محمد ذهني's Blog, page 3
January 2, 2014
العصفور والقط
نظر الملك العجوز إلى ابنه وولي عهده وهو يدخل عليه ذات صباح، وأدرك أن كليهما كبر. وأنه عاجلاً أم آجلاً سينتهي ويترك ابنه وحده في إدارة شئون المملكة التي تنوء بها الجبال. رد تحية الصباح وقال:
- هل أعلمك الحكمة يا أمير؟
رد الأمير باسماً وقد أدرك أنه على وشك تعلم حكمة جديدة من ملك اشتهر بها:
- وهل يسأل طالب الحكمة يا والدي؟
قام الملك من مجلسه فانزلق قطه الأثير من فوق فخذيه. اتجه الملك إلى قفص صغير يتقافز فيه عصفوران وقال:
- هذه الحكمة أتتني من أبي وها أنا ذا أعطيها لك.
فتح باب القفص ووقف يتأمل العصفورين. ظلا يتقافزان حتى انتبه أحدهما أن الباب مفتوح فخرج وقد علا تغريده. أغلق الملك الباب سريعا قبل أن يخرج الآخر ، و الذي أخذ يقفز في جنون وقد أدرك فوات الفرصة. طار العصفور الحر في جميع أنحاء الجناج وهما يتابعان بحثه عن مخرج. كان القط أيضاً يلف الجناح عدواً متابعاً العصفور وقد جن جنونه. توقف العصفور في مكان عال مستطلعاً، ثم طار مباشرة وبسرعة إلى الشرفة . اصطدم فجأة بالزجاج وسقط على الأرض. اقترب الأمير وقد أحذته الشفقة بالعصفور المسكين المخدوع الذي يرقد تحت قدميه وقد كسر له جناح أو ساق. كان العصفور يحاول أن يقف على قدميه فينقلب على ظهره. ثم يحاول أن يعدل نفسه على جنبه ليعيد محاولة قيامه. ولكن القط لم يمهله الفرصة. تقدم بمنتهى الهدوء والتقم العصفور دون عناء وسار به إلى أحد الأركان. بعد قليل خرج القط بلعق فمه في تكاسل ووقف تحت قدمي الملك ناظراً إلى القفص. ضحك الملك وقال للأمير:
- ينتظر وجبته القادمة.
فتح الملك القفص ثانية وانتظر. ظل العصفور بلا حركة ولو قفزاته المعتادة. بلا صوت. فقط يحرك رأسه في أنحاء المكان وكأنه لا يرى الباب. قال الملك وقد عاد للجلوس تاركاً باب القفص:
- سيظل هذا العصفور حتى موته لا يغادر القفص المفتوح.
أكمل له الأمير:
- لأنه رأى مصير رفيقه.
رد الملك:
- نعم. وهذه هي الحكمة التي علمها لي أبي. لم يشأ حسن حظي أن أجرب أثرها في الحياة. لكن الدنيا تتغير فربما احتجتها.
قال الأمير وفي صوته نبرة الإعجاب:
- حكمة جليلة .. ولكن....
نظر إليه الملك في دهشة وسأله:
- لكن؟
- اسمح لي يا سيدي أن أجري تعديلاً بسيطاً.
قطب الملك وقد أغضبه ألا يرى ابنه الحكمة كاملة. قام الأمير وفتح زجاج الشرفة و ظل بجانبه سائلاً الملك:
- ماذا تظن؟
قال الملك وقد عادت إليه الطمأنينة:
- لا شيء. هو لا يفهم هل سيمر هكذا أم أنها خدعة, ولا تنس أن عدوه في الانتظار.
قالها وأشار إلى القط الرابض. لكن الأمير ظل على حاله دون أن يغلق الزجاج سامحاً لهواء الصباح النقي أن يمر.
فجأة طار العصفور كالسهم باتجاه القط. قبل أن يدرك الملك أو الأمير أو القط ما يحدث كان العصفور قد نقر القط في عينه. ارتمى القط على الأرض و هو يموء في ألم فانقض العصفور على الثانية. ثم طار باتجاه الشرفة دون تردد مشيعاً بصراخ القط. اشتعل الملك غضباً وقال:
- انظر ماذا فعلت بقطي.
أجاب الأمير وهو مازال في صدمة المشهد.
- اعذرني يا أبي ولكن للحكمة ثمنها.
أمسك الملك بالجرس في غل مستدعياً الخادم ليحمل القط. كان القط رقد على جنبه وقد اكتسى رأسه والأرض تحته بدمه. حمل الخادم ممتعضاً وسأل ملكه:
- هل أعالجه يا مولاي؟
نظر الملك في أسى إلى قطه الذي أخذ يخمش الهواء ويعوي في ظلماته.
- لا علاج له. اقتله.
غادر الخادم المكان تاركاً الملك في حزنه والأمير بالشرفة يتأمل السماء وكأنه يبحث عن العصفور.
- هل أعلمك الحكمة يا أمير؟
رد الأمير باسماً وقد أدرك أنه على وشك تعلم حكمة جديدة من ملك اشتهر بها:
- وهل يسأل طالب الحكمة يا والدي؟
قام الملك من مجلسه فانزلق قطه الأثير من فوق فخذيه. اتجه الملك إلى قفص صغير يتقافز فيه عصفوران وقال:
- هذه الحكمة أتتني من أبي وها أنا ذا أعطيها لك.
فتح باب القفص ووقف يتأمل العصفورين. ظلا يتقافزان حتى انتبه أحدهما أن الباب مفتوح فخرج وقد علا تغريده. أغلق الملك الباب سريعا قبل أن يخرج الآخر ، و الذي أخذ يقفز في جنون وقد أدرك فوات الفرصة. طار العصفور الحر في جميع أنحاء الجناج وهما يتابعان بحثه عن مخرج. كان القط أيضاً يلف الجناح عدواً متابعاً العصفور وقد جن جنونه. توقف العصفور في مكان عال مستطلعاً، ثم طار مباشرة وبسرعة إلى الشرفة . اصطدم فجأة بالزجاج وسقط على الأرض. اقترب الأمير وقد أحذته الشفقة بالعصفور المسكين المخدوع الذي يرقد تحت قدميه وقد كسر له جناح أو ساق. كان العصفور يحاول أن يقف على قدميه فينقلب على ظهره. ثم يحاول أن يعدل نفسه على جنبه ليعيد محاولة قيامه. ولكن القط لم يمهله الفرصة. تقدم بمنتهى الهدوء والتقم العصفور دون عناء وسار به إلى أحد الأركان. بعد قليل خرج القط بلعق فمه في تكاسل ووقف تحت قدمي الملك ناظراً إلى القفص. ضحك الملك وقال للأمير:
- ينتظر وجبته القادمة.
فتح الملك القفص ثانية وانتظر. ظل العصفور بلا حركة ولو قفزاته المعتادة. بلا صوت. فقط يحرك رأسه في أنحاء المكان وكأنه لا يرى الباب. قال الملك وقد عاد للجلوس تاركاً باب القفص:
- سيظل هذا العصفور حتى موته لا يغادر القفص المفتوح.
أكمل له الأمير:
- لأنه رأى مصير رفيقه.
رد الملك:
- نعم. وهذه هي الحكمة التي علمها لي أبي. لم يشأ حسن حظي أن أجرب أثرها في الحياة. لكن الدنيا تتغير فربما احتجتها.
قال الأمير وفي صوته نبرة الإعجاب:
- حكمة جليلة .. ولكن....
نظر إليه الملك في دهشة وسأله:
- لكن؟
- اسمح لي يا سيدي أن أجري تعديلاً بسيطاً.
قطب الملك وقد أغضبه ألا يرى ابنه الحكمة كاملة. قام الأمير وفتح زجاج الشرفة و ظل بجانبه سائلاً الملك:
- ماذا تظن؟
قال الملك وقد عادت إليه الطمأنينة:
- لا شيء. هو لا يفهم هل سيمر هكذا أم أنها خدعة, ولا تنس أن عدوه في الانتظار.
قالها وأشار إلى القط الرابض. لكن الأمير ظل على حاله دون أن يغلق الزجاج سامحاً لهواء الصباح النقي أن يمر.
فجأة طار العصفور كالسهم باتجاه القط. قبل أن يدرك الملك أو الأمير أو القط ما يحدث كان العصفور قد نقر القط في عينه. ارتمى القط على الأرض و هو يموء في ألم فانقض العصفور على الثانية. ثم طار باتجاه الشرفة دون تردد مشيعاً بصراخ القط. اشتعل الملك غضباً وقال:
- انظر ماذا فعلت بقطي.
أجاب الأمير وهو مازال في صدمة المشهد.
- اعذرني يا أبي ولكن للحكمة ثمنها.
أمسك الملك بالجرس في غل مستدعياً الخادم ليحمل القط. كان القط رقد على جنبه وقد اكتسى رأسه والأرض تحته بدمه. حمل الخادم ممتعضاً وسأل ملكه:
- هل أعالجه يا مولاي؟
نظر الملك في أسى إلى قطه الذي أخذ يخمش الهواء ويعوي في ظلماته.
- لا علاج له. اقتله.
غادر الخادم المكان تاركاً الملك في حزنه والأمير بالشرفة يتأمل السماء وكأنه يبحث عن العصفور.
Published on January 02, 2014 21:52
December 3, 2013
التل
أفلت يده وأشار إلى الكومة التي أمامه وقال:
- هذا كل ما استطعت.
اقترب الطفل من كومة المكعبات التي تشكل تلاً صغيراً يكاد يكون في طوله ويلتهم الغرفة الضيقة. عاد ببصره فوجد رفيقه قد اختفى. شعر بالوحدة فجأة وعاد إلى مكعباته.كان عددها كبيراً وأشكالها وألوانها متعددة. أراد أن يلعب في تلك المساحة الصغيرة التي بقيت له ليقف فيها. كلما سحب واحدة انهار ما فوقها فزاد المكان فوضى واتسعت الرقعة حتى غطت قدميه. حتى ما سحبه لم يكن ليصلح للعب لعدم تناسق أشكالها وألوانها. أدرك أن عليه أن يخوض في التل ليجد ما يوافقها. في لحظة يأس رمى ما في يده. ولكنه تساءل هل سيجد ما يلعب به لو تركها. قرر أنها لعبته الوحيدة وعليه تنظيمها وتنسيقها قبل أن يلعب ويستمتع. سار بقامته القصيرة خائضاً في التل بسهولة أولا ثم ازداد السير صعوبة حتى كاد أن يندم وفكر في التراجع. ولكنه صار في منتصف الغرفة حيث تحيط به قمة التل وتصل لأسفل صدره. مد يده والتقط المكعب الأول. وبكل ما يملك من قدرة على التصويب رماه إلى أحد الأركان. ثم سحب آخر مختلف ورماه في ركن آخر. ثم آخر في ثالث . ثم آخر رماه على الأول إذا يوافقه في الشكل واللون. وهكذا ظل يعمل حتى اكتشف أن التل قد تقلص إلى أسفل بطنه. وبسرعة صار في مستوى ركبتيه. لم يستسلم للوهن إذ بشر نفسه بالراحة بعد الانتهاء. كان التل قد اختفى وصارت الغرفة تلالاً صغيرة في الأركان تحيط ببقايا التل الذي أصبح كحصيرة من المكعبات ترتفع عن الأرض حتى تصل لمنتصف الساق . مازال يعمل حتى صار من الصعب بلوغ هدفه وهو واقف على قدميه فركع وظل يعمل في المكعبات منظفاً منتصف الغرفة منها. لم يكتفِ بعد أن سكَن كل المكعبات في الأركان. أتى كل كومة وأخذ ينسقها ويبعد ما اجتمع فيها بالخطأ من مكعبات مختلفة، ملقياً إياها في كومتها الصحيحة. حتى هيئ إليه وقد بلغ به التعب مداه أن عمله قد انتهى وقد صارت الغرفة منظمة منسقة والمكعبات مرتبة جاهزة للعب. كان يقف على قدميه بصعوبة وقد انحنى ظهره ورأى ببصره الكليل ظلال طفل يقف أمامه. اتجه إليه ببط ، أمسك يده واستدار مواجهاً عمله وقال:
- هذا كل ما استطعت.
- هذا كل ما استطعت.
اقترب الطفل من كومة المكعبات التي تشكل تلاً صغيراً يكاد يكون في طوله ويلتهم الغرفة الضيقة. عاد ببصره فوجد رفيقه قد اختفى. شعر بالوحدة فجأة وعاد إلى مكعباته.كان عددها كبيراً وأشكالها وألوانها متعددة. أراد أن يلعب في تلك المساحة الصغيرة التي بقيت له ليقف فيها. كلما سحب واحدة انهار ما فوقها فزاد المكان فوضى واتسعت الرقعة حتى غطت قدميه. حتى ما سحبه لم يكن ليصلح للعب لعدم تناسق أشكالها وألوانها. أدرك أن عليه أن يخوض في التل ليجد ما يوافقها. في لحظة يأس رمى ما في يده. ولكنه تساءل هل سيجد ما يلعب به لو تركها. قرر أنها لعبته الوحيدة وعليه تنظيمها وتنسيقها قبل أن يلعب ويستمتع. سار بقامته القصيرة خائضاً في التل بسهولة أولا ثم ازداد السير صعوبة حتى كاد أن يندم وفكر في التراجع. ولكنه صار في منتصف الغرفة حيث تحيط به قمة التل وتصل لأسفل صدره. مد يده والتقط المكعب الأول. وبكل ما يملك من قدرة على التصويب رماه إلى أحد الأركان. ثم سحب آخر مختلف ورماه في ركن آخر. ثم آخر في ثالث . ثم آخر رماه على الأول إذا يوافقه في الشكل واللون. وهكذا ظل يعمل حتى اكتشف أن التل قد تقلص إلى أسفل بطنه. وبسرعة صار في مستوى ركبتيه. لم يستسلم للوهن إذ بشر نفسه بالراحة بعد الانتهاء. كان التل قد اختفى وصارت الغرفة تلالاً صغيرة في الأركان تحيط ببقايا التل الذي أصبح كحصيرة من المكعبات ترتفع عن الأرض حتى تصل لمنتصف الساق . مازال يعمل حتى صار من الصعب بلوغ هدفه وهو واقف على قدميه فركع وظل يعمل في المكعبات منظفاً منتصف الغرفة منها. لم يكتفِ بعد أن سكَن كل المكعبات في الأركان. أتى كل كومة وأخذ ينسقها ويبعد ما اجتمع فيها بالخطأ من مكعبات مختلفة، ملقياً إياها في كومتها الصحيحة. حتى هيئ إليه وقد بلغ به التعب مداه أن عمله قد انتهى وقد صارت الغرفة منظمة منسقة والمكعبات مرتبة جاهزة للعب. كان يقف على قدميه بصعوبة وقد انحنى ظهره ورأى ببصره الكليل ظلال طفل يقف أمامه. اتجه إليه ببط ، أمسك يده واستدار مواجهاً عمله وقال:
- هذا كل ما استطعت.
Published on December 03, 2013 09:43
November 21, 2013
بلادي
أخذت أبحث وسط الوجوه عن شخصٍ مثلي، عن ملامح مثل ملامحي. لكنني لم أجد. لم أيأس فهم ألوف . ربما غابت الوجوه التي أبحث عنها وسطهم . وربما النجوم المتلألئة تخفي الوجوه المظلمة مثل وجهي. فهناك بعض نجوم السينما، وبعض نجوم الصحافة، والسياسة، والأعمال، والرياضة .بل لمحت عدداً من الشيوخ والدعاة. كلهم أتوا في الميعاد المتفق عليه تماماً . بينما نحن أتينا قبلها بساعة وظللنا جالسين محاطين بعساكر الأمن. قبل الموعد بقليل أصدر الضباط الأوامر بالتفتيش عن أي ممنوعات. أسفر البحث عن لا شيء سوى الأعلام غير الممنوعة. لا أعلام للحرق ولا أدوات تخريب. هكذا تأكدوا أن الجو سلمي. بعدها مباشرة ظهرت النجوم تباعاً. و وقف أحد نجوم البلاد ، وشمسها المستقبلية، وبيده مكبر صوت، أعلى درج مؤدِ لأحد المباني الوزارية. عن يمينه داعية شهير بلباس ديني، وبجانبه ممثل الكنيسة، وعن يساره رجل أعمال شهير وأحد كبار الحزب.
- مساء الخير ، طبعاً أنا سعيد بكم وبتواجدكم هنا لمساندة شعوب شقيقة وعزيزة علينا كلنا،والتنديد بالعدوان وضرب المدنيين والأبرياء . وأحب أقول لكم أننا كلنا معكم هنا، وكلنا نشعر بالألم مثلكم، وكلنا نريد رفع الظلم والحياة في سلام. و أنا سعيد وفخور برموز الأمة التي اجتمعت اليوم للتنديد بالعدوان، السادة الفنانين والإعلاميين، والشيوخ والقساوسة ورجال الأحزاب المعارضة. لم يتأخر أحد عن دعوة الحزب بالتضامن . طبعاً لن أذكركم بأن هذه مظاهرة سلمية. والهتافات ستكون هتافات تشد من أزر الشعوب المكروبة، وتندد بالعدوان. لا نريد أي هتافات خارجة. فقط هتاف عادي ورفع أعلام الدول العربية، للتأكيد على وحدتنا. وعلى فكرة هناك دول شقيقة ستقوم بنفس المظاهرة في نفس التوقيت. العالم كله يرانا الآن، نريد صورة رائعة للوطن. خط سير المظاهرة معروف. على بركة الله نبدأ.
تحرك هو ومن معه، ورجال يحملون الكاميرات يرافقونه . تبعهم بعض الأشخاص من ذوي النظارات السوداء، ثم النجوم تباعاً. كل هذا ونحن محاطون بالعسكر حتى ينتظم ركب القيادة. ثم تم السماح لبعض الأفراد بالخروج، وفورا تم رفع بعضهم على الأكتاف. وظهرت لافتات كبيرة فجأة وسارت أمامنا. وعندما بدأ الهتاف تركونا نتحرك، وإن ظل الحصار من الجانبين.
- لا لضرب المدنيين لا لقتل الآمنين
- لا لسفك الدماء لا لقتل الأبرياء.
- لا لتدمير البيوت لا لتدمير المدارس. أين حرمة المساجد وأين حرمة الكنائس.
وهكذا سرنا ، والهتاف يقال ويردد بحماس شديد. تأكدت أنني لن أجد وجهاً مثل وجهي. أخذت أتأمل الأعلام حولي ، والهتافات تصم أذني.. تلك أول مظاهرة أخرج فيها. عندما كان أصدقائي يطلبون مني الخروج معهم كنت أرفض. هذه المرة لم أتحمل، و لم أجد صديقاً لكي أخرج معه في مظاهرة، فأنا لا أعرف كيف ومتى تقوم المظاهرة. قرأت الإعلان في الجرائد فأتيت.
وصلنا لميدان آخر. المظاهرة تكاد تنتهي، وأنا لا أشعر بأي شيء. توقعت أن أفرِغ غضبي فإذا به يزداد. كدت أبكي ، ولكن الغضب كان أقوى.وجدتني أعتصر شيئاً بين يدي، إذا به أحد الأعلام التي قاموا بتوزيعها علينا.لم أنتبه له في يدي إلا الآن. نظرت إليه، وكأنني أراه لأول مرة، رغم أنه علم بلادي. أخذنا نلف حول حديقة صغيرة محيطة لتمثال ضخم لأحد عظماء الماضي. حول الحديقة سور به فتحة صغيرة، لا أدري من صنع تلك الفتحة، أهو الزمن أم الناس ؟. لم أشعر بنفسي إلا و أنا في الحديقة. ارتقيت قاعدة التمثال بسهولة.لم يكن أحد ينتبه لما أفعله . الهتافات تضعف والجمع بدأ يتوقف لينهي المظاهرة. عندما أصبحت في مكان عالٍ يطل على الميدان رفعت العلم عالياً. رآني صاحب مكبر الصوت الذي كان قد توقف ليقول كلمة أخيرة. عندما نظر إليّ ابتسم ، فوجدت جميع العيون والعدسات موجهة إليّ. عاد الهتاف قوياً، متخذاً من تلك اللحظة الوطنية حجة قوية. لكن عندما قمت بإخراج علبة سجائري، وبسرعة شديدة رغم ارتعاش يدي، أخرجت منها القداحة الصغيرة ، وأشعلت النار. حينئذ صمت الهتاف، واتسعت العيون، وأضاء وجهي بنار علم بلادي المحترق.النبوءة
- مساء الخير ، طبعاً أنا سعيد بكم وبتواجدكم هنا لمساندة شعوب شقيقة وعزيزة علينا كلنا،والتنديد بالعدوان وضرب المدنيين والأبرياء . وأحب أقول لكم أننا كلنا معكم هنا، وكلنا نشعر بالألم مثلكم، وكلنا نريد رفع الظلم والحياة في سلام. و أنا سعيد وفخور برموز الأمة التي اجتمعت اليوم للتنديد بالعدوان، السادة الفنانين والإعلاميين، والشيوخ والقساوسة ورجال الأحزاب المعارضة. لم يتأخر أحد عن دعوة الحزب بالتضامن . طبعاً لن أذكركم بأن هذه مظاهرة سلمية. والهتافات ستكون هتافات تشد من أزر الشعوب المكروبة، وتندد بالعدوان. لا نريد أي هتافات خارجة. فقط هتاف عادي ورفع أعلام الدول العربية، للتأكيد على وحدتنا. وعلى فكرة هناك دول شقيقة ستقوم بنفس المظاهرة في نفس التوقيت. العالم كله يرانا الآن، نريد صورة رائعة للوطن. خط سير المظاهرة معروف. على بركة الله نبدأ.
تحرك هو ومن معه، ورجال يحملون الكاميرات يرافقونه . تبعهم بعض الأشخاص من ذوي النظارات السوداء، ثم النجوم تباعاً. كل هذا ونحن محاطون بالعسكر حتى ينتظم ركب القيادة. ثم تم السماح لبعض الأفراد بالخروج، وفورا تم رفع بعضهم على الأكتاف. وظهرت لافتات كبيرة فجأة وسارت أمامنا. وعندما بدأ الهتاف تركونا نتحرك، وإن ظل الحصار من الجانبين.
- لا لضرب المدنيين لا لقتل الآمنين
- لا لسفك الدماء لا لقتل الأبرياء.
- لا لتدمير البيوت لا لتدمير المدارس. أين حرمة المساجد وأين حرمة الكنائس.
وهكذا سرنا ، والهتاف يقال ويردد بحماس شديد. تأكدت أنني لن أجد وجهاً مثل وجهي. أخذت أتأمل الأعلام حولي ، والهتافات تصم أذني.. تلك أول مظاهرة أخرج فيها. عندما كان أصدقائي يطلبون مني الخروج معهم كنت أرفض. هذه المرة لم أتحمل، و لم أجد صديقاً لكي أخرج معه في مظاهرة، فأنا لا أعرف كيف ومتى تقوم المظاهرة. قرأت الإعلان في الجرائد فأتيت.
وصلنا لميدان آخر. المظاهرة تكاد تنتهي، وأنا لا أشعر بأي شيء. توقعت أن أفرِغ غضبي فإذا به يزداد. كدت أبكي ، ولكن الغضب كان أقوى.وجدتني أعتصر شيئاً بين يدي، إذا به أحد الأعلام التي قاموا بتوزيعها علينا.لم أنتبه له في يدي إلا الآن. نظرت إليه، وكأنني أراه لأول مرة، رغم أنه علم بلادي. أخذنا نلف حول حديقة صغيرة محيطة لتمثال ضخم لأحد عظماء الماضي. حول الحديقة سور به فتحة صغيرة، لا أدري من صنع تلك الفتحة، أهو الزمن أم الناس ؟. لم أشعر بنفسي إلا و أنا في الحديقة. ارتقيت قاعدة التمثال بسهولة.لم يكن أحد ينتبه لما أفعله . الهتافات تضعف والجمع بدأ يتوقف لينهي المظاهرة. عندما أصبحت في مكان عالٍ يطل على الميدان رفعت العلم عالياً. رآني صاحب مكبر الصوت الذي كان قد توقف ليقول كلمة أخيرة. عندما نظر إليّ ابتسم ، فوجدت جميع العيون والعدسات موجهة إليّ. عاد الهتاف قوياً، متخذاً من تلك اللحظة الوطنية حجة قوية. لكن عندما قمت بإخراج علبة سجائري، وبسرعة شديدة رغم ارتعاش يدي، أخرجت منها القداحة الصغيرة ، وأشعلت النار. حينئذ صمت الهتاف، واتسعت العيون، وأضاء وجهي بنار علم بلادي المحترق.النبوءة
Published on November 21, 2013 04:09
September 19, 2013
العفاريت
ما أن أشرقت الشمس حتى هرع كل أهل البلد إلا قليلاً لاستقبال بركات. هذا الذي لم يره أحد يرحل بينما كانوا يحرقون بيته. هذا الذي بحثوا كثيراً عن بقاياه أو أي شيء يدل على موته. الذي لو وجد يومها حياً لمزقوه إرباً ، يعود الآن أمام الجميع. يعود في الصباح حسب الاتفاق الذي أعلنه البك الذي لابد كان يعرف مكانه طوال العام الأسود. سيعيدون بناء البيت بسراديبه المرعبة ،التي لم يرها أو يعرف بوجودها أحد إلا و هم يفتشون في الأطلال المحترقة . كانت خالية وخمنوا أن سكانها بينهم يرتعون. بعض من شاركوا في حرق البيت كانوا من المنتظرين. يراهم مختار من سطح منزله وقد تخلف عن الموكب. حتى الشباب من خرجوا من أجل سعاد نسيوا ثأرها في سواد الليالي التي لم يذق فيها أحد النوم رعباً. نسوها ولعنوها واليوم الذي ماتت فيه بينما كانوا يعدون الدقائق كل ليلة منتظرين الشروق .لا يشاركهم مختار الفرحة بعودة بركات فهو لن ينسى ثأر سعاد ولو لم يكن بركات هو الفاعل. ولكنه يعذرهم. حتى أمه تقف معهم في انتظار من سيعيد العفاريت إلى سراديبه الأسطورية. هي أول من حذره. يوم أن عاد من عمله في الليل فأخبرته بعد أن اغتسل و بدل ملابسه وتعشى أن سعاد أحرقت نفسها.
سعاد أجمل بنات البلد. عشقه منذ الطفولة. أمه وحدها تعلم بقصة حبهما التي ظنها ستنتهي بعد يومين بزواجها من البك. والآن تعلن أمه نهاية أخرى ولديها المزيد:
- أمها تقول بركات.
سعاد ماتت . أشعلت بيديها الجسد الذي تعبد فيه طويلاً. استطردت أمه وهي تتأرجح في جلستها بين الأمام و الخلف بانتظام من تعود ذلك:
- أهلها مجتمعون في دار أبيها ومعهم شباب البلد الغاضبون من بركات وأفعاله.
هل هو بركات حقاً؟ يعملها فأكيد الهانم أرسلت له ليسحر لها قبل أن تكون درتها. ولكن ألا يمكن أن تكون خافت الفضيحة؟ ليتك رضيت أن تهرب معها. ما ألعن الجبن وما أشد خسارتك.
انتفض واقفاً وقال :
- أنا ذاهب إليهم.
لم يبد على أمه التأثر. ظلت تتأرجح ولا يعلم هل هذا علامة الضجر أم نوع من النواح الصامت. ارتدى ملابسه مرة أخرى وسمعها وهو على الباب تقول له:
- لن تقدروا على بركات.
يعلم أن كبار البلد مثل أمه هم صناع أسطورة بركات.
- بركات الوحيد الذي حبس العفاريت. ألن يقدر عليكم؟
أشعل ذكر العفاريت غضبه فرد في غضب:
- لم أر في حياتي عفريتاً في البلد.
ما أكثر الخلوات التي اتخذاها. هل كانت أماناً بفضل بركات؟
- نحن رأينا. لم نكن نترك المنازل بعد المغرب. بركات هو من حبسها. لن تقدروا عليه. ولو تركنا عادت العفاريت.
انفجر فيها:
- فليكن الشيطان نفسه. كفى إتاوات و بلطجة ونجاسة.
بركات لا يعني له شيئاً، ولا حتى هو متأكد أن بركات هو سبب موت سعاد. هو الغضب. فلتشتعل البلاد ناراً مادامت سعاد احترقت. فلترقص العفاريت على الرؤوس مادام لن يراها ثانية.
سار باتجاه منزلها، ولكن في منتصف المسافة وجدهم قادمون. ظل سائراً نحوهم حتى اقتربوا. كان الفتيان يقودون المسيرة ولا أثر لأهل سعاد. وقفوا ينتظرون منه كلمة أو رد فعل وقد ظهرت وجوههم محمرة من نور المشاعل.
- معنا؟
هز رأسه ودخل وسطهم.
انتبه على صيحات الحبور فعلم أن بركات ظهر في الأفق. ما أعظم الفارق بين يوم رحل ويوم عاد. الحماسة والفخر بما قدموه للبلد يوم رحل بركات، تحول في الليلة التالية إلى لعنات تصب عليهم. والآن الجميع سعيد إلا هو. الكبار سعداء بالأمن الذي عاد. والصغار تعلموا الدرس وفرحوا بالعودة للخلاص من العفاريت وعقدة الذنب التي تلازمهم. كم حاولوا التغلب عليهم من بعده. بالعصي والبنادق والقرآن والنار. كم فقدوا من أصحاب اختفوا أو وجدوا في المصرف أو معلقين على جذوع الأشجار. و هناك وجدي الذي تحول إلى مجذوب يلف البلدة بدون أن ينطق ولا يتقبل الطعام أو الشراب أو المأوى. وجدي.. الوحيد الذي كسر معه حاجز الخوف يوم هجموا. أوقفهم صوت بركات الجهوري وكأنه يتكلم من كل مكان يحذرهم من الاقتراب. لم يكن أحد يعرف هل هو في البيت أم مختبئ في مكان آخر. صار لا أحد يراه في الأعوام الأخيرة. فقط رجاله تجمع الإتاوات. ورجال ونساء يموتون حرقاً أو غرقاً أو يختفون ببساطة منهم من لم يدفع أو من أغضبه في شيء أو أغضب البك أو عائلته أو أحد الأعيان. صوت بركات الجهوري الآتي من كل مكان أرعب الجميع إلا هو الذي صرخ:
- سعاد أحرقت نفسها.
أتاهم الصوت به مسحة سخرية:
- و هل أنا مسؤول عن أي فتاة تقتل نفسها قبل فرحها؟
- أنت من سحرتها.
- لست أنا. غيري سحرها حتى نسيت اسمها بسببه.
كان يعلم بقصتهما. وهو ما جعل نار الجنون فيه تستعر حتى لم يعد يرى أمامه
- وهل تنسون تضحياتي من أجل فتاة؟ لولاي لما خرج أحدكم في الظلام. اسألوا آباءكم ماذا كانت البلد من قبلي.
عم الصمت في وقفتهم كأنهم لا يعلمون ماذا بعد أن وصلوا أمام بيته. لو عادوا لما تركهم.
- ارجعوا و غداً سآتي لكم بمن أغوى الفتاة وتسبب في موتها. مهما فعلتم لن تستطيعوا إيذائي، و لن أغضب عليكم فأنتم أهلي. لكنني سأرحل وأترككم للعفاريت.
كان ما يقوله تحذير إن أقدموا وطمأنة إن عادوا وتوعد لمختار وحده. نظر حوله فإذا بهم يتبادلون نظرات التردد. ما عدا وجدي. هو وحده من نظر إليه بثبات، ومد إليه يد بالمشعل. ابنسم مختار و حمل المشعل نحو البيت. طوح يده ورمى المشعل نحو إحدى النوافذ. كسر الزجاج وعلا من داخل المنزل لسان اللهب. انتهى التردد بين الشباب وهجموا. اختفى صوت بركات وسط تكسير الزجاج وطقطقة الخشب و هدير الفرحة. لكن من وسط الدار المحترقة كانت هناك صرخة. أخذت في الارتفاع دون انقطاع حتى شملتهم جميعاً. توقفوا عن التخريب ووقفوا ينتظرون خروج شيء عليهم من النار. لكن ظلت الصرخة تعلو حتى لم يعد أحد يحتمل. ظلوا يبتعدون و عيونهم على المنزل وقد خرج منه عامود دخان نحو السماء. ظل العامود والصراخ لا ينقطع حتى انهار المنزل وخبا اللهيب ومعه الصراخ.
ظهرت عربة البك يجرها فرساه ويقودها البك بنفسه. علا الهتاف و الترحيب بالجالس في الخلف وحده. من مكانه رأى كتلة من القماش لا يظهر منها ولا حتى الوجه. لن يأتي الليل حتى تكون البلد كلها في الطرقات سامرة. يذكر أول عفريت رآه. لم يكن في الليلة التالية كبقية البلدة. ولكن في الليلة ذاتها. أمام بيته . لم يلمح شيئاً ولم يسمع صوتاً. سرت في جسده قشعريرة فاستدار. كان يقف هناك، معلقاً في الهواء. ظل لم يتبين ملامحه. لكن الأكيد أنه ينظر إليه ، وأنه يتحرك في فرح من لم يذق الحرية منذ سنين. وقتها تفاءل وسأل نفسه: لماذا ستؤذيهم العفاريت و هم من حرروهم؟ ولماذا تركه ذلك العفريت لو كان ينوي الأذى ؟ لكن لم تكد الليلة التالية تمر حتى ارتفعت صرخات الاستغاثة من أنحاء البلد. نار تشتعل في دار و رجل وجد نفسه معلقاً فوق غضن شجرة. امرأة ضبطها زوجها عارية تحت الحمار ولا تنطق وسط الضرب و أمام العيون المستطلعة إلا بأنها كانت تحلم. المؤذن لم يستطع الصعود للمئذنة إذ وجد الطريق مسدوداً بحائط. من بعد صلاة المغرب لم يجرؤ رجل أن يذهب للصلاة إلا وصل المسجد عارياً وعاد إلى بيته مضروباً. من الليلة الرابعة كانت البلد ميتة بالليل. الأبواب مغلقة والأقفال بلا مفاتيح والمفاتيح مخبأة . و يا ويله من جرب أن يطل برأسه من شباك أو حتى صعد فوق السطح.
- وقف يا جداااااع.
لم يكن غير وجدي. أول من اختفى ، والوحيد الذي نجا مع مختار ، ولكنه صار مجذوباً لا يتكلم مع أحد ولا يسمع من يناديه . يسير في البلدة من أول النهار حتى المغرب مدمدماً وكأنه يصارع شيئاً داخله . فقط إن رأى مختاراً يهدأ ويتحدث بصوت صار مرتعشاً وعينين زائغتين. لم يحاول مختار أن يعرف ماذا وكيف. كان يكلمه لأنه صديقه الوحيد الحي و الوحيد الذي رغم جنونه يستطيع الحديث معه. كان في عيني مختار أعقل الجميع بلعابه السائل و دقائق صمته المفاجئ كأنه في حلم. يقف الآن قاذفاً الحجارة والرمل على البك وبركات والحصانين اللذين بدءا في الهياج مما ينذر بعواقب وخيمة. للحظات لم يقترب منه أحد حتى صرخ البك وهو يحمي وجهه بذراعه.
- رح الله يلعنك.
حينها فقط هجم الشباب وأمسكوا بوجدي من ذراعيه وساقيه وحملوه بعيداً. لكن بركات وقف. رفع ذراعاً لم يظهر منها شيء من كم جلبابه ولا دليل على وجودها إلا عصاه التي امتدت ناحيتهم. قال بصوته الجهوري:
- هاتوه.
حملوه إليه طائعين. نزل من العربة ووقف عند رأس وجدي. كان حاملو وجدي ناظرين في الأرض . لاحظ مختار أنه لا أحد ينظر في وجهه. وضع بركات ما يفترض أنه يده على جبين وجدي.
- مسكون بعفريت.
هلل الواقفون ونظروا إلى بعضهم فرحين بينما وجدي يحاول تحرير نفسه بعنف يكاد يخلعهم مطلقاً سباب لا يفهمه أحد. أكمل بركات:
- أعرف هذه العفريت. كنت أضعه في الزنزانة السفلية مقيداً بمئة سلسلة. إذا سكن شخص حوله كما ترون مجذوب بالنهار، وشيطان مريد بالليل.
علت صرخات فزع وغضب. رفع بركات يده من على جبين وجدي وقال:
- مسكين.
مر في الهواء فوق رقبته فانتفض الجسد وقد تناثرت دماؤه على جميع الواقفين الذين هللوا في هستيرية ورموه على الأرض متفرجين على احتضاره. صعد بركات إلى العربة التي سارت في طريقها وخلفها أهل البلد مقتربة من البيت حيث يوجد مختار على سطحه. وقفت أمام البيت. رفع الجميع رأسهم إلى مختار. لم يكن أحد يكلمه منذ شهور عندما أعلن البك أن كل أصحابه الذين حاربوا العفاريت انتهوا عدا مختار لم يصب بخدش. صارت الإشاعة واقعاً ويقيناً بأن مختار يقود العفاريت. قال بركات دون أن يرفع رأسه:
- هل تعلمون من هو أخطر عفريت كان محبوساً عندي؟
علت الأصوات تسأل فأجاب:
- كنت أحبسه في حفرة غطاها مطلسم لا يفكه إلا النار. لولا حرق بيتي لما خرج ولما طغى العفاريت.
قال البك مديراً النظر فيهم:
- وأين هو الآن يا سيدنا؟
- في مكانه الأصلي. في جسد خادمه .الشخص الذي حرره. الذي حرق البيت من أجله. يسكنه ويجعله يقتل باسمه كل من يتحداه. فيقولون العفريت قتل. يظهر بينكم عاقلاً و بالليل يخطف الشباب وينام مع النساء ويحرق الحقول ويمنع الصلاة .لا يظهر عفريته إلا بالليل. لذا وجب قتله قبل الغروب.
قالها واشار للبك فتحركت العربة بينما الناس واقفة تنظر إلى مختار . حتى أمه كانت تنظر إليه وكأنها لا تعرفه. وأخيراً تحركت من بينهم نحو باب البيت . ما أن سمع صريره يفتح حتى رآهم وقد بدأوا في الدخول بهدوء ونظام.
سعاد أجمل بنات البلد. عشقه منذ الطفولة. أمه وحدها تعلم بقصة حبهما التي ظنها ستنتهي بعد يومين بزواجها من البك. والآن تعلن أمه نهاية أخرى ولديها المزيد:
- أمها تقول بركات.
سعاد ماتت . أشعلت بيديها الجسد الذي تعبد فيه طويلاً. استطردت أمه وهي تتأرجح في جلستها بين الأمام و الخلف بانتظام من تعود ذلك:
- أهلها مجتمعون في دار أبيها ومعهم شباب البلد الغاضبون من بركات وأفعاله.
هل هو بركات حقاً؟ يعملها فأكيد الهانم أرسلت له ليسحر لها قبل أن تكون درتها. ولكن ألا يمكن أن تكون خافت الفضيحة؟ ليتك رضيت أن تهرب معها. ما ألعن الجبن وما أشد خسارتك.
انتفض واقفاً وقال :
- أنا ذاهب إليهم.
لم يبد على أمه التأثر. ظلت تتأرجح ولا يعلم هل هذا علامة الضجر أم نوع من النواح الصامت. ارتدى ملابسه مرة أخرى وسمعها وهو على الباب تقول له:
- لن تقدروا على بركات.
يعلم أن كبار البلد مثل أمه هم صناع أسطورة بركات.
- بركات الوحيد الذي حبس العفاريت. ألن يقدر عليكم؟
أشعل ذكر العفاريت غضبه فرد في غضب:
- لم أر في حياتي عفريتاً في البلد.
ما أكثر الخلوات التي اتخذاها. هل كانت أماناً بفضل بركات؟
- نحن رأينا. لم نكن نترك المنازل بعد المغرب. بركات هو من حبسها. لن تقدروا عليه. ولو تركنا عادت العفاريت.
انفجر فيها:
- فليكن الشيطان نفسه. كفى إتاوات و بلطجة ونجاسة.
بركات لا يعني له شيئاً، ولا حتى هو متأكد أن بركات هو سبب موت سعاد. هو الغضب. فلتشتعل البلاد ناراً مادامت سعاد احترقت. فلترقص العفاريت على الرؤوس مادام لن يراها ثانية.
سار باتجاه منزلها، ولكن في منتصف المسافة وجدهم قادمون. ظل سائراً نحوهم حتى اقتربوا. كان الفتيان يقودون المسيرة ولا أثر لأهل سعاد. وقفوا ينتظرون منه كلمة أو رد فعل وقد ظهرت وجوههم محمرة من نور المشاعل.
- معنا؟
هز رأسه ودخل وسطهم.
انتبه على صيحات الحبور فعلم أن بركات ظهر في الأفق. ما أعظم الفارق بين يوم رحل ويوم عاد. الحماسة والفخر بما قدموه للبلد يوم رحل بركات، تحول في الليلة التالية إلى لعنات تصب عليهم. والآن الجميع سعيد إلا هو. الكبار سعداء بالأمن الذي عاد. والصغار تعلموا الدرس وفرحوا بالعودة للخلاص من العفاريت وعقدة الذنب التي تلازمهم. كم حاولوا التغلب عليهم من بعده. بالعصي والبنادق والقرآن والنار. كم فقدوا من أصحاب اختفوا أو وجدوا في المصرف أو معلقين على جذوع الأشجار. و هناك وجدي الذي تحول إلى مجذوب يلف البلدة بدون أن ينطق ولا يتقبل الطعام أو الشراب أو المأوى. وجدي.. الوحيد الذي كسر معه حاجز الخوف يوم هجموا. أوقفهم صوت بركات الجهوري وكأنه يتكلم من كل مكان يحذرهم من الاقتراب. لم يكن أحد يعرف هل هو في البيت أم مختبئ في مكان آخر. صار لا أحد يراه في الأعوام الأخيرة. فقط رجاله تجمع الإتاوات. ورجال ونساء يموتون حرقاً أو غرقاً أو يختفون ببساطة منهم من لم يدفع أو من أغضبه في شيء أو أغضب البك أو عائلته أو أحد الأعيان. صوت بركات الجهوري الآتي من كل مكان أرعب الجميع إلا هو الذي صرخ:
- سعاد أحرقت نفسها.
أتاهم الصوت به مسحة سخرية:
- و هل أنا مسؤول عن أي فتاة تقتل نفسها قبل فرحها؟
- أنت من سحرتها.
- لست أنا. غيري سحرها حتى نسيت اسمها بسببه.
كان يعلم بقصتهما. وهو ما جعل نار الجنون فيه تستعر حتى لم يعد يرى أمامه
- وهل تنسون تضحياتي من أجل فتاة؟ لولاي لما خرج أحدكم في الظلام. اسألوا آباءكم ماذا كانت البلد من قبلي.
عم الصمت في وقفتهم كأنهم لا يعلمون ماذا بعد أن وصلوا أمام بيته. لو عادوا لما تركهم.
- ارجعوا و غداً سآتي لكم بمن أغوى الفتاة وتسبب في موتها. مهما فعلتم لن تستطيعوا إيذائي، و لن أغضب عليكم فأنتم أهلي. لكنني سأرحل وأترككم للعفاريت.
كان ما يقوله تحذير إن أقدموا وطمأنة إن عادوا وتوعد لمختار وحده. نظر حوله فإذا بهم يتبادلون نظرات التردد. ما عدا وجدي. هو وحده من نظر إليه بثبات، ومد إليه يد بالمشعل. ابنسم مختار و حمل المشعل نحو البيت. طوح يده ورمى المشعل نحو إحدى النوافذ. كسر الزجاج وعلا من داخل المنزل لسان اللهب. انتهى التردد بين الشباب وهجموا. اختفى صوت بركات وسط تكسير الزجاج وطقطقة الخشب و هدير الفرحة. لكن من وسط الدار المحترقة كانت هناك صرخة. أخذت في الارتفاع دون انقطاع حتى شملتهم جميعاً. توقفوا عن التخريب ووقفوا ينتظرون خروج شيء عليهم من النار. لكن ظلت الصرخة تعلو حتى لم يعد أحد يحتمل. ظلوا يبتعدون و عيونهم على المنزل وقد خرج منه عامود دخان نحو السماء. ظل العامود والصراخ لا ينقطع حتى انهار المنزل وخبا اللهيب ومعه الصراخ.
ظهرت عربة البك يجرها فرساه ويقودها البك بنفسه. علا الهتاف و الترحيب بالجالس في الخلف وحده. من مكانه رأى كتلة من القماش لا يظهر منها ولا حتى الوجه. لن يأتي الليل حتى تكون البلد كلها في الطرقات سامرة. يذكر أول عفريت رآه. لم يكن في الليلة التالية كبقية البلدة. ولكن في الليلة ذاتها. أمام بيته . لم يلمح شيئاً ولم يسمع صوتاً. سرت في جسده قشعريرة فاستدار. كان يقف هناك، معلقاً في الهواء. ظل لم يتبين ملامحه. لكن الأكيد أنه ينظر إليه ، وأنه يتحرك في فرح من لم يذق الحرية منذ سنين. وقتها تفاءل وسأل نفسه: لماذا ستؤذيهم العفاريت و هم من حرروهم؟ ولماذا تركه ذلك العفريت لو كان ينوي الأذى ؟ لكن لم تكد الليلة التالية تمر حتى ارتفعت صرخات الاستغاثة من أنحاء البلد. نار تشتعل في دار و رجل وجد نفسه معلقاً فوق غضن شجرة. امرأة ضبطها زوجها عارية تحت الحمار ولا تنطق وسط الضرب و أمام العيون المستطلعة إلا بأنها كانت تحلم. المؤذن لم يستطع الصعود للمئذنة إذ وجد الطريق مسدوداً بحائط. من بعد صلاة المغرب لم يجرؤ رجل أن يذهب للصلاة إلا وصل المسجد عارياً وعاد إلى بيته مضروباً. من الليلة الرابعة كانت البلد ميتة بالليل. الأبواب مغلقة والأقفال بلا مفاتيح والمفاتيح مخبأة . و يا ويله من جرب أن يطل برأسه من شباك أو حتى صعد فوق السطح.
- وقف يا جداااااع.
لم يكن غير وجدي. أول من اختفى ، والوحيد الذي نجا مع مختار ، ولكنه صار مجذوباً لا يتكلم مع أحد ولا يسمع من يناديه . يسير في البلدة من أول النهار حتى المغرب مدمدماً وكأنه يصارع شيئاً داخله . فقط إن رأى مختاراً يهدأ ويتحدث بصوت صار مرتعشاً وعينين زائغتين. لم يحاول مختار أن يعرف ماذا وكيف. كان يكلمه لأنه صديقه الوحيد الحي و الوحيد الذي رغم جنونه يستطيع الحديث معه. كان في عيني مختار أعقل الجميع بلعابه السائل و دقائق صمته المفاجئ كأنه في حلم. يقف الآن قاذفاً الحجارة والرمل على البك وبركات والحصانين اللذين بدءا في الهياج مما ينذر بعواقب وخيمة. للحظات لم يقترب منه أحد حتى صرخ البك وهو يحمي وجهه بذراعه.
- رح الله يلعنك.
حينها فقط هجم الشباب وأمسكوا بوجدي من ذراعيه وساقيه وحملوه بعيداً. لكن بركات وقف. رفع ذراعاً لم يظهر منها شيء من كم جلبابه ولا دليل على وجودها إلا عصاه التي امتدت ناحيتهم. قال بصوته الجهوري:
- هاتوه.
حملوه إليه طائعين. نزل من العربة ووقف عند رأس وجدي. كان حاملو وجدي ناظرين في الأرض . لاحظ مختار أنه لا أحد ينظر في وجهه. وضع بركات ما يفترض أنه يده على جبين وجدي.
- مسكون بعفريت.
هلل الواقفون ونظروا إلى بعضهم فرحين بينما وجدي يحاول تحرير نفسه بعنف يكاد يخلعهم مطلقاً سباب لا يفهمه أحد. أكمل بركات:
- أعرف هذه العفريت. كنت أضعه في الزنزانة السفلية مقيداً بمئة سلسلة. إذا سكن شخص حوله كما ترون مجذوب بالنهار، وشيطان مريد بالليل.
علت صرخات فزع وغضب. رفع بركات يده من على جبين وجدي وقال:
- مسكين.
مر في الهواء فوق رقبته فانتفض الجسد وقد تناثرت دماؤه على جميع الواقفين الذين هللوا في هستيرية ورموه على الأرض متفرجين على احتضاره. صعد بركات إلى العربة التي سارت في طريقها وخلفها أهل البلد مقتربة من البيت حيث يوجد مختار على سطحه. وقفت أمام البيت. رفع الجميع رأسهم إلى مختار. لم يكن أحد يكلمه منذ شهور عندما أعلن البك أن كل أصحابه الذين حاربوا العفاريت انتهوا عدا مختار لم يصب بخدش. صارت الإشاعة واقعاً ويقيناً بأن مختار يقود العفاريت. قال بركات دون أن يرفع رأسه:
- هل تعلمون من هو أخطر عفريت كان محبوساً عندي؟
علت الأصوات تسأل فأجاب:
- كنت أحبسه في حفرة غطاها مطلسم لا يفكه إلا النار. لولا حرق بيتي لما خرج ولما طغى العفاريت.
قال البك مديراً النظر فيهم:
- وأين هو الآن يا سيدنا؟
- في مكانه الأصلي. في جسد خادمه .الشخص الذي حرره. الذي حرق البيت من أجله. يسكنه ويجعله يقتل باسمه كل من يتحداه. فيقولون العفريت قتل. يظهر بينكم عاقلاً و بالليل يخطف الشباب وينام مع النساء ويحرق الحقول ويمنع الصلاة .لا يظهر عفريته إلا بالليل. لذا وجب قتله قبل الغروب.
قالها واشار للبك فتحركت العربة بينما الناس واقفة تنظر إلى مختار . حتى أمه كانت تنظر إليه وكأنها لا تعرفه. وأخيراً تحركت من بينهم نحو باب البيت . ما أن سمع صريره يفتح حتى رآهم وقد بدأوا في الدخول بهدوء ونظام.
Published on September 19, 2013 14:03