محمد إلهامي's Blog, page 7

October 7, 2022

عالَمٌ بغير محمد ﷺ.. كيف يكون؟

 

وقف العلامة مصطفى صبري، آخر شيوخ الإسلام في اسطنبول، يخطب أمام عشرة آلاف في جامع السلطان علاء الدين في قونيا، وكان ذلك في الزمن الذي زحفت فيه العلمانية وهيمنت فيه جماعة الاتحاد والترقي على البلاد، وانتشر يومها الحديث عن الحرية القادمة من الغرب، في مقابل الاستبداد الذي أنتجه الدين وحرسه المشايخ في الشرق. وحيث كان الوقت قبيل انتخابات مجلس النواب فقد خطب الشيخ يحثّ الناس على التمسك بحريتهم، ومقاومة كل تضييق أو خداع يقوم به من يريد كسب أصواتهم. وقد حاول والي قونيا معمر بك -الذي كان حاضرا في الخطبة- أن يُشَغِّب على الشيخ، فإذا بالشيخ يستخرج له مثالا من الفقه الإسلامي، فينقلب الحال عليه!

ذكر الشيخ مصطفى صبري مسألة من الفقه الحنفي تقول: ماذا إذا وقع نزاعٌ بين رجلين: مسلمٌ وذِمِّيٌّ على طفل، المسلم يقول إنه عبده، والذمي يقول إنه ولده، وكلاهما جاء بالشهود التي تؤيد كلامه، ولم يتبيّن وجه الحق للقاضي، فهل يُسَلّم الطفلُ إلى المسلم فيكسب الطفل نعمة الإسلام ويخسر نعمة الحرية؟ أم يسلم إلى الذمي فيخسر نعمة الإسلام ويكسب نعمة الحرية؟

يختار أبو حنيفة أن يُسَلَّم الطفل إلى الذِمّي ويكون حرًّا، فإنه إذا سُلِّم إلى المسلم لم يستطع كسب نعمة الحرية بنفسه، ولكنه إذا سُلِّم للذمي يستطيع بالنظر والتفكير ومقارنة الأديان أن يكسب نعمة الإسلام بنفسه. والشرع الإسلامي يُعطي للطفل ما لا يستطيع أن يكسبه بنفسه، إذ الشرع واثقٌ من قوة حجة الإسلام وظهوره، والطفل إذا لم يُسْلِم حين يكبر كان هذا تقصيرا منه، وجناية جناها هو على نفسه!

يقول الشيخ مصطفى صبري: هذه الفتوى تدل على ما بلغه الفقه الإسلامي من سعة الأفق، وهي تبرز أهمية الحرية في شرعة الإسلام، وتُفهم أهيمتها حق الفهم إذا تذكرنا أن الشريعة ترى أن أكبر ملوك غير المسلمين ليس كفؤا ولا أهلا لأن يتزوج أدنى بنت من بنات المسلمين.

***

حين مررتُ بهذه القصة، تذكرت بحثا آخر كتبه المستشرق الإيطالي ديفيد دي سانتيلانا، وهو قانوني درس المذهب المالكي، عن الشريعة والقانون والمجتمع، وطفق هذا المستشرق يتناول جوانب الشريعة الإسلامية بقلم المُعجب المنبهر بها، فكان مما تناوله مسألة الحرية، فقال فيها:

"أما الرق فهو استثناء لتلك القاعدة (كان آدم وحواء وكلاهما حر)، من هذا المبدأ استخلص الفقهاء مسائل عديدة إليك بعضها:

1. اللقيط المجهول أصله ترجح حريته على عبوديته.

2. الحر المشكوك في حريته لا يجبر مبادهة على إثبات حريته؛ حتى تنهض القرائن والدلائل القضائية على عكس ما يزعم.

3. ترجح حالة الحرية عند وجود الشك.

فالحرية على هذا الأساس لا يمكن أن تباع أو تشترى لرغبة ساورت صاحبها، أو لنزوة عارضة، والعبودية التي يختارها المرء بملء رغبته لا تعترف بها الشريعة قانونا قط، وعلى هذا المنوال تحرم الشريعة الانتحار".

وقد أُعجب دي سانتيلانا على نحو خاص بالتحرر التام الذي يتمتع به المسلم من سلطة الكهنوتية، حتى قال في ذلك: "أشد المذاهب البروتستانتية صرامة إنما تكاد تكون مذهبا كهنوتيا صرفا إذا ما قورنت بعقيدة التوحيد الراسخة، التي لا تلين ولا تتزعزع، ولا تسمح بالتدخل بين الخالق والمخلوق"، وأعجب بالرحمة التي تهيمن على سائر جوانبها، فيؤكد أن "آيات القرآن فُصِّلَتْ للناس بمعرفة خبير حكيم لتكون شريعة للحرية، وقانونا للرحمة التي أنعم الله بها على الجنس البشري"، ويختم مبحثه اللطيف قائلا: "المستوى الأخلاقي الرفيع الذي يسم الجانب الأكبر من شريعة العرب قد عمل على تطوير وترقية مفاهيمنا العصرية، وهنا يكمن فضل هذه الشريعة الباقي على مر الدهور".

***

وصدرت قبل أشهر الترجمة العربية لكتاب الباحث الأمريكي المسلم، جوناثان براون، بعنوان "الإسلام والرق"، وقد قرأت شطرًا منه ولم أتمّه، وهو كتاب ممتاز، لكن الشاهد هنا أنه قضى زمنا في أول الكتاب يحاول أن يُفهم قرَّاءه من الغربيين والأمريكان أن الرق الذي كان في الإسلام لا علاقة له بصورة العبودية والاستعباد التي تنبثق في أذهانهم لدى سماع هذه الألفاظ، ذلك أن تلك المعاني السيئة إنما هي المخزون الموروث الذي أنتجته التجربة الغربية حين استعبدت الشعوب الإفريقية والآسيوية، ولا علاقة لهذه المعاني بموضوع الرق الذي كان في العالم الإسلامي. وذلك إلى الحدّ الذي لا يمكن فيه الوصول إلى تعريف دقيق لمعنى "الرق"، بل إن مطالعة التاريخ تكشف أن ظروف العُمّال الأحرار في المصانع الأوروبية كانت أسوأ حالا بكثير من أحوال العبيد في العالم الإسلامي، وأن بعض أولئك العبيد وصلوا في العالم الإسلامي إلى مراتب السلطة العليا كوزراء وأمراء وقادة جيوش يملكون الثروة والسلطة!

وكان قد وقع لي من أخبار العبيد والرقيق في التاريخ الإسلامي، ما استخلصتُ بعضًا منه، ونشرته في مقال "كيف عامل المسلمون عبيدهم.. شذرات من مؤلفات الرحالة الغربيين"، وفيه يقرر المستشرقون والرحالة الغربيون بأنفسهم أن أحوال العبيد في عالم المسلمين كانت خيرا من أحوال الأحرار في الغرب!

وهذا مع أن الإسلام يرى الرق نقصا، ويحث على إعتاق العبيد، كما يحث العبد على تحرير نفسه، وقد فتح لذلك الأبواب، وقد أغلق الإسلام باب استرقاق الناس إلا في الحرب المشروعة، أي أنه جعل الرق بديلا عن القتل، فكان الرق -في هذا الموطن- من باب الرحمة بالأسير! فلعله أن عاش بين المسلمين أن يتأثر بهم فيُسلم فيفوز في دنياه وأخراه، ولئن لم يفعل فقد أصابته الرحمة بالإطالة في عمره فلعله أن يُفتدي أو يفتدي نفسه أو يعيش في الرق عيشة كريمة!

***

لقد وقف المنصفون من غير المسلمين أمام فضل النبي ﷺ على هذه الإنسانية حتى تمنى بعضهم أن لو وصلت جيوش الفتح الإسلامي إلى بلادهم، مثل المستشرق والفيلسوف وعالم الاجتماع الفرنسي الشهير جوستاف لوبون، ذلك الذي تحسّر أن المسلمين لم يدخلوا باريس، فلم تنعم باريس بمثل ما نعمت به قرطبة، فقال في ذلك: "كان يصيب أوربا النصرانية المتبربرة مثل ما أصاب إسبانيا من الحضارة الزاهرة تحت راية النبي العربي، وكان لا يحدث في أوربا التي تكون قد هذبت ما حدث فيها من الكبائر كالحروب الدينية، وملحمة سان بارتملي، ومظالم محاكم التفتيش وكل ما لم يعرفه المسلمون من الوقائع الخطيرة التي ضرجت أوربا بالدماء عدة قرون".

لقد رأى هذا الرجل فضل النبي متجسدا في التاريخ، ورأى كيف أن البلاد التي وصلها أتباعه كانت في نعمة ورحمة حُرِمت منها البلاد التي لم تنعم بأنواره، ليس فقط على مستوى الأخلاق وشيوع التسامح الديني، بل حتى على مستوى العلوم والحضارة والاختراعات المادية والفنون، يقول: "كلما أمعنا في درس حضارة العرب، وكتبهم العلمية، واختراعاتهم، وفنونهم ظهرت لنا حقائق جديدة وآفاق واسعة، ولسرعان ما رأينا أن العرب أصحاب الفضل في معرفة القرون الوسطى لعلوم الأقدمين، وأن جامعات الغرب لم تعرف لها -مدة خمسة قرون- موردا علميا سوى مؤلفاتهم، وأنهم هم الذين مدنوا أوربا مادة وعقلا وأخلاقا، وأن التاريخ لم يعرف أمة أنتجت ما أنتجوه في وقت قصير، وأنه لم يفقهم قوم في الابتداع الفني".

ولم يكن وحده في هذه النظرة، فهذا المستشرق البريطاني الشهير مونتجمري وات، يقول في ذات المعنى: "إننا -معشر الأوربيين- نأبى في عناد أن نقر بفضل الإسلام الحضاري علينا، ونميل أحيانا إلى التهوين من قدر وأهمية التأثير الإسلامي في تراثنا، بل ونتجاهل هذا التأثير أحيانا تجاهلا تاما، والواجب علينا من أجل إرساء دعائم علاقات أفضل مع العرب والمسلمين، أن نعترف اعترافا كاملا بهذا الفضل، أما إنكاره أو إخفاء معالمه فلا يدل إلا على كبرياء زائف".

ينظر آخرون بإعجاب إلى فضل النبي ﷺ في تحرير الإنسان من الخرافة والأوهام وسلطان الآلهة الوثنية، هذه المستشرقة الإيطالية لورافيشيا فاجليري تقول: "بفضل الإسلام هُزِمت الوثنية في مختلف أشكالها، لقد حُرِّر مفهوم الكون، وشعائر الدين، وأعراف الحياة الاجتماعية من جميع الهولات أو المسوخ التي كانت تحط من قدرها، وحُرِّرت العقول الإنسانية من الهوى. لقد أدرك الإنسان -آخر الأمر- مكانته الرفيعة، ولقد أذل نفسه أمام الخالق، رب العالمين، أنه لم يصبح قادرا فحسب على أن يقول مع إبراهيم، {إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [الأنعام: 79] بل قد تعين عليه في الواقع أن يقول مع هذا النبي {قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الأنعام: 162]. لقد حُرِّرت الروح من الهوى، وأطلقت إرادة الإنسان من القيود التي طالما أبقته موثقا إلى إرادة أناس آخرين، أو إلى إرادة قوى أخرى يدعونها خفية. لقد هوى الكهان، وحفظة الألغاز المقدسة الزائفون، وسماسرة الخلاص، وجميع أولئك الذين تظاهروا أنهم وسطاء بين الله والإنسان".

***

إذا كان هؤلاء الناس قد التفتوا إلى فضل النبي على الإنسانية في حياتهم الدنيا، وما بث في تاريخ الأرض من الأخلاق والحضارة والعلم والنور والكرامة وتحرير البشرية من الخرافة والأوهام، فنحن المسلمين أولى الناس أن نلتفت إلى فضله ﷺ في الدنيا والآخرة، فما الدنيا في الآخرة إلا كقطرة في بحر، وكل شيء بالنسبة إلى الخلود غيرُ معدود، فبه عرفنا طريق الهداية، فمن اتبعه فقد أنقذه الله بمحمد ﷺ من النار، والصلاة عليه في الدنيا هو غفران للذنوب وتفريج للكروب وسببٌ لأن يذكرنا الله تعالى في عليائه جل علاه، وهو ﷺ شفيعنا يوم القيامة بإذن الله، فبشفاعته يتجاوز الله عن الذنوب والخطايا لمن شاء، وهو الذي يسقينا في اليوم الرهيب من حوضه الشريف، شربةً تروي الظمأ الشديد القاتل شربة لا نظمأ بعدها أبدا، لا يُحرمها إلا من بدَّل وأحدث من بعده.

فلو كان اتباع محمد ﷺ يُهلكنا في الدنيا ويحيينا في الآخرة لكفي بذلك نعمةً ومنّةً وفضلا عظيما، فكيف إن كان اتباعه هو العز والنصر والتمكين في الدنيا، وهو النجاة والفلاح في الآخرة؟!

كثيرا ما يغيب هذا الجانب، أي: فضل النبي ﷺ علينا في الآخرة، عن حديث المتحدثين عن فضله، وذلك من آثار طغيان التفكير المادي الدنيوي على حياتنا المعاصرة.

لن نفهم فضلَ محمد ﷺ علينا في الدنيا والآخرة إلا إذا تخيلنا مسيرة هذا العالم بدونه، إن مجرد الشروع في تخيل هذا الوضع يقذفنا في عالم كئيب مظلم أسود؛ عالم تتقاذفه الشياطين، ويهيمن عليه الطغاة الجبابرة، ويأكل القوي فيه الضعيف.. عالم بلا رحمة ولا شرف ولا أخلاق!

عالم ليس فيه أبو بكر ولا عمر ولا عثمان ولا علي، لا خالد بن الوليد ولا أبو عبيدة بن الجراح ولا عمرو بن العاص، عالم ليس فيه عمر بن عبد العزيز ولا هارون الرشيد ولا نور الدين زنكي ولا صلاح الدين ولا يوسف بن تاشفين ولا عبد الرحمن الناصر ولا المنصور بن أبي عامر ولا عثمان ولا مراد ولا محمد الفاتح! عالمٌ ليس فيه ذلك الطابور الطويل من العُبَّاد والزُهَّاد الذين هم مصابيح الدنيا في التقوى والورع والأخلاق، من يتخيل عالما بغير الحسن البصري وعبد الله بن المبارك وإبراهيم بن أدهم والحارث المحاسبي وبشر الحافي والجنيد؟! عالمٌ ليس فيه ذلك الموكب المكتظ من العبقريات المدهشة التي فجرت ينابيع العلوم، أي عالم ذلك الذي يخلو من أبي حنيفة ومالك والشافعي وابن حنبل وابن حزم والجويني والغزالي والزمخشري والفخر الرازي وابن تيمية وابن القيم والذهبي وابن رجب وابن عبد الهادي! وأي عالم ذلك الذي افتقد الزهراوي والجزري والحسن بن الهيثم والزرقالي والمرادي وابن النفيس وابن البيطار!

كل أولئك وغيرهم كثير كثير كثير ممن أقاموا العدل ونشروا العلم وعالجوا الأرواح والأبدان، إنما شربوا من معين محمد، ومن سنّته ارتووا، وعلى دينه قاموا ونصبوا وماتوا! ولولا محمد لكانوا من أغمار الناس، أو لذهبت طاقتهم وعبقريتهم في خدمة الطغاة والجبارين الذين غلبوا عليهم!

ستجد عزيزي القارئ الكريم، في هذا العدد من مجلتنا أنصار النبي، شذرات عن فضل النبي ﷺ على الحيوان وعلى النبات وعلى الجماد، على الكافرين وعلى المسلمين، من التاريخ ومن الواقع، وهي أمور لا تكفيها هذه الصفحات القليلة، وإنما هي بمثابة فتح الباب، والدلالة على الكنز العظيم! فاغترف من الكنز ما استطعت، وانهل من النهر حتى تتضلع، فإن ذلك فلاحك في الدنيا والآخرة.

نشر في مجلة أنصار النبي 

، أكتوبر 2022 

مصطفى صبري، موقف العقل والعلم والعالم من رب العالمين وعباده المرسلين، 4/340، 341.

دافيد دي سانتيلانا، القانون والمجتمع، ضمن: توماس أرنولد (إشراف)، تراث الإسلام، ص417.

نفس المصدر، ص410، 411، 439.

مجلة المجتمع، يوليو 2020م، الرابط: https://melhamy.blogspot.com/2020/07/...

جوستاف لوبون، حضارة العرب، ص317.

نفس المصدر، ص26.

مونتجمري وات، فضل الإسلام على الحضارة الغربية، ص8.

لورافيشيا فاجليري، دفاع عن الإسلام، ص45، 46.

2 likes ·   •  0 comments  •  flag
Share on Twitter
Published on October 07, 2022 04:48

October 2, 2022

وقفة مع الطاعنين في الإمام القرضاوي

 

كان من فقه ابن عباس -رضي الله عنهما- حين ذهب لمحاورة الخوارج، أن بدأ كلامه معهم بقوله: "جئتكم من عند صحابة رسول الله ﷺ، وليس فيكم منهم أحد".

فأشار لهم إلى حقيقةٍ كان يجب أن تردعهم وتشككهم فيما هم عليه، وهي أن ما هم عليه من الرأي والموقف لا يوافق عليه صحابي واحد من صحابة النبي ﷺ، هذا مع أن المعسكر الآخر -معسكر معاوية رضي الله عنه- فيه صحابة قاتلوا عليا رضي الله عنه.

فمجرد مخالفة علي، بل ومقاتلته، كانت رأيا ذهب إليه بعض أولئك الصحابة، ولكن موقف الخوارج لم يذهب إليه ولا صحابي واحد!! فكان ذلك علامة على ضلالهم!

ووضع علماء الأصول قاعدة ذهبية كان لها أعظم الفضل والأثر في ضبط الحركة الفقهية عبر التاريخ، وهي أنه لا يجوز مخالفة سلف الأمة، فإذا اتفقوا على رأي، لم يكن جائزا لمن بعدهم أن يخالف هذا الرأي، فإن الحق لن يخرج عنهم، إذ هم الموصوفون بالخيرية على لسان رسول الله، وهم الذين نزل عليهم الوحي، وأخذوا العلم عن رسول الله، فمخالفتهم هي في واقع الأمر قولٌ بأنهم قد أخطؤوا الحق وضلوا عنه، والأمة لا تجتمع على ضلالة.

وكذلك إذا اختلف هؤلاء الصحابة والتابعون على رأيين، لم يكن جائزا لمن بعدهم إحداث رأي ثالث، وذلك أن هذا الرأي الثالث هو رمي لهم بأن جميعهم قد ضلوا الحق وأخطؤوه، وهو ممتنع كذلك، إذ لا يجتمعون على ضلالة.. وكذلك إذا اختلفوا على ثلاثة أقوال لم يجز إحداث رأي رابع.. وهكذا، وثمة تفاصيل يعرفها من يدرس الأصول.

ولذلك كان علماء الأمة حساسين للغاية لمخالفة السلف الأوائل، وإذا ورد الشيء عن الصحابي توقف عنده وخضع له أولئك الذين شهد لهم العالَم بالعبقرية، أبو حنيفة ومالك والشافعي وأحمد، ولم يتجرؤوا أن يخالفوا ما وصل إليهم من علم الصحابة، مع ما هم عليه من الذكاء ونفاذ العقل وقوة القريحة.

ومن هذا الباب قيل: إذا أردت ألا تحك رأسك إلا بأثر فافعل.. وقيل: إياك أن تتكلم في مسألة ليس لك فيها سلف.

كان هذا كله، خشية أهل العلم من الوقوع في الخطأ في ذات المسألة، أو الوقوع في اتهام السلف الأوائل بأنهم ضلوا عن الحق.

وحين استقرت المذاهب الفقهية، كادت الأمة أن تتفق على اتباع المذاهب الأربعة المشهورة، وثمة إقرار تام بأن الحق ليس محصورا في تلك المذاهب الأربعة؛ إذ ليس لاتفاقهم قوة اتفاق الصحابة، ولأنهم لم يتفردوا بالاجتهاد، فثمة غيرهم ممن بلغ مرتبة الاجتهاد ولكن مذاهبهم لم تخدم ولم تحرر كمذاهب الليث والأوزاعي والثوري والطبري وغيرهم.. مع ذلك فإنك تجد إماما مثل الذهبي يقول: نهاب أن نجزم في مسألة اتفقوا عليها بأن الحق في خلافها.

فاستعمل لفظ "نهاب"، ليعبر به عن معنى أن الحق غالبا لن يتجاوز هذه المذاهب الأربعة إذا اتفقوا، ولكن لا يمكن الجزم بهذا.

تلك -عزيزي القارئ- مقدمة طويلة أردت منها لفت النظر إلى شيء واحد: أنك إذا رأيت جمهرة من أهل الصلاح اتفقوا أو غلب عليهم الثناء على شخص فيجب أن تتهيب اقتحام الطعن فيه، أو وجدت منهم الطعن في أحد فكذلك.. فإن الله جعل أهل العلم والصلاح معالم هداية وإرشاد وتوجيه.

ومناسبة هذا الكلام ما رأيتُه من الطعن في الشيخ العلامة الراحل يوسف القرضاوي -رحمه الله وبرد مضجعه- بعيد وفاته، فأما الذين طعنوا فيه لأنهم من أتباع السيسي وابن زايد وابن سلمان، فهؤلاء لا نأبه لهم ولا نلتفت إليهم، فلا قيمة لهم ولا لكلامهم، فإنهم في معسكر الباطل الصريح الذي يقف على رأسه الشيطان بنفسه، وأما الذين نقصدهم بالحديث هنا فهم إخواننا الذين يطعنون في الشيخ، يحسبون بذلك أنهم يدافعون عن الإسلام ويحرسونه من أهل الضلال!

إنك حين ترى جمهرة العلماء والصالحين يثنون على الشيخ ويجلونه ويترحمون عليه ويتوجعون لفقده، فمن البداهة أنهم لم يفعلوا ذلك وقد اجتمعوا على النفاق والكذب وبيع دينهم بدنيا غيرهم! ومن البداهة أيضا أنهم لم يفعلوا ذلك جهلا بما علمتَه أنت، لا سيما وهم الذين يشتغلون بالفقه ليلهم ونهارهم بينما لستَ في ذلك.. وإن ما في جعبتك من المطاعن التي تبلغ العشرة أو العشرين ليست بخافية عليهم، ولهذا لا يعدو الأمر أن يكون له احتمالات:

إما أن هذه المطاعن ليست بأخطاء أصلا، وأن الشيخ حين قال بها كان له فيها وجه مقبول، أو حتى عذر مقبول. ولكنك جهلت هذا الوجه أو هذا العذر فرأيت الخطأ فيما ليس في نفسه من الخطأ.

وإما أنها أخطاء حقيقة وقع فيها الشيخ ولكن ليس لها في حقيقة الأمر ما لها في نفسك، فلعلها من الفروع وأنت تراها من الأصول، ولعلها من الخلاف السائغ وأنت تراها من غير غير الخلاف السائغ لجهلك بالخلاف أو لعدم تصورك له في المسألة.

وإما أنها أخطاء كبيرة حقا، ولكنها مغمورة في بحر حسنات الرجل، فكانت الحصيلة النهائية في صالح الشيخ، ولذلك نطقت سائر هذه الألسنة بالمدح والثناء والتحدث عن فضله وبذله.

لا سيما وفي صدر الذين أفاضوا بالثناء على الشيخ رجال موصوفون بالعلم والشجاعة، ولا يعرف عنهم نفاق أو خيانة، أعني بذلك أمثال الشيوخ: محمد الحسن ولد الددو، والصادق الغرياني، وأسامة الرفاعي وكثيرون وكثيرون كثيرون.. وإذا تيسر لك فتح كتابٍ مما كُتب في ذكرى بلوغه السبعين أو التسعين لوجدتَ جلة المشيخة، من مختلف المدارس، يكتبون في الثناء عليه.. وكثيرون من مخالفيه كتبوا في الترحم عليه واقتضبوا في العبارة، فكان ذلك منهم إقرار بأن الشيخ من المبرزين في أهل الإسلام وأنه شأنه شأن من يرجى له الرحمة لما قدَّم وبذل، بل حتى الذين سكتوا ولم تسمح نفوسهم بالترحم عليه.. كل هؤلاء كانوا في معسكر الذين رأوا أن الشيخ من أهل الخير والفضل، ولم يروا أن المقام مقام تحذير من صاحب ضلالة يوشك أن يُفتن الناس به.

فكيف رأيتَ أنت أنك أحرص من هؤلاء جميعا على دينهم ودين الناس، فاندفعت ترى نفسك مكلفا بالطعن في الرجل، وإلا ضلّ الناس إن سكتَّ ولم تتكلم؟!

إن الكلام عن الشيخ ومنهجه، ووضع "أخطائه" في موضعها أمر لا يتسع له هذا المقام، لكن ثمة أصليْن كبيريْن تجب الإشارة إليهما:

الأول: أنه لا يمكن تقييم ما يُقال أنه أخطاء الشيخ على غير منهجه وأصوله، فكما لا يُقيم رأي للأحناف على قواعد المالكية أو للشافعية على قواعد الحنابلة، فكذلك لا يمكن تقييم عمل الشيخ القرضاوي على قواعد المدرسة السلفية أو المدرسة الجهادية أو مدرسة الإيمان بالتقليد المذهبي! وإنما الحق أن يُنظر إلى عمل الشيخ ضمن المنهج الذي سار عليه وأعلنه وقعَّد له.

الثاني: أن في المدرسة السلفية نزوعا إلى تكييف المسألة تكييفا عقديا، فإذا بالمخالفة في الفروع تتطور سريعا لتلتحق بالأصول والعقائد، فإذا بوسيلة مثل دخول البرلمان -مثلا- تندرج بعد تسلسل بسيط لتكون تحت أصل الرضا بالحكم بغير ما أنزل الله، بل الرضا بالشرك بالله.. وهو أمر لا يخطر ببال الذين أباحوا دخول البرلمان!.. وهذه النزعة ضخمت كثيرا من الخلاف، بل وضغطت على الكلمات الطبيعية لتولد منها معاني عظيمة لم يقصدها المتكلم بحال.

وبعد ذلك كله، فالأمر الذي يغيب عن الكثيرين أن الشيخ القرضاوي كان عالم أمة، ولم يكن عالم جماعة ولا حزب ولا دولة، وكان مشتبكا مع نوازل الأمة ولم يكن منعزلا عنها، ومثل هذا الشيخ حين يوجد في عالم شكَّله أعداء الإسلام وحددوا مجالاته وقوانينه، يجد نفسه أمام أوضاع لا حلّ فيها إلا اختيار أدنى المفسدتيْن، أي أنه يفتي بالوقوع في مفسدة.. ومن العجيب أن الكثيرين ممن يأخذون راحتهم في الطعن بالشيخ ربما اضطرته الظروف إلى الحياة في الغرب فرارا بنفسه وبحثا عن أمنه (وما عليه في هذا من حرج)، ولكنه في ظل الحياة هناك، اضطر أن يفتح لنفسه حسابا بنكيا، واضطر أن يدخل أولاده مدارس تدرس لهم الإلحاد وتخلط البنات بالبنين، وهو يحتكم في كل حركاته وسكناته إلى قانونهم المناقض للشريعة بطبيعة الحال.. يفعل كل ذلك ويرى نفسه مضطرا! ولستُ أجادل في أنه مضطر معذور.. ولكن هذا الرجل نفسه إذا كان عالما يستفتى في النوازل فإنه سيفتي كثيرا من الناس بما أفتى به لنفسه.. وحينها سيراه الجالس في البلد المسلم مترخصا ومستهترا ومستهينا بأحكام الله، وربما طوّر المسألة بقليل من التسلسل واللوازم ليجعله راضيا بالشرك بالله!!

إنك لن تجد عالِما مشتبكا مع نوازل الأمة في هذين القرنين الأخيرين، إلا وجدت له فتاوى مستغربة.. وأكثر الطاعنين في أولئك ليس لهم من فضل الاشتباك مع نوازل الأمة مثل ما كان للأولين، وتلك قاعدة الحياة: من عمل كثيرا أخطأ كثيرا، ولكن القاعد لا يخطئ! وما من شك في أن الخطأ -في هذا المقام- خير من القعود!

أسأل الله تعالى أن يرحم الشيخ بواسع رحمته، وأن يخلف علينا بخير منه، وأن يحسن أخلاقنا ويوسع صدورنا للمسلمين جميعا، لا سيما أهل الفضل والبذل منهم.

2 likes ·   •  0 comments  •  flag
Share on Twitter
Published on October 02, 2022 11:14

September 26, 2022

في يوم وفاة القرضاوي

 


خبر وفاة الشيخ الإمام يوسف القرضاوي من تلك الأخبار التي لا يتمالك المرء نفسه أن يكتب فيها شيئا! ويظل بعدها زمنا حتى يتسنى له أن يتزن ويختار وينظر إلى الأمر من بعيد، فيتهيأ له أن يتحدث!

 

وهذه الحيرة أراها بادية في كلام محبيه وطلابه، فالكلام فيه مضطرب، والفكر فيه مرتبك، والعين تدور والعقل يجول، يبحث المرء عن الزمام!

 

فإن رأيت القرضاوي في الكتب بهرك بسعة علمه وتفننه في الكتابة واهتمامه بأمر المسلمين وقضاياهم ونوازلهم، وإن جالسته بهرك بتواضعه وأدبه وطرافته وتوسعته لجلسائه وصبره عليهم.. ولقد رأيته وهو في الثامنة والثمانين من عمره يجلس في المؤتمر من أوله إلى آخره لأربعة أيام في دأب وصبر لا يطيقه الشباب!

 

ويكفي دليلا على قوة شخصيته وملئه لمكانه أن يحتار الناس في خلفائه من بعده!

 

كان القرضاوي رأس الأمر الذي ينتمي إليه، وباب الشأن الذي يقوم عليه، فهو في الفقه أكبر فقهاء العصر، وهو في الأزهر أرفع أعلامه، وهو في مصر أشهر مشايخها ورموزها، وهو في مدرسة الإخوان شيخها وفقيهها الأكبر!

 

ولستَ تجد عاقلا فيه إنصاف، من أي مدرسة إسلامية كانت، إلا وقد ترحم عليه وعرف فضله وتأسف لموته!

 

لقد شاء الله أن بُثّت بالأمس حلقة لي تكلمت فيها عن مذكرات الشيخ المجدد محمد رشيد رضا، وكان رشيد رضا ثمرة من ثمرات الأفغاني ومحمد عبده، فإن جريدتهم "العروة الوثقى" هي التي أيقظت فيه أن الإسلام شيء أكبر من العبادة والشعائر والأخلاق، وأنه نظام شامل لإصلاح الحياة والسياسة والاقتصاد والاجتماع!

 

هذا هو نفسه فضل القرضاويّ عليّ، فلقد أخرجتني كتبه من جدالات الأمور الصغيرة، التي لا تغادر تقصير الثوب أو فرضية النقاب أو إعفاء اللحية أو نحوها.. ففي كتبه رأيت أن الإسلام نظام حياة، وأنه منهاج أمة، وأنه الحل للبشرية!

 

وبعد أن كنت أرى الفتوى في كلام المشايخ تستغرق السطر أو السطرين، رأيتها تستغرق عشر صفحات أو أكثر في كتابه "فتاوى معاصرة"، فأنقذني ذلك من استسهال الفقه والاستهانة بعملية استخراج الحكم الشرعي من النص، وقد كنت على وشك ذلك أو وقعت فيه، فمنذ ذلك الوقت (وكان عمري 14 عاما) وحتى الآن، لا شيء أكثر مهابة عندي من الفقه.. ولئن كنتُ لا أستحضر الآن الفتاوى نفسها، فإن يقيني بأن الفقه عمل دقيق عظيم لا يزال حاضرا في نفسي حتى الآن!

 

كان الشيخ القرضاوي رجل عصره، مهموم بالنوازل، فليس يهتم أن يحرر الدقائق التي تعجب العلماء والمتخصصين، بل يقتحم الأمور التي تحتاج إلى الفتوى مما يفرضه الواقع.. وبهذا كان الشيخ أعظم تأثيرا ممن غرق في بحر الفقه العلمي التقليدي، فلم يعرفه سوى طلابه!

 

كتب عنه جاكوب سوفجارد بترسون كتابه "المفتي العالمي: ظاهرة يوسف القرضاوي".. فالرجل كان يقصده للفتوى أهل الصين وأهل أمريكا الشمالية!

 

ومع بلوغه هذه المكانة التي يحلم بها أي إنسان، ويسكر بها أي مغرور، إلا أن الشيخ كان كثير الإلحاح على ضرورة الاجتهاد الجماعي، وأن مسائل الأمة ونوازلها صارت أوسع من قدرة الشخص على أن يفتي فيها ويستوعب أحوالها. وهذه منه سمة عالِم الأمة والحريص على شأنها، فلم يكن بالذي يرضى بما بلغه من السمعة والشهرة، لأن همه فوق حيّز نفسه!

 

ولهذا أيضا كان مغرما بالمؤسسية، ويعرف القارئ له من خشيته أن ينتهي العمل بانتهاء صاحبه ورائده، ولذلك خاض في إنشاء المؤسسات كي يبقى الأثر والخبر بعد ذهاب الرجال! فسعى في هذا حتى كان من أحسن ثمراته: موقع إسلام أون لاين، والمجلس الأوروبي للإفتاء والبحوث، ثم درته الكبيرة: الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين!

 

فكان إسلام أون لاين أعظم موقع إسلامي في وقته، وصار المجلس الأوروبي مرجع المسلمين الشرعي في ديار الكفر، وكان الاتحاد العالمي أول تجمع علمائي مستقل لا تسيطر عليه دولة!

 

وقد نختلف كثيرا في تقييم هذا الإنجاز المؤسسي، ومدى بلوغه أهدافه، ومدى سيره على النحو الذي أمّله الشيخ منه، وليس هذا مقصد الكلام هنا.. إنما مقصد الكلام الإشارة إلى هذا الهمّ الرابض في صدر الشيخ، وهذا المعنى الثائر في عقله، معنى المؤسسة، لكي لا ينفرد أحد بالرأي أولا، ولكي لا ينتهي العمل بوفاة صاحبه ثانيا.. فذلك الهمّ وذلك المعنى هو من أدلة العظمة التي تميز بها الشيخ الإمام.

 

لو كان الإمام في بلاد غير بلاد العرب في زماننا هذا لما كان من شك في أنه كان سيبلغ أعظم مما بلغ بكثير بكثير بكثير.. فمثل هذا الرجل لو كان شيخا للأزهر لكان الأزهر الآن في حال عظيم من القوة والسعة وتخريج العلماء واجتذاب الطاقات والطلاب!

 

لقد كان الشيخ طاقة هادرة وموجا متدفقا، نشاط هائل منطلق في جهاتها الأربع، ولقد هيأ الله له أن يسكن قطر، حيث توفر له فيها أمانٌ ما كان ليجد مثله في مكان آخر، فلقد كانت قطر من نعمة الله عليه، كما كان هو من نعمة الله على قطر، وهيأ الله له من حُكَّامها من اتسعت صدورهم له، وبلغت عندهم منزلته وقبلت لديهم شفاعته! وما كان له أن يبلغ ما بلغ لولا ما هيأه الله له منهم!

 

ولئن كنت لا أرتاب في أن القرضاوي رجلا عظيما، فإني لا أرتاب كذلك في أن الأمة لا تخلو من مثله، لكن يد البطش والطغيان والاستبداد، وأفواه السجون والمشانق قد ابتلعت والتهمت سائر هؤلاء، فإن هي لم تلتهمهم فقد كبتتهم وأخرستهم وقيدتهم، وإن هي لم تفعل ذلك عمدا فقد فعلته بما نشرته من أجواء الخوف وبيئة الفساد وارتفاع الأسافل والأراذل!

 

وتلك الجواهر النادرة المكنونة التي لم تسمح لها الأوضاع أن تتألق كما تألق القرضاوي، مهما جهلناهم فلم نعرفهم، ومهما كانوا مغمورين لم يأخذوا حقهم، فلا ريب أن الله يجزيهم أجرهم، ولا ريب أن التاريخ سينصفهم في قابل أيامه!

 

لكن يجب أيضا أن نقول، أن الشيخ الإمام القرضاوي قد استثمر الظرف المهيأ له أفضل استثمار، فكم من المشايخ أمثاله ممن توفر لهم أمنٌ ورزق، فلم تحملهم همتهم ولم تسعفهم مواهبهم أن يبلغوا شيئا مما بلغ الشيخ!

 

لئن كان الله قد أنعم على الشيخ ببلد آمن ورزق طيب، فلقد وفى الشيخ -نحسبه- شكر نعمة الله عليه، فبذلها في مرضاته، واستهلكها في نصرة قضايا الأمة!

 

وهذا هو واجب كل امرئ فيما أنعم الله عليه به، وفيما استخلفه فيه.

 

نعم، أعرف أنها سطور مرتبكة محتارة، وأعرف أني سأتحسر بعد قليل على شيء نسيته كان من حقه أن يذكر، ولكن يكفيني أن استطعت كتابة هذا في يوم كهذا! فهذا يوم غربت فيه الشمس، وانهد فيه ركن العلم، وخُتِم بالشيخ جيل الكبار!

 

فاللهم أجرنا في مصيبتنا واخلف لنا خيرا منها.

 

....

 

3 likes ·   •  0 comments  •  flag
Share on Twitter
Published on September 26, 2022 08:33

September 5, 2022

عكرمة صبري: الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين بصدد إعادة النظر في فتوى زيارة بيت المقدس

 

الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين بصدد إعادة النظر في فتوى زيارة بيت المقدس

·        الهدم حدث يومي في بيت المقدس، ففي كل يوم يُهدم بيت وبيوت

·        ما يحدث للأقصى الآن أشد من حريق 1969 لكن بأشكال أخرى

·        أهم ما نحتاجه الآن هو المجهود الإعلامي ودعم المؤسسات المقدسية لمواصلة الصمود

 

حاوره: محمد إلهامي

في زيارته الحالية لاسطنبول، وضمن عدد من الفعاليات الإسلامية التي شارك فيها الشيخ عكرمة صبري مفتي بيت المقدس، كان لنا في مجلة "أنصار النبي ﷺ" حظًّا في إجراء هذا الحوار الخاص معه.

- فضيلة شيخنا الكريم، حمدا لله على السلامة، لا شك أنكم من مشاهير هذه الأمة وأعلامها، ولكن لا بأس أن نأخذ منكم تعريفا مختصرا بمسيرتكم العلمية ومسيرتكم في نصرة الأقصى.

بسم الله الرحمن الرحيم، بالنسبة إلى السيرة الذاتية فهي مثبتة في مواقع التواصل الاجتماعي، ولكن أحب أعطي فكرة عابرة، فلقد نشأت في أسرة علمية توارثت العلم الشرعي جيلا بعد جيل، وبحمد الله فأجدادي علماء، ووالدي هو الشيخ سعيد صبري قاضي القدس الشرعي وخطيب المسجد الأقصى المبارك ثم أتيت وتوليت الخطابة بالإضافة إلى أنني كنت مفتيا والآن أنا رئيس الهيئة الإسلامية العليا التي تعتبر أعلى مؤسسة دينية بالقدس، وأحد أبنائي ورث العلم الشرعي، وهو الآن بروفيسور بالشريعة الإسلامية، أقصد د. عروة صبري، فهو الآن عميد كلية القرآن وعميد كلية الدعوة وأصول الدين، أي عميد الكليتين في جامعة القدس، وثلاثة من أحفادي درسوا شريعة أيضا، أحدهم طالب دكتوراة والثاني في الماجستير والثالث درس البكالوريوس. توليت عدة مواقع، فبدأت حياتي معلما لأنني أحب مهنة التعليم وأعتبرها أسمى وأشرف مهنة إنسانية، والله قد فتح علي في الحياة والعلم من كل جانب من خلال التعليم فأصبحت مدير مدرسة ثم مديرا عاما للوعظ والإرشاد ثم مفتيا ورئيسا لهيئة العلماء والدعاة.

- زوجكم د. نائلة أيضا لها حظ من العلم الشرعي!

- وزوجتي د. نائلة والدها أيضا شيخ وأخوها شيخ كذلك، وألَّفت كتابا في التفسير "المبصر" في أحد عشر مجلدا وهو أول تفسير تكتبه امرأة، بالإضافة إلى كتاب "كواكب النساء".

- نعرف أيضا أن زوجكم د. نائلة كانت أول امرأة ترتدي الثوب الشرعي الإسلامي في القدس، فكانت بذلك بذرة الصحوة الإسلامية النسائية!

- نعم، وكانت إذا سارت في الشارع نظر إليها الناس نظرة غريبة ويسألونها: من أين أتيتِ؟ وابنة من أنت؟ ومن أي بلدة؟.. ولكن الحمد لله، هيأ الله الآن الآلاف بل عشرات الآلاف بل مئات الآلاف الآن ممن يلبسون اللباس الشرعي والحجاب.

- كان لكم تصريح قبل أيام قليلة في ذكرى حريق المسجد الأقصى قلتَ فيه إن حريق الأقصى ما زال مستمرا حتى الآن، بل إن ما يحصل الآن هو أشد من الحريق ولكن بشكل آخر.. فلو تعطينا فكرة عن ما يحدث الآن في المسجد الأقصى.

- ما يحصل الآن في المسجد الأقصى من تجاوزات واعتداءات إسرائيلية أستطيع أن ألخصها بثلاثة أشكال أو ثلاث صور؛ الصورة الأولى: الاقتحامات المتكررة من قبل اليهود، إذ يقتحمون بحراسة مشددة، فيدخلونه بالحراب والأسلحة، ولا يجرؤ أي يهودي أن يقتحم الأقصى بدون حراسة، حتى في الأزقة وشوارع القدس، لا يجرؤ أي يهودي أن يتجول إلا بالسلاح والحراسة. الصورة الثانية: الحفريات المستمرة أسفل الأقصى والتي ينفذونها لزعمهم بأنهم يبحثون عن آثارهم تحت الأقصى، وما وجدوا حجرا واحدا له علاقة بالتاريخ العبري القديم، وما وجدوه من الآثار الإسلامية التي تصادفهم أثناء الحفريات فإنهم يدمرونه، يخربونه. والصورة الثالثة: سياسة الإبعادات، إبعادات الشباب عن الأقصى، وذلك أنهم يعترضون اقتحامات اليهود للمسجد، فتقوم الشرطة الإسرائيلية بإلقاء القبض عليهم وإصدار قرارها بإبعادهم عن الأقصى، ولا توجد دولة في العالم تتخذ سياسة الإبعاد عن أماكن العبادة، إلا سلطة الاحتلال، لأنها سلطة محتلة وتطمع في الاستيلاء على المسجد الأقصى.

- نحن في مجلة أنصار النبي صلى الله عليه وسلم نهتم بكل ما من شأنه نصرة النبي، ومن أوجب هذه الواجبات نصرة المسرى، الذي أسري بالنبي ﷺ إليه، فإذا أردتم أن تحدثوا أنصار النبي ﷺ في كل مكان، ماذا يمكن لهم أن يفعلوا لمواجهة هذا الذي يحدث بمسرى النبي ﷺ؟

- نقول إن مسرى النبي ﷺ هو أمانة في أعناق جميع المسلمين، وهو جزء من عقيدتهم، بقرار من رب العالمين من فوق سبع سموات، ليس بقرار من مجلس الأمن أو هيئة الأمم، وبالتالي فإن المسلم في فلسطين ليس له في الأقصى أكثر من أي مسلم في العالم، ولا بد أن نطرح القضية على أساس كونها قضية إسلامية عقدية وليست قضية فلسطينية محددة، وبالتالي فنحن نركز على موضوع الإعلام، ونشكر وسائل الإعلام وبخاصة الفضائيات التي تنقل الأحداث التي تحصل في القدس والأقصى أولا بأول، وهذا لم يكن سابقا، ونعتبر أن الإعلام طريقة ووسيلة سليمة إيجابية لنصرة قضيتنا، قضية المسلمين. فلا بد من الإعلام ونشر الثقافة والرواية الإسلامية المبنية على القرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة، وبعدة لغات، ليس بالعربية فقط، لدحض الرواية الإسرائيلية الباطلة المزورة التي تنتشر في العالم كله، فنحن أحق منهم في أن ننشر حقنا الشرعي المستند إلى قرار الله سبحانه وتعالى.

- وبخلاف الواجب الإعلامي، ماذا يمكن للمسلمين خارج القدس لنصرة المقدسيين؟

- نعم، يمكنهم ذلك من خلال دعم المؤسسات المقدسية، فإذا دعمت هذه المؤسسات المقدسية، فإنه دعم للمقدسيين أنفسهم، وهذا يساعدهم على الصمود والثبات والحفاظ على المقدسات والأقصى وعلى أماكن سكناهم، لأنه يهمنا نحن أن نثبت المقدسيين ليستطيعوا الدفاع عن الأقصى، فإن تم تهجير هؤلاء، فمن الذي يدافع عن الأقصى ويسعى في عمارته؟!

- ما أهم المؤسسات المقدسية التي تنصح المسلمين بدعمها ودعم أعمالها؟

- لدينا: الهيئة الإسلامية العليا، هيئة العلماء والدعاة، مدارس ورياض الأقصى الإسلامية، جمعية المحبة لرعاية الأيتام، مبرة الرحمة للمسنين.. هذه مؤسسات ترعى شرائح مختلفة من المجتمع بداية من الأطفال وحتى المسنين، بالإضافة إلى المستشفيات، وجامعة القدس بما فيها كلية القرآن والدعوة وأصول الدين. هذه المؤسسات لا بد أن نبحث عن حساباتها، فمعظم حسابات هذه المؤسسات خارج فلسطين ليسهل جمع التبرعات لها.

- ثمة قضايا شائكة نحب أن نسمع رأي د. عكرمة فيها، ومن أهمها قضية: زيارة المسجد الأقصى.. يختلف الناس في ذلك، فبعضهم يقول إنها نوع من التطبيع، وبعضهم يقول: إنها صورة من دعم المقدسيين.

- ما من اجتماع ولا لقاء إلا وأثير معي هذا السؤال واختلف فيه الناس بين لا ونعم، ونعم ولا، على كل حال، أعرف أن الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين سيعيد النظر في الفتوى المتعلقة بزيارة المسجد الأقصى، وإعادة النظر في الفتوى ليس غريبا، والإمام الشافعي له مذهبين كما هو معروف، وفي الواقع فقد تأخرت إعادة النظر في هذه القضية، وأنا عضو في اللجنة التحضيرية لهذا الموضوع، وكذلك أخونا الشيخ نواف التكروري (رئيس هيئة علماء فلسطين بالخارج) وكذلك الشيخ محمد الصغير، أظنه أيضا إن لم يكن عضوا في هذه اللجنة فهو متتبع للموضوع.

- ولكن ما هي وجهة نظركم في المسألة؟

- لا أستطيع أن أعطي رأيا الآن، حتى نصل إلى رأي موحد، فثمة تفاوت في الآراء، فالفتوى قائمة لا شك، لكن يجب أن نضع لها ضوابط جديدة.

- بعض الناس يقول: في ظل وجود تطبيع قائم بالفعل، وقد استقر أمرها، فهل يمكن الاستفادة من هذا التطبيع، وإن كنا لا نرضاه، في زيارة بيت المقدس ودعم المقدسيين، مثلما يحصل مثلا في حال الوفود التركية، فتركيا لها علاقة قديمة بإسرائيل، والوفود الشعبية التركية تذهب إلى بيت المقدس، وقد تكون هذه من الحسنات القليلة التي يمكن جَنْيُها من موجة التطبيع الحالية.

- نحن نرفض الزيارة الرسمية، هذا المبدأ ثابت منذ 1967، ولا نقاش فيه، فأي زيارة رسمية من أي إنسان مرفوضة، فهؤلاء الذين جاءوا من دول التطبيع، أغلبهم يأتي مع الأسف لزيارة إسرائيل، ولو أن بعضا منهم يجيئ كزائرين إلى الأقصى فلن يعترضهم أحد، وبعض الناس يأتي للسلام علي في صلاة الجمعة ويخبرني أنه من الأردن أو من مصر، فماذا أقول له؟ أقول: أهلا وسهلا. وليس من اللائق أن أقول له: لماذا أتيت؟ لا يمكن هذا، فمن استطاع أن يصل بأي طريقة وصل، وواجبي أن أرحب به على كل حال، إني أحب أن يأتينا المسلمون، أما كيف جاء هو وكيف وصل، فهذا شأنه! ومن ثم فنحن يهمنا ألا تكون الزيارة –سلفا- زيارة رسمية. ثم بعد ذلك ثمة ضوابط أخرى.

- بالنسبة لما يقوم به بعض المسلمين من إنشاء جامعات ومعاهد وأكاديميات عبر الانترنت، ويجعلون ضمن برامجها مواد لدراسة تاريخ بيت المقدس والتعريف به؟ هل تجدون لها أثرا عندكم؟ وبماذا توصي هذه المعاهد والجامعات لخدمة بيت المقدس؟

- نحن مع أي إعلام وأي تعليم يشرح القضية الفلسطينية، بأي طريقة كانت، عبر التقنيات القديمة أو الحديثة، وعبر استثمار الوسائل الحديثة، فنحن معها؟

- بالنسبة للأوضاع القانونية للمقدسيين، هل لديهم القدرة للاعتراض على قرارات الإبعاد وما شابه؟

- لا.. نحن لا نعترف بإسرائيل ولا بمحاكمها، وهذه المحاكم مرتبطة بأوامر عسكرية، ولا أمل في اللجوء إلى هذه المحاكم، ومجرد اللجوء إليها يعني الاعتراف بها، وأصبحت ملزما بما يصدر عنها، ولن يصدر عنها شيء في صالحنا أبدا.

- فيما يخص عمليات الهدم وإخلاء البيوت مثلما كان في حي الشيخ جراح وغيره، هل هذه الموجة معرضة للزيادة؟

- نعم، تزداد.. في بيت المقدس، الهدم هو حدث يومي، فكل يوم ثمة بيوت تُهدم، فالناس تضطر للبناء بدون رخصة لأن الإسرائيليين يرفضون إعطاء رخصة للمباني، والأعداد تزداد، فالمقدسيون كانوا سبعين ألفا في عام 1967، وهم الآن أربعمائة وسبعون ألفا، أي أنهم تضاعفوا سبع مرات!

- يطرح البعض أن المؤسسات الرسمية التي لها حق الإشراف على المقدسات الإسلامية في القدس، تشكو من أن الاحتلال الإسرائيلي يحجم عملها تحجيما كبيرا، ويمنعها، فيقول بعض الناس أنه قد يكون من الإحراج السياسي للاحتلال والضغط عليه أن تعلن هذه المؤسسات انسحابها ورفع يدها من الإشراف على المقدسات الإسلامية، وهو ما يجعل عبء الإشراف على هذه المؤسسات موضوعا على كاهل الإسرائيليين.. ما رأيكم في هذا؟

- بالنسبة للأقصى، فإن الوقف الإسلامي له حصانته، ولا نسمح أبدا بتدخل اليهود في أعماله، وإذا تدخلوا فنحن نعترض على ذلك، أما المؤسسات التابعة للسلطة الفلسطينية فإسرائيل تمنع نشاطها، وأي نشاط تلاحظه إسرائيل يتبع السلطة الفلسطينية فإنها تلاحقه، وأما بالنسبة للمؤسسات الأردنية التي لها إشراف على المقدسات فلا تزال تتابع عملها ضمن الاتفاقية المعروفة، وهذه إذا أعلنت سحب يدها أو إشرافها فلن يمثل هذا ضغطا على إسرائيل، بل هي فرصة ممتازة لهم، وأحب ما على إسرائيل أن تسحب الأردن يدها لتضع إسرائيل يدها على هذه المقدسات.

- كلمة أخيرة لمجلة أنصار النبي  ومتابعيها

- نحن نثمن جهود هذه المجلة والقائمين عليها لنصرة سيدنا محمد ﷺ، هذا النبي العظيم الذي رفع الله من شأنه، هذا النبي العظيم الذي أم الأنبياء والمرسلين في ليلة الإسراء والمعراج، هذا النبي العظيم الذي يرفع لواءه يوم القيامة فيكون جميع الأنبياء والمرسلين تحت لوائه، فهذا النبي نحن أنصاره، وكل مسلم هو نصير لنبيه ﷺ، ونسأل الله أن يثيبكم على أعمالكم ثوابا كبيرا.

- بارك الله فيكم شيخنا الكريم، أحسن الله إليكم

- وفيكم بارك الله، شكر الله لكم.

نشر في مجلة أنصار النبي ﷺ، سبتمبر 2022م

 •  0 comments  •  flag
Share on Twitter
Published on September 05, 2022 06:20

September 4, 2022

وأزواجه أمهاتهم..

ما إن يتكلم المسلم فيجري على لسانه لفظ "أمهات المؤمنين" حتى ينشأ في نفسه ارتباطٌ جديد خاصٌّ بالنبي ﷺ، وكما أن النبي أولى بنا من آبائنا وأنفسنا، فإن زوجاته أمهاتنا، وهذه علاقة قررها الله تعالى في قوله ﴿النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ﴾ [الأحزاب: 6]، ويسميها الشهيد سيد قطب "الأمومة الشعورية بين أزواج النبي ﷺ وجميع المؤمنين"، ومن هنا فإن حياة أمهات المؤمنين هي مما يزيد من الرابطة والعاطفة الخاصة بين المسلم ونبيه ﷺ.

ومن فوائد هذا أن أمهات المؤمنين كُنَّ إحدى العلامات الفارقة التي يتميز بها المسلم عن الكافر والضال والمبتدع! فالمسلم حقا هو من يشعر نحوهن بهذه الأمومة والتوقير والتبجيل، وأما غيره، فتشتعل في صدره الأحقاد والأغراض، وتدب في نفسه العقارب والمآرب، ويسعى في تشويه سيرتهن، أو تشويه سيرة النبي من بابهنّ!

وقد كان هذا قديما وحديثا، وتأمل هذا الفارق:

لما حوصر عثمان رضي الله عنه ذهبت إليه أم المؤمنين أم حبيبة تغيثه ببعض الماء والطعام، وما خطر في بالها أن الذين يحاصرونه يمنعونها، فهي أم المؤمنين، وهم إنما يزعمون لأنفسهم التقوى والإيمان، وأنهم ما خرجو على عثمان إلا لانحرافه عن بعض الدين! إلا أن هذا قد القناع الزائف قد سقط وانكشف، حين منعوها أن تصل إليه، وضربوا بغلتها وقطعوا الحبل بالسيف حتى كادت تسقط من فوقها! وهؤلاء الذين تمردوا على عثمان حتى قتلوه، هم أنفسهم الذين حاولوا اغتيال أم المؤمنين عائشة في موقعة الجمل، حتى صار هودجها كأنه القنفد من كثرة السهام والنبال!

بينما ترى المشهد الآخر عند علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وعند أهل الجمل، فمع أنهما معسكران متقاتلان، إلا أن كليهما كان حريصا على حياة أم المؤمنين عائشة، فأما أهل الجمل فقد استماتوا في الدفاع عنها وأحاطوا بجملها واستشهدوا تحته لكي لا يخلص إليها أذى، وأما علي بن أبي طالب رضي الله عنه فقد أرسل فرقة خاصة من جيشه، لاستنقاذها وكلَّف بذلك أخاها محمد بن أبي بكر وعبد الله بن بديل بن ورقاء.

فهنا ترى الفارق بين المسلم الذي يوقر أمهات المؤمنين ويحرص على حياتهن، وبين الضال المبتدع والكافر الحقود الذي يسعى في إيذائهن وقتلهن!

وامتدَّت هذه القاعدة منذ ذلك الزمن وحتى وقتنا هذا وإلى ما شاء الله! فلستَ ترى مسلما أو حتى منصفا إلا وهو يوقّر أمهات المؤمنين، ولست ترى عدوا للمسلمين إلا وهو يسعى في إيذائهن، سواءٌ أكان هذا العدو شيعيا رافضيا أو مستشرقا أو علمانيا أو ملحدًا.

لقد صارت أمهات المؤمنين من علامات الإيمان، فإنهن الطيبات اللاتي اختارهن الله لنبيه ﷺ، ووصفهن بقوله ﴿وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَاتِ﴾ [النور: 26]

***

وفوق ذلك، فإن المؤمن يشعر بنعمة الله عليه بأمهات المؤمنين –رضي الله عنهن- إذا تصوَّر أن لو لم يكن للنبي أزواج! فلو كان ذلك لخفيت علينا كثير من سنن النبي ﷺ في بيته ومع أزواجه، وكيف كان يتعامل مع رغباتهن وغيرتهن واعتراضاتهن، وكيف كان يغازلهن ويغار عليهن ويحتوي ما يقع بينهن من الأمور، وكيف يكون في خدمة أهله، ويتلمس في ألفاظهن وتعبيراتهن المعاني التي تنطوي عليها نفوسهن، وكيف أنه في استشارهن ونزل على رأيهن في أمور كبرى، بل كيف ترك لهن بعض الألغاز بعد وفاته كلغز "أسرعن لحاقا بي أطولكن يدا"، فلم يعرفن إجابة هذا ومعناه إلا بعد وفاته، فعلمن أن طول اليد كناية عن كثرة الصدقة.

إن من يطالع الأحاديث المروية عن عائشة -رضي الله عنها- وحدها، يُصاب بالصدمة إذا تصَوَّر أننا نفقد كل هذا العلم والثراء، فإنها معدودة في أكثر الرواة عن النبي ﷺ، كما قال الناظم:

والمكثرون من رواية الأثر .. أبو هريرة يليه ابن عمر

وأنس والبحر كالخدري .. وجابر، وزوجة النبيّ

أو كما قال الآخر

سبع من الصحب فوق الألف قد نقلوا .. من الحديث عن المختار خير مضر

أبو هريرة، سعد، جابر، أنس .. صدِّيقةٌ وابن عباس، كذا ابن عمر

فعائشة وحدها قد روت علما غزيرا عن النبي ﷺ، وكانت أعلم أمهات المؤمنين، ومن فقهاء الصحابة، هذا فضلا عما روته الأخريات كأم سلمة وزينب بنت جحش وجويرية بنت الحارث وصفية بنت حيي.. فلو لم يكن لهن من الفضائل إلا أنهن عرَّفننا بنبينا ﷺ وقرَّبن إلينا صورته وطبائعه وطريقته لكان ذلك منهن أعظم الفضل!

***

ومن العجيب الذي يدل على فساد بعض النفوس أن ترى المنصفين من غير المسلمين يوقرن أمهات المؤمنين، ويرون في سيرتهن دليلا على عظمتهن وعظمة النبي ﷺ، بينما حُرِم من هذه النعمة بعض من يزعم الانتساب إلى المسلمين.

يقول مؤرخ الحضارة ول ديورانت: "وكان النزاع يقوم في بعض الأحيان بين النبي  وبين أزواجه كما يحدث عند غيره من المسلمين، ولكنه كان على الدوام يعزهن، ويظهر لهن ولغيرهن من النساء المسلمات ما يليق بهن من عواطف طيبة، ويروى عنه أنه قال: إن المرأة الصالحة أثمن شيء في العالم".

ومن أعجب ما في هذا الباب أن ترى امرأة أوروبية غير مسلمة تنطق بالحق في موضوع مثل تعدد الزوجات، أقصد المستشرقة الإيطالية لورافيشيا فاجليري، والتي تقول: "أصر أعداء الإسلام على تصوير محمد شخصا شهوانيا ورجلا مستهترا، محاولين أن يجدوا في زواجه المتعدد شخصية ضعيفة غير متناغمة مع رسالته. إنهم يرفضون أن يأخذوا بعين الاعتبار هذه الحقيقة: وهي أنه طوال سني الشباب التي تكون فيها الغريزة الجنسية أقوى ما تكون، وعلى الرغم من أنه عاش في مجتمع كمجتمع العرب؛ حيث كان الزواج كمؤسسة اجتماعية مفقودا أو يكاد، وحيث كان تعدد الزوجات هو القاعدة، وحيث كان الطلاق سهلا إلى أبعد الحدود، لم يتزوج إلا من امرأة واحدة ليس غير، هي خديجة التي كان سنها أعلى من سنه بكثير، وأنه ظل طوال خمس وعشرين سنة زوجها المخلص المحب، ولم يتزوج كرة ثانية، وأكثر من مرة إلا بعد أن توفيت خديجة، وإلا بعد أن بلغ الخمسين من عمره، لقد كان لكل زواج من زواجاته هذه سبب اجتماعي أو سياسي؛ ذلك بأنه قصد من خلال النسوة اللاتي تزوجهن إلى تكريم النسوة المتصفات بالتقوى، أو إلى إنشاء علاقات زوجية مع بعض العشائر والقبائل الأخرى؛ ابتغاء طريق جديد لانتشار الإسلام، وباستثناء عائشة ليس غير، تزوج محمد من نسوة لم يكنّ لا عذارى، ولا شابات، ولا جميلات، فهل كان ذلك شهوانية؟".

وثمة كاتب آخر من بين الجميع يستحق وقفة خاصة، بل لا يسمح المقام سوى بإشارة عابرة، ذلك هو الكاتب القبطي المصري د. نظمي لوقا، وهو أستاذ في الفلسفة وشاعر وأديب ومترجم، ذلك الرجل الذي ظلمته الكنيسة لأنه أنصف الإسلام، وظلمته دولة العسكر العلمانية لأنها تراعي خاطر الكنيسة، ولم ينتبه إليه المسلمون في غمرة ما هم فيه من الهموم التي تجعلهم لا ينتبهون لبعض أعلام المسلمين أنفسهم.

كتب نظمي لوقا ثلاثة من الكتب عن الإسلام هي من أرقى وأجمل ما يُكتب، منها كتابه "محمد في حياته الخاصة"، الذي تركز على تبرئة النبي ﷺ من الشبهات المثارة حول زواجه وزوجاته، فأخذ يروي قصة كل زواج ودوافعه ومعانيه بعقل ذكي وقلم عبقري، ومن بديع ما قاله في هذا:

-      "ربع قرن من الزمن، هي فترة الشباب العارم والرجولة الفتية، ولم يكن فيها زوجا للعدد العديد من الحريم، بل كان بعل امرأة واحدة هي خديجة، وذلك في البيئة لا تعرف إلا التعدد الذي لا حصر له".

-      "لو كان محمد أخا مجانة لكان أول ما يتشدقون به من المطاعن عليه حين نهض يدعوهم إلى عبادة الله، وما ينبني عليها من التعفف والاستقامة والطهر، أن يتصايحوا: ما هذا الذي خرج علينا به محمد ﷺ من الدعوة إلى العفة، وهو الذي عهدناه كذا وكيت؟! ولكنها لم تخطر ببالهم على كثرة ما رموه من البذاء، لسبب واحد لا يُعقل سواه، أنه كان في سلوكه الشخصي على نقيض ذلك، وكان مشهورا بالتزام العفة والطهر والبعد عن الشبهات، فالفجور في عصر الفجور لم يكن شيمة محمد، ولم يكن مكلفا بعد برسالة".

-      "لقد كان بيده أن يجعلها (جويرية بنت الحارث) من نصيبه من السبايا، وكان بيده وقد راقته أن يجعلها في ملك يمينه بشرائها من قيس بن ثابت، ولكن المسألة كانت أكبر وأجل من فتاة راقت رجلا فتمناها؛ لأن المسألة كانت مسألة فتح مبين، وتألف قلوب، وانتشار دين، ثم هي فضلا عن هذا مسألة نخوة لا نزوة".

-      "كان بيده أن يجعلها (صفية بنت حيي) أَمَةً من إمائه، لو أنه كان ينظر إلى متعة، ولكنه حررها وتزوجها لتكون لها عزة بعد ذلة، وهو الذي طالما أكرم عزيز قوم ذل، ولكي يعلم من لم يعلم بعد أن محمدا يجبر القلوب الكسيرة، ويعفو عند المقدرة، ويأسو ما جرحه مضطرا".

وبعد أن استعرض سائر الزيجات، وتوقف مليا عند قصتي عائشة وزينب لما فيهما من الكلام الكثير الذي اتكأ عليه المغرضون، ثم خرج بهذه الخلاصات:

-      "هؤلاء زوجاته اللواتي بنى بهن وجمع بينهن، لم تكن واحدة منهن هدف اشتهاء كما يزعمون، وما من واحدة منهن إلا كان زواجه بها أدخل في باب الرحمة وإقالة العثار والمواساة الكريمة، أو لكسب مودة القبائل وتأليف قلوبها بالمصاهرة، وهي بعد حديثة عهد بالدين الجديد".

-      "ما كان من الهين على رسول قائد جيش وحاكم دولة محاربة أن يزيد أعباءه بما يكون في بيت كثير النساء من خلافات على صغائر الأمور، ولكنه الواجب؛ واجب الدعوة، أو واجب النخوة، وشتان ذلك وما يتشدقون به من أمارة النزوة".

-      "إن النهج الصحيح في فهم أعمال كبار الرجال أن نتصورهم في ضخامتهم وفي عناصر تكوينهم النفسي، وعلى ضوء هذا التصور نتخير من الدوافع المختلفة الممكنة للعمل الواحد من أعمالهم ما يتفق وشخصيتهم"

-      "فليقل من شاء ما يشاء! ولكن لا حيلة في نسبة محمد إلى الوفاء غاية الوفاء، إلى وفاء يكاد يجعلني أشك في بشريته، وأنا الذي جربت من فنون التنكر والمروق ما أوشك أن يقضي على ثقتي بسائر خلق الله من أبناء آدم وبنات حواء".

***

لقد كانت سيرة النبي ﷺ مع زوجاته الطاهرات أكبر دليل نرفعه في وجه العالمين لنحدثهم عن مكانة المرأة في ديننا، لا سيما وقد بُعث النبي في قوم لا يكرمون المرأة ولا يرون إلا أنها شيء كغيرها من الأشياء، ولكنهم حين نزلت عليهم أوامر الله في شأن النساء التزموها كأن لم يكونوا يهينونها من قبل!

فأمهات المؤمنين هن النماذج الحية التي شرحت للمرأة المسلمة، ولغير المسلمين جميعا، طبيعة المرأة ودورها في هذه الحياة ومكانتها في هذا الدين، وبيَّنت لها حقوقها وواجباتها!

وأمتنا تنفرد في هذا عن بقية الأمم، فعيسى لم يتزوج النساء، وأتباعه ابتدعوا الرهبانية التي لا يطيقها أكثر الناس، بل لقد غزت الشهوانية رهبانهم وصار لهم في كل يوم فضيحة وفضائح. كذلك لا يكاد يثبت شيء من أخبار الأنبياء مع زوجاتهن. فسيرة أمهات المؤمنين عندنا هي مزية أخرى نفتخر بها ونرتفع.

فرضي الله عن أمهات المؤمنين جميعا.

نشر في مجلة أنصار النبي 


سيد قطب، في ظلال القرآن، 5/2819.

أحمد بن حنبل، فضائل الصحابة، (799) بإسناد صحيح كما قال محققه وصي الله عباس؛ الطبري، تاريخ الطبري، 2/672، 673.

خليفة بن خياط، تاريخ خليفة بن خياط، ص190؛ الطبري، تاريخ الطبري، 3/53، بإسناد حسن، انظر: عبد الحميد فقيهي، خلافة علي بن أبي طالب، رسالة دكتوراة، ص138 (الملحق).

ابن أبي شيبة، المصنف، (37831)، بإسناد جيد، انظر: ابن حجر، فتح الباري، 13/57.

ول ديورانت، قصة الحضارة، 13/64.

لورافيشيا فاجليري، دفاع عن الإسلام، ص99، 100.

أنقل هذه العبارات باختصار يُلزم به المقام، من كتابه "محمد في حياته الخاصة"، والذي أرجو أن يعود إليه القراء ليستمتعوا بما فيه.

3 likes ·   •  0 comments  •  flag
Share on Twitter
Published on September 04, 2022 21:30

September 3, 2022

في ذكرى تحرر أفغانستان: نظرة وعبرة

 


في الليلة الظلماء يُفتقد البدر، وفي زمن الهزيمة يُفتقد النصر..

وفي زمن هزائمنا المتتالية تألق هذا الشعب الأفغاني الباسل الصبور ألمع ما يكون التألق، فأنزل الإمبراطوريات الثلاث الكبرى من فوق عروشها: الإنجليز والروس ثم الأمريكان..

ولئن كان المسلم يفرح بالكلمة يقولها العدو المهزوم في كل وقت وعصر، فإن هذه الفرحة تتضاعف في زمن القهر والضعف، ولك أن تنظر في رئيس وزراء الإمبراطورية التي كانت لا تغيب عنها الشمس، هارولد ماكميلان، وهو يلخص تجربة بلاده فيقول: "القاعدة الأولى في السياسة: لا تغزو أفغانستان".

وفي الوقت الذي كان الاتحاد السوفيتي هو الوحش الذي يسيطر على نصف العالم الشرقي، والذي لم يكن أحد يشك في سهولة ابتلاعه لأفغانستان، إذ بالأفغان يسحبون هذا الوحش من عليائه ليكتبوا الفصل الأهم في قصة نهايته، وحتى هذه اللحظة يرسم المُنَظِّر الروسي مصالح بلاده ومستقبلها اعتمادا على درس الهزيمة الروسية على يد الأفغان، يقول: "المنطق الجيوبولتيكي يُظهر أنه سيكون حتما على روسيا أن تعود إلى أفغانستان، على الرغم من أنه كان أفضل بكثير أن تعود في صورة حليف وفيّ، حامٍ وصديق، من أن تعود في صورة جلاد غليظ القلب، فوصول روسيا إلى البحار الدافئة يمكن التوصل إليه ليس فقط عن طريق الحرب الدامية، بل ومن خلال سلام عقلاني مفيد للمصالح الجيوبولتيكية لجميع الدول القارية".

وهذا كيسنجر، ثعلب السياسة الأمريكية ودهقانها، يكتب في لحظة انتشاء، "تبين أن التحذيرات الأولية حول تاريخ أفغانستان بوصفها "مقبرة الإمبراطوريات" بلا أساس. فبعد عمل سريع قادتْه قوات أمريكية بريطانية وأفغانية حليفة تمَّت إطاحة الطالبان وإخراجه من السلطة"، ومع أنه نسي الآخرين وهم كثير فلا أدري كيف لم يشعر بالحرج وهو يفخر بانتصار كهذا شارك فيه كل هؤلاء ضد حركة صغيرة فقيرة في بلد صغير فقير؟! المهم أن الله أبقاه حيا حتى رأى بعينيه فساد نبوءته وصحة سنة التاريخ، ليخرج الأمريكان من أفغانستان!

كان كيسنجر سيئ الحظ، وكان الحظ السيئ نصيب بريجينسكي، الذي شغل أيضا منصب مستشار الأمن القومي الأمريكي، لقد مات بريجينسكي قبل أن يرى الانسحاب الأمريكي الأخير من أفغانستان، وكان قد كتب قبل موته يقول: "تمثلت العواقب بتدهور درامي مثير لمكانة أمريكا العالمية، وبتبدد تدريجي لمشروعية صدقية أمريكا على الصعيد الرئاسي، وبتضاؤل ذي شأن لتماهي حلفاء أمريكا الذاتي مع أمن أمريكا".

منذ زيارته الأولى لأفغانستان، أحسَّ وزير الدفاع الأمريكي روبرت جيتس بالإخفاق، وكتب في مذكراته يقول: "كان ذلك تذكيرا قاسيا لي بقدرتنا المحدودة على التنبؤ بالمستقبل، أو استشراف التبعات غير المقصودة لأفعالنا. كان ذلك ما جعلني حذرا للغاية حيال إرسال القوات المسلحة (الأمريكية) إلى أماكن جديدة"، فهذا من فضل أفغانستان على هذه الأمة، لقد صار رئيس أقوى جيوش التاريخ حذرا من حروب أخرى بفعل ما لقيه على يد أولئك الطالبان! بل إنه اعتبر أن أي وزير دفاع أمريكي سينصح في المستقبل بإرسال قوات إلى الشرق الأوسط وآسيا، مجنونا يجب إخضاعه لفحص قواه العقلية!

إذن، هكذا أخفقت الحرب التي قال عنها الرئيس الأمريكي قبل أن تنطلق: "لا يمكن أن نفشل، فهذه الحرب مختلفة عن أي حرب أخرى في التاريخ"، وهي التي احتشد لها من الجيوش والقوى والعملاء المحليين ما لم يحتشد مثله في التاريخ.. تبدد هذا كله في أرض الأفغان!

نعم، الشعور بلذة الانتصار وتذوق طعم التحرر هو من حاجات البشر، وهذه الحاجة تتضاعف عند الأمة المغلوبة، ولا يمكن توجيه اللوم لرجل أطال الجلوس إلى الطعام بعد شدة الجوع، أو أخذ يعب من الماء بعد طول ظمأ.

لكننا لا نملك ترف الوقوف طويلا لنتذوق طعم النصر، فإن التحديات التي تتبعه أثقل بكثير وأطول بكثير، إن التحرر هو غاية كل شعب محتل، ولكنه أيضا هو بداية كل شعب يطلب ألا يُحْتَلَّ مرة أخرى، ومثلما بذل الأفغان ثمنا عظيما قبل التحرر، فإنه ينتظرهم ثمنٌ أعظم بعد التحرر!

إن أفغانستان، مثل أمتنا، تقع في المنطقة الوسطى بين المشاريع الكثيرة المتحاربة والمتضاربة، من مزايا أمتنا العظيمة أننا نتوسط هذا العالم، ولو أن أمتنا كانت دولة واحدة فإنها تكون أقوى دول العالم بلا شك، إنها تسيطر على الموارد الكثيرة، وتسيطر على الممرات البرية، وعلى المضايق البحرية، ولا تستطيع أمة في هذا العالم أن تتواصل أو تتاجر مع أمة أخرى دون إذن هذه الأمة الإسلامية.

وهذا الموقع الخطير في قلب العالم، مثلما يعطينا قوة هائلة في لحظة القوة، فإنها يكون تحديا عظيما في لحظة الضعف، ومن ثمَّ فلا خيار، فإما أن تكون قويا، وإما أن تكون مسرحا يتحارب عليه الأقوياء من حولك!

وأفغانستان صورة مصغرة من هذا الوضع، إنها تقع دائما في قلب الأحلام والخطط والمشروعات الأمريكية والروسية والصينية والهندية والإيرانية، وهذا يجعلها دائما في قلب الخطر، ويجعلها دائما في حاجة لكل طاقة ومجهود في أي مجال! ذلك كله يلقي عبئا كبيرا على الإمارة الإسلامية التي ستحتاج إلى إدارة الكثير من المعارك المتضاربة، وإدارة القليل من الموارد الموجودة، لتحقق أفضل النتائج!

إن الشعب الذي أسقط القوى العظمى من عروشها، ببسالة وصمود منقطع النظير، بقي أمامه أن يثبت قدرته على النمو والنهوض في السِّلم، ربما لن يتجرأ أحد في المدى القريب لتكرار تجربة الغزو، ولكن التاريخ والسياسة مليئتان بالحمقى الذين يحبون أن يكرروا التجارب! أولئك الحمقى لا تردعهم التجارب ولا يقرؤون التاريخ عادة، ولهذا فهم حاجة إلى نوع آخر من الردع: ردع القوة الحاضرة القائمة!

هذه القوة الحاضرة القائمة لا تظهر إلا ببذل المجهود الأعظم في تقوية الدين والإيمان واليقين في الإسلام، فذلك هو ما يفجّر طاقة المرء وطاقة المجتمع فيجعله يبذل غاية وسعه وهو يرجو بذلك وجه الله واليوم الآخر! لا تستطيع الرواتب المجزية والأموال الكثيرة أن تستخرج من الإنسان كل طاقته مثلما يستخرجها الإيمان العظيم.

وهذه القوة الحاضرة القائمة لا تظهر إلا ببذل المجهود الأعظم في تلاحم الشعب الأفغاني، وإزالة ما عنده من أسباب الفرقة والانقسام، لقد كانت هذه الفرقة هي الثغرة الكبرى التي ينفذ منها العدو، وقد حقق بها الإنجليز والروس والأمريكان ما لم يكونوا يستطيعون تحقيق عُشْرِه بسلاحهم وعتادهم. ثمة مجهود ضخم يجب بذله في توثيق الروابط وتمتين العرى بين الأفغان، ثم بين الأفغان وإخوانهم من الشعوب الإسلامية: الأقرب فالأقرب. والتجربة الأفغانية شاهدة على أن قوة الترابط الإيماني قد وفَّرت للأفغان من الإمكانيات والفرص ما لم يكن يمكن بلوغ عُشْره لو انفرد أهل البلد بأنفسهم في مواجهة هذه القوى الكبرى.

ثم إن هذه القوة القائمة الحاضرة ستحتاج سياسة كبيرة ودقيقة في إنشاء العلاقات والتحالفات مع الدول المحيطة ثم الأقرب فالأقرب، كما ستحتاج مجهودا ضخما في نشر التعليم وبناء الاقتصاد والاهتمام بالبحث العلمي، البحث العلمي الذي ينصبُّ أول ما ينصبُّ على تصنيع السلاح، فإنه لا شيء أنفع للمسلم ولا لمجتمع المسلمين بعد قوة إيمانهم وترابطهم من قوة سلاحهم. هذه القوة هي التي تحيل الأمة من فريسة إلى ندٍّ وشريك، كما تحولها من ندٍّ وشريك إلى قوة مُهابة يُرتجى ودّها ويُبْتَغى التحالفُ معها!

هنئيا للأفغان البواسل ذكرى تحررهم، ونسأل الله أن نراهم في العام القادم وقد صاروا خطوات كبيرة على طريق التمكين والقوة.

نشر في مجلة الصمود، العدد 199

المجلة الرسمية الناطقة باسم الإمارة الإسلامية في أفغانستان


أحمد موفق زيدان، صيف أفغانستان الطويل، ص6. والترجمة الحرفية للكلمة: "بني العزيز، ما دمت لا تغزو أفغانستان، فأنت في خير حال"، وهي موجهة من هارولد ماكميلان لخلفه في رئاسة الوزراء أليك دوغلاس هوم، بتاريخ أكتوبر 1963م.

ألكسندر دوغين، أسس الجيوبولتيكا، ص217، باختصار. وأعاد التأكيد على هذا في ص410.

هنري كيسنجر، النظام العالمي، ص311.

زبيجنيو بريجينسكي، رؤية استراتيجية، ص85، باختصار.

روبرت جيتس، الواجب، ص241.

كونداليزا رايس، أسمى مراتب الشرف، ص117.

1 like ·   •  0 comments  •  flag
Share on Twitter
Published on September 03, 2022 11:40

August 8, 2022

ردٌّ على عتاب الإخوان، في غروب الإخوان!

تلقيتُ سيلا من العتاب الرقيق من بعض الأصدقاء والإخوان الفضلاء، مغمورا بسيل آخر من السباب والاتهامات ممن لا يعرفني أو يبغضني، عن التغريدة التي كتبتُها منذ أسبوع، والتي قلت فيها:

"محمود حسين وإبراهيم منير كانا يدًا واحدة في تدمير جماعة #الاخوان_المسلمين وإفسادها.. ثم وقع بينهم الخلاف فاتخذ كلٌّ منهما مذهبا منفردا في التدمير والتخريب!! أشفق حقا على بعض الأفاضل هربوا من مذهب حسين، فاضطروا للوقوع في فخ منير! اللهم أحسن دفن هذه الجماعة! وعوض الأمة خيرا منها!"

ومع تكرر العتاب، وجدتني مُلْزَمًا بكتابة توضيح لبعض الأمور، أكتبها لإخواني وأصدقائي الفضلاء وحدهم، وأما البقية فلا آبه لهم، ولعل الله أن يهديهم أو يكف شرهم، أو نلتقي يوم القيامة فيقضي بيننا بالحق وهو خير الفاصلين.

هذه التغريدة إنما كتبتها بعد تصريح إبراهيم منير، القائم بأعمال المرشد، حيث صرَّح الرجل الذي جاوز الثمانين من عمره، أن منهج الإخوان يرفض العنف رفضا تاما، بل يرفض أي صراع على السلطة حتى مع الأحزاب السياسية!

ولو أنني أقسم على الغيب، لأقسمت أن لو بُعث حسن البنا فسمع هذا التصريح، لما خطر بباله قط أن إبراهيم منير يتكلم عن جماعة هو مؤسسها، ومن نكد الأيام أن يحتكر الحديثَ عن منهج الإخوان أمثال محمود حسين وإبراهيم منير، فما هما بأهل فكر وتنظير وشرح وتفسير، فيؤهلهما هذا للحديث عن المنهج بله القضاء به والفصل فيه! ثم إن الأيام قد أشهدتنا على مؤهلاتهما العملية، فالأول قد دمّر التنظيم في مصر حتى انشق ثلاثا أو أربعا وغادرته أكثر القواعد، والثاني قد دمَّر التنظيم في العالم، فما ترى بلدا إلا وانشق الإخوان فيه، تحت قيادته "الحكيمة جدا" التي جاوزت أربعين سنة!

أكثر ما يستفزُ في تصريح إبراهيم منير أنه إعلان انسحاب بلا ثمن! وبدلا من أن يجعله إعلان انسحاب تقتضيه الظروف، إذ به يجعله من صميم المنهج، فإما أن الإخوان طوال عمرهم كانوا مخطئين وهم يخوضون في السياسة وينافسون عليها حتى بلغوا منصب الرئاسة، وإما أن الرجل الثمانيني يهرف أو يخرف! وما ذلك عليه ببعيد!

ومما يستفز في كلامه أيضا حديثه عن أن عدد المعتقلين من الإخوان حوالي خمسة أو ستة آلاف، فلو صدق قول المنافقين له من أنه إنما يصنع هذا لإخراج المعتقلين، فالمعنى هنا أنه ضحى بالشطر الأكبر من المعتقلين الذين يقاربون المائة ألف معتقل! من الإخوان ومن غير الإخوان! وكفى بهذا نذالة وغدرا!

فإذا وضعنا كل هذا الاستفزاز جانبا، فإن الأدهى من ذلك، وهو المُرَجَّح أيضا، أن إبراهيم منير يعيد تفعيل وثيقة كتبها أحد الباحثين الدولتيين (والدولتي في أصدق التعريفات: هو الذي يرى عبادة الدولة والخضوع لها وطنية، والوطنية عنده دين، بل هي فوق الدين)، تقول خلاصة هذه الوثيقة: على الإخوان العمل على دعم النظام، لا مجرد الاعتراف به، وإسناده ضد المتطرفين، مقابل تخفيف النظام لقبضته عنهم والقبول بعودتهم فرادى من جديد.

كنت أشرت إلى هذه الوثيقة في منشور قبل عامين (انظر هنا: ..... )، ولكن النظام أهملها كعادته في إهمال كل المبادرات، وهنا يظهر السؤال: فلماذا يعود الحديث عنها من جديد؟ الجواب والله أعلم أن هذا جزء من ترتيب المشهد الإقليمي الذي يبدو كأنه يتمهد لشن حرب على إيران، وفي هذا الإطار يجب تهدئة الأوضاع الداخلية. وهذا الجواب يدعمه ما يتسرب عن مجهودات سعودية وقطرية لوصل ما انقطع بين النظام والإخوان، وبين النظام المصري والتركي، واستثمار ما يملكه الإخوان من رصيد شعبي وطاقة في سبيل هذه الحرب، أو على الأقل أن يكون الإخوان بمثابة الإسفنجة التي تمتصُّ أي طاقة ثورية قد تفجرها ظروف الحرب والأزمة، فإما أن يكون الإخوان ضد أي حراك متوقع، أو على الأقل أن يمارسوا التخذيل والتثبيط له.

ومع هذا، سأعتبر أن كل كلامي هذا خطأ في خطأ، وأنه هواجس تدور برأسي، دعونا نقول: لا أعرف ما المناسبة ولا السبب التي جعلت بعض أطراف النظام أو الإقليم تسعى في استخلاص تنازل جديد من الإخوان.. سيبقى السؤال قائما إذن: ما الداعي لهذه التصريحات إذن إلا أن تكون تنازلا جديدا بغير ثمن؟!

يقول بعض منافقي إبراهيم منير: أنه أزال فزاعة عودة الإخوان التي يرفعها النظام في وجه المجتمع الدولي، وأنه بهذا ألقى الكرة في ملعب النظام وملعب المجتمع الدولي.. هذا الهراء أتعفف وأترفع من مناقشته! فلو كان لدى النظام أو المجتمع الدولي شبه نية أو تفكير في الأمر لكانوا قد تلقفوا عشرات العروض والمبادرات القديمة للبناء عليها!

إخواني الأفاضل الذين عاتبوني..

شعرتُ أحيانا أن تغريدتي هذه كأنها تملك القدرة على الدفن أو الإحياء، وليست مجرد وصف وتوصيف للحال البائس الذي انتهت إليه الجماعة، بل والله إنها لدعاء بحسن الخاتمة!

لا يملك أحدٌ يخلص النصيحة لأهله وقومه إلا أن يكفَّهم عن السير وراء هذه القيادات، إبراهيم منير ومحمود حسين سواء بسواء، فهذا ليس إلا إهلاكا للوقت والجهد والمال والموارد، إنه تضييع حقيقي للأعمار في طريق ليست فيه ثمرة ولا نتيجة! وهذا الكلام أقوله منذ قديم وليس جديدا علي.. ولقد توقفت عن الكلام في شأن الإخوان كله هذه السنين الماضية، لأنه بالفعل لا فائدة ترتجى منهم.. لكني أرى الآن محاولة لإعادة توظيف الجماعة في خدمة النظام وإسرائيل.

نعم، ربما تضطر الحركات لبعض التنازلات، وربما تتساوق مع رغبة دولة إقليمية لأنها تأخذ في المقابل مصلحةً ما، نعم.. تضطر الحركات أحيانا لتكون جزءا من مشروع غيرها لأنها تكتسب بهذا مساحة في مشروعها هي. يحدث هذا في الحركات التي تمتلك قيادة ذكية وصلبة وصبورة ولها القدرة على المفاوضة والمناورة والاستفادة بالأحداث..

أما محمود حسين وإبراهيم منير، فكيف؟! كيف وقد أثبتت الحوادث الماضية –لا التحليل ولا الاستنتاج- أنهم قد دمّروا الجماعة ومزقوها بالفعل.. وهذا إبراهيم منير اعترف بلسانه أنه كان في الستينات يكتب التقارير لأمن الدولة في إخوانه، وهذا وقت أن كان في شرخ الشباب، في العشرينات من عمره، ثم اعترف بلسانه قبل ستة أعوام أمام مكتب شورى تركيا بأنه يقدم تقريرا عن الجماعة للمخابرات البريطانية، وقد نشر ثلاثة من أعضاء هذا الاجتماع كلامه هذا على العام، ولم يكذبه هو!

هل يحسب الإخوة الفضلاء الكرام أن إبراهيم منير أو محمود حسين لديهما من المؤهلات والكفاءة ما يُمَكِّنهما من إدارة تفاوض حقيقي مع أجهزة الإقليم للحصول على مكاسب حقيقية مقابل تنازلات جديدة؟!

في مذكرات جورج تينيت، مدير المخابرات المركزية الأمريكية الأسبق، تحدث عن أنهم كانوا يستشعرون بخطر ما قبيل أحداث سبتمبر، وذكر أنهم حركوا عددا من المصادر لتقصي الأمر. ما يلفت النظر هنا أنه ذكر أنهم بعثوا عشرين مصدرا كلهم لا يعرف أنه يعمل لحساب المخابرات الأمريكية لاستطلاع الأمر. عشرين مصدرا في أجهزة مخابرات وطنية، كل واحد فيهم يظن أنه وطني يعمل لحساب وطنه في مصر أو السعودية أو الأردن، بينما هو في الواقع يعمل لصالح المخابرات الأمريكية!!

كيف يمكن أن نتخيل الصورة حين نرى أسرابا من الشباب وأهل الفضل يبذلون جهدهم وطاقتهم وأموالهم، يظنون أنهم يعيدون إحياء الجماعة، بينما هم في واقع الأمر جنودٌ في خطة أجهزة المخابرات؟! أليس من الواجب حينئذ أن نحذر من هذا المصير؟!

نحن الآن لو سألنا الإخوان: أيهما كان أفضل للإسلام وللأمة وللمشروع الإسلامي، أن يوجد حزب النور والدعوة السلفية أم أن يزولا؟.. فلا شك أن الجواب: زوالهما أفضل، فقد كان وجودهما عبئا على الأمة والإسلام والتجربة الإسلامية، واستثمر النظام هذه اللحى وهؤلاء الأتباع في ترسيخ انقلابه.

فلو سألنا الإخوان أيضا: أيهما كان أفضل للإسلام وللأمة وللمشروع الإسلامي، أن توجد الجماعات القتالية أم أن تزول؟.. فلا شك أن الجواب: زوالهم أفضل، فقد شوهوا الإسلام وخربوا البلاد وقطعوا الطريق على الإسلام المعتدل وأعادونا عشرات السنين إلى الخلف.

وإذن، فهذه الإجابات تدلُّ على أن مجرد وجود جماعة ما ليس بالضرورة أن يكون في صالح الإسلام، بل إذا لم تكن تلك الحركة مفيدة ومُسْهِمةً في نهضة الأمة فزوالها أفضل!

فإذا وسَّعنا دائرة النظر قليلا، وسألنا إسلاميا ثوريا: أيهما كان أفضل للمغرب؟ أن يوجد حزب العدالة والتنمية في لحظة الربيع العربي هناك أم أن زواله كان أفضل؟.. لا شك في هذا الثوري الإسلامي سيجيب: كان زواله أفضل، لقد استعملهم الملك استعمالا ممتازا لصدّ الموجة الثورية، ثم ورطهم في فضائح خالدة كقوانين فرنسة التعليم والحشيش والتطبيع مع إسرائيل، ثم ألقاهم بعيدا.. كانوا مجرد مصدَّةٍ بينه وبين الشعب، ثم قفازا في القوانين السيئة، ثم تخلص منهم!

والآن، وبعد كل المصائب التي حصلت في مصر، هل بقي رصيد للثقة في هذه القيادات؟.. هذه القيادات التي كانت تملك ما لو امتلكه غيرها لما فكّر أحدٌ في منافستهم على السلطة في مصر، فضلا عن أن يفكر في الانقلاب عليهم!!

في كتابه "الوطنية الأليفة" يتحدث تميم البرغوثي عن النخبة "الوطنية" التي جاء بها الاستعمار لتكون قشرة وطنية للحكم الاستعماري، فكان على هذه النخبة "الوطنية" أن تقوم بدوريْن متناقضيْن في وقت واحد لتحافظ على مصالحها: كان يجب عليها أن تثبت للمحتل أنها الأقدر على تهدئة الوضع والسيطرة على الشعب، في الوقت الذي تثبت فيه للشعب أنها الأقدر على استخلاص حقوقه وتحريره بما لديها من المهارة والكفاءة والسياسة والكياسة!

طبعا، فشلت النخبة في مهمتها، وعادت فوائدها على الاحتلال وحده، وخسر الشعب الفرص الكثيرة جراء ثقته في هذه النخبة، واستطاعت النخبة أن تحافظ على مصالحها الضيقة: النفوذ والأموال والجاه والمركز الاجتماعي!

ومن قرأ روايات نجيب محفوظ عن مصر ما قبل يوليو 1952، فسيجد تكرارا لهذا المعنى: إن حزب الوفد لا هو يستطيع الحصول على الاستقلال، ولا هو يترك الطريق لغيره ليحاول. هذا المعنى كان يتردد دائما على ألسنة الوطنيين من حركات الإخوان ومصر الفتاة والشيوعيين.

وهذا نفسه نفسه، هو حال الإخوان اليوم، الجماعة التي تعجز عن فعل شيء، ولكن الأنظمة تبقيها حية لتستفيد بها، بل تأتي بها في لحظة الأزمة لتمارس الهدوء.. هل تصدق عزيزي القارئ أن الإنجليز فرضوا أن يتولى حزب الوفد الحكم سنة 1942م، وحاصروا قصر الملك بالدبابات ليخضع لهم.. لماذا وهم في الظاهر أعداء؟.. الجواب: لأن الإنجليز في خضم الحرب العالمية الثانية كانوا يريدون الهدوء في مصر!

إن الاختراق الأمني للحركات ظاهرة لا شك فيها، ولم تخلُ حركة من اختراق ما، دفعت به ثمنا عظيما وفادحا. ولن تجد حركة إلا وتتحدث عن الأخرى باعتبارها مخترقة أمنيا أو حتى باعتبارها صنيعة أمريكية، هكذا تقول كل جماعة عن الأخرى، دون أن يلتفت بعضهم لحركته وجماعته! لدى كل جماعة مجلد من أخبار الحكايات التي تدل على الاختراق الأمني للآخرين، ويتأول كل واحد منها لنفسه ما يتسرب عن التعاملات الأمنية لقيادته!

ولا يهمني الآن من يتأول لنفسه ولقيادته، فكلُّ واحدٍ سيقف أمام الله، لكن الذي يهمني الآن أنه من الواجب عليّ أن أحذر من اتباع هذه القيادات التي أقل أحوالها الغفلة، وهي ليست بريئة عن الخيانة، فإن لم يكونوا متواطئين عن قصد، فإنهم متورطين عن انخداع!

فكيف يرى المرء مثل هذا المشهد ثم يكون عليه أن يسكت لئلا ينزعج منه إخوانه؟!

لئن انزعجوا الآن ثم حمدوا هذا غدا، فهو خير من أن يحمدوا سكوتي الآن ثم يبغضوا ذلك غدا.. ولقد وجدت في هذه السنوات القليلة أن بعضهم كان يلوم ويعاتب بل يصرخ في وجهي أني لم أكن أبذل مزيدا من الجهد في التحذير من الانقلاب، هذا وقد بذلت آخر ما في طاقة كاتب لا يملك إلا قلمه ونصحه، وبعض هؤلاء الذين عاتبوني بعدها كانوا يشتمونني قبلها.. ولست الآن بغاضب.. ولكني أقول: إذا كان كلامي المزعج هذا لن يأتي بثمرته، بل سيأتيني بعداوة صديق، فعداوته اليوم ثم محبته غدا أحب إلي من محبته اليوم وعداوته غدا! وفي النهاية: فلو أنني أكتب لوجه أحد من الناس لكنت الآن في حال آخر! فأسأل الله أن يرزقنا العمل له والإخلاص له وحده وأن يميتنا على ذلك.

وليس شرطا أني أملك البديل، إن مجرد التحقق والتأكد من أن هذا الطريق لن يوصل إلى شيء يلزمني بنصيحة من أحب ألا يسيروا فيه، حتى لو كنت لا أملك البديل، أو لم يكن البديل قد ظهر بعد. وأنا حين أدعوا الله بإحسان دفن هذه الجماعة فهذا والله خير من أن تتورط الجماعة في العمل ضد الأمة وضد المسلمين وتختم مسيرتها بهذه الشنيعة الفاضحة!

لم يزل في الصدر كلام.. ولكن عسى ما مضى أن يكون كافيا!


1 like ·   •  0 comments  •  flag
Share on Twitter
Published on August 08, 2022 13:39

August 5, 2022

ثلاث وقفات كبرى في ذكرى الهجرة

 

رغم شدة تعلق المسلمين بنبيهم ﷺ وحرصهم الشديد على تتبع سائر أموره، إلا أنهم حين اختاروا التأريخ لأنفسهم لم يختاروا تاريخ مولده ولا بعثته ولا وفاته، وإنما اختاروا تاريخ هجرته، ذلك أن الهجرة هي مولد الأمة، وهي انبعاث الأمة، وهذا هو التحقق العملي لرسالة نبينا ﷺ، فإنما وُلِد النبي وبُعث ليقيم الإسلام ويُخرج أمة ويؤسس دولة!

فالهجرة هي اللحظة العظمى في تاريخ الإسلام، فما قبلها هو خلاف ما بعدها، إنها لحظة الانتقال الكبير من الدعوة إلى الدولة، من الضعف إلى القوة، من الاضطهاد إلى التمكين.. ولولا الهجرة لما قامت دولة الإسلام ولا نهضت حضارته ولا أشرقت شمسه على العالمين!

الهجرة هي اللحظة التي تقف في حلوق العلمانيين لأنها تثبت أن الإسلام ليس مجرد دعوة وأن النبي ﷺ ليس مجرد داعية، بل الإسلام دولة والنبي زعيمها وقاضيها ومفتيها..

وبالهجرة يظهر أن النبي ﷺ ليس مجرد خطيب وإنما هو مقاتل ومُنَفِّذٌ للشريعة فهو يقيم الحدود ويطبق العقوبات ويفصل في المنازعات..

وبالهجرة يتجلى أن النبي ﷺ ليس مجرد صالح بل هو مصلح! وليس مجرد مصلح بالبيان والكتابة والفصاحة والنداء، بل هو مصلح بالعمل والتأسيس وإقامة السياسة والأمن والحرب والاقتصاد وسائر وجوه الحياة..

أليس مثيرا للتفكير وباعثا على التأمل أن أتباع النبي ﷺ انقسموا على ميزان الهجرة، فهؤلاء مهاجرون وهؤلاء أنصار! فالذين اتبعوه قبل الهجرة هم المهاجرون، والذين اتبعوه بعد الهجرة هم الأنصار! ولما تنافس الصحابة على سلمان الفارسي، وهو حالة ملتبسة من الهجرة والنصرة، قال المهاجرون: سلمان منا معشر المهاجرين، وقال الأنصار: سلمان منا معشر الأنصار. فإذا بالنبي يرفع سلمان فيقول: سلمان منا آل البيت!.. وتأمل في قوله ﷺ: "لولا الهجرة لكنتُ امرءا من الأنصار، ولو سلك الناس شِعْبًا وسلك الأنصار شِعْبا لسلكت شِعْبَ الأنصار"!

فتأمل كيف كانت الهجرة أمرا فاصلا تمايز به المسلمون في مقامات نصرة النبي ﷺ واتباعه!

الهجرة هي اللحظة التي إذا توقف أمامها المسلمون اليوم، وتأملوا في دروسها ومعانيها لظهر لهم أن كثيرا مما يفعلونه من سياساتهم في الدعوة والحركة إنما تحتاج إلى مراجعة!

وهذه ثلاثة حروف في دروس الهجرة، كلٌ منها يحتاج وقفة طويلة وتأملا كبيرا:

 

(1)

لا يقوم الإسلام بغير دولة وحُكْمٍ وسُلْطان، ولو كان الإسلام يقوم بغير هذا لما تكلف النبي أن يهاجر من بلده التي هي أحب بلاد الله إلى الله وإليه، ولا تكلف أن ينزع قوما من ديارهم وأهاليهم وعصبتهم، في ذلك الزمن الذي كانت عصبة المرء وقبيلته هي هويته وبلده وانتماؤه وحصنه ونصيره! فهجرة العربي في ذلك الزمن هي بمثابة تخلي المرء عن جنسيته وهويته وسائر ما يترتب على هذا التخلي، فيتحول إلى مطارَد منبوذ ومطلوب!

كان لا بد للإسلام من دولة يتحقق فيها واقعا على الأرض، ولولا هذه الدولة لكان الإسلام مجرد فلسفة ونظرية كالتي أخرجتها عقول الفلاسفة والمفكرين، ترقد على المكتبات ويلوكها الباحثون، ثم ينصرف كل واحدٍ منهم ليتعامل مع الواقع المفروض عليه.. ما كان الإسلام هكذا، بالهجرة قامت دولة الإسلام التي جعلته حقيقة في التاريخ، وقوة في الواقع، وصفحة لا يمكن إزالتها من سجلات البشرية!

وفي المدينة، أي في دولة الإسلام، نزلت التشريعات والأحكام ورأينا سيرة النبي ﷺ في السياسة والاجتماع والاقتصاد والعمران والأمن والحرب والتعامل مع الأقليات ومع مشكلات الفقر والجهل واللجوء والانقسامات الاجتماعية وقرب العهد بالجاهلية.. بغير الهجرة وإقامة الدولة ما كان كل هذا ليكون ولا ليُعرف، وإذا حذفنا هذا كله من الإسلام فلم يعد هو الإسلام الذي نزل من عند الله!

وأولى الناس بفهم ضرورة الدولة للدعوة هم المسلمون اليوم، أولئك الذين تحولوا بالفعل إلى أيتام على موائد الدول والقوى العظمى، منذ أن ضعفت خلافتهم ثم سقطت، فما من زمن هم أشد ضعفا وتفرقا فيه من هذا الزمن الذي هم فيه بلا دولة ولا خلافة.

إن الدولة هي أهم وسائل الإصلاح، وهي أيضا أهم وسائل الإفساد، وما من أصحاب دعوة ورسالة كانوا صادقين مع أنفسهم إلا وسعوا من فورهم إلى الحصول على الدولة والحكم والسلطان، فالناس على دين ملوكهم، وإذا فهم المسلمون هذا كانوا أشد بذلا واستعدادا وتضحية في سبيل استعادة الحكم والدولة والسلطان، فما من مفسدة في عالمنا اليوم إلا وللسلطة فيها النصيب الأكبر! ويكاد المسلمون إذا لم ينتبهوا لهذا أن يدخل عليهم الإلحاد والشذوذ في بيوتهم!

وأدلُّ دليلٍ على أهمية إقامة الدولة الإسلامية انتفاضةُ أعداء الإسلام ليحولوا دون قيامها، ومؤامرتهم المستمرة ألا يكون أبناء الإسلام في موقع الحكم والسلطة، إنها مسيرة ليس أولها مؤامرة القرشيين لقتل النبي ومطاردة المهاجرين ليحولوا دون هجرتهم، وليس آخرها صناعة المؤامرات وتدبير الانقلابات العسكرية ودعم المستبدين بل النزول بالجيوش –إن اقتضى الأمر- لمنع سقوط الأنظمة التي صنعوها على أعينهم!

 

(2)

هاجر المسلمون هجرتين: هجرة إلى الحبشة وهجرة إلى المدينة، فهجرة الحبشة هي فرارهم بالدين، وهجرة المدينة هي لإقامة الدين..

وهذا أعظم ما يشرح لنا معنى "الوطنية"، ومعنى الارتباط بالوطن، وهو يحدد لنا العلاقة بين الدين والوطن، وماذا لو تناقضا! ففي كلا الهجرتين كان الدين فوق الوطن!

في الهجرة إلى الحبشة كان المسلمون يفرُّون من وطنٍ لا يطيق دينهم، فيختارون أن يهجروا وطنهم وأهلهم إلى بلد غريب يستطيعون فيه أن يحافظوا على دينهم. وفي الهجرة إلى المدينة كان المسلمون يفرون من وطن لم يعد صالحا لأن يكون أرضا لدينهم فخرجوا إلى بلدٍ اختار أهله أن يكون عاصمة الإسلام.

وبعد استباب الأمور في المدينة قدم إليها المهاجرون إلى الحبشة، وقد قدموا إليها كأنهم يرجعون إلى بلدهم لا كأنهم يهاجرون مرتين!

وفي الحديث العظيم الذي يرويه البخاري ومسلم عن أبي موسى الأشعري عن عودة مهاجرة الحبشة إلى المدينة يظهر بقوة علوّ الدين وتفوقه على معنى الوطن! ففيه يقول عمر بن الخطاب لأسماء بنت عميس –وكانت من مهاجرة الحبشة- "سبقناكم بالهجرة، فنحن أحق برسول الله ﷺ منكم"، وتأمَّل هنا في استشعار عمر لشرف الهجرة، وشرف السبق إليها، فأجابته أسماء بنت عميس "كلا والله، كنتم مع رسول الله ﷺ يطعم جائعكم ويعظ جاهلكم، وكنا في دار البُعداء البُغضاء بالحبشة، وذلك في الله وفي رسوله ﷺ.. ونحن كُنّا نُؤذَى ونُخاف"، فتأمل هنا في أنها وصفت أرض الحبشة بدار البعداء البغضاء مع أنها كانت آمنة فيها، وذلك أنهم كانوا يدينون بغير الإسلام، ومع أنهم كانوا في حماية ملكها إلا أن الأمر لا يخلو من بعض الأذى ومن الخوف والقلق أن يتغير عليهم الملك والناس! وهذا شعور يعرفه المهاجر جيدا في عصرنا هذا.

وحتى لما فُتِحت مكة ودخلها الإسلام، بقي النبي ﷺ وصحابته في المدينة، لقد صار وطن الإسلام هو وطنهم، وانبتّ ما كان بينهم وبين وطنهم الأول!

إدراك هذا الفارق بين الدين والوطن مهم غاية الأهمية، لأنه يرتب أولويات المسلم، وبه يفهم المسلم طبيعة انتمائه وولائه، وهو أشد أهمية في عصرنا هذا الذي يُراد فيه أن تكون "الوطنية" وثنا جديدا يُعبد من دون الله، ويعلو حتى على رابطة الدين. نحن الآن في عصر تُسبغ فيه معاني الفخامة والتقديس والتعظيم على الوطن والدستور والقانون والحدود والأمن القومي والمصلحة العليا للبلاد... إلى آخر هذه الطنطنات التي تحمل في طياتها أن الوطن أهم من الدين وفوق الدين! حتى إن البعض ليتخذ هذا الكلام مدخلا نحو التطبيع مع الصهاينة، وتبريرا لحصار وتجويع المسلمين، واعتذارا عن إهمال المسلمين وقضاياهم والوقوف إلى جانب أعدائهم وقاتليهم!

 

(3)

تثبت لنا الهجرة أيضا أن الإسلام دينٌ لا تطيق الجاهلية التعايش معه، مثلما لا يطيق هو التعايش مع الجاهلية أيضا؛ فأما أن الجاهلية لا تطيق التعايش مع الإسلام فهذا شأن المرحلة المكية كلها، وهو الذي انتهى إلى التدبير لقتل النبي ﷺ بعد سلسلة من محاولات التضييق والتعذيب والمساومات. وأما أن الإسلام لا يطيق التعايش مع الجاهلية فهذا شأن المرحلة المدينة، فمنذ اللحظة الأولى أسس النبي النظامَ الإسلامي في المدينة!

ها هنا وقفة مهمة، ومعنى من أخطر وأعظم المعاني التي يجب أن يستحضرها المسلم والعامل للإسلام..

لقد كان مجتمع المدينة ممزقا؛ فإن نظرت إليه من جانب الدين رأيت فيه مشركين ويهودا ومسلمين، وإن نظرت من جانب القبيلة رأيت فيه الأوس والخزرج وقبائل اليهود وأشتات جاءت مسلمة من سائر القبائل. وكان يعاني من مشكلات اقتصادية مزمنة فهو تحت السيطرة اليهودية الربوية وهم أهل السوق، وقد تدفقت عليه أعداد من المسلمين (اللاجئين) الذين يجب البحث لهم عن المأوى وسبل العيش. وكان يعاني من أزمة سياسية فأهل المدينة بعد حرب بعاث الكبيرة اصطلحوا على تولية عبد الله بن أبيّ بن سلول زعيما عليهم وكانوا يرتبون إجراءات التنصيب، ثم إن المدينة منذ الهجرة انفتحت عليها أزمة سياسية مع محيطها، بل مع عاصمة الجزيرة العربية وأهم مدنها: مكة والطائف!

بالرغم من كل هذه المشكلات الخطيرة والكبيرة إلا أن النبي لم يقبل أن ينزل المدينة داعية يطلب الحماية وحرية الدعوة، في ظل الرئيس التوافقي عبد الله بن أبي بن سلول، بل أسس النبي دولة الإسلام وكان هو رئيس الدولة وزعيمها ومرجعيتها التشريعية وسلطتها التنفيذية والقضائية كما قرّر ذلك في صحيفة المدينة. لم تحمله ﷺ هذه المشكلات على أن يفكر في تأجيل إقامة الدولة أو الاكتفاء بمجرد الدور الدعوي، فما لهذا كانت الهجرة إلى المدينة.. لقد كانت هجرة تأسيس الدولة ولم تكن هجرة فرار من الاضطهاد والأذى!

إن هذا المعنى إذا فقهه المسلمون اليوم عرفوا أنهم يخطئون خطأً فادحًا حين يزهدون في تأسيس الدولة، أو يبحثون عن رئيس توافقي، أو عن إجماع وطني، أو عن إرضاء لنفوذ إقليمي أو دولي. إن لحظة تأسيس الدولة هي لحظة يجب ألا تفلت أبدا، ومهما كان حجم التحديات والعوائق فيجب ألا يُنظر إليها باعتبارها معيقا عن اقتناص هذه اللحظة. ونحن في زماننا هذا وفي تجاربنا القريبة المعاصرة نرى إلى أين أوصلنا تقديم غير أبناء الإسلام بحثا عن توافق وطني أو إرضاء لرغبة أجنبية أو تجنبا لضرب التجربة! فما هي إلا أن ضُربت وعدنا كما بدأنا!

إن في الإسلام قوة عظيمة لحل المشكلات، ولا يزال المسلمون بحاجة إلى دراسة الإجراءات الأولى التي اتخذها النبي عقيب دخوله المدينة والتأمل فيها وكيف استطاعت حل هذه المشكلات، فالمسجد الذي يلتقي المسلمون فيه خمس مرات في اليوم الواحد هو أسرع السبل لتحقيق التماسك الاجتماعي بين أبناء القبائل المختلفة، والإخاء الذي ابتدعه النبي كان أفضل وسيلة عبر التاريخ لحل مشكلات اللاجئين، وهي المشكلات التي تعجز أمامها اليوم الدول الكبرى ذات الإمكانات الضخمة، وكتابة الصحيفة كانت خير طريقة لتحديد الحقوق والواجبات وتوزيع المهمات والمسؤوليات، وإنشاء السوق كان هو الإجراء الاقتصادي الذي حرر اقتصاد المدينة من سيطرة اليهود وأوجد فرص عمل للمهاجرين وخفف الضغط عن موارد الأنصار! والمقام لا يتسع للتفصيل، وفي هذا الشأن كلام طويل طويل.

والخلاصة أن لحظة الهجرة هي لحظة حافلة بالدروس والعبر التي نحتاجها في حياتنا المعاصرة، وقد اخترنا في هذا العدد أن نطوف حول الهجرة في ذكرى بداية العام الهجري الجديد، وسيرى القارئ كيف أن معايشة السيرة تنير أمام الأمة طريقها، بشرط أن تكون المعايشة حقيقية، وأن يكون التعامل مع السيرة تعامل التلاميذ مع أستاذهم، والأتباع مع قائدهم، لا أن تكون مجرد حكاية في مجلس يُتلى كأنما هو حديث الذكريات!

السيرة ليست مجرد ذكريات.. السيرة هنا، السيرة الآن!


نشر في مجلة أنصار النبي  ﷺ  - العدد 3

2 likes ·   •  0 comments  •  flag
Share on Twitter
Published on August 05, 2022 09:58

August 2, 2022

رشيد رضا: ملتقى الأبحر

 

لا عجب إن عُدَّت محاولة كتابة مقال عن رشيد رضا بمثابة انتحار؛ ذلك أن رشيد رضا إمام ضخم مجدد، وقد اقتطع لنفسه وبجهده مساحة إلى جوار الصحف والمؤسسات الثقافية التي ينهمر عليها الدعم الأجنبي، وكاد لا يترك قضية تتعلق بحياة الأمة إلا تناولها، ولا يُعرف في عصره أغزر منه إنتاجا، ولا أوسع تنوعا؛ فلقد كتب في التفسير والحديث والتصوف والفقه والفكر والسياسة والتاريخ والتراجم والملل والأديان والسياسة الشرعية، وألَّف وحقَّق ونشر، وتعد مجلته المنار أوسع سجِلٍّ معروف لتاريخ عصرها! ولقد نظم الشعر ومدحه كبار الشعراء كالبارودي وحافظ. وبهذه الغزارة والتنوع كان له فضلٌ على شيوخه في بيان كلامهم ودعمه بما لم يعرفوه من الأدلة، وهذا فضلا عن كفاحه العملي، وبعضه كفاح سرِّيٌّ لا يُعرف حتى الآن، فضلا عن العلني كعضويته في حزب اللامركزية (قبل 1914م)، ومشاركته في المفاوضات مع البريطانيين، ورئاسته المؤتمر السوري (1920م) ومشاركته في الوفد السوري الفلسطيني في جنيف (1921م)، وعضويته باللجنة السياسية في القاهرة إبان الثورة السورية (1925 و1926م) ومشاركته في مؤتمري مكة (1926م) والقدس (1931م)، وهذا كله إضافة إلى أسفاره ومراسلاته للملوك ومواقفه معهم، وإضافة إلى مساعيه الدعوية في تأسيس معهد الدعوة والإرشاد (1910م) لتخريج المتأهلين للدعوة إلى الإسلام وصدّ الشبهات عنه.

كذلك فإن تقييم الأعلام في عصر رشيد رضا –الذي سمَّاه العقاد بعصر بابل لكثرة ما انفجرت فيه الأفكار والاتجاهات، واضطربت فيه العقول والأحلام- أمرٌ جديرٌ بالمؤرخ المنصف أن يتورع فيه، فلقد كان ذلك العصر هو ذرورة التفوق الغربي وقلب المحنة الإسلامية، وقد سقط كثيرون في فخ الغالب وتبعوه منبهرين منسحقين أمام تفوقه، ولم يَخْلُ الذين ثبتوا وصمدوا معتزين بدينهم من تأثر بالغالب، وما عليهم في ذلك من لوم فإن المحنة شديدة، وكم صار الحليم فيها حيرانا!

فمن كان هكذا في جهده وفي عصره، فكيف يمكن اختزال شأنه في مقال؟!

لم يكن رشيد رضا أول من قدَّم الإجابة الإسلامية على سؤال النهضة، ساهم فيها من قبله الطهطاوي والتونسي والأفغاني وعبده، ولكنه فاق أولئك جميعا في غزارة إنتاجه وتوغله في التفاصيل واشتباكه مع الأحداث، أعانه على ذلك علمه الواسع بالشرع وبالواقع، ولم يكن لهم مثل علمه، ومَنْ كان كذلك كثر خصومه وكثرت المآخذ عليه!

لكن رشيدًا قام في تاريخ الفكر الإسلامي مقامًا عاليا، حتى ليجوز أن نسميه "ملتقى الأبحر"، فلقد اتفق على إمامته المدارس الإسلامية الثلاثة الكبرى التي تمايزت بعده: السلفية والإخوانية وما يسمى "مدرسة الإسلام الحضاري"، فرشيد رضا رائد نشر تراث الحنابلة لا سيما ابن تيمية وابن القيم والإشادة بهما، وهو المناصر للحركة الوهابية وصاحب العلاقة الطيبة بالملك عبد العزيز آل سعود، ومن مجلة المنار ومقالات رشيد رضا عرف الألباني علم الحديثوهو الذي صار بعدئذ أشهر محدِّث في عصره وأوسعهم إنتاجا. وفي ذات الوقت فرشيد رضا أستاذ حسن البنا زعيم الإخوان المسلمين، وللبنا فيه ثناء كثير وتقدير جمّ، بل حاول البنا إتمام إصدار المنار بعد وفاة رشيد رضا، وحاول إتمام تفسير المنار من حيث توقف رشيد رضا، فضلا عن ثناء طويل مستمر كثير على رشيد رضا من رموز الإخوان كالغزالي والقرضاوي الذي ندر أن يذكره بغير لقب العلامة أو المجدد ونحوها، بل أفرد بعضهم عنه مؤلفاتٍ مثل محمد عمارة.

ومثلما التقى هؤلاء على تقديره وتوقيره، فقد التقى على بغضه والنفور منه: المحتلون والمتغربون والجامدون، على تفاوتٍ بين الجميع في الباعث والغرض والدرجة. فقد كتب عنه مارك سايكس أنه "مسلم صعب، متعصب، لا يتساهل، يتوق لتحويل الإسلام إلى قوة سياسية في أوسع مجال ممكن. تعزى غطرسته الفكرية إلى الاعتقاد بأن بريطانيا العظمى تخشى الإسلام، وأن المسلمين يستطيعون أن يملوا على بريطانيا سياستها بلهجة تكاد تشبه لهجة الفاتحين".

وقد التقى في رشيد رضا وفكره: العقلانية والسلفية والتصوف، والتقى فيه العلم والدعوة والعمل، والتقى فيه الزمن أيضا، فهو آخر المصلحين الكبار في زمن الخلافة، وأولهم في زمن سقوطها، ومهما أطلنا في شأن رسوخ قدمه وعبقريته، فإن "كل تفكير تاريخي هو حتما نسبي تابع لظروف زمان المفكر ومكانه، ذلك قانون الطبيعة البشرية الذي لا يفلت منه عبقري"، فلا يمكن فهم أحد خارجَ زمنه، وزمان رشيد رضا كان يطرح السؤال الحارق العنيف المحمَّل بسطوة الغالب ومرارة المغلوب: ما سر قوتهم؟ وما سر ضعفنا؟

يمكن اختصار الإجابة التي قدمها الرواد الإسلاميون كالآتي: تقدم الغربيون لأنهم أخذوا بزمام العلم والنشاط وبما شاع في بلادهم من العدل ومحاسبة والملوك. وضعفنا بما شاع عندنا من الجهل والكسل والتفرق والظلم واستبداد الملوك. وهذه الأمراض هي نتيجة ابتعادنا عن الدين، فإن في الأخذ به نشر العدل ومحاسبة الملوك وبث النشاط وتحصيل العلوم. وأولئك الغربيون وإن كانوا متفوقين فإن تفوقهم ليس طبعا فيهم ولا هو مُحَرَّمٌ علينا، فقد كُنَّا أرفع منهم علما وقوة، ولئن كنا مضطرين الآن أن نتعلم منهم، فإنهم ما بلغوا هذا الذي بلغوا إلا بما تعلموه منا في زمن قريب، وإصلاح أحوالنا ليس عسيرا، وتحررنا ومقاومة استعمارهم ليس مستحيلا! ولكن دون ذلك عمل ضخم من التربية والتعليم ومكافحة الخرافة والتخلف والظلم والاستبداد، وذلك كله على قاعدة من الدين القويم، وأساس من الجامعة الإسلامية التي تنتظم فيها الأمة كلها.

وإذا كان رشيد رضا هو أوسع شارح لهذه الإجابة، لغزارة إنتاجه وتنوع مجالاته، فقد كان عليه أن يحدد: ما الذي يجب أن نحاربه في واقعنا؟ وما بذور الفساد التي أثمرت هذا الضعف في تاريخنا؟ وما الذي نستبقيه ونتمسك به من تراثنا؟ وما الذي ننفيه ونهجره منه؟ ثم ما الذي يجب أن نقتبسه من الغرب دون حرج؟ وما الذي يجب أن نحذر أن يتسرب إلينا منهم؟ وإذا عرفنا ذلك كله فكيف نحوِّل الفكرة إلى رجالٍ عاملين؟!

ومن هذا المنطلق، طفق رشيد رضا يكافح الاستعمار، فوقف مجاهدا بقلمه ولسانه ضد كل احتلال لبلاد المسلمين من أقصى الشرق إلى أقصى الغرب، لم يفرق بين استعمار إنجليزي أو فرنسي أو غيره، واندفع بأقصى ما سمحت له الظروف في فضحه والتحريض عليه، وفي الهجوم على عملائه ووكلائه مثل الشريف حسين، وفي نصرة كل حركة تحرر تكافح المحتل، ودافع عن الدولة العثمانية دفاعا عظيما، وكتب في سبُل توطيد علاقتها مع الشعوب الإسلامية، فدعا إلى تعريب الدولة العثمانية ليحول دون تفككها عن طريق النعرات القومية، ووقف مناصرا لها في كل حرب خاضتها داخلية أو خارجية.

وكذلك شنَّ رشيد رضا حملته المتواصلة على الظلم والاستبداد، وعلى الحكام والملوك الذين يضيعون الأمة، وأطال في التنظير والتوكيد على فداحة ما خسرته الأمة، حين لم تعد تملك محاسبة ملوكها وإصلاحهم وحتى عزلهم. وتلك كانت إحدى المداخل التي أفضت به إلى إصلاح شأن العلم والعلماء، إذ يجب أن يكونوا قوّالين بالحق لا يخشون في الله لومة لائم، وشنَّ حملته على أولئك الملتصقين بالحُكَّام يبررون لهم ويزينون لهم أعمالهم، وهاجم النظام الذي يجعل رواتب العلماء بأيدي السلطة والحكام، وكم أشاد بأولئك العلماء الذين بذلوا في مكافحة الاستعمار والاستبداد وإن خالفوه في أمور كثيرة.

وأما شأن العلماء في أنفسهم، فقد احتفى رشيد رضا بكل من حرص منهم على الإصلاح ومحاربة الجهل والخرافة، ومحاربة الجمود على التقليد الذي يعيق إنتاج الحلول الشرعية لنوازل العصر ومستجداته، وهو ما يجعل الإسلام معطلًّا، ويجعل الأمة محتاجةً إلى الحلول الأجنبية التي تفرض نفسها بسطوة الاحتلال وعملائه المتغربين. لذلك دعا رشيد رضا إلى تأليف كتاب فقهي شامل يجعل أدلة الكتاب والسنة نصب عينيه متحررا من قيد المذاهب ليكون أيسر في بيان محاسن الإسلام لغير المسلم، وأيسر في استخلاص أصول الشريعة من إضافات المذاهب ليتمّ للمجتهد في النوازل البناء عليها.

وأفضل مدخلٍ لفهم تأييد رشيد رضا للحركة الوهابية وأميرها عبد العزيز، هو أنها كانت تبدو كحركةِ تحررٍ ومواجهةٍ للجهلِ والخرافة، فهي تحارب الشريف حسين عميل الإنجليز وصنيعتهم، وتحارب ما يشيع من زيارة القبور والأضرحة والتماس النفع والضرّ من الموتى، وترجع إلى الإسلام الأصيل الذي لم تكدره فلسفات المتكلمين، ولا قيود المتأخرين.

وكذلك دعا رشيد رضا إلى الاستفادة مما لدى الغرب من محاسبة الملوك وتقييد سلطانهم، ومن العلوم ونظم الإدارة والتزام النظام، وإلى اجتذاب رؤوس أموالهم في الديار التي تعاني من التخلف، مشترطًا ألا يكون ذلك من وسائل تمكينهم ولا من مقدّمات احتلالهم، فثمة خيط دقيق وفارق يجب التمسك به، بين الحاجة إلى النهوض واستثمار ما لدى القوم من العلوم والأموال التي لا توجد عند غيرهم، وبين أن يكون ذلك مدخلا إلى السيطرة على البلاد، لا سيما الأرض المقدسة.

وأما كيف يتحول هذا كله إلى عمل، فإن هذا يستلزم تكوين عدد من الرجال على قاعدة روحية صوفية متينةتكسبهم صلابة الأخلاق وتعصمهم من فتنة الدنيا والمناصب، وعلى قاعدة من العلم الشرعي الأصيل تمنحهم قوة النظر والاجتهاد وتعصمهم من الجمود والتقليد، فبهؤلاء يتمّ للأمم تحررها ثم نهضتها.

ولا تخلو الحركة الفوَّارة والإنتاج الغزير من أخطاء وهفوات، فمع كل ما بذله رشيد رضا من مجهود عظيم محمود، ومقاومة باسلة عزيزة، فلكل حكيم هفوة ولكل جواد كبوة، ولو أمعنا النظر في إخفاقاته الفكرية العلمية لوجدنا فيها أثر الثقافة الغالبة، ولو أمعنا النظر في إخفاقاته العملية السياسية لوجدنا فيها أثر اندفاعته وثورته الحركية.

فأما إخفاقاته الفكرية، فمنها أنه في خضم اندفاعته لمحاربة الخرافة والتكثر من المعجزات والكرامات، ومحاربته لإثبات أن الإسلام لا ينافي العلم ولا يواجهه، مال إلى تفسير المعجزات بما يُخضعها للتفسير العلمي، وردّ أحاديث صحيحة يخالف ظاهرها ما أثبته العلم حتى جرح في رواتها من الصحابة والتابعين بغير دليل، وهو في خضم اندفاعته لمحاربته للاستبداد، وتحت ضغط العصر الديمقراطي المتألق، وصل إلى إدانة معاوية وكان له فيه كلام سيئ نسأل الله أن يغفره له، وغلبته العاطفة حتى أفقدته توازنه ورصانته العلمية المعهودة. وهو في خضم محاولته الإصلاح وتثويره للفقه وتحت ضغط ثقافة المؤسسات والنظم مال إلى تقنين الشريعة وأبدى انزعاجه مما في كتب الفقه من مشكلات، وما هي بذلك إلا في عين المُحْرَج المنضغط المتحرق للإصلاح. وهو في خضم محاربته للاستعمار وتأثره بالهوية الوطنية السائدة في عصره دعا أن لا يُطلق لفظ الكافر إلا على الملحد منكر الأديان لأن أهل الكتاب من شركاء الوطن يستاءون منه! وآراء أخرى لا نطيل بذكرها، نرى عند التأمل أنها كانت نتيجة تفكيره تحت ضغط الواقع أكثر من كونها نتيجة بحث علمي محرر.

وأما إخفاقاته العملية الحركية، فمنها أنه في خضم اندفاعته لمحاربة الاستبداد عمل على إسقاط السلطان عبد الحميد–الذي كان بالفعل مترددا وجامدا ومتميزا في إفلات الفرص، فبدا كأنما هو عقبة تعرقل إصلاح الدولة العثمانية- وأيد خلعه، لكنه سرعان ما عاد ورفض وأدان الاتحاديين وسياستهم، وكان موقفه طيبا مع الشريف حسين وحكومته ضد الاتحاديين حتى تحالفوا مع الإنجليز واستخدمهم الإنجليز كبديل مرشح لنقل الخلافة من العثمانيين إلى العرب فشدَّ النكير عليهم، وكذا كان يعلق آمالا على أتاتورك قبل أن يسقط الخلافة، وانخدع زمنا بسعد زغلول فلما تبين له انحرافه وسوء طريقته أدانه وهاجمه. ولا يمكن تحميل المسؤولية لرشيد رضا وحده، فإن انقلابات الأحداث والتحالفات والشخصيات ومواقفها مسؤولة عن هذا، ولا يمكن فهم موقف رشيد رضا وتحولاته إلا بفهم تفاصيل هذه التحولات.

ومما يدل على سموّ نفسه أن يوجد في كلامه ما يعترف به على نفسه بأثر الثقافة السائدة عليه، وأنه لا يمكن بيان الإسلام للخاضعين لها إلا بنوع من التقريب والتنزل.

وفي نهاية هذا المقال الذي طال رغم كل محاولات الاختصار، واكتفى بالإشارة عن ضرب المثال، لا يبقى إلا أن أقول: رحم الله الإمام المجدد الضخم الكبير محمد رشيد رضا، وعوضنا خيرا منه.


نشر في مجلة سبل، أغسطس 2022


رشيد رضا، المنار والأزهر، ط1 (القاهرة: مطبعة المنار، 1352ه)، ص130؛ طه حسين، الأيام، (القاهرة: الهيئة المصرية العامة للكتاب، 1994م)، 2/ 175، 176

ألبرت حوراني، الفكر العربي في عصر النهضة، ترجمة: كريم عزقول، (بيروت: دار النهار، 1962م)، ص284.

رشيد رضا، المنار والأزهر، ص130؛ شكيب أرسلان، السيد رشيد رضا أو إخاء أربعين سنة، ط1 (دمشق: مطبعة ابن زيدون، 1937م)، ص162؛ أنور الجندي، أعلام وأصحاب أقلام، (القاهرة: نهضة مصر، د. ت) ص155، 156.

رشيد رضا، المنار والأزهر، ص184.

تفسير المنار، 8/196؛ الغزالي، الغزو الثقافي يمتد في فراغنا، (القاهرة: دار الشروق، 1997م)، ص 37.

مجلة المنار، 14/43.

ألبرت حوراني، الفكر العربي، ص 273، 274؛ وانظر: المنار والأزهر، ص194.

مجلة المنار، 35/480 وما بعدها.

رشيد رضا، المنار والأزهر، ص253، 163؛ توماس أرنولد، الدعوة إلى الإسلام، ترجمة: حسن إبراهيم حسن وآخران، (القاهرة: مكتبة النهضة الوطنية، 1980م)، ص479؛ ألبرت حوراني، الفكري العربي، ص273.

تفسير المنار، 1/211؛ مجلة المنار، 33/670؛ المنار والأزهر، ص178، 179؛ وانظر: الغزالي، مستقبل الإسلام خارج أرضه، (القاهرة: دار الشروق، 1997م)، ص59.

سجل رشيد رضا رأيه المفصل في الحركة الوهابية وفي ابن سعود في المنار، ثم أفردها في كتابه "الوهابيون والحجاز".

محمد المجذوب، علماء ومفكرون عرفتهم، ط4 (الرياض: دار الشواف، 1992م)، 1/291.

حسن البنا، مذكرات الدعوة والداعية، ط1 (الجيزة: مركز الإعلام العربي، 2011م)، ص70.

أصدر البنا من المنار ستة أعداد في أربعة عشر شهرا ثم لم يستطع المواصلة لتشعب مسؤولياته. البنا، مذكرات الدعوة، ص317.

الغزالي، علل وأدوية، ط3 (القاهرة: دار الشروق، 1997م)، ص91.

محمد الغزالي، الحق المر: الجزء الخامس، ط5 (القاهرة: دار نهضة مصر، أغسطس 2005م)، ص4.

رشيد رضا، المنار والأزهر، ص130.

نجدة فتحي صفوت، الجزيرة العربية في الوثائق البريطانية: نجد والحجاز، ط1 (بيروت: دار الساقي، 1996م)، 1/500، 501. باختصار.

Arnold J. Toynbee, A Study of History, (London: Oxford University press, 1948), Vol. III, p. 476.

شكيب أرسلان، السيد رشيد رضا، ص315.

مجلة المنار، 24/441 وما بعدها، 25/257 وما بعدها.

مجلة المنار، 1/441 وما بعدها، 22/522 وما بعدها، 24/257 وما بعدها.

مجلة المنار، 6/433 وما بعدها؛ 12/501 وما بعدها.

مجلة المنار، 2/515، 4/896، 5/157 وما بعدها؛ رشيد رضا، الخلافة، (القاهرة: الزهراء للإعلام العربي، 1994م)، ص77.

مجلة المنار، 1/462 وما بعدها، 2/515، 22/522.

تفسير المنار، 4/232؛ المنار والأزهر، ص س، 11.

تاريخ الأستاذ الإمام، 1/129.

مجلة المنار، 2/161 وما بعدها، 269؛ المنار والأزهر، ص176.

مجلة المنار، 2/515.

مجلة المنار، 10/233، 234؛ المنار والأزهر، ص177.

مجلة المنار، 25/761 وما بعدها؛ 28/293 وما بعدها.

رشيد رضا، الخلافة، ص147.

مجلة المنار، 17/10.

مجلة المنار، 14/715، 716.

لرشيد رضا نشأة روحية متميزة، انظر: المنار والأزهر، ص133 وما بعدها؛ تاريخ الأستاذ الإمام، 1/126.

وهذان أمران مشهوران كم أطنب الباحثون فيهما، وانتقده عليهما من بجَّلوه وعظّموه فضلا عمن أبغضوه، فلا نطيل بالإشارة إلى الأمثلة.

رشيد رضا، الخلافة، ص145؛ وقارن به: ابن خلدون، تاريخ ابن خلدون، (بيروت: دار إحياء التراث العربي، د. ت) 1/ 210 وما بعدها؛ جلال كشك، جهالات عصر التنوير، ط1 (القاهرة: مكتبة التراث الإسلامي، 1990 م)، ص103 وما بعدها.

مجلة المنار، 7/212 وما بعدها، 10/233، 234. ورشيد رضا هو المصدر الوحيد لقصة الطهطاوي الذي خشي تكفير مشايخ الأزهر إذا قنن الشريعة، فكان هذا –بحسبه- سبب شيوع القانون الفرنسي. وعلى القصة ملاحظات ليس هنا موضع بيانها.

مجلة المنار، 1/14.

مجلة المنار، 14/43.

مجلة المنار، 12/276 وما بعدها، 460 وما بعدها.

مجلة المنار، 12/819 وما بعدها، 913 وما بعدها، 19/144 وما بعدها.

شكيب أرسلان، السيد رشيد رضا، ص316 وما بعدها.

قارن: مجلة المنار، 1/403؛ مجلة المنار، 22/525.

تفسير المنار، 1/211؛ مجلة المنار، 33/670.

3 likes ·   •  3 comments  •  flag
Share on Twitter
Published on August 02, 2022 06:54

July 4, 2022

من الهند إلى فرنسا.. انتفاضة أمة وذكرى بطل!

 

تمر الأيام وتنطوي الذكريات، ويظل الواقع يلهب ذكرى التاريخ، مثلما يظل التاريخ ينير ظلام الواقع..

(1) طمس النور الإسلامي في الهند!

كان شهر يونيو هذا عصيبا على المسلمين في الهند، ولا يتوقع أن يهدأ الأمر في فترة قريبة، فقد أسفرت الألسنة عما تنطوي عليه النفوس، وسمع المسلمون تصريحات هندوسية كانت فوق خيالهم، فهذا إعلامي هندي يهدد بقصف المدينة المنورة، وهذا آخر يقرر أن كل مسجد بُنِي في الهند فقد بُنِي على أنقاض معبد هندوسي، وبلغ الحال براهب هندوسي حتى يقول بأن مكة كانت هندوسية زاخرة بتماثيل إلههم، وأن الكعبة بُنيت فوق أنقاض معبد هندوسي قديم، ومن ثَمَّ فإن على الهندوس واجب مقدس يصل إلى هدم الكعبة وإعادة بناء المعبد الهندوسي الكبير! ونشر بعضهم خريطةً تشمل البلاد العربية وهي تحت حكم الهندوس الذين قرروا أن يثأروا للبقرة من أولئك الناس الذين يأكلونها!

وقبل قليل من كتابة هذا المقال، طالعت تحقيقا نشرته الصحيفة الهندية (The Indian Express) بتاريخ 21 يونيو 2022م، تكشف فيه عن خطة الحكومة الهندية لطمس التاريخ الإسلامي في الهند، وحذفه من مناهج الكتب الدراسية في المراحل التعليمية، وأنها الآن في المراجعة الثالثة، حيث نفذّت الحكومة 1443 تغييرا على 182 كتابا مدرسيا في المراجعة الأولى التي جرت في 2017م، بخلاف التغييرات التي جرت في المراجعة الثانية (2019م) ثم الثالثة التي تجري هذه الأيام!

وليس هذا غريبا، فإنه لا بد للظلم والباطل من طمس تاريخ واصطناع تاريخ آخر، فهذه من ضرورات الظلم والباطل، وقد نبَّهنا إلى هذا المعنى سيدُنا عمر رضي الله عنه حين ذكر بأن الهلاك يأتي على يد من لم يعرف الجاهلية! وذلك أن المسلم إذا لم يعرف الجاهلية لم يعرف قيمة نعمة الإسلام عليه!

والهند كانت من أشد البلاد انحطاطا أخلاقيا وظلما اجتماعيا واستغلالا طبقيا، إذ كان يجتاحها نظام طبقي في غاية القسوة، يجعل غالب الناس في مرتبة الحشرات والبهائم الذين لا كرامة لهم ولا حق في الحياة ولا في الارتقاء، إنما هم عبيد خُلِقوا لخدم السادة لا غير! فإذا طُمِس تاريخ الإسلام فسيُطْمَس معه ما جاء به من العدالة والسعادة وإنقاذ الناس من الظلم وإخراجهم من الظلمات إلى النور.

لهذا فإن كثيرا من مثقفي الهند وزعمائه أثنوا على الإسلام ثناء كثيرا، حتى لو أنهم لم يعتنقوه، وقد نقل العلامة أبو الحسن الندوي عن الكاتب الهندي نانالال شامانلال ميهتا قوله: "إن الإسلام قد حمل إلى الهند مشعلاً من نور قد انجلت به الظلمات التي كانت تغشى الحياة الإنسانية في عصر مالت فيه المدنيات القديمة إلى الانحطاط والتدلي، وأصبحت الغايات الفاضلة معتقدات فكرية، لقد كانت فتوح الإسلام في عالم الأفكار أوسع وأعظم منها في حقل السياسة، شأنه في الأقطار الأخرى، لقد كان من سوء الحظ أن ظل تاريخ الإسلام في هذا القطر (الهندي) مرتبطاً بالحكومة، فبقيت حقيقة الإسلام في حجاب، وبقيت هباته وأياديه الجميلة مختفية عن الأنظار".

ونقل أيضا عن الزعيم الهندي الشهير جواهر لال نهرو، قوله: "إن دخول الغزاة الذين جاءوا من شمال غرب الهند ودخول الإسلام له أهمية كبيرة في تاريخ الهند إنه قد فضح الفساد الذي كان قد انتشر في المجتمع الهندوكي، إنه قد أظهر انقسام الطبقات واللمس المنبوذ، وحب الاعتزال عن العالم الذي كانت تعيش فيه الهند، إن نظرية الأخوة الإسلامية والمساواة التي كان المسلمون يؤمنون بها، ويعيشون فيها، أثرت في أذهان الهندوس تأثيراً عميقاً، وكان أكثر خضوعاً لهذا التأثير البؤساء الذين حرم عليهم المجتمع الهندي المساواة والتمتع بالحقوق الإنسانية".

وهذا الزعيم الهندي، جواهر لال نهرو، له فصلٌ رائع متميز في كتابه "لمحات من تاريخ العالم"، يختصر فيه قصة الإسلام وحضارته، ويعرضها بشكل جميل، وقد كتب الكتاب على صيغة رسائل منه لابنته، وهذه بعض أقواله:

1.    يقول عن عظمة إيمان النبي ﷺ برسالته: "هيَّأ بهذه الثقة وهذا الإيمان لأُمَّته أسباب القوة والعزة والمنعة، وحَوَّلها من سُكَّان صحراء إلى سادة يفتحون نصف العالم المعروف في زمانهم. كانت ثقة العرب وإيمانهم عظيمين، وقد أضاف الإسلام إليهما رسالة الأخوة والمساواة والعدل بين جميع المسلمين، وهكذا وُلِدَ في العالم مبدأ ديمقراطي جديد".

2.    "كان محمد [ﷺ] -كمؤسسي الأديان الأخرى- ناقمًا على كثير من العادات والتقاليد التي كانت سائدة في عصره، وكان للدين الذي بَشَّر به -بما فيه من سهولة وصراحة وإخاء ومساواة- تجاوب لدى الناس في البلدان المجاورة؛ لأنهم ذاقوا الظلم على يد الملوك الأوتوقراطيين والقساوسة المستبدين، لقد تعب الناس من النظام القديم، وتاقوا إلى نظام جديد فكان الإسلام فرصتهم الذهبية؛ لأنه أصلح الكثير من أحوالهم ورفع عنهم كابوس الضيم والظلم".

3.    "المدهش حقًّا أن نلاحظ هذا الشعب العربي -الذي ظلَّ منسيًّا أجيالاً عديدة، بعيدًا عمَّا يجري حوله- قد استيقظ فجأة ووثب بنشاط فائق أدهش العالم، وقلبه رأسًا على عقب، وإن قصة انتشار العرب في آسيا وأوربا وإفريقيا، والحضارة الراقية، والمدنيَّة الزاهرة التي قدموها للعالم، هي أعجوبة من أعجوبات التاريخ! إن الإسلام هو الباعث والفكرة لهذه اليقظة العربية؛ بما بثَّه في أتباعه من ثقة ونشاط".

4.    "إنكِ إذ تقارنين رسالة الأخوة الإسلامية هذه بحالة النصرانية المنحلَّة، تعرفين مقدار سحر هذه الرسالة وتأثيرها، لا على العرب وحدهم؛ ولكن على جميع شعوب البلدان التي وصل إليها العرب!".

5.    "سار العرب من فتح إلى فتح، وكثيرًا ما ربحوا الحروب بدون قتال، وفي غضون خمسة وعشرين عامًا من وفاة الرسول [ﷺ]، فتح العرب جميع بلاد فارس وسوريا وأرمينيا، وجزءًا من أواسط آسيا الشرقية، ومصر، وجزءًا من شمال إفريقيا، وقد سلمت لهم مصر بسهولة؛ لأنها كانت قد قاست كثيرًا من استبداد الإمبراطورية الرومانية ومن الحروب الطائفية".

6.    "إن العرب كانوا في بداية يقظتهم متقدين حماسًا لعقيدتهم، وإنهم كانوا مع ذلك قومًا متسامحين؛ لأن دينهم يأمر في مواضع عديدة بالتسامح والصفح، وكان عمر بن الخطاب شديد الحرص على التسامح عندما دخل بيت المقدس، أما مسلمو إسبانيا فإنهم تركوا للجالية المسيحية الكبيرة هناك حرية العبادة التامَّة، وكانت صِلات المسلمين مع الهند -التي لم يحكموا منها إلا السند- صلاة ودية، والواقع أن أبرز ما يميز هذه الفترة من التاريخ هو الفرق الشاسع بين تسامح العرب المسلمين وتعصب النصارى الأوربيين".

7.    "برز هؤلاء العرب السذج شامخين في عالمهم؛ فدانت أمام زحفهم المظفر الجيوشُ الجرارة والأمراءُ، كانت الشعوب الأخرى متململة من أمرائها، فلاح العرب كبارقة الأمل لهذه الشعوب التي كانت ترقب الفرج والثورة الاجتماعية".

وقد رأى فريق مجلتنا "أنصار النبي ﷺ" في هذا الموقف أن نخصص قسم "أئمة الهدى" من هذا العدد، والذي يستعرض تراث علمائنا الراحلين ومؤسساتنا الإسلامية العريقة، رأى فريق المجلة أن نخصص هذا العدد للعلماء الهنود، وسيرى القارئ الكريم في هذه المواد المعروضة عليه، كيف كانت الجاهلية الهندية التي قاسى منها الناس في زمن بعثة نبينا ﷺ، ثم سيرى نقولا بسيطة من بحث بديع للشيخ صفي الرحمن المباركفوري عن البشارات بالنبي ﷺ في كتب الديانات الهندوسية القديمة، وهو بحث عجيب، نرجو ونُلِحُّ على القارئ الكريم أن يرجع إليه كاملا ليرى كيف أن نبينا ﷺ كان موصوفا في كتب الديانات القديمة باسمه واسم أبيه واسم أمه واسم بلدته وعدد صحابته وأعدائه حتى نوع دابته!!

إن المسلمين في شبه القارة الهندية وحدها (الهند، باكستان، بنجلاديش) يمثلون ثلث الأمة الإسلامية، وإنتاجهم العظيم قد استفاد منه المسلمون شرقا وغربا، ولا يزال الكثير من تراثهم العظيم بحاجة إلى ترجمة وعناية ونشر. وكل هذا يضاعف من مسؤوليتنا تجاه إخواننا المسلمين في الهند.

(2) الحملة المباركة

في شهر يونيو الماضي (2022م)، جاوزت الحملة المباركة، حملة مقاطعة المنتجات الفرنسية، حاجز الستمائة يوم، في أطول حملة شعبية تستمر عبر منصات التواصل الاجتماعي، ثم تأتي الحوادث لتزيدنا إصرارا وتمسكا بهذه الحملة، ففرنسا كانت القدوة في تبني النظام السياسي نفسه للإساءة إلى الإسلام وإلى النبي ﷺ، وتمسَّكت بهذا الموقف، بل رأت فيه الفرصة المناسبة لبدء عملية تضييق واسعة على المنظمات الإسلامية، وشرّعت القانون الذي زعمت أنه لمناهضة "الانفصالية الإسلامية"، ثم إنها لم تقف ساكتة في إبان الحملة الهندية، بل خرجت تصريحات فرنسية داعمة لما تقوم به الهند، وهو ما يجدد ويؤكد هذه العداوة المتأصلة والمستمرة في فرنسا للإسلام والمسلمين.

ذكرنا من قبل أن فرنسا هي أقدم عدو للإسلام والمسلمين، وأنهم يرون أنفسهم منقذي أوروبا من الفتوح الإسلامية، وأنهم كانوا رأس الحربة ولهم نصيب الأسد من جيوش الحملات الصليبية، وهم أصحاب الهجمة الأولى على قلب العالم الإسلامي في العصر الحديث المتمثل في الحملة الفرنسية على مصر مطلع القرن التاسع عشر!

وهذه العداوة الراسخة المتأصلة في فرنسا لا تتخفى، وقد نقل العلامة محمد رشيد رضا في "تاريخ الأستاذ الإمام" أن محمد عبده كان يقول: "لا توجد أمة تبغض المسلم لأنه مسلم، لا لأمر آخر إلا فرنسا"، وأطال في بيان ذلك، ومما قاله: أنني لما كنتُ أجتمع مع أحد الفرنساويين للمذاكرة في أحوال الشرق أمتعض، وينتفض –أو يرتعش- جسمي كله. وقال: إن الفرنساوي إذا مدح الإسلام وذكر شيئا من مزاياه فلا بد أن يكون غرضه من ذلك منفعة فرنسا، وذكر عدة رجال منهم ألفوا كتبا بهذا المعنى، ثم صرحوا، ولو في آخر ما كتبوا بحالتهم مع المسلمين في الجزائر وما ينبغي عمله لبقاء سلطتهم فيها

يقول رشيد رضا: كنت قد استغربت هذا القول من الأستاذ، ثم رأيت كثيرا من الشواهد والدلائل التي تؤيده، وأقواها ما كتبه فيلسوف فرنسا الاجتماعي ومؤرخا الحر الدكتور جوستاف لوبون إلى عبد الغني ستي أفندي التركي المشهور، وهو نصر صريح في هذا المعنى مع بيان سببه وهو الدين الكاثوليكي. ذلك بأن عبد الغني أفندي هذا قرأ بعد الحرب الكبرى (العالمية الأولى) كتابا لهذا الفيلسوف في أسباب الحرب وفلسفتها أنحى فيه بالتخطئة على الدولة العثمانية لدخولها الحرب مع ألمانيا، فكتب إليه مبينا عذر دولته في ذلك، وهو اتفق فرنسا مع الروسيا من قبل الحرب على تقسيم بلادها وإعطاء الآستانة لروسيا. فلم يلبث أن جاءه مرجوع الكتاب من الفيلسوف يعترف له فيه بالحق، أي بعذر الدولة، ويصرح فيه ببغض فرنسا وقومه المسلمين... ونشر هذا الجواب في مجلة الهلال بلغته الإفرنسية وهذه ترجمته (من ص616 من العدد السادس من السنة الثالثة والثلاثين): "أراكم فيما كتبتم على تمام الإصابة. سأسعى في نشره في إحدى الجرائد الفرنسوية. لكنني لست واثقا من أن أوفق. لأن العقيدة الكاثوليكية المتوارثة فينا تجعلنا من ألد الأعداء للمسلمين".

ومن عجائب التوافق في أيام التاريخ أن يكون هذا في ذكرى استشهاد البطل الإسلامي الكبير سليمان الحلبي (17 يونيو 1800م)، الذي قتل قائد الحملة الفرنسية الجنرال كليبر بسكينه، ثم حُكِم عليه بإحراق يده وإعدامه بالخازوق ليطول عذابه قبل أن يموت. ولما مات أخذوا جثمانه إلى فرنسا، وهناك نصبوه في متحف، ولا تزال جمجته لديهم حتى الآن!

لكن جثمان سليمان الحلبي ظل منصوبا حتى لقد رآه هناك أحمد شفيق باشا، المؤرخ المعروف الذي تولى رئاسة الديوان الخديوي زمن عباس حلمي الثاني، وذلك إبان بعثته إلى فرنسا كما سجَّل هذا في مذكراته، وكان بعض المسلمين يذهب فيصلي عليه صلاة الجنازة.

وقد انتبه أحمد شفيق إلى هذه العداوة المتأصلة للإسلام في فرنسا، مع أنه كان حينئذ طالبا مبتعثا خالي الذهن من هذا الشأن، وذلك حين حضر "محاضرة  في مدرسة العلوم السياسية عن "سياسة فرنسا في الجزائر" تناول فيها المحاضر السياسة الغربية في هذه البلاد وخططها ومشاريعها، ومما قاله: "إن فرنسا تلاقي عنتا في اغتنام عطف العرب لأنه يتعذر امتلاك قلوبهم ما دام الإسلام يحول بينهم وبين الخضوع لأمة نصرانية"، فكانت الفكرة المقصودة بهذه العبارة هي أن توجه فرنسا جهودها لإخماد حمية الإسلام في نفوس الشعب الجزائري تمهيدا لاستعباده المطلق، وهذا ما تميزت به السياسة الفرنسية في شمال إفريقيا".

في الواقع، فإن قصة سليمان الحلبي، الذي تمرُّ بنا ذكراه، تختصر قصة المواجهة بين الأمة المسلمة وبين الغرب وفي قلبه فرنسا.. كيف هذا؟!

1. مع أنه أُمْسِك بسليمان ومعه السلاح القاتل، إلا أنهم لم يقتلوه، بل نصبوا له محكمة تسمع أقواله وتساءله وتسجل إجاباته!! يبدو مظهرا حضاريا حقا.. لكن هذا المظهر الحضاري ليس إلا غلافا برّاقًا للجوهر الخبيث الذي عبَّر عن نفسه في الضرب الذي تعرض له المتهم حتى اعترف، ثم عبَّر عن نفسه في العقوبة الوحشية التي أُنْزِلت به، وعبَّر عن نفسه في قتل المشايخ الذين اتهمتهم الفرنسيون بأنهم عرفوا نية سليمان ولم يبلغوا عنه، وعبَّر عن نفسه في هياج الجنود الفرنساوية الذين اندفعوا في شوارع مصر يقتلون من قابلهم –رجلا أو طفلا أو شيخا- انتقاما لمقتل قائدهم!!

نعم، إن فرنسا أتقنت تغليف وحشيتها بغلاف من الشكل القانوني اللطيف، ثم تُسَمِّي هذا حضارة!! فهذا المظهر الحضاري الزائف، الذي يُغلف طغيانا وعتوا كبيرا، غرَّ بعض أبناء أمتنا حتى نفروا من شريعتهم الغراء، وتعلقوا بهذا الطغيان المزخرف!

2. قبل أن تنخر في عقولنا فكرةُ الوطنية القُطرية الضيقة كان الفتى الحلبي يرى نفسه مُكَلَّفًا بالدفاع عن المسلمين في مصر، وهو ابن حلب التي لم يقتحمها الجيش الفرنسي! فلو أنه كان في زماننا الآن لكان هو نفسه موصوفا بالإرهاب، وموضوعا تحت تصنيف "الجهادي العالمي" و"المقاتل الأجنبي" الذي تعاقب عليه القوانين المحلية والدولية! وذلك أمرٌ صار يتقبله كثير من الناس، إذ يستغربون قتال الشامي في مصر، أو المصري في الشام!

إن البطولة التي يمثلها سليمان الحلبي ستظل دائما مُلْهِمة، ستظل ذكرى تقاوم زيف الأكذوبة الحضارية في الغرب، وتقاوم انقسام الأمة وفق الحدود التي وضعها الأجانب!

نشر في مجلة أنصار النبي  - العدد 2


الندوي، ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين، (المنصورة: مكتبة الإيمان، د. ت)، ص117.

([2]) جواهر لال نهرو، لمحات من تاريخ العالم، ترجمة: عبد العزيز عتيق، (القاهرة: دار المعارف، 1958م)، ص26 وما بعدها.

محمد رشيد رضا، تاريخ الأستاذ الإمام، (القاهرة: مطبعة المنار، 1931م)، 1/924، 925.

أحمد شفيق، مذكراتي في نصف قرن، 1/312.

المصدر السابق، 1/300.

للأستاذ جلال كشك رحمه الله تعليق بديع على أجواء محاكمة سليمان الحلبي، في كتابه الرائع "ودخلت الخيل الأزهر".

1 like ·   •  0 comments  •  flag
Share on Twitter
Published on July 04, 2022 22:05