علياء الداية's Blog, page 5

November 23, 2013

عشر ليرات ـ قصة

عشر ليرات
قصة : علياء الداية

جلس سليم في سيارة الأجرة، ولكن هذه المرة في المقعد الخلفي، فإلى جانب السائق كان رجلٌ ومعه كيس كبير. كان الرجلان منصرفين إلى الحديث بينما سليم يضمّ جوانب معطفه، ويسند رأسه إلى ظهر المقعد، يحاول التخفف من أعباء النهار الذي لم ينته، حين لمح إلى يساره ثقباً دائرياً في المقعد. كان الظلام يهبط على الشارع حيث يسير التكسي، وقد غابت الشمس قبل نصف ساعة، وسليم يستسلم إلى الوجوم وشيء من الكآبة. كل ما حوله مهترئ، حياته الصعبة، عمله المضطرب، ومتطلبات أسرته، أصلاً لم يكن ليتأخر بعد مغيب الشمس لولا الحاجة إلى مرور سريع بالصيدلية.
"سأضيع الوقت لو تنقّلت من حافلة إلى أخرى. هكذا بالتكسي أسرع، لكنه ليس أوفر بالتأكيد. والآن ثقب آخر مهترئ إلى جانبي!"

يمدّ سليم أصابعه ناحية الثقب فيفاجأ بأنه ليس ثقباً، بل قطعة نقدية، على الأغلب إنها عشر ليرات. السائق ومرافقه منشغلان بحديثهما، يبدو أن الراكب صديق للسائق أو قريب له. لم يمانعا في توصيله إلى حيث يريد، لا يبدو أن الراكب سينزل قريباً، يستغل سليم فرصة ثرثرتهما ويتلمّس القطعة من جديد. "لها حوافّ بارزة محيطة بها، إنها عشر ليرات، ولكن لماذا هي هنا؟ بالتأكيد انزلقت من جيب أحد الركّاب قبله، واستقرّت هنا." يفكّر سليم. "هل آخذها؟ عشر ليرات ليست مطمعاً لأحد، وليست لا شيء على أية حال. ولكن ماذا سيقول السائق لو التفت فجأة ورآني آخذها؟ أو إذا تنبّه إلى حركتي وأنا ألتقطها وأدسّها في جيبي؟ قد يتجاهلني، وربما يفتعل شجاراً بدعوى أنها له وأني أسرقها من سيارته. احتمال آخر: ماذا لو كانت فخاً؟ نعم، قد يكون صديق السائق ـ بتّ مقتنعاً أكثر الآن بأنه صديق ـ وضع العشر ليرات هنا، واقترحَ على السائق الإيقاع بأول زبون، وترصّده والإمساك به: أيها اللص! وسأعلَق في شجار مع شخصين من أجل عشر ليرات وهما الرابحان حتماً."

يتشاغل سليم عن القطعة النقدية بالتأمل عبر النافذة إلى جانبه. شوارع حلب تنقلب من كآبة الغروب إلى حيوية الليل، مصابيح من هنا وهناك، التماعات زجاج محلات على جانبي الطريق، وتوهّج لافتات بعض المقاهي في عمق أحياء سكنية، وقريباً من مجمعات تجارية حديثة. السيارات من حوله تنتظر أن تفتح الإشارة الخضراء، سيارات أجرة صفراء، وسيارات خاصة منها القديم الباهت، وقليل منها فاره.

يذكر كيف أنه وأصدقاءه ـ مع بداية طرح قطعة العشر ليرات في التداول قبل سنوات ـ حاولوا الاستعاضة عنها في أجهزة الهاتف والألعاب وغيرها بقطعة الليرة الواحدة بنسختها القديمة التي تقاربها في الحجم والوزن، دون أن يفلحوا في ذلك. كانت الآلة ترفض أحياناً إدخال القطعة، أو تلفظها خارجاً، وأحياناً تبتلعها بلا عودة.
عشر ليرات توفر عليّ أجرة الحافلة ذهاباً وإياباً لمرتين، يمكنني أن أوفر بها جزءاً من ثمن ربطة خبز، أو ببساطة تضعها ابنتي في حصّالتها، ليست رقماً تافهاً.
يلتفت مرافق السائق إلى الخلف، فيظنّ سليم أنه سيواجهه، يتحفز، لكن الرجل يشير بيده إلى جهةٍ ما من النافذة اليسرى ويكمل حديثه مع السائق مبتهجاً. يستعيد سليم أنفاسه، ويفطن إلى أنه لم يتابع شيئاً من كلام الرجلين، ويكاد يفوّت الزاوية التي يريد النزول عندها.

يلمح سليم الصيدلية المطلوبة، يقف السائق، يحاسبه سليم وينزل من السيارة، وحين يهمّ بصفق الباب يهرول شابٌ ويمسك بالباب، يفاوض السائق على وجهته ثم يدلف إلى الداخل، وتمضي السيارة، وتمضي خواطر سليم تودّع الراكب الذي سيجد إلى يساره على المقعد قطعة نقدية من فئة عشر ليرات.

نشرت هذه القصة ضمن المجموعة القصصية “شهرزاد الكواكب”، تأليف: علياء الداية، دار الحوار، سوريا، 2013
3 likes ·   •  0 comments  •  flag
Share on Twitter
Published on November 23, 2013 12:29 Tags: ليرة-ليرات-حلب-قصة-تكسي

October 16, 2013

قلعة حلب في ثلاث قصص ـ مقال

قلعة حلب في ثلاث قصص

مقال: د. علياء الداية

تتمتع قلعة حلب بمكانة أثيرة في نفوس أهل المدينة، ويمتدّ تأثيرها ليأخذ بإعجاب العابرين من زوّار وسياح. هذه القلعة التي تتربع على هضبة مرتفعة تتوسط مدينة حلب، وتتميز بأنها سجلّ تاريخي شهد حقباً من أيام المدينة على مرّ عصور، وتتميز أيضاً بأسلوب عمارتها الجميل المشهور عالمياً، وتطلّ على مدينة حلب أسواقاً وآثاراً وحدائق وأحياء شعبية وحديثة.
وتتجلى مكانة قلعة حلب في الإبداع القصصي السوري المعاصر، في نماذج عدّة، منها القصص الثلاث: "أيها القادم الجميل" لوليد إخلاصي، من مجموعته "الأعشاب السوداء ـ 1980"، و"سهرة" لشهلا العجيلي، من مجموعتها "المشربية ـ 2005"، و"على أهبة الحب" لغفران طحان، من مجموعتها "كحلم أبيض ـ 2009".

القلعة والزمن:

ينشغل السارد في قصة "أيها القادم الجميل" لوليد إخلاصي بالزمن الماضي، وتقترن قلعة حلب في مخيلته بحبيبته عائشة، فالرجل الذي فقد زوجته إثر حادث مفاجئ، يبقى أسير الماضي. إذ يطلّ طيف زوجته في كل زاوية وكل حين، حتى حين يكون مع عائشة، فهو يشفق عليها من ذكرياته وحنينه إلى ماضيه "والآن عليّ أن أعترف بحقيقة اكتشفت أنها تعيش في داخلي مخيفة، وهي خوفي من أن أفقد عائشة فيما لو تزوجت منها كما فقدت زوجتي من قبل". ومن اللافت أن قلعة حلب تؤدي دوراً إيجابياً في انتشال الرجل من خواطره ومن هواجسه أيضاً، ففي بداية القصة، يخيّل إليه أنه يرى رجلاً وسيماً يلُوح أمام القلعة، ثم إنه يشاهد هذا الرجل الوسيم في المقهى، ويكتشف لاحقاً بأنه تجلٍّ لملك الموت يختطف شلّة الرجال المتقاعدين في المقهى، واحداً إثر الآخر، يوماً بعد يوم. إنّ هذا التخييل في شخصية الرجل الوسيم، يرمز إلى هاجس الموت المبهم، الذي يسيطر على السارد منذ موت زوجته، وإلى عدم قدرته على الفكاك من التفكير فيه والخوف منه، فمن الواضح أنه ينكفئ عن الحياة والنظر إلى المستقبل بسبب التوجس من المجهول "وشيئاً فشيئاً كانت عائشة تعود إليّ. وأحسست بحب عظيم للمدينة التي كنت أتصور أنها لن تعرف الموت أبداً. وكنت أفكر بالأيام القادمة". ولكن منذ أن أخذ السارد يتجول حول قلعة حلب مع عائشة، لم يعد الرجل الوسيم يظهر في محيطها، بل إن عائشة صارت تشغل مساحة أكبر من الأمل بالغد، وتمتزج بجمال المدينة، وببهاء القلعة، "والقلعة كانت وجوداً، وتعانقت يدانا أملاً، خطوة فخطوة حول القلعة في الظلام الشفاف، وتتوهج نقاط صغيرة في الداخل، وأحس بما تحت جلد عائشة فأتطلع إلى بطن القلعة المليء بالأسرار والزمن"، وفي كل مرة كان السارد يشعر بأنه يقترب أكثر من الإقبال على الحياة، ومن نسيان المقهى بما فيه من إيحاءات الماضي.

أما قصة "سهرة" لشهلا العجيلي، فيستولي فيها الزمن الراهن على اللحظات كلها، وتحتوي القلعة حيوية الساردة وأملها في أن تلفت انتباه الرجل الذي تحب، وأن يكون لقاء القلعة وحضورهما المشترك في حفل الطرب مقدمة لأيام آتية تعد بالحب والسعادة؛ "كنت واثقة من أنك ستكون هناك، أجل لا بدّ أن تكون، القصائد والموشحات والمواويل، شيخ الطرب وقلعة حلب! أعرف أنك تعشق كل ذلك، أليس الأدب حرفتك والفن عالمك!" ويتركّز الحدث الأساسي في حماسة الساردة أثناء الحفل، لا لمتابعة شيخ الطرب والانبهار بأدائه مترافقاً بالألحان فحسب، وإنما لترقّب حركة الرجل والتفاتاته من موقعه في الصفوف الأمامية "جلستُ حيث أشرف عليك، وحيث تضطر للالتفات كي تراني، عندها أعرف أنك تتقصد النظر إليّ. لم يهدأ رأسك لحظة، كنت تبحث عني". إن القصة كلها تسير قدماً نحو ما يعتقد المتلقي أنه تحقيق أمنيات الساردة وحلمها باللقاء المنشود "غداً، متى يأتي غداً، سنتكلم على كل شيء من اللحظة التي قررتَ فيها حضور الحفلة"، ولكن أفق التوقعات ينكسر تماماً حين تكتشف الساردة في اليوم التالي أن زميلها في العمل لم يكن هو من رأت في الحفل، بل إنه لم يكن ليكترث بالفن والطرب والقلعة! "هه! ومن قال لكِ بأنني من عشاق شيخ الطرب لأتكبّد مشقّة القلعة ودرَج القلعة وأسهر حتى الصباح أسمع عجوزاً تكاد تخرج روحه مع كل آه".

تَنظر قصة "على أهبة الحبّ" لغفران طحان إلى المستقبل، فمنذ البداية تتوق الساردة إلى موعد قادم تلتقي فيه حبيبها "يومها قلت له: أين أراك؟!! قال: في جميع الأمكنة... فمنذ أن بحت لهذه المدينة بحبي لها، صارت تدعوني بتواطؤٍ صامتٍ لقضاء ليالي الحب أنّى شئت فيها!" وإذ لا تحصل على إجابة محددة، فهي تقرر أن تكتشف بنفسها جمال المدينة التي تشترك مع حبيبها في الانتماء إليها "كانت مدينتي أيضاً، ولكنني لم أرها كما وصفها يوماً... كان يقول وشوق مغتربٍ لسنين طويلة يسكن فيه: أُحبها كما لم يحب أحد... دققي الإحساس فيها... تابعي تفاصيلها... سترين الحنان ينضح من كل جزءٍ فيها". ويصل بها المطاف إلى قلعة حلب، المكان الذي قلّما نسائل أنفسنا عن مكانته الحقيقية عندنا، فهو على الرغم من ألفته الشديدة يستحق الاكتشاف مرة بعد مرة، وهذا ما قامت به الساردة. إذ أخذت تطوف بالقلعة، منذ الصباح الباكر، تستطلع أبهاءها، وتتأمل أبعادها وأسوارها، وتعانق حجارتها التي يفوح منها عبق التاريخ "السياح يتجمّعون حولي، ويلتقطون الصور... وهم مستغربون من ذلك التآلف الغريب بين لون الحجارة ولون بشرتي... بين شموخها وبين ما يفيض به جسدي من كبرياء". وهي تمعن في التوجه نحو المستقبل، فتتخذ مهنة جديدة هي الدليلة السياحية في المنطقة، تحيي التاريخ بمنحه إمكانية السفر عبر الزمن والمكان إلى عقول وقلوب روّاد المكان، ولتكون على أهبة الحب والاستعداد للقاء حبيبها وحبيب القلعة، "وقف لدقائق يحدق بي وكأنه لا يعرفني... بينما كنت أتشاغل عنه بشرح تفاصيل التاريخ لبعض السياح... فقد أضحى هذا عملي منذ أن تركني قبل ثلاثة أشهر على أهبة الحب".

القلعة واكتشاف الآخر:

يشكّل الآخر/ الرجل محور الاهتمام في القصص الثلاث، ففي قصة "أيها القادم الجميل" يكون السارد قلقاً بشأن الرجل الوسيم الشاب الذي أطلّ من جهة القلعة، ثم صار يبرز خفية من باب المقهى الذي يتردد عليه. وقد استغرق السارد فترة حتى ينسى هذا الرجل، الذي هو صدى لأفكاره السوداوية حول الموت، ويستبدله بالفرح والحلم بالمستقبل مع الحبيبة عائشة "عن بُعد كانت عائشة تتقدم فتهللت لها بشراً، وفي الطرف المقابل كان القادم الجميل يقف تحت عمود للنور محدقاً وعيناه ترسلان إحساساً بالجذب لا يقاوم. ظلت قدماي ملتصقتين بالأرض زمناً رجراجاً وكأنني أتمايل بين قطبين هما عائشة والرجل الجميل". وكانت قلعة حلب معيناً له على الانتقال من الخوف من الرجل الوسيم، إلى الاطمئنان إلى عائشة.
وفي قصة "سهرة" شكّلت الأجواء الطربيّة الساحرة في قلعة حلب عاملاً مخاتلاً، جعل الساردة تقع تحت تأثير تهويمات أفكارها وأحلامها بلقاء من تحب، ففرضت تخيّلاتها نفسها على الواقع، وبات الحلم هو الأساس أما الواقع فإطارٌ هشٌّ له. وقد انقلب الأمر في اليوم التالي، ففي النهار كشفت أوهام الليل، وبدت حقيقة أن الساردة عاشت ما هو أشبه بالحلم من الواقع.
سعت الساردة في "على أهبة الحبّ" إلى الاكتشاف، ولكنه كان مغايراً لما في القصتين السابقتين، في أنها اتجهت إلى الرغبة في معرفة سرّ القلعة الذي يجعل حبيبها مأخوذاً بها، وعاشقاً لمدينته حلب. ولذلك كانت النتائج التي تتوصل إليها أقرب إلى اليقين، فالرجل غائب في كل القصص عن القلعة، وإن حضر فهو حضور جزئي متخيل في النفس. ومن ثنائية الحضور والغياب وطّدت الساردة حضور حبيبها في روحها رغم غيابه وسفره، وحضور مدينتها في شخصها وحياتها التي تصل الماضي بالمستقبل.

السرد والتماهي بالقلعة:

يتيح السرد لشخصيات القصص فرصة للتماهي مع قلعة حلب، وهم في المحصّلة يصبحون جزءاً من القلعة بشكل مباشر أو غير مباشر. فالسارد في "أيها القادم الجميل" يجعل من حبيبته عائشة والقلعة شيئاً واحداً، وهما تشتركان في العديد من الصفات. ومن الملحوظ أن حبّ القلعة الذي يسكن السارد، يقوده إلى إسباغ الصفات المحببة رقّةً وجمالاً على عائشة.
أما الساردة في "سهرة" فتُعايش الحفل الطربي، وتنفعل معه حباً وبهجة إلى الدرجة التي تنسى فيها نفسها، ويصبح حلم اليقظة سيد الموقف، وتخلو الساحة للتهيؤات بكل ما هو بعيد المنال، وحلم أثير. فكأنّ الساردة تتحول إلى لحن من الألحان أو بيت من الشعر المغنى تستحضره إلى اللحظة الراهنة كي تعيشها بكل بهائها، "وأمتدّ بين ضفاف وجودك وضفاف ذلك الصوت، شيخ الطرب: جلّ من قد صوّرك/ بدر من ماء وطين/ وجعل في منظرك/ بهجة للناظرين".
ويتحقق الأمر ذاته في قصة "على أهبة الحب"، فحضور الحبيب لا يتعدى لحظات ماضية قليلة، يتلوها زمن مفعم بالانتظار والغياب، ويكون مفتاح الشوق هو تماهي الساردة مع القلعة ومحيطها من الأحياء الشعبية "في الصباح سابقت ذلك البريق لتقبيل جوانب الحارات القديمة التي يسكن إحداها"، والامتزاج بتراث المدينة وصولاً إلى حقيقة عمق الانتماء الذي تحسّ به وتختبره بالتجربة التي تعطي معنى جديداً لوجودها وحياتها.

رابط المقال في موقع آراء الإلكتروني :
http://www.araa.com/article/74066
 •  0 comments  •  flag
Share on Twitter
Published on October 16, 2013 18:21 Tags: قلعة-حلب-قصص-سوري

October 11, 2013

قصة : محلّ التحف والمصباح السحري

محلّ التحف والمصباح السحري

قصة : علياء الداية

أخذ الراكب إلى جواري في الحافلة يلفّ سيجارة. كنت أحسب أنّ لفّ التبغ يدوياً قد انتهى منذ زمن. كان رجلاً مسناً، ولا أدري كيف يقاوم اهتزاز الحافلة لدى سيرها واضطرارها إلى الوقوف في المحطات المتكررة، يأخذ بأطراف أصابعه بعض ورق التبغ الناعم من العلبة، وينقله بحرص إلى وسط ورقة بيضاء رقيقة، سرعان ما لفّها لتصبح لفافة رفيعة.
ثلاث مرات في الأسبوع أركب خط الحافلة هذا إلى الشركة التي أعمل فيها بدوام جزئي مساء. أنزل في أقرب مكان، أعبر ساحة المدينة ثم أمرّ في الشارع الضيّق الذي تطل عليه الأبنية ذات المشربيات الخشبية الحلبية التي يمتاز بها هذا الحيّ.
دقائق قليلة وأكون في مقرّ الشركة. الشارع معتاد بالنسبة إليّ، بل أليف جداً، فقد قضيت طفولتي قريباً منه. كنا نسكن هنا قبل أن يقرر والدي الانتقال إلى حيّ جديد. أنا والأصدقاء في الحارة كنا نقوم بطرق باب أحد البيوت ثم نركض هاربين مترقبين خيبة صاحب البيت بعدم وجود أحد على الباب، ثم نركض ونعاود الكرّة من جديد، وفي النهاية نقهقه ضاحكين، حتى إننا في إحدى المرات اخترنا بيتاً على الزاوية، وربطنا خيطاً بسقّاطة الباب وسحبنا الخيط برفق عبر الشارع المائل إلى الزاوية المقابلة واختبأنا. نغالب الضحك حين نشدّ الخيط ونفلته فتهوي السقاّطة على الباب وتدقّ، مرة مرتين ثلاثاً، يفتح الباب ويتطلع جارنا يميناً وشمالاً، لا يجد أحداً. بعد دقيقة نعيد الحركة ويطلع الجار أيضاً مندهشاً، اقترحَ كامل أن نكتفي بهذا القدر، ولكننا مضينا في الشوط بعيداً وهكذا اكتشفَنا الجار وأخذ يطاردنا ونحن نولّي هاربين.
صديق الحارة كامل يمتلك الآن محلّ مفروشات في الشارع نفسه، وأزوره أحياناً نتحدث في شؤوننا، وكثيراً ما نسهر مع الأصحاب القدامى منهم والجدد.

الشيء الجيد هو انتقال بعض بسطات بيع الكتب إلى هذا الشارع مؤخراً. كان من الممتع أن أقلّب صفحات كتاب عن العصر الأموي أو العباسي، والمشربيات من حولي تعطي إيحاء بذلك العصر، أستثني من ذلك أبواق السيارات وزحامها. وتستهويني عناوين الكتب، لذلك صرتُ أخرج أبكر من المعتاد بعد الظهر، كي أتيح لنفسي وقتاً أمامها، أو أحاول إنهاء عملي قبل أن يوغل الليل، فأظفر بالمرور في الشارع. فقد لازمتني هواية المطالعة منذ المرحلة الإعدادية ومكتبة المدرسة التي حثّنا أستاذنا على ارتيادها وتلخيص ما فيها من كتب في واجبات مدرسية بأسلوبه المحبّب والمشجّع.
اشتريتُ نسخة من رواية للكاتب المحلّي (ن)، لم يسبق أن قرأتُ له، رأيت الغلاف زاهياً وحين قلبت صفحات الكتاب جذبتني عباراته فقررت خوض المغامرة. على الطرف الآخر من الشارع تنبّهتُ إلى محلّ مهمَل لم أكن رأيته من قبل. اندهشتُ قليلاً، ربما طغى الاعتياد اليومي ففاتتني بعض المعالم فيه. عبرت الشارع إلى الرصيف الآخر الضيّق، ودخلت إلى المحلّ، كانت له بضع درجات إلى الأسفل، ذكّرني بمحل الإسكافي القديم الذي كنا نصلح عنده الأحذية. ولكن هذا المتجر على ما يبدو يبيع الأشياء القديمة، إنه متناسب مع تراث المكان ويلفّه شيء من الغبار والغموض. يرحّب بي البائع وأنا أجيل بصري في زوايا المحلّ، صغير نسبياً بحجم غرفة، لكنه زاخر بأشياء كثيرة، قطع سجّاد ملفوفة، ثريّات قديمة وصحون صينية، فناجين قهوة مفردة أو مزدوجة، لكن لم أرَ طقماً كاملاً إلا من كؤوس فضية.
"تحتاج هذه إلى تلميع" يقول البائع العجوز وقد رآني أتأمل الكؤوس، "مسحة واحدة وتعود كما كانت قبل نصف قرن".
"شكراً" أبتسم له وأهزّ برأسي وأنا أهمّ بالخروج. يمدّ البائع إليّ يده حاملاً قنديلاً معدنياً مكسواً بالغبار: "انتظر... عليك بهذا القنديل، مصباح سراج الدين". أنظر إليه لا أعرف هل أُدهش أم أتظاهر بعدم الاكتراث، وقبل أن أتكلم يقول: "نعم، اسمه سراج الدين، وليس علاء الدين. لكن لا تقلق، يمكنك اعتباره ابن عمّه، له قدرات فائقة كمصباح علاء الدين، يشبهه كثيراً". هذه المرّة أتكلّف ابتسامة وأشكره، ثم أهرول خارج المحلّ متأبطاً محفظتي ورواية الكاتب (ن)، وبعد خطوتين كنت قد نسيتُ المحل وسراج الدين والغبار.

استمتعت ذلك اليوم بقراءة الرواية، وقررت البحث عن المزيد لهذا الكاتب الموهوب. ما كان عليّ إلا أن أقصد بسطة الكتب نفسها التي اشتريت منها، الميزة هي أسعارهم الزهيدة، كون الكتب التي لديهم مستعملة أو مشتراة ممن يرغبون ببيع كميات من الكتب. بسهولة وجدت رواية ثانية للكاتب (ن)، تأبطتها ومشيت، ومن جديد التفتتُ إلى محل التحف، فكرتُ أن شراء شيء تذكاري قديم قد يكون لطيفاً لوضعه في مدخل الشقة التي أقطنها، وهكذا نزلتُ الدرج، وكما في المرة السابقة هبّ البائع وهو يعرض عليّ الآن علبة فيها خواتم فضية بفصوص من العقيق. لم أكن من هواة هذه الأشياء، تكفيني ساعتي التي أرتديها وذات يوم حين أقرر الزواج سوف أرتدي المحبس مكرهاً لأني لا أحب الخواتم. وكأن العجوز قرأ خواطري، فأشار إلى بضعة خواتم في طرف العلبة: "لا بدّ أن يعجبك شيء من هذه المحابس". في الواقع خشيت من إضاعة مزيد من الوقت، فهربت من المحل وأسرعت إلى الشركة قبل أن يسبقني المدير ويعاقبني على تأخري.
تلك الليلة، مع الرواية الثانية استوقفني هامش أسفل الصفحة رقم 111، مكتوب يدوياً بالقلم الرصاص، يحدد لي رواية ثالثة من روايات الكاتب (ن) ويتمنى لي قراءة طيبة! هه! وما أدراه أن الرواية الثالثة موجودة على البسطة كي أشتريها وأقرأها؟ ولكنها كانت هناك بالفعل، واشتريتها حين مررت بالشارع. وفي البيت لدى قراءتي لها استوقفني هامش في الصفحة 111 يقترح عليّ قراءة رواية للكاتب (م)، يحدد لي اسم الرواية مع تمنيات بقراءة ممتعة! أتلفّت حولي! هل أنا في حلم، هل من شبح ما في الجوار يتسلل إلى الكتاب؟ هذا غريب.
في المرة الثالثة قررت أن أروّح عن نفسي قليلاً قبل رؤية بسطة الكتب، فدخلتُ إلى محل التحف، وأنا أفكر ما الذي سيعرضه عليّ البائع، وقررت أن أكون أكثر لطفاً. سُرّ البائع برؤيتي، كنتُ أتأمل أزهاراً خزفية في آنية، فقال لي: "ربما لا تعجبك، وقد تجد شبيهاً بها في المحلات المجاورة الحديثة، لكن صدقني إنها تحمل روح الماضي، صناعتها متميزة وألوانها ثابتة لن تزول". بالفعل لم تكن تستهويني، لكنني جاملته وقلت: "معك حقّ". "أرأيت!" كان يبدو مبتهجاً: "اسمع". ويفاجئني بالمصباح السحري أو كما سمّاه: سراج الدين، بيده يلوّح به أمامي. "هذا المصباح..." وأقاطعه: "أجل، أعرف إنه مصباح سراج الدين". ويبتسم مسروراً: "تذكّرتَه إذن. اسمع، هذا المصباح سحري فعلاً، سيعجبك. انظر، هه". وينفخ عليه فيتطاير الغبار، ولشدّة توجّسي أتخيل أن مارداً سينتفض من داخله، فأقول له: "اعذرني، سأعود لاحقاً، لديّ عملٌ هام". وأقفز الدرجات صاعداً وصوته يلاحقني: "لا عليك، سأحتفظ لك بالمصباح!"

أسرعتُ إلى الشركة وقد نسيتُ بسطة الكتب ورغبتي في شراء رواية الكاتب (م) التي اقترحها عليّ الهامش السابق في الصفحة 111، ولكني استدركت ذلك في طريق العودة، وقبل أن يَلمّ صاحب البسطة كتبه كنت قد اشتريت رواية الكاتب (م). كان الشارع مظلماً ليس فيه سوى نور شحيح من مصباح الإضاءة المرتفع، لذلك كما تتوقعون، فور وصولي إلى الشقة سارعت بفتح الصفحة رقم 111، وكما تتوقعون أيضاً وجدتُ اقتراحاً من صاحب الهامش اليدوي بأن أقرأ هذه المرّة كتاباً في تنمية المهارات. قرأتُ الرواية على مدى بضعة أيام، فقد كانت سميكة، حجمها أكثر من 400 صفحة، فضلاً على انشغالي بعمل كثير للشركة أقوم به على الحاسوب في البيت. كنت فعلاً بحاجة إلى كتاب في تنمية المهارات.
وهكذا مضيتُ إلى بسطة الكتب، تأملتُ عدداً من كتب تنمية المهارات، أغلبها كان رقيقاً لا أتصور أنه يزيد على المئة صفحة، يا ترى هل سأعثر على الهامش في الصفحة 111؟ والتقطتُ الكتاب المقترح وكان ـ يا للدهشة ـ يتكون من مئة وخمسين صفحة. ألقيتُ نظرة عجلى على الصفحة 111، فلمحتُ هامشاً بالقلم الرصاص فاطمأننت واشتريته. فيما فاض معي من وقت دخلتُ بضع دقائق إلى متجر التحف، هذه المرّة تفحّصتُ الفناجين القديمة الرائعة، هذا المحلّ يذكّرني ببيت جدّي، كل ما فيه يعود إلى قرنٍ غابر، عبق من التاريخ الذي اندثر الآن أو كاد. الفناجين موضوعة على صينية تعلو تلفازاً مربعاً أحمر اللون. وخطرت في بالي الفكاهة المفضّلة لدى صديقي كامل حول الرجل الذي سأل بائع أجهزة كهربائية: هل لديك تلفزيون ملوّن، فأجابه: عندي، فقال له: أعطني واحداً أزرق!

وهنا أطلّ البائع العجوز من باب داخلي ملحق بالمحلّ، يبدو أنه يؤدّي إلى مستودع صغير. "أهلاً بصديقي العزيز!" صديقه؟ يبدو أنني صرتُ مقرّباً إليه هذه الفترة بترددي إلى المحلّ. وأخذ يسرد لي محاسن الفناجين، وكيف أن لكل منها حكاية بتعدد البيوت التي جاءت منها: "أصحاب البيوت التي كانت فيها هذه الفناجين انتقلوا إلى أحياء متنوعة حديثة من حلب، بعضهم صار في أميركا، ألمانيا، فرنسا، في الخليج، أما هذا التلفزيون، ويشير إليه يكاد يحتضنه بكلتا يديه، فهو للعرض فقط لا يصلح للاستخدام ولا أنصحك به. ما إن تشغّله حتى يزعق بصوت عالٍ، ثم إنّ الصورة تبدو فيه صغيرة بحجم شريط فيلم السينما المضغوط، بعد ذلك يستعرض ويستقر شيئاً فشيئاً، إنه بالأبيض والأسود، ولا يمكنه التكيف مع استقبال القنوات الفضائية."
"هذا رائع!" أقول، ثم ألمحه يقبض على مصباح علاء، أقصد سراج الدين، وقد بات لامعاً تبدو فيه قطع براقة من الزجاج الملوّن. "انظر يا صديقي، هذا تحفة فنية"، فأقول له: "أعرف، إنه مصباح سراج الدين، لكن يبدو أنك أصلحت من شأنه".
"بالضبط، كان المصباح الناجي الوحيد من حريق ألمّ ببيت أحد الأغنياء في هذا الشارع، في تلك البناية على اليسار أقصى الشارع، هل رأيتها؟" ويشير إلى الفسحة التي تبدو بين سقف الباب ودَرَج المحلّ. أتظاهر بأنني رأيتها.
"أودّ كثيراً لو تشتريه، له مزايا سحريّة ستعاينها بنفسك حين تضعه في البيت." الحقيقة أن شكله يبدو أنيقاً بعد العناية به، ولكن لا أظن أنني بحاجة إلى شيء كهذا في بيتي. "لقد دهمني الوقت، شكراً لك". وأمضي خارجاً، والبائع يلاحقني: "كم تدفع ثمناً له؟ سأراعيك في السعر". لكنني كنت قد ركضتُ لألحق بالعمل.
الهامش في ص 111 يقترح عليّ هذه المرّة كتاباً عن علوم الفضاء، على ما يبدو من العنوان المقترح أنه كتاب مبسّط مفيد. كنت فعلاً أحتاج إلى تغيير نمط الكتب، ومنذ زمنٍ طويل أتطلع إلى السماء وأحب رؤية النجوم وأتخيل عارفاً أن بعضها عبارة عن كواكب تعكس أشعة الشمس على الطرف الآخر فتضيء في الظلام.
كانت ليلة ماطرة في أوائل الخريف، لكن الأمطار مفاجئة هذا العام وهطلت بغزارة، فأغرقت الشوارع بالماء واضطربت حركة المرور لبضع ساعات في صباح اليوم التالي.

كان في السماء بقية من غيوم حين مضيتُ بعد يومين مساء في طريقي إلى الشركة، اضطررتُ إلى التقاط كتاب علوم الفضاء وشرائه بسرعة لأن صاحب البسطة انهمك في تغطية الكتب بالنايلون السميك خشية قطرات المطر التي تنذر بالهطول. لففت الكتاب داخل محفظتي وأكملت سيري، لكني تذكرت محل التحف القديمة، لم لا أمرّ به دقائق قليلة؟ لن أتأخر كثيراً. أقطع الشارع ولكن لا أجد شيئاً! أين الدرَج، الباب الخشبي المتآكل القديم؟ أسأل محلّ الاتصالات المجاور عنه، فيقول: "محل تحف! لا علم لي بشيء من هذا القبيل، ربما هو في آخر الشارع أو على الرصيف الآخر". أؤكد له أنه كان هنا، فيقول: "الشوارع القديمة تتشابه، قد يكون في الشارع الموازي خلفنا، ثم إنّ الهطول الأخير أغرق عدداً من المحلاّت فأغلقها أصحابها مؤقتاً ريثما يستدركون أمورهم".
أشكره، وأقف حائراً. لم يكن المحلّ في شارع موازٍ، كان هنا مقابل رصيف بسطة الكتب، ولكن لا أثر لباب، ولا لدرَجٍ. أين اختفى كل هذا؟ يا للبائع العجوز المسكين. هل كان وهماً؟ والمصباح السحري، مصباح سراج الدين، أتراه ينجو من المطر كما نجا من الحريق؟

* القصة منشورة في المجموعة القصصية "شهرزاد الكواكب".
2 likes ·   •  1 comment  •  flag
Share on Twitter
Published on October 11, 2013 03:49 Tags: مصباح-سحري-كتاب-كتب-بسطة-قديم

August 20, 2013

مقال حول رواية "كتاب الرسائل" لميخائيل شيشكين

شيشكين بين سرّ الحياة ورؤى الذكريات

'كتاب الرسائل' .. ملحمة يمتزج فيها العنف بالرقّة، والأمل باليأس، والحياة بالموت، ما يتبقى فعلياً هو الروح الشفيفة والحيرة في تفسير لغز الحياة.

بقلم: د. علياء الداية

"النصر الوحيد في أي حرب هو أن تبقى حياً بعدها"، بهذه العبارة يختصر فلاديمير ما يمكن أن يُقال في رسائله إلى حبيبته ساشا؛ هذه الرسائل التي تُكسب رواية الكاتب الروسي المعاصر "ميخائيل شيشكين" اسمها "كتاب الرسائل" ـ وهي الرواية الأولى التي تترجم إلى العربية لهذا الكاتب، صادرة حديثاً عن الدار العربية للعلوم ناشرون، ترجمة الدكتور فؤاد المرعي.

إن فلاديمير من موقعه على تخوم المعارك خارج وطنه يدرك تماماً إمكانية ضياع الرسائل أو جزء منها، أو تأخرها في الوصول، فهي "تدور في مكان ما. وهي ستصلني حتماً ـ من أي مكان هي فيه الآن. أنتظر، وأنتظر ـ وستأتي مهما طال الانتظار. أظن أني سأتلقى كومة منها دفعة واحدة. إنها الآن تتجمع، ثم ستنهمر كالشلال".

وهذا ما يحصل فعلاً. تنقطع رسائله فترة عن حبيبته، لكنها تتواصل فيما بعد. أما ساشا فتكتب له أيضاً بمعزل عمّا يحلّ به، وهكذا فإن كتاب الرسائل المكون من أوراق فلاديمير وساشا يغدو ملحمة يمتزج فيها العنف بالرقّة، والأمل باليأس، والحياة بالموت، ما يتبقى فعلياً هو الروح الشفيفة والحيرة في تفسير لغز الحياة. يموت فلاديمير لكنه يبقى حياً عبر رسائله، فيما تعيش ساشا في حالة تراوح بين إنكار الواقع لها، وبحثها عن حقيقة ذاتها التي فقدتها بموت حبيبها، لكنها لم تفقد حبها له، فواصلت كتابة الرسائل إليه لأنه موجود في مخيلة الذكرى.

شهرزاد وحكايات فلاديمير:

في هذه الملحمة يتمثّل كاتب الرسائل شخصية شهرزاد وأسلوبها، فيعيش ألف ليلة وليلة من نوع خاص به وبعصره وببيئته "لماذا يكتب الناس؟ إنهم يكتبون، معنى ذلك أنهم ما يزالون أحياء. وأنت تقرئين هذه الأسطر ـ ذلك يعني أن الموت قد ابتعد. بمَ أختلف عن شهرزاد وحكاياتها؟ الفارق الوحيد هو أنها أغنى مني. ألف ليلة ـ ياه، إنها دهر كامل! ترى كم بقي لي من الليالي؟" هذه الرسائل بين الشخصيتين الأساسيتين في الرواية فلاديمير وساشا لا تخضع للتقاليد الزمنية السردية، فنحن لا نجد تسلسلاً منطقياً لتوقيت الرسائل، بل يأتي كل منها بشكل منفصل ومنفرد، في المحتوى وحجم الأمل أو التشاؤم فيها، وكذلك هي الشخصيات الثانوية، قد ترد بكثافة وتشغل سطوراً طويلة في إحدى الرسائل، ثم تتوارى إلى الظّل أو يتم إهمالها تماماً في رسالة أخرى. أما سرد الشخصيات داخل الرسائل فهو مخلص للتقاليد الروائية الكلاسيكية الروسية، فيعطي الأولوية لانسياب الشخصية أو تعبيرها عن ذاتها، وتَقصّي كل ما يحيط بها من أشياء وأشخاص، مما يؤثّر في نفسيتها، ويدعوها إلى مزيد من تأمل الواقع والاندماج فيه فرحاً وحزناً قريبين من الروح، أو إلى النفور والهرب من المؤلم والمؤذي.

إنّ فلاديمير يَدخل موضوعاً ليخرج بموضوع آخر، من زمن إلى زمن مختلف، وكذلك هي رسائل ساشا، تحفل بشخصيات كثيرة ونماذج من الناس، سير حياتهم مختزلَة في مواقف عابرة مؤثّرة. إذ تتأمل ساشا حالها مع كل من الرجل الذي أصبح زوجها ووافقت على العيش معه ومع ابنته الصغيرة سونيتشكا، والفلكي الذي سارعت إلى انتشال نفسها من غرفته وتلسكوبه وسطح منزله وأطياف نسائه الكثيرات، وحتى حين قامت برعاية أسرة صديقتها المقرّبة أثناء مرضها، فإن هذه الصديقة بادرت إلى تجاهلها لاحقاً وقد لحظت اهتمام زوجها ولطفه تجاه ساشا. هؤلاء الرجال لم تستطع معهم الإحساس بالحب أو الإقبال على الحياة، ففي غياب فلاديمير كلُّ شيء تعبير عن الخسارة والضياع.

فلاديمير في عالم آخر، يتعرّف ما حوله ببطء ورويّة، فزمن الحرب التي سيق إليها زمنٌ طويل يتراءى غير متناه. إن فلاديمير هو الشيء الثابت الوحيد وسط متغيرات كثيرة، كل يوم يحمل أملاً جديداً بالحياة، وألماً بغصة الموت. ها هو ذا فلاديمير وزملاؤه يرقبون الحبّ بين كيريل ولوسي "جميل جداً أن يراقب المرء عاطفتهما التي تولد على مرأى من الجميع ـ في قلب الدم والموت والجراح، والألم والقيح والقذارة. الجميع يلاحظ كيف ينشدّ أحدهما إلى الآخر، وينظرون إليهما مبتسمين. إنهم يحسدونهما طبعاً. لا، هذا تعبير خاطئ، إنهم يغبطونهما. ففي ظل طغيان هذه الوحشية في كل مكان، وطغيان القسوة، يصبح مبهجاً جداً أن تظل الرقة حية لو حتى بين شخصين فقط. أظن أنهم ينظرون إليهما ويتذكرون أحباءهم". وها هو ذا فلاديمير أيضاً يرقب المصير المفجع لمنجزات الحضارة تتكسّر تحت وطأة النعال الغاضبة، إذ لم يفلح المترجم غلازيناب كيريل في ثني الجنود عن تدمير المعبد الصيني بما فيه من قيمة روحية وتاريخية وحضارية "منظر يبعث على الغثيان ـ المصابيح الكبيرة المزخرفة المعلّقة عند المذبح في داخل المعبد، وفي المدخل خارج المعبد، محطمة كلها. تماثيل الآلهة الصينية ملقاة على الأرض في كل مكان وقد بُقرت بطونها وظهورها. ثمة من قال لعساكرنا إنّ من عادة السكان المحليين أن يخبئوا فيها الذهب والمجوهرات... كانت في المعبد طبول ضخمة راح الجنود يقرعونها بمطارق خشبية كبيرة. فهرع إليهم غلازيناب وراح ينتزع المطارق من أيديهم، معلناً أنه لا حاجة لاستدعاء الأرواح عبثاً، وأن الدراكون هو رمز الخير. فأثار ذلك قهقهة الجنود".

الحرب وذكرى الزمن الجميل:

إن فلاديمير يصوّر في رسائله كيف تتحول الحياة إلى مجرّد إمكانية هشّة مقابل عبثية الموت وسلطته التي تغطي كل شيء. فالجنود الشباب لا يموتون نتيجة المعركة والقتال فحسب، وإنما بحوادث عرَضية: انفلات صندوق شحن وسقوطه من شاهق، أو قذيفة غادرة تهوي وسط المعسكر، أو لمجرد تباهي إحدى القوات المتحالفة بقتل المخالفين. ويبحث فلاديمير عن ذاته فلا يجدها إلا في خيال حبيبته، في رسائله يرحل إلى الماضي، بعيداً عن القذيفة التي سقطت قرب زملائه بعد ثوانٍ من مغادرته لهم "سقطت قذيفة حيث كانوا يقفون تماماً. هرعت إليهم. أنا عاجز عن وصف ما رأيت".

يناجي فلاديمير ذلك الزمن الجميل والبيت الريفي الذي شهد لحظات حبّه مع ساشا، هناك حيث تبدو الحياة خضراء بلون الأشجار والأعشاب التي سارا خلالها، وزرقاء بلون البحيرة التي سبحا فيها، وبيضاء بلون الثلج الذي هربا من برودته وصقيعه "لعلّك تذكرين يوم جئت إلى موعدنا عند التمثال بالقرب من صالون الحلاقة. كنت أشعر بوخز في ظهري وقد تجمدت أذناي من شدة البرد الذي لم أعتد عليه. اشتد الصقيع في المساء، ونحن نتنزه ملتفين بشال واحد هو شالك".

يهرب فلاديمير من شروط الحياة تجنّباً للموت، كما هي حالهم في المخيّم، يجلسون في العراء "كان من المستحيل نشر الخيام ـ ما إن ننصب خيمة حتى تبدأ القنابل بالتساقط. كانت النيران تدار من المدينة"، حتى إنّ سمات الناس الأحياء تغدو لوازم للموت في الواقع واستشراف ما يأتي، فالجدائل الطويلة تتحول إلى مشانق "لقد مررنا قبل قليل بشجرةٍ بعضُهم مشنوقون على أغصانها بجدائلهم المعقودة حول رقابهم"، أما صديقه كيريل فيرى إصبع قدمه مفيداً في حال موته "في إحدى قدميه ظفرٌ نامٍ. وقد قال ذات يوم مازحاً: لعلهم سيتعرفون عليّ، إذا قتلت، بواسطة هذا الظفر، لأني سأكون بلا وجه".

في الحرب يتعرف فلاديمير على الجانب القاسي والأناني من نفسه، على شعوره بالفرح والخلاص لأن الموت أخطأه وأصاب جندياً آخر "إن أكثر ما يثير الدهشة ـ هو أن كل واحد هنا يأمل أن يعود إلى وطنه سالماً. وأنّ كل واحد، حين يرى آخر، يعرفه، أو لا يعرفه، حدقتاه فارغتان، كامدتان، وجلده بلون الشمع، وفمه فاغر، يقول في سره مبتهجاً رغماً عنه: هو، وليس أنا! إنها بهجة مخجلة لا يمكن قهرها: اليوم قتلوه هو، وليس أنا! أنا اليوم لاأزال حياً!" شعور لا يشترك فيه إلا مع المرضى، كما هي والدة ساشا حين تندب وتتألم، وتحسد الأصحّاء على عافيتهم "أتمدد هنا وأقول لنفسي: ها هي ذي عاملة التنظيف تمسح الأرض. إنها عجوز معروقة الجسد، قوية، تستطيع أن تستمر في مسح الأرض عشرين سنة أخرى. لماذا أصبت أنا؟ لماذا لم تكن هي المصابة؟" فقد كتبت ساشا لفلاديمير عن مرض أمها، وعن معاناتها في رعايتها ومحاولة التخفيف عنها حتى وفاتها، وكتبت له أيضاً عن رعايتها لوالدها ومن ثم رحيله وقد ترك لها دفتر ذكريات هزيلاً.

فلاديمير كان يرى الموت بأم عينه، ويرى الحب بعين الخيال، يعيش لحظته الحاضرة المترقّبة "ساشينكا، يا حبيبتي، أعرف الآن أن الحرب ليست معارك وانفجارات وجراحاً فحسب، بل هي أيضاً ترقّب لا نهاية له وقلق من المجهول وضجر". حاضرُه جحيم الحرب، أما ماضيه فهو جنة الحب مع ساشا، والمستقبل لا قوام له ولا وجود إلا في الخيال ولحظات ما قبل الرحيل يستحضر فيها الذكريات اللصيقة بروحه، وأحبّ الأمور إلى نفسه "والروائح! أيمكن أن تنسى الروائح! أتذكُر الرائحة اللذيذة في مخزن الحلويات؟ الفانيل والقرفة والشوكولاتة وقطع الكاتو الأثيرة لديك، المدعبلة كالبطاطا... انظر، ومجموعة النباتات المجففة هذه، التي كُتب عليها بخطٍ طفلي متأنٍّ: "بودوروجنيك ـ بلانتاغو" هل نأخذها أيضاً؟"

ساشا تطلّ على المستقبل:

لقد تغلبت ساشا على فكرة المستقبل، فصنعَته بنفسها وأخذت تعيش داخله في حيلة وجودية، تتخلص فيها من الحاضر الذي استلبها زمناً طويلاً وأخذ رونق روحها وبهاء نفسها. لقد تعبت كثيراً، فبعد الماضي الجميل ووعود الأيام السعيدة القادمة مع فلاديمير، كان واقع رحيله ومقتله في الحرب، وعدم قدرتها على الانصهار في مجتمع قاسٍ وظروف حياة تصادف أن يكون المجتمع بحاجة إليها، وهي لا تجد من يُعينها. لم تكن تدري هل عليها أن تهب الناس القدرة على الحياة أم النكوص عنها، لقد جلسَت إلى جوار سونيتشكا الصغيرة ـ ابنة زوجها ـ التي دخلت في غيبوبة الكوما، تناجيها وتوحي لها بأن تساعد نفسها ووالديها فترحل عن الحياة وتغادر عذابها وعذابهم، وفي مرّة أخرى استوقفت فتاة على قارعة الطريق تعاني من الغثيان، وبادرت إلى محاولة إقناعها بالحفاظ على حملها واستقبال الحياة بالعطاء.

عاشت ساشا أخيراً في عالَمٍ يألفها وتألفه، كي تقاوم الزمن والعجز والإحباط وتزيل تساؤلاتها العقيمة "وماذا لو أني كنت ـ بهاتين العينين، وهذا الوجه، وهذا الجسد الذي ألمحه ـ مجرد ذكرى من ذكريات العجوز التي سأكونها ذات يوم؟" فهيأت حياتَها الجديدة وصنعت في خيالها ابنةً بيضاء من الثلج، تحاورها وتتجاذب معها الحديث، وتضيف إلى عالمها الصغير المدهش حبيبها فلاديمير، تتحدث عنه وهي في الطريق إلى لقائه "اسمعي، يجب أن أقول لك شيئاً. سنلتقي هناك برجل، سيضع رأسه على ركبتي، فلا تندهشي./ لماذا؟ هل يحبك؟/ يحبني".

"الشيء الوحيد الذي أريده حقاً هو أن أنسى بأقصى سرعة. ولكني مع ذلك سأصف كل ما يحدث هنا. أعتقد أن أحداً ما، يجب أن يحفظ ذلك. ولعلّي لم أوجد هنا إلا لكي أرى وأصف كل شيء. إذا أنا لم أسجّل ما أراه اليوم ـ فلن يبقى شيء... لماذا أدونه؟ من يحتاجه؟" يتساءل فلاديمير، ويبدو أن الإجابة ستجد طريقها إلى ساشا، ومعها كل متلقٍ يرغب في معرفة ما يدور على الطرف الآخر من العالم. وكذلك هو القارئ العربي المعاصر الذي يجد في ترجمة الدكتور فؤاد المرعي لهذه الرواية "كتاب الرسائل" عن اللغة الروسية أسلوباً متقناً مرناً يواكب ما في الرواية من عوالم متنوعة وتساؤلات مرهفة وتطلعات إنسانية.

ميخائيل شيشكين: روائي روسي معاصر، عمل في التدريس والصحافة متنقلاً بين روسيا وسويسرا. حازت رواياته جوائز عالمية عديدة، وحضوراً لافتاً لدى المتلقين والنقاد، منها: إسماعيل المحتجز، وشعر فينوس، وكتاب الرسائل.

الدكتور فؤاد المرعي: باحث سوري، وأستاذ في جامعة حلب. له مؤلفات عديدة في علم الجمال ونظرية الأدب والنقد، وترجمات كثيرة عن اللغة الروسية في حقول النقد والأدب والرواية وأدب الأطفال.

رابط المقال في موقع ميدل إيست أونلاين:
http://www.middle-east-online.com/?id...
كتاب الرسائل by Михаил Шишкин
 •  0 comments  •  flag
Share on Twitter
Published on August 20, 2013 17:33

June 27, 2013

أسئلة الذات في رواية "عائشة" لبثينة العيسى

أسئلة الذات في رواية "عائشة" لبثينة العيسى
مقال بقلم: د.علياء الداية


في روايتها الجديدة "عائشة تنزل إلى العالم السفلي" ـ 2012 الدار العربية للعلوم ناشرون، بيروت ـ تفتح الكاتبة الكويتية بثينة العيسى للقارئ آفاقاً مختلفة عمّا ألِفه في رواياتها السابقة، فلا بدّ له هنا من التيقّظ المستمر على مدار الأيام السبعة التي تتهيأ فيها عائشة بطلة الرواية لما ينتظرها، أو لما تتخيل أنه ينتظرها. ويبقى أسير التفكير في سرّ هذه المرأة التي يبدو ظاهرياً أنها تنساق وراء ألمها وحزنها على صغيرها الراحل، ولكنها في واقع الأمر تقاوم بحيلة اسمها الأسطورة، وتحديداً قراءة الأسطورة: "أنا ربة البيت المملّة التي تمضي يومها كله في قراءة نصوص عمرها 3500سنة؟ نعم أنا... وإذا لم يكن العالم مستعداً لسماعي، فهذه مشكلته، ولكن بالنسبة لي، سأكتبُ على أي حال، سأكتب أشياء لن يقرأها أحد."

تتفق رواية "عائشة تنزل إلى العالم السفلي" مع أغلب إبداعات بثينة العيسى، على صعيد العنوان الذي يدلّ على المرأة "عائشة"ـ "قيس وليلى والذئب" ـ "تحت أقدام الأمهات" ـ "عروس المطر"، وبالإضافة إلى ذلك فإن روايتين أخريين للكاتبة هما "سُعار" و"ارتطام لم يسمع له دوي" تؤدي فيهما المرأة أدواراً أساسية فاعلة. وتمتاز هذه الرواية "عائشة" بأن المرأة تستأثر بالبطولة المركزية أما باقي الشخصيات فتحلّق في فلكها. ومن الواضح أن عائشة لا تتأثر إيجابياً بأي من الأشخاص المقربين الذين يحاولون مساعدتها على تخطي واقعها الأليم فعلاً بالنسبة إليهم، ولكنه محبَّب إليها وتعتبره طقساً يقربها من ابنها الراحل.

يسعى سرد الرواية منذ البداية إلى التعريف بالوضع الذي تحياه عائشة. ومع الصفحات الأولى يقدّم ضمير المتكلم ـ التقنية المستمرة على مدار الرواية ـ تقريراً بما جرى لابنها وكيف فقدته "في الثامن عشر من إبريل للعام 2007، توفي عبد العزيز، ولدي الوحيد، عن عمر يناهز الخامسة والنصف، بفعل حادث سيارة، وهو يقف في وسط الشارع ويحاول التقاط لُعَبه". فلا يكلف القارئ عناءَ التكهن بحالها، بل إن الأحداث المهمة تُروى في البداية لتشرح ما جرى لعائشة بعد حادثة فقدان الابن؛ إنها لا تموت، ولكن حالتها النفسية السيئة تؤدّي بها إلى ما يشبه محاولة الانتحار: "لقد متّ، منذ وفاة ولدي، ثلاث مرات، وعدتُ ثلاث مرات أيضاً، وكانت ميتاتي تتزامن مع ذكرى وفاته، في الثامن عشر من إبريل للأعوام 2008 و2009 و2010. ذكرى وفاة ولدي تحين بعد أسبوع، وستحين معها ميتتي الرابعة التي أظنها الأخيرة." وهكذا فإن ما يلي من الصفحات يأخذ شيئاً فشيئاً بكشف الماضي وحوادثه وذكرياته حتى تفاصيله الصغيرة المنقوشة في ذهن عائشة ضمن تيار الوعي الذي لا يُغفل شيئاً من الأحداث ومن تصورات عائشة عن نفسها وعن الآخرين.

علاقة مضطربة
علاقة عائشة بالآخرين مضطربة، ويبدو أنها لم تكن تعي أن علاقتها بنفسها مضطربة أولاً. وأن هذا سبّب فراغها وعدم قدرتها على تقبل الفرح أو تصوّر الهناء فيما يحيط بها. تركّز عائشة في يومياتها التي تكتبها على تصوير تعاستها وشعورها بالإحباط من المجتمع، ولكنها لا تبيّن أسباب ذلك، لا تقارن المجتمع مثلاً بمجتمعات أخرى ولا تتصور خيارات مفضلة للحياة. بل تكتفي بمحاولة البحث عن حلّ لدى طبيب نفساني، وتسعى لاحقاً إلى قراءة التراث والأساطير القديمة لعلّها تجد سرّ الحياة.

تحفل روايات بثينة العيسى بفكرة الفقدان ـ الهاجس الشاغل للشخصية الروائية، ففي "عروس المطر" تتعايش أسماء مع فكرة فقدان أخيها أسامة بطريقة مبتكرة هي تخيُّل وجوده إلى جانبها وإيهام القارئ بذلك حتى النهاية، وهي تواصل حياتها الاجتماعية بشكل طبيعي مع الجيران وفي المدرسة والمجتمع بشكل عام. وفي روايتها "تحت أقدام الأمهات" ثمة ربّ أسرة راحل تترك وفاته أثراً في نساء البيت وتجعل من ابنه شخصية مدللة لدى الجميع، لترصد الرواية من خلاله سلوك باقي النساء ودورهن في المجتمع. إن المجتمع حاضر بقوة في روايات بثينة العيسى مع إشارات زمنية أو قضايا وملامح تاريخية، كقضية البدون والسفر خارج الكويت في "ارتطام لم يُسمع له دوي" وحرب أفغانستان وحرب الخليج الثانية في "تحت أقدام الأمهات"، ومناقشة قضايا المرأة والمجتمع في "سُعار" و"عروس المطر".

أما هنا في رواية "عائشة" فثمة حدث خارجي معاصر وحيد يدل على الزمن الواقعي المباشر الذي يمكن قياسه بوصفه معرفة مشتركة بينها وبين المتلقي ولكن بشكل عابر، إنه التزامن مع الثورات العربية: "تمددتُ في السيارة، في الكرسي الخلفي. مريم تجلس في المقعد الأمامي، الظهيرة قريبة والشمس حارّة، فتحنا مكيف الهواء، استأذنَت مريم بأن نستمع إلى أخبار الثورات العربية على الـ"بي بي سي" قلت لها لا أستطيع." وفيما عدا ذلك فإن الرواية تركز على سرد الذات واسترجاع الماضي، وتسعى إلى تكثيف شعور عائشة بوجودها من خلال ترك المجتمع وما حولها جانباً، واللجوء إلى الماضي السحيق الموغل؛ إلى الأسطورة وتحديداً أسطورة إنانا السومرية أو عشتار البابلية.

تحيطنا عائشة علماً بأنها قرأت الكثير من الكتب التي تتحدث عن الموت، وتبحث في تجربته وآثاره النفسية. وهي مع اقترابها من تاريخ وفاة ابنها الذي يتكرر معه كل عام تعرضها لتجربة الموت، تعتقد أنها على وشك التعرض للموت هذه المرة أيضاً، وتقرر أن تتهيأ له، وتفكر أن أفضل طريقة لقضاء ما بقي من أيام ثمانية هي الكتابة، تدوين يومياتها.

إن ما يحصل عملياً هو أن علاقة عائشة بإنانا تشبه علاقة الزيت بالماء، كل منهما مستقلة بنفسها غير قابلة للامتزاج مع الأخرى. ينتقل هذا الشعور من عائشة الراوية إلى المتلقي القارئ، وتندمج عائشة في تخيلاتها وفي تمثُّلها لمجريات الأسطورة، الطبقات السبع التي تجتازها إنانا إلى العالم الأسفل، والأيام السبعة التي تعيشها عائشة يوماً بعد يوم باتجاه قبول الحياة والاستمرار. المفارقة بين المتلقي وعائشة تكمن في أنها تظن نفسها ماضية إلى حتفها، ولا تكتشف إلا في اليوم الأخير أنها باتت أمام بوابة الخلاص؛ "فلأكف عن الكتابة إذن، وأذهب لتجربة العالم."

أما القارئ فهو يتقبل ألمها وحزنها الشديدين على فقدان ابنها في البداية على أنها أحاسيس مرهفة، ولكنه سرعان ما يكتشف في منتصف الرواية أنها مريضة وهشّة المقاومة وأنها تفتقد الرغبة في التواصل مع محيطها. فهي على سبيل المثال تتشاجر مع أختيها حين تتفجر غيرتهما وأحزانهما على خلفية رفضها باقة أزهار صفراء منهما زينتا بها منزلها. ويسهم الحوار بين الشخصيات الثلاث في تعميق المفارقة واسترجاع أحداث سابقة وأحوال في الوعي العميق للشخصيات داخل الأسرة الواحدة: "لن أسمح بأن تجعلي من نفسك ضحيةً الآن، لقد فقدتِ ولدك وقلوبنا تتمزق من أجلكِ، ولكنك مع ذلك حظيت بولد، لخمس سنوات، فهل فكّرت في ذلك لحظة؟ هل فكرت لمرة بأنك كنت أوفرنا حظاً؟/ ـ أنا؟/ ـ أنا لم أحظَ بنصف ولد حتى، عواشة، كل أطفالي يولدون أموات. واغرورقت عيناها بالدموع، فأردفت إسراء بصوت استعراضي جهور: وأنا لم يدم زواجي إلا شهرين، أقصد...57 يوماً! وأتبعتها بضحكة مجلجلة. ازدردت مريم ريقها وتابعت.../ ـ ومع ذلك تحتكرين كل الألم لنفسك، تتصرفين كما لو أنك وحدك تتألمين... وتمعنين في هجرنا، والآن وبعد أن أقحمنا أنفسنا عنوة في حياتك، مطالبين بحضور هو من حقنا أصلاً، نجدكِ تمعنين في انتقاد اختيارنا للأزهار!"

لعبة الحياة والموت
يرى المتلقي في النهاية أن عائشة نجحت في إحاطة نفسها بلعبة الحياة والموت، باستعارة دور البطولة من إنانا وارتدائه في ظروف مغايرة. حزنت إنانا على فقدان زوجها، لكنها صاحبة الإرادة الصلبة واثقة ومصممة على استعادته، وتدرك أنها تخوض مجالاً خطراً لكنها تمضي إليه لأنها تعشق فكرة التجربة والمغامرة حياةً وموتاً. أما عائشة فهي حزينة على فقدان ابنها، لكنها تنطوي على نفسها ولا تجرؤ على تخطي الأزمة، تهاجم زوجها "عدنان" بشراسة لأنه يقترح إنجاب طفل آخر بدلاً من "عزيز" المتوفى. "كان زبائن المطعم يحدقون فيّ وأنا أحرك إصبعي في وجه عدنان متوعدة وأردد "إياك! إياك!” ولكنه تابع متجاهلاً إصبعي، تهديدي، الوعيد في عيني، ونظرات الناس، وذعر مدير المطعم، وكؤوس الماء التي بدأت تتدافع من كل صوب، والأيادي الكثيرة الممتدة بالمناديل وسواها... ولكن الوقت قد حان يا عائشة، لكي نرغب بمستقبل، بحياة.../ ـ ولدٌ جديدٌ؟ ولد تعيس ومعلول جديد أزج به في هذه الحياة مرة ثانية، وكأننا ما أخطأنا في حق عزيز بما يكفي لكي نكرر الأمر في حق آخر؟"

عائشة تنزوي بعيداً عن الحياة، وتحاكم الماضي وتنظر إلى نفسها على أنها السبب في وفاة ابنها "عزيز" حين أهملته ففوجئت بأن السيارة صدمته فمات. كان من الممكن أن تتغير حياة عائشة وتتحسن علاقتها بنفسها وبابنها لو أنه بقي حياً، ولكن موته ضاعفَ ألمها، وجعلها تسكن دوامة من لوم الذات على كل شيء، فتتصور أن إهمالها سبب في مرضه الدائم، وأن كثرة تذمرها وتأففها انعكس على ابنها سلبياً. تقوم عائشة باسترجاع الماضي، سواء أكان الأسطورة الموغلة في القدم، أو الماضي القريب منذ بضع سنوات وما يتخللها من تجارب واحدة تلو الأخرى. وفي غمرة حزنها لا تتنبه عائشة إلى اتسامها بروح المبادرة الإيجابية حين قبلت أثناء حياة ابنها بالذهاب إلى طبيب نفساني، فمن المعروف أن المريض لا يتماثل للشفاء مباشرة، بل إنها في يومياتها تتخذ من هذه التجربة دليلاً على عجزها وضعف إمكانياتها في علاج نفسها تستعيد حوارها مع الطبيب: "أعرف بأن ما أقوله مشين ولكنني.../ ولكنك ماذا يا عائشة؟/ ولكنني أتمنى لو أنني لم أنجبه./ هل تحبين نفسك يا عائشة؟ وكان ذلك أغرب سؤال سمعته في حياتي."

تعتبر عائشة كتابة يومياتها محوراً لأيامها الثمانية، وما عدا ذلك كله هامشاً، الأمر الذي يفسر استجابتها الجزئية لدعوات أهلها بأن تغادر غرفتها. إن انفعالها مع كلام أخيها المتدين "معاذ" أخف من انفعالها السابق تجاه زوجها في المطعم، ومختلف في النتيجة، فبعد دقائق من تأملاتهما في الحياة والموت من منظور الوعظ الديني الذي يقدمه "معاذ" آملاً في منحها نظرة متفائلة ملتزمة تجاه الخالق واهب الحياة، تنخرط عائشة في بكاء طويل يائس ويبكي معها معاذ. "لقد فقدت طفلاً يا معاذ، فقدت طفلاً عمره خمس سنوات، مات أمام عيني، وكان يناديني "ماما" ولكنني كنت مليئة بالغضب والقرف من حياتي إلى درجة أنني لم أنتبه بأنه سيموت، وها قد مات... وأنا أتساءل ماذا منحته في حياته، وأي جدوى تحققت من كوني أمه."

الأم، والزوج عدنان، والأخ معاذ، والأختان، والطبيب النفساني، والمجتمع الذي خسرته عائشة بالتدريج على مدى أربع سنوات من الحزن، مرشّح للتجدد والحياة بحياة عائشة الجديدة التي تختارها، بعد أن سجّلت مخاوفها على الورق وكادت تتخلص منها، لتصبح الذكريات والابن "عزيز" و"إنانا" شيئاً من الماضي لا عودة إليه.

ـ نشر المقال في مجلة البيان ـ تصدر عن رابطة الأدباء في الكويت ـ عدد أيار / مايو 2013
عائشة تنزل إلى العالم السفلي by بثينة العيسى
7 likes ·   •  1 comment  •  flag
Share on Twitter
Published on June 27, 2013 17:32 Tags: بثينة-العيسى-عائشة-رواية

March 10, 2013

المقهى

مشاركتي في ملف "المقهى" في مجلة أبابيل الشهرية التي تعنى بالشعر:

المقهى بيئة خصبة للصدام والكشف الصريح
د. علياء الداية

لا شكّ أن للمقهى حضوراً متفاوتاً لدى الشعراء، بعض الشعراء يحبذون كتابة القصيدة في المقهى، وبعضهم قد يفضّل الجلوس وحيداً في بيته بعيداً عن الناس والضجيج، وبعض المبدعين يسارعون إلى الكتابة فور وميض الفكرة ليحولوها إلى كلماتٍ شاعرة. ومنهم من يكتفي بالمقهى مكاناً اجتماعياً للّقاء أو التأمل، حافلاً بعبق المدينة وأسواقها وشوارعها المزدحمة.

ومن جهة أخرى لا تتعلق بالمقهى بوصفه بيئة للإبداع، بل مظهراً له داخل النص الأدبي، فيمكن أن أقدّم تصوراً حول حضور المقهى بوصفه مكاناً بارزاً يتكرر في صفحات القصص العربية المعاصرة، وقد توصلتُ في كتابي "الوعي الجمالي في السرد القصصي" إلى استنتاجات خاصة بالقصة، مما قد يلتقي مع جوانب روائية أو شعرية مادام الإبداع نتيجة لكل ما يحيط بالكاتب نفسياً ومادياً واجتماعياً.

إننا نلحظ أن بعض القصص تحمل إشارة واضحة في عنوانها إلى المقهى، كقصة "في المقهى" لمحمد المخزنجي، و"قصة المقهى الغربي" لمحمد أبو معتوق، و"حدث في مقهى المنظر الجميل" لمحمد المنسي قنديل، وبعضها الآخر يشير إلى سمات المقهى الذي يحفل بالحكايات تارة وبالتنبوءات تارة أخرى، مع الإحالة إلى مجريات الماضي في ثوبٍ من جوّ الحاضر، كما في قصة "نبوءات الشيخ سلمان" لعبد السلام العجيلي، و"الحائط والذكريات الحزينة" لفؤاد التكرلي. ونجد أيضاً أجواء نفسية لا يفلح المقهى في التغلب على حدّتها وقسوتها كما في قصة إبراهيم عبد المجيد "مشكلات الجلوس".

فالمقهى ليس جميلاً دائماً، بل إنه قد يرتبط بالميل إلى الحزن والتشاؤم لدى الشخصيات المرتادة للمقاهي. إن المقهى بيئة خصبة للصدام والكشف الصريح لزيف ما تعيشه الشخصية خارج المقهى في حياتها اليومية، كما أنه يتيح فرص المواجهات بين الشخصيات إلى جانب كشف الجو النفسي والمصارحة حول أخطاء الماضي على الصعيدين الفردي والجماعي. أما المقهى نفسه فيكون بائساً أحياناً ويعمّق عجز رواده عن بلوغ غاياتهم وغياب المثالية عن حياتهم، فتنتهي القصص دون حل جذري لمعاناتهم.

إن المقهى يرتبط بالرغبة في قضاء الوقت بعيداً عن انشغالات الحياة اليومية، فهو وقت يتيح ممارسة الهوايات والحديث مع الأصدقاء أو لعب الطاولة والشطرنج، أو عدم القيام بشيء على الإطلاق سوى شرب الشاي أو القهوة والتدخين. وتختلف صورة المقهى الخارجية في القصص العربية بحسب الزمن الذي تدور فيه القصة، وبحسب مكانة المقهى والدور الذي يؤديه في حياة الشخصيات والنماذج الاجتماعية من حوله، إلا أن صورته الداخلية تعبق بالمفارقات وإثارة الأسئلة التي تبحث عن حلول أو تُترك مبهمة في نهاية القصة.

موقع مجلة أبابيل:
http://www.ebabil.net/
رابط لتحميل العدد رقم 60 من مجلة أبابيل:
www.ebabil.net/Ababeel-No60.pdf
2 likes ·   •  2 comments  •  flag
Share on Twitter
Published on March 10, 2013 05:51 Tags: المقهى-شعر-قصة-كتابة

February 8, 2013

جمالية الاغتراب المكاني في شعر لميعة عباس عمارة (مقال)

جمالية الاغتراب المكاني
في شعر لميعة عباس عمارة

د.علياء الداية


كان السفر بالنسبة إلى الشاعرة لميعة عباس عمارة(1) حلم الطفولة ومرشّحاً ليكون هواية أثيرة تبعث على البهجة وتَجدد الحياة، لكنه تحوّل إلى سببٍ للشوق والألم على فراق الأحبّة ووطنها العراق، تتأمّله عن بُعد. فقد عاشت الشاعرة في بلدها وغادرته عدة مرّات آخرها في الثمانينات من القرن الماضي، الوطن الذي كانت تسكنه صار يسكن فيها تحمله أينما ارتحلت، ويتجلّى في أشعارها على مدى سنوات طويلة. ومن هنا فإن هذه الدراسة تركّز على جمالية الاغتراب المكاني لديها، ومدى علاقته بوجدانها وتمثّلها للقيم وانعكاس الوطن ومفهومه لديها، ولا سيما أن القصائد المدروسة كتبت في أعوام ما بين 1965 و 1999م. هناك قصائد ترتبط بمكان معيّن أقامت فيه الشاعرة أو زارته لفترة، مثل بيروت والكويت وباريس وكاليفورنيا وغيرها، وقصائد تتناول السفر بشكلٍ عام، دون الإشارة إلى مكان محدّد، بل هو هاجس تترتّب عليه قرارات ومصائر وتشعّ منه أفراح وأحزان.

كانت الشاعرة في طفولتها تنظر إلى السفر على أنه حلم ببلوغ أماكن طالما شاهدتها على الخريطة: “ولعبة خطيرة كنت أحبها، اسمها السفَر/ مارستُها قبلُ على الأطلس والصور/ مللتها.../ خاب بها ظني/ وما عاد لها إغراء،/ فقدتُ لذّة الوداع واللقاء”(2). كما يرِد الأطلس في صورة مشابهة في قصيدتها بعنوان "إنمي" من ديوانها: قبل الـ2000، غير أنها بعد سنوات طويلة تكتشف أن السفر أصبح أمراً عادياً مكروراً ومملاً بحيث لا يعدو كونه شيئاً هامشياً بالقياس إلى ما حولها من صخب وحركة حيوية: "رقم أنا/ في الفندق الكبير/ معلّقٌ في عروة المفتاح"(3)، ففي عالم الفنادق والمقاهي والبحر وتأنّق المصطافين لا تجد نفسها إلا وحيدة.

وهنا يبرز في تجربتها الشعرية مفتاحان جماليان من منطلق علاقتها بكل ما حولها وهما: المثل الأعلى الجمالي، ومفهوم الجميل. فالمثل الأعلى الجمالي لديها هو مدينة بغداد، تتّخذ منها معياراً لكل ما حولها في الغربة، وبوصلة ترشدها إلى مركز الكون "وبغداد أنتَ. إذا شطّ بي/ مزارٌ، لواني إليها القدَر"(4) وهي تقرّ بأن جمال السفر وهمٌ لم تجن منه إلا القلق والحزن، فلم تنسَ الوطن بل زادت غوصاً فيه "كان وهماً شواطئ البحر تُقصينا فأنساهُ/ كان وهماً فراري/ …/ يحسّ الجمال حولي احتضاري/ …/ وما زالت بتوقيت بغداد ساعتي"(5)، كما أنها تستذكر مزايا الأماكن الجميلة في العراق إذ ترى مشهداً أخّاذاً في سفرها، ففي قصيدتها "زهر الليمون" تقارن بين ما تُشاهده ومكوّنات الوطن من مدن ومظاهر حضارية كالشمال وكركوك وأربيل والإلهة عشتار، "كلّما أزهرت على البُعد ليمونة/ كأن فتحت من جراحي/ نسمات يا ليتها من بساتين بعقوبة/ سرَت في الصباح"(6) ولا تنسى المثال المركزي الأبهى: بغداد، فـ "تلك من شاطئ النواسيّ في بغداد/ أضواؤه سنا الأقداح”(7)، فضلاً على أنّ حضور النواسي وشهرزاد في القصيدة، يحيل إلى شخوص ذات صلة بتراث بلدها وقيمته الحضارية.

ولا تقتصر صورة المثل الأعلى الجمالي لديها على الاسم العلَم بغداد، بل يظهر أحياناً في صورة النخلة. فـ“الكمال هو المثل الأعلى الضمني لكل ما نرغب فيه ونفضّله على غيره. إننا لا نرى هذا الكمال إلا في أجزائه فحسب حينما تُوجّه العاطفة أو الإدراك انتباهنا إلى عناصره"(8). وهذا ما نجده لدى الشاعرة، فهي تفضّل مدينة بغداد وتستذكر منها التفاصيل المادية أو المعنوية كالشوارع والليل والصباح والنور والنخيل. كما أنّ “المُثل العليا لا تكون أصيلة إلا إذا عبّرت عن الإمكانات والاحتمالات التي ينطوي عليها سير الحياة... لكن هذه المثل ليست أكثر من صور في حلم إلا إذا ردّت إلى الوقائع وربطت بها"(9)، وبما أن الشاعرة في حالٍ من الغربة المكانية فالحلم يختلط لديها بالواقع، إذ تتداخل صورة المثل الأعلى الجمالي لديها لتغطي الوقائع والأيام الفعلية التي تعيشها، فـ“حين يقدّم شاعر بعداً جغرافياً، فهو يعرف بشكل غريزي أن هذا البعد يجري تحديده في نفس اللحظة، بسبب كونه مغروساً في قيمة حُلمية ما"(10).

أما نموذج الجميل بالنسبة إليها فيكمن في الحبيب الذي يتقمّص صورة تمّوز البطل الأسطوري وشهر الصيف الحارّ، لأنها كثيراً ما تقابل بينه وبين الشتاء الثلجي البارد في الأمكنة التي تسافر إليها وتقرّ بعجزها عن استيعاب البرد وهي بعيدة عمّن تحب. إنها مضطرة إلى ترك بلدها والنأي عنه، ولكن كما بينَت في قصيدة سابقة فإنها تستنتج أنها تبقى وحيدة بلا أهل مهما حملت من القيم الإنسانية في جعبتها: “تناءيتُ عن بلدي من أسى/ وبارحتُهُ أتقرّى العزاء/ وناديتُ كل الثرى موطني/ فردّ الصدى "موطني" بازدراء"(11).

وفي قصيدة حوارية بينها وبين تموز الحبيب مع عتابه لها ومعاناتها الأمر الواقع تقرّ الشاعرة بضرورة انفصالها عن أرض الوطن: “وأعلم: حبّك حبّ محالٌ/ وأسطورةٌ من زمانٍ غبَر"(12)، وفي ظلّ حاجتها إلى السفر تصرّح "أقول سأهجر كل العراقِ/ ولستُ بأوّل صبٍّ هجر"(13). “إننا لا نترك الشيء الجميل إلا كما نترك الحقيقة أو الصديق، نتركه لكي نعود إليه دائماً وقد زدنا تقديراً له"(14)، فالشاعرة غير قادرة على البقاء في أي مكان من الوطن بسبب التضييق الذي تعانيه وعدم قدرتها على ممارسة حقوقها، لكنّها تؤكّد اعتزازها بهذا الحبيب الذي يوازي تموز بطل الأسطورة ويمثّل فصل السنابل والحصاد، وتعِده بأنها ستواصل الحياة مادامت تذْكره بوفاء: “سلامٌ لحرّك يشوي الوجوه/ أذبتُ به الصبر حتى انفجر/ …/ أتموز أعلمُ أني سكتُّ/ عن الشعر، هبني جواداً عثر"(15).

الاغتراب في بيروت

في بيروت تعيش لميعة عباس عمارة جمال الطبيعة والمكان تارةً، وقبح الحرب تارة أخرى، وفي كلتا الحالتين تستذكر بُعدها عن الحبيب بشكل خاص. إنها في أماكن أخرى كأميركا كما سيرد لاحقاً، تفتقد وطنها أكثر، أما في بيروت فتشعر بوحدة لا يعوّضها وجود الناس حولها لأن الحرب تنال منهم ولا تجعلهم في حالٍ مستقرّة. في ذروة الجمال تقول: “يسأل عنك البحرُ حبيبي/ وصخور الروشة/ والمقهى"(16)، وفي القصيدة نفسها تنادي مدينتها بغداد لعلّها تحمل لها شيئاً من السكينة.

وفي صورة مختلفة تُقحم الشاعرة نفسها في جوّ الرهبان والكنيسة بعيداً عن البحر والطبيعة، لعلّها في هذه المفارقة تشعر بقرب حبيبها والوفاء له من خلال اكتشاف شعائر التعبد والترهبن الخالية من زينة الحياة وصخبها. غير أنها في الحالين لا تستشعر الجمال بل المزيد من الانقطاع عن الحياة، وتسعى الشاعرة إلى مقارنة كل شيء بالوطن، وتتمنى وجود الحبيب إلى جانبها حتى أثناء إذاعة خبر هبوط أول إنسان على سطح القمر، فهي تناجي حبيبها ثم تنتقل إلى افتقاد بغداد والقول بأن بيروت خالية من الجمال في غياب من تحب. وتُعمّق وعيها الداخلي الذي يسكنه النخيل بوصفه مثلاً أعلى جمالياً، فهي تستهجن القمر الذي يتحدثون عنه في وسائل الإعلام "ما ذاك بالقمر الذي خلّفتُه/ فوق النخيل بزهوه المعتادِ"(17) في تناصٍ ثقافي مع الأغنية العراقية التراثية "فوق النخل"، إنها عراقية حتى الصميم يسكنها هاجس الوطن في كل حال.

وفي موضع آخر يتأكّد تماهي الحبيب مع تموز "تموز ببيروت/ يبعد عن آذار ثلاثين دقيقة"(18)، وهي إمعاناً في حبّ تموز على الرغم من حرّه الشديد تبقى ملازمة للبحر وتُعرض عن المضيّ إلى الجبل المنعش الأجواء، فالجمال لديها يحقق نسبيته في أنه ما ترتاح إليه، لا ما يقرّه الآخرون بمقاييسهم.

تمرّ الشاعرة بتجربة مختلفة تماماً عمّا سبق، ففي الملجأ الذي تقبع فيه هرباً من عنف الحرب وقذائفها ليس ثمة جمال نسبي، بل القبح وعواقب القتال والأسلحة حاضرٌ يلقي بظلاله على الجميع “ما جدوى كل وجودي في بيروت/ مفترسٌ هذا الحب وأعمى"(19)، وفي هذا الموقف تستدعي الشاعرة حبيبها: "كنت أريدكَ تحمل خوفي/ فأنا أضعفُ من أن أحمله وحدي"(20) مقابل الخوف والهلع تحاول استذكار الجميل الذي قد يخفف عنها، مع أنها تحت وطأة الواقع تكاد تتخلى عن يقينها بالحياة وتسلم زمامها للموت "أستدعي الوهم/ وأستنجدُ بالأحلام/ بالحبّ المطلق لا شكل له لا رائحة/ لا لون"(21) إنها تعاني الغربة عن الوطن والحبيب والإنسانية، وتتحقق من أنّ الأحلام والقيم المطلقة لا وجود لها في الملاجئ ولا تعني شيئاً في حضور السلاح والكراهية.

إن صورة الموت السابقة تتوافق جزئياً مع الجوّ الكئيب الذي تعيشه الشاعرة وتخلعه على أيامها ومشاهداتها في بيروت، فتستوقفها إحدى حوادث الانتحار الشهيرة من على صخرة الروشة في بيروت، لتتأمل ما قيل عن امرأة انتحرت هناك. إنها تتمثّل فيها نفسها وتنظر إلى كل شيء بمنظار أسود يبدو فيه أنّ "الشمس رغيف نهشَتْه الأسماك/ الشمس رغيف كان هناك"(22) فهي لا تستدعي الوطن أو الحبيب مباشرة، لكن غربتها تفرض عليها مفردات توحي بالبرد الذي تكرهه وبالجمود الذي يقابل ما تعهدُه من دفء الحب والحياة عادةً: “سيدة السرّ الباردة القدمين"(23)، وترِد بيروت في بعض القصائد كـ "الهجرة الدائرة" و"صباحات بيروت" و"ليل بيروت" في ديوانها "البعد الأخير" ضمن سياق من التأمل في حال المدينة وسكّانها وما تؤول إليه من ألم وحسرة في الحرب.

الاغتراب في الكويت

يَبرز اغتراب الشاعرة لميعة عباس عمارة المكاني في الكويت من خلال جانبين، الأول هو غربتها عن الحبيب الذي يرمز إلى مفهوم الجميل، فهو يعمل في الكويت وهي تشتاق إلى حضوره، والثاني غربتها في الكويت عن الأحبة وعن مدينتها ومثلها الأعلى الجمالي بغداد. تدلّ على الجانب الأول قصيدة من مقطعين بعنوان "رسالتان إلى الكويت"، ففيها تستذكر التشابه بين حبيبها وبين شهر تموز الحارّ الذي يحيل إلى بطل الأسطورة القديمة "تموز" الذي تعشقه "عشتار"، ويبرز تماهي حبيبها مع الدلالة الأسطورية في قولها: “يا مؤثراً حرّ الكويت/ على نسائمنا اللّطاف" (24) ففي شهر تموز ثمة حبيب غائب تغيب معه مظاهر الجمال التي تصاحب وجوده عادةً إلى جانبها "ألقاك/ تشرق نظرتي".(25) أما في حالة الشوق والغياب فثمة مفارقة، فكفّاها باردتان. ونرى أنّ ظاهرة كره الشاعرة للبرد ستتكرر في قصائد تالية الأمر الذي يعزز حضور تموز بوصفه رمزاً جمالياً.

أما في القسم الثاني والرسالة الثانية في القصيدة، فتوجّه الشاعرة حديثها إلى طبيعة الكويت ومكوّناتها. لقد كانت في القسم الأول تناشد حبيبها بأن يلقاها في مكان معتدل مثل لبنان أو بغداد حيث الذكريات الجميلة، وحيث بغداد هي المثل الأعلى الجمالي وأفضل مكان تحبّه الشاعرة، وترغب أن تتمحور حوله كل الأشياء الجميلة مهما كان قبح الواقع. ولكنها في هذه الرسالة تطالب الطبيعة بأن تتقمّص شخصيتها وتحنّ على حبيبها وتمنحه المزيد من الصمود في وجه القسوة والشظف، إنها تستخدم صيغة الأمر بمعنى الرجاء فتخاطب البحر والبرّ، وموجة الخليج، ورمال الشط وتطلب منها البركة في الرزق والعطف "ضمّيه يا نسائم الخليج في الضلوع/ فهو غريبٌ متعبٌ ضاقت به الدروب"(26). ويمكن القول إن حضور "السفَر" لدى الشاعرة جعل من الطبيعة لديها أساساً تُخاطبه قبل الإنسان، وتسعى إلى التصالح معه أولاً، فقد خَبرت تقلبات البشر ونسبيّة القيم لدى الناس وتقلقل مفهوم الإنسانية والأوطان، فاتّخذت من الطبيعة التي اعتادت ظواهرَها منذ الطفولة عنصراً ثابتاً أزلياً.

تستعيد الشاعرة صورة بغداد المكان المثال، في قصيدتها "إلى الخليج العربي"، الموثّقة مكانياً بالكويت، فهي تعني بالخليج منطقةَ الكويت التي تعاني فيها من الحنين والقلق والعذاب والشجو، وتطالعنا مفردة "الجرح" ذات الصلة بالآلام التي ترغب الشاعرة في دفنها "سأدفن هذا الحنين اللجوج"(27)، فهي تكرر عبارة "أحنّ لبغداد"(28) في إشارة ومعاناة من أنها ضائعة في هذا المكان الذي تضطر إلى دفن حنينها فيه نظراً لعدم قدرتها على العودة إلى بلدها حيث مدينة بغداد، فالمعاناة والاضطراب السياسي يمنعانها من تحقيق راحتها وسكينتها النفسية في الإقامة فيه.

ونشير إلى أنّ ثمة مدناً وبلاداً ترد في قصائد لميعة عباس عمارة، وقد اغتربت الشاعرة لبعض الوقت في هذه الأماكن من مثل: تونس وقطر والإمارات العربية ومصر وليبيا والمغرب والشام، ولكن لم تبدُ معاناة في ذلك، وإنما جاءت القصائد لأغراض توثيقية أو بحسب مناسبة معينة، ومنها القصائد: “في مصر لأول مرة" و"أبو القاسم الشابي" و"بغداد لن ترتد" من ديوانها: البعد الأخير. وقصائد: “تونس" من ديوانها: يسمونه الحب، و"بيروت ملهمة الشعراء" و"سلام على قطر" و"في المغرب" من ديوانها: قبل الـ2000.

الاغتراب في باريس

في القصيدة النوعية "شتاء باريس" يقتصر تجلّي الاغتراب المكاني لدى الشاعرة في أوروبا على مدينة باريس، حيث تفتقد أحبابها: “آه ما أبعد أحبابي"(29)، وفي صفحات قليلة تَلوح علاقة مضطربة بين الشاعرة والمدينة على الرغم من أنها تقرّ بجمال الطبيعة فيها، ولكنها لا تستطيع التلاؤم معها، ولا سيّما أن الحبيب غائب، وذكرى بغداد تسكن الروح وليست تغيب.

“تتقاصر أشباح الأبنية الدكناء من البرد/ وتسكن أوصال الشجر/ وأنا في صمتي الثلجي/ بساتين نخيل خرساء/ وبيتٌ من شَعر/ أجهلُ ترويض البرد بباريس"(30)، وكما في قصائد عديدة فإن مفردة النخلة أو النخيل تنوب عن بغداد في أنها المثل الأعلى الجمالي لدى لميعة عباس عمارة، ففي مقابل الأبنية والأشجار تُستحضر صورة النخيل، لكنه وإن كان في المخيّلة، فهو لا يعيش في زهو خارج الوطن، إنه نخيل أخرس يتجاوب مع صمت الشاعرة الثلجي. وهذا يتوافق مع تصورها للجمال في بلادها حيث الحبيب تموز والطقس المواتي للنخيل، حيث كل شيء يصبح جميلاً ولو كان بيتاً من شعر. لا ترى الشاعرة الأبنية الدكناء إلا قصيرة ولا تستشعر جمال الأشجار الساكنة الأوصال من البرد. البرد حالة طارئة على الشاعرة تزيدها الغربة عجزاً فهي وحيدة غائبة عن مظاهر الجمال. وتعزز أبياتُ القصيدة نسبيةَ الجمال، فالشاعرة تقرّ بالرذاذ الناعم للمطر وحضور مظاهر الفن والعشّاق، ولكن يطغى عليها إحساس الغربة في هذا المكان، ويعكّر عليها الاستمتاع بهذه المباهج، بل هي تفتقد قيود الحبّ والرقابة في بلادها على العشّاق والأفكار وتراها جديرة ببعض الحنين "آه ما أبعد أحبابي/ أهدابي أوتار/ ورذاذ المطر الأنعم من كفّ حبيب/ أصابع فنّان/ وحوائط ليس لها آذان/ الأبواب الخرس هنا تلسعني"(31)، إذ ليس من اليسير أن تتحول فجأة من قيم اجتماعية إلى قيم أخرى مهما كانت أفضل، فهي وحيدة وتحتاج إلى مشاركة من بيئتها كي تتمكن من الحصول على السعادة.

الاغتراب في كاليفورنيا

في سان دييغو في ولاية كاليفورنيا الأميركية حيث أقامت الشاعرة، تلوح الحدود مع دولة المكسيك المجاورة، وتبرز أزمة إنسانية تكمن في وجود المهاجرين العراقيين الذين هربوا من بلادهم. إنهم مواطنو الشاعرة لميعة عباس عمارة، تجد في تأمّل حالهم الكثير من الأسى، وهي تنعى قبح الواقع الذي دفع بهم إلى اللجوء، بما يحمله من ألم ومعاناة وضياع، فنرى في قصيدتها مفردات عن الخوف والفزع والتدمير والحرق والملاجئ والصواريخ والقذائف. وفي غمرة الأسى لا تملك الشاعرة إلا أن تجد في وجه كل عراقي وجه الحبيب الجميل بالضرورة، فهو قادم من هناك، من أرض الوطن، تشاركه الانتماء: “يا وجهه ورغم ما تحمل من كآبةٍ/ ما أجملك!”(32)

ومن جهة أخرى فإن النخيل رمز المثل الأعلى الجمالي ـ بغداد ـ مقيمٌ في روح الشاعرة وحاضرٌ للمقارنة دائماً، فهي تقول: “بي من شموخ النخل والكرَم المؤصَّل في بلادي/ كان اعتزازي أن أجوع ولا أطأطئ كالنخيل"(33). كما تنشد في نهاية القصيدة مقاطع من شعرها الشعبي حول نخل منطقة السماوة والجسر المعلّق، وما يحيل إليه من حزن على حال العراق وأطفاله وسكّانه. وهي تعرض للظروف القاسية التي نحّت المثل الأعلى الجمالي جانباً، لتحلّ محلّه صور من قسوة الواقع، فبلدها العراق الذي أنهكته الظروف السياسية الداخلية والخارجية وقع في كوارث إنسانية، منها الفقر والعوز والضيق واضطرار الناس إلى الهجرة، وكوارث ميدانية منها مأساة ملجأ العامرية المدني الضخم في بغداد، الذي قصف في حرب الخليج الثانية عام 1991.

إنّ الشاعرة مكبّلة بالإحساس أن الحضارة ذات وجهين: الطرف القوي والآخر الفقير، وهي وسطهما لا تملك سوى التأمل لترى في وجه كل هاربٍ وجه أمها تارة وحفيدها تارة أخرى، وجوه مألوفة بعيدة عن الجمال المنشود وأقرب إلى البؤس الأليم "الدرب للمكسيك يوصلني إلى كل الدروب/ لأرى يد الجبّار ممسكة بأعناق الشعوب/ الدرب ملأى بالجياع وبالمساكين الذليلة/ من هاربٍ عبر الحدود وهاربين إلى التكيلة/ ضيّعتُ وجهك في زحام الفقر في المكسيك"(34).

وتَظهر مدينة سان دييغو في قصيدة أخرى، بوصفها المدينة الجميلة التي تقضي فيها الشاعرة فصولاً من السنة، لكنها لا تلبث أن تذكر الحبيب ثم تتذكر الأماكن الجميلة التي تحبها وترى فيها الكثير من الجمال، كما هو جمال الحبيب في نفسها. وكما في قصائد سابقة فإن الطبيعة عنصر محوري في وجدان الشاعرة وتفاعلها مع ما حولها من قيم إنسانية، فإذ تشتاق إلى الحبيب "يشوقني لك المطر الخفيف/ ويُسقط كل أوراقي الخريف"(35) تكمن مفارقة بين الحبيب القريب من صورة شهر تموز شهر الصيف، وحضور الخريف الممطر ذي الورق المتساقط، وكذلك هي مفارقة في قولها أمام شاطئ المحيط الهادي: “كأنك ذلك الهادي المخيف"(36) فجمال سان دييغو منقوص، مقابل الحبيب ذي الجمال الكامل المُفتقَد بشدّة على بُعد آلاف الأميال من أرض الوطن. أما فصل الربيع في سان دييغو أيضاً فيذكّرها بأماكن أثيرة إلى نفسها، لبنان وكردستان والقدس، إنها أماكن اكتسبت قيمة الجمال لطبيعتها الساحرة وأفراحها وبعدها التاريخي، فضلاً على كونها مألوفة لدى الشاعرة لها فيها معارف وذكريات وتجد فيها امتداداً روحياً، يختلف بالضرورة عن مكانٍ آخر قَصي كمدينة سان دييغو.

إن لميعة عباس عمارة سرعان ما تُبيّن سبب المفارقة الواضحة في موقفها، والغصّة التي تمنع مكاناً كهذا الشاطئ من أن يكون جميلاً، إذ تقول: “وكيف أعيش رغداً في بلادٍ/ تُسنّ لأهلنا فيها السيوف"(37). إنها تنظر إلى المكان الأميركي بوصفه متبايناً لأنه جميل الطبيعة من جهة، وقبيح التعامل مع شعب الشاعرة وإقليمها الجغرافي من جهة أخرى، وهكذا مع نسبية القيم الإنسانية تقصَى سان دييغو عن قيمة الجميل، بل تتصاعد مفردات مانعة في ذهن الشاعرة كالمنافي والتباعد والشرود.

وفي قصيدة أخرى تلقيها الشاعرة في مدينة سان دييغو بعنون "إنمي Enemy” ـ العدوّ باللغة الإنكليزيةـ تُبرز الشاعرة كفّتي ميزان غير متكافئتين، ففي مقابل الحب والإقبال اللذين تتوجه بهما إلى أميركا عموماً، فإن الطرف الآخر يواجهها بالاتهامات المسبقة، ويتجرّد من إنسانيته المدّعاة. فهي التي تحب أميركا منذ أن كانت طفلة تتصفّحُ الخريطة وتتمثّل فيها الجمال والرّوعة والطبيعة مع خيالها الطفولي الحالم، تُقابَل هي وكل بني قومها باتّهام خطير بالعداوة المسبقة وسوء النوايا: “أنا أحببتك أمريكا/ ومذ وعي الطفوله/ ولكم سافرتُ في حلمي/ إلى سيدة البحر الجميله/ زورقي من ورقٍ/ أُبحر فوق الأطلس المرسوم بالألوان"(38).

إنها تلقي القصيدة في منبر يكافح ضد التمييز العنصري، وتشعر بالمزيد من الاغتراب الروحي المصاحب لغربة المكان، فكأنها محامٍ في محكمة، يسوق الحجج على براءة موكله المتهم زوراً، وتحاولُ أن تقرّب الفكرة إلى وعي متلقيها الأجانب، وتعلن براءتها من الأفعال القبيحة التي لا صلة لها بها، بل إن هذه الأفعال ليست غريبة عن مجتمع الأميركيين وتعاملهم مع الأقوام الأخرى: “أنا ما جوّعتُ طفلاً من كاليفورنيا/ ولا أحرقتُ بالحقد المعامل/ أنا ما دمّرت جسراً من على (الهدسن)/ لم أقصف (سياتل)/ أنا ما وشّحتُ بالأسود آلاف الأرامل/ فلماذا أنا أدعى إنمي؟"(39)

في موضوع ذي صلة بالقصيدة السابقة تسعى الشاعرة في قصيدتها "لعنة التمييز" إلى بيان حالة الألم والاضطهاد التي يمارسها المجتمع على الفرد فيما يتعلق بمعتقداته ودينه واختياراته الشخصية أحياناً، وتُبرز الشاعرة أنها تعاني قيود المجتمع حتى وهي في كاليفورنيا، إذ يذهب المحيطون بها إلى تَقَصّي أصلها ودينها بوصفهما داعياً للمقارنات والفوارق “من الطوفان حتى كاليفورنيا/ لم أزل أعثر بالقيد الذي هم ألبسوني"(40). وفي الوقت نفسه فإن الشاعرة تصرّ على انفتاحها على جميع ما حولها من أفكار وتفاعلها مع عقائد مجتمعها وأن الطبيعي هو اندماج الفرد في محيطه لا التقوقع على ذاته. إنها تتخذ من الغربة المكانية في كاليفورنيا نافذة على تاريخ التمييز العنصري منذ عصر الطوفان حتى يومنا هذا، وتوحي بأنّ القيد مفارق لجمال الحرية والانطلاق، وأنه عائق قبيح يمنع المجتمع من الإحساس بجمال تنوعه وقوّته.

في قصيدة "لي أندرسون Lee Anderson” يعاود رمز النخلة الظهور ممتداً على مدار القصيدة، وتدور معه المفارقات بين الجمال والقبح، بين الحب والظلم. وتُبرز الشاعرة الجانب المشرق الحضاري لدى الطرف الآخر أي المواطن الأميركي لي أندرسون عاشق النخيل، فهي تجد شخصاً يتفق معها في النظر إلى النخيل على أنه مهمّ. لكن النخلة في نظرها رمز للمثل الأعلى الجمالي، فهو قيمة ثابتة راسخة قد تختفي زمناً لكنها مزروعة في الوجدان، أما أندرسون الذي يمتلك بستان نخيل في كاليفورنيا، فينظر إلى النخيل على أنه شيء جميل، ويسعى إلى العناية به عناية فائقة ولا سيما أنه عانى كثيراً في سبيل تهريبه إلى بلده أو شرائه من التجار المهربين. المهم في الأمر أن جمال النخيل لديه محصور في الجانب المادي الملموس، فمن المرجّح أنه يحب شكله وثماره التي يحفظ أسماءها ويسعى إلى الحديث مع الشاعرة العراقية مطولاً حول خصائصها وأنواعها، غير أن البعد المادي الوحيد يجعل أندرسون ينوء بحزنه وألمه أمام مشاهد النخيل المحروق في العراق في فترة الحرب. إنه يتفجّع عليه بوصفه ضحيّة "منتصباً يقف النخل المحروق على مدّ البصر/ شهداء لم تُدفن/ ليذكّر بالحرب العبثيه/ ترثيه الريح/ وتعوِل نادبةً:/ حتى النخلُ ضحيّه؟/ حتى النخل ضحيّه؟"(41)

أما الشاعرة فيؤلمها احتراق النخيل، وتستذكر حادثة الوالي العثماني الذي أمر بقطع رقاب النخيل عندما قيل له إن الحرّ الشديد الذي أزعجه ضروري لإنضاج التمر، فهي موقنة أن المثل الأعلى في الجمال يبقى حياً مهما توالت عليه صروف الدهر، ولن يضيره الحرق أو القطع لأنه حيّ وذو حضور تاريخي تراثي ويحمل مقومات الاستمرار في بيئته وبين سكّان العراق.

الاغتراب في ديترويت

في مدينة ديترويت الأميركية يتعاظم إحساس لميعة عباس عمارة بالاغتراب، فمثلها الأعلى الجمالي يقتحم المكان رغماً عنها حين تلتقي بمحبيها وتصافحهم بمودّة وسط ترحيبهم، فترى بغداد بين يديها وجوداً غير كامل نظراً للبعد المكاني، “أبغدادُ جاءت إلى هذه البقعة النائية/ أحسُّ ورود المَحبة في كل كفّ تصافحني"(42). إنّ إحساسها بمدينتها الأثيرة يستحضر ما فيها من صور الحزن والألم مفارقة لما في ديترويت من طمأنينة ورفاهية، ففي بغداد الذكريات ثمة الآن بؤس يتمثّل في مفردات في القصيدة تدور حول ويلات الحرب من الغصّة والجوع والحزن، وشحّ الدواء والسرقة والذبح والجنون والقتل والمعاقين. فليس من سبيل للإحساس بالهناء، والجمالُ غائبٌ ما دام الوطن في ضيق، "يوحّدنا الحبّ، حب العراق/ وتجمعنا غصّةٌ وهمومٌ كبيره"(43).

الاغتراب في لونغ آيلند

تستعيد الشاعرة في قصيدتها "موسم الشجر الملون" ذكرى حبيبها وذكرى بغداد، فيجتمع كل من الجميل والمثل الأعلى الجمالي، أحدهما في بداية القصيدة والآخر في نهايتها، وما بينهما تكمن الغربة وأحاسيس الحيرة وعدم الانسجام مع مظاهر الطبيعة الجميلة، فهو جمال ناقص كما في كثير من قصائدها السابقة. إن الشاعرة لم تعتد الثلج والشتاء وبرودة شهر كانون، فثمة مفارقة بين حبيبها القوي الذي تشبّهه بالأطلس الورد، وبرد الشتاء "تقضّى الصيف فالشطآن خالية/ وعزف الريح ترتيلُ/ ومثل مواسم الأزياء في باريس/ للأشجار بالألوان تبديلُ"(44). ففي غياب الصيف تكمن صور الوحشة والورق المذبوح والفوضى والخذلان المفارِقة للجمال والمستقرّة في نفسها.

إنها تعترف بجمال الطبيعة لكنها عاجزة عن الإحاطة بها وكأنّ أحاسيس الدهشة والحب والبهجة لا تكون إلا في رحاب بغداد وفي صحبة الحبيب "جميلٌ كل ما حولي/ نقيٌ مترفٌ خضل/ على أني بهذا الثلجِ/ ثلجٌ آخر/ لا يعرف الدهشه"(45) وفي قصيدة أخرى بعنوان "حلم" من ديوانها "أغاني عشتار"، تبدي لميعة عباس عمارة وحشة مماثلة إذ يطوف بها الخيال في قمم ألاسكا الباردة التي تسلبها تفاعلها الجميل مع محيطها "فألتقيكَ في ذرى ألاسكا البيضاء/ والشمس في عزّتها أوهى من الشموع"(46).

لقد تفاوت موقف الشاعرة من السفر على نحوٍ جليّ، بين السعادة بما فيه من جديد، والإحساس بالنجاة والبعد عن القيود، وبين كونه مسرحاً للحلم ببهجة الوطن، ومكاناً تفتقد فيه الظواهر والأجواء الأليفة والحبيب البعيد. فكان الاغتراب المكاني واقعاً يرافق الشاعرة لميعة عباس عمارة، ويتشكّل جمالياً في قصائدها على امتداد حياتها الشعرية الزاخرة.

الهوامش:
1 ـ لميعة عباس عمارة: شاعرة عراقية معاصرة ولدت في بغداد عام 1929، تعود أصول عائلتها إلى مدينة العمارة العراقية، عملت في التدريس وفي الحقل الثقافي والدبلوماسي، تكتب الشعر الفصيح والشعبي، وتعيش منذ ثمانينات القرن الماضي في ولاية كاليفورنيا الأميركية، أبرز دواوينها: الزاوية الخالية، بغداد 1959. عودة الربيع، بغداد1962. أغاني عشتار، بيروت1969. عراقية، بيروت1971. يسمّونه الحب، بيروت1972. لو أنبأني العرّاف، بيروت1980. البعد الأخير، بيروت1987. قبل الـ2000، بيروت/كاليفورنيا2001
2 ـ لوأنبأني العرّاف، لميعة عباس عمارة، الطبعة الثانية، كاليفورنيا1996، ص77
3 ـ لو أنبأني العرّاف، ص75
4 ـ لو أنبأني العرّاف، ص32
5 ـ يسمّونه الحب، لميعة عباس عمارة، طبعة جديدة، كاليفورنيا2001، ص73
6 ـ قبل الـ2000، لميعة عباس عمارة، الطبعة الأولى، بيروت/كاليفورنيا2001، ص47
7 ـ قبل الـ2000، ص48
8 ـ الإحساس بالجمال، جورج سانتيانا، ترجمة د.محمد مصطفى بدوي، مكتبة الأسرة، القاهرة 2001، ص347
9 ـ الفردية قديماً وحديثاً، جون ديوي، ترجمة خيري حماد، مكتبة الأسرة، القاهرة2001، ص126
10 ـ جماليات المكان، غاستون باشلار، ترجمة غالب هلسا، المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر، الطبعة الثانية، بيروت1984، ص172
11 ـ أغاني عشتار، لميعة عباس عمارة، الطبعة الثالثة، بيروت/كاليفورنيا2001، ص12
12 ـ لو أنبأني العرّاف، ص34
13 ـ لو أنبأني العرّاف، ص30
14 ـ الإحساس بالجمال، جورج سانتيانا، ص347
15 ـ لو أنبأني العرّاف، ص37ـ 38
16 ـ يسمّونه الحب، ص90
17 ـ أغاني عشتار، ص99
18 ـ يسمّونه الحب، ص88
19 ـ البعد الأخير، لميعة عباس عمارة، الطبعة الثالثة، كاليفورنيا2001، ص60
20 ـ البعد الأخير، ص55
21 ـ البعد الأخير، ص58
22 ـ البعد الأخير، ص62
23 ـ البعد الأخير، ص62
24 ـ أغاني عشتار، ص15
25 ـ أغاني عشتار، ص14
26 ـ أغاني عشتار، ص16
27 ـ أغاني عشتار، ص21
28 ـ أغاني عشتار، ص19 ـ 20
29 ـ لو أنبأني العرّاف، ص22
30 ـ لو أنبأني العرّاف، ص21
31 ـ لو أنبأني العرّاف، ص22 ـ 23
32 ـ قبل الـ2000، ص59
33 ـ قبل الـ2000، 58
34 ـ قبل الـ2000، ص63
35 ـ البعد الأخير، ص5
36 ـ البعد الأخير، ص5
37 ـ البعد الأخير، ص7
38 ـ قبل الـ2000، ص55
39 ـ قبل الـ2000، ص57
40 ـ قبل الـ2000، ص67
41 ـ قبل الـ2000، ص46
42 ـ قبل الـ2000، ص24
43 ـ قبل الـ2000، ص25
44 ـ لو أنبأني العرّاف، ص10
45 ـ لو أنبأني العرّاف، ص11
46 ـ البعد الأخير، ص49

* نشر المقال في مجلة أبابيل العدد رقم 58 ، تشرين الأول/ أكتوبر 2012
رابط عدد المجلة والأعداد السابقة:
http://www.ebabil.net/
2 likes ·   •  0 comments  •  flag
Share on Twitter
Published on February 08, 2013 01:57

January 2, 2013

الوجه الأصفر في فيسبوك ـ قصة

الوجه الأصفر في فيسبوك

قصة: علياء الداية

جلستُ إلى صفحة فيس بوك، أبحث عمّا يفسّر الأمر الذي يشغل بالي. فأنا أشعر أنني أصبحت إنساناً محظوظاً فجأة، ليس مجرد محظوظ وإنما "سوبر محظوظ". نزل عليه الحظ من السماء. في الواقع، إنّ حياتي جيّدة: شاب ناجح في وظيفتي وإن كانت ضمن القطاع الخاص، لأنني أنتظر التوظيف الحكومي منذ عشر سنوات. أما الغرفة ونصف التي أستأجرها في هذه المدينة، فهي ذات إيجار مناسب، وتقع في شارع عام أستقلّ منه أيّ حافلة توصلني إلى الشركة مقرّ عملي وسط المدينة. وتصل الحافلة أيضاً إلى مركز انطلاق حافلات أو كما أسميها أنا: شاحنات الناس والبضائع، إلى قريتي.
تتلخّص قصّتي مع الحظ في أنني صحوت كعادتي ذات يوم وسُعدت برؤية قوس قزح الذي أحبّه عقب مطر ربيعي خفيف. اعتبرته فأل خير لأنني لم أره منذ عام كامل. وجدت بسرعة مكاناً في الحافلة؛ مكاني المفضّل بجانب النافذة قريباً من باب النزول. مرّ زمن طويل لم أحظ فيه بهذا المقعد، فكلّ مرة أجده مشغولاً بأحد الركاب. اعتبرت الأمر مصادفة جميلة بعد أن نسيت قوس قزح تماماً. واستمر يومي طبيعياً بلا أي منغصات. كان الجيد هذا الأسبوع أن زميلي المزعج في العمل، والذي أجد ظله ثقيلاً علاوة على تدخّله في شؤوني الخاصة بأسلوب سمج، قد أخذ إجازة يومين، وهكذا حظيت ببعض السكينة.

ما حصل لاحقاً كان يصبّ في خانة الحظ الجيد، لم تتكرر رؤيتي لقوس قزح لأن الطقس أصبح قريباً من الصيفي الحار، ولكنني كنت أجد مقعدي المفضل جاهزاً في الحافلة. عاد زميلي السمج من إجازته لكنني لم أعره كبير اهتمام. استدعاني المدير إلى مكتبه، خشيت أن يكون الأمر متعلقاً بإحدى الهفوات التي تحصل بين حين وحين، وقد لا يفلح التستر عليها دائماً. ولكنه فاجأني بقرار ترقيتي رئيساً للقسم الذي أعمل فيه. انتابني ذلك اليوم إحساس النشوة؛ كنت أجلس فوق غيمة أشبه بوسادة قطنية كبيرة محلقة في السماء، غير أن إحساسي بالغيوم تواصل فكنت أشعر أنني محاط بغيمة ضبابية تحملني على أكف الراحة وتقيني المساوئ، فالحظ معي أينما اتجهت.
سارت الأمور على خير ما يرام، ربحت هاتفاً جوالاً مع خط هدية مع إحدى السلع من مركز تجاري مفتتح حديثاً، قامت البلدية بتسوية الشارع الفرعي وتزفيته، وإنارته ليلاً، فكف عن كونه متكأ للمتسكعين، وارتحنا من إزعاجاتهم المتكررة المقلقة.
وابتسم لي الحظ من جديد عندما اتصل بي صديقي يعلمني بأنه حقق أرباحاً في المبلغ الذي يستثمره في التجارة. كنت قد شاركته بمبلغ لا بأس به من المال، طمعاً في أرباح ينالها مشروعنا المشترك الذي يديره هو، ولكن في الآونة الأخيرة ومع اختفاء صديقي هذا أخذ ينتابني الشك في أن النقود طارت، إلى أن جاء اتصاله وأبلغني بلقائنا الوشيك.

كان لا بدّ مع نهاية الأسبوع من جلسة لعب الورق المعهودة مع الأصحاب، من الجيد أن اللقاء في منزل فارس، لم أعرف ماذا كان يمكن أن أفعل لو أن اللقاء عندي أنا. واصل الحظ ابتسامه لي، أخذت أربح الورقة تلو الأخرى، مع أنني لست بارعاً في اللعب، خاصة بوجود صديقنا باسم الضليع والحاذق في اللعب: يحفظ كل الأوراق التي سبق طرحها في الساحة، وما واصلَ منها التداول وما خرج، ويقدّر وفقاً لذلك ما تبقى عند كل اللاعبين. خسارة أنك لا تعمل معنا في الشركة! هذا ما كنت أقوله له دائماً.
هذه المرة كانت أوراقي رابحة، في الدور الأول، والثاني. حاولت التملص من حظي وتساهلت لأجعل أوراقي مكشوفة، وتقصّدت أن أتداول أوراقاً غير مناسبة، ولكن اللعبة كانت تدور لتكون النهاية في صالحي، شعرت أن الحظ ورقة "جوكر" تسد الفراغ. اقترب الجوكر يمد يده مصافحاً، فصحوت من خيالي، هربت وغادرت الجلسة في منتصف اللعبة معتذراً بأول عذر خطر في بالي.
"أهذا وقت المغادرة؟ أنت في أوج انتصاراتك!"
خرجتُ ممازحاً: سأكمل الجولة في المرة القادمة.
خيال الجوكر بملابسه الحمراء البيضاء المضحكة يتراءى لي في ظلام الليل مع الإنارة الشحيحة في الشوارع المؤدية إلى البيت. كان يبدو لي بقدم حافية والأخرى تنتعل جزمة بالية تتدلى منها الخيوط، يؤدي حركات بهلوانية ويشير إلى السماء وهو يتقلب بحركات قافزة. كنت قد أصبحت في وسط الشارع عندما شعرتُ بشيء مرّ سريعاً من ورائي تبعه نفير بوق سيارة وشتيمة: "..... ألا تنظر أمامك يا.....؟"
لم تدهسني السيارة إذاً! حظ جيد.
كان الجوكر قد اختفى فصحوت من جديد. قررت هذه المرة التمرد على الحظ الملتصق بي، وليكن ما يكون، لن ألفت انتباه أحد، سيبدو الأمر طبيعياً، سأتظاهر بأنني تعثرت وسط الطريق، وبسبب الظلام لن تراني السيارات، وقبيل أن يحدث الاصطدام سأتدارك نفسي وأنجو...
لم تنجح الخطة، عندما اصطنعت التعثر، تعثرت بالفعل وعلقت قدمي في طرف مسنن لغطاء مجرور، كان حذائي قد علق والسيارة القادمة لا توحي بأنها رأتني، وفي اللحظة التي خلعت فيها الحذاء للركض والنفاد بجلدي، كانت صفارة الشرطي قد أوقفت السيارة قبل مترين اثنين. تورّطتُ في مناوشة مع الشرطي وصاحب السيارة وبعض الفضوليين المتجمهرين في المكان، وانصرفتُ بعد أن أكد لي الشرطي بأنني "رجل محظوظ"!

يساورني اعتقاد دائم بأن الحياة هي سلسلة من المصادفات، التي تقود إلى مفارقات، منها الجيد ومنها السيئ. قضيت ما تبقى من طريقي إلى البيت وأنا مع هذه الأفكار، وخلصت إلى اعتقاد آخر بأن من غير الطبيعي أن تكون كل المصادفات جيدة كما يحصل معي. أن تَطلُب الحظ فهذا أمر مألوف، أما أن يسعى هو إليك رغماً عنك... هل يعني هذا أن هنالك من يدفع الثمن على الطرف الآخر من المعادلة؟ أي أن ثمة شخصاً آخر معاكساً يحصل معه النقيض، مبتلى بسوء الحظ.
سمعت عن فرضيات تقول بأن ثمة كواكب أخرى بعيدة مجهولة، من المحتمل أن عليها أناساً مثلنا يشبهوننا إلى درجة التطابق، فهناك شلة أصحاب شبيهة بنا وبأسمائنا، أنا وفارس وباسم... ويوجد مدينة كهذه مع حافلات وشركات وبلدية وشارع مهجور.
ولكن لم أسمع شيئاً عن النقيض على الكوكب نفسه في مسألة الحظ.
شغلتني هذه الفكرة بما يكفي، فأصبح هاجسي هو البحث عن نقيضي ذي الحظ العاثر، فقد بدت لي هذه الفرضية مقبولة. أخذت أحصي مَن حولي من الناس. كيف لي أن أجده بينهم؟ هذا إن كان موجوداً أصلاً، وأنا لا أكاد أتبادل التحيات العابرة مع جيراني. ما احتمالات وجوده في قريتي مثلاً؟ أأفتش عنه هناك؟
مضيت إلى غوغل، محرك البحث الشهير، وفتشت عن كثير من المنتديات والمواقع ولكن لم أعثر على شيء مفيد. ظهرت بعض النتائج المشجعة المرتبطة بموقع "فيس بوك" الرائج.
بحثت أولاً في المنتديات العامة والمدونات الشخصية، ولكن لم أعثر على أكثر من مقالات وخواطر يكون الحظ فيها مجرد كلمة عابرة أو مكوِّناً لجملة مختلفة المقاصد. ثم قصدت موقع فيس بوك. كتاب الوجوه، خطرت في بالي الترجمة الفورية له. اسم مناسب فعلاً، أغلب ما تراه هو واجهات ووجوه، منها المبتسم ومنها الحيادي وأشكال نباتات وما إلى ذلك من صور ملتصقة مرفقة بزوايا الموقع. أدخلت الكلمات في فراغ البحث، وتقاذفتني الصفحات؛ صفحات شخصية، وأخرى جماعية تلتف حول شخصية عامة أو مطرب شعبي أو نخبوي وأشياء مثل عشاق الطبخ والمفروشات وكارهي المسابقات التلفزيونية... حسبت أنني لن أوفق في العثور على شيء. كلمة الحظ تدخل في مجالات كثيرة. بعضهم يستهدف مطرباً شهيراً بتدوين ملحوظات تقول: إنّ "حظه" جيد لأن شركة غنائية كبيرة تتبناه وأنه من دونها لا شيء لا صوت ولا صورة ولا....، صفحة أخرى تقول إن من حظ البشرية نبوغ عبقرية المخترع "نيوتن" ولولاه لكنا الآن كسكان الكهوف... صفحة ثالثة وجدتُ فيها أقوالاً مأثورة عن عدم الاستكانة إلى خرافة الحظ. أهو خرافة حقاً؟!

كدت أيأس لولا وجه أصفر حزين تحته عبارة "حظي يتخلى عني! الحظ السيئ يلاحقني". أيكون هذا نقيضي الذي أبحث عنه؟
كان اشتراكي في خط الإنترنت قد تجاوز عدد الوحدات المدفوعة، وأصبحت كل دقيقة محسوبة بسعر أعلى، ولكنني واصلت التصفح بشعور من عثر على كنز.
قضيت يوم العطلة وأنا أقرأ ما دوّنه الوجه الحزين الأصفر، وما يدوّنه المتعاطفون معه أسفل كل فقرة يكتبها. كان عجيباً إلى حدّ فائق. تاريخ معاناته يطابق تماماً اليوم الذي شاهدتُ فيه قوس قزح، ولكن المسكين بدلاً من أن يشاهده عانى من اختراق حجر لزجاج نافذته، فملأت الشظايا أرض الحجرة. مقابل كلِّ حدثٍ جيد يحصل معي، كان ثمة نقيض غريب يحيط به. "هناك من يسبقني دائماً للجلوس في مقعدي المفضل"، "المصباح يتعطل في شارعنا الفرعي"، "المتسكعون يخيفون أطفالي في الليل"، "شريكي يهرب بالمال إلى الخارج"، "فُصلت من وظيفتي بسبب وشاية"، "أنا أفضل لاعب ورق يتخلى الحظ عني"، "رضّ في قدمي بسبب سيارة هائجة"!
كنت حتى تلك اللحظة راغباً في عدم تصديق كل هذه المصادفات، لذلك بقيت على تواصل مع هذه الصفحة وإضافاتها طول الأسبوع التالي.
ربحتُ أنا بطاقة سفر لشخصين هبطت عليّ من اشتراك قديم منسي في إحدى القسائم، في حين غُرّم الوجه الأصفر الحزين بمخالفة سير رغم أنه لا يمتلك سيارة، وذلك لتشابه اسمه مع اسم آخر. نُشلت محفظتي في أحد الأسواق المزدحمة، ولكنها أعيدت إلي في اليوم نفسه. أما هو فقد سُرق هاتفه الجوال الثمين الجديد، ولم يعثر عليه.

شعرت بتعاطف كبير معه، ولكن سأزيده صدمةً لو علم أنني مغناطيس يجذب الحظ منه إليّ! أو أنني القطب الموجب وهو السالب! لعلّه لن يلقي إليّ بالاً أو يظنني من المعتوهين. قررت أن أخصص يوم الجمعة القادم لمحاولة مواساته، سأدون تعليقاتي أسفل فقرته في الصفحة الإلكترونية، ولعلنا نتعاون لإعادة الأمور إلى نصابها والبحث عن حلّ منطقي.
ولكن ما حدث أعاقني كلياً عن هذا المشروع، أو بالأحرى أعاقه هو.
ركبت سيارة أجرة لأصل بسرعة إلى البيت، إنه الخميس ولا بد من إنجاز بعض الأمور قبيل سهرة الأصحاب التي ستكون مميزة في مزرعة يملكها قريب لباسم.
قرر السائق اختصار الزحام وانعطف إلى المحلَّق المحيط بالمدينة! "هكذا نخرج من الزحمة، وندخل قبل شارعين من بيتك". أجبته بغضب: "هذا الطريق أطول بمرتين".
"لا يعجبك؟ انزل فوراً"، قال السائق وقد ضغط على المكابح فحرنت السيارة فوراً في مكانها. "يا لك من...." لم أكمل جملتي إلا ونفير عالٍ من ذاك الذي تطلقه الشاحنات يدوي في المكان، ثمّ تخبّط رأسي بالسقف وضغطت قوة هائلة على كتفيّ وكان أنفي يرعف. ثم سكن كل شيء.
نجوت بأعجوبة ومات السائق، وبعد ثلاثة أيام في المشفى، ومع عودتي إلى البيت، كانت صفحة زميلي ذي الوجه الأصفر الحزين في فيس بوك جامدة متوقفة عند صباح الخميس، دون خبر أو إضافات، أو تنويه بإغلاق الصفحة، وحدها كانت تعليقات الآخرين تطرح أسئلة جوفاء عن مصيره وسبب انقطاعه دون أي جدوى.

نشرت هذه القصة في مجلة البيان ـ تصدر عن رابطة الأدباء في الكويت ـ عدد تشرين الثاني / نوفمبر 2012
6 likes ·   •  2 comments  •  flag
Share on Twitter
Published on January 02, 2013 11:51 Tags: فيسبوك-حظ-جوكر

علياء الداية's Blog

علياء الداية
علياء الداية isn't a Goodreads Author (yet), but they do have a blog, so here are some recent posts imported from their feed.
Follow علياء الداية's blog with rss.