حتى بشأن نفسه أمام المرآة وهو يحلق.


بدا الأمر كما لو اكتشف للتو سرا، أن كل إنسان متنكر، وأن الأوجه البشرية فقط أقنعة، وأن الحياة بأكملها(4) قاعة تنكرية كبيرة. كان أحيانا يتصور مخمورا- كونه لا يدع لنفسه المجال لهذا الهراء وهو ميتقظ- أنه ينزع الأقنعة، مع فرقعة رقيقة للورق الملصوق عندما يكشفه….ماذا؟ لم يكن يعلم. بدا متضايقا جدا لأنه لا يمكنه احتمال التواجد معها بالبيت أو مع الطفل. كان خائفا أنه بيوم ما بحال أن يستسلم لهذا الإغواء الغريب، ويبدأ محاولا بكشط القبح لوجهها. أن ينقب بأصابعه في شعرها وصولا إلى أطرافه الخفية، وحواف الجلد، وخطوط الغراء. لذا كان يتسلل خلسة للشراب، مفكرا بشأن ارتحالهم القادم، يصمم البوسترات، ويصيغ جديد التلغرفات.


لكن بأوائل الربيع أتى وباء الإنفلونزا الأسبانية  الرهيب، ووقع له الأم، والطفلة. تمددا لجوار بعضيهما في حمى، يتنفسان بصعوبة. وكانت الأم من وقت لآخر نابعا من غريزتها المرتعبة تحتضن الطفلة إليها، محاولة إطعامها بهذيانها، غير واعية بأنه لم تكن لديها قوة باقية لتمتص ثديها، وأنها كانت تموت. وعندما ماتت أخيرا، أخذها برفق، وأرقدها على طرف الفراش، وأشعل سيجارا.


بتلك الليلة عندما استعادت المرأة الأقبح وعيها، فقط لتبدأ نشيجها، ونحيبها بيأس. كان ذلك أكثر من احتماله، كان صوت الليل، صوت الظلمة، قادما من أسْوَد هاوية. غطى أذنيه، إلى أن جلب أخيرا قبعته وجرى، لكنه لم يمض بعيدا. تمشى ذهابا وإيابا بين نوافذ شقته حتى الصباح، وبهذه الطريقة قد ساعدها كذلك كي تموت. حدث هذا أسرع مما كان يتوقع.


أغلق على نفسه بغرفتهم، ونظر إلى الجثتين؛ وفجأة بديا ثقيلين، منهكين، جامدين. واندهش من قدركيف هبطت المرتبة أسفلهما. لم يكن لديه فكرة عما يفعل، لكنه لم يخبر أي أحد عدا البروفيسير. جلس يشرب مباشرة من الزجاجة مراقبا الشفق وهو يمحي هيئة الأشكال الراقدة فوق الفراش.


وعندما وصل البروفيسير والذي أتى لفحص ما بعد الوفاة توسل إليه بشكل متقطع “انقذهم”


رد لاذعا “هل جننت؟  لقد فارقا الحياة” بعدها أعطاه البروفيسير قطعة من الورق، وقع عليها الأرمل بيده اليمنى، وأخذ المال منه باليد اليسرى.


لكن لاحقا بهذا اليوم، قبل اختفائه بالميناء، ساعد البروفيسير بنقل الجسدين بعربة إلى العيادة الجامعية، حيث تم بأقرب وقت تحنطيهما سرا.


ولوقت طويل، تقريبا لعشرين عام. ظلا واقفين بالقبو الرطب للبناية، حتى أتت لهما أوقاتا أفضل، وخرجا، وذهبا للانضمام للمجموعة الرئيسية، إلى جانب الجماجم اليهودية، والسلافية، والرضع أصحاب الرأسين، والتوائم الملتصقة من كل عرق، ولون. ولا يزال من الممكن رؤيتهما لليوم في مخازن المتحف الباثولوجي- التشريحي. إمرأة مغطاة بالزجاج وابنتها، باقية مجمدة، بوضع لائق تماما، كما بقايا لسلالات جديدة غير ناجحة.


 


 


 


 


 


 


(1)الساموفار: دورق روسي لوضع الشاي.


(2) برنو: مدينة بجمهورية التشيك.


(3) الفورسيثيا:  زهرة ربيعية وتنمو عادة على شكل شجيرات, تنمو عادة بين اثنين إلى ثلاثة أمتار وهي سهلة العناية.


(4) حفلة تنكرية: امتدت الحفلات التنكرية إلى الاحتفالات العامة بالملابس في إيطاليا خلال عصر النهضة في القرن السادس عشر. كانت رقصات متقنة بشكل عام لعضوات الطبقات العليا،وكانت شائعة بشكل خاص في البندقية. وقد ارتبطت بتقاليد كرنفال البندقية.


ترجمها عن البولنية للإنجليزية  أنطونيا لويد جونز

 •  0 comments  •  flag
Share on Twitter
Published on August 23, 2018 15:15

July 25, 2018

A&P- جون أبدايك

[image error]


 


بظهري إلى الباب، كنت في فتحة الدفع الثالثة بينما كانت صحبة من هؤلاء البنات الثلاث بلا شيء تقريبا إلا أثواب السباحة، لذا، لم أشاهدن بعدما اختئبن خلف الخبز. كانت الأولى التي لمحتها عيني الوحيدة بمايوه أخضر كاروهات من قطعتين. فتاة مكتنزة، بسمرة جيدة، وحمالة عريضة حلوة ناعمة المظهر، مع هلالين من البياض فقط تحتها، ولم يسبق للشمس أن أصابت بداية باطن ساقيها. كنت واقفا بمكاني ويدي على علبة من بسكوت هاي هو(*) أحاول تذكر إذ ما كنت  أدخلتها أم لا. من جديد سجلتها بينما بدأت الزبونة تضايقني. ما كانت تشبه غير مراقبات ماكينات النقود، ساحرة شمطاء على حدود الخمسين بروج على وجنتيها وبلا حاجبين. أعلم أني أسعدتها بتعطلي أمامها. فقد شاهدت ماكينات تحصيل النقود لأربعين عاما، ومن المحتمل أنها لم ترى أبدا خطأ يحدث من قبل.


بعد وقت، جعلت ملامحها تلين، ووضعت متاعها بداخل شنطة كبيرة-بمرورها لجواري أعطتني نخرة بسيطة- لو أنها ولدت في الوقت المناسب لكانوا أحرقوها في سالم(**)- وقتها كنت قد لمحت الفتاة بطريقها للفتيات واللاتي تحلقن حول الخبز جيئة وذهاب، دونما عربة شراء، وذلك بتلفتي بعيني على طول العدادات في الممشى بين المخارج وسلال الشراء. لم يكن حتى يرتدين أحذيتن. الأولى كانت تلك المكتنزة بالقطعتين- كان أخضر فاتح وبدا على الحمالة أنها ما زالت حادة، وكان بطنها كذلك تقريبا شاحبا لذلك خمنت أنها للتو تحصلت عليها(البدلة)- كان هناك هذه، مع أخرى من تلك البنات الممتلئة الوجه كالتوتة. شفتاها مزمومتان أسفل أنفها، كانت هذه، طويلة، بشعر أسود، والذي لم يجعد جيدا بشكل صحيح، ولديها حرق من الشمس بالضبط أسفل عينيها، ولديها ذقن كانت طويلة.. أنت تعلم، ذلك النوع من الفتيات والتي تظنها الفتيات الأخريات “جذابة” و”لافتة للأنظار” ولكنها لم تكن أبدا كذلك، كما يعلمن جميعا ذلك؛ لذا، هذا السبب أنهم يحبونها كثيرا..أما الثالثة، لم تكن تقريبا جدا طويلة. كانت الملكة. نوعا ما، تقودهم، بينما الفتاتان الأخريان يتلصصان حولها ويديران أكتافهما حولهما. لم تتلفت حولها، ليس هذه الملكة، كانت تتقدم ببطء بهدوء، فوق هاتين الساقين البيضاء غير المعقولة. بوضعها النعلين بدا كما لو أنها لا تمضي بقدميها العاريتين بهذا القدر، أتت بقدر أصعب عما كانت قبل النعلين، بعدها تركت الوزن أسفل إلى أطراف أصابعها كما لو أنها تختبر الأرضية مع كل خطوة، واضعة عمدا حركة زائدة بكل واحدة. أنت لا تعلم بالتأكيد كيف يعمل عقل الفتاة (هل تظن أن هناك عقلا بداخل دماغها أم فقط أزيز بسيط كما نحلة بقارورة زجاجية؟) لكن وصلتك الفكرة؛ حيث تحدثت مع  الفتاتين للقدوم إلى هنا معها، والآن تريهما كيف يفعلان ذلك، كيف المشية بتروٍ والتحكم بجسدهما قائما.


كانت ترتدي ثوب استحمام قذر، زهري، ربما بيج، أنا لا أعرف حقيقة بحلمات صغيرة تحيطه بالكامل، الذي أثار انتباهي أن الشرائط للحمالة كانت لأسفل. كانا عن كتفيها متروكين سائبين حول القمم الباردة لذراعيها، و انزلقت أخمن كنتيجة البدلة عليها قليلا، لذا كان ما فوق الجزء الفوقي للبدلة تلك الحافة اللامعة. إذا لم تكن هناك لم تكن تعرف أنه يمكن أن يكون شيئا أكثر بياضا من هاتين الكتفين. مع الشرائط المنزلة، لم يكن هناك أي شيء بين قمة رأسها وقمة الجزء العلوي بخلافها. هذا المسطح  النظيف العاري إلى صدرها الهابط من عظام كتفها كما لوح معالج من المعدن مائل في الضوء. أعني، إنها كانت أكثر من جميلة.


كان لديها ذلك الشعر المتغضن والذي ابيض من الشمس والملح، ملفوف في كعكة والتي كانت بدورها تتفكك، ولحد ما وجهها جامد. تمشي بمتجر ((A&P وشرائطك لأسفلِ، أفترض أن هذا الوجه الوحيد الذي يمكنك الحصول عليه. ورأسها عالية فوق رقبتها، الآتية من تلكما الكتفين البيضاوين، بدت لوهلة مشدودة، لكني لم أبالِ.. كلما كانت رقبتها أطول، كان هناك المزيد منها.


لابد أنها شعرت بوجودي بركن عينها، وبجانب كتفي ستوكيتزي بالفتحة الثانية يشاهد، لكنها لم تعر اهتماما. ليس هذه الملكة. فقط أبقت عينيها تتحرك بين الرفوف، وتوقفت، ثم دارت ببطء شديد لدرجة جعلت معدتي تفرك بداخل مريلتي وهمهمت إلى البنتين الأخريين، واللتين نوعا ما اجتمعوا ضد راحتها، وثلاثتهن مضين إلى ممشى طعام الكلاب، القطط، حبوب الإفطار، المعكرونة، الأرز، الزبيب، البهارات، السباجتي، المشروبات الغازية، البسكويت، والكوكيز. من الفتحة الثالثة، تطلعت عبر هذا الممر حتى معد اللحوم، مشاهدا إياهن طيلة مسيرهن. السمينة منهن، ذات السمرة، ترددت أمام الكوكيز، لكن مع التفكير مجددا وضعت الكوكيز لمكانها. وبينما كانت الأغنام تدفع عرباتها عبر الممشى-كان البنات يسبحن عكس الزحمة المعتادة( ليس يعني ذلك أننا نمتلك إشارات بحارة واحدة أو أي شيء مثل هذا)- كان منظرهم مضحكا جدا. كان يمكنك رؤيتهم، عندما لاحت لهم الملكة ذات الأكتاف البيضاء، مثلا برجَّة، أو بنطة أو بزغطة، لكن ما لبثت أعينهم أن عادت لسلالهم، متابعين دفعها. أراهن أنه بإمكانك وضع ديناميت بمتجر A&P ولكن سيواصل الناس إلى حد كبير الوصول التعليم أمام الشوفان بقوائمهم متمتمين “دعيني أرى، كان هناك شيء يبدأ بالألف، الهليون..لا..أها..نعم المربي بالتفاح!” أو مهما يحدث فهم يتمتمون. لكن دون شك، ذلك يبسطهم. العديد من العبيد ببوكلات الشعر حتى لم ينظرن حولهن بعد دفع عرباتهم أمامهن للتأكد من صحة ما رأينه.


أنت تعلم، إنه شيء أن تجد فتاة في ثوب استحمام على الشاطئ، حيث لا يمكن مع هذا الوهج أن ينظر أحدهم للآخر كثيرا على أي حال. وشيء آخر حين تجدها ببرودة A&P، تحت ضوء اللمبات الفلوروسنت، بين كل هذه البضائع المكومة مع أقدامها تجدف عارية بين أرضيتنا الخضراء وقطع البلاط المطاطية الكريمية.


“يا والدي” قالها ستوكيتزي بجانبي “سيغمى عليَّ”


“يا إلهي” قلت “امسكني جيدا” وبقدر استطاعتي الفارق الوحيد بيننا ستوكيزي متزوج، مع طفلين معلقين بالفعل على جسده. لديه اثنتان وعشرون سنة، وكنت قد أكملت تسعة عشر عاما بأبريل.


“هل انتهى الأمر؟” وجد الرجل المتزوج المسئول صوته.. نسيت القول بأنه يظن أنه سيصبح المدير بيوم مشمس ربما ب 1990 عندما يدعى المتجر بألكسندروف الأعظم وبيتروشكي كشركة شاي أو ما شابه.


ما كان يقصده، أن مدينتنا كانت تبعد بخمس أميال عن الشاطئ، بجانب مستعمرة صيفية كبيرة، وكانت النساء عامة تضع تيشيرتا أو شورتا أو شيئا قبل خروجهن من السيارة إلى الشارع. على أي حال، يوجد سيدات اعتادت بست أطفال وبعروق الدوالي التجول بأقدامهن ولا أحد حتى باشتمالهن، يعطيهن اهتماما. كما أقول، حقيقة نحن بمنتصف المدينة، ولو أنك وقفت عند أبوابنا الأمامية يمكنك رؤية بنكين يجاورهما كنيسة الأبرشية(***) ومحل الجرائد وثلاث مكاتب عقارية وحوالي سبع وعشرين رافعة فارغة قديمة يمزقن جسد الشارع الرئيسي، لأن المجاري طفحت من جديد. ليس كما لو أننا في خليج؛ فنحن في شمال بوسطن، ويوجد أناس في هذه المدينة لم يروا المحيط منذ عشرين عامًا.


وصلت الفتيان إلى معد اللحم وكن يسألن ماكمان شيئا. أشار هو، وأشرن كذلك، بعدها اختفين عن نظري خلف هرم  من خوخ الحمية الخفيف. كل ما كان متروكا لنا ماكمان العجوز فاغرا فمه بعدما عاين أجزاءهن. أطفال فقراء، بدأت أشعر بالأسى حيالهن، لم يكن بوسعن شيء.


هنا يأتي الجزء الحزين من قصتي، على الأقل عائلتي قالت أنه كذلك، لكني لا أظن ذلك بداخلي. كان المتجر تقريبا خاليا، فقد كانت ظهيرة الخميس، لذا لم يكن هناك الكثير لأفعله سوى الاستناد على الماكينة وانتظار الفتيات ليظهرن مجددا. المتجر بأكمله كان يشبه لعبة آلة الكرة والدبابيس، لكني لم أدر بأي نفق سوف يخرجن منه. بعد قليل خرجن من الممشى البعيد بجوار اللمبات الصغيرة، تسجيلات تحت الخصم لستة من الكاريبي، (****)وتوني  مارتن  أو أي من مثل هؤلاء الحمقى والذي تتساءل أيما يضيعون الشمع فوقهم، ستة صفوف من قطع الحلوى، ألعاب بلاستيكية ملفوفة في السيلوفان، والذي يقع على أي حال عندما ينظر إليهم طفل. أتين متجمعين، لا زالت الملكة تقود طريقن، ممسكة بجرة صغيرة رمادية في يدها. كانت الفتحات من ثلاثة إلى سبعة بلا أحد، وكان بإمكاني رؤيتهن يتسآلن بيني وبين ستوكز، لكن ستوكز بحظه الاعتيادي جذب جماعة قديمة  ببناطيل باجي رمادية والذين تعثروا بأربع علب عملاقة من عصير الأناناس( دوما سألت نفسي ماذا ليفعل هؤلاء المتسكعين بهذه الكمية من عصير الأناناس.) لذا الفتيات أتين لي. الملكة وضعت الجرة، وأخذتها بأناملي الباردة الجليدية. جرة كينج فيش راقية(5*)سمك مملح في كريمة حامضة نقية: 49 سنت.. الآن يداها فارغة، لا يوجد خاتم أو سوار، عارية كما أوجدها الرب، وكنت أتساءل من أين ستجلب المال للجرة. كانت بنظرتها الجامدة نشلت ورقة دولارا مطويا من الفراغ بمنتصف صديرتها الزهرية المبزبزة. أصبحت الجرة ثقيلة في يدي، حقيقة، كان ذلك لطيفا جدا.


بعدها بدأ في النفاذ حظ كل أحد هنا..أتى لينجل بهيئة مهروسة بشاحنة من الملفوف بالجملة، و الذي كان على وشك أن يغرق بداخل هذا الباب المبوب ب”المدير” خلفي والذي يختبئ به طيلة اليوم، لولا أن لمست البنات عينه. لينجل تقريبا كئيب، يدرس بمدرسة الأحد(6*) والأجازات، لكنه لا يفوت بهذا القدر. أتى وقال “بنات..  ليس هذا الشاطئ”


احمرت مليكتي، وعلى الرغم ربما كان هذا احمرارا من حرق الشمس ألاحظه لأول مرة، الآن لأنها كانت بهذا القرب. “سألتني أمي بجلب عبوة من مقبل السمك المملح”صوتها أزعجني نوعا ما، ما تفعله الأصوات عندما ترى أشخاصا لأول مرة فهي تأتي خافتة عامة وغبية وتعد نوعا من الترفه، ولكن أيضا، الطريقة التي تكتكت بعقلي “جلب” و”مقبل”. فجأة انزلقت تتبعا صوتها إلى غرفة المعيشة. والدها ورجال آخرون واقفون متناثرون بسترات أيس كريمية، وبيبونات، وكانت النسوة بصنادل يلقطون السمك المملح فوق خلل أسنان من طبق كبير، وكانوا جميعا ممسكين بكئوس بلون الماء مع زيتون وعيدان نعناع بداخلهم. أما عندما يأتي والديَّ شخصا يحضرون الليمون كما لو كانت شيلتز(7*) حقيقية حريفة رائقة في كوؤس طويلة مع رسومات مرقعة لرسومات “They’ll Do It Every Time”(8*).


قال لينجل”كل شيء بخير,..” و”لكن ليس هذا الشاطئ” صدمني تكراره هذا كدعابة، كما لو أنه يحدث له للمرة الأولى، وأنه كان يظن طيلة هذه السنين أن متجر A&P كان كثبا رمليا عظيما وهو حارس الحماية خاصته. لم ترق له ابتسامتي- كما كنت أقول، لا يفوته الكثير- ولكنه كان مركزا بإعطاء هؤلاء البنات تحديقة يوم مدرسة الأحد الإشرافية الحزينة.


لم يكن توهج مليكتي من حرق شمس الآن، والبدينة منهن بالكاروهات، والتي أحببتها أكثر من ظهرها -حقيقة حمالتها حلوة- اندفعت قائلة “نحن لم نقم بأي تسوق، لقد أتينا فقط لغرض واحد”


“هذا لا يبدو فارقا” أخبرها لينجل، وكان يمكنني من الطريقة التي ذهبتا إليه عيناه أنه لم يلحظ من قبل أنها ترتدي مايوها من قطعتين “عندما تأتين إلى هنا، نريد منك أن تظهري بشكل لائق”


“نحن لائقون” التويت شفتها السفلية ، وشعرت بالحنق وهي تتذكر مكانها، ومن المؤكد أن متجر A&P بدا لها مكانا رخيصا، مكانا حيث تهرب الناس منه. فقط اتلمعت علبة السمك المملح الراقية في أعينها الزرقاء جدا.


“بنات، أنا لا أريد الجدال معكن” بعد ذلك، تأتين هنا بأكتافكن مغطاة. إنها سياستنا. وأدار ظهره. إنها سياسة لأجلك. السياسة التي يريدها المنتفعون. ما يريده الأخرون هو جنوح الأحداث(9*).


بهذه الأثناء، ظهر الزبائن بعرباتهم، لكن أتعلم، الخراف، برؤيتهم المشهد تكوموا عند ستوكزي والذي هز كيس البيع برقة كما تقشير خوخة، لكي لا تفوته كلمة. كان يمكنني الشعور بالصمت، بأن كل واحد منهم يشعر بالضيق، أكثرهم على الإطلاق لينجل، والذي سألني “هل سجلت هذا الشراء..سامي؟”


فكرت، وقلت “لا” لكنه لم يكن هذا ما أفكر بشأنه. دست عبر النقرات “4،9، بقالة..المجموع” إنه أمر معقد أكثر مما تظن، فبعد أن تفعل ذلك أحيانا، يحدث أن تبدأ بصنع أغنية صغيرة، والتي تسمع بها الكلمات، والتي كانت بحالتي “مرحبا(نقرة) بك، أنت(طرقة) أس..سعيدة شجرتي(فرقعة)” الفرقعة بدرجي غائبة. أزلت الزيادات عن الفاتورة. بكل رقة كما لك أن تتخيل، أن كل هذا أتى من بين أنعم مغرفتين من الفانيليا والذي لم أكن أعلم بوجودهما، ومررتُ قرش ونصف إلى راحتها الوردية الضيقة، وحضنت الجرة في شنطة، ولوت رقبتها، وسلمتها. كان كل ما أفكر به.


الفتيان، ومن يمكنه لومهن، كن على عجلة للخروج، لذا قلت “أنا مستقيل” سريعا كافيا ليسمعن ذاك، آملا بأنه سيتوقفن، ويشاهدنني، يشاهدن البطل غير المتوقع. استمررن بالمضي عبر العين الكهربائية، فُتح الباب لهن، وارتعدن عبر البقاع وصولا إلى سيارتهن، مليكتهن، والكاروهات، والطويلة حقا الحمقاء الحمقاء( ليس هذا مادة سخرية لأنها لم تكن سيئة) تاركين إياي مع لينجل وتشنج في حاجبه.


“هل قلت شيئا سامي؟”


“قلت أنا مستقيل”


“اعتقدت أنك قلت”


“لم يكن يجب عليك إحراجهن”


“إنهن من أحرجنا”


أردت قول شيئا، لكنه خرج “حجة فارغة” كان قول من أقوال جدتي، وأعلم أنها ستكون سعيدة بقولي.


“أنا لا أظن أنك تعلم ما تقوله” قالها لينجل.


قلت له”أنا أعلم أنك لا تعلم” وأتبعت “لكن أنا أعلم” فككت الربطة بمؤخرة مريلتي، وأنزلها من فوق كتفي. بدأ زوجان من الزبائن كانا على وشك التقدم إلى فتحتي في قرع أحدهما للآخر، كما  خنازير خائفة في مزلجة.


تنهد لينجل، وبدا عليه أنه أصبح أكثر هدوء وحكمة وسكون. حيث أنه كان صديقا لوالديّ لسنين. “سامي، لا تريد فعل هذا بأبيك وأمك” أخبرني ذاك، حقيقة، لم أرد فعل هذا. لكن بدا إلي أنك أول ما أشرت بأنه خطأ ألا أمضي بذلك. طويت المريلة،  كانت”سامي” مخيطة بالأحمر عند الجيب، ووضعتها عند الحساب، ووضعت الببيون فوقها. البيبون هنا، لو أنك تساءلت.


“سوف تحس بذلك لبقية حياتك” قال لينجل، وكنت أشعر بأن ذلك حقيقي، أيضا، مع تذكري كيف جعل تلك الفتاة الجميلة تحمر خجلا جعلني ذلك انسحق بداخلي لدرجة أني لكمت منضدة الحساب، والمكنة تطن “شجرتي” وتذكرت فرقعة الدرج جانبا. ميزة واحدة لهذا الحدث بالصيف، أنه كان بأن اتبعت فعلتي إلى المدخل الخالي، لم يكن هناك جلبة بجلب معطفك، وكلوشك(10*)، فقط تلكأت حتى العين الكهربائية بقميصي الأبيض والذي كويته أمي بالليلة الماضية، والباب جعل نفسه مفتوحا، وبالخارج كان ضوء الشمس يتزلج على الأسفلت.


تلفت حولي لأجل الفتيات، لكن، بالطبع قد اختفين. لم يكن هناك أحد بخلاف زوجين شابين يصرخون مع أطفالهم بشأن بعض الحلوى والذان لم يجلبا إياها لهم عند باب سيارة سماوية فالكون فاجن. وبالنظر عودة إلى النوافذ الكبيرة، خلف أكياس البيتموس(11*)، وأثاث المرجة الألومنيوم، الموضوع على الرصيف، كان بإمكاني رؤية لينجل من فتحتي بمكاني، يتفقد سير الخراف. كان وجهه كئيبا مظلما وظهره متيبسا، كما لو أنه قد أخذ حقنة حديد للتو، وراود معدتي شعورا كما شعرت بكيفية صعوبة سير العالم بالنسبة إليَّ فيما بعد.


 


(*)بسكوت هاي هو: منتج بسكوت أمريكي الصنع، مقرمشات.


(**)سالم: بسالم بدأت سلسلة من المحاكمات للأشخاص المتهمين بممارسة السحر في ماساتشوستس.


(***)االكنائس الأبرشية: هي كنائس بروتستانتية في التقليد الإصلاحي الذي يمارس الحكم الكنسي للمجموعة، حيث يدير كل جماعة شؤونها الخاصة بشكل مستقل ومستقل.


(****) توني مارتن: ممثل ومغني أمريكي


(5*): مكتوب على العلبة ذلك.


(6*): مدرسة الأحد هي مؤسسة تعليمية ، عادة (ولكن ليس دائمًا) مسيحية ، والتي تلبي احتياجات الأطفال والشباب الآخرين الذين سيعملون في أيام الأسبوع.


(7*): شليتز: بيرة أمريكية


(8*): رسومات كرتونية بجرائد بواسطة جيمي هاتلو.


(9*): جنوح الأحداث: جمع حدث، الأقل من السن القانوني لارتكاب الجرائم، والمراد تقصيرهم وتصيد الأخطاء لهم.


(10*): كلوش: حذاء مطاطي


(11*): البيتموس: من المكونات العضوية، من نبات الموس


إشارة أخيرة قد أثرت إبقاء الاسم الأمريكي للقصة كما هو، لأن لا يوجد موازيا مشابها في اللغة بذلك.

 •  0 comments  •  flag
Share on Twitter
Published on July 25, 2018 05:21

litfreak1234.wordpress

إسلام عشري
مدونة خاصة بالأدب
Follow إسلام عشري's blog with rss.