ثرثرة شتوية 2
[image error]
إهداء: إلى أستاذ مكاوي سعيد
(*)
ما إن خلت منضدة رابضة أسفل مظّلة المقهى، حتى غادرتُ موقعي المكشوف متجهاً نحوها. قبل أن تأتي كنت أنظر لموبايلي، حيث ترقد صورتها أمام عيني، كأنما أستدعيها قبل أن تأتي إلي. أول ما أتت أخذتها بيدي مثل شارة تتابع بسباق عدو؛ إلى ركن منزو هادئ. كنت قد احتبست نفس سيجارة بصدري وكان قد حان الوقت كي أفلته من أنفي. تزحلقت يدي على جاكتها أو أي كان ما تدعي لبسه. حدثتني عن صديقة قد تصدف وتمر بنا، ويجب عليها أن تبرقها برسالة تذكرها. فقلت في بالي من قد يخاطر وينزل- بخلافها- في هذه العتمة إلا خريجي العباسية! من يكون لديه عائلة ويتركها في هذه السقعة المثلجة إلا لو كان خائن وزوجته نائمة في العسل. تركتها على الكرسي تستريح قبل أن تتداعى مني من المشي؛ وإن كانت تستحق لتأخرها. كنت أقرض أظافري بأنه ربما قابلها مرتمي من هنا أو من هناك، أو ربما التهم قرش ذاكرتها ولم تتذكر الموعد. قبلها بيوم ظللت أتقافز أمامها مثل أخيلة الظل لأذكرها من حين لآخر بالموعد، لعلَّ ذلك يفلح بذاكرتها، وتنبت بالموعد المحدد. حينها أتتني مكالمتها بصوتها الطفولي الشقي ذاته، سألت عن حالي وأحوالي ومحتالي وعاتبتني مدعية أني لم أعد أتصل بها! سألت عن عائلتي، عن جدتي المشلولة كذلك. كانت مكالمة ثقيلة كما خروج جني من مصباح أمام عيني. لكني ظللت أحتمل مناهدتها ولم أفزع حتى انتهت. كنت أشعر بالفخامة والعظمة لمجرد أنها تكلمني. كأن دوارا، كان يلتبس جسدي وقتئذ. كنت أفكر بكل ذلك وأنا أدفع الحساب. بسرعة قياسية أدهشتني وبُغتُّ بها واقفة على رأسي تتعجلني الدفع.
اندهشت لكوننا مشينا كثيرا حتى تنملت أقدامنا. وسألتها كعادتي مباغتا مثل مضرب ذباب دبق بوجهها “مالكيش أهل تكلميهم تطمنينهم عليكي دلوقت؟” ولكنها أجابت “أكلم مين دلوقت؟” وعلى حين انسجامنا وسباحتنا معا بالحديث المجدي وغير المجدي. ظهر أحدهم مثل فرقع لوز من زقاق ضيق على غرة. وسألتني وهي تتأبط ذراعي “طلع منين ده يا أخويا؟” ثم، لطمت وصوتت، واستدعت كل عائلتها بمنحى يدعو للعجب وهي تشير إلى الشاب كأنما رأت شبحا. كل ما حاولت فعله، أن هدأتها كما حدأة تحدف كتاكيتا. ولكني فؤجئت بأنها تحمل موسا تحت شفتيها. ما لبثت أن أخرجته، وطوحت به في الهواء عاوية، وشجت به عباءة السكون أمام الولد المرتعد. وعندما أبعدت اليد المقتحمة بغلظة قالت “حصل خير..” لحقت بها متعجلا وبداخلي مشاعر مضطربة، لا أعرف من أين أبدأ الحديث معها مجددا. نظرت إلى حيث تشير. أشارت بلا مبالاة نحو حذاء نسائي برقبة مكسوة بالفرو من الداخل. أخبرتني أن أمضي للداخل لأقيس الحذاء. أردت أن أماطل، أو أطلع من بالها هذه الفكرة السيئة علها تفكر بشيء آخر. لا، لم يكن يبدو أنها تمزح. فجأة سألتني عن رأيي فيما قالته أخيراً، وضحكت بشدة تجاه صمتي قائلة إنها تعرف أني لا أحب أن أسمع حديثها عن أختها التوأم. غالبا كنت أماطل وأنظر في ساعتي، لأن الوقت قد سلبني لساني. أخبرتني حينما رأت ذلك بأنه لم يتبق سوى بضعة شوارع إلى منزلها، وهناك يمكنني أن أسترح.
كان الغيم قد انتصر أخيراً. وفشلت مصابيح الشوارع وواجهات المحال المفتوحة القليلة في تبديد الظلمة، بيد أنها أشارت إلى عمارة مهكعة أمامي. قائلة أن في داخلها بعض المتاجر ومصانع الملابس الصغيرة التي تبيع بأسعار مقبولة. جرتني من يدي مثل طفل صغير لأول مرة يرى أمه مذ زمن. وفشلت في إبعاد كل السيناريوهات المتعلقة لكونها تشبه ريا وسكينة. وأن موسيقى حسب الله سوف تستقبلني في الطريق. فور مشاهدتي اللوحة المعلّقة على باب المصعد التي تفيد بعطله، أخبرتها بحزم أني لن أصعد غير طابقين. لكن بالفعل كان هناك باعة لبالةٍ ما. كنت أغالب عامة ظنوني الماجنة بشأنها وشأن أختها التوأم كذلك. ظللت أتلفت لأن خواطري السيئة قد غادرتني وأنا غير مهتم بالفعل. أخرجت كوفية من كومة أمامها، ومدتها مثل ثعبان ولفت لي رقبتي “حلوة عليك..يا جميل”..أنا بالفعل لم أكن أفكر غير في ردة فعلها لو قلت لا، والشفرة أمامي بإنش، ثم اقتربت مرة أخرى لتعدل من وضعها، وفجأة وجدتها تثب على طرفيها لتمس شفتاها فمي. أدرت ظهري بالكاد لها، من عدلتي، شاهدت أنها أخيرا وقفت أمام فرجة الباب وإنها على وشك المغادرة.
وقفت تتقافز مثل كرة جلد ” خلاص هتمطر!” خرجت أتبعها وأنا أجد السير خلفها. أدخل أنفاسي اللاهثة بداخلي. وكان البقية بالشارع يتسابقون لحجز مكانا خلف تندة أو مظلة أمام المحال. التفتت نحوي أخيراً وهي تسألني إن كنت مستعداً للدخول معها في سباق عدو أسفل المطر. وكل ما كان يدور ببالي هل بقى الكثير أمام رؤيتي للسرير الذي وعدت به أم لا..كنت فقط أتبعها لكي لا أفقدها وهي تخلفني ظهرها. ووجدت نفسي مدفوعا نحوها، لا أدري ذلك برغباتي، أم رغباتها. لكني أردت أن أعرف كل شيء، لا أعرفه، عنها.
(*): لينك القصة الأصلية مرفقا من جريدة الحياة
http://www.alhayat.com/article/722545/ثرثرة-شتوية
(**)تم نشر ثرثرة شتوية: من قبل الأستاذ مكاوي سعيد منذ 11 يناير 2016. بالطبع تم تطعيم هذه القصة بعبارات من القصة السابقة. معتبرا بأن الأستاذ مكاوي لن يمانع بذلك غالبا.