الذين لا يفقهون قولاً

تبدأ حكاية يأجوج ومأجوج بأن ذا القرنين بلغ قوماً لا يكادون يفقهون قولاً. وهؤلاء اشتكوا أن يأجوج ومأجوج "مفسدون" وطلبوا من أن يمنع عنهم أذاهم بسد ففعل. طريقة بناء السد التي ذكرت يبدو منها أنه إما أن ذا القرنين عملاق أو يأجوج ومأجوج هم أقزام أو أصغر من ذلك. تخيلهم فئران يعيثون في الأرض فساداً فتسد جحرهم بالإسمنت والزجاج المجروش كي لا يستطيع الفئران قرضه. هنا سد ذو القرنين على المفسدين بالحديد والقطران. ويخبرنا أنهم لن يستطيعون نقبه حتى يأتي وعد الله فيجعله دكاء. وسيخرج هؤلاء المفسدون أكثر عدداً وأكثر غضباً ورغبة في الفساد والانتقام. تماماً كالفئران الذين سددنا جحرهم. سيخرجون يوماً وقد تكاثروا وتضخموا و توحشوا. أهذا ما أراده ذو القرنين؟ مجرد تأجيل المواجهة حتى يصير القوم الذين لا يفقهون قولاً أشد علماً؟ لماذا لم يسحقهم وهو الذي في طوافه عذب الكافرين و أحسن للمؤمنين؟ ولماذا لم يعلم هؤلاء الجهال كيف يواجهونهم؟

هذه القصة – ككل قصص القرآن- لا تروى بلا سبب وبلا موعظة. صحيح أننا كمسلمين اتخذناها كنبوءة دون اعتبار لما وراءها من حكمة. فأخذنا نبحث عن هذا السد في الأرض وفي الفضاء أيضاً. فقيل أنه سور الصين العظيم وأن الصينيون هم الأكثر عدداً فلابد وأنهم أحفاد يأجوج ومأجوج. وقيل أنه موجود في سلسلة جبال شرق أوروبا. وقيل أنهم خرجوا بالفعل وصاروا الخزر والذين صار من بعضهم يهود شرق أوروبا. وهناك من وجد العين الحمئة التي تغرب فيها الشمس في أمريكا الشمالية . ومؤخراً قال أحد الجهابذة أن هذا الجزء انفصل عن الأرض ويدور في الفضاء!وهكذا تركنا الغاية ووضعنا الحكاية في قائمة النبوءات التي ننتظرها مع المسيخ الدجال والمهدي المنتظر و الفتوحات الإسلامية في أوروبا.

لم يكن ما لفت انتباهي في القصة هو من هم يأجوج ومأجوج ولا أين هم. فالقصة مجهولة الزمان والمكان والأشخاص. ربما يأجوج ومأجوج خرجوا وانتهوا. ربما هم مجرد حيوانات مؤذية. القصة لم ترو لنا لكي نحترس أو ننتظرهم بل لكي نتعظ. الذي لفت نظري هو هؤلاء القوم الذين لا يفقهون قولاً. لا يعني هذا أنهم بلهاء فهم يتحدثون مع ذي القرنين ويطلبون عونه بل ويساعدونه. فكونهم لا يفقهون قولاً هو إشارة فيما يبدو أنهم لا يستطيعون مساعدة أنفسهم. لا يملكون من أمرهم شيئاً. لا ينفع معهم أن تنصح أو ترشد. ينتظرون من يأخذ دائماً بأيديهم. أشبه بمنتظري الزعيم والمخلص والمهدي والخليفة.

الشيء الآخر الذي يشغلني هو ما فعله ذو القرنين. منع أذى المفسدين حتى حين. ولكنهم موجودون خلف هذا السد يتكاثرون ويتنامى غلهم وتوحشهم. ويوم يخرجون ستكون حرباً ضارية فهل القوم الذين لا يفقهون قولاً مستعدون؟ يقول القرآن أنهم سيخرجون ومن كل حدب ينسلون. وبغض النظر عن طبيعة هؤلاء فالقصة لها هدف واحد فقط. من الجميل أن تمنع أذى شخص أو شعب أو حيوان لفترة. لكن كن مستعداً لأنه سيعود مع أقل بادرة انهيار.

في 1954 قام عبد الناصر بمحو الإخوان . حبس وإعدام وتعذيب. كان ناصر هو ذو القرنين العصري الذي أراد أن يمنع أذى الإخوان. هذا ما آمنا به لأننا لم نكن نفقه قولاً. ولأن ناصر تركنا دون تحذير بأن هذا السد مؤقت، ولأنه لم يهتم بأن يمنحنا وقاية حقيقية ضد عودتهم، لذلك فبمجرد تغير الحاكم أزيل السد وفتحت السجون .الإخوان عادوا ومعهم الجماعات الإسلامية "الأكثر توحشاً". وبعد مقتل السادات بدأت الحرب ثانية. وبني السد وصارت الحجة أننا لا نفقه قولاً لذلك فالسد موجود وذو القرنين الجديد جالس على صدورنا ليمنع انهياره ودون أن يغير من حال هؤلاء الذين لا يفقهون قولاً. وعندما انهار السد ثانية في 2011 عاد المفسدون ليفسدوا "إخوان- جماعات- جهاديين- سلفيين" أكثر عدداً وأكثر استعداداً وخبرة ولأننا مازلنا لا نفقه قولاً طلبنا من ذي القرنين الجديد أن يمنع أذاهم فكان. وكم من حاكم في دول غير مصر عين نفسه ذا القرنين على قومه الذين لم يفقهوا قولاً. صدام والأسد والقذافي وبن علي . و جميعهم انتهوا وخرج يأجوج ومأجوج على القوم الذين سارعوا يبحثون عن مخلص جديد يبني لهم سداً جديداً. لأننا لم نفقه الآيات ولم نتعلم أنه مهما طال الزمن ومهما اشتدت مناعة السد فيأجوج ومأجوج سيعودون يوماً ليجدونا كما نحن. لا نفقه قولاً، ولا نستطيع المواجهة. نبحث عم يحمينا ونترك له مصيرنا. أما كيف نقي أنفسنا شر ذلك اليوم فهو بالضبط كما تقي نفسك من غزو الحشرات والقوارض بيتك. كما تمنع البعوض بتجفيف المستنقع الذي يجذبهم. كما تمنع الحشرات والقوارض بالنظافة . هناك كثير من المستنقعات في دولنا وفي معتقداتنا السياسية والدينية والمذهبية. هناك الكثير من القاذورات في الرؤوس. كثير من المناطق المظلمة في تاريخنا وكثير من البؤر التي نخشى الاقتراب منها. فتن وصراعات و تطرف . وهابية وسلفية وجهادية ودولة خلافة وجزية وأحلام بالفتوحات والسيادة . عذاب قبر وأمر بالمعروف ونهي عن المنكر وجهاد وحاكمية وحسبة. سنة وشيعة وعلوية وزيدية ودرزية واثنا عشرية و قائمة طويلة من المذاهب. هذه هي مستنقعاتكم والسد ينهار والعدو خلفه جاهز ومتحفز ومحمل بغل سنوات من القهر. فهل أنتم تفقهون قولا؟
1 like ·   •  0 comments  •  flag
Share on Twitter
Published on August 20, 2014 05:34
No comments have been added yet.