في إحدى قصص تشيكوف "حكاية رسام" كان يتنبأ بالثورة البلشفية وينتقد الفكر الشيوعي وشعاراته الطنانة. القصة كانت بسيطة. رسام شهير يعيش في منزل ريفي ومعجب بفتاة. المشكلة كانت في اخت الفتاة. كانت نصيرة للفلاحين وتجمع التبرعات لبناء مستشفى ولمساعدة ضحايا الحرائق ، وتحارب من أجل كسر سطوة رئيس مجلس المدينة وعائلته. كانت ليديا من عائلة ثرية وتعمل مدرسة لكي تصرف على نفسها من كدها. إلى جانب أنها تعالج الفقراء. وكانت تحتقر الرسام لأنه عاطل ولا يعبر في رسومه عن الشعب وآلامه بل يرسم مناظر طبيعية. في وسط القصة دار هذا الحوار:
- في رأيي أن المركز الطبي غير ضروري البتة.
- وما هو الضروري؟ المناظر؟
- المناظر أيضاً غير ضرورية. لا ضرورة لشيء هناك.
- في الأسبوع الماضي ماتت آنا أثناء المخاض، ولو كان هناك مركز طبي قريب لبقيت على قيد الحياة. ويهيأ لي أنه على السادة رسامي المناظر أن تكون لديهم عقيدة ما في هذا الصدد.
- عندي عقيدة محددة تماماً في هذا الصدد. ففي رأيي أن المراكز الطبية والمدارس والمكتبات والصيدليات في ظل هذه الظروف القائمة لا تساعد إلا على الاستعباد. إن الشعب مكبل بسلسلة هائلة، وأنتم لا تحطمون السلسلة، بل تضيفون إليها حلقات جديدة. هذه هي عقيدتي. ليس المهم أن آنا ماتت أثناء المخاض، ولكن المهم أن أمثال آنا و مافرا وبيلاجيا، جميعهم يحنين ظهورهن من الصباح إلى المساء ويمرضن من الكد المرهق ويرتعشن طوال حياتهن هلعاً على أولادهن الجوعى والمرضى، ويخفن طوال حياتهن من الموت والأمراض، ويتعالجن طوال الحياة، ويذوين مبكراً، ويهرمن مبكراً، ويمتن في القذارة والنتانة. وعندما يكبر أولادهن يسيرون على نفس المنوال، وهكذا تمضي مئات السنين، بينما يعيش مليارات البشر أسوأ مما يعيش الحيوانات، فقط من أجل كسرة الخبز، وهم يعانون من الخوف الدائم. والفظاعة في وضعهم أنه لا وقت لديهم في التفكير في أنفسهم و في أرواحهم. الجوع والبرد، والخوف الحيواني ، وكمية العمل الهائلة قد سدت عليهم – ككتل الجليد المنهارة- كل الطرق المؤدية إلى النشاط الروحي، بالضبط إلى ذلك الذي يميز الإنسان عن الحيوان، ويشكل الشيء الوحيد الذي يستحق أن نعيش من أجله. وانتم تخفون لمساعدتهم بالمستشفيات والمدارس، ولكنكم بهذا لا تحررونهم من القيود، بل العكس، تستعبدونهم أكثر، وذلك لأنكم بإدخال مزيد من الخزعبلات إلى حياتهم تزيدون من عدد احتياجاتهم، هذا إن تغاضينا عن أنهم لابد أن يدفعوا لمجلس الأقليم مقابل العقاقير والكتب. أي مزيداً من إحناء الظهر.
- لن أجادلك لقد سمعت ذلك من قبل وسأقول لك شيئاً واحداً: لا ينبغي أن نجلس بلا عمل . صحيح أننا لا ننقذ البشرية، وربما كنا نخطئ في أشياء كثيرة. ولكننا نفعل ما نستطيع، ونحن على حق. إن أسمى وأقدس مهمة للإنسان المتحضر أن يساعد الأقربين، ونحن نحاول أن نساعدهم حسبما نستطيع.
- إن تعليم الفلاحين ، والكتب ذات المواعظ والدروس التافهة، والمراكز الطبية، لا يمكن أن تقلل نسبة الجهل والوفيات مثلما لا يمكن لضوء نوافذكم أن يضئ هذا البستان الضخم. إنكم لا تفعلون شيئاً، وبتدخلكم في حياتهم لا تصنعون سوى احتياجات جديدة، ومبرر جديد للكد.
- اه يا إلهي ولكن يجب أن نفعل أي شيء.
- ينبغي تحرير الناس من العمل البدني الشاق. ينبغي تخفيف النير عنهم، وإعطاؤهم فرصة لالتقاط الأنفاس. لكي لا يقضوا حياتهم كلها أمام الأفران والطسوت وفي الحقل، بل يكون لديهم وقت للتفكير في الروح والله، وفرصة للتعبير عن قدراتهم الروحية على نطاق أوسع. هذه هي رسالة كل إنسان، في البحث الدائم عن الحقيقة ومغزى الحياة. فلتجعلوا العمل الحيواني الفظ غير ضروري لهم، أعطوهم الفرصة ليحسوا بأنفسهم أحراراً، وعندئذ ستدركون أي سخرية هي تلكا لكتب والصيدليات. وإذا ما أدرك الإنسان رسالته الحقيقية فلن يشبعها سوى الدين والعلوم والفنون. لا هذه التفاهات.
- تحريرهم من العمل؟ وهل هذا ممكن؟
- نعم. خذوا على عاتقكم جزءاً من عملهم. فلو أننا جميعاً وزعنا العمل بيننا لإشباع حاجاتنا المادية فلن يزيد نصيب الفرد عن ثلاث ساعات يومياً. تصوري أننا أغنياء وفقراء نعمل ثلاث ساعات يومياً وبقية الوقت احرار. وتصوري أننا لكي نعمل أقل نخترع آلات تقوم هي بالعمل، ونسعى لتخفيض احتياجاتنا لأدنى حد. ونقوي عزيمتنا و عزيمة أطفالنا لكي لا نرتعش خوفاً على صحتهم. ولا نحتفظ بصيدليات ومصانع دخان وخمور. فأي وقت فراغ سيكون لدينا ونخصصه للعلوم والفنون والبحث عن الحقيقة ومغزى الحياة.
الصراع كما يبدو كان في ذهن تشيكوف بين الروحي والمادي. وهو ما رآه في المد القادم – كتبت القصة 1896- فليديا انتصرت في القصة وجمعت الأتباع وسيطرت على مجبس المدينة ، كما أن أمثال ليديا انتصروا في الواقع. صارت عقيدتها عقيدة وطن. أتى البلاشفة بأحلامهم عن البروليتاريا وقيم العمل من أجل الوطن وكونك ترس في ماكينة العمل . وكما قال كونديرا ظل العمال يظنون أنهم في جنتهم حتى اكتشف العامل الشيوعي، أن زميله في الدول الرأسمالية لديه سيارة يذهب بها لعمله. ثم انهارت الشيوعية لأنها كما تنبأ تشيكوف لم تكن ذات فائدة لأنها لا تسعى لإزالة سبب الشقاء بل لتخفيف الألم بينما هي تزيد القيود.
الغريب أنه بعد انهيار الشيوعية بربع قرن افتح التلفاز لأجد جمعيات مثل ليديا. تطاردك لتساعد مرضى القلب والسرطان والكبد . لتساعد الفقراء والجوعى والعشوائيات. تستفز شعورك ونخوتك وضميرك ودينك لكي تبيت وأنت تشعر بالإجرام إن تعاطفت فقط ولم تتبرع. غير مدركين أن ما يفعلونه نقطة في بحر. فبغير منظومة تقلص الحد بين الدخول، وترفع عن الكادحين نيرهم، وتقدم العلم- لا التعليم- للأطفال. وتحارب أصول الأمراض "التلوث- المبيدات- الغش- شروط العمل المضنية- ..." بغير كل هذا فلا فائدة.
كنت منذ سنوات أشاهد تلك الإعلانات وأقول أن الحل في ثورة تزيل النظام الفاسد لكنها قامت وفشلت لأنه على رأي نجيب محفوظ "أنت بضربة موفقة واحدة تستطيع أن تغير نظام الحكم ... أما الطبائع فيلزمها وقت أطول بكثير" فالثورة ليست أن تطيح بإحدى رؤوس الهيدرا. فما تحت الأرض أشد رعباً. الثورة الحقيقية في كلمات تشيكوف. الدين و العلوم والفنون والعمل القليل الإنساني بالمشاركة. ولا سبيل لذلك إلا شيء واحد : التنوير.
Published on July 24, 2014 15:16