الحرب المنسية

تزييف التاريخ بصورة كاملة أمر صعب. فالتاريخ يكتب كاملاً. لكن السلطة دائماً ما تظهر وتعلن عن الجانب الذي تريده فيبقى في الذاكرة ، أما الجوانب الأخرى فتبقى في الظل فلا يطنطن بها الإعلام ولا يتناولها الصحافيون . فقط تظل في المراجع للباحثين الذين إن اهتموا بإظهارها ظلت معتمة فلا أحد يناصرها فتنتشر ولا أحد يحاربها فيسبب الجدل في انتشارها أيضاً.
فمثلاً: نحن نعلم عن تاريخ اكتشاف أمريكا وحرب التحرير والحرب الأهلية الأمريكية .لكن هناك حرب تهمنا في تاريخ أمريكا تسمى الحرب الأمريكية المنسية. منسية لأنها أول حرب تهزم فيها قوات الولايات المتحدة الأمريكية بل إنها الحرب الوحيدة التي توقع فيها الولايات المتحدة على معاهدة ليست بالإنجليزية وتقضي عليها فيها بدفع رسوم سنوية. ببساطة هي الحرب الوحيدة التي تم إذلال أمريكا فيها. لذلك ورغم حداثتها النسبية 1801-1805 م. إلا أن أمريكا قررت ببساطة نسيانها لذلك فبعد جيل واحد فقط كانت الحرب كأن لم تكن. و تهمنا لأنها لم تهزم على يد بريطانيا ولا فرنسا ولا حتى فيتنام. أمريكا هزمت على يد البربر "شمال أفريقيا" التابعين للسلطنة العثمانية وقتها. لذلك فالحرب اسمها حرب طرابلس أو الحرب الأمريكية البربرية الأولى . وهذه الحرب من أهميتها أن المارينز الأمريكية أنشئت بسبب هذه الحرب. حتى أن نشيد المارينز يقول: From the Halls of Montezuma. To the shores of Tripoli
وTripoli هي طرابلس تلك المدينة البائسة في ليبيا التي لا يعرف الكثير منا أنها موجودة أصلاً.
كانت سفن البربر تقوم بدور الفتوة في البحر المتوسط. فتحمي سفن كل الدول العظمى من هجمات القراصنة مقابل رسوم وهدايا وأسلحة .والدول العظمى كانت بريطانيا سيدة البحار وفرنسا وهولندا والدنمارك بل والولايات المتحدة ذاتها قبل حرب التحرير. لاحظ أن القراصنة كانوا هم البربر أنفسهم وهو نفس منطق الفتوة الذي يحمي الناس من بطشه هو ذاته. ولأن أمريكا تحررت 1776 فقد بدأت ترفع أعلامها على سفنها بدءاً من عام 1783. فاستولى البحارة الأتراك على إحدى السفن ثم استولوا على أحد عشر سفينة وقادوها للساحل الجزائري. ولم تكن أمريكا في قوة العثمانيين وأسطولهم البحري وقتها لذلك رضخت ووقعت اتفاقية بين جورج واشنطن وتركيا عام 1795 بالتركية ودفعت 642 ألف دولار ذهبي و 1200 ليرة عثمانية. واستردت سفنها وضمنت الحماية.
دب الخلاف ثانية بين حاكم طرابلس "يوسف القرة مانلي" والولايات المتحدة بعد عام واحد فقط لأن الإتاوة لم تكن مجزية وأراد حاكم طرابلس رفعها ولما رفضت قام بتحطيم سارية العلم الأمريكي أمام قنصلية أمريكا في طرابلس وطرد السفير و أعلن الحرب على الصليبيين و هاجمت السفن سفن أمريكا في البحر وقال أنهم دفعوا ثمن السلام لكن يجب أن يدفعوا للحفاظ عليه. فأرسلت الولايات المتحدة 1801 أسطولها للبحر المتوسط ليعزز هيبة الولايات المتحدة في المنطقة وقال جيفرسون أنه سيلقن هذا التركي الأبلة درساً ويعزز وجوده في المنطقة. تم أسر الفرقاطة فيلادلفيا . ولما عجز الأمريكيون عن استردادها قاموا بالتسلل إليها ونسفها كي لا تصبح غنيمة في يد الأتراك.
قامت أمريكا بعد عجزها عن مواجهة أسطول البربر بأول محاولة في تاريخها ل "تغيير نظام" وخلع حاكم بلد بإقناع شقيق يوسف القره مانلي " أحمد القره مانلي" المنفي إلى مصر باستطاعتهم خلع أخيه وتنصيبه مكانه وقامت فرقة مرتزقة بقيادة قائد أمريكي "نواة مشاة البحرية –المارينز" بغزو درنة في شرق ليبيا واحتلوها وصارت هي أول قطعة أرض تحتلها أمريكا في التاريخ. طبعا قما العثمانيون والبربر بمحاصرة درنة حتى استسلمت أمريكا ووقعت معاهدة 1805تلزمها بدفع ثلاثة ملايين دولار وجزية 20 ألف دولار سنويا . والطريف أن معاهدة طرابلس هي أول معاهدة تعترف فيها أمريكا بأنها ليست دولة مسيحية وأنها لم تدخل حرب ضد شعب مسلم.
ظلت أمريكا تدفع الجزية حتى 1812 حين صارت الولايات المتحدة أقوى بضم ولايات أكثر وهزيمتها لبريطانيا في كندا وهزيمتها لأسطول بريطانيا في البرازيل. وحين التهت بريطانيا عن دعم العثمانيين أمام عدوتها أمريكا بهزائمها في العالم الجديد و حروب نابليون في أوروبا. حينها قامت أمريكا بنشر أسطولها أمام سواحل الجزائر لتأديب البربر الذين عادوا لمهاجمة السفن وتم توقيع اتفاقية لتبادل الأسرى ووقف الجزية. وبعدها قامت دول أوروبا بتأديب دول شمال أفريقيا بقصف الجزائر "حرب البربر الثانية 1816" وكان ذلك تمهيد سيطرة اوروبا على شمال أفريقيا حتى منتصف القرن العشرين.
قد ترى فيما قلته حكاية طريفة، أو تتباهى به باعتبار أن هناك مسلم قام بإذلال أمريكا. تماماً مثلما تتباهى بسحابة هارون الرشيد التي سيأتيه خراجها أينما أمطرت، أو محمد الفاتح الذي انتشر في أوروبا خبر وفاته بدق الأجراس في الكنائس ثلاثة أيام وقول "مات العقاب الكبير" أو حفيده سليم الأول الذي سماه الأوروبيون" سليم العابس وسليم الرهيب" أو بدولة الأندلس التي دامت ثمانية قرون. لكن يجب أن تتساءل : ما هي المحصلة النهائية؟ القوي يضعف والصغير يكبر والصحيح يمرض. هذا هو الدرس الذي تعلمته أمريكا لذلك فتلك الحرب جعلتها تهتم بالبحرية الأمريكية حتى صارت المارينز التي تلقي الرعب في قلوب حكامنا الآن. وبعد عشر سنوات من "إذلال الولايات المتحدة" حاصرت مذليها وأدبتهم. ثم صالت وجالت في العالم كله. لأن المبادئ الذي أسست عليها الولايات المتحدة ظلت راسخة وإن مات أصحابها. و بعد العقاب الكبير و سليم الرهيب وهارون السعيد قررت أوروبا أن الاتحاد قوة والتفرقة ضعف لذلك زرعت فينا التفرقة وأججت القبلية والشوفينية بينما هي تتحد وتقوى وتقضي على آخر المزعجين "العثمانيين" الذين ضعفوا لأن ترسيخ الملك بقتل الأخوة والأقارب كان أهم عندهم من ترسيخ الدولة بالقانون والمبادئ. لأن الغزو لتوسيع رقعة السلطنة كان أهم عندهم من الاهتمام بمواطنهم الجائع الجاهل. ولم يبق لنا إلا تاريخ نتذكر منه ما أرادوا منا تذكره ونتجاهل فيه خطايانا وتأخذنا العزة بالإثم أمام الاعتراف بضحايا غزوات "المسلمين" ضد دول الغرب "الكافر" بل نتباهى بها ونعتبرها حقنا المشروع من الله. بينما نتألم أمام كل ضحية يسقط منا أمام غزاة العصر الحديث متجاهلين أن هناك أيضا ضحايا لحروبنا الطائفية ودولنا العسكرية وشيوخنا التكفيرية.
3 likes ·   •  2 comments  •  flag
Share on Twitter
Published on August 18, 2014 12:00
Comments Showing 1-2 of 2 (2 new)    post a comment »
dateUp arrow    newest »

message 1: by Wafa (new)

Wafa مقال أقل مايقال عنه أنه رائع


message 2: by محمد (new)

محمد ذهني Wafa wrote: "مقال أقل مايقال عنه أنه رائع"

:)


back to top