بدلة جده الرمادية- الفتى الذي لم يعد كذلك

 


 


“لكنني رأيت ذلك بعيني.


أتفهمون؟ بعيني رأيته” إيليا سيلفينسكي..


 


كان يقول في وقتها “جدي..أريد أن ألمس بيدي السماء!”


لكل كلمة قالها؛ أراد الجد أن يقول: كلنا نريد، هذا مطلب أكثر من سبعة بليون شخص على كوكب الأرض. وسبب أفعالهم كذلك.


أراد أن يقول ذلك. لكن أدرك أنه بشكل محتوم  سيضطر لشرح مرادف بليون لطفل لم يبلغ سنته العاشرة بعد. وربما تعثر بالرقم أمامه، ووقع في حيص بيص، وضرب أخماسا في أسداس أمامه. ربما كل الأجداد- لو كانوا بمكانه- سيتفقون معه. بالذات المليونيرات منهم.


من ساعة الواقعة. من يناير. طال انتظاره لصرف منحة الدفن، وكان يحك أنفه، بذقنه، بعصبية. كمن شعر بأنفة شديدة تسد نفسه، كأنما وجد شعرة فوق حسائه. كان يتحدث بعصبية، وكانت الكلمة تخرج منه بطلوع الروح كما شعرة من عجين. هو عامة، لا ينتظر الكثير كأن يخبطه رقما كبيرا بالوديعة يفقده وعيه.


 


“انظر.. هذا نورس.. الذي تراه قبالتك.. لو لم تكن قد رأيته من قبل!” لم يكن يعلم إذ ما كان نورسا،  أو أبا منجل أو أبا فصادة حتى. كان طائرا، أمامه وكفى. بمنقار خشبي مثقوب، المهم أن يجعل الطفل يراه.


بذكر الطائر الذي كان يحجل، تذكر أنه بصغره -الجد لا الطفل- كان يخطف إوزة من عشة غريبة، ويضعها تحت إبطه كموظف بالمعاش، يحيي بها المارة، والعابرين، وكل أطقم الممثلين بالشوارع. الآن ألامه تمنعه من ذلك. لا مزيد من العبث برأس جد الفتى، يضع الإوزة جانبا، يطرحها من عقله، ويعاود النظر إلى الطائر؛ غير محدد النوع. هيا أيها الطائر. تابع ما كنت تفعله.


لا ألعاب من أي نوع، كأن تطير بين أجنحتك وتطلق شخصا من فمك، أو أسماك، ليس بقصتي  أي أسماك، لا أطيقها. لكن لم تكن مدينتي طبعا قيد التكوين. كان الفتى الصغير ماضيا وقتئذ وراء الطائر، تابعا إثره مثل أشعياء الحسين.


يمتلك الفتى ساعة واحدة، يعابث الطائر، أو يلقمه كسرة خبز، قبل أن يمضي به الجد إلى البنك. جال بدماغه مليون خاطر، دون أن يقف إلى واحد. لكن بمرور الأيام امتلك الفتى حقيقة حقيبة من السباب -عن كره- لسب هذه الأوقات الفارغة.


 


كانت الشتمة الأولى التي أمتلكها بامتحان الابتدائية ، وكان الولد بجواره قد أخبره بفزورة يحزرها:


“ما اللفظ الجنسي المكون من حرفين، الذي إذا قلبت أحرفه أصبح عضوا ذكريا، ومرة أخرى عضوا مؤنثا؟”،”..هاه..حزرت؟”


قال الطفل، وقتها “غُلب..حماري”


فمال على أذني، وألقى بجملته التي، وهجت له وجهه إلا الآن..


بمناسبة الحمير هناك واقعة جسدت أمامه، حصل منها على شتمته الثانية، كان الأولاد يتباهون باصطحاب الحمير خلف سور المدرسة، وعندما كان يسألهم بكل براءة، كانوا يبتسمون، ابتسامة ممزوجة بالخبث، ويشيرون لأعضائهم التناسلية، ويتغامزون، وأكثرهم جرأة قال:


“لأجل أن ندقهم”


لم يعلم الفتى ما ربط بين دق الحمير بسور المدرسة، مثلا خشية أن يقع، وظل بحيرة من التخمينات الثقيلة على جسيده كما حقيبة المدرسة، لألم حقيبة شتائمه وأبقيها مغلقة. لأن الجد الآن، والطفل قد وصلا إلى البنك.


الجد واقف أمام الموظف، وأمامه فتاة خمرية، كان الطفل هائما بأرجلها، بأظافرها، بالفراء الزغبي اللابد بين كتفيها. حقيبتها الجلدية، المكالمة التي أنهت استغراقه بها، وتوقفت عن كونها مانيكانا صالحا لتأمله. ودخلت في مكالمة طويلة. ختمتها:


“لا تنس.. يا حبيبي” الطفل لم ينس.عُلم. تلقى كل هذا، وحفظه كأنه البارحة. كان وقع ما حفظه فوق ظهره ثقيلا، يهوي فوق عموده الفقري. لدرجة أنه كان يحتاج إلى شخصين معه ليحمله. من حين لآخر كان الحادث يلتمع بعقله كأنه ذلك العقد الماسي الذي كانت تحمله برقبتها، كأنه فيلما عظيما، لا يملك إلا مشاهدته كل فترة، والإعجاب به. ويمارس الاستمناء عليه.


نسيت الجد وهو واقف، يالا لقلة ذوقي. سيجب أن أنتظر قليلا لحين مرور الفتاة المزغبة بعد أن ترتدي ملابسها مجددا وتضبط مكياجها وتمضي من الذكرى. بغضون يومين من انتهائهم من البنك، سيكون سارحا، وسيلمع حادث الوفاة بذهنه حينئذ وهو يفتح الحقيبة من البنك. مجلات قد جمعها المرحوم له، من مجلات النجوم، الكواكب، صور لعبد الحليم، وردة الجزائرية، بليغ، متبولي، والمهندس، بوسترات، وغيره، وغيره.. شيك بالآخير لا يتعدى به الرقم ثلاث أصفار. من المؤكد أن الجد كره الفتى وقتئذ ورأسه شاطت وأخرجت بخارا كما أفلام الكرتون. ولم أن هناك تروموترا للخطر، كان سيخبر الفتى بأن يبتعد عن الجد. لأن ترومومتر الغضب للجد سيتعدي الأربعين بشُرط.


فكر الجد بأن يشتري أشياءا كثرة، سيشتري جزمة جديدة، له. سيشتري إبرة وخيط، وماكينة خياطة مكان زوجته الراحلة، وهنا، وهنا فقط حمل الحقيبة ومضى ومعه الفتى.


كان مرسوما على وجه الفتى العبوس. لا يمكن تحديدا رسم العبوس، ولكن حركات الحواجب، انعقادها معا كنورس خارج من الجبهة، المسارات الدقيقة بين أحافير الوجه. أشياء لا تحتاج لتفسير. لأترك التفعيص في مفهوم العبوس جانبا. لنعود إلى دائرتنا الضيقة المحدودة بين الجد والفتى. حتى لا أحيد عن قصة الفتى، وأظلمه إلى ما يشبه تلك النصوص. لنقترب أكثر منه وأكثر بعد وفاة والده، لنكتشف حقيقة من هو؟


الآن وقد فاق العشرين، بعد أن دار على ست أشغال كعبا دائرا، ونحل وبره. كل محالات المدينة كانت بطريقها بالعبوس بوجه الفتى الضيق. ابتلعته اللعبة منذ كان صغيرا. قبل العمل ليقبل العملة، يعمل بوظيفة، لكنه يتركها بعد فترة لأجل مهنة أكثر دخلا فقط، لن أشرح أكثر. المهم النقود، نقود لم تكد تكفي لتشتري كابا يقي لحم رأسه.


كان جده يشاور بقبعة الصيادين على رأسه، للعابرين، دون تبادل أي أسماء. لكن الفتى أو لم يعد يصلح أن أصفه كذلك، لم يتوقف عن العمل يوما، هذا فقط ما تريد معرفته، ويريد معرفته.


امتلأ الجد لدرجة أنه لم يكن بإمكانه أن يلمس إصبع قدميه من كرشه المترامية أمامه، كان يستعد للموت بزجاجة، ويبدأ فعل ما يفعله الأجداد الأموات، من حين لآخر يلقي بشفقته نحوه.


“أنا لا أنتظر كلمة من أحد..”


من حين لآخر  أيضا كان يروح بأول الشهر ليصرف شيكا من الوديعة، التي أخذها من عرق الفتى، وقفاه المسلخ. الفتى الذي لم يعد كذلك، المجلات ما زالت على المكتب. لم يقرؤها حد، لم يمتد إليها يد. فقط علق بوسترا لناهد شريف، وهي تنحني لتلتقط شيئا من الأرض، وهي تنظر للكاميرا.


اعتدت أن أمضي لحيث كان الفتى يقف، بدون أي مبرر وجودي، أقطع من أجازتي من الشغل، وأمضي بكل يوم اثنين، لأقف مكانه، لأجرب شعوره مجددا.


أقف على قدمي كل إسبوع، مهما كلفني الأمر. بجيب ممتلئ بالنقود، أخر ممتلئ بالفركة، أخر بالتبغ، والحشيش. أظل دائرا بالساقية، ست أيام بالأسبوع. أعصب رأسي كروبن هود شريف عما يغير رأيي بالحياة. الحياة حلوة، رغم أن لا شيء يستحق الذكر حقا..


من وقت لثانٍ أمضي لبيت دعارة، ومعي فتاة، ساعتها أنزل كما ناهد شريف بالبوستر لألتقط شيئا، أنا الآخر..


أقود نفسي، لأجد نفسي أقد بهداوة إلى الثلاثين، وأنا أفعل كل هذا. ولا أعرف لما.


تفصيلا صغيرا، رأيته من الفتى الذي لم يعد كذلك، كانت بدلة جده رمادية.


 


 

 •  0 comments  •  flag
Share on Twitter
Published on December 28, 2018 00:12
No comments have been added yet.


litfreak1234.wordpress

إسلام عشري
مدونة خاصة بالأدب
Follow إسلام عشري's blog with rss.