محمد ذهني's Blog, page 2
August 20, 2014
الذين لا يفقهون قولاً
تبدأ حكاية يأجوج ومأجوج بأن ذا القرنين بلغ قوماً لا يكادون يفقهون قولاً. وهؤلاء اشتكوا أن يأجوج ومأجوج "مفسدون" وطلبوا من أن يمنع عنهم أذاهم بسد ففعل. طريقة بناء السد التي ذكرت يبدو منها أنه إما أن ذا القرنين عملاق أو يأجوج ومأجوج هم أقزام أو أصغر من ذلك. تخيلهم فئران يعيثون في الأرض فساداً فتسد جحرهم بالإسمنت والزجاج المجروش كي لا يستطيع الفئران قرضه. هنا سد ذو القرنين على المفسدين بالحديد والقطران. ويخبرنا أنهم لن يستطيعون نقبه حتى يأتي وعد الله فيجعله دكاء. وسيخرج هؤلاء المفسدون أكثر عدداً وأكثر غضباً ورغبة في الفساد والانتقام. تماماً كالفئران الذين سددنا جحرهم. سيخرجون يوماً وقد تكاثروا وتضخموا و توحشوا. أهذا ما أراده ذو القرنين؟ مجرد تأجيل المواجهة حتى يصير القوم الذين لا يفقهون قولاً أشد علماً؟ لماذا لم يسحقهم وهو الذي في طوافه عذب الكافرين و أحسن للمؤمنين؟ ولماذا لم يعلم هؤلاء الجهال كيف يواجهونهم؟
هذه القصة – ككل قصص القرآن- لا تروى بلا سبب وبلا موعظة. صحيح أننا كمسلمين اتخذناها كنبوءة دون اعتبار لما وراءها من حكمة. فأخذنا نبحث عن هذا السد في الأرض وفي الفضاء أيضاً. فقيل أنه سور الصين العظيم وأن الصينيون هم الأكثر عدداً فلابد وأنهم أحفاد يأجوج ومأجوج. وقيل أنه موجود في سلسلة جبال شرق أوروبا. وقيل أنهم خرجوا بالفعل وصاروا الخزر والذين صار من بعضهم يهود شرق أوروبا. وهناك من وجد العين الحمئة التي تغرب فيها الشمس في أمريكا الشمالية . ومؤخراً قال أحد الجهابذة أن هذا الجزء انفصل عن الأرض ويدور في الفضاء!وهكذا تركنا الغاية ووضعنا الحكاية في قائمة النبوءات التي ننتظرها مع المسيخ الدجال والمهدي المنتظر و الفتوحات الإسلامية في أوروبا.
لم يكن ما لفت انتباهي في القصة هو من هم يأجوج ومأجوج ولا أين هم. فالقصة مجهولة الزمان والمكان والأشخاص. ربما يأجوج ومأجوج خرجوا وانتهوا. ربما هم مجرد حيوانات مؤذية. القصة لم ترو لنا لكي نحترس أو ننتظرهم بل لكي نتعظ. الذي لفت نظري هو هؤلاء القوم الذين لا يفقهون قولاً. لا يعني هذا أنهم بلهاء فهم يتحدثون مع ذي القرنين ويطلبون عونه بل ويساعدونه. فكونهم لا يفقهون قولاً هو إشارة فيما يبدو أنهم لا يستطيعون مساعدة أنفسهم. لا يملكون من أمرهم شيئاً. لا ينفع معهم أن تنصح أو ترشد. ينتظرون من يأخذ دائماً بأيديهم. أشبه بمنتظري الزعيم والمخلص والمهدي والخليفة.
الشيء الآخر الذي يشغلني هو ما فعله ذو القرنين. منع أذى المفسدين حتى حين. ولكنهم موجودون خلف هذا السد يتكاثرون ويتنامى غلهم وتوحشهم. ويوم يخرجون ستكون حرباً ضارية فهل القوم الذين لا يفقهون قولاً مستعدون؟ يقول القرآن أنهم سيخرجون ومن كل حدب ينسلون. وبغض النظر عن طبيعة هؤلاء فالقصة لها هدف واحد فقط. من الجميل أن تمنع أذى شخص أو شعب أو حيوان لفترة. لكن كن مستعداً لأنه سيعود مع أقل بادرة انهيار.
في 1954 قام عبد الناصر بمحو الإخوان . حبس وإعدام وتعذيب. كان ناصر هو ذو القرنين العصري الذي أراد أن يمنع أذى الإخوان. هذا ما آمنا به لأننا لم نكن نفقه قولاً. ولأن ناصر تركنا دون تحذير بأن هذا السد مؤقت، ولأنه لم يهتم بأن يمنحنا وقاية حقيقية ضد عودتهم، لذلك فبمجرد تغير الحاكم أزيل السد وفتحت السجون .الإخوان عادوا ومعهم الجماعات الإسلامية "الأكثر توحشاً". وبعد مقتل السادات بدأت الحرب ثانية. وبني السد وصارت الحجة أننا لا نفقه قولاً لذلك فالسد موجود وذو القرنين الجديد جالس على صدورنا ليمنع انهياره ودون أن يغير من حال هؤلاء الذين لا يفقهون قولاً. وعندما انهار السد ثانية في 2011 عاد المفسدون ليفسدوا "إخوان- جماعات- جهاديين- سلفيين" أكثر عدداً وأكثر استعداداً وخبرة ولأننا مازلنا لا نفقه قولاً طلبنا من ذي القرنين الجديد أن يمنع أذاهم فكان. وكم من حاكم في دول غير مصر عين نفسه ذا القرنين على قومه الذين لم يفقهوا قولاً. صدام والأسد والقذافي وبن علي . و جميعهم انتهوا وخرج يأجوج ومأجوج على القوم الذين سارعوا يبحثون عن مخلص جديد يبني لهم سداً جديداً. لأننا لم نفقه الآيات ولم نتعلم أنه مهما طال الزمن ومهما اشتدت مناعة السد فيأجوج ومأجوج سيعودون يوماً ليجدونا كما نحن. لا نفقه قولاً، ولا نستطيع المواجهة. نبحث عم يحمينا ونترك له مصيرنا. أما كيف نقي أنفسنا شر ذلك اليوم فهو بالضبط كما تقي نفسك من غزو الحشرات والقوارض بيتك. كما تمنع البعوض بتجفيف المستنقع الذي يجذبهم. كما تمنع الحشرات والقوارض بالنظافة . هناك كثير من المستنقعات في دولنا وفي معتقداتنا السياسية والدينية والمذهبية. هناك الكثير من القاذورات في الرؤوس. كثير من المناطق المظلمة في تاريخنا وكثير من البؤر التي نخشى الاقتراب منها. فتن وصراعات و تطرف . وهابية وسلفية وجهادية ودولة خلافة وجزية وأحلام بالفتوحات والسيادة . عذاب قبر وأمر بالمعروف ونهي عن المنكر وجهاد وحاكمية وحسبة. سنة وشيعة وعلوية وزيدية ودرزية واثنا عشرية و قائمة طويلة من المذاهب. هذه هي مستنقعاتكم والسد ينهار والعدو خلفه جاهز ومتحفز ومحمل بغل سنوات من القهر. فهل أنتم تفقهون قولا؟
هذه القصة – ككل قصص القرآن- لا تروى بلا سبب وبلا موعظة. صحيح أننا كمسلمين اتخذناها كنبوءة دون اعتبار لما وراءها من حكمة. فأخذنا نبحث عن هذا السد في الأرض وفي الفضاء أيضاً. فقيل أنه سور الصين العظيم وأن الصينيون هم الأكثر عدداً فلابد وأنهم أحفاد يأجوج ومأجوج. وقيل أنه موجود في سلسلة جبال شرق أوروبا. وقيل أنهم خرجوا بالفعل وصاروا الخزر والذين صار من بعضهم يهود شرق أوروبا. وهناك من وجد العين الحمئة التي تغرب فيها الشمس في أمريكا الشمالية . ومؤخراً قال أحد الجهابذة أن هذا الجزء انفصل عن الأرض ويدور في الفضاء!وهكذا تركنا الغاية ووضعنا الحكاية في قائمة النبوءات التي ننتظرها مع المسيخ الدجال والمهدي المنتظر و الفتوحات الإسلامية في أوروبا.
لم يكن ما لفت انتباهي في القصة هو من هم يأجوج ومأجوج ولا أين هم. فالقصة مجهولة الزمان والمكان والأشخاص. ربما يأجوج ومأجوج خرجوا وانتهوا. ربما هم مجرد حيوانات مؤذية. القصة لم ترو لنا لكي نحترس أو ننتظرهم بل لكي نتعظ. الذي لفت نظري هو هؤلاء القوم الذين لا يفقهون قولاً. لا يعني هذا أنهم بلهاء فهم يتحدثون مع ذي القرنين ويطلبون عونه بل ويساعدونه. فكونهم لا يفقهون قولاً هو إشارة فيما يبدو أنهم لا يستطيعون مساعدة أنفسهم. لا يملكون من أمرهم شيئاً. لا ينفع معهم أن تنصح أو ترشد. ينتظرون من يأخذ دائماً بأيديهم. أشبه بمنتظري الزعيم والمخلص والمهدي والخليفة.
الشيء الآخر الذي يشغلني هو ما فعله ذو القرنين. منع أذى المفسدين حتى حين. ولكنهم موجودون خلف هذا السد يتكاثرون ويتنامى غلهم وتوحشهم. ويوم يخرجون ستكون حرباً ضارية فهل القوم الذين لا يفقهون قولاً مستعدون؟ يقول القرآن أنهم سيخرجون ومن كل حدب ينسلون. وبغض النظر عن طبيعة هؤلاء فالقصة لها هدف واحد فقط. من الجميل أن تمنع أذى شخص أو شعب أو حيوان لفترة. لكن كن مستعداً لأنه سيعود مع أقل بادرة انهيار.
في 1954 قام عبد الناصر بمحو الإخوان . حبس وإعدام وتعذيب. كان ناصر هو ذو القرنين العصري الذي أراد أن يمنع أذى الإخوان. هذا ما آمنا به لأننا لم نكن نفقه قولاً. ولأن ناصر تركنا دون تحذير بأن هذا السد مؤقت، ولأنه لم يهتم بأن يمنحنا وقاية حقيقية ضد عودتهم، لذلك فبمجرد تغير الحاكم أزيل السد وفتحت السجون .الإخوان عادوا ومعهم الجماعات الإسلامية "الأكثر توحشاً". وبعد مقتل السادات بدأت الحرب ثانية. وبني السد وصارت الحجة أننا لا نفقه قولاً لذلك فالسد موجود وذو القرنين الجديد جالس على صدورنا ليمنع انهياره ودون أن يغير من حال هؤلاء الذين لا يفقهون قولاً. وعندما انهار السد ثانية في 2011 عاد المفسدون ليفسدوا "إخوان- جماعات- جهاديين- سلفيين" أكثر عدداً وأكثر استعداداً وخبرة ولأننا مازلنا لا نفقه قولاً طلبنا من ذي القرنين الجديد أن يمنع أذاهم فكان. وكم من حاكم في دول غير مصر عين نفسه ذا القرنين على قومه الذين لم يفقهوا قولاً. صدام والأسد والقذافي وبن علي . و جميعهم انتهوا وخرج يأجوج ومأجوج على القوم الذين سارعوا يبحثون عن مخلص جديد يبني لهم سداً جديداً. لأننا لم نفقه الآيات ولم نتعلم أنه مهما طال الزمن ومهما اشتدت مناعة السد فيأجوج ومأجوج سيعودون يوماً ليجدونا كما نحن. لا نفقه قولاً، ولا نستطيع المواجهة. نبحث عم يحمينا ونترك له مصيرنا. أما كيف نقي أنفسنا شر ذلك اليوم فهو بالضبط كما تقي نفسك من غزو الحشرات والقوارض بيتك. كما تمنع البعوض بتجفيف المستنقع الذي يجذبهم. كما تمنع الحشرات والقوارض بالنظافة . هناك كثير من المستنقعات في دولنا وفي معتقداتنا السياسية والدينية والمذهبية. هناك الكثير من القاذورات في الرؤوس. كثير من المناطق المظلمة في تاريخنا وكثير من البؤر التي نخشى الاقتراب منها. فتن وصراعات و تطرف . وهابية وسلفية وجهادية ودولة خلافة وجزية وأحلام بالفتوحات والسيادة . عذاب قبر وأمر بالمعروف ونهي عن المنكر وجهاد وحاكمية وحسبة. سنة وشيعة وعلوية وزيدية ودرزية واثنا عشرية و قائمة طويلة من المذاهب. هذه هي مستنقعاتكم والسد ينهار والعدو خلفه جاهز ومتحفز ومحمل بغل سنوات من القهر. فهل أنتم تفقهون قولا؟
Published on August 20, 2014 05:34
August 18, 2014
الحرب المنسية
تزييف التاريخ بصورة كاملة أمر صعب. فالتاريخ يكتب كاملاً. لكن السلطة دائماً ما تظهر وتعلن عن الجانب الذي تريده فيبقى في الذاكرة ، أما الجوانب الأخرى فتبقى في الظل فلا يطنطن بها الإعلام ولا يتناولها الصحافيون . فقط تظل في المراجع للباحثين الذين إن اهتموا بإظهارها ظلت معتمة فلا أحد يناصرها فتنتشر ولا أحد يحاربها فيسبب الجدل في انتشارها أيضاً.
فمثلاً: نحن نعلم عن تاريخ اكتشاف أمريكا وحرب التحرير والحرب الأهلية الأمريكية .لكن هناك حرب تهمنا في تاريخ أمريكا تسمى الحرب الأمريكية المنسية. منسية لأنها أول حرب تهزم فيها قوات الولايات المتحدة الأمريكية بل إنها الحرب الوحيدة التي توقع فيها الولايات المتحدة على معاهدة ليست بالإنجليزية وتقضي عليها فيها بدفع رسوم سنوية. ببساطة هي الحرب الوحيدة التي تم إذلال أمريكا فيها. لذلك ورغم حداثتها النسبية 1801-1805 م. إلا أن أمريكا قررت ببساطة نسيانها لذلك فبعد جيل واحد فقط كانت الحرب كأن لم تكن. و تهمنا لأنها لم تهزم على يد بريطانيا ولا فرنسا ولا حتى فيتنام. أمريكا هزمت على يد البربر "شمال أفريقيا" التابعين للسلطنة العثمانية وقتها. لذلك فالحرب اسمها حرب طرابلس أو الحرب الأمريكية البربرية الأولى . وهذه الحرب من أهميتها أن المارينز الأمريكية أنشئت بسبب هذه الحرب. حتى أن نشيد المارينز يقول: From the Halls of Montezuma. To the shores of Tripoli
وTripoli هي طرابلس تلك المدينة البائسة في ليبيا التي لا يعرف الكثير منا أنها موجودة أصلاً.
كانت سفن البربر تقوم بدور الفتوة في البحر المتوسط. فتحمي سفن كل الدول العظمى من هجمات القراصنة مقابل رسوم وهدايا وأسلحة .والدول العظمى كانت بريطانيا سيدة البحار وفرنسا وهولندا والدنمارك بل والولايات المتحدة ذاتها قبل حرب التحرير. لاحظ أن القراصنة كانوا هم البربر أنفسهم وهو نفس منطق الفتوة الذي يحمي الناس من بطشه هو ذاته. ولأن أمريكا تحررت 1776 فقد بدأت ترفع أعلامها على سفنها بدءاً من عام 1783. فاستولى البحارة الأتراك على إحدى السفن ثم استولوا على أحد عشر سفينة وقادوها للساحل الجزائري. ولم تكن أمريكا في قوة العثمانيين وأسطولهم البحري وقتها لذلك رضخت ووقعت اتفاقية بين جورج واشنطن وتركيا عام 1795 بالتركية ودفعت 642 ألف دولار ذهبي و 1200 ليرة عثمانية. واستردت سفنها وضمنت الحماية.
دب الخلاف ثانية بين حاكم طرابلس "يوسف القرة مانلي" والولايات المتحدة بعد عام واحد فقط لأن الإتاوة لم تكن مجزية وأراد حاكم طرابلس رفعها ولما رفضت قام بتحطيم سارية العلم الأمريكي أمام قنصلية أمريكا في طرابلس وطرد السفير و أعلن الحرب على الصليبيين و هاجمت السفن سفن أمريكا في البحر وقال أنهم دفعوا ثمن السلام لكن يجب أن يدفعوا للحفاظ عليه. فأرسلت الولايات المتحدة 1801 أسطولها للبحر المتوسط ليعزز هيبة الولايات المتحدة في المنطقة وقال جيفرسون أنه سيلقن هذا التركي الأبلة درساً ويعزز وجوده في المنطقة. تم أسر الفرقاطة فيلادلفيا . ولما عجز الأمريكيون عن استردادها قاموا بالتسلل إليها ونسفها كي لا تصبح غنيمة في يد الأتراك.
قامت أمريكا بعد عجزها عن مواجهة أسطول البربر بأول محاولة في تاريخها ل "تغيير نظام" وخلع حاكم بلد بإقناع شقيق يوسف القره مانلي " أحمد القره مانلي" المنفي إلى مصر باستطاعتهم خلع أخيه وتنصيبه مكانه وقامت فرقة مرتزقة بقيادة قائد أمريكي "نواة مشاة البحرية –المارينز" بغزو درنة في شرق ليبيا واحتلوها وصارت هي أول قطعة أرض تحتلها أمريكا في التاريخ. طبعا قما العثمانيون والبربر بمحاصرة درنة حتى استسلمت أمريكا ووقعت معاهدة 1805تلزمها بدفع ثلاثة ملايين دولار وجزية 20 ألف دولار سنويا . والطريف أن معاهدة طرابلس هي أول معاهدة تعترف فيها أمريكا بأنها ليست دولة مسيحية وأنها لم تدخل حرب ضد شعب مسلم.
ظلت أمريكا تدفع الجزية حتى 1812 حين صارت الولايات المتحدة أقوى بضم ولايات أكثر وهزيمتها لبريطانيا في كندا وهزيمتها لأسطول بريطانيا في البرازيل. وحين التهت بريطانيا عن دعم العثمانيين أمام عدوتها أمريكا بهزائمها في العالم الجديد و حروب نابليون في أوروبا. حينها قامت أمريكا بنشر أسطولها أمام سواحل الجزائر لتأديب البربر الذين عادوا لمهاجمة السفن وتم توقيع اتفاقية لتبادل الأسرى ووقف الجزية. وبعدها قامت دول أوروبا بتأديب دول شمال أفريقيا بقصف الجزائر "حرب البربر الثانية 1816" وكان ذلك تمهيد سيطرة اوروبا على شمال أفريقيا حتى منتصف القرن العشرين.
قد ترى فيما قلته حكاية طريفة، أو تتباهى به باعتبار أن هناك مسلم قام بإذلال أمريكا. تماماً مثلما تتباهى بسحابة هارون الرشيد التي سيأتيه خراجها أينما أمطرت، أو محمد الفاتح الذي انتشر في أوروبا خبر وفاته بدق الأجراس في الكنائس ثلاثة أيام وقول "مات العقاب الكبير" أو حفيده سليم الأول الذي سماه الأوروبيون" سليم العابس وسليم الرهيب" أو بدولة الأندلس التي دامت ثمانية قرون. لكن يجب أن تتساءل : ما هي المحصلة النهائية؟ القوي يضعف والصغير يكبر والصحيح يمرض. هذا هو الدرس الذي تعلمته أمريكا لذلك فتلك الحرب جعلتها تهتم بالبحرية الأمريكية حتى صارت المارينز التي تلقي الرعب في قلوب حكامنا الآن. وبعد عشر سنوات من "إذلال الولايات المتحدة" حاصرت مذليها وأدبتهم. ثم صالت وجالت في العالم كله. لأن المبادئ الذي أسست عليها الولايات المتحدة ظلت راسخة وإن مات أصحابها. و بعد العقاب الكبير و سليم الرهيب وهارون السعيد قررت أوروبا أن الاتحاد قوة والتفرقة ضعف لذلك زرعت فينا التفرقة وأججت القبلية والشوفينية بينما هي تتحد وتقوى وتقضي على آخر المزعجين "العثمانيين" الذين ضعفوا لأن ترسيخ الملك بقتل الأخوة والأقارب كان أهم عندهم من ترسيخ الدولة بالقانون والمبادئ. لأن الغزو لتوسيع رقعة السلطنة كان أهم عندهم من الاهتمام بمواطنهم الجائع الجاهل. ولم يبق لنا إلا تاريخ نتذكر منه ما أرادوا منا تذكره ونتجاهل فيه خطايانا وتأخذنا العزة بالإثم أمام الاعتراف بضحايا غزوات "المسلمين" ضد دول الغرب "الكافر" بل نتباهى بها ونعتبرها حقنا المشروع من الله. بينما نتألم أمام كل ضحية يسقط منا أمام غزاة العصر الحديث متجاهلين أن هناك أيضا ضحايا لحروبنا الطائفية ودولنا العسكرية وشيوخنا التكفيرية.
فمثلاً: نحن نعلم عن تاريخ اكتشاف أمريكا وحرب التحرير والحرب الأهلية الأمريكية .لكن هناك حرب تهمنا في تاريخ أمريكا تسمى الحرب الأمريكية المنسية. منسية لأنها أول حرب تهزم فيها قوات الولايات المتحدة الأمريكية بل إنها الحرب الوحيدة التي توقع فيها الولايات المتحدة على معاهدة ليست بالإنجليزية وتقضي عليها فيها بدفع رسوم سنوية. ببساطة هي الحرب الوحيدة التي تم إذلال أمريكا فيها. لذلك ورغم حداثتها النسبية 1801-1805 م. إلا أن أمريكا قررت ببساطة نسيانها لذلك فبعد جيل واحد فقط كانت الحرب كأن لم تكن. و تهمنا لأنها لم تهزم على يد بريطانيا ولا فرنسا ولا حتى فيتنام. أمريكا هزمت على يد البربر "شمال أفريقيا" التابعين للسلطنة العثمانية وقتها. لذلك فالحرب اسمها حرب طرابلس أو الحرب الأمريكية البربرية الأولى . وهذه الحرب من أهميتها أن المارينز الأمريكية أنشئت بسبب هذه الحرب. حتى أن نشيد المارينز يقول: From the Halls of Montezuma. To the shores of Tripoli
وTripoli هي طرابلس تلك المدينة البائسة في ليبيا التي لا يعرف الكثير منا أنها موجودة أصلاً.
كانت سفن البربر تقوم بدور الفتوة في البحر المتوسط. فتحمي سفن كل الدول العظمى من هجمات القراصنة مقابل رسوم وهدايا وأسلحة .والدول العظمى كانت بريطانيا سيدة البحار وفرنسا وهولندا والدنمارك بل والولايات المتحدة ذاتها قبل حرب التحرير. لاحظ أن القراصنة كانوا هم البربر أنفسهم وهو نفس منطق الفتوة الذي يحمي الناس من بطشه هو ذاته. ولأن أمريكا تحررت 1776 فقد بدأت ترفع أعلامها على سفنها بدءاً من عام 1783. فاستولى البحارة الأتراك على إحدى السفن ثم استولوا على أحد عشر سفينة وقادوها للساحل الجزائري. ولم تكن أمريكا في قوة العثمانيين وأسطولهم البحري وقتها لذلك رضخت ووقعت اتفاقية بين جورج واشنطن وتركيا عام 1795 بالتركية ودفعت 642 ألف دولار ذهبي و 1200 ليرة عثمانية. واستردت سفنها وضمنت الحماية.
دب الخلاف ثانية بين حاكم طرابلس "يوسف القرة مانلي" والولايات المتحدة بعد عام واحد فقط لأن الإتاوة لم تكن مجزية وأراد حاكم طرابلس رفعها ولما رفضت قام بتحطيم سارية العلم الأمريكي أمام قنصلية أمريكا في طرابلس وطرد السفير و أعلن الحرب على الصليبيين و هاجمت السفن سفن أمريكا في البحر وقال أنهم دفعوا ثمن السلام لكن يجب أن يدفعوا للحفاظ عليه. فأرسلت الولايات المتحدة 1801 أسطولها للبحر المتوسط ليعزز هيبة الولايات المتحدة في المنطقة وقال جيفرسون أنه سيلقن هذا التركي الأبلة درساً ويعزز وجوده في المنطقة. تم أسر الفرقاطة فيلادلفيا . ولما عجز الأمريكيون عن استردادها قاموا بالتسلل إليها ونسفها كي لا تصبح غنيمة في يد الأتراك.
قامت أمريكا بعد عجزها عن مواجهة أسطول البربر بأول محاولة في تاريخها ل "تغيير نظام" وخلع حاكم بلد بإقناع شقيق يوسف القره مانلي " أحمد القره مانلي" المنفي إلى مصر باستطاعتهم خلع أخيه وتنصيبه مكانه وقامت فرقة مرتزقة بقيادة قائد أمريكي "نواة مشاة البحرية –المارينز" بغزو درنة في شرق ليبيا واحتلوها وصارت هي أول قطعة أرض تحتلها أمريكا في التاريخ. طبعا قما العثمانيون والبربر بمحاصرة درنة حتى استسلمت أمريكا ووقعت معاهدة 1805تلزمها بدفع ثلاثة ملايين دولار وجزية 20 ألف دولار سنويا . والطريف أن معاهدة طرابلس هي أول معاهدة تعترف فيها أمريكا بأنها ليست دولة مسيحية وأنها لم تدخل حرب ضد شعب مسلم.
ظلت أمريكا تدفع الجزية حتى 1812 حين صارت الولايات المتحدة أقوى بضم ولايات أكثر وهزيمتها لبريطانيا في كندا وهزيمتها لأسطول بريطانيا في البرازيل. وحين التهت بريطانيا عن دعم العثمانيين أمام عدوتها أمريكا بهزائمها في العالم الجديد و حروب نابليون في أوروبا. حينها قامت أمريكا بنشر أسطولها أمام سواحل الجزائر لتأديب البربر الذين عادوا لمهاجمة السفن وتم توقيع اتفاقية لتبادل الأسرى ووقف الجزية. وبعدها قامت دول أوروبا بتأديب دول شمال أفريقيا بقصف الجزائر "حرب البربر الثانية 1816" وكان ذلك تمهيد سيطرة اوروبا على شمال أفريقيا حتى منتصف القرن العشرين.
قد ترى فيما قلته حكاية طريفة، أو تتباهى به باعتبار أن هناك مسلم قام بإذلال أمريكا. تماماً مثلما تتباهى بسحابة هارون الرشيد التي سيأتيه خراجها أينما أمطرت، أو محمد الفاتح الذي انتشر في أوروبا خبر وفاته بدق الأجراس في الكنائس ثلاثة أيام وقول "مات العقاب الكبير" أو حفيده سليم الأول الذي سماه الأوروبيون" سليم العابس وسليم الرهيب" أو بدولة الأندلس التي دامت ثمانية قرون. لكن يجب أن تتساءل : ما هي المحصلة النهائية؟ القوي يضعف والصغير يكبر والصحيح يمرض. هذا هو الدرس الذي تعلمته أمريكا لذلك فتلك الحرب جعلتها تهتم بالبحرية الأمريكية حتى صارت المارينز التي تلقي الرعب في قلوب حكامنا الآن. وبعد عشر سنوات من "إذلال الولايات المتحدة" حاصرت مذليها وأدبتهم. ثم صالت وجالت في العالم كله. لأن المبادئ الذي أسست عليها الولايات المتحدة ظلت راسخة وإن مات أصحابها. و بعد العقاب الكبير و سليم الرهيب وهارون السعيد قررت أوروبا أن الاتحاد قوة والتفرقة ضعف لذلك زرعت فينا التفرقة وأججت القبلية والشوفينية بينما هي تتحد وتقوى وتقضي على آخر المزعجين "العثمانيين" الذين ضعفوا لأن ترسيخ الملك بقتل الأخوة والأقارب كان أهم عندهم من ترسيخ الدولة بالقانون والمبادئ. لأن الغزو لتوسيع رقعة السلطنة كان أهم عندهم من الاهتمام بمواطنهم الجائع الجاهل. ولم يبق لنا إلا تاريخ نتذكر منه ما أرادوا منا تذكره ونتجاهل فيه خطايانا وتأخذنا العزة بالإثم أمام الاعتراف بضحايا غزوات "المسلمين" ضد دول الغرب "الكافر" بل نتباهى بها ونعتبرها حقنا المشروع من الله. بينما نتألم أمام كل ضحية يسقط منا أمام غزاة العصر الحديث متجاهلين أن هناك أيضا ضحايا لحروبنا الطائفية ودولنا العسكرية وشيوخنا التكفيرية.
Published on August 18, 2014 12:00
August 3, 2014
العار الذي نتقيه
لو أنجب الملك لايوس ابناً فإن ابنه سيقتله ويتزوج من أمه . وعندما أنجبت جوكاستا الابن. قيد الأب كاحليه وأعطاه لراع وأمره أن يتخلص منه في أحد الجبال لتأكله الضواري. لكن الراعي أعطاه لآخر بلا أبناء. وسماه الأب الجديد أوديب "متورم القدمين" من أثر ربط كاحليه.
يكبر أوديب ويعرف بالصدفة أنه ليس ابن الراعي. وينكر الراعي ذلك فيذهب أوديب لكاهن أبوللو ليتأكد من شخص أبيه. وهو نفس الكاهن الذي تنبأ بقتله أبيه و زواجه من أمه فيخبره بالنبوءة دون أن يعلمه من الأب والأم فيظن أوديب أن المعنيان هما أبواه بالتبني. يهرب أوديب من بلده ليذهب لطيبة في فرار آخر من النبوءة إليها.
"يلتقي الإنسان قدره في الطريق الذي سلكه فراراً من قدره."
تنطبق هذه المقولة على الاثنان "لايوس وأوديب" إذ يلتقيان في طريق رحلة أوديب لطيبة . يلتقيان في طريق ضيق ويختلفان من يمر أولاً. يتبارزان فيقتل أوديب لايوس ويكمل طريقه نحو طيبة. يلتقي بوحش السفنكس "أبي الهول" الذي يأكل الغرباء إذا لم يجيبوا على أحجيته ما هو الكائن الذي يسير على أربع في الصباح وعلى اثنتين في الظهيرة وعلى ثلاث بالليل. يجيب أوديب :الإنسان يحبو على أربع في الطفولة ويسير على قدمين في الشباب . ويستند على عكاز في الكهولة. يقتل سفنكس نفسه إذ كان أوديب أول من يهزمه. وتكريما لهازم الوحش يضعه أهل طيبة مكان الملك المقتول ويتزوج من زوجته "أمه" وينجب منها .
"هذا الذي يجادلون فيه / قولي لهم عن أمّه ، و من أبوه/أنا و أنت /حين أنجبناه ألقيناه فوق قمم الجبال كي يموت ! /لكنّه ما مات /عاد إلينا عنفوان ذكريات /لم نجتريء أن نرفع العيون نحوه/لم نجتريء أن نرفع العيون /نحو عارنا المميت."
لم أجد وصفاً أفضل لقصة أوديب من كلمات أمل دنقل. ولم أجد أفضل من القصة لوصف ما وصل إليه حالنا الآن . وصارت جملة "العار الذي نتقيه" هي الجملة التي أرددها كلما سمعت عن عار العرب والإسلام الجديد. داعش. فلا سبيل للإنكار والتنكر لداعش. فهي عارنا الذي نتقيه. داعش هي المحصلة النهائية لكل جرائمنا التي ارتكبناها منذ الحرب العالمية الأولى. بل ربما كانت الجريمة أقدم من ذلك. من يوم أن انقسم المسلمون انقسامهم الأول في الفتنة الكبرى. ثم تتالت الحروب والممالك "المسماة خلافة" ثم الدويلات وغزوات التتار و حكم المماليك حتى عادت الأمور للدولة الواحدة على يد السفاح سليم الأول. ثم التفكك الذي ساهم فيه شيوخ القبائل عندما تعاونوا مع بريطانيا ضد رجل أوروبا المريض من أجل قطعة أرض يصيرون عليها ملوكاً فصارت هناك عراق وسوريا والأردن والحجاز التي صارت السعودية. وأخذ الانجليز في المقابل فلسطين ليضعوها تحت تصرف الصهاينة. فماذا تنتظرون بعد كل هذا؟ ألم تبدأ أول قطرات السيل في تنظيم الإخوان الذي خرج للنور لهدف واحد هو إعادة الخلافة التي محاها أتاتورك؟ ألم يتغلغل فكر الإخوان في النسيج المصري عاماً بعد عام يتم اعتبارهم فصيل وطني بينما هم على موائد الملك يأكلون؟ كان باستطاعة عبد الناصر أن يقضي عليهم ويؤسس دولة قوية قائمة على العلم والمعرفة ونبذ العنف والتفرقة لكنه فضل الجعجعة والهزيمة وتركنا لقمة سائغة للإخوان ومعهم الجماعات. ألم نصمت على مبارك لأنه "يحارب الإرهاب" ؟ ألم نطبل للأفغان العرب الذين سيحمون الإسلام من الخطر الشيوعي؟ ثم نتنكر لهم بعد الحرب لأن أمريكا قد قررت التخلي عنهم ليتحولوا لتنظيم القاعدة. ألم نصفق لصدام حسين "السني" لأنه يحارب إيران "الشيعة" ونعتبره بطلاً مغواراً؟ ألم نقبل أن تدخل أمريكا إلى الشرق الأوسط ونكتفي بدور التابع لأوامرها بدلاً من ردع صدام بأنفسنا؟ ألم نوافق على بقاء الأنظمة الفاسدة لمجرد أنها تحمينا من البعبع الإسلامي دون أن نحاول أن نقي أنفسنا شر ذلك اليوم الذي يخرج فيه البعبع ليلتهمنا؟ ألم نترك الأمور للسلفيين والإخوان والوهابيين ليصلوا للقرى والنجوع يزرعون فيهم بذور الشر والجهل والتخلف؟ ألم نقف مكتوفي الأيدي أمام المد الديني دون أي مراجعة أو اجتهاد أو فقه إلا ما يمليه علينا شيوخ السلطة؟ ألم نترك العراق لأمريكا وللتقسيم الطائفي والإرهاب دون أدنى بادرة للتدخل ؟ ألم نقضي على الربيع العربي بأيدينا بانقسامنا لإخوان وليبراليين وسلفيين وجهاديين وحازمون و و و. ماذا كنا ننتظر بعد كل هذا؟ غير أن ذلك العار الذي حاولنا طويلاً أن نتقيه بأن نرميه بعيداً ليموت، فيعود ثانية ليحقق قدره بأن يهلكنا كلنا. لأننا كل تلك القرون لم ننتبه لذلك الوحش الذي نغذيه بجرائمنا.
الآن داعش مثل أوديب . هذا القدر الذي نحاول الهروب منه بطريقة ملتوية فنجده أمامنا. ومثل أوديب تعود دون أن تعرف قدرها لتحقق عارها وعارنا. ستنتصر داعش لأننا تربة خصبة لها . دين يدعو شيوخه للكراهية والقتل. انقسام. طائفية. ذل. احتلال. ستنمو وتنتشر مثل الطاعون حتى نقرر نحن أن نوقفها. ليس بهزيمة الجيوش ولكن يوم أن ندرك عوارنا الوطني والديني والإنساني.
يكبر أوديب ويعرف بالصدفة أنه ليس ابن الراعي. وينكر الراعي ذلك فيذهب أوديب لكاهن أبوللو ليتأكد من شخص أبيه. وهو نفس الكاهن الذي تنبأ بقتله أبيه و زواجه من أمه فيخبره بالنبوءة دون أن يعلمه من الأب والأم فيظن أوديب أن المعنيان هما أبواه بالتبني. يهرب أوديب من بلده ليذهب لطيبة في فرار آخر من النبوءة إليها.
"يلتقي الإنسان قدره في الطريق الذي سلكه فراراً من قدره."
تنطبق هذه المقولة على الاثنان "لايوس وأوديب" إذ يلتقيان في طريق رحلة أوديب لطيبة . يلتقيان في طريق ضيق ويختلفان من يمر أولاً. يتبارزان فيقتل أوديب لايوس ويكمل طريقه نحو طيبة. يلتقي بوحش السفنكس "أبي الهول" الذي يأكل الغرباء إذا لم يجيبوا على أحجيته ما هو الكائن الذي يسير على أربع في الصباح وعلى اثنتين في الظهيرة وعلى ثلاث بالليل. يجيب أوديب :الإنسان يحبو على أربع في الطفولة ويسير على قدمين في الشباب . ويستند على عكاز في الكهولة. يقتل سفنكس نفسه إذ كان أوديب أول من يهزمه. وتكريما لهازم الوحش يضعه أهل طيبة مكان الملك المقتول ويتزوج من زوجته "أمه" وينجب منها .
"هذا الذي يجادلون فيه / قولي لهم عن أمّه ، و من أبوه/أنا و أنت /حين أنجبناه ألقيناه فوق قمم الجبال كي يموت ! /لكنّه ما مات /عاد إلينا عنفوان ذكريات /لم نجتريء أن نرفع العيون نحوه/لم نجتريء أن نرفع العيون /نحو عارنا المميت."
لم أجد وصفاً أفضل لقصة أوديب من كلمات أمل دنقل. ولم أجد أفضل من القصة لوصف ما وصل إليه حالنا الآن . وصارت جملة "العار الذي نتقيه" هي الجملة التي أرددها كلما سمعت عن عار العرب والإسلام الجديد. داعش. فلا سبيل للإنكار والتنكر لداعش. فهي عارنا الذي نتقيه. داعش هي المحصلة النهائية لكل جرائمنا التي ارتكبناها منذ الحرب العالمية الأولى. بل ربما كانت الجريمة أقدم من ذلك. من يوم أن انقسم المسلمون انقسامهم الأول في الفتنة الكبرى. ثم تتالت الحروب والممالك "المسماة خلافة" ثم الدويلات وغزوات التتار و حكم المماليك حتى عادت الأمور للدولة الواحدة على يد السفاح سليم الأول. ثم التفكك الذي ساهم فيه شيوخ القبائل عندما تعاونوا مع بريطانيا ضد رجل أوروبا المريض من أجل قطعة أرض يصيرون عليها ملوكاً فصارت هناك عراق وسوريا والأردن والحجاز التي صارت السعودية. وأخذ الانجليز في المقابل فلسطين ليضعوها تحت تصرف الصهاينة. فماذا تنتظرون بعد كل هذا؟ ألم تبدأ أول قطرات السيل في تنظيم الإخوان الذي خرج للنور لهدف واحد هو إعادة الخلافة التي محاها أتاتورك؟ ألم يتغلغل فكر الإخوان في النسيج المصري عاماً بعد عام يتم اعتبارهم فصيل وطني بينما هم على موائد الملك يأكلون؟ كان باستطاعة عبد الناصر أن يقضي عليهم ويؤسس دولة قوية قائمة على العلم والمعرفة ونبذ العنف والتفرقة لكنه فضل الجعجعة والهزيمة وتركنا لقمة سائغة للإخوان ومعهم الجماعات. ألم نصمت على مبارك لأنه "يحارب الإرهاب" ؟ ألم نطبل للأفغان العرب الذين سيحمون الإسلام من الخطر الشيوعي؟ ثم نتنكر لهم بعد الحرب لأن أمريكا قد قررت التخلي عنهم ليتحولوا لتنظيم القاعدة. ألم نصفق لصدام حسين "السني" لأنه يحارب إيران "الشيعة" ونعتبره بطلاً مغواراً؟ ألم نقبل أن تدخل أمريكا إلى الشرق الأوسط ونكتفي بدور التابع لأوامرها بدلاً من ردع صدام بأنفسنا؟ ألم نوافق على بقاء الأنظمة الفاسدة لمجرد أنها تحمينا من البعبع الإسلامي دون أن نحاول أن نقي أنفسنا شر ذلك اليوم الذي يخرج فيه البعبع ليلتهمنا؟ ألم نترك الأمور للسلفيين والإخوان والوهابيين ليصلوا للقرى والنجوع يزرعون فيهم بذور الشر والجهل والتخلف؟ ألم نقف مكتوفي الأيدي أمام المد الديني دون أي مراجعة أو اجتهاد أو فقه إلا ما يمليه علينا شيوخ السلطة؟ ألم نترك العراق لأمريكا وللتقسيم الطائفي والإرهاب دون أدنى بادرة للتدخل ؟ ألم نقضي على الربيع العربي بأيدينا بانقسامنا لإخوان وليبراليين وسلفيين وجهاديين وحازمون و و و. ماذا كنا ننتظر بعد كل هذا؟ غير أن ذلك العار الذي حاولنا طويلاً أن نتقيه بأن نرميه بعيداً ليموت، فيعود ثانية ليحقق قدره بأن يهلكنا كلنا. لأننا كل تلك القرون لم ننتبه لذلك الوحش الذي نغذيه بجرائمنا.
الآن داعش مثل أوديب . هذا القدر الذي نحاول الهروب منه بطريقة ملتوية فنجده أمامنا. ومثل أوديب تعود دون أن تعرف قدرها لتحقق عارها وعارنا. ستنتصر داعش لأننا تربة خصبة لها . دين يدعو شيوخه للكراهية والقتل. انقسام. طائفية. ذل. احتلال. ستنمو وتنتشر مثل الطاعون حتى نقرر نحن أن نوقفها. ليس بهزيمة الجيوش ولكن يوم أن ندرك عوارنا الوطني والديني والإنساني.
Published on August 03, 2014 03:37
July 26, 2014
كيف تصنع حصان المولد..
كان الهندي الأحمر عبر قرون من المتابعة وعقود من الخبرة يعلم جيداً كيف يصطاد و يستأنس الخيول البرية "الموستانغ" وهي التي صارت مهددة بالانقراض بعد ذلك على يد الرجل الأبيض لأنه لم يستطع الإمساك بها بالكمائن ولا المطاردات فصار يقتلها. ويحكي محمود السعدني في كتابه أمريكا يا ويكا عن كيفية اصطياد الهندي للحصان البري إذ كان الحصان إذا فزع يأخذ في الركض مسافة لا تقل عن عشرة كيلومترات قبل أن يتعب ويتوقف لالتقاط أنفاسه ، ولكنه لا يعدوها في خط مستقيم وإنما في دوائر. فتكون النتيجة أن إزاحته عن نقطة إنطلاقه لا تتعدى كيلومتر واحد. يقطعها الهندي على قدميه فيصل لمكان الحصان الجديد بعد دقائق قليلة من وصول الحصان فيفزعه ثانية، وحينها ينطلق الحصان مرة أخرى ويمشي الهندي مرة أخرى. ومعظم الخيول بعد مرتين أو ثلاث مرات من العدو تتوقف وتستسلم للربط في حبل وتسير خلفه إلى مكان تربيتها واستئناسها. تستلم لأوامر سيدها الجديد مقابل الطعام و تلافياً للضرب.
كانت الخيلُ - فى البدءِ – كالناس / برِّيَّةً تتراكضُ عبر السهول/ كانت الخيلُ كالناس فى البدءِ/ تمتلكُ الشمس والعشب/ والملكوتِ الظليل/ ظهرها... لم يوطأ لكى يركب القادة الفاتحون/ ولم يلنِ الجسدُ الحُرُّ تحت سياطِ المروِّض/ والفمُ لم يمتثل للجام/ ولم يكن ... الزاد بالكاد/ لم تكن الساق مشكولة/ والحوافر لم يك يثقلها السنبك المعدنى الصقيل/ كانت الخيلُ برِّيَّة/ تتنفس حرية/ مثلما يتنفسها الناس/ فى ذلك الزمن الذهبى النبيل.
ولكن ليس هذا كل شيء. فإن كانت الخيل استئنست فهي ظلت لآلاف السنين رمزاً لكل ما هو نبيل "التمرد- الشموخ- الأصالة- القوة-...". فهي وسيلة السادة للتباهي. عدة الحروب. غزل الشعراء. صديق الإنسان. رفيق الملوك. حتى أتى الانحدار التالي كما عبر عنه أمل دنقل في قصيدته. حينما استغنى الإنسان عنها في سلامه وحروبه:
اركضى أو قفى الآن .. أيتها الخيلُ /لستِ المغيرات صبحا/ ولا العاديات – كما قيل – ضبحا/ ولاخضرة فى طريقك تُمحى/ ولاطفل أضحى/ إذا مامررت به ... يتنحَّى/ وهاهى كوكبة الحرس الملكى../ تجاهد أن تبعث الروح فى جسد الذكريات/ بدقِّ الطبول/ اركضى كالسلاحف/ نحو زوايا المتاحف..
هكذا انتهت الخيل، إلى ذلك المصير المحتوم لكل من يستطيع الإنسان أن يروضه. مثل مصيرها لو لم تروض كمثل الأسد الذي لم يروض في السيرك ولا الدب الذي لم تخلع أنيابه ليرقص للناس. أو مثل الإنسان نفسه الذي حافظ على تمرده ولم يستسلم للتدجين والاحتفاظ به كزينة أو غرض للامتطاء.
فالإنسان مثله مثل الخيل خلق متمرداً قبل أن يقع في أسر المدنية وبريقها الزائف. والإنسان كالخيل في اصطياده. تحفظ الأنظمة طرق الإيقاع به. تعلم أنه وإن ركض ورفس وتمرد، فمصيره أن يلف في دوائر دون طريق محدد. فتعمد إلى إفزاعه حتى يعدو ثم يهدأ فتفزعه مرة ثانية وثالثة حتى تستنزف قواه فيستسلم. والإنسان كالخيل في استئناسه. بالعصا في يد والطعام في يد سيطيعك. وإذا صار طوعك فهو كالخيل وقود حرب على الأعداء. مطية. وسيلة ترفيه وتباهي. حتى يصل لمرحلته الأخيرة.
صيرى تماثيل من حجرٍ فى الميادين/ صيرى أراجيح من خشبٍ للصغار – الرياحين/ صيرى فوارس حلوى بموسمك النبوى/ وللصبية الفقراء حصاناً من الطينِ/ صيرى رسوماً ... ووشماً/ تجف الخطوط به/ مثلما جفَّ – فى رئتيك – الصهيل !.
لو تتبعت مسار حياة كثير من الثائرين ستجدهم تمردوا حتى تعبوا ثم استسلموا ثم استئنسوا، وصاروا ملكاً للأنظمة، حتى استغني عنهم فذهبوا للمتاحف. يحمد كثير من عشاق كتاب متمردين مثل أمل دنقل و نجيب سرور أنهم ماتوا في سن التمرد فلم يدخلوا الحظيرة التي رفل فيها وسمن زملاء الأمس في أحلام الحرية. وصاروا أسلحة في يد النظام وإن احتفظوا بهيبة التمرد والإباء. وأخيراً في سن الكهولة صاروا أحصنة خشبية أو طينية أو حلوى يقف عليها الذباب.
إستدارت – إلى الغربِ – مزولة الوقت/ صارتِ الخيلُ ناساً تسيرُ إلى هوَّةِ الصمت/ بينما الناسُ خيلٌ تسيرُ إلى هوَّةِ الموت !!
كانت الخيلُ - فى البدءِ – كالناس / برِّيَّةً تتراكضُ عبر السهول/ كانت الخيلُ كالناس فى البدءِ/ تمتلكُ الشمس والعشب/ والملكوتِ الظليل/ ظهرها... لم يوطأ لكى يركب القادة الفاتحون/ ولم يلنِ الجسدُ الحُرُّ تحت سياطِ المروِّض/ والفمُ لم يمتثل للجام/ ولم يكن ... الزاد بالكاد/ لم تكن الساق مشكولة/ والحوافر لم يك يثقلها السنبك المعدنى الصقيل/ كانت الخيلُ برِّيَّة/ تتنفس حرية/ مثلما يتنفسها الناس/ فى ذلك الزمن الذهبى النبيل.
ولكن ليس هذا كل شيء. فإن كانت الخيل استئنست فهي ظلت لآلاف السنين رمزاً لكل ما هو نبيل "التمرد- الشموخ- الأصالة- القوة-...". فهي وسيلة السادة للتباهي. عدة الحروب. غزل الشعراء. صديق الإنسان. رفيق الملوك. حتى أتى الانحدار التالي كما عبر عنه أمل دنقل في قصيدته. حينما استغنى الإنسان عنها في سلامه وحروبه:
اركضى أو قفى الآن .. أيتها الخيلُ /لستِ المغيرات صبحا/ ولا العاديات – كما قيل – ضبحا/ ولاخضرة فى طريقك تُمحى/ ولاطفل أضحى/ إذا مامررت به ... يتنحَّى/ وهاهى كوكبة الحرس الملكى../ تجاهد أن تبعث الروح فى جسد الذكريات/ بدقِّ الطبول/ اركضى كالسلاحف/ نحو زوايا المتاحف..
هكذا انتهت الخيل، إلى ذلك المصير المحتوم لكل من يستطيع الإنسان أن يروضه. مثل مصيرها لو لم تروض كمثل الأسد الذي لم يروض في السيرك ولا الدب الذي لم تخلع أنيابه ليرقص للناس. أو مثل الإنسان نفسه الذي حافظ على تمرده ولم يستسلم للتدجين والاحتفاظ به كزينة أو غرض للامتطاء.
فالإنسان مثله مثل الخيل خلق متمرداً قبل أن يقع في أسر المدنية وبريقها الزائف. والإنسان كالخيل في اصطياده. تحفظ الأنظمة طرق الإيقاع به. تعلم أنه وإن ركض ورفس وتمرد، فمصيره أن يلف في دوائر دون طريق محدد. فتعمد إلى إفزاعه حتى يعدو ثم يهدأ فتفزعه مرة ثانية وثالثة حتى تستنزف قواه فيستسلم. والإنسان كالخيل في استئناسه. بالعصا في يد والطعام في يد سيطيعك. وإذا صار طوعك فهو كالخيل وقود حرب على الأعداء. مطية. وسيلة ترفيه وتباهي. حتى يصل لمرحلته الأخيرة.
صيرى تماثيل من حجرٍ فى الميادين/ صيرى أراجيح من خشبٍ للصغار – الرياحين/ صيرى فوارس حلوى بموسمك النبوى/ وللصبية الفقراء حصاناً من الطينِ/ صيرى رسوماً ... ووشماً/ تجف الخطوط به/ مثلما جفَّ – فى رئتيك – الصهيل !.
لو تتبعت مسار حياة كثير من الثائرين ستجدهم تمردوا حتى تعبوا ثم استسلموا ثم استئنسوا، وصاروا ملكاً للأنظمة، حتى استغني عنهم فذهبوا للمتاحف. يحمد كثير من عشاق كتاب متمردين مثل أمل دنقل و نجيب سرور أنهم ماتوا في سن التمرد فلم يدخلوا الحظيرة التي رفل فيها وسمن زملاء الأمس في أحلام الحرية. وصاروا أسلحة في يد النظام وإن احتفظوا بهيبة التمرد والإباء. وأخيراً في سن الكهولة صاروا أحصنة خشبية أو طينية أو حلوى يقف عليها الذباب.
إستدارت – إلى الغربِ – مزولة الوقت/ صارتِ الخيلُ ناساً تسيرُ إلى هوَّةِ الصمت/ بينما الناسُ خيلٌ تسيرُ إلى هوَّةِ الموت !!
Published on July 26, 2014 16:34
July 24, 2014
عقيدة تشيكوف
في إحدى قصص تشيكوف "حكاية رسام" كان يتنبأ بالثورة البلشفية وينتقد الفكر الشيوعي وشعاراته الطنانة. القصة كانت بسيطة. رسام شهير يعيش في منزل ريفي ومعجب بفتاة. المشكلة كانت في اخت الفتاة. كانت نصيرة للفلاحين وتجمع التبرعات لبناء مستشفى ولمساعدة ضحايا الحرائق ، وتحارب من أجل كسر سطوة رئيس مجلس المدينة وعائلته. كانت ليديا من عائلة ثرية وتعمل مدرسة لكي تصرف على نفسها من كدها. إلى جانب أنها تعالج الفقراء. وكانت تحتقر الرسام لأنه عاطل ولا يعبر في رسومه عن الشعب وآلامه بل يرسم مناظر طبيعية. في وسط القصة دار هذا الحوار:
- في رأيي أن المركز الطبي غير ضروري البتة.
- وما هو الضروري؟ المناظر؟
- المناظر أيضاً غير ضرورية. لا ضرورة لشيء هناك.
- في الأسبوع الماضي ماتت آنا أثناء المخاض، ولو كان هناك مركز طبي قريب لبقيت على قيد الحياة. ويهيأ لي أنه على السادة رسامي المناظر أن تكون لديهم عقيدة ما في هذا الصدد.
- عندي عقيدة محددة تماماً في هذا الصدد. ففي رأيي أن المراكز الطبية والمدارس والمكتبات والصيدليات في ظل هذه الظروف القائمة لا تساعد إلا على الاستعباد. إن الشعب مكبل بسلسلة هائلة، وأنتم لا تحطمون السلسلة، بل تضيفون إليها حلقات جديدة. هذه هي عقيدتي. ليس المهم أن آنا ماتت أثناء المخاض، ولكن المهم أن أمثال آنا و مافرا وبيلاجيا، جميعهم يحنين ظهورهن من الصباح إلى المساء ويمرضن من الكد المرهق ويرتعشن طوال حياتهن هلعاً على أولادهن الجوعى والمرضى، ويخفن طوال حياتهن من الموت والأمراض، ويتعالجن طوال الحياة، ويذوين مبكراً، ويهرمن مبكراً، ويمتن في القذارة والنتانة. وعندما يكبر أولادهن يسيرون على نفس المنوال، وهكذا تمضي مئات السنين، بينما يعيش مليارات البشر أسوأ مما يعيش الحيوانات، فقط من أجل كسرة الخبز، وهم يعانون من الخوف الدائم. والفظاعة في وضعهم أنه لا وقت لديهم في التفكير في أنفسهم و في أرواحهم. الجوع والبرد، والخوف الحيواني ، وكمية العمل الهائلة قد سدت عليهم – ككتل الجليد المنهارة- كل الطرق المؤدية إلى النشاط الروحي، بالضبط إلى ذلك الذي يميز الإنسان عن الحيوان، ويشكل الشيء الوحيد الذي يستحق أن نعيش من أجله. وانتم تخفون لمساعدتهم بالمستشفيات والمدارس، ولكنكم بهذا لا تحررونهم من القيود، بل العكس، تستعبدونهم أكثر، وذلك لأنكم بإدخال مزيد من الخزعبلات إلى حياتهم تزيدون من عدد احتياجاتهم، هذا إن تغاضينا عن أنهم لابد أن يدفعوا لمجلس الأقليم مقابل العقاقير والكتب. أي مزيداً من إحناء الظهر.
- لن أجادلك لقد سمعت ذلك من قبل وسأقول لك شيئاً واحداً: لا ينبغي أن نجلس بلا عمل . صحيح أننا لا ننقذ البشرية، وربما كنا نخطئ في أشياء كثيرة. ولكننا نفعل ما نستطيع، ونحن على حق. إن أسمى وأقدس مهمة للإنسان المتحضر أن يساعد الأقربين، ونحن نحاول أن نساعدهم حسبما نستطيع.
- إن تعليم الفلاحين ، والكتب ذات المواعظ والدروس التافهة، والمراكز الطبية، لا يمكن أن تقلل نسبة الجهل والوفيات مثلما لا يمكن لضوء نوافذكم أن يضئ هذا البستان الضخم. إنكم لا تفعلون شيئاً، وبتدخلكم في حياتهم لا تصنعون سوى احتياجات جديدة، ومبرر جديد للكد.
- اه يا إلهي ولكن يجب أن نفعل أي شيء.
- ينبغي تحرير الناس من العمل البدني الشاق. ينبغي تخفيف النير عنهم، وإعطاؤهم فرصة لالتقاط الأنفاس. لكي لا يقضوا حياتهم كلها أمام الأفران والطسوت وفي الحقل، بل يكون لديهم وقت للتفكير في الروح والله، وفرصة للتعبير عن قدراتهم الروحية على نطاق أوسع. هذه هي رسالة كل إنسان، في البحث الدائم عن الحقيقة ومغزى الحياة. فلتجعلوا العمل الحيواني الفظ غير ضروري لهم، أعطوهم الفرصة ليحسوا بأنفسهم أحراراً، وعندئذ ستدركون أي سخرية هي تلكا لكتب والصيدليات. وإذا ما أدرك الإنسان رسالته الحقيقية فلن يشبعها سوى الدين والعلوم والفنون. لا هذه التفاهات.
- تحريرهم من العمل؟ وهل هذا ممكن؟
- نعم. خذوا على عاتقكم جزءاً من عملهم. فلو أننا جميعاً وزعنا العمل بيننا لإشباع حاجاتنا المادية فلن يزيد نصيب الفرد عن ثلاث ساعات يومياً. تصوري أننا أغنياء وفقراء نعمل ثلاث ساعات يومياً وبقية الوقت احرار. وتصوري أننا لكي نعمل أقل نخترع آلات تقوم هي بالعمل، ونسعى لتخفيض احتياجاتنا لأدنى حد. ونقوي عزيمتنا و عزيمة أطفالنا لكي لا نرتعش خوفاً على صحتهم. ولا نحتفظ بصيدليات ومصانع دخان وخمور. فأي وقت فراغ سيكون لدينا ونخصصه للعلوم والفنون والبحث عن الحقيقة ومغزى الحياة.
الصراع كما يبدو كان في ذهن تشيكوف بين الروحي والمادي. وهو ما رآه في المد القادم – كتبت القصة 1896- فليديا انتصرت في القصة وجمعت الأتباع وسيطرت على مجبس المدينة ، كما أن أمثال ليديا انتصروا في الواقع. صارت عقيدتها عقيدة وطن. أتى البلاشفة بأحلامهم عن البروليتاريا وقيم العمل من أجل الوطن وكونك ترس في ماكينة العمل . وكما قال كونديرا ظل العمال يظنون أنهم في جنتهم حتى اكتشف العامل الشيوعي، أن زميله في الدول الرأسمالية لديه سيارة يذهب بها لعمله. ثم انهارت الشيوعية لأنها كما تنبأ تشيكوف لم تكن ذات فائدة لأنها لا تسعى لإزالة سبب الشقاء بل لتخفيف الألم بينما هي تزيد القيود.
الغريب أنه بعد انهيار الشيوعية بربع قرن افتح التلفاز لأجد جمعيات مثل ليديا. تطاردك لتساعد مرضى القلب والسرطان والكبد . لتساعد الفقراء والجوعى والعشوائيات. تستفز شعورك ونخوتك وضميرك ودينك لكي تبيت وأنت تشعر بالإجرام إن تعاطفت فقط ولم تتبرع. غير مدركين أن ما يفعلونه نقطة في بحر. فبغير منظومة تقلص الحد بين الدخول، وترفع عن الكادحين نيرهم، وتقدم العلم- لا التعليم- للأطفال. وتحارب أصول الأمراض "التلوث- المبيدات- الغش- شروط العمل المضنية- ..." بغير كل هذا فلا فائدة.
كنت منذ سنوات أشاهد تلك الإعلانات وأقول أن الحل في ثورة تزيل النظام الفاسد لكنها قامت وفشلت لأنه على رأي نجيب محفوظ "أنت بضربة موفقة واحدة تستطيع أن تغير نظام الحكم ... أما الطبائع فيلزمها وقت أطول بكثير" فالثورة ليست أن تطيح بإحدى رؤوس الهيدرا. فما تحت الأرض أشد رعباً. الثورة الحقيقية في كلمات تشيكوف. الدين و العلوم والفنون والعمل القليل الإنساني بالمشاركة. ولا سبيل لذلك إلا شيء واحد : التنوير.
- في رأيي أن المركز الطبي غير ضروري البتة.
- وما هو الضروري؟ المناظر؟
- المناظر أيضاً غير ضرورية. لا ضرورة لشيء هناك.
- في الأسبوع الماضي ماتت آنا أثناء المخاض، ولو كان هناك مركز طبي قريب لبقيت على قيد الحياة. ويهيأ لي أنه على السادة رسامي المناظر أن تكون لديهم عقيدة ما في هذا الصدد.
- عندي عقيدة محددة تماماً في هذا الصدد. ففي رأيي أن المراكز الطبية والمدارس والمكتبات والصيدليات في ظل هذه الظروف القائمة لا تساعد إلا على الاستعباد. إن الشعب مكبل بسلسلة هائلة، وأنتم لا تحطمون السلسلة، بل تضيفون إليها حلقات جديدة. هذه هي عقيدتي. ليس المهم أن آنا ماتت أثناء المخاض، ولكن المهم أن أمثال آنا و مافرا وبيلاجيا، جميعهم يحنين ظهورهن من الصباح إلى المساء ويمرضن من الكد المرهق ويرتعشن طوال حياتهن هلعاً على أولادهن الجوعى والمرضى، ويخفن طوال حياتهن من الموت والأمراض، ويتعالجن طوال الحياة، ويذوين مبكراً، ويهرمن مبكراً، ويمتن في القذارة والنتانة. وعندما يكبر أولادهن يسيرون على نفس المنوال، وهكذا تمضي مئات السنين، بينما يعيش مليارات البشر أسوأ مما يعيش الحيوانات، فقط من أجل كسرة الخبز، وهم يعانون من الخوف الدائم. والفظاعة في وضعهم أنه لا وقت لديهم في التفكير في أنفسهم و في أرواحهم. الجوع والبرد، والخوف الحيواني ، وكمية العمل الهائلة قد سدت عليهم – ككتل الجليد المنهارة- كل الطرق المؤدية إلى النشاط الروحي، بالضبط إلى ذلك الذي يميز الإنسان عن الحيوان، ويشكل الشيء الوحيد الذي يستحق أن نعيش من أجله. وانتم تخفون لمساعدتهم بالمستشفيات والمدارس، ولكنكم بهذا لا تحررونهم من القيود، بل العكس، تستعبدونهم أكثر، وذلك لأنكم بإدخال مزيد من الخزعبلات إلى حياتهم تزيدون من عدد احتياجاتهم، هذا إن تغاضينا عن أنهم لابد أن يدفعوا لمجلس الأقليم مقابل العقاقير والكتب. أي مزيداً من إحناء الظهر.
- لن أجادلك لقد سمعت ذلك من قبل وسأقول لك شيئاً واحداً: لا ينبغي أن نجلس بلا عمل . صحيح أننا لا ننقذ البشرية، وربما كنا نخطئ في أشياء كثيرة. ولكننا نفعل ما نستطيع، ونحن على حق. إن أسمى وأقدس مهمة للإنسان المتحضر أن يساعد الأقربين، ونحن نحاول أن نساعدهم حسبما نستطيع.
- إن تعليم الفلاحين ، والكتب ذات المواعظ والدروس التافهة، والمراكز الطبية، لا يمكن أن تقلل نسبة الجهل والوفيات مثلما لا يمكن لضوء نوافذكم أن يضئ هذا البستان الضخم. إنكم لا تفعلون شيئاً، وبتدخلكم في حياتهم لا تصنعون سوى احتياجات جديدة، ومبرر جديد للكد.
- اه يا إلهي ولكن يجب أن نفعل أي شيء.
- ينبغي تحرير الناس من العمل البدني الشاق. ينبغي تخفيف النير عنهم، وإعطاؤهم فرصة لالتقاط الأنفاس. لكي لا يقضوا حياتهم كلها أمام الأفران والطسوت وفي الحقل، بل يكون لديهم وقت للتفكير في الروح والله، وفرصة للتعبير عن قدراتهم الروحية على نطاق أوسع. هذه هي رسالة كل إنسان، في البحث الدائم عن الحقيقة ومغزى الحياة. فلتجعلوا العمل الحيواني الفظ غير ضروري لهم، أعطوهم الفرصة ليحسوا بأنفسهم أحراراً، وعندئذ ستدركون أي سخرية هي تلكا لكتب والصيدليات. وإذا ما أدرك الإنسان رسالته الحقيقية فلن يشبعها سوى الدين والعلوم والفنون. لا هذه التفاهات.
- تحريرهم من العمل؟ وهل هذا ممكن؟
- نعم. خذوا على عاتقكم جزءاً من عملهم. فلو أننا جميعاً وزعنا العمل بيننا لإشباع حاجاتنا المادية فلن يزيد نصيب الفرد عن ثلاث ساعات يومياً. تصوري أننا أغنياء وفقراء نعمل ثلاث ساعات يومياً وبقية الوقت احرار. وتصوري أننا لكي نعمل أقل نخترع آلات تقوم هي بالعمل، ونسعى لتخفيض احتياجاتنا لأدنى حد. ونقوي عزيمتنا و عزيمة أطفالنا لكي لا نرتعش خوفاً على صحتهم. ولا نحتفظ بصيدليات ومصانع دخان وخمور. فأي وقت فراغ سيكون لدينا ونخصصه للعلوم والفنون والبحث عن الحقيقة ومغزى الحياة.
الصراع كما يبدو كان في ذهن تشيكوف بين الروحي والمادي. وهو ما رآه في المد القادم – كتبت القصة 1896- فليديا انتصرت في القصة وجمعت الأتباع وسيطرت على مجبس المدينة ، كما أن أمثال ليديا انتصروا في الواقع. صارت عقيدتها عقيدة وطن. أتى البلاشفة بأحلامهم عن البروليتاريا وقيم العمل من أجل الوطن وكونك ترس في ماكينة العمل . وكما قال كونديرا ظل العمال يظنون أنهم في جنتهم حتى اكتشف العامل الشيوعي، أن زميله في الدول الرأسمالية لديه سيارة يذهب بها لعمله. ثم انهارت الشيوعية لأنها كما تنبأ تشيكوف لم تكن ذات فائدة لأنها لا تسعى لإزالة سبب الشقاء بل لتخفيف الألم بينما هي تزيد القيود.
الغريب أنه بعد انهيار الشيوعية بربع قرن افتح التلفاز لأجد جمعيات مثل ليديا. تطاردك لتساعد مرضى القلب والسرطان والكبد . لتساعد الفقراء والجوعى والعشوائيات. تستفز شعورك ونخوتك وضميرك ودينك لكي تبيت وأنت تشعر بالإجرام إن تعاطفت فقط ولم تتبرع. غير مدركين أن ما يفعلونه نقطة في بحر. فبغير منظومة تقلص الحد بين الدخول، وترفع عن الكادحين نيرهم، وتقدم العلم- لا التعليم- للأطفال. وتحارب أصول الأمراض "التلوث- المبيدات- الغش- شروط العمل المضنية- ..." بغير كل هذا فلا فائدة.
كنت منذ سنوات أشاهد تلك الإعلانات وأقول أن الحل في ثورة تزيل النظام الفاسد لكنها قامت وفشلت لأنه على رأي نجيب محفوظ "أنت بضربة موفقة واحدة تستطيع أن تغير نظام الحكم ... أما الطبائع فيلزمها وقت أطول بكثير" فالثورة ليست أن تطيح بإحدى رؤوس الهيدرا. فما تحت الأرض أشد رعباً. الثورة الحقيقية في كلمات تشيكوف. الدين و العلوم والفنون والعمل القليل الإنساني بالمشاركة. ولا سبيل لذلك إلا شيء واحد : التنوير.
Published on July 24, 2014 15:16
July 18, 2014
هل مررت بحادثة شرف؟
في قصة حادثة شرف ليوسف إدريس تتعرض البطلة "فاطمة" للتحرش الجنسي. تمشي في الغيط يظهر لها أحد الأشقياء فجأة. من الصدمة تصرخ وتسقط. يهرب الفتى.
ليست هذه هي حادثة الشرف ولا حادثة التحرش.التحرش يحدث عندما يظنها أهل البلدة ومعهم أخوها أنها قد اغتصبت. لا تستطيع فاطمة إنكار التهمة عن نفسها لأنهم لا يصدقون .و يكون الحل في الكشف عن عذريتها " زي الجيش كدة"التحرش هنا معقد. هو إجبار الفتاة على انتهاكها لأجل إثبات براءة لا تحتاجها من جريمة لم ترتكبها. فإما أن ترفض حفظاً لكرامتها وهنا تصبح الظنون يقيناً. أو تقبل الكشف وبذلك تكون خضعت لقانونهم المريض.
أول مرة انتبهت للعبة الرائعة في القصة بأن حادثة الشرف ليست محاولة الفتى اغتصابها بل إجبارها على إثبات براءتها من التهمة غير الموجودة. كان ذلك في جروب "سياسي" على الفيس بوك عندما اختلف اثنان أحدهما إسلامي والآخر علماني. فإذا بالإسلامي يتهم العلماني بأنه شخص وهمي مزيف وأنه يعرف شخصيته الحقيقية. وعليه أن يتواصل معه على الشات ويشغل الكاميرا لإثبات العكس. طبعاً رفض الفتى كان معناه أن تثبت التهمة غير الموجودة عليه بأنه شخص آخر. رغم أن ذلك لا يعيبه. ولو قبل فهو انتهك بالفعل. خضع لقانون وضعه شخص مريض لقمع معارضيه.
ثم أدركت أن الموضوع كبير فهو أقرب لفكر محاكم التفتيش فإما أن تعترف بأنك مهرطق يتلبسك الشيطان فتنجو أو ترفض الاعتراف "لأنك برئ بالفعل" حينئذ تقتل وتصادر أملاكك وتوصم عائلتك للأبد. كما أن أشهر حادث انتهاك في تاريخنا هو رفع المصاحف على أسنة الرماح والمطالبة بالتحكيم في الفتنة الكبرى. وهي المسألة التي اقترحها عمرو بن العاص على معاوية "سألقى لهم أمرا إن قبلوه اختلفوا وإن رفضوه اختلفوا" فهو هنا ألقى بمعضلة لعلي بن أبي طالب. لو رفض تحكيم كتاب الله فهو مخالف للعقيدة وسيختلف معه بعض رجاله. وإذا وافق فقد خضع لقانون عمرو بن العاص ووقع في فخه. وسيخسر أيضاً بعض رجاله.وإليكم كمية التحرشات/ الانتهاكات التي نتعرض لها:
- عندما يختلف اثنان على مسألة دينية فيقوم أحدهما بسؤال الآخر: هل تصلي؟ لو رفض الإجابة لأنها مسألة شخصية او قال لا فالتهمة ثبتت عليه فهو لا يصلي طبعاً وتثبت وجهة نظر الآخر بأنه يختلف معه لأنه –خصمه- إسلامه ليس صحيحاً. ولو أجاب نعم أصلي فقد وقع في فخ التقييم الذي وضعه خصمه واستجاب لضغط التشكيك في دينه وصلاحيته للحديث عنه.
- هل صليت على النبي اليوم؟ هل استغفرت؟ انشرها بقدر حبك للنبي. كل هذه الشعارات لو رفضتها فأنت ضد الإسلام. ولو قبلتها فأنت تثبت وجهة نظر شخص رجعي بأن الإسلام- الذي يراه هو- هو الأعم بين الناس.
- إما أن تقبل بكل ما يفعله النظام الجديد من انتهاكات وقتل وقمع. أو تكون إخواني.
-إما أن تنزل الانتخابات –حتى لو أبطلت صوتك- من أجل إظهار العدد الغفير. وهذا يعني شرعية للنظام الجديد وأنك من ضمن القطيع الذي يسانده حتى لو انتخب الآخر. أو تتحول لخائن لوطنك.
- أما أن ترتدي الحجاب/النقاب/ تلزمي المنزل. أو يتم إهانتك مع كل خطوة في الشارع باعتبارك مشروع مضاجعة. ففعل التحرش ذاته ليس المشكلة إنما القانون غير المرئي الذي يقره الرجال وينفذونه في كل مكان مع أي انثى.
الفكرة أنك – كفاطمة – خاسر في الحالتين. أنت فقط تختار ما ستخسره . علي بن أبي طالب قتل لأنه قبل ولو رفض كان سيقتل أيضاً. ضحايا محاكم التفتيش إما قتلوا لرفضهم أو عذبوا لتزويرهم الاعتراف... وأنك – كفاطمة- أيضاً قد تحولك التجربة للنقيض. فالفتاة الشريفة بعد انتهاكها تحولت لعاهرة. أي اصبحت الشيء الوحيد الذي لم تكنه والشيء الوحيد الذي اتهمت به.. تماماً مثل من يتحولون عن الدين لأنهم لم يكسبوا بالحديث فيه إلا الاتهام فيكفرون بالمنظومة كلها. أو من يتحولون للإرهاب لأن السلطة بطشت بهم لأنهم مواظبون على الصلاة في المسجد.المهم أن فاطمة بعد تحولها لعاهرة صارت هي الطرف الأقوى الذي لا يهمه أحد. التي تنظر لأخيها مهددة إياه بالفضيحة فيرضخ. والتي لا يستطيع أهل البلدة اتهامها الآن بشيء لا أدري لشعورهم بأنها صنيعة أياديهم أم لأنهم صاروا زبائنها.
ليست هذه هي حادثة الشرف ولا حادثة التحرش.التحرش يحدث عندما يظنها أهل البلدة ومعهم أخوها أنها قد اغتصبت. لا تستطيع فاطمة إنكار التهمة عن نفسها لأنهم لا يصدقون .و يكون الحل في الكشف عن عذريتها " زي الجيش كدة"التحرش هنا معقد. هو إجبار الفتاة على انتهاكها لأجل إثبات براءة لا تحتاجها من جريمة لم ترتكبها. فإما أن ترفض حفظاً لكرامتها وهنا تصبح الظنون يقيناً. أو تقبل الكشف وبذلك تكون خضعت لقانونهم المريض.
أول مرة انتبهت للعبة الرائعة في القصة بأن حادثة الشرف ليست محاولة الفتى اغتصابها بل إجبارها على إثبات براءتها من التهمة غير الموجودة. كان ذلك في جروب "سياسي" على الفيس بوك عندما اختلف اثنان أحدهما إسلامي والآخر علماني. فإذا بالإسلامي يتهم العلماني بأنه شخص وهمي مزيف وأنه يعرف شخصيته الحقيقية. وعليه أن يتواصل معه على الشات ويشغل الكاميرا لإثبات العكس. طبعاً رفض الفتى كان معناه أن تثبت التهمة غير الموجودة عليه بأنه شخص آخر. رغم أن ذلك لا يعيبه. ولو قبل فهو انتهك بالفعل. خضع لقانون وضعه شخص مريض لقمع معارضيه.
ثم أدركت أن الموضوع كبير فهو أقرب لفكر محاكم التفتيش فإما أن تعترف بأنك مهرطق يتلبسك الشيطان فتنجو أو ترفض الاعتراف "لأنك برئ بالفعل" حينئذ تقتل وتصادر أملاكك وتوصم عائلتك للأبد. كما أن أشهر حادث انتهاك في تاريخنا هو رفع المصاحف على أسنة الرماح والمطالبة بالتحكيم في الفتنة الكبرى. وهي المسألة التي اقترحها عمرو بن العاص على معاوية "سألقى لهم أمرا إن قبلوه اختلفوا وإن رفضوه اختلفوا" فهو هنا ألقى بمعضلة لعلي بن أبي طالب. لو رفض تحكيم كتاب الله فهو مخالف للعقيدة وسيختلف معه بعض رجاله. وإذا وافق فقد خضع لقانون عمرو بن العاص ووقع في فخه. وسيخسر أيضاً بعض رجاله.وإليكم كمية التحرشات/ الانتهاكات التي نتعرض لها:
- عندما يختلف اثنان على مسألة دينية فيقوم أحدهما بسؤال الآخر: هل تصلي؟ لو رفض الإجابة لأنها مسألة شخصية او قال لا فالتهمة ثبتت عليه فهو لا يصلي طبعاً وتثبت وجهة نظر الآخر بأنه يختلف معه لأنه –خصمه- إسلامه ليس صحيحاً. ولو أجاب نعم أصلي فقد وقع في فخ التقييم الذي وضعه خصمه واستجاب لضغط التشكيك في دينه وصلاحيته للحديث عنه.
- هل صليت على النبي اليوم؟ هل استغفرت؟ انشرها بقدر حبك للنبي. كل هذه الشعارات لو رفضتها فأنت ضد الإسلام. ولو قبلتها فأنت تثبت وجهة نظر شخص رجعي بأن الإسلام- الذي يراه هو- هو الأعم بين الناس.
- إما أن تقبل بكل ما يفعله النظام الجديد من انتهاكات وقتل وقمع. أو تكون إخواني.
-إما أن تنزل الانتخابات –حتى لو أبطلت صوتك- من أجل إظهار العدد الغفير. وهذا يعني شرعية للنظام الجديد وأنك من ضمن القطيع الذي يسانده حتى لو انتخب الآخر. أو تتحول لخائن لوطنك.
- أما أن ترتدي الحجاب/النقاب/ تلزمي المنزل. أو يتم إهانتك مع كل خطوة في الشارع باعتبارك مشروع مضاجعة. ففعل التحرش ذاته ليس المشكلة إنما القانون غير المرئي الذي يقره الرجال وينفذونه في كل مكان مع أي انثى.
الفكرة أنك – كفاطمة – خاسر في الحالتين. أنت فقط تختار ما ستخسره . علي بن أبي طالب قتل لأنه قبل ولو رفض كان سيقتل أيضاً. ضحايا محاكم التفتيش إما قتلوا لرفضهم أو عذبوا لتزويرهم الاعتراف... وأنك – كفاطمة- أيضاً قد تحولك التجربة للنقيض. فالفتاة الشريفة بعد انتهاكها تحولت لعاهرة. أي اصبحت الشيء الوحيد الذي لم تكنه والشيء الوحيد الذي اتهمت به.. تماماً مثل من يتحولون عن الدين لأنهم لم يكسبوا بالحديث فيه إلا الاتهام فيكفرون بالمنظومة كلها. أو من يتحولون للإرهاب لأن السلطة بطشت بهم لأنهم مواظبون على الصلاة في المسجد.المهم أن فاطمة بعد تحولها لعاهرة صارت هي الطرف الأقوى الذي لا يهمه أحد. التي تنظر لأخيها مهددة إياه بالفضيحة فيرضخ. والتي لا يستطيع أهل البلدة اتهامها الآن بشيء لا أدري لشعورهم بأنها صنيعة أياديهم أم لأنهم صاروا زبائنها.
Published on July 18, 2014 22:53
June 26, 2014
المسيح الحي.
- إلهي..إلهي.. لم تخليت عني؟
القصة:
اليهود خانوا المسيح الذي ينتمي إليهم، بل الذي كان مبعوثاً فيهم من الأساس. بل الذي عاشوا عمرهم كله ينتظرونه باعتباره المخلِص. باعوه وهو من هو ويدعوهم لله ، وقدموه هدية للعدو المحتل الوثني. للرومان. بينما الناس الذين استقبلوه في أورشليم بالسعف قبل أقل من أسبوع. هم الآن من يتفرجون عليه وهو يحمل صليبه ويلبس تاج الشوك وينعت بملك اليهود. أصحابه أنكروه. ووحدها مريم المجدلية والمتهمة بالعهر من ظلت معه للنهاية.
الرومان أنفسهم اعتنقوا المسيحية بعد أن حولوها لأداة جديدة للسيطرة. اليهود صاروا طوال عشرين قرناً مضطهدين يلعنون في كل صلاة كاثوليكية .بينما الرومان، قتلة المسيح ، صاروا باسمه يقتلون، وصاروا يكرمون أنفسهم بأنهم قتلة المسيح لأن صلبه هو الخلاص للبشر.
أصحاب المسيح قتلوا بعده بفترة وهم يدعون للرجل الذي أنكروه وقت الشدة. وصارت دعوة المسيح في أيدي قتلته بل في يد أحد الذين كفروا به حتى صلبه ولم يلتقه مطلقاً "بولس" ورغم ذلك كتب 14 سفراً في العهد الجديد.
أتباعه الذين آمنوا به واضطهدوا في سبيله بمجرد أن يصبحوا الأقوى لأن السلطة مالت لهم، سيقتلون أي وثني. سيحرقون أي فكر. بنفس الأساليب الوحشية، ونفس التعنت لدينهم.
أما المسيح نفسه. فهو غير موجود. رحل منذ ألفي عام. لا يوجد من آثاره إلا أيقونات وصور يعلم الجميع أنها لا تشبهه بشيء إذ يبدو فيها أوروبياً أكثر منه نجاراً يهودياً يعيش في الناصرة. البعض يقولون أنه إله والبعض يقولون أنه نبي والبعض ينكر أنه كان موجوداً أصلاً. يستخدمه الملوك في البطش. والباباوات حرقوا باسمه الآلاف، والقوى العظمى تضعه رمزاً لحروبهم . يرفع المؤمنون به أداة قتله كرمز لديانته. يأكلون لحمه ويشربون دمه في كل سنة احتفالاً بخلاصهم الذي تم بصلبه.
**
- ظهر المسيح الحي فوق سفح ربوة.
ونزل بهالة الضي وقعد على قهوة.
بصوا.. تعالوا.. خليه في حاله.
الناس في حالهم يابني مالهمش دعوة.
صلاح جاهين.
الإسقاط:
الإخوان خانوا الثورة التي انتموا إليها ومكنتهم من البرلمان والرئاسة بل ومن الحياة أحراراً. الثورة التي انتظروها طوال عمرهم باعوها لمن؟ لعدوهم القديم. للنظام في ممثله "المجلس العسكري". باعوها بثمن بخس. بينما الناس الذين استبشروا بالثورة كنهاية للفساد والقهر والكبت. نفس الذين رقصوا لرحيل مبارك . وقفوا يتفرجون على الثورة وهي معلقة على صليب المؤامرة والعمالة والأخونة. من كانوا يتحدثون باسم الثورة أمس أنكروها اليوم . وحدهم تلك الفئة الضالة المنعوتة بالعمالة والغباء والطابور الخامس هي التي لازالت مؤمنة بتلك الثورة الذبيحة.
والآن العسكريون ارتدوا عباءة الثورة ووصلوا بها للحكم.. بينما الإخوان سوف يلعنون على كل منبر وفي كل محفل لسنوات طويلة من كل الجهات، فالناس تغفر للقوي قوته وللباطش بطشه وتتعايش معه لكن لا تغفر للخائن أبداً. لذلك سيلعنون من الثوار والفلول على السواء. بينما الجيش الذي صلب الثورة وذبحها صار يحكم باسمها.
الثوار الذين أنكروا الثورة وهللوا للجيش ثم استفاقوا أن ثورتهم الفعلية ذبحت وحنطت كأيقونة . هؤلاء من سيرجعون للدعوة للثورة من جديد، و سيكونون أول الضحايا. ولن يؤرخ للثورة ويكتب عنها إلا نفس الكتاب الذين حاربوها طوال ثلاثة سنوات. لكن مادام الناس تريدها كثورة فلتبق ثورة لكن من وجهة نظر أخرى.
بعض المثقفين ممن كانوا في الطليعة في يناير صاروا الآن هم الحرس الصحافي للحاكم الجديد. صاروا يوزعون نفس التهم التي كانت تصيبهم من قبل. صاروا يرتكبون نفس السب والقذف والتحريض ضد المعارضين .ويمارسون نفس طقوس التأليه التي فضحوها منذ عهد قريب.
أما الثورة نفسها فقد ماتت وتم إخراج أحشائها وحشوها بالقطن وعرضها في المتحف للزائرين. بينما يتشبث الجميع بحدث آخر لا يمت للثورة بصلة يقولون عنه أنه امتداد لها أو تصحيحاً لها أو حتى ثورة عليها. وصار البعض يقول عنها ثورة والبعض يقول عنها مؤامرة. والبعض يقول أنها ثورة استغلت لتصبح مؤامرة. باسم الثورة ستبطش الدولة بمعارضيها ستكمم الأفواه وستقول لا لأعداء الثورة غير مدركة أنها هي أعداء الثورة. و في كل عيد للثورة سينزل كارهوها للاحتفال بها. وبعضهم سيقول أنه يحتفل بعيد الشرطة. بعض من لازالوا يصدقون أنها ثورة سيحتفلون بصدق دون أن يجدوا غضاضة في احتفالهم بعيد صلبها بعد عدة أشهر. مؤمنين أن في صلبها كان الخلاص. وأنها مازالت حية في مكان ما.
آه من في غد سوف يرفع هامته؟
غير من طأطأوا حين أزَّ الرصاص؟!
ومن سوف يخطب - في ساحة الشهداء -
سوى الجبناء؟
ومن سوف يغوى الأرامل؟
إلا الذي سيؤول إليه خراج المدينة!!؟
أمل دنقل
القصة:
اليهود خانوا المسيح الذي ينتمي إليهم، بل الذي كان مبعوثاً فيهم من الأساس. بل الذي عاشوا عمرهم كله ينتظرونه باعتباره المخلِص. باعوه وهو من هو ويدعوهم لله ، وقدموه هدية للعدو المحتل الوثني. للرومان. بينما الناس الذين استقبلوه في أورشليم بالسعف قبل أقل من أسبوع. هم الآن من يتفرجون عليه وهو يحمل صليبه ويلبس تاج الشوك وينعت بملك اليهود. أصحابه أنكروه. ووحدها مريم المجدلية والمتهمة بالعهر من ظلت معه للنهاية.
الرومان أنفسهم اعتنقوا المسيحية بعد أن حولوها لأداة جديدة للسيطرة. اليهود صاروا طوال عشرين قرناً مضطهدين يلعنون في كل صلاة كاثوليكية .بينما الرومان، قتلة المسيح ، صاروا باسمه يقتلون، وصاروا يكرمون أنفسهم بأنهم قتلة المسيح لأن صلبه هو الخلاص للبشر.
أصحاب المسيح قتلوا بعده بفترة وهم يدعون للرجل الذي أنكروه وقت الشدة. وصارت دعوة المسيح في أيدي قتلته بل في يد أحد الذين كفروا به حتى صلبه ولم يلتقه مطلقاً "بولس" ورغم ذلك كتب 14 سفراً في العهد الجديد.
أتباعه الذين آمنوا به واضطهدوا في سبيله بمجرد أن يصبحوا الأقوى لأن السلطة مالت لهم، سيقتلون أي وثني. سيحرقون أي فكر. بنفس الأساليب الوحشية، ونفس التعنت لدينهم.
أما المسيح نفسه. فهو غير موجود. رحل منذ ألفي عام. لا يوجد من آثاره إلا أيقونات وصور يعلم الجميع أنها لا تشبهه بشيء إذ يبدو فيها أوروبياً أكثر منه نجاراً يهودياً يعيش في الناصرة. البعض يقولون أنه إله والبعض يقولون أنه نبي والبعض ينكر أنه كان موجوداً أصلاً. يستخدمه الملوك في البطش. والباباوات حرقوا باسمه الآلاف، والقوى العظمى تضعه رمزاً لحروبهم . يرفع المؤمنون به أداة قتله كرمز لديانته. يأكلون لحمه ويشربون دمه في كل سنة احتفالاً بخلاصهم الذي تم بصلبه.
**
- ظهر المسيح الحي فوق سفح ربوة.
ونزل بهالة الضي وقعد على قهوة.
بصوا.. تعالوا.. خليه في حاله.
الناس في حالهم يابني مالهمش دعوة.
صلاح جاهين.
الإسقاط:
الإخوان خانوا الثورة التي انتموا إليها ومكنتهم من البرلمان والرئاسة بل ومن الحياة أحراراً. الثورة التي انتظروها طوال عمرهم باعوها لمن؟ لعدوهم القديم. للنظام في ممثله "المجلس العسكري". باعوها بثمن بخس. بينما الناس الذين استبشروا بالثورة كنهاية للفساد والقهر والكبت. نفس الذين رقصوا لرحيل مبارك . وقفوا يتفرجون على الثورة وهي معلقة على صليب المؤامرة والعمالة والأخونة. من كانوا يتحدثون باسم الثورة أمس أنكروها اليوم . وحدهم تلك الفئة الضالة المنعوتة بالعمالة والغباء والطابور الخامس هي التي لازالت مؤمنة بتلك الثورة الذبيحة.
والآن العسكريون ارتدوا عباءة الثورة ووصلوا بها للحكم.. بينما الإخوان سوف يلعنون على كل منبر وفي كل محفل لسنوات طويلة من كل الجهات، فالناس تغفر للقوي قوته وللباطش بطشه وتتعايش معه لكن لا تغفر للخائن أبداً. لذلك سيلعنون من الثوار والفلول على السواء. بينما الجيش الذي صلب الثورة وذبحها صار يحكم باسمها.
الثوار الذين أنكروا الثورة وهللوا للجيش ثم استفاقوا أن ثورتهم الفعلية ذبحت وحنطت كأيقونة . هؤلاء من سيرجعون للدعوة للثورة من جديد، و سيكونون أول الضحايا. ولن يؤرخ للثورة ويكتب عنها إلا نفس الكتاب الذين حاربوها طوال ثلاثة سنوات. لكن مادام الناس تريدها كثورة فلتبق ثورة لكن من وجهة نظر أخرى.
بعض المثقفين ممن كانوا في الطليعة في يناير صاروا الآن هم الحرس الصحافي للحاكم الجديد. صاروا يوزعون نفس التهم التي كانت تصيبهم من قبل. صاروا يرتكبون نفس السب والقذف والتحريض ضد المعارضين .ويمارسون نفس طقوس التأليه التي فضحوها منذ عهد قريب.
أما الثورة نفسها فقد ماتت وتم إخراج أحشائها وحشوها بالقطن وعرضها في المتحف للزائرين. بينما يتشبث الجميع بحدث آخر لا يمت للثورة بصلة يقولون عنه أنه امتداد لها أو تصحيحاً لها أو حتى ثورة عليها. وصار البعض يقول عنها ثورة والبعض يقول عنها مؤامرة. والبعض يقول أنها ثورة استغلت لتصبح مؤامرة. باسم الثورة ستبطش الدولة بمعارضيها ستكمم الأفواه وستقول لا لأعداء الثورة غير مدركة أنها هي أعداء الثورة. و في كل عيد للثورة سينزل كارهوها للاحتفال بها. وبعضهم سيقول أنه يحتفل بعيد الشرطة. بعض من لازالوا يصدقون أنها ثورة سيحتفلون بصدق دون أن يجدوا غضاضة في احتفالهم بعيد صلبها بعد عدة أشهر. مؤمنين أن في صلبها كان الخلاص. وأنها مازالت حية في مكان ما.
آه من في غد سوف يرفع هامته؟
غير من طأطأوا حين أزَّ الرصاص؟!
ومن سوف يخطب - في ساحة الشهداء -
سوى الجبناء؟
ومن سوف يغوى الأرامل؟
إلا الذي سيؤول إليه خراج المدينة!!؟
أمل دنقل
Published on June 26, 2014 13:18
June 24, 2014
سلام وطني
احتل رواد المقهى الرصيف فصار السائر على الرصيف ينزل وسط الطريق ولا يستطيع العودة بعد المرور بالمقهى لوجود بائعي الجبنة الفلاحي والبيض و السجائر المضروبة والتوت والخبز الأبيض . الجميع يحتل الرصيف ويضع حاجياته تحته ساداً الطريق على الصيدلية و المكتبة ومداخل البيوت، ومن أراد دخول أيهم فعليه أما أن يعتذر للجالس على الرصيف ويخطو بجواره خطوة أشبه بالقفزة ، أو يستمر في السير حتى نهاية الشارع ونهاية الباعة ليصل لأول الرصيف ويعود أدراجه. بعض الرجال كانوا يخترقون المسافات الخالية على رصيف المقهى بين المناضد والكراسي والنراجيل و الصبيان حاملي الصواني والفحم. وذلك ليوفروا على أنفسهم عناء النزول عن الرصيف. لكن سيدة وابنها ومعها أكياس السوق لم تكن لتفعل ذلك. فاضطرت وهي تتأفف أن تنزل بين الرصيف والسيارات المتوقفة بفعل الزحام. تسب ابنها تارة لكي ينتبه ، وتسب سائقي السيارات عندم تصطدم بمرآة أو تحتك عباءتها بالعجلات. كان ابنها في دنيا أخرى وهو يشفط آخر ما في علبة المياه الغازية في يده مستمتعاً بلسعتها وبرودتها اللذين جعلاه يقيم حفلاً من البكاء والصراخ في الشارع لكي تشتريها أمه. كان يتجاهل كلام أمه إذ كان ما تبقى من انتباهه مع أغنية اشتهرت حديثاً تنطلق بها السماعة المعلقة بجوار باب المقهى، والتي لا تصمت إلا وقت الآذان أو وقت الإغلاق. كان قد أنهى مشروبه تماماً حين بدأ يشعر بشيء يثقله، شيء كان يتجاهله منذ قليل وتناساه تماماً حين قررت لأمه شراء المشروب مكرهة. كان يريد أن يتبول منذ أن كان في السوق، والآن بعد كل هذا الوقت وبعد المشروب الغازي وجد نفسه يغلق فخذيه في محاولة أخيرة لمنع البول أن يتسرب منه. المنزل بجوار الصيدلية لكن أمه ستستمر سائرة تحت الرصيف بسرعتها البطيئة واحتكاكها بالجميع، حتى تصل لآخر الرصيف، و هو لن يحتمل كل هذا الوقت. صعد فوق رصيف المقهى لكي يختصر الطريق . وقبل أن تصرخ عليه انطلق من سماعة المقهى صوت جعلت الجميع يصمت. "أيها السادة: السلام الوطني" . تغير كل شيء في تلك اللحظات القليلة. ترك جميع من على المقهى الأكواب وأحجار الدومينو وزهر النرد وتماثيل العساكر والأحصنة و الأفيال على رقعها كيفما اتفق و هبوا واقفين. حاملي الصواني ومجامر الفحم توقفوا في أماكنهم. سائقو السيارات أبطلوا المحركات وفتحوا الأبواب ونزلوا. السائرون توقفوا. الجالسون على الأرصفة قاموا. أصحاب المحال لم يكتفوا بالوقوف بل خرجوا إلى الشارع . الشارع الصاخب المزدحم الملئ بالغبار والذباب واللعنات صار صامتاً إلا من اللحن العسكري المنساب ومن تماثيل واقفة بدون حركة ولو لإبعاد الذباب عن الوجوه. الطفل بعد تلك المفاجأة قرر أن يتحرك استجابة لمثانته التي على وشك الانفجار. لكن الأم قامت بحركة اخيرة رشيقة بأن خطت على الرصيف وسط الرجال وأمسكت الطفل من ياقته وسمرته بجوارها. ثم حركت عينيها بين الوجوه كأنما لتطمئن على نفسها. انساب السلام الوطني والجميع ينظر في الفراغ. لا أحد ينظر في وجه زميله. فقط الطفل وقد ازدادت معاناته حتى الذروة كان يقلب وجهه بينهم مستغيثاً بينما الأم تثبته على الأرض بيد واحدة وبعزيمة لا تكل. في ذروة يأسه وألمه مد الطفل يده الحرة التي لا تمسك بعلبة المشروب الفارغة. أمسك طرف الشورت والكلوت تحته. بحركة سريعة انزلهما وأسندهما تحت خصيتيه. كان عضوه نائماً في سلام فلما أطلق العنان لبوله انتتر كما يحدث لخرطوم فتح ماؤه فجأة ضارباً في كل الاتجاهات. كان أول من أصيب سائق السيارة المواجهة. ولما لم يصدر عنه أي رد فعل سوى إغماض عينيه وزم فمه، حينها تحمس الفتى وأدرك فرصته الذهبية في التبول بحرية والتي تضربه امه كلما فعلها بالحمام وأصاب الملابس والمرايا وأدوات الحلاقة . لذلك و بسرعة استدار للتالي وهو سائق آخر لم يرد الهجوم أيضاً، فوجه الطفل بوله لبائع السجائر والعلب أمامه ثم أكواب الشاي على أحد مناضد المقهى، ثم رقعة شطرنج فأسقط بعض أحجارها، ثم أطفأ أحجار المجمرة في يد صاحبها . أراد أن يكمل استدارته لكن يد أمه كانت بالمرصاد. لم يحاول النظر لأمه إذ كانت نظرة منها كافية لردعه. كان السلام الوطني في منتصفه و الطفل أيضاً مازال لديه الكثير. بحث عن هدف جديد في حدود تصويبه فلم يجد إلا السماعة التي يقف لصوتها الشارع. كان ارتفاعها أصعب من التوجيه التلقائي لذا أمسك عضوه ورفعه بسرعة ليخرج الدفعة الأخيرة على السماعة فتصدر وشيشاً أخيراً وتصمت. وبالانتهاء القصري للحن عاد الجميع للحركة ماسحين الوجوه والملابس وقد بدأت علامات القرف والغضب تظهر . كان الطفل ينهي مابدأه على الأرض تحته في صورة نقط ويرفع ملابسه و هو يراقب ردود الأفعال الغاضبة . ما أن تركته أمه لتوجه له ضربة اختزنتها طويلاً، ما أن شعر بياقته حرة حتى انطلق بكل سرعته بين المناضد وفوق فرش الباعة واختفى في مدخل المنزل تاركاً أمه لنظرات اللوم والتقريع.
Published on June 24, 2014 02:59
June 4, 2014
محمد سعيد العشماوي
محمد سعيد العشماوي بما أن المفكرين يأتون في مؤخرة اهتمامات المصريين وإعلامهم، لا لشيء إلا لأننا نفكر من مؤخراتنا ، فقد علمت متأخراً بخبر وفاة المفكر الكبير المستشار /محمد سعيد العشماوي نوفمبر 2013. حيث لم تأت بالخبر أي جريدة ولا تداولته التويتات ولا وجدنا باسمه (رست ان بيس) على الفيس بوك. فمحمد سعيد العشماوي ليس نجماً سينمائياً أنكر زواجه من نجمة أخرى شفهياً، وليس من نجوم التوك شو ولا من إعلاميي السلطة ولا من مطربي تسلم الأيادي . حتى أنه لم يكن بشهرة مفكرين آخرين مثل فرج فودة أو نصر حامد أبو زيد لأن حظه خدمه دون أن يُغتال رغم وجوده على قائمة الاغتيال منذ الثمانينيات ، ولم تسحقه قضية عبثية مثلما حدث لنصر حامد أبو زيد. لذا لم يصبح من شهداء الرأي الذين يتاجر الليبراليون بدمائهم وهم من لم يتورعوا عن التعبير عن سعادتهم لما سالت دماء الطرف الآخر. كان اغتياله من نوع آخر بتهميشه تماماً إعلامياً على مدى سنوات حتى ظهر في برنامجين للميس الحديدي ووائل الإبراشي في شهوره الأخيرة لاستغلاله إعلامياً في الحرب التي شنها الإعلام على الإخوان. ولكن للأسف كان وجوده مهيناً لشخص مثله إذ لم يعتد على الظهور الإعلامي فما بالك أن يكون أول ظهوره في الثانية والثمانين من عمره.
طرق العشماوي باب عقلي للمرة الأولى في المراهقة. حيث كان منبره الوحيد هو مجلة روز اليوسف في التسعينيات حيث فوجئت بمقال يعلن من عنوانه أن: شعر المرأة ليس عورة. يومها سببت العشماوي وقفلت باب عقلي دون أن أتكلف عناء القراءة، ولم أقرأ ما كتبه فعلاً إلا بعد سنوات وأنا في بداية العشرينات عندما فكرت في هل الحجاب فريضة فعلاً. وهل النصوص التي فرضت الحجاب صالحة حتى الآن؟ لم أجد ما يروي حيرتي إلا أن أشتري كتابه الذي كانت المقال جزء منه : حقيقة الحجاب وحجية الحديث. كانت صدمتي أن تفسيره للآيات القرآنية التي يُستدل منها على فرضية الحجاب أنها لا علاقة لها بالحجاب. وأن الحجاب – غطاء الرأس- ما هو إلا عادة اجتماعية قد تظهر وتختفي حسب اتجاه المجتمع. ثم ناقش حجية الحديث وصحة التشريع به من عدمه. لم يكن الكتاب أفضل كتبه و إن كان أكثرها إثارة للجدل. اكتشفت بعدها أنه أول من قال تعبير الإسلام السياسي وله فيها كتاب كامل ، وأنه فند فكر الخلافة في كتابه الخلافة الإسلامية ،بتفنيد ما يطلق عليه الخلافة الإسلامية حتى وصل لأنه لا يوجد ما يسمى حقاً بالخلافة الإسلامية وإن هي إلا ملكية صبغت نفسها بالإسلام كما تصبغ نفسها بألوان أخرى في أماكن أخرى: الصليب- القومية- يهوه-...
كان للعشماوي حروبه الكثيرة سواء من على منصة القضاء حين حاربته السلطة بشدة أيام السادات عندما برأ أحد التنظيمات الماركسية لعدم وجود أدلة، وأيام مبارك عندما برأ أحد التنظيمات الإسلامية لنفس السبب. كان غريباً على السلطة أن يحكم قاضي بالقانون و الأدلة لا بمجرد الانتماء. كما كانت له حروبه ضد التيارات الإسلامية بكتابه عن الربا الذي أوضح أن فوائد البنوك ليست هي الربا الذي أتى في القرآن. وكان ذلك في عصر شركات توظيف الأموال وتوظيف الشيوخ الذين ملأوا الدنيا ضجيجاً أن فوائد البنوك ربا حتى يترك الناس البنوك ويأتوا لشركات التوظيف. وطبعاً حروبه بسبب كتبه عن الحجاب والحديث والخلافة والإسلام السياسي و أصول الشريعة. أصنام بناها المسلمون من بعد العصر الأموي وظلت مقدسة حتى الآن.لن أدعي أن العشماوي حالفه التوفيق في كل ما كتبه، فليس هناك من لا يخطئ ولا من يحيد عن الهوى. فكتاباته فيها شوائب وتناقضات وإبراز لما يعزز رأيه وتورية لما يخالفه. لكن الفكرة هل يتحمل المجتمع المصري النقاش لكي نفند ما يقوله؟ ولو فندناه فهل نحتمل أن نفند السنة والفقه والتفاسير؟
قابلت العشماوي مرة واحدة في زيارة له للإسكندرية. كان يعيش وحده وسط تحفه وكتبه. كانت الأنا عنده تتعاظم من شدة تجاهله. فكان يرى أنه أهم المفكرين وأن الجميع يأخذ من كتاباته ويشتهر بإثارة الجدل بينما هو في الظل. وبينما كانت بعض الجامعات العالمية تحتفي به و بكتبه كان لا أحد يعرفه هنا. و بينما كان يصادقه توفيق الحكيم ومحمد عبد الوهاب منذ سنوات. صار الآن لا صديق له إلا بعض المعجبين الذي لم يخلوا من غرض ولم يأمن خيانة أحدهم عندما تسبب في غضب مبارك عليه عندما أخبره بأنه قال في محاضرة بالخارج أن مصر لا يوجد بها نظام سياسي فإذا بالصحفي يكتب تقريره - ترأس روز اليوسف بعدها بفترة – مما تسبب في رفع الحراسة عنه لفترة فصار يعيش في رعب خوفاً من الاغتيال. كان العشماوي في لقائي القصير به يسب الجميع وهو أول من قال لي أن اليسار المصري مريض بنفس أمراض السلطة وأمراض اليمين: الشللية والانحياز للرأي ورفض الرأي الآخر . وهو ما اكتشفته بعد ذلك بنفسي وما زلت أكتشف فظاعاته حتى الآن . رشح لي بعض كتبه ومنحها لي كهدية وكان فيهم أهم كتاب له على الإطلاق: العقل في الإسلام. وقد قرأت مرة من يقول أنه لو لم يأت نيوتن إلا بالتفاضل والتكامل لكفاه. وهكذا قلت للعشماوي عن كتابه العقل في الإسلام. لو لم يؤلف غيره لكفاه.أدهش شيء في العشماوي- وربما هذا ما يميزه بالنسبة لي- أنه لم يناد يوماً بالعلمانية ولم ير فيها حلاً كما فعل بقية المفكرين. بل أنه عاب على المفكرين أنهم لم يدركوا أن العالمانية – كما كتبها- هي لفظة تختص بحدث تاريخي خاص بالكنيسة ولا علاقة لها بالإسلام. وأن أتاتورك استخدمها كمرادف للإلحاد فكان يجب البعد عنها عند الحديث عن الإصلاح فمن يتمسك باللفظ ويترك المعنى لا يجدر به أن يكون مصلحاً. وكان يرى أن الإصلاح يعني الاستنارة ، فالاستنارة هي اتجاه الدين وأهم أهدافه. والاستنارة التي عاش حياته في سبيلها هي ما يعبر عنها الإسلام بجملة :الخروج من الظلمات إلى النور . لذلك فكانت كل كتاباته لتوضيح ذلك الالتباس الذي يحدث في الإسلام منذ العهد الأموي لترسيخ حاكم أو تكفير معارض أو نهب ثروات أو استعباد أمم.العشماوي كان ينطلق من التربة المصرية ومن الحضارة المصرية ومن القرآن ، و لم يكتب كأكاديمي لا يفهم إلا للصفوة، ولا فعل مثل بعض الآخرين بأن اكتفى بالإتيان بعورات التاريخ الإسلامي لينزع قدسية ما عن الأشخاص. وأنا مؤمن أنه في يوم ما في زمن ما بعد سنة أو بعد مئتي سنة سيأتي من يعيد للعشماوي اعتباره كواحد من أهم المستنيرين والمفكرين وفقهاء الإسلام في القرن العشرين. وليس لدي الآن لكي أنتصر له غير أن أعيد قراءة أعماله جميعاً. ما قراته منها من قبل وما لم أقرأ. وأطلب من الله أن يأتي ذلك اليوم الذي تدرس كتبه في المدارس والجامعات المصرية ليتحقق له ما انتظره و استحقه في حياته بعد أن صار بين يدي الله لا يهمه شيئاً غير طلب الرحمة.
طرق العشماوي باب عقلي للمرة الأولى في المراهقة. حيث كان منبره الوحيد هو مجلة روز اليوسف في التسعينيات حيث فوجئت بمقال يعلن من عنوانه أن: شعر المرأة ليس عورة. يومها سببت العشماوي وقفلت باب عقلي دون أن أتكلف عناء القراءة، ولم أقرأ ما كتبه فعلاً إلا بعد سنوات وأنا في بداية العشرينات عندما فكرت في هل الحجاب فريضة فعلاً. وهل النصوص التي فرضت الحجاب صالحة حتى الآن؟ لم أجد ما يروي حيرتي إلا أن أشتري كتابه الذي كانت المقال جزء منه : حقيقة الحجاب وحجية الحديث. كانت صدمتي أن تفسيره للآيات القرآنية التي يُستدل منها على فرضية الحجاب أنها لا علاقة لها بالحجاب. وأن الحجاب – غطاء الرأس- ما هو إلا عادة اجتماعية قد تظهر وتختفي حسب اتجاه المجتمع. ثم ناقش حجية الحديث وصحة التشريع به من عدمه. لم يكن الكتاب أفضل كتبه و إن كان أكثرها إثارة للجدل. اكتشفت بعدها أنه أول من قال تعبير الإسلام السياسي وله فيها كتاب كامل ، وأنه فند فكر الخلافة في كتابه الخلافة الإسلامية ،بتفنيد ما يطلق عليه الخلافة الإسلامية حتى وصل لأنه لا يوجد ما يسمى حقاً بالخلافة الإسلامية وإن هي إلا ملكية صبغت نفسها بالإسلام كما تصبغ نفسها بألوان أخرى في أماكن أخرى: الصليب- القومية- يهوه-...
كان للعشماوي حروبه الكثيرة سواء من على منصة القضاء حين حاربته السلطة بشدة أيام السادات عندما برأ أحد التنظيمات الماركسية لعدم وجود أدلة، وأيام مبارك عندما برأ أحد التنظيمات الإسلامية لنفس السبب. كان غريباً على السلطة أن يحكم قاضي بالقانون و الأدلة لا بمجرد الانتماء. كما كانت له حروبه ضد التيارات الإسلامية بكتابه عن الربا الذي أوضح أن فوائد البنوك ليست هي الربا الذي أتى في القرآن. وكان ذلك في عصر شركات توظيف الأموال وتوظيف الشيوخ الذين ملأوا الدنيا ضجيجاً أن فوائد البنوك ربا حتى يترك الناس البنوك ويأتوا لشركات التوظيف. وطبعاً حروبه بسبب كتبه عن الحجاب والحديث والخلافة والإسلام السياسي و أصول الشريعة. أصنام بناها المسلمون من بعد العصر الأموي وظلت مقدسة حتى الآن.لن أدعي أن العشماوي حالفه التوفيق في كل ما كتبه، فليس هناك من لا يخطئ ولا من يحيد عن الهوى. فكتاباته فيها شوائب وتناقضات وإبراز لما يعزز رأيه وتورية لما يخالفه. لكن الفكرة هل يتحمل المجتمع المصري النقاش لكي نفند ما يقوله؟ ولو فندناه فهل نحتمل أن نفند السنة والفقه والتفاسير؟
قابلت العشماوي مرة واحدة في زيارة له للإسكندرية. كان يعيش وحده وسط تحفه وكتبه. كانت الأنا عنده تتعاظم من شدة تجاهله. فكان يرى أنه أهم المفكرين وأن الجميع يأخذ من كتاباته ويشتهر بإثارة الجدل بينما هو في الظل. وبينما كانت بعض الجامعات العالمية تحتفي به و بكتبه كان لا أحد يعرفه هنا. و بينما كان يصادقه توفيق الحكيم ومحمد عبد الوهاب منذ سنوات. صار الآن لا صديق له إلا بعض المعجبين الذي لم يخلوا من غرض ولم يأمن خيانة أحدهم عندما تسبب في غضب مبارك عليه عندما أخبره بأنه قال في محاضرة بالخارج أن مصر لا يوجد بها نظام سياسي فإذا بالصحفي يكتب تقريره - ترأس روز اليوسف بعدها بفترة – مما تسبب في رفع الحراسة عنه لفترة فصار يعيش في رعب خوفاً من الاغتيال. كان العشماوي في لقائي القصير به يسب الجميع وهو أول من قال لي أن اليسار المصري مريض بنفس أمراض السلطة وأمراض اليمين: الشللية والانحياز للرأي ورفض الرأي الآخر . وهو ما اكتشفته بعد ذلك بنفسي وما زلت أكتشف فظاعاته حتى الآن . رشح لي بعض كتبه ومنحها لي كهدية وكان فيهم أهم كتاب له على الإطلاق: العقل في الإسلام. وقد قرأت مرة من يقول أنه لو لم يأت نيوتن إلا بالتفاضل والتكامل لكفاه. وهكذا قلت للعشماوي عن كتابه العقل في الإسلام. لو لم يؤلف غيره لكفاه.أدهش شيء في العشماوي- وربما هذا ما يميزه بالنسبة لي- أنه لم يناد يوماً بالعلمانية ولم ير فيها حلاً كما فعل بقية المفكرين. بل أنه عاب على المفكرين أنهم لم يدركوا أن العالمانية – كما كتبها- هي لفظة تختص بحدث تاريخي خاص بالكنيسة ولا علاقة لها بالإسلام. وأن أتاتورك استخدمها كمرادف للإلحاد فكان يجب البعد عنها عند الحديث عن الإصلاح فمن يتمسك باللفظ ويترك المعنى لا يجدر به أن يكون مصلحاً. وكان يرى أن الإصلاح يعني الاستنارة ، فالاستنارة هي اتجاه الدين وأهم أهدافه. والاستنارة التي عاش حياته في سبيلها هي ما يعبر عنها الإسلام بجملة :الخروج من الظلمات إلى النور . لذلك فكانت كل كتاباته لتوضيح ذلك الالتباس الذي يحدث في الإسلام منذ العهد الأموي لترسيخ حاكم أو تكفير معارض أو نهب ثروات أو استعباد أمم.العشماوي كان ينطلق من التربة المصرية ومن الحضارة المصرية ومن القرآن ، و لم يكتب كأكاديمي لا يفهم إلا للصفوة، ولا فعل مثل بعض الآخرين بأن اكتفى بالإتيان بعورات التاريخ الإسلامي لينزع قدسية ما عن الأشخاص. وأنا مؤمن أنه في يوم ما في زمن ما بعد سنة أو بعد مئتي سنة سيأتي من يعيد للعشماوي اعتباره كواحد من أهم المستنيرين والمفكرين وفقهاء الإسلام في القرن العشرين. وليس لدي الآن لكي أنتصر له غير أن أعيد قراءة أعماله جميعاً. ما قراته منها من قبل وما لم أقرأ. وأطلب من الله أن يأتي ذلك اليوم الذي تدرس كتبه في المدارس والجامعات المصرية ليتحقق له ما انتظره و استحقه في حياته بعد أن صار بين يدي الله لا يهمه شيئاً غير طلب الرحمة.
Published on June 04, 2014 05:56
January 10, 2014
عيد ميلاد أم ذكرى؟
25/1/2012
منذ عام واحد كنت أسير في الشارع عائداً من السوبر ماركت لأجد مظاهرة صغيرة في الشارع. زاد على صغرها أن نصفها كان إما متفرجاً يسير معهم ليرى ما سيحدث، أو أشخاصاً يسيرون في نفس الطريق فانضموا للهتاف حتى يأتي مكان توقفهم أو مفترق طريقهم عن طريق المظاهرة. حتى أنني رأيت شاباً وخطيبته سائرين على طرف المظاهرة يبتسمان وكأنهما في المولد يشاهدان الأعاجيب. ذهبت يومها لزوجتي عند أهلها لأصطحبها دون أن أعنى بذكر تلك المسيرة التي كنت أعلم أنها آتية من أمام قسم سيدي جابر وذاهبة لنقطة الابراهيمية في المظاهرة المعلن عنها للتنديد بطغيان الشرطة في يوم عيدها. وعند نزولنا وجدنا حركة غير طبيعية في الشارع. حذرتنا امرأة من الذهاب لشارع لاجيتيه لأن الشرطة تحاصره وتطلق قنابل الدخان. طمأنتها زوجتي بأن هذا ليس طريقنا فقالت السيدة:
- على العموم حاول ركوب تاكسي. المتظاهرون يهربون ويختبئون في مداخل البيوت ولا أحد يضمن ما سيحدث في أي مكان.
كانت السيدة على حق فإن صادفنا متظاهراً يجري وعسكري خلفه سنؤخذ معه أو سيصيبنا ما يصيبه من رصاص أو قنبلة دخان. لكننا رغم ذلك قررنا السير دافعين عربة ابنتي التي كانت ستتم عامها الأول بعد أيام قليلة. لا أذكر لماذا قررنا المسير. ولحسن حظنا لم يصادفنا شخص يهرب ولا شخص يبحث عن ضحية. كان هناك شيء يتردد على عقلي ساعتها. أحد من كانوا في المسيرة، كان رجلاً أربعينياً ذا صوت مبحوح. كان لا يهتف وإنما انشغل بالصراخ على السائرين في الشارع - وأنا منهم- بأن ينضموا للمظاهرة وكان يقول:
- احنا هنا علشانكم.
كنت أتساءل عن مصير هذا الرجل في ظل ما قالته السيدة من مطاردات واعتقالات. وماذا يفعل من كانوا معي في الشارع ويدعوهم الرجل للمظاهرة التي يسير فيها من أجلهم. أغلب الظن أن كلهم مثلي، إما في بيوتهم أمام التلفاز وتحت الأغطية أو في الطريق إلى ذلك. كلنا جلسنا أمام التلفاز لنعرف أخبار المظاهرات وفي أيدينا أكواب الشاي والنسكافيه والكاكاو في سهرة سعيدة دافئة. والرجل الذي كان يدعونا والذي كان هناك "من أجلنا"، لو نجا من المبيت على بلاط زنزانة في أمن الدولة، أو على الأرض في طرقة مستشفى ينتظر من يعالجه من إصابة. لو كان محظوظاً مثل من قام بالمظاهرة لأجلهم وعاد لبيته، فلابد وأنه مرعوب من أن يداهموا بيته في أي لحظة، أو يتصل بأصدقاء الكفاح يطمئن عليهم ويسأل عمن سقطوا، أو يستعد لمعركة يوم جديد في عمله أو مظاهرة جديدة. ثم صرت أتخيل المتظاهرين مختبئين في ظلام المداخل يرتعدون من الخوف وصقيع يناير. وأردد إحدى القصائد وكلي تجاهل لسؤال: لماذا لست معهم.
ظهر الجند دائرة من دروع وخوذات حرب. ها هم الآن يقتربون رويداً.. رويداً.. يجيئون من كل صوب. والمغنون - في الكعكة الحجرية – ينقبضون وينفرجون. كنبضة قلب! يشعلون الحناجر، يستدفئون من البرد والظلمة القارسة. يرفعون الأناشيد في أوجه الحرس المقترب. يشبكون أياديهم الغضة البائسة. لتصير سياجاً يصد الرصاص!( ).
وهكذا بينما أتخيلهم يعانون الخوف والتعب والجوع والبرد. أردد قصيدة تنتمي للماضي وكأن هذا هو آخر ما أستطيع. بل كان هناك رغم كل ذلك سؤال يتردد في عقلي وأنا أتخيلهم في نكبتهم: فيم كل هذا؟
الآن بعد عام واحد فقط. أنزل أنا وزوجتي وابنتي في عيد الشرطة الذي صار عيد الثورة لنسير في مظاهرة! كيف ومتى حدث هذا الانقلاب. وهل من خرجوا منذ عام واحد ليتظاهروا "من أجلي" موجودون في هذا اليوم ليحتفلوا معنا؟ أم كانوا من الشهداء في جمعة الغضب أو يوم الجمل. ما أشد بجاحتي أنا وكل من يسير متظاهراً ضد العسكر في احتفال بيوم شهده في السرير. بينما ملوك الاحتفال الحقيقيون قتلوا أو سجنوا أو يلعنون الآن كمخربين للثورة. ألا تصدقني؟ لو كنت رأيت ما رأيته اليوم. أمام مسجد القائد ابراهيم كان من ركبوا الثورة من الجماعات قد أقاموا احتفالاتهم الخاصة وقد أمنوها بكردونات بشرية تفحص هوية الداخلين وكأنها حفلة في ناد خاص. كانوا يحتفلون بالثورة من مبدأ أنها حققت أهدافها والقادم أفضل. فقد سادوا البرلمان وقريباً يتفقون مع العسكر على الرئيس القادم. يتهمون من يتظاهر ضد العسكر الآن بأنه عدو الثورة والاستقرار. هان إحساسي بالخزي عندما رأيت هذا الاحتفال وقررت ألا أدخله وأن أبحث عن الثوار. على الأقل اليوم أنا معهم ولا أحد خرج من أجلي.
لكن لا يحلو لي وصف هذا اليوم دون وصف لمصر نفسها فيه. مصر التي ليست "حلوة ولابسة جديد" كما تقول الأغنية التي ظهرت منذ عام عن شهداء الثورة. مصر أبعد ما تكون عما يتشدقون به من شمس الحرية والأعراس الديموقراطية والمناخ الصحي وحرية التعبير. مصر صارت كشخص لم يستحم منذ عام. تخيل شخصاً لم تمتد إليه يد العناية ولا النظافة منذ عام. تخيل شكله ورائحته وسلوكه وأمراضه. هكذا صارت مصر. فرغم القذارة العامة التي كانت عليها البلاد قبل الثورة. فإنها على الأقل كانت تجد بين كل حين وآخر يد العناية تمتد للشوارع الرئيسية. كان بعض الناس خوفاً من الشرطة لا تخالف ولا تركن في الشوارع صف ثان ولا أول في بعض الأحيان. أما الآن فنحن في دولة بلا قانون ولا شرطة ولا ضمير. دولة لم تمتد إليها يد العناية وزاد عليها أن أفسدها شعبها. بلد كانت مليئة بالأورام والدمامل فإذا بها وقد انفجرت وسال القيح والصديد. أسير في شوارعها فلا أرى إلا القمامة وقد صارت تلالاً حتى في أرقى الأحياء التي طالما تباهى ساكنوها بالنظافة والحياة الصحية. أرى المخالفات التي كانت ترتكب في السر وبسرعة ومشيعة باللعنات، وقد صارت تمارس بمنتهى الشجاعة والإقدام بل وبالصوت العالي أيضاً. ترى الأرصفة وقد اختفت تحت المخالفات وبضاعة الباعة الجائلين، والعمارات التي بنيت في أشهر قليلة بارتفاعات خرافية كشاهد على القبح الذي صرنا فيه. لن تستطيع أن تأمن السير وحدك في شارع مظلم. وحتى في عز النهار والزحام لن تأمن سرقة أو اختطافاً. ستتأكد أن مصر لم يكن بها ضمير. لم يكن بها إلا الخوف من العقاب. وعندما انتهى الجلاد ظهر المرض الحقيقي. ملايين من المتعلمين والجهلة. من اللصوص وأشباههم وحتى الشرفاء. من المتدينين والمتشددين والوسطيين ومن لم يركعوا ركعة والتقدميين والمتغربين. أطفال ومراهقون وشباب ورجال وسيدات وعجائز. ملايين من البشر بمختلف انتماءاتهم ومدنهم وقراهم. الذين ما التزموا إلا خوفاً. وعندما أسقطت الثورة ذلك الخوف ظهرت أمراضهم. اجلس على الفيس بوك الذي كان وسيلة الثورة للتواصل. على الإنترنت الذي كان يوماً مقياساً لتقدم الأمم. ستجد كل شخص وقد اعتلى منبراً عبارة عن لوحة مفاتيح، وقد شحذ أصابعه ليقول رأياً أو يسب رأياً. ينصر إلهاً جديداً ويخوض في لحم مصري آخر وعرض مصرية أخرى. صار مستخدمو الإنترنت في مصر أشبه بشوارعها. صناديق قمامة يحوم حولها الذباب. ضوضاء تهيج الأعصاب. روائح نتنة. ويا ويله من قيل عنه أو عن أسرته إشاعة. تصبح الإشاعة خبراً ويصبح الخبر اتهاماً ويصبح الاتهام حكماً قابل النفاذ. أمام كل جملة أو خبر في أي جريدة تجد مئات التعليقات في كل الاتجاهات. يسبون كاتب الخبر أو من عنه الخبر أو خصوم من عنه الخبر أو يسبون بعضهم.
ووسط كل هذا. مازال هناك من يحلم. مازال هناك من يخرج كل جمعة في أي طقس وتحت أي ظرف ليسير في مظاهرة أملاً في الخلاص برئيس يأتي بحل لتلك الخرابة التي كانت دولة. أسير معهم وأنا أهتف بكل ما أوتيت. ضد العسكر والجماعات والشعب ذاته. أهتف ضد من سرقوا الماضي ويسرقون الحاضر والمستقبل. ضد الكتلة الصامتة والكتلة المخالفة والكتلة الخائضة في الأعراض والكتلة التي تريد عودة الماضي. أهتف ضد الجبناء. ضد الخونة والعملاء ومن يحبون شيئاً أو شخصاً أو مذهباً أو جماعةً أكثر من وطنهم. ضد المثقفين الغرباء عنا. ضد الشيوخ المتسلطين علينا. ضد العسكر والشرطة والساسة والفقهاء الدستوريين والقانونيين والمحللين والمذيعين والأطباء النفسيين والفنانين والكتّاب. ضد من لا يقرأ تاريخه ومن قرأه. ضد من يرفض ومن يقبل ومن لا يدري إلى من ينحاز. ضد الجميع حتى أنا. لم ينج من غضبي إلا الشهداء وابنتي ومن هم مثلها وفي سنها. ليتنا لا نفعل شيئاً إلا تعليمهم فقط أن يقتدوا بالشهداء، ويحبوا الوطن بلا شرط، ويروا الحق بلا ريب والباطل بلا رتوش. لو فعلنا هذا فقط لعاشت الثورة إلى الأبد.
منذ عام واحد كنت أسير في الشارع عائداً من السوبر ماركت لأجد مظاهرة صغيرة في الشارع. زاد على صغرها أن نصفها كان إما متفرجاً يسير معهم ليرى ما سيحدث، أو أشخاصاً يسيرون في نفس الطريق فانضموا للهتاف حتى يأتي مكان توقفهم أو مفترق طريقهم عن طريق المظاهرة. حتى أنني رأيت شاباً وخطيبته سائرين على طرف المظاهرة يبتسمان وكأنهما في المولد يشاهدان الأعاجيب. ذهبت يومها لزوجتي عند أهلها لأصطحبها دون أن أعنى بذكر تلك المسيرة التي كنت أعلم أنها آتية من أمام قسم سيدي جابر وذاهبة لنقطة الابراهيمية في المظاهرة المعلن عنها للتنديد بطغيان الشرطة في يوم عيدها. وعند نزولنا وجدنا حركة غير طبيعية في الشارع. حذرتنا امرأة من الذهاب لشارع لاجيتيه لأن الشرطة تحاصره وتطلق قنابل الدخان. طمأنتها زوجتي بأن هذا ليس طريقنا فقالت السيدة:
- على العموم حاول ركوب تاكسي. المتظاهرون يهربون ويختبئون في مداخل البيوت ولا أحد يضمن ما سيحدث في أي مكان.
كانت السيدة على حق فإن صادفنا متظاهراً يجري وعسكري خلفه سنؤخذ معه أو سيصيبنا ما يصيبه من رصاص أو قنبلة دخان. لكننا رغم ذلك قررنا السير دافعين عربة ابنتي التي كانت ستتم عامها الأول بعد أيام قليلة. لا أذكر لماذا قررنا المسير. ولحسن حظنا لم يصادفنا شخص يهرب ولا شخص يبحث عن ضحية. كان هناك شيء يتردد على عقلي ساعتها. أحد من كانوا في المسيرة، كان رجلاً أربعينياً ذا صوت مبحوح. كان لا يهتف وإنما انشغل بالصراخ على السائرين في الشارع - وأنا منهم- بأن ينضموا للمظاهرة وكان يقول:
- احنا هنا علشانكم.
كنت أتساءل عن مصير هذا الرجل في ظل ما قالته السيدة من مطاردات واعتقالات. وماذا يفعل من كانوا معي في الشارع ويدعوهم الرجل للمظاهرة التي يسير فيها من أجلهم. أغلب الظن أن كلهم مثلي، إما في بيوتهم أمام التلفاز وتحت الأغطية أو في الطريق إلى ذلك. كلنا جلسنا أمام التلفاز لنعرف أخبار المظاهرات وفي أيدينا أكواب الشاي والنسكافيه والكاكاو في سهرة سعيدة دافئة. والرجل الذي كان يدعونا والذي كان هناك "من أجلنا"، لو نجا من المبيت على بلاط زنزانة في أمن الدولة، أو على الأرض في طرقة مستشفى ينتظر من يعالجه من إصابة. لو كان محظوظاً مثل من قام بالمظاهرة لأجلهم وعاد لبيته، فلابد وأنه مرعوب من أن يداهموا بيته في أي لحظة، أو يتصل بأصدقاء الكفاح يطمئن عليهم ويسأل عمن سقطوا، أو يستعد لمعركة يوم جديد في عمله أو مظاهرة جديدة. ثم صرت أتخيل المتظاهرين مختبئين في ظلام المداخل يرتعدون من الخوف وصقيع يناير. وأردد إحدى القصائد وكلي تجاهل لسؤال: لماذا لست معهم.
ظهر الجند دائرة من دروع وخوذات حرب. ها هم الآن يقتربون رويداً.. رويداً.. يجيئون من كل صوب. والمغنون - في الكعكة الحجرية – ينقبضون وينفرجون. كنبضة قلب! يشعلون الحناجر، يستدفئون من البرد والظلمة القارسة. يرفعون الأناشيد في أوجه الحرس المقترب. يشبكون أياديهم الغضة البائسة. لتصير سياجاً يصد الرصاص!( ).
وهكذا بينما أتخيلهم يعانون الخوف والتعب والجوع والبرد. أردد قصيدة تنتمي للماضي وكأن هذا هو آخر ما أستطيع. بل كان هناك رغم كل ذلك سؤال يتردد في عقلي وأنا أتخيلهم في نكبتهم: فيم كل هذا؟
الآن بعد عام واحد فقط. أنزل أنا وزوجتي وابنتي في عيد الشرطة الذي صار عيد الثورة لنسير في مظاهرة! كيف ومتى حدث هذا الانقلاب. وهل من خرجوا منذ عام واحد ليتظاهروا "من أجلي" موجودون في هذا اليوم ليحتفلوا معنا؟ أم كانوا من الشهداء في جمعة الغضب أو يوم الجمل. ما أشد بجاحتي أنا وكل من يسير متظاهراً ضد العسكر في احتفال بيوم شهده في السرير. بينما ملوك الاحتفال الحقيقيون قتلوا أو سجنوا أو يلعنون الآن كمخربين للثورة. ألا تصدقني؟ لو كنت رأيت ما رأيته اليوم. أمام مسجد القائد ابراهيم كان من ركبوا الثورة من الجماعات قد أقاموا احتفالاتهم الخاصة وقد أمنوها بكردونات بشرية تفحص هوية الداخلين وكأنها حفلة في ناد خاص. كانوا يحتفلون بالثورة من مبدأ أنها حققت أهدافها والقادم أفضل. فقد سادوا البرلمان وقريباً يتفقون مع العسكر على الرئيس القادم. يتهمون من يتظاهر ضد العسكر الآن بأنه عدو الثورة والاستقرار. هان إحساسي بالخزي عندما رأيت هذا الاحتفال وقررت ألا أدخله وأن أبحث عن الثوار. على الأقل اليوم أنا معهم ولا أحد خرج من أجلي.
لكن لا يحلو لي وصف هذا اليوم دون وصف لمصر نفسها فيه. مصر التي ليست "حلوة ولابسة جديد" كما تقول الأغنية التي ظهرت منذ عام عن شهداء الثورة. مصر أبعد ما تكون عما يتشدقون به من شمس الحرية والأعراس الديموقراطية والمناخ الصحي وحرية التعبير. مصر صارت كشخص لم يستحم منذ عام. تخيل شخصاً لم تمتد إليه يد العناية ولا النظافة منذ عام. تخيل شكله ورائحته وسلوكه وأمراضه. هكذا صارت مصر. فرغم القذارة العامة التي كانت عليها البلاد قبل الثورة. فإنها على الأقل كانت تجد بين كل حين وآخر يد العناية تمتد للشوارع الرئيسية. كان بعض الناس خوفاً من الشرطة لا تخالف ولا تركن في الشوارع صف ثان ولا أول في بعض الأحيان. أما الآن فنحن في دولة بلا قانون ولا شرطة ولا ضمير. دولة لم تمتد إليها يد العناية وزاد عليها أن أفسدها شعبها. بلد كانت مليئة بالأورام والدمامل فإذا بها وقد انفجرت وسال القيح والصديد. أسير في شوارعها فلا أرى إلا القمامة وقد صارت تلالاً حتى في أرقى الأحياء التي طالما تباهى ساكنوها بالنظافة والحياة الصحية. أرى المخالفات التي كانت ترتكب في السر وبسرعة ومشيعة باللعنات، وقد صارت تمارس بمنتهى الشجاعة والإقدام بل وبالصوت العالي أيضاً. ترى الأرصفة وقد اختفت تحت المخالفات وبضاعة الباعة الجائلين، والعمارات التي بنيت في أشهر قليلة بارتفاعات خرافية كشاهد على القبح الذي صرنا فيه. لن تستطيع أن تأمن السير وحدك في شارع مظلم. وحتى في عز النهار والزحام لن تأمن سرقة أو اختطافاً. ستتأكد أن مصر لم يكن بها ضمير. لم يكن بها إلا الخوف من العقاب. وعندما انتهى الجلاد ظهر المرض الحقيقي. ملايين من المتعلمين والجهلة. من اللصوص وأشباههم وحتى الشرفاء. من المتدينين والمتشددين والوسطيين ومن لم يركعوا ركعة والتقدميين والمتغربين. أطفال ومراهقون وشباب ورجال وسيدات وعجائز. ملايين من البشر بمختلف انتماءاتهم ومدنهم وقراهم. الذين ما التزموا إلا خوفاً. وعندما أسقطت الثورة ذلك الخوف ظهرت أمراضهم. اجلس على الفيس بوك الذي كان وسيلة الثورة للتواصل. على الإنترنت الذي كان يوماً مقياساً لتقدم الأمم. ستجد كل شخص وقد اعتلى منبراً عبارة عن لوحة مفاتيح، وقد شحذ أصابعه ليقول رأياً أو يسب رأياً. ينصر إلهاً جديداً ويخوض في لحم مصري آخر وعرض مصرية أخرى. صار مستخدمو الإنترنت في مصر أشبه بشوارعها. صناديق قمامة يحوم حولها الذباب. ضوضاء تهيج الأعصاب. روائح نتنة. ويا ويله من قيل عنه أو عن أسرته إشاعة. تصبح الإشاعة خبراً ويصبح الخبر اتهاماً ويصبح الاتهام حكماً قابل النفاذ. أمام كل جملة أو خبر في أي جريدة تجد مئات التعليقات في كل الاتجاهات. يسبون كاتب الخبر أو من عنه الخبر أو خصوم من عنه الخبر أو يسبون بعضهم.
ووسط كل هذا. مازال هناك من يحلم. مازال هناك من يخرج كل جمعة في أي طقس وتحت أي ظرف ليسير في مظاهرة أملاً في الخلاص برئيس يأتي بحل لتلك الخرابة التي كانت دولة. أسير معهم وأنا أهتف بكل ما أوتيت. ضد العسكر والجماعات والشعب ذاته. أهتف ضد من سرقوا الماضي ويسرقون الحاضر والمستقبل. ضد الكتلة الصامتة والكتلة المخالفة والكتلة الخائضة في الأعراض والكتلة التي تريد عودة الماضي. أهتف ضد الجبناء. ضد الخونة والعملاء ومن يحبون شيئاً أو شخصاً أو مذهباً أو جماعةً أكثر من وطنهم. ضد المثقفين الغرباء عنا. ضد الشيوخ المتسلطين علينا. ضد العسكر والشرطة والساسة والفقهاء الدستوريين والقانونيين والمحللين والمذيعين والأطباء النفسيين والفنانين والكتّاب. ضد من لا يقرأ تاريخه ومن قرأه. ضد من يرفض ومن يقبل ومن لا يدري إلى من ينحاز. ضد الجميع حتى أنا. لم ينج من غضبي إلا الشهداء وابنتي ومن هم مثلها وفي سنها. ليتنا لا نفعل شيئاً إلا تعليمهم فقط أن يقتدوا بالشهداء، ويحبوا الوطن بلا شرط، ويروا الحق بلا ريب والباطل بلا رتوش. لو فعلنا هذا فقط لعاشت الثورة إلى الأبد.

Published on January 10, 2014 21:42