علياء الداية's Blog, page 2
February 16, 2017
تلك الأرض ـ قصة
تلك الأرض
قصة : علياء الداية *
وأخيراً، ها هو ذا قد تخرّج. أنهى سنواته الخمس في دراسة الهندسة. وقف في وسط الشارع، على بلاط المنصّف، وهو يتأمّل ما حوله. في هذه البلدة الصغيرة ليس ثمة زحام، سيارات قليلة، وبضع حافلات للموظفين والطلاّب. ينظر تارة إلى أسفل، حيث الأزهار تطلّ من بين الأعشاب الخضراء، وتارةً إلى الأمام وإلى اليمين واليسار، حيث طرفا الطريق الذي يصل شرق البلدة بغربها، وتارةً إلى فوق، إلى السماء.
لم يكن يتوقع يوماً أنه سيهبط من السماء، وينضمّ إلى هذا المجتمع الجديد. في الواقع ما حصل هو أنهم ضمّوه إليهم، مع مجموعة من سكان وطنه، وهو لا يستطيع أن يعترف لنفسه بباقي التفاصيل. هناك فجوة مغيَّبة في ذاكرته، لا يرغب في تخطّيها، لا عن طريق القصد، ولا عن طريق التجاهل.
إنه الآن يحلم بالعودة إلى الوطن، ذلك المكان البعيد الذي جيء به منه. ها قد أنهى دراسته وبات مؤهلاً ليعتمد على نفسه، وليبني وطنه وفقاً لأحدث الطرق الحضارية، وما توصل إليه العلم الحديث، و... إلى آخر هذه العبارات التي تمتلئ بها الصحف والمجلات ومواقع الإنترنت.
يذكر جيداً كيف أنه يحاول مراراً أن يتواصل مع وطنه عبر الإنترنت، ولكن يبدو أنه ليس على تلك الخارطة الرقمية. وهو يحبّ هذا الشارع كثيراً، لأنه يذكّره بالشارع الرئيسي في مدينته، كانت تلك مدينة حيوية، فيها شوارع كثيرة، وزحام، وأناس كثيرون، بضائع، وشجار مقترن بالعنف أحياناً، ولكنها طبيعة الحياة. يحبّ أيضاً في هذه البلدة ذلك البناء الدائري؛ إنه النادي حيث يلتقي بأصدقاء الكلية في الطابق الأول، أما الطابق الأرضي ففيه صالة تزلج رائعة صيفاً وشتاء، والطابق الأخير فيه مناظير فلكية لمن يحبّ مشاهدة النجوم على الرغم من الغيوم المشاكسة في هذه الرقعة الجغرافية التي تغيب عنها الشمس طويلاً.
المهم لديه هو أن هذا المبنى يشبه المقهى الذي كان جده يصطحبه إليه في طفولته، مع ثلاثة من أبناء أعمامه. كان ذلك قبل انتشار الإنترنت، وقبل أن تنتشر الألعاب الإلكترونية أيضاً. كانت الـ"أتاري" حينها محدثة، وحكراً على من يشترونها مهرَّبة، أو مهووسي جديد التكنولوجيا. لقد توفي جده منذ زمن طويل قبل... قبل ماذا؟ لم يعد يذكر، إنها تلك الفجوة في الذاكرة.
يعبر الشارع ويمشي فوق العشب. ليس ممنوعاً هنا السير فوق العشب، كما كان الأمر هناك في طفولته. ولكنه يكاد يطير، يكاد يطير حقاً كما في الأحلام، حيث يمشي بسرعة، ثم أسرع فأسرع، فيغدو خفيفاً وكأنه ينتعل حذاء سحرياً، يسير فلا تمسّ قدماه الأرض، ويحسّ بالعالم كله خفيفاً، وشفافاً، كأن قانون الجاذبية معطّل، ونيوتن يضحك وهو يمسك بتفاحة صائحاً: وجدتُها!
ولكنه لم يجدها. تلك الأرض التي يحلم بالعودة إليها. بحث عنها طويلاً، وفي كل مرة يقال له إنها اختفت، موجودة على شكل كرة مائية، ولكنها خالية من السكان، خالية من البشر. تختلط الحقائق والأوهام في رأسه. الحياة، الأصدقاء، السعادة، الأشجار والنجوم والغيوم. إنه مستعد لنسيان هذا كله في سبيل استحضار ساعةٍ من ذلك الوطن... الغائب. ولذلك فهو اليوم سيجمع أغراضه من نزل الطلاب الذي يقيم فيه:
ـ منذ خمس سنوات وأنا هنا، التزمتُ بكل ما يجب عليّ الالتزام به، نلت أوسمة عديدة، احترمتُ السلام في هذا المكان، وأحببت الجميع، لم أؤذ أحداً، درستُ، وتعلمتُ، وتخرجتُ أخيراً.
أعضاء لجنة إدارة النزل يقفون صامتين.
ـ ما بالكم؟ ها قد حان وقت الرحيل، لا بد أن أذهب!
ـ إلى أين؟
ـ إلى أين؟ إلى الوطن بالطبع. تعلمون جيداً أن وطني ليس هذا المكان، وأنا أرغب صادقاً بالعودة، ولا يهمني أنكم تريدون بقائي هنا.
ـ من حقك أن تغادر، ولكن دعنا نجد لك وظيفة هنا في البلدة، أو في أية مدينة أو ريف تختاره.
ـ سأعود إلى و. ط. ن. ي!
ـ ولكنك تعلم جيداً أن وطنك ليس موجوداً.
ويضيف أحد أعضاء اللجنة:
ـ نقصد لم يعد موجوداً.
ـ لعلك تأتي معنا إلى السينما لـ...
ـ لا، لن أشاهد مجدداً ذلك الفيلم التافه. خيال علمي مقيت... لن أصدّق... لن...
وينهار الطالب الخرّيج باكياً، قبل أن يغمى عليه، وتهبّ اللجنة لإسعافه في حالة تتكرر باستمرار كل بضعة أشهر، بينما قاعة السينما المجاورة تعرض فيلماً بعنوان: "كوكب الأرض، الوطن الذي دمّرته الحروب".
* نشرت القصة في مجلة الرابطة الثقافية ـ تصدر في الإمارات ـ العدد الثاني ـ تشرين الثاني/نوفمبر 2016 ـ ص178، 179
قصة : علياء الداية *
وأخيراً، ها هو ذا قد تخرّج. أنهى سنواته الخمس في دراسة الهندسة. وقف في وسط الشارع، على بلاط المنصّف، وهو يتأمّل ما حوله. في هذه البلدة الصغيرة ليس ثمة زحام، سيارات قليلة، وبضع حافلات للموظفين والطلاّب. ينظر تارة إلى أسفل، حيث الأزهار تطلّ من بين الأعشاب الخضراء، وتارةً إلى الأمام وإلى اليمين واليسار، حيث طرفا الطريق الذي يصل شرق البلدة بغربها، وتارةً إلى فوق، إلى السماء.
لم يكن يتوقع يوماً أنه سيهبط من السماء، وينضمّ إلى هذا المجتمع الجديد. في الواقع ما حصل هو أنهم ضمّوه إليهم، مع مجموعة من سكان وطنه، وهو لا يستطيع أن يعترف لنفسه بباقي التفاصيل. هناك فجوة مغيَّبة في ذاكرته، لا يرغب في تخطّيها، لا عن طريق القصد، ولا عن طريق التجاهل.
إنه الآن يحلم بالعودة إلى الوطن، ذلك المكان البعيد الذي جيء به منه. ها قد أنهى دراسته وبات مؤهلاً ليعتمد على نفسه، وليبني وطنه وفقاً لأحدث الطرق الحضارية، وما توصل إليه العلم الحديث، و... إلى آخر هذه العبارات التي تمتلئ بها الصحف والمجلات ومواقع الإنترنت.
يذكر جيداً كيف أنه يحاول مراراً أن يتواصل مع وطنه عبر الإنترنت، ولكن يبدو أنه ليس على تلك الخارطة الرقمية. وهو يحبّ هذا الشارع كثيراً، لأنه يذكّره بالشارع الرئيسي في مدينته، كانت تلك مدينة حيوية، فيها شوارع كثيرة، وزحام، وأناس كثيرون، بضائع، وشجار مقترن بالعنف أحياناً، ولكنها طبيعة الحياة. يحبّ أيضاً في هذه البلدة ذلك البناء الدائري؛ إنه النادي حيث يلتقي بأصدقاء الكلية في الطابق الأول، أما الطابق الأرضي ففيه صالة تزلج رائعة صيفاً وشتاء، والطابق الأخير فيه مناظير فلكية لمن يحبّ مشاهدة النجوم على الرغم من الغيوم المشاكسة في هذه الرقعة الجغرافية التي تغيب عنها الشمس طويلاً.
المهم لديه هو أن هذا المبنى يشبه المقهى الذي كان جده يصطحبه إليه في طفولته، مع ثلاثة من أبناء أعمامه. كان ذلك قبل انتشار الإنترنت، وقبل أن تنتشر الألعاب الإلكترونية أيضاً. كانت الـ"أتاري" حينها محدثة، وحكراً على من يشترونها مهرَّبة، أو مهووسي جديد التكنولوجيا. لقد توفي جده منذ زمن طويل قبل... قبل ماذا؟ لم يعد يذكر، إنها تلك الفجوة في الذاكرة.
يعبر الشارع ويمشي فوق العشب. ليس ممنوعاً هنا السير فوق العشب، كما كان الأمر هناك في طفولته. ولكنه يكاد يطير، يكاد يطير حقاً كما في الأحلام، حيث يمشي بسرعة، ثم أسرع فأسرع، فيغدو خفيفاً وكأنه ينتعل حذاء سحرياً، يسير فلا تمسّ قدماه الأرض، ويحسّ بالعالم كله خفيفاً، وشفافاً، كأن قانون الجاذبية معطّل، ونيوتن يضحك وهو يمسك بتفاحة صائحاً: وجدتُها!
ولكنه لم يجدها. تلك الأرض التي يحلم بالعودة إليها. بحث عنها طويلاً، وفي كل مرة يقال له إنها اختفت، موجودة على شكل كرة مائية، ولكنها خالية من السكان، خالية من البشر. تختلط الحقائق والأوهام في رأسه. الحياة، الأصدقاء، السعادة، الأشجار والنجوم والغيوم. إنه مستعد لنسيان هذا كله في سبيل استحضار ساعةٍ من ذلك الوطن... الغائب. ولذلك فهو اليوم سيجمع أغراضه من نزل الطلاب الذي يقيم فيه:
ـ منذ خمس سنوات وأنا هنا، التزمتُ بكل ما يجب عليّ الالتزام به، نلت أوسمة عديدة، احترمتُ السلام في هذا المكان، وأحببت الجميع، لم أؤذ أحداً، درستُ، وتعلمتُ، وتخرجتُ أخيراً.
أعضاء لجنة إدارة النزل يقفون صامتين.
ـ ما بالكم؟ ها قد حان وقت الرحيل، لا بد أن أذهب!
ـ إلى أين؟
ـ إلى أين؟ إلى الوطن بالطبع. تعلمون جيداً أن وطني ليس هذا المكان، وأنا أرغب صادقاً بالعودة، ولا يهمني أنكم تريدون بقائي هنا.
ـ من حقك أن تغادر، ولكن دعنا نجد لك وظيفة هنا في البلدة، أو في أية مدينة أو ريف تختاره.
ـ سأعود إلى و. ط. ن. ي!
ـ ولكنك تعلم جيداً أن وطنك ليس موجوداً.
ويضيف أحد أعضاء اللجنة:
ـ نقصد لم يعد موجوداً.
ـ لعلك تأتي معنا إلى السينما لـ...
ـ لا، لن أشاهد مجدداً ذلك الفيلم التافه. خيال علمي مقيت... لن أصدّق... لن...
وينهار الطالب الخرّيج باكياً، قبل أن يغمى عليه، وتهبّ اللجنة لإسعافه في حالة تتكرر باستمرار كل بضعة أشهر، بينما قاعة السينما المجاورة تعرض فيلماً بعنوان: "كوكب الأرض، الوطن الذي دمّرته الحروب".
* نشرت القصة في مجلة الرابطة الثقافية ـ تصدر في الإمارات ـ العدد الثاني ـ تشرين الثاني/نوفمبر 2016 ـ ص178، 179
Published on February 16, 2017 12:43
•
Tags:
خيال-علمي-سينما-الأرض-كوكب-وطن
January 9, 2017
جماليات الخيال العلمي في "قصة حقيقية" للوقيان السميساطي السوري
جماليات الخيال العلمي
في "قصة حقيقية" للوقيان السميساطي السوري
(125ـ192 م)
د.علياء الداية
مجلة الأدب العلمي ـ دمشق
"تلك هي المغامرات التي اعترضت سبيلنا في البحر، خلال رحلتي بين الجُزُر، وفي الفضاء، ومن ثم في جوف الحوت، وإثر خروجنا منه وبلوغنا الأبطال، وأبناء الأحلام، وأخيراً لدى البوسيفال والأونوسكيلي".(1) بهذه العبارة يختتم لوقيان السميساطي ما كتبه تحت عنوان "قصة حقيقية"، فما هي هذه القصة؟ وهل هي حقيقية أيضاً؟ أم أن في عنوانها من المفارقة الساخرة ما يعني بأنها على النقيض، فليس ثم حقيقة إلا الخيال الواسع لمؤلفها؟
كان لوقيان سورياً عاش في العصر الكلاسيكي التالي للزمن الذي راجت فيه محاورات أفلاطون، ومسرحيات اليونان القدماء كأسخيلوس وسوفوكليس ويوريبيدس، وأفكار الفلاسفة على تنوعهم واختلاف اتجاهات تأويلهم ومحاولات تفسيرهم للواقع وظواهره. ولكن لوقيان استفاد من السمات الأدبية والبلاغية في عصر اليونان، وأخذ منها القالب الذي يصوغ به محاوراته، وقصصه، وحكاياته، ومقالاته. ولم يقتصر على نوع واحد، فنجد بعض مؤلفاته تاريخياً، وبعضها أدبياً، والآخر أسطورياً، وفلسفياً، غير أن السمة المشتركة بينها جميعاً هي الأسلوب الكوميدي الساخر، الذي لا يشير إلى المفارقات فقط، بل يشبعها بالنقد المبطن تارة، والمعلن تارة أخرى، يعينه في ذلك الانفتاحُ الذي اتسم به عصره، على الثقافات المتجاورة، والتاريخ، والنظرة المستقبلية إلى تكوين عالم جديد بمفاهيم يتغير محتواها مع تغير الزمن.
1 ـ من هو لوقيان السميساطي؟
الجزء الأول من المقال:
https://www.goodreads.com/story/show/...
الجزء الثاني من المقال:
https://www.goodreads.com/story/show/...
* نشر المقال في: مجلة الأدب العلمي ـ تصدر عن جامعة دمشق ـ العدد37 أيلول 2016، ص24 ـ43
رابط مجلة الأدب العلمي ـ الحجم 5 ميغابايت:
http://damasuniv.edu.sy/mag/sci/image...
في "قصة حقيقية" للوقيان السميساطي السوري
(125ـ192 م)
د.علياء الداية
مجلة الأدب العلمي ـ دمشق
"تلك هي المغامرات التي اعترضت سبيلنا في البحر، خلال رحلتي بين الجُزُر، وفي الفضاء، ومن ثم في جوف الحوت، وإثر خروجنا منه وبلوغنا الأبطال، وأبناء الأحلام، وأخيراً لدى البوسيفال والأونوسكيلي".(1) بهذه العبارة يختتم لوقيان السميساطي ما كتبه تحت عنوان "قصة حقيقية"، فما هي هذه القصة؟ وهل هي حقيقية أيضاً؟ أم أن في عنوانها من المفارقة الساخرة ما يعني بأنها على النقيض، فليس ثم حقيقة إلا الخيال الواسع لمؤلفها؟
كان لوقيان سورياً عاش في العصر الكلاسيكي التالي للزمن الذي راجت فيه محاورات أفلاطون، ومسرحيات اليونان القدماء كأسخيلوس وسوفوكليس ويوريبيدس، وأفكار الفلاسفة على تنوعهم واختلاف اتجاهات تأويلهم ومحاولات تفسيرهم للواقع وظواهره. ولكن لوقيان استفاد من السمات الأدبية والبلاغية في عصر اليونان، وأخذ منها القالب الذي يصوغ به محاوراته، وقصصه، وحكاياته، ومقالاته. ولم يقتصر على نوع واحد، فنجد بعض مؤلفاته تاريخياً، وبعضها أدبياً، والآخر أسطورياً، وفلسفياً، غير أن السمة المشتركة بينها جميعاً هي الأسلوب الكوميدي الساخر، الذي لا يشير إلى المفارقات فقط، بل يشبعها بالنقد المبطن تارة، والمعلن تارة أخرى، يعينه في ذلك الانفتاحُ الذي اتسم به عصره، على الثقافات المتجاورة، والتاريخ، والنظرة المستقبلية إلى تكوين عالم جديد بمفاهيم يتغير محتواها مع تغير الزمن.
1 ـ من هو لوقيان السميساطي؟
الجزء الأول من المقال:
https://www.goodreads.com/story/show/...
الجزء الثاني من المقال:
https://www.goodreads.com/story/show/...
* نشر المقال في: مجلة الأدب العلمي ـ تصدر عن جامعة دمشق ـ العدد37 أيلول 2016، ص24 ـ43
رابط مجلة الأدب العلمي ـ الحجم 5 ميغابايت:
http://damasuniv.edu.sy/mag/sci/image...
Published on January 09, 2017 18:22
January 4, 2017
المحطة الأخيرة لبابا نويل
المحطة الأخيرة لبابا نويل
قصة: علياء الداية
خمس سنوات مضت منذ المرة الأخيرة التي جاء فيها بابا نويل إلى المدينة، واليوم هبط إليها وهو يفكر بأنها ولا شك قد تغيرت. كان مستعداً لمطالعة هذه التغيرات والتجوال هنا وهناك، لذلك ملأ الكيس على ظهره بهدايا أخف من المعتاد، حتى يتمكن من الحركة بسهولة أكبر.
توقفت الغزلان عند أول غيمة عند أطراف المدينة، لا تجرؤ على الاقتراب أكثر، فأكمل بابا نويل طريقه وحيداً، لم يكترث به أحد في زحمة المساء، "ربما وصلت مبكراً، ويظنون أنني شخص متنكر!" فكر لنفسه. تنبه بابا نويل إلى واجهات المحلات المضاءة، كان نورها يعني أن الظلام أخذ يحل في المكان، فشعر بالسرور والألفة، ومضى بخفة يشاهد الواجهات. دهش بابا نويل لرؤيته قبعته معروضة في أحد المحلات، فتحسس قبعته وتأكد أنها ما تزال تغطي رأسه الأشيب. "إنها على رأسي، فما هذه السلعة في المحل!" وعرف أن الناس يقتبسون قبعته نوعاً من الملابس الرائجة في هذا الشهر من العام. لم يعرف هل يشعر بالبهجة أم بالغيظ لأنهم يسطون على علامة فارقة له.
ابتعد بابا نويل عن الواجهات الملونة وجذبه محل عند زاوية الشارع، فيه شبان يتحلقون حول شاشات، إنها أجهزة الكمبيوتر التي عرفها قبل سنوات وفي أنحاء متفرقة من العالم. اقترب منهم فمدّ أحدهم إليه بالأركيلة: "خذ نفساً، معسّل بطعم فواكه الصيف، سيعجبك، ألست أنت بابا نويل؟" وقبل أن يبادر بابا نويل بالإجابة، كان شاب آخر قد اقتحم الحديث: "بالطبع إنه بابا نويل، كان يزورنا في المدرسة كل عام في مثل هذا اليوم، ويقال بأن أحد أصدقائنا كان يتنكر بزيه ويأتي إلى الصف وينثر السكاكر من الكيس في أرجاء المكان، ولكنه يوزع كميات أكبر في الزوايا التي يجلس فيها أصدقاؤه". ويقول شاب ثالث: "بالطبع إن بابا نويل ليس حقيقياً، إنه شخص متنكر".
وانسحب بابا نويل ودمعة تغشي عينه قبل أن تسقط على وجنته، سوف تختفي الدمعة في لحيته ولن يراها أحد. بدأ بابا نويل يحس بثقل الكيس، اعتقد في البداية بأن التعب نال منه كالمعتاد في منتصف جولاته، وكم تمنى لو أن الغزلان والعربة بجواره، ولكنه دهش حين لمح انعكاسه في واجهة داكنة؛ لقد قصرت قامته بشكل ملحوظ!
لم يتمكن بابا نويل من تأمل انعكاسه أكثر، فقد أظلمت الدنيا فجأة واختفت كل الأضواء، وعلى ضوء المصابيح اليدوية التي سرعان ما أنارها بعض المارة، أبصر بجواره طفلاً فسأله: "ما الذي حصل يا بني، لماذا اختفت الأضواء؟"
فأجابه: "أنت لست من هذه المدينة! مولدات الكهرباء تنطفئ وينتهي عملها في هذا الوقت... ولكن لماذا ترتدي هذه الملابس، أتظن نفسك بابا نويل!"
ويقهقه الطفل ساخراً ويركض إلى أحد مداخل الأبنية، تاركاً بابا نويل يفكر بحسرة في هذا الطفل الذي فوّت على نفسه فرصة الحصول على هدية، وفرصة النظر إلى النجوم القليلة التي تطل من فتحات السماء.
والآن لاحظ بابا نويل بوضوح كيف أنه ازداد قصراً، وأصبح قزماً لا يتعدى طوله المتر، فترك كيسه على قارعة الطريق. كان حائراً فيما يفعل، ولكن حيرته لم تدم طويلاً، فها هي ذي طلقات رصاص تفزعه فيختبئ خلف إحدى السيارات، وللمرة الأولى يفكرّ لو أنه يشتري سيارة حتى يهرب بها من أماكن كهذه.
وها قد تقلص حجم بابا نويل من جديد، ولمح بومة بيضاء تفرش جناحيها وترفرف بغموض مبهم وتحط على غصن شجرة قريب. "بومة في المدينة!" يتساءل بابا نويل، ويصيح مخاطباً البومة: "ماذا تفعلين هنا؟" لكنها لا ترد عليه. إنه ـ رغم كل شيء ـ يشعر بأنه أخف وزناً، فيستذكر طفولته قبل أن يصبح بابا نويل، ويتسلق الشجرة، لعله يجد عزاء في الحديث مع البومة التي تبدو أكثر ألفة من الآدميين.
مسافة قليلة تفصله عن البومة وهو يخاطبها: "ماذا تفعل بومة بيضاء في المدينة؟"، فتجيب البومة: "المكان هنا جميل، حركة الناس قليلة، والسيارات محدودة، الغربان هي منافسي الوحيد، ولكنها اتخذت من الحديقة القريبة مسكناً لها، وأنا أجد المكان رائع الوحشة في الليل وساعات الصباح الأولى، إنه كل ما أحلم به". فيسألها: "وهل لديك أصدقاء؟" تنظر إليه البومة بإحدى عينيها، فيفكر بابا نويل بأنها لم تعرفه بالتأكيد، فهو ضئيل جداً، ويشعر بالرعب من أن تفترسه، فينسحب من الشجرة، وهو متأكد من أنه يزداد ضآلة وانكماشاً.
على الأرض، كان الثلج ندفاً يتساقط من سماء شتائية باردة، وكان بابا نويل يرسم آخر خطواته، دموعه تنسال على وجنتيه، وتتطاير مع النسمات، خطوة فخطوة، يتلاشى والعالم الغريب من حوله يكبر ويكبر.
* نشرت القصة في موقع "مجلة نور الصحافة"، 23 كانون الأول 2016
http://nourjournalism.com/art/55709.html
قصة: علياء الداية
خمس سنوات مضت منذ المرة الأخيرة التي جاء فيها بابا نويل إلى المدينة، واليوم هبط إليها وهو يفكر بأنها ولا شك قد تغيرت. كان مستعداً لمطالعة هذه التغيرات والتجوال هنا وهناك، لذلك ملأ الكيس على ظهره بهدايا أخف من المعتاد، حتى يتمكن من الحركة بسهولة أكبر.
توقفت الغزلان عند أول غيمة عند أطراف المدينة، لا تجرؤ على الاقتراب أكثر، فأكمل بابا نويل طريقه وحيداً، لم يكترث به أحد في زحمة المساء، "ربما وصلت مبكراً، ويظنون أنني شخص متنكر!" فكر لنفسه. تنبه بابا نويل إلى واجهات المحلات المضاءة، كان نورها يعني أن الظلام أخذ يحل في المكان، فشعر بالسرور والألفة، ومضى بخفة يشاهد الواجهات. دهش بابا نويل لرؤيته قبعته معروضة في أحد المحلات، فتحسس قبعته وتأكد أنها ما تزال تغطي رأسه الأشيب. "إنها على رأسي، فما هذه السلعة في المحل!" وعرف أن الناس يقتبسون قبعته نوعاً من الملابس الرائجة في هذا الشهر من العام. لم يعرف هل يشعر بالبهجة أم بالغيظ لأنهم يسطون على علامة فارقة له.
ابتعد بابا نويل عن الواجهات الملونة وجذبه محل عند زاوية الشارع، فيه شبان يتحلقون حول شاشات، إنها أجهزة الكمبيوتر التي عرفها قبل سنوات وفي أنحاء متفرقة من العالم. اقترب منهم فمدّ أحدهم إليه بالأركيلة: "خذ نفساً، معسّل بطعم فواكه الصيف، سيعجبك، ألست أنت بابا نويل؟" وقبل أن يبادر بابا نويل بالإجابة، كان شاب آخر قد اقتحم الحديث: "بالطبع إنه بابا نويل، كان يزورنا في المدرسة كل عام في مثل هذا اليوم، ويقال بأن أحد أصدقائنا كان يتنكر بزيه ويأتي إلى الصف وينثر السكاكر من الكيس في أرجاء المكان، ولكنه يوزع كميات أكبر في الزوايا التي يجلس فيها أصدقاؤه". ويقول شاب ثالث: "بالطبع إن بابا نويل ليس حقيقياً، إنه شخص متنكر".
وانسحب بابا نويل ودمعة تغشي عينه قبل أن تسقط على وجنته، سوف تختفي الدمعة في لحيته ولن يراها أحد. بدأ بابا نويل يحس بثقل الكيس، اعتقد في البداية بأن التعب نال منه كالمعتاد في منتصف جولاته، وكم تمنى لو أن الغزلان والعربة بجواره، ولكنه دهش حين لمح انعكاسه في واجهة داكنة؛ لقد قصرت قامته بشكل ملحوظ!
لم يتمكن بابا نويل من تأمل انعكاسه أكثر، فقد أظلمت الدنيا فجأة واختفت كل الأضواء، وعلى ضوء المصابيح اليدوية التي سرعان ما أنارها بعض المارة، أبصر بجواره طفلاً فسأله: "ما الذي حصل يا بني، لماذا اختفت الأضواء؟"
فأجابه: "أنت لست من هذه المدينة! مولدات الكهرباء تنطفئ وينتهي عملها في هذا الوقت... ولكن لماذا ترتدي هذه الملابس، أتظن نفسك بابا نويل!"
ويقهقه الطفل ساخراً ويركض إلى أحد مداخل الأبنية، تاركاً بابا نويل يفكر بحسرة في هذا الطفل الذي فوّت على نفسه فرصة الحصول على هدية، وفرصة النظر إلى النجوم القليلة التي تطل من فتحات السماء.
والآن لاحظ بابا نويل بوضوح كيف أنه ازداد قصراً، وأصبح قزماً لا يتعدى طوله المتر، فترك كيسه على قارعة الطريق. كان حائراً فيما يفعل، ولكن حيرته لم تدم طويلاً، فها هي ذي طلقات رصاص تفزعه فيختبئ خلف إحدى السيارات، وللمرة الأولى يفكرّ لو أنه يشتري سيارة حتى يهرب بها من أماكن كهذه.
وها قد تقلص حجم بابا نويل من جديد، ولمح بومة بيضاء تفرش جناحيها وترفرف بغموض مبهم وتحط على غصن شجرة قريب. "بومة في المدينة!" يتساءل بابا نويل، ويصيح مخاطباً البومة: "ماذا تفعلين هنا؟" لكنها لا ترد عليه. إنه ـ رغم كل شيء ـ يشعر بأنه أخف وزناً، فيستذكر طفولته قبل أن يصبح بابا نويل، ويتسلق الشجرة، لعله يجد عزاء في الحديث مع البومة التي تبدو أكثر ألفة من الآدميين.
مسافة قليلة تفصله عن البومة وهو يخاطبها: "ماذا تفعل بومة بيضاء في المدينة؟"، فتجيب البومة: "المكان هنا جميل، حركة الناس قليلة، والسيارات محدودة، الغربان هي منافسي الوحيد، ولكنها اتخذت من الحديقة القريبة مسكناً لها، وأنا أجد المكان رائع الوحشة في الليل وساعات الصباح الأولى، إنه كل ما أحلم به". فيسألها: "وهل لديك أصدقاء؟" تنظر إليه البومة بإحدى عينيها، فيفكر بابا نويل بأنها لم تعرفه بالتأكيد، فهو ضئيل جداً، ويشعر بالرعب من أن تفترسه، فينسحب من الشجرة، وهو متأكد من أنه يزداد ضآلة وانكماشاً.
على الأرض، كان الثلج ندفاً يتساقط من سماء شتائية باردة، وكان بابا نويل يرسم آخر خطواته، دموعه تنسال على وجنتيه، وتتطاير مع النسمات، خطوة فخطوة، يتلاشى والعالم الغريب من حوله يكبر ويكبر.
* نشرت القصة في موقع "مجلة نور الصحافة"، 23 كانون الأول 2016
http://nourjournalism.com/art/55709.html
Published on January 04, 2017 07:13
•
Tags:
بابا-نويل-قصة-شتاء-مدينة
September 18, 2016
عشرة 10 أفلام لمن فاتته عطلة الصيف
10 أفلام لمن فاتته عطلة الصيف
مقال: د.علياء الداية
يعتبر السفر فرصة لخبرات جديدة ومعيشة ومشاهدات يومية مختلفة عنها في مكان الإقامة أو العمل، ولكن ماذا لو أردنا السفر عبر أفلام سينمائية؟
في هذه الأفلام يحزم البطل أمتعته ويحمل حقيبته ويمضي مسافراً، قد تكون رحلة عمل غير تقليدية توحي بالرفاهية والمجهول كما هو فيلم
The Ghost Writer،
أو رحلة سيبحث فيها البطل عن ذاته وهويته في فيلم
Unknown،
أو رحلة سياحية تحتوي على مفاجآت كما في
The Two Faces of January
، أو رحلة استكشافية في قلب الغابات والجبال والمسطحات المائية، وذات صلة بالطبيعة كما في كل من
Big Miracle
و Into The Wild
و Sanctum
، أو مزيجاً من موضوعات اجتماعية يؤدي السفر فيها دوراً محورياً كما في
An Unfinished Life
و Cast Away
و Letters to Juliet
، أو تحتوي على فانتازيا كـ فيلم
Alice through the Looking Glass.
*
1 ـ Alice through the Looking Glass (2016)
يحتوي هذا الفيلم "أليس عبر المرآة" على ميزة مزج الواقع بالفانتازيا والخيال، إذ تقوم أليس ـ بطلة الفيلم السابق أليس في بلاد العجائب ـ برحلة تجارية في سفينة والدها، وتمتلك البراعة في توجيه السفينة إلى برّ الأمان رغم العاصفة الشديدة والبحر الهائج. ثم تقوم أليس برحلة ثانية ولكنها هذه المرة إلى بلاد العجائب، وذلك عبر اقتحامها المرآة الكبيرة الوحيدة في غرفة الجلوس المغلقة، تاركةً باقي الناس المحتفلين في أنحاء البيت.
يأخذ هذا الفيلم بمُشاهده إلى عوالم جديدة وغريبة، حيث تلتقي أليس ببعض أصدقائها القدامى، ويتابع الفيلم جوانب من حياة هؤلاء الأصدقاء من مثل صانع القبعات، والملكة البيضاء، وتقوم أليس برحلة ثالثة ولكنها هذه المرة رحلة عبر الزمن، فهي تعود إلى الماضي حتى تنقذ أسرة صانع القبعات التي اختفت إثر إحدى المعارك.
يمتاز الفيلم بغناه بالألوان وبنماذج الشخصيات المتنوعة، والتوازي بين عالم الواقع حيث والدة أليس وأهل المدينة والمتنافسين، وعالم الخيال حيث الشخصيات التي تعرفها أليس فقط، وبالموسيقا التصويرية الحيوية، والمتناسبة مع إظهار الصراعات والقيم الإنسانية.
الفيلم من إخراج جيمس بوبين، وبطولة كل من ميا واسيكوسكا، وجوني ديب.
*
2 ـ An Unfinished Life (2005)
تجري أحداث هذا الفيلم "حياة غير مكتملة" وسط المناظر الطبيعية في إحدى القرى القريبة من النهر والمحاطة بالسهول والجبال، وفيه تتعرف الطفلة على جدها لأبيها، لأول مرة، فهي تأتي مع أمها إلى هذا المكان هرباً من المدينة التي كانتا تعيشان فيها.
الفيلم يكشف عن الأحداث الماضية شيئاً فشيئاً، كما يُظهر علاقات أهل القرية، والأهمية التي يحظى بها الدب بعد قيامه بمهاجمة أحد السكان، إذ يبذل الجدّ محاولات لتتبّعه واللحاق به واصطياده لإطلاق النار عليه، غير أن الشرطة تسبقه إلى هذا الهدف، وتحتجز الدب في قفص ليراه الجميع ويبقى بمنأى عنهم.
تكتشف الحفيدة حياة الريف وتأخذ بالشعور بالألفة تجاه جدّها والمكان بشكل عام، ولكن المشكلات التي تلاحق والدتها تجعلها في حيرة من أمرها أحياناً.
الفيلم غني جداً بمشاهد الطبيعة نهاراً وليلاً، وحياة القرية القريبة من الحيوانات المفترسة كالدببة، والأليفة كالأبقار والقطط والراكون واللاما والخيول.
الفيلم من إخراج لاسه هالستروم، وبطولة روبرت ريدفورد، و مورغان فريمان، و جنيفر لوبيز.
*
3 ـ Big Miracle (2012)
تستقطب منطقة ألاسكا الصحفيين الذين يتوافدون إلى المكان ومعهم أعداد من الناس الذي حثّهم الفضول، فتركوا أماكن إقامتهم وسكنهم، وسافروا إلى ألاسكا بحثاً عن حلّ لمشكلة الحيتان الثلاثة المهددة بالغرق تحت الجليد.
يصوّر هذا الفيلم "المعجزة الكبرى" جانباً حيوياً هو الاهتمام بالحيوانات، ولاسيما في الأماكن النائية. كما تظهر فيه عدة قضايا اجتماعية في علاقة السكان المحليين بما يجري، وتضارب آرائهم وقراراتهم، بين الرغبة في اصطياد الحيتان نظراً لما تقدمه لهم من قيمة استهلاكية وغذائية، وبين إتاحة فرصتها في الحياة، وقضايا بيئية واقتصادية وسياسية تكمن في المنافسة بين الصحفيين ووسائل الإعلام من أجل تغطية هذا الحدث النادر، وفي تردد مراكز اتخاذ القرار والإنفاق على موضوع بات يشغل الرأي العام.
أجاد التصوير نقل الحدث بكل تفاصيله ومصاعبه من قبيل توفير موارد الطاقة اللازمة لتشغيل الآلات، والمناخ الصعب بثلوجه التي تعيق حركة الناس، وتؤدي إلى تكاثف طبقة الجليد وتصلبها بحيث تمنع الحيتان من الصعود إلى سطح الماء للتنفس. كما تنوعت الأماكن في الفيلم، بين الداخل والخارج، في المساكن المغلقة والخارج المفتوح، بين الوهج الذي يعكسه بياض الجليد، والظلام الذي يلفه الليل، وبين المكان النائي والمدن المركزية التي يتم التواصل معها.
الفيلم للمخرج كين كوابيس، وبطولة درو بيريمور، و جون كراسينسكي.
*
4 ـ Cast Away (2000)
تجسّد قصة هذا الفيلم نموذجاً معاصراً من شخصية "روبنسن كروزو"، فالبطل هو مدير في شركة فيديكس
FedEx
يحزم أمتعته ويسافر بالطائرة التابعة للشركة، ولكنه لا يصل إلى وجهته مع الطاقم، بل يقع في المحيط حين تهوي بهم الطائرة إثر عاصفة شديدة، ليكون الناجي الوحيد... ...
وعلى جزيرة مجهولة سيمضي بطل الفيلم أياماً طويلة جداً.
الفيلم مميز جداً في إضفاء الواقعية والمباشرة على المَشاهد في أنحاء الجزيرة، حيث أشجار النخيل، والشاطئ وأمواج البحر، والصخور العالية الحادة والقاسية، والسماء المشمسة نهاراً والمليئة بالنجوم ليلاً، وعواصف الأمطار الرعدية التي تهطل من حين لآخر، كما يرصد الفيلم التطورات الجسدية والنفسية التي تطرأ على البطل وهو يحاول التكيف مع أسباب الحياة، إلى أن يسير الفيلم نحو نهاية تضع البطل أمام مرحلة جديدة من حياته.
الفيلم من إخراج روبرت زيميكس، وبطولة توم هانكس.
*
5 ـ The Ghost Writer (2010)
بطل هذا الفيلم "الكاتب الشبح" هو كاتب وصحفي شاب، يحظى بفرصة لوظيفة كتابة مذكرات باسم رجل ذي نفوذ شغل مناصب مهمة. كان الكاتب الذي حاز الوظيفة نفسها سابقاً قد لقي حتفه في ظروف غامضة، ولكن بطل الفيلم يُقدم على الوظيفة بتحفيز من رئيسه في المؤسسة التي يعمل فيها.
ينتقل الصحفي للإقامة في منزل الرجل المهم، على جزيرة قليلة السكان، يقدّم له مضيفوه ما يحتاجه من إقامة وأدوات وغرفة خاصة في المنزل، ويأخذ هو بالاطّلاع على كل ما يحيط به، بدءاً بالمنزل مروراً بموقف السيارات ودروب الجزيرة وانتهاءً بالميناء، ويثيره الفضول لمعرفة كل ما يمكن جمعه عن حياة هذا الرجل وطبيعة عمله وعلاقاته، فيلتقي بعدة أشخاص ويتجوّل في المكان، ويتعرّض إلى عوائق جدّية تضعه عدة مرات في مرمى الخطر، إلى أن تحين نهاية الفيلم المفاجئة.
يوازن الفيلم بين التركيز على حوار الشخصيات، وإتاحة الفرصة لغرابة المكان حتى تسهم في صوغ الأحداث، والإيحاء بالتوتر الذي ينتاب شخصيات عديدة، وتتناسب الموسيقا التصويرية مع هذه التغيرات. كما أن الفيلم يحتفي بجزئيات الطبيعة والأجواء البحرية العاصفة والماطرة التي تجعل قيادة السيارة تجربة خطيرة وصعبة، والغطاء النباتي كالأعشاب والشجيرات والأشجار التي تخفي معالم البيوت لتزيد من غموضها.
الفيلم للمخرج رومان بولانسكي، وبطولة إيفان مكريكور، و أوليفيا ويليامز.
*
6 ـ Into The Wild (2007)
يصور هذا الفيلم "إلى البرّية" حياة غريبة لشاب اختار أن يجوب العالم، بدلاً من متابعة دراسته بعد حصوله على شهادة الثانوية، فقد ترك بطل الفيلم والديه وأخته، وانطلق بحقيبته نحو البراري حتى يعيش بعيداً عن المجتمع الذي اكتشف سلبياته وأنه يحتوي على الكثير من القيم الزائفة والمشاكل. ويتميز الفيلم بصوت الراوية حيث تسرد أخت البطل بعض العبارات حول المرحلة السابقة من حياته، مما يضيء للمُشاهد شيئاً فشيئاً الأبعاد النفسية له.
يضطر الشاب إلى الاستقرار أحياناً في بعض البلدات أو المحطات، حيث يمارس بعض الأعمال للحصول على مال يساعده في تدبر شؤون حياته ونفقات المواصلات، وهنا يتعرف نماذج مختلفة من البشر، منهم الشباب والكهول وبعض الأطفال، ولكل منهم حكاية وهموم ومتاعب وأفراح طارئة، حتى إنه يعبر الحدود بطريقة غير شرعية متسللاً، ثم يصل إلى ألاسكا حيث تبدو الطبيعة أمامه أكثر جمالاً وجدّية وخطورة.
بعض مشاهد الفيلم تصور الحياة في المدينة التي كان الشاب يعيش فيها مع والديه، ثم يبدو أهله قلقين لاختفائه. وكثير من المشاهد تظهر فيها الطبيعة من شواطئ بحار وأنهار، وجروف صخرية، وجبال شاهقة، وحيوانات في الغابة ذات الأشجار العالية والثلوج والطقس قارس البرد.
الفيلم من إخراج شون بن، وبطولة إميل هيرش.
*
7 ـ Letters to Juliet (2010)
تقوم بطلة هذا الفيلم "رسائل إلى جولييت" بالسفر مع خطيبها إلى مدينة فيرونا في إيطاليا، حيث تحلم بزيارة الكثير من الأماكن الجميلة، إلى جانب حلمها بأن تصبح كاتبة، ولكنها تكتشف بأن خطيبها ينشغل عنها باهتماماته في فن الطبخ، ومتابعة كل ما يتعلق به، فهو يسافر من مدينة إلى مدينة أخرى لحضور بعض المؤتمرات الصحفية حول فنون الطبخ وأحدث الوصفات وطرق التسويق، ويتأخر عن موعد عودته تاركاً خطيبته وحيدة في فيرونا.
تتعرف بطلة الفيلم على بعض النساء اللواتي يسمين أنفسهن "سكرتيرات جولييت"، وهن يقمن بكتابة النصائح والإجابة عن الرسائل نيابة عن شخصية جولييت المعروفة. فتدخل البطلة إلى عالم جديد وتتعرف على المزيد من الأشخاص، وتجد نفسها بطلة قصة وفصل جديد من حياتها.
الفيلم يعرض عدة حكايات لعدة شخصيات، عبر الماضي والحاضر، والكاميرا تتجول ومعها بطلة الفيلم والأشخاص الذين صادفتهم في رحلتها، ليرى المُشاهد معهم المناظر الطبيعية الخلاّبة والحقول والأشجار المثمرة والكروم، والشوارع الممتدة، والسيارات والأزقّة الضيقة والشرفات أيضاً، والعادات والتقاليد لدى أبناء المنطقة والسكان المحليين.
الفيلم من إخراج غاري فينيك، وبطولة أماندا سيفريد، و غايل غارسيا برنال ، و فانيسا رديغريف.
*
8 ـ Sanctum (2011)
تكمن بدايات الفيلم "الكهف المقدّس" في مشاهد من الأسواق المحلية في المنطقة التي حطّ فيها الشاب رحاله، فهو يقصد هذا البلد الاستوائي لينضم إلى والده وفريق الغوص الذي يتزعمه، وسرعان ما تظهر المناظر الرائعة عبر الحوامة التي ُتقلّ جزءاً من الفريق وهي في طريقها إلى المكان المطلوب، فالنهر الذي تحيط به الجبال التي تكسوها الغابات الشاسعة من الأشجار، واللون الأخضر على مدار البصر تبدو كلها من علٍ إلى أن تظهر الفوّهة التي تحتوي بداخلها الأب زعيم فريق الغوص.
تظهر في الفيلم المعدات الحديثة ووسائل الاتصال التي يستخدمها الغواصون، وقد صاروا جميعاً داخل الفوهة، حيث تنتهي ببركة من المياه، والمطلوب هو الغوص عميقاً في المياه لإيجاد الفتحة التي يلتقي فيها عمق الكهف المائي بمياه المحيط.
تحيط التحديات بفريق الغوص، ولعلّ أخطرها هو العاصفة الاستوائية الماطرة التي هي على وشك الوصول إليهم، ولاسيما أن مجيئها السريع قبل خروجهم يهدد بارتفاع منسوب المياه، والقضاء على إمكانية خروجهم سالمين من هذه التجربة، وهذا هو الأمر الذي يطبع الفيلم بطابع الجرأة والشجاعة وترقب ما سيأتي. ويحفل الفيلم بالنظرات العميقة إلى الحياة وتساؤلات المصير واتخاذ القرارات، وقد باتت الأحداث التي جرت فيه تجربة لا تنسى.
الفيلم من إخراج أليستر غريرسون، وبطولة ريس ويكفيلد، و ريتشارد روكسبرغ.
*
9 ـ The Two Faces of January (2014)
يقوم رجل وزوجته بزيارة اليونان بهدف السياحة، ويتعرفان دليلاً سياحياً هناك، يصادف بأنه أميركي مثلهما. يفتتح الفيلم "وجها يناير/كانون الثاني" بمشاهد من المناطق الأثرية في أثينا في الأجواء المشمسة الساطعة، ولكن ما إن يحل الليل ويحتوي الفندق السائحين، حتى تحصل جريمة يرتكبها الرجل حين يقتل خصماً له يواجهه داخل غرفته.
تتطور الأحداث في منحى مختلف حين يجد الدليل السياحي نفسه شاهداً على هذه الجريمة، ويحظى مُشاهد الفيلم برحلة سياحية مميزة حيث يتابع أحداث الفيلم التي تجري في القرى اليونانية وشاطئ البحر والتلال والطرقات الترابية التي يملؤها الحصى والنباتات البرية، ولكن الأمر ليس ممتعاً بالنسبة إلى أبطال الفيلم، فالرجل وزوجته يهربان من أعين الشرطة، ويندفع الدليل السياحي إلى مساعدتهما والهرب معهما مستفيداً من إجادته اللغة اليونانية.
إنهم يستقلون وسائل مواصلات متنوعة كالحافلات المحلية الشعبية، والقوارب، ويسيرون على الأقدام، ويهربون إلى المقاهي النائية والأقبية الشبيهة بالكهوف، متحاشين الاحتكاك بالسكان المحليين، خوفاً من أن يتم اكتشافهم وقد باتت صور السائحين على صفحات الصحف. وسرعان ما يصبح سيد الموقف هو الغش والخداع والنوايا المضمرة إلى أن تحين نهاية الفيلم بعد سلسلة من المطاردات والهرب عبر المدن والبلدان.
الفيلم للمخرج حسين أميني، ومن بطولة فيغو مورتينسين، و كريستين دانست، و أوسكار إسحاق.
*
10 ـ Unknown (2011)
تتساوى في هذا الفيلم "المجهول" حيرة المُشاهد مع حيرة البطل، إذ يصل بطل الفيلم وهو باحث متخصص في النباتات إلى الفندق في برلين، ولكنه يكتشف بأنه نسي محفظته التي تحتوي وثائقه، فيستقل سيارة أجرة عائداً إلى المطار، وهنا يطيح به حادث سيارة فتهوي سيارة الأجرة من الجسر إلى مياه النهر.
تتطور الأحداث فيصحو بطل الفيلم أخيراً من غيبوبة لازمته في المشفى عدة أيام، يعود إلى الفندق ليفاجأ بأن أحداً لا يعرفه، وبأنه أضاع هويته الحقيقية، حتى زوجته تنكره كما الجميع، فلا يُسمح له بالدخول، ويجد أن شخصاً آخر انتحل شخصيته باحثاً وزوجاً ونزيلاً في الفندق. المُشاهد والبطل يحتاران بالفعل، فمن هو صاحب الهوية الحقيقية، وهل أصيب البطل بفقدان الذاكرة أو بالجنون؟
يكمن أحد المفاتيح المساعدة للحل في الفتاة البوسنية التي كانت تقود سيارة الأجرة، وهي التي أنقذت بطل الفيلم وأسعفته، ولكنها توارت عن الأنظار خوفاً من كشفها فهي مهاجرة غير شرعية. يعثر البطل عليها، فيتعاونان من أجل إيجاد طريقة لاستعادة هويته ومعرفة لغز ما يحصل.
يتميز الفيلم بتصويره الشوارع الواسعة والفنادق الفخمة وصالات العرض في مدينة برلين، إلى جانب البيوت الفقيرة والأزقة المظلمة والمطاعم الصغيرة ومحطات المترو الموحشة ليلاً، مع موسيقا تصويرية تتناسب والأحوال المتقلبة بين الترقب والهجوم والدهشة والمباغتة التي تتعرّض إليها الشخصيات.
الفيلم من إخراج جاومي كوليت سيرا، وبطولة ليام نيسون، و ديان كروغر وجانيوري جونز.
*
المصدر: موقع ثقافات
رابط مباشر:
http://thaqafat.com/2016/08/61696/
مقال: د.علياء الداية
يعتبر السفر فرصة لخبرات جديدة ومعيشة ومشاهدات يومية مختلفة عنها في مكان الإقامة أو العمل، ولكن ماذا لو أردنا السفر عبر أفلام سينمائية؟
في هذه الأفلام يحزم البطل أمتعته ويحمل حقيبته ويمضي مسافراً، قد تكون رحلة عمل غير تقليدية توحي بالرفاهية والمجهول كما هو فيلم
The Ghost Writer،
أو رحلة سيبحث فيها البطل عن ذاته وهويته في فيلم
Unknown،
أو رحلة سياحية تحتوي على مفاجآت كما في
The Two Faces of January
، أو رحلة استكشافية في قلب الغابات والجبال والمسطحات المائية، وذات صلة بالطبيعة كما في كل من
Big Miracle
و Into The Wild
و Sanctum
، أو مزيجاً من موضوعات اجتماعية يؤدي السفر فيها دوراً محورياً كما في
An Unfinished Life
و Cast Away
و Letters to Juliet
، أو تحتوي على فانتازيا كـ فيلم
Alice through the Looking Glass.
*
1 ـ Alice through the Looking Glass (2016)
يحتوي هذا الفيلم "أليس عبر المرآة" على ميزة مزج الواقع بالفانتازيا والخيال، إذ تقوم أليس ـ بطلة الفيلم السابق أليس في بلاد العجائب ـ برحلة تجارية في سفينة والدها، وتمتلك البراعة في توجيه السفينة إلى برّ الأمان رغم العاصفة الشديدة والبحر الهائج. ثم تقوم أليس برحلة ثانية ولكنها هذه المرة إلى بلاد العجائب، وذلك عبر اقتحامها المرآة الكبيرة الوحيدة في غرفة الجلوس المغلقة، تاركةً باقي الناس المحتفلين في أنحاء البيت.
يأخذ هذا الفيلم بمُشاهده إلى عوالم جديدة وغريبة، حيث تلتقي أليس ببعض أصدقائها القدامى، ويتابع الفيلم جوانب من حياة هؤلاء الأصدقاء من مثل صانع القبعات، والملكة البيضاء، وتقوم أليس برحلة ثالثة ولكنها هذه المرة رحلة عبر الزمن، فهي تعود إلى الماضي حتى تنقذ أسرة صانع القبعات التي اختفت إثر إحدى المعارك.
يمتاز الفيلم بغناه بالألوان وبنماذج الشخصيات المتنوعة، والتوازي بين عالم الواقع حيث والدة أليس وأهل المدينة والمتنافسين، وعالم الخيال حيث الشخصيات التي تعرفها أليس فقط، وبالموسيقا التصويرية الحيوية، والمتناسبة مع إظهار الصراعات والقيم الإنسانية.
الفيلم من إخراج جيمس بوبين، وبطولة كل من ميا واسيكوسكا، وجوني ديب.
*
2 ـ An Unfinished Life (2005)
تجري أحداث هذا الفيلم "حياة غير مكتملة" وسط المناظر الطبيعية في إحدى القرى القريبة من النهر والمحاطة بالسهول والجبال، وفيه تتعرف الطفلة على جدها لأبيها، لأول مرة، فهي تأتي مع أمها إلى هذا المكان هرباً من المدينة التي كانتا تعيشان فيها.
الفيلم يكشف عن الأحداث الماضية شيئاً فشيئاً، كما يُظهر علاقات أهل القرية، والأهمية التي يحظى بها الدب بعد قيامه بمهاجمة أحد السكان، إذ يبذل الجدّ محاولات لتتبّعه واللحاق به واصطياده لإطلاق النار عليه، غير أن الشرطة تسبقه إلى هذا الهدف، وتحتجز الدب في قفص ليراه الجميع ويبقى بمنأى عنهم.
تكتشف الحفيدة حياة الريف وتأخذ بالشعور بالألفة تجاه جدّها والمكان بشكل عام، ولكن المشكلات التي تلاحق والدتها تجعلها في حيرة من أمرها أحياناً.
الفيلم غني جداً بمشاهد الطبيعة نهاراً وليلاً، وحياة القرية القريبة من الحيوانات المفترسة كالدببة، والأليفة كالأبقار والقطط والراكون واللاما والخيول.
الفيلم من إخراج لاسه هالستروم، وبطولة روبرت ريدفورد، و مورغان فريمان، و جنيفر لوبيز.
*
3 ـ Big Miracle (2012)
تستقطب منطقة ألاسكا الصحفيين الذين يتوافدون إلى المكان ومعهم أعداد من الناس الذي حثّهم الفضول، فتركوا أماكن إقامتهم وسكنهم، وسافروا إلى ألاسكا بحثاً عن حلّ لمشكلة الحيتان الثلاثة المهددة بالغرق تحت الجليد.
يصوّر هذا الفيلم "المعجزة الكبرى" جانباً حيوياً هو الاهتمام بالحيوانات، ولاسيما في الأماكن النائية. كما تظهر فيه عدة قضايا اجتماعية في علاقة السكان المحليين بما يجري، وتضارب آرائهم وقراراتهم، بين الرغبة في اصطياد الحيتان نظراً لما تقدمه لهم من قيمة استهلاكية وغذائية، وبين إتاحة فرصتها في الحياة، وقضايا بيئية واقتصادية وسياسية تكمن في المنافسة بين الصحفيين ووسائل الإعلام من أجل تغطية هذا الحدث النادر، وفي تردد مراكز اتخاذ القرار والإنفاق على موضوع بات يشغل الرأي العام.
أجاد التصوير نقل الحدث بكل تفاصيله ومصاعبه من قبيل توفير موارد الطاقة اللازمة لتشغيل الآلات، والمناخ الصعب بثلوجه التي تعيق حركة الناس، وتؤدي إلى تكاثف طبقة الجليد وتصلبها بحيث تمنع الحيتان من الصعود إلى سطح الماء للتنفس. كما تنوعت الأماكن في الفيلم، بين الداخل والخارج، في المساكن المغلقة والخارج المفتوح، بين الوهج الذي يعكسه بياض الجليد، والظلام الذي يلفه الليل، وبين المكان النائي والمدن المركزية التي يتم التواصل معها.
الفيلم للمخرج كين كوابيس، وبطولة درو بيريمور، و جون كراسينسكي.
*
4 ـ Cast Away (2000)
تجسّد قصة هذا الفيلم نموذجاً معاصراً من شخصية "روبنسن كروزو"، فالبطل هو مدير في شركة فيديكس
FedEx
يحزم أمتعته ويسافر بالطائرة التابعة للشركة، ولكنه لا يصل إلى وجهته مع الطاقم، بل يقع في المحيط حين تهوي بهم الطائرة إثر عاصفة شديدة، ليكون الناجي الوحيد... ...
وعلى جزيرة مجهولة سيمضي بطل الفيلم أياماً طويلة جداً.
الفيلم مميز جداً في إضفاء الواقعية والمباشرة على المَشاهد في أنحاء الجزيرة، حيث أشجار النخيل، والشاطئ وأمواج البحر، والصخور العالية الحادة والقاسية، والسماء المشمسة نهاراً والمليئة بالنجوم ليلاً، وعواصف الأمطار الرعدية التي تهطل من حين لآخر، كما يرصد الفيلم التطورات الجسدية والنفسية التي تطرأ على البطل وهو يحاول التكيف مع أسباب الحياة، إلى أن يسير الفيلم نحو نهاية تضع البطل أمام مرحلة جديدة من حياته.
الفيلم من إخراج روبرت زيميكس، وبطولة توم هانكس.
*
5 ـ The Ghost Writer (2010)
بطل هذا الفيلم "الكاتب الشبح" هو كاتب وصحفي شاب، يحظى بفرصة لوظيفة كتابة مذكرات باسم رجل ذي نفوذ شغل مناصب مهمة. كان الكاتب الذي حاز الوظيفة نفسها سابقاً قد لقي حتفه في ظروف غامضة، ولكن بطل الفيلم يُقدم على الوظيفة بتحفيز من رئيسه في المؤسسة التي يعمل فيها.
ينتقل الصحفي للإقامة في منزل الرجل المهم، على جزيرة قليلة السكان، يقدّم له مضيفوه ما يحتاجه من إقامة وأدوات وغرفة خاصة في المنزل، ويأخذ هو بالاطّلاع على كل ما يحيط به، بدءاً بالمنزل مروراً بموقف السيارات ودروب الجزيرة وانتهاءً بالميناء، ويثيره الفضول لمعرفة كل ما يمكن جمعه عن حياة هذا الرجل وطبيعة عمله وعلاقاته، فيلتقي بعدة أشخاص ويتجوّل في المكان، ويتعرّض إلى عوائق جدّية تضعه عدة مرات في مرمى الخطر، إلى أن تحين نهاية الفيلم المفاجئة.
يوازن الفيلم بين التركيز على حوار الشخصيات، وإتاحة الفرصة لغرابة المكان حتى تسهم في صوغ الأحداث، والإيحاء بالتوتر الذي ينتاب شخصيات عديدة، وتتناسب الموسيقا التصويرية مع هذه التغيرات. كما أن الفيلم يحتفي بجزئيات الطبيعة والأجواء البحرية العاصفة والماطرة التي تجعل قيادة السيارة تجربة خطيرة وصعبة، والغطاء النباتي كالأعشاب والشجيرات والأشجار التي تخفي معالم البيوت لتزيد من غموضها.
الفيلم للمخرج رومان بولانسكي، وبطولة إيفان مكريكور، و أوليفيا ويليامز.
*
6 ـ Into The Wild (2007)
يصور هذا الفيلم "إلى البرّية" حياة غريبة لشاب اختار أن يجوب العالم، بدلاً من متابعة دراسته بعد حصوله على شهادة الثانوية، فقد ترك بطل الفيلم والديه وأخته، وانطلق بحقيبته نحو البراري حتى يعيش بعيداً عن المجتمع الذي اكتشف سلبياته وأنه يحتوي على الكثير من القيم الزائفة والمشاكل. ويتميز الفيلم بصوت الراوية حيث تسرد أخت البطل بعض العبارات حول المرحلة السابقة من حياته، مما يضيء للمُشاهد شيئاً فشيئاً الأبعاد النفسية له.
يضطر الشاب إلى الاستقرار أحياناً في بعض البلدات أو المحطات، حيث يمارس بعض الأعمال للحصول على مال يساعده في تدبر شؤون حياته ونفقات المواصلات، وهنا يتعرف نماذج مختلفة من البشر، منهم الشباب والكهول وبعض الأطفال، ولكل منهم حكاية وهموم ومتاعب وأفراح طارئة، حتى إنه يعبر الحدود بطريقة غير شرعية متسللاً، ثم يصل إلى ألاسكا حيث تبدو الطبيعة أمامه أكثر جمالاً وجدّية وخطورة.
بعض مشاهد الفيلم تصور الحياة في المدينة التي كان الشاب يعيش فيها مع والديه، ثم يبدو أهله قلقين لاختفائه. وكثير من المشاهد تظهر فيها الطبيعة من شواطئ بحار وأنهار، وجروف صخرية، وجبال شاهقة، وحيوانات في الغابة ذات الأشجار العالية والثلوج والطقس قارس البرد.
الفيلم من إخراج شون بن، وبطولة إميل هيرش.
*
7 ـ Letters to Juliet (2010)
تقوم بطلة هذا الفيلم "رسائل إلى جولييت" بالسفر مع خطيبها إلى مدينة فيرونا في إيطاليا، حيث تحلم بزيارة الكثير من الأماكن الجميلة، إلى جانب حلمها بأن تصبح كاتبة، ولكنها تكتشف بأن خطيبها ينشغل عنها باهتماماته في فن الطبخ، ومتابعة كل ما يتعلق به، فهو يسافر من مدينة إلى مدينة أخرى لحضور بعض المؤتمرات الصحفية حول فنون الطبخ وأحدث الوصفات وطرق التسويق، ويتأخر عن موعد عودته تاركاً خطيبته وحيدة في فيرونا.
تتعرف بطلة الفيلم على بعض النساء اللواتي يسمين أنفسهن "سكرتيرات جولييت"، وهن يقمن بكتابة النصائح والإجابة عن الرسائل نيابة عن شخصية جولييت المعروفة. فتدخل البطلة إلى عالم جديد وتتعرف على المزيد من الأشخاص، وتجد نفسها بطلة قصة وفصل جديد من حياتها.
الفيلم يعرض عدة حكايات لعدة شخصيات، عبر الماضي والحاضر، والكاميرا تتجول ومعها بطلة الفيلم والأشخاص الذين صادفتهم في رحلتها، ليرى المُشاهد معهم المناظر الطبيعية الخلاّبة والحقول والأشجار المثمرة والكروم، والشوارع الممتدة، والسيارات والأزقّة الضيقة والشرفات أيضاً، والعادات والتقاليد لدى أبناء المنطقة والسكان المحليين.
الفيلم من إخراج غاري فينيك، وبطولة أماندا سيفريد، و غايل غارسيا برنال ، و فانيسا رديغريف.
*
8 ـ Sanctum (2011)
تكمن بدايات الفيلم "الكهف المقدّس" في مشاهد من الأسواق المحلية في المنطقة التي حطّ فيها الشاب رحاله، فهو يقصد هذا البلد الاستوائي لينضم إلى والده وفريق الغوص الذي يتزعمه، وسرعان ما تظهر المناظر الرائعة عبر الحوامة التي ُتقلّ جزءاً من الفريق وهي في طريقها إلى المكان المطلوب، فالنهر الذي تحيط به الجبال التي تكسوها الغابات الشاسعة من الأشجار، واللون الأخضر على مدار البصر تبدو كلها من علٍ إلى أن تظهر الفوّهة التي تحتوي بداخلها الأب زعيم فريق الغوص.
تظهر في الفيلم المعدات الحديثة ووسائل الاتصال التي يستخدمها الغواصون، وقد صاروا جميعاً داخل الفوهة، حيث تنتهي ببركة من المياه، والمطلوب هو الغوص عميقاً في المياه لإيجاد الفتحة التي يلتقي فيها عمق الكهف المائي بمياه المحيط.
تحيط التحديات بفريق الغوص، ولعلّ أخطرها هو العاصفة الاستوائية الماطرة التي هي على وشك الوصول إليهم، ولاسيما أن مجيئها السريع قبل خروجهم يهدد بارتفاع منسوب المياه، والقضاء على إمكانية خروجهم سالمين من هذه التجربة، وهذا هو الأمر الذي يطبع الفيلم بطابع الجرأة والشجاعة وترقب ما سيأتي. ويحفل الفيلم بالنظرات العميقة إلى الحياة وتساؤلات المصير واتخاذ القرارات، وقد باتت الأحداث التي جرت فيه تجربة لا تنسى.
الفيلم من إخراج أليستر غريرسون، وبطولة ريس ويكفيلد، و ريتشارد روكسبرغ.
*
9 ـ The Two Faces of January (2014)
يقوم رجل وزوجته بزيارة اليونان بهدف السياحة، ويتعرفان دليلاً سياحياً هناك، يصادف بأنه أميركي مثلهما. يفتتح الفيلم "وجها يناير/كانون الثاني" بمشاهد من المناطق الأثرية في أثينا في الأجواء المشمسة الساطعة، ولكن ما إن يحل الليل ويحتوي الفندق السائحين، حتى تحصل جريمة يرتكبها الرجل حين يقتل خصماً له يواجهه داخل غرفته.
تتطور الأحداث في منحى مختلف حين يجد الدليل السياحي نفسه شاهداً على هذه الجريمة، ويحظى مُشاهد الفيلم برحلة سياحية مميزة حيث يتابع أحداث الفيلم التي تجري في القرى اليونانية وشاطئ البحر والتلال والطرقات الترابية التي يملؤها الحصى والنباتات البرية، ولكن الأمر ليس ممتعاً بالنسبة إلى أبطال الفيلم، فالرجل وزوجته يهربان من أعين الشرطة، ويندفع الدليل السياحي إلى مساعدتهما والهرب معهما مستفيداً من إجادته اللغة اليونانية.
إنهم يستقلون وسائل مواصلات متنوعة كالحافلات المحلية الشعبية، والقوارب، ويسيرون على الأقدام، ويهربون إلى المقاهي النائية والأقبية الشبيهة بالكهوف، متحاشين الاحتكاك بالسكان المحليين، خوفاً من أن يتم اكتشافهم وقد باتت صور السائحين على صفحات الصحف. وسرعان ما يصبح سيد الموقف هو الغش والخداع والنوايا المضمرة إلى أن تحين نهاية الفيلم بعد سلسلة من المطاردات والهرب عبر المدن والبلدان.
الفيلم للمخرج حسين أميني، ومن بطولة فيغو مورتينسين، و كريستين دانست، و أوسكار إسحاق.
*
10 ـ Unknown (2011)
تتساوى في هذا الفيلم "المجهول" حيرة المُشاهد مع حيرة البطل، إذ يصل بطل الفيلم وهو باحث متخصص في النباتات إلى الفندق في برلين، ولكنه يكتشف بأنه نسي محفظته التي تحتوي وثائقه، فيستقل سيارة أجرة عائداً إلى المطار، وهنا يطيح به حادث سيارة فتهوي سيارة الأجرة من الجسر إلى مياه النهر.
تتطور الأحداث فيصحو بطل الفيلم أخيراً من غيبوبة لازمته في المشفى عدة أيام، يعود إلى الفندق ليفاجأ بأن أحداً لا يعرفه، وبأنه أضاع هويته الحقيقية، حتى زوجته تنكره كما الجميع، فلا يُسمح له بالدخول، ويجد أن شخصاً آخر انتحل شخصيته باحثاً وزوجاً ونزيلاً في الفندق. المُشاهد والبطل يحتاران بالفعل، فمن هو صاحب الهوية الحقيقية، وهل أصيب البطل بفقدان الذاكرة أو بالجنون؟
يكمن أحد المفاتيح المساعدة للحل في الفتاة البوسنية التي كانت تقود سيارة الأجرة، وهي التي أنقذت بطل الفيلم وأسعفته، ولكنها توارت عن الأنظار خوفاً من كشفها فهي مهاجرة غير شرعية. يعثر البطل عليها، فيتعاونان من أجل إيجاد طريقة لاستعادة هويته ومعرفة لغز ما يحصل.
يتميز الفيلم بتصويره الشوارع الواسعة والفنادق الفخمة وصالات العرض في مدينة برلين، إلى جانب البيوت الفقيرة والأزقة المظلمة والمطاعم الصغيرة ومحطات المترو الموحشة ليلاً، مع موسيقا تصويرية تتناسب والأحوال المتقلبة بين الترقب والهجوم والدهشة والمباغتة التي تتعرّض إليها الشخصيات.
الفيلم من إخراج جاومي كوليت سيرا، وبطولة ليام نيسون، و ديان كروغر وجانيوري جونز.
*
المصدر: موقع ثقافات
رابط مباشر:
http://thaqafat.com/2016/08/61696/
Published on September 18, 2016 07:17
مشاركة في موضوع: السجالات الفكرية والأدبية.. لماذا انحسرت في ثقافتنا المعاصرة؟
مشاركة : د.علياء الداية، في موضوع:
"السجالات الفكرية والأدبية.. لماذا انحسرت في ثقافتنا المعاصرة؟"
.
حروب الكلمات العظيمة.. مجرد ذكريات
.
الكويت: عدنان فرزات ـ صحيفة الشرق الأوسط
.
في الأربعينات والخمسينات والستينات، اشتعلت المزيد من المساجلات الأدبية التي كانت تنشب بسبب اختلاف الآراء، وعرفت ساحات الأدب فرسانًا لهذه المساجلات مثل سجالات عباس العقاد مع طه حسين، والرافعي وأحمد شوقي، وجميل صدقي الزهاوي، وسجالات محمد عابد الجابري وجورج طرابيشي، وغير ذلك من معارك أثرت الفكر العربي الأدبي والنقدي، والتي كان من أواخرها السجالات الطاحنة بين أنصار المتحيزين لشعر العمودي والتفعيلة، وبين الذين أصروا على إطلاق عبارة «قصيدة» على النثر.
لماذا انحسرت مثل هذه السجالات في حياتنا الثقافية المعاصرة؟ هنا مداخلات حول هذا الموضوع من كتاب وباحثين ومثقفين من مختلف البلدان العربية:
حين كانت الحروب بأسلحة من كلمات، كانت الفائدة عظيمة على العقل العربي. لكن الإنسان العربي استبدل اليوم هذه الكلمات بشتى أنواع الفتك. قد يكون المدخل إلى موضوع أدبي مؤلمًا بهذه الطريقة، ولكن نريد القول: ليتنا بقينا على المعارك الأدبية كتلك التي كانت تشتعل بين الأدباء والنقاد والمفكرين ويسيل لأجلها الحبر حتى يغوص به القراء للركب.
في الأربعينيات والخمسينيات والستينيات، اشتعلت المزيد من المساجلات الأدبية التي كانت تنشب بسبب اختلاف الآراء، وعرفت ساحات الأدب فرسانًا لهذه المساجلات مثل سجالات عباس العقاد مع طه حسين والرافعي وأحمد شوقي وجميل صدقي الزهاوي، وسجالات محمد عابد الجابري وجورج طرابيشي، وغير ذلك من معارك أثرت الفكر العربي الأدبي والنقدي والتي كان من أواخرها السجالات الطاحنة بين أنصار المتحيزين للشعر العمودي والتفعيلة، وبين الذين أصروا على إطلاق عبارة «قصيدة» على النثر.
لكن الذي حصل اليوم، أن هذه السجالات بمفهومها «الثوري» انحسرت إلى حد كبير، بحيث لم تعد تشكل مادة تصلح لأن تظهر في كتب كتلك الكتب التي ظهرت مفعمة بالزخم عن المعارك الأدبية السابقة، أي تكاد تكون المساجلات اليوم محصورة في ساحة مواقع التواصل الاجتماعي بالتغريدات والبوستات والتعليقات على أبعد تقدير.
الإجابة على الأسباب التي أدت إلى هذا الانحسار، لا يمكن أن تكون إجابة فردية، لذلك كان لا بد من سبر غور آراء كثير من الأكاديميين في مجال الأدب والأدباء ليدلوا بدلوهم في هذه المسألة الحيوية.
.
السرقات الأدبية.. فحسب :
الأكاديمية السورية الدكتورة علياء الداية، بقسم اللغة العربية جامعة حلب، ترى أن السجالات والحوارات الثقافية تحتاج إلى أرضية من الاستقرار، وتقول: لعلّ هذا ما تفتقده أيامنا المعاصرة إلى حد كبير، وعلى صعد متعددة. وتضيف: كما يؤدي العامل الاجتماعي دورًا مهمًا، فمن الملحوظ حاليًا ارتفاع نسبة الشباب في البلاد العربية، وهذا ما يجعل اتجاهاتهم الثقافية وتفضيلاتهم المعيشية تلقي بظلالها على المشهد الفكري العام. كان الغالب في سجالات العقود السابقة هو الرغبة في تجاوز المنتج الثقافي، من خلال نقده أو الرغبة في تطويره أو تحسينه، أو إيجاد بدائل فكرية للنظريات المطروحة. أما الآن فيقتصر الأمر على الرغبة في العرض والمناقشة، وفي بعض الأحيان إثارة موضوع السرقات الأدبية. وتفسر الدكتورة علياء الداية ذلك بقولها: يتميز عصرنا بتعدد الوسائل الإعلامية، مما يجعلها تتداخل كثيرًا مع الوسائل المعرفية وتتماهى معها، ومن ذلك ما يدفع أعدادًا متنامية من القراء باتجاه كتب رائجة، لاقتنائها إلكترونيًا أو ورقيًا وتبادل النقاشات حولها وتداول الاقتباسات والعناوين، من دون أن يعني ذلك حراكًا فكريًا عميقًا بالضرورة. وفي مثال آني للدور الإعلامي المعرفي الثقافي - تقول الدكتورة علياء الداية - نجد المسلسلات المأخوذة عن روايات عربية والتي حافظت على عنوان الرواية نفسه، مثل «ساق البامبو»، و«سمرقند»، و«أفراح القبّة»، وما تحظى به من متابعة واسعة، ونقاشات بين مشاهديها، ومقارنتهم بينها من حيث الجودة، وبين المسلسل المنتج والرواية المأخوذ عنها، الكثير يتجهون إلى قراءة الرواية أو إعادة قراءتها من جديد ليكونوا على أهبة المشاركة فيما يستجد من حلقات على الشاشة، ومن حوارات مع المجال الاجتماعي من حولهم ووسائل التواصل.
ولا تتجاهل الدكتورة الداية في هذا الموضوع حقيقة أن «الثقافة العربية المعاصرة تكتسب سمة العابرة للأماكن، بفعل مكوناتها من نصوص ومبدعين ومتلقين ما زالوا متواصلين وملتصقين بثقافاتهم الأصلية، ولكن الهجرة طافت بهم عبر العالم، وقد تثير الأماكن الجديدة أو الطارئة حوارات فكرية أو ثقافية ما تزال قيد التشكل لعقود قادمة».
.
الكاتبة الكويتية إستبرق أحمد تعتقد أن العالم يخضع لتغييرات متسارعة: «بحيث حتى بعض المواضيع التي تسترعي الانتباه تخفت وقد تختفي، كل خبر يدفع خبرا آخر للظل، كل اختراع يلغي أو يقلل من أهمية اختراع آخر»، لذا - حسبما تقول إستبرق أحمد - كانت السجالات والمناقشات غالبا تحتاج لصحيفة، أو إصدار كتاب للحفاظ على الحدث، أما الآن فالزمن في لهاث نكاد نسمع شهيقه وزفيره، بوسائل أصبحت أكثر وفرة وحيوية تتمثل بالسيد الوحش المدعو «الشبكة العنكبوتية» فإن الوسائط أو الطرق متاحة بتنوعها، مما جعلنا نرى حوارات كثيرة في مواقع الإنترنت تستقطب كثيرًا من المواضيع الثقافية، وتضيف: قد يجد أصحابها أهمية لوضعها في كتاب لكن غالبا تفتر المناقشة ويأتي ما هو أكثر أهمية منها فلا تصل إلى أرشفتها، أقول ذلك الرأي دون أن يكون السبب الوحيد الظاهر، فهناك عدة أسباب منها أن جرأة النقد في خفوت، والحياة محقونة بكثير من المعارك اليومية فلا تخلو من بلدان تقتلع وحدود تنفجر وصراعات طائفية طاغية تجعلنا لا نحتاج للانقسام إلى فريق ضد فريق إزاء قضية ثقافية، لأننا أصلا متشظون، فالانقسامات أكثر بكثير من استغراقنا أو اصطفافنا وراء اسم ضد اسم في معركة ثقافية، وتستدرك إستبرق أحمد بقولها: لكن الظاهر أيضا هو تزايد المعارك بين تيار يتشبث بالتنوير وتيار آخر ظلامي يتنامى بلا انحسار، سواء في إطار التلفزة أو مواقع التواصل أو الانفجار بكتب وكتيبات مناوئة أغلبها يكتب على عجل، فالهدف منها تدبيج الرأي أكثر من تأمل الأفكار، وهكذا تأتي المشاحنات دون إنصات بل بتربص واضح فيسطحها وهو ما يجعلها معارك ليست بثراء المعارك الثقافية السابقة التي تقوم على «احترام» جهد وثقافة الطرف الآخر وإن اختلف تماما معه، علما بأننا لا ننفي وجود هذه المعارك لكننا ندعي كما ورد بالتحقيق الصحافي أنها تراجعت كثيرا نتيجة لتراجع الأدوات السابقة وطغيان متواصل للتشبث بفكرة «الحقيقة المطلقة».
.
الشاعر والمؤلف الكويتي سالم الرميضي له رأي قد يبدو غريبًا في خاتمته لكثير من المتابعين لهذه الإشكالية، فهو يرى أن هذه المساجلات انتقلت اليوم من ساحة الأدب الفصيح إلى ساحة الأدب الشعبي، ولكنه قبل ذلك يسترجع التاريخ أولاً فيقول: فعلاً كانت المساجلات والمطارحات الأدبية قديمة قدم التاريخ العربي وتنوعت عنواناتها ومواضيعها بداية من المفاخرة والمهاجاة في سوق عكاظ بالجاهلية ثم بالمدح والذم بين شعراء المسلمين والمشركين في صدر الإسلام وبعد ذلك النقائض بين جرير والفرزدق في عصر بني أمية، وهكذا حتى تاريخنا الحديث وكما ورد بالسؤال حتى الأدباء من غير الشعراء كانت بينهم رسائل ومحاججات ومطارحات من مثل كتاب العقاد «على السفود» وردود الشيخ محمود شاكر وحرب المقالات بين رواد الأدب الكلاسيكي والحديث في النصف من القرن المنصرم.
ويضيف الشاعر سالم الرميضي: أما الآن فأظن أن المساجلات والمطارحات موجودة فعلاً ولكن المتلقي فقد الاهتمام بالأدب بعد أن تم اختطافه وتشويهه بشكل متعمد عن المتلقي العام الذي كان يتلقى تلك المساجلات في السابق بالاهتمام والنشر والحديث حولها، فالأدب اليوم شأن خاص لكل من يرتدي معطفًا رماديا بالشتاء ويشرب نصف كوب من القهوة ويتصفح جريدة قبل أسبوع! ولكن هذه المساجلات - حسب اعتقاد الرميضي - ما تزال ماثلة بقوة في الساحة الشعبية عند شعراء (القلطة) أو ما يعرف بالمحاورة القائمة على الارتجال وكذلك ما يسمى بالرديات وهي تماما كالنقائض الفصيحة؛ إذ يرسل الشاعر قصيدة ويرد عليه الشاعر الآخر بنفس الوزن والقافية ويجيب تساؤلاته أو يقلب معناه أو يجاريه.
.
أما الأكاديمية السورية الدكتورة بتول دراو، المتخصصة في مبادئ النقد ونظرية الأدب، فتقول: حين نفهم الوسط الذي احتضن صراعات العقاد وطه حسين نستطيع أن نفهم سبب تراجع مثل تلك السجالات في الوسط اليوم، ففي تلك المرحلة وبسبب طبيعة الوسط آنذاك الذي كان متسمًا بالانفتاح على الثقافات الواسعة؛ ظهرت تلك الصراعات التي كانت صادمة نظرًا لجدتها وعمق الموضوعات التي تحدثت عنها؛ فضلاً عن حساسيتها، وجرأتها الكبيرة في بسط آرائها والدفاع عنها.
أما اليوم -تضيف الدكتورة بتول دراو- فلعلنا أصبحنا أمام ما يمكن أن نسميه بالحرب الباردة، فالسجالات ما تزال مستمرة ولكنها فقدت مصداقيتها؛ أو لعل الأصح القول فيها إنها كانت حوارًا ثقافيًا حول رسالة الغفران على سبيل المثال عند العقاد وحسين، وتحولت لاحقًا إلى صراعات متأثرة بهيمنة نمط فكري ما عائد إلى تأثره بفكر آيديولوجي معين، ونحن لا ننفي عن السجالات الأولى تأثرها بما هو فكري؛ ولكن الفكري فيها يتراجع على حساب ما هو ثقافي بخلاف ما قد نجده اليوم، حيث إن الفكري يغدو مقدمًا على ما هو ثقافي، كأن يتم ترشيح عمل أدبي ما إلى جائزة ما نظرًا لأن صاحبه ينتمي إلى هذا البلد أو ذاك، أو لأن صاحبه يمتلك منظومة فكرية أو غير ذلك مما يدور في الفلك نفسه مما يناسب القائمين على الترشيح للأعمال الإبداعية، وهنا نجد أنفسنا أمام وسط يؤثر سلبًا في الإبداع بخلاف ما كان عليه سابقًا، حيث لم نكن نجد هذا الاهتمام الواسع بتقويم الإبداع من خلال المسابقات أو الجوائز، وهذا ما يجعلنا نرى أن السجال الثقافي تحول إلى صراع آيديولوجي مما أوهمنا بغيابه، وهو في الواقع لم يغب؛ وإنما تحول عن الحقل الثقافي الذي وُجد فيه.
وتفسر الدكتورة بتول دراو ذلك بقولها: أي أن ما نريد قوله إن سجالات الأوائل اتسمت بالصدق أكثر من صراعات اللاحقين، وإن الصدام الذي أثارته السجالات الأولى فقدناه اليوم، وجُلّ ما نجده الآن هو صدى لآراء تلك السجالات؛ أما أن يتم اقتحام حقول أخرى غير ما خاضها الأوائل فهو أمر لا نجده مطروحًا في سجالات اللاحقين، بل إن كثيرا من السجالات لم تعد تتسم بالجرأة والإفصاح أو النقد الجاد.
ولكنها تختتم رأيها بأنه: «مع ذلك ما تزال مدارس العقاد وحسين أو طرابيشي والجابري مستمرة بصراعاتها إلى اليوم، وبالشكل الذي وجدت فيه أساسا».
.
* نشر الموضوع في صحيفة الشرق الأوسط، رقم العدد [13726]
الاثنين 27 حزيران/يونيو 2016 م.
رابط مباشر للموضوع:
m.aawsat.com/home/article/675416/%D8%...
"السجالات الفكرية والأدبية.. لماذا انحسرت في ثقافتنا المعاصرة؟"
.
حروب الكلمات العظيمة.. مجرد ذكريات
.
الكويت: عدنان فرزات ـ صحيفة الشرق الأوسط
.
في الأربعينات والخمسينات والستينات، اشتعلت المزيد من المساجلات الأدبية التي كانت تنشب بسبب اختلاف الآراء، وعرفت ساحات الأدب فرسانًا لهذه المساجلات مثل سجالات عباس العقاد مع طه حسين، والرافعي وأحمد شوقي، وجميل صدقي الزهاوي، وسجالات محمد عابد الجابري وجورج طرابيشي، وغير ذلك من معارك أثرت الفكر العربي الأدبي والنقدي، والتي كان من أواخرها السجالات الطاحنة بين أنصار المتحيزين لشعر العمودي والتفعيلة، وبين الذين أصروا على إطلاق عبارة «قصيدة» على النثر.
لماذا انحسرت مثل هذه السجالات في حياتنا الثقافية المعاصرة؟ هنا مداخلات حول هذا الموضوع من كتاب وباحثين ومثقفين من مختلف البلدان العربية:
حين كانت الحروب بأسلحة من كلمات، كانت الفائدة عظيمة على العقل العربي. لكن الإنسان العربي استبدل اليوم هذه الكلمات بشتى أنواع الفتك. قد يكون المدخل إلى موضوع أدبي مؤلمًا بهذه الطريقة، ولكن نريد القول: ليتنا بقينا على المعارك الأدبية كتلك التي كانت تشتعل بين الأدباء والنقاد والمفكرين ويسيل لأجلها الحبر حتى يغوص به القراء للركب.
في الأربعينيات والخمسينيات والستينيات، اشتعلت المزيد من المساجلات الأدبية التي كانت تنشب بسبب اختلاف الآراء، وعرفت ساحات الأدب فرسانًا لهذه المساجلات مثل سجالات عباس العقاد مع طه حسين والرافعي وأحمد شوقي وجميل صدقي الزهاوي، وسجالات محمد عابد الجابري وجورج طرابيشي، وغير ذلك من معارك أثرت الفكر العربي الأدبي والنقدي والتي كان من أواخرها السجالات الطاحنة بين أنصار المتحيزين للشعر العمودي والتفعيلة، وبين الذين أصروا على إطلاق عبارة «قصيدة» على النثر.
لكن الذي حصل اليوم، أن هذه السجالات بمفهومها «الثوري» انحسرت إلى حد كبير، بحيث لم تعد تشكل مادة تصلح لأن تظهر في كتب كتلك الكتب التي ظهرت مفعمة بالزخم عن المعارك الأدبية السابقة، أي تكاد تكون المساجلات اليوم محصورة في ساحة مواقع التواصل الاجتماعي بالتغريدات والبوستات والتعليقات على أبعد تقدير.
الإجابة على الأسباب التي أدت إلى هذا الانحسار، لا يمكن أن تكون إجابة فردية، لذلك كان لا بد من سبر غور آراء كثير من الأكاديميين في مجال الأدب والأدباء ليدلوا بدلوهم في هذه المسألة الحيوية.
.
السرقات الأدبية.. فحسب :
الأكاديمية السورية الدكتورة علياء الداية، بقسم اللغة العربية جامعة حلب، ترى أن السجالات والحوارات الثقافية تحتاج إلى أرضية من الاستقرار، وتقول: لعلّ هذا ما تفتقده أيامنا المعاصرة إلى حد كبير، وعلى صعد متعددة. وتضيف: كما يؤدي العامل الاجتماعي دورًا مهمًا، فمن الملحوظ حاليًا ارتفاع نسبة الشباب في البلاد العربية، وهذا ما يجعل اتجاهاتهم الثقافية وتفضيلاتهم المعيشية تلقي بظلالها على المشهد الفكري العام. كان الغالب في سجالات العقود السابقة هو الرغبة في تجاوز المنتج الثقافي، من خلال نقده أو الرغبة في تطويره أو تحسينه، أو إيجاد بدائل فكرية للنظريات المطروحة. أما الآن فيقتصر الأمر على الرغبة في العرض والمناقشة، وفي بعض الأحيان إثارة موضوع السرقات الأدبية. وتفسر الدكتورة علياء الداية ذلك بقولها: يتميز عصرنا بتعدد الوسائل الإعلامية، مما يجعلها تتداخل كثيرًا مع الوسائل المعرفية وتتماهى معها، ومن ذلك ما يدفع أعدادًا متنامية من القراء باتجاه كتب رائجة، لاقتنائها إلكترونيًا أو ورقيًا وتبادل النقاشات حولها وتداول الاقتباسات والعناوين، من دون أن يعني ذلك حراكًا فكريًا عميقًا بالضرورة. وفي مثال آني للدور الإعلامي المعرفي الثقافي - تقول الدكتورة علياء الداية - نجد المسلسلات المأخوذة عن روايات عربية والتي حافظت على عنوان الرواية نفسه، مثل «ساق البامبو»، و«سمرقند»، و«أفراح القبّة»، وما تحظى به من متابعة واسعة، ونقاشات بين مشاهديها، ومقارنتهم بينها من حيث الجودة، وبين المسلسل المنتج والرواية المأخوذ عنها، الكثير يتجهون إلى قراءة الرواية أو إعادة قراءتها من جديد ليكونوا على أهبة المشاركة فيما يستجد من حلقات على الشاشة، ومن حوارات مع المجال الاجتماعي من حولهم ووسائل التواصل.
ولا تتجاهل الدكتورة الداية في هذا الموضوع حقيقة أن «الثقافة العربية المعاصرة تكتسب سمة العابرة للأماكن، بفعل مكوناتها من نصوص ومبدعين ومتلقين ما زالوا متواصلين وملتصقين بثقافاتهم الأصلية، ولكن الهجرة طافت بهم عبر العالم، وقد تثير الأماكن الجديدة أو الطارئة حوارات فكرية أو ثقافية ما تزال قيد التشكل لعقود قادمة».
.
الكاتبة الكويتية إستبرق أحمد تعتقد أن العالم يخضع لتغييرات متسارعة: «بحيث حتى بعض المواضيع التي تسترعي الانتباه تخفت وقد تختفي، كل خبر يدفع خبرا آخر للظل، كل اختراع يلغي أو يقلل من أهمية اختراع آخر»، لذا - حسبما تقول إستبرق أحمد - كانت السجالات والمناقشات غالبا تحتاج لصحيفة، أو إصدار كتاب للحفاظ على الحدث، أما الآن فالزمن في لهاث نكاد نسمع شهيقه وزفيره، بوسائل أصبحت أكثر وفرة وحيوية تتمثل بالسيد الوحش المدعو «الشبكة العنكبوتية» فإن الوسائط أو الطرق متاحة بتنوعها، مما جعلنا نرى حوارات كثيرة في مواقع الإنترنت تستقطب كثيرًا من المواضيع الثقافية، وتضيف: قد يجد أصحابها أهمية لوضعها في كتاب لكن غالبا تفتر المناقشة ويأتي ما هو أكثر أهمية منها فلا تصل إلى أرشفتها، أقول ذلك الرأي دون أن يكون السبب الوحيد الظاهر، فهناك عدة أسباب منها أن جرأة النقد في خفوت، والحياة محقونة بكثير من المعارك اليومية فلا تخلو من بلدان تقتلع وحدود تنفجر وصراعات طائفية طاغية تجعلنا لا نحتاج للانقسام إلى فريق ضد فريق إزاء قضية ثقافية، لأننا أصلا متشظون، فالانقسامات أكثر بكثير من استغراقنا أو اصطفافنا وراء اسم ضد اسم في معركة ثقافية، وتستدرك إستبرق أحمد بقولها: لكن الظاهر أيضا هو تزايد المعارك بين تيار يتشبث بالتنوير وتيار آخر ظلامي يتنامى بلا انحسار، سواء في إطار التلفزة أو مواقع التواصل أو الانفجار بكتب وكتيبات مناوئة أغلبها يكتب على عجل، فالهدف منها تدبيج الرأي أكثر من تأمل الأفكار، وهكذا تأتي المشاحنات دون إنصات بل بتربص واضح فيسطحها وهو ما يجعلها معارك ليست بثراء المعارك الثقافية السابقة التي تقوم على «احترام» جهد وثقافة الطرف الآخر وإن اختلف تماما معه، علما بأننا لا ننفي وجود هذه المعارك لكننا ندعي كما ورد بالتحقيق الصحافي أنها تراجعت كثيرا نتيجة لتراجع الأدوات السابقة وطغيان متواصل للتشبث بفكرة «الحقيقة المطلقة».
.
الشاعر والمؤلف الكويتي سالم الرميضي له رأي قد يبدو غريبًا في خاتمته لكثير من المتابعين لهذه الإشكالية، فهو يرى أن هذه المساجلات انتقلت اليوم من ساحة الأدب الفصيح إلى ساحة الأدب الشعبي، ولكنه قبل ذلك يسترجع التاريخ أولاً فيقول: فعلاً كانت المساجلات والمطارحات الأدبية قديمة قدم التاريخ العربي وتنوعت عنواناتها ومواضيعها بداية من المفاخرة والمهاجاة في سوق عكاظ بالجاهلية ثم بالمدح والذم بين شعراء المسلمين والمشركين في صدر الإسلام وبعد ذلك النقائض بين جرير والفرزدق في عصر بني أمية، وهكذا حتى تاريخنا الحديث وكما ورد بالسؤال حتى الأدباء من غير الشعراء كانت بينهم رسائل ومحاججات ومطارحات من مثل كتاب العقاد «على السفود» وردود الشيخ محمود شاكر وحرب المقالات بين رواد الأدب الكلاسيكي والحديث في النصف من القرن المنصرم.
ويضيف الشاعر سالم الرميضي: أما الآن فأظن أن المساجلات والمطارحات موجودة فعلاً ولكن المتلقي فقد الاهتمام بالأدب بعد أن تم اختطافه وتشويهه بشكل متعمد عن المتلقي العام الذي كان يتلقى تلك المساجلات في السابق بالاهتمام والنشر والحديث حولها، فالأدب اليوم شأن خاص لكل من يرتدي معطفًا رماديا بالشتاء ويشرب نصف كوب من القهوة ويتصفح جريدة قبل أسبوع! ولكن هذه المساجلات - حسب اعتقاد الرميضي - ما تزال ماثلة بقوة في الساحة الشعبية عند شعراء (القلطة) أو ما يعرف بالمحاورة القائمة على الارتجال وكذلك ما يسمى بالرديات وهي تماما كالنقائض الفصيحة؛ إذ يرسل الشاعر قصيدة ويرد عليه الشاعر الآخر بنفس الوزن والقافية ويجيب تساؤلاته أو يقلب معناه أو يجاريه.
.
أما الأكاديمية السورية الدكتورة بتول دراو، المتخصصة في مبادئ النقد ونظرية الأدب، فتقول: حين نفهم الوسط الذي احتضن صراعات العقاد وطه حسين نستطيع أن نفهم سبب تراجع مثل تلك السجالات في الوسط اليوم، ففي تلك المرحلة وبسبب طبيعة الوسط آنذاك الذي كان متسمًا بالانفتاح على الثقافات الواسعة؛ ظهرت تلك الصراعات التي كانت صادمة نظرًا لجدتها وعمق الموضوعات التي تحدثت عنها؛ فضلاً عن حساسيتها، وجرأتها الكبيرة في بسط آرائها والدفاع عنها.
أما اليوم -تضيف الدكتورة بتول دراو- فلعلنا أصبحنا أمام ما يمكن أن نسميه بالحرب الباردة، فالسجالات ما تزال مستمرة ولكنها فقدت مصداقيتها؛ أو لعل الأصح القول فيها إنها كانت حوارًا ثقافيًا حول رسالة الغفران على سبيل المثال عند العقاد وحسين، وتحولت لاحقًا إلى صراعات متأثرة بهيمنة نمط فكري ما عائد إلى تأثره بفكر آيديولوجي معين، ونحن لا ننفي عن السجالات الأولى تأثرها بما هو فكري؛ ولكن الفكري فيها يتراجع على حساب ما هو ثقافي بخلاف ما قد نجده اليوم، حيث إن الفكري يغدو مقدمًا على ما هو ثقافي، كأن يتم ترشيح عمل أدبي ما إلى جائزة ما نظرًا لأن صاحبه ينتمي إلى هذا البلد أو ذاك، أو لأن صاحبه يمتلك منظومة فكرية أو غير ذلك مما يدور في الفلك نفسه مما يناسب القائمين على الترشيح للأعمال الإبداعية، وهنا نجد أنفسنا أمام وسط يؤثر سلبًا في الإبداع بخلاف ما كان عليه سابقًا، حيث لم نكن نجد هذا الاهتمام الواسع بتقويم الإبداع من خلال المسابقات أو الجوائز، وهذا ما يجعلنا نرى أن السجال الثقافي تحول إلى صراع آيديولوجي مما أوهمنا بغيابه، وهو في الواقع لم يغب؛ وإنما تحول عن الحقل الثقافي الذي وُجد فيه.
وتفسر الدكتورة بتول دراو ذلك بقولها: أي أن ما نريد قوله إن سجالات الأوائل اتسمت بالصدق أكثر من صراعات اللاحقين، وإن الصدام الذي أثارته السجالات الأولى فقدناه اليوم، وجُلّ ما نجده الآن هو صدى لآراء تلك السجالات؛ أما أن يتم اقتحام حقول أخرى غير ما خاضها الأوائل فهو أمر لا نجده مطروحًا في سجالات اللاحقين، بل إن كثيرا من السجالات لم تعد تتسم بالجرأة والإفصاح أو النقد الجاد.
ولكنها تختتم رأيها بأنه: «مع ذلك ما تزال مدارس العقاد وحسين أو طرابيشي والجابري مستمرة بصراعاتها إلى اليوم، وبالشكل الذي وجدت فيه أساسا».
.
* نشر الموضوع في صحيفة الشرق الأوسط، رقم العدد [13726]
الاثنين 27 حزيران/يونيو 2016 م.
رابط مباشر للموضوع:
m.aawsat.com/home/article/675416/%D8%...
Published on September 18, 2016 07:14
May 27, 2016
الطريق إلى كوكب كبلر
الطريق إلى كوكب كبلر
قصة : علياء الداية
نظرت العرافة في فنجاني وقالت: "أمامك بحر كبير، لن تضيع فيه ولكن احذر من الطريق". كان هذا قبل زمن طويل، حين كان مشروع "المريخ واحد" (مارس ون) هو المشروع الفضائي الرائد لتوطين بعض البشر على كوكب المريخ. ولكنني وفريق العمل سبقنا ذلك المشروع.
كنا نتدرب في مؤسسة الفضاء على الرحيل إلى كوكب كبلر452 ، هذا الكوكب الذي تم الحديث عنه علنياً في نشرات الأخبار وإعلان اكتشافه عام 2015. عرف الناس بأنه شبيه بالأرض، وأن له صفات مختلفة من حيث الجاذبية والتعرض للشمس، ولكننا كنا نعرف ما لم يعلن للناس، وكنا نتهيأ للرحيل إليه نهائياً، فهو يحقق جزءاً من طموحات البشر.
لم أستطع التخلص من حلم مزعج كان يراودني من حين لآخر، في هذا الحلم كنت أرى طفلاً يشبهني، يركض وهو يحمل علماً غريباً بيد، وباليد الأخرى يمسك بصفارة من منتصفها، طرفها في فمه والآخر ينتهي بقطعة ورقية تتمدد وتنكمش مع الصفير الاحتفالي الاستفزازي المزعج. وفي الساحة نفسها التي يقف فيها الطفل، كان بضعة أشخاص يدفنون مكوكاً فضائياً جزء منه لامع، والآخر مكسّر محطّم، من الواضح أنه غير صالح للاستخدام من جديد. كنت أتساءل في كل مرة أشاهد فيها هذا الحلم: "لم لا يصلحونه؟" وأكاد أدخل إلى الحلم للحديث معهم، لكنني كنت معزولاً، وأشارف على الاستيقاظ.
خضعنا لفحوص طبية كثيرة، واختبارات للياقة البدنية في مؤسسة الفضاء، وفي كل اختبار للعيون كان التساؤل الطفولي نفسه يراودني: "لماذا صورة المنطاد على الطرف الآخر من جهاز الفحص؟ لماذا لا يكون مكوكاً فضائياً مثلاً؟ وأتذكر الحلم المزعج فأتكدّر وأشعر بالرضا لأنه منطاد."
في اليوم المقرر، كنا عشرين من الرجال والنساء، متطوعين ورواد فضاء. دخلنا إلى مركبة الفضاء، كنت حتى اللحظات الأخيرة قبل الدخول إليها أتمنى لو تكون منطاداً ملوناً. حملنا معنا كل ما يلزم: الحبوب المُطورة، التي أَطلقتُ عليها "الحبوب السحرية" هذه التسمية التي راجت بين أصدقائي، والأجهزة الإلكترونية، والملابس بحسب ما سيتلاءم مع حالة كل منا، والمسحوق الذي يجعلنا نختفي عن الأنظار.
الطريق إلى كوكب كبلر452 كان أطول مما توقعت، مع اللحظات الأولى لانطلاق الصاروخ، ثم مع انفصال مكوكنا عنه، كنت أغالب شعور الحنين إلى كوكب الأرض، الذي أعلم بأني لن أراه مجدداً. كان فريقنا يعرف بأن فرص الحياة صارت شحيحة على الأرض، ستستمر موجات غزونا لكوكب كبلر452، إلى أن نستقر فيه بشكل كامل، ويصبح نسخة مطورة أو متغيرة عن كوكب الأرض. الأرض مهددة بتغيرات مناخية ستعيد عصر الجليد، ومع الفناء التدريجي للبشر، ستقضي على ما تبقى منهم مجموعة من الديناصورات المخيفة المتطورة لتعيش في المناطق الجليدية. فبما يشبه المصادفة، سيمر نيزك بجانب الأرض بشكل يخيّل للناس أنه سيصطدم بها، ومع هذا القرب سيقوم بعض الغزاة الذين يتشبثون بالنيزك بإطلاق عدة مكوكات تحمل هذه الديناصورات وتنشرها في كوكب الأرض. سيعود النيزك بهؤﻻء الغزاة إلى كوكبهم، قبل أن تدمر الديناصوراتُ ما تبقّى من البشر ويخلو المكان تماماً.
البشر الآن يحلمون بنقل الحياة إلى كوكب كبلر452، ولكن المشكلة هي أن الحياة ستكون بشروط كوكب كبلر452 نفسه، ويحلمون أيضاً بأن يعيشوا بسلام، وهم يرون بأن صلاحية أهالي كوكب كبلر452 قد انتهت، وأن من حق أهالي كوكب الأرض أن يرِثوا كوكب كبلر452 منذ الأيام الأولى لهبوطهم على سطحه.
في المكوك، تجرعتُ ملعقة من شراب يقضي على دوار الفضاء، ولكني استمررت في الشعور بعدم الاستقرار، وبشيء من الشك. ماذا لو أخفقت الرحلة، وضِعنا في الكون الواسع، هل سنجد "كبلر" آخر؟ تغلبت حساباتنا المتطورة على مشكلة السنوات الضوئية الألف والأربعمئة التي تفصل بيننا وبين الكوكب، وبقيت نصف ساعة كي نصل بسلام.
كنت أشعر بتأنيب الضمير على ما ننوي فعله في كوكب كبلر452، ولكن زميلي "بسام" لم يكن كذلك، بل إنه توّاق لما وصفه بالاندماج في حياة أحد أهالي الكوكب.
كان الزملاء المسافرون ملوا من التوافد على نافذة المكوك الوحيدة، لذا فقد فرغ المجال لي وحدي، وللحظةٍ، رأيت الفضاء ـ بمعنى الكلمة ـ وكأنه بحر كبير ليست له نهاية... " أمامك بحر كبير، لن تضيع فيه ولكن احذر من الطريق"! هل هذا هو البحر المقصود؟ ولماذا أحذر من الطريق؟ كنت قادراً على رؤية هذا البحر من كوكب الأرض، كان أمامي، ولكني الآن أستخدمه بوصفه طريقاً إلى... كبلر452.
"انظروا، ها هي ذي الأرض تظهر من بعيد، ظننت أننا تخطيناها". اقترب مني بسّام، نظر من النافذة ثم قال: "أنا ﻻ أرى شيئاً، لعلك تتخيل يا صديقي، خذ ملعقة ثانية من الدواء".
هذا غريب، كانت الأرض تظهر ثم تختفي، هل يعقل أنني أراها وحدي؟ خطر في بالي أنني في الجزء المعطوب من المكوك، الذي سيتم ردمه مع الجزء اللامع كما رأيته في الحلم المزعج القديم. وعاد طفل الحلم إلى القفز في مخيلتي مع العلم الغريب وصفارته، كان هذه المرة يشبه مهرجاً سمجاً.
"أما زلت نائماً، استيقظ! ها قد وصلنا." أحدهم يوقظني وقد وصلنا بالفعل إلى كوكب كبلر452.
نزلنا من المكوك، في منطقة صحراوية، كانت الواحات تحيط بنا من كل الجوانب، "ليس علينا سوى الاختيار." هذا ما قلته فأجابني أحد رواد الفضاء: "ماذا ستختار؟ لقد حددنا لك الشخص الذي ستندمج فيه، لا يمكنك الاختيار أو التراجع". نظرت إليه بدهشة: "لم أقصد هذا الأمر، أنا ملتزم بما جئنا من أجله، أقصد اختيار إحدى هذه الواحات للاستراحة فيها قبل المهمة." همهم بعض الرواد وقال لي الرائد المشرف بنفسه: "ليست هناك سوى واحة واحدة. هل أنت مريض؟". اقترب زميلي بسّام بسرعة، وهو يربت على كتفي: "إنه كثير المزاح، كان يمزح معي في المكوك ويزعم أنه يرى كوكب الأرض... إنه محبّ للفكاهة فحسب، كأنكم لا تعرفونه!". أنقذني بسّام، تبادلنا النظرات المشجعة، وتوجهنا إلى الواحة.
تناولنا وجبة من الطعام، واسترحنا قليلاً، ثم رشّ كل منا على نفسه مسحوق الاختفاء، سيمكننا مفعوله من الاختفاء عن أنظار أهل الكوكب لمدة أقصاها أربع وعشرون ساعة، ولكننا سنبقى مرئيين لبعضنا بعضاً. يجب إتمام المهمة كاملة خلال هذه المدة. أما المهمة التي كنا نعرفها وجئنا من أجلها فهي الحلول في أجساد أهالي الكوكب. قام فريق العلماء بدراسة الكوكب وسكّانه، وحددوا لكلّ منا شخصاً سيقوم بالتماهي معه. أحدنا سيندمج في شخص رجل كهل، والآخر في شخص طفل، أو فتاة، أو شيخ هرم. المهم في الموضوع هو أن أهالي كوكب كبلر452 خالدون. أجل! والغريب هو أنهم يبقون كما هم، الرجل الكهل كهل، والطفل يبقى طفلاً، والفتاة فتاة، والشيخ الهرم شيخ هرم! تركيبتهم السكانية لا تتزايد، الأفراد أنفسهم يمارسون حياتهم نفسها على مرّ الزمان. لا نعرف كيف توصلوا إلى ذلك، ولكننا سنسلبهم شخوصهم، سنصبح نحن هم. والخطة هي أن يأتي المزيد والمزيد من سكان الأرض، إلى أن "نستهلك" آخر سكان كوكب كبلر452.
كان المقرر أن أحل في شخص طفل. أما "بسّام" فكان سيحل في شخص شاب جامعي. وكانا كلاهما يسكنان في بناء واحد. طريقنا مشترك، أنا وبسّام، لذا فقد سرنا معاً، وارتحنا جداً لأن أحداً من المارة لم يلحظ وجودنا.
ـ ماذا تفعل يا بسّام؟
ـ سأبتلع الحبّة السحرية، كما أسميتها، لقد حان الوقت.
ـ ليس بعد، ما تزال أمامنا ثلاث وعشرون ساعة، لنتسلّ قليلاً.
ـ بماذا نتسلى؟
ـ انظر، ها هو الطفل الذي سأكونه، كم يبدو وديعاً، يبدو أنه عاد من المدرسة لتوّه، حقيبته بجانب الباب.
كنا ننظر من نافذة الحديقة التي تكشف ما بداخل المنزل.
ـ هل تريدني أن أراقب الشاب الجامعي أيضاً؟ هيّا، لا تكن مماطلاً، تناول الحبة.
ـ حسناً يا بسام، ماذا تخسر لو أنك تبقى معي بضع ساعات إضافية، سيكون أمامك الخلود كله لاحقاً.
وقطع حديثنا مجيء والدة الطفل وبدا أنها تتحدث مع ابنها، ثم سارا في الممر واختفيا. عاد الطفل وحده، لكنه تزحلق أثناء مشيه وصرخ باكياً. جاءت الأم ومعها الأب هذه المرة، وانشغلا بتهدئة الطفل. بعد حوالي ساعة، خرج الطفل إلى الحديقة، اختبأنا وراء إحدى الأشجار ـ مع أننا نعلم بأنه لا يرانا ـ وما هي إلاّ دقائق حتى برز من وراء إحدى الشجيرات ثلاثة أطفال، انقضوا على الطفل بوحشية، وأخذوا يضربونه، وهو يصرخ ويبكي. سرعان ما جاء الأب راكضاً، فهرب الأولاد.
وألتفت إلى بسّام:
ـ حين أتحول إلى هذا الطفل، هل سأكون واعياً بشخصيتي التي تعرفها، أم سأكون شخصاً آخر؟
يشرد بسّام، ثم يقول لي:
ـ لا أدري. لم يخبرونا بذلك أثناء التدريب.
ـ هل هذه هي الحياة التي تنتظرني؟ هل سأكون محدوداً بقدرات طفل؟
ـ على الأرجح أنك لن تنمو أكثر من ذلك، جسدياً وذهنياً.
كان بسام يرغب في الضحك وأن يقول شيئاً عن الطفولة والمرح، ولكن شيئاً كان يجول في ذهنه.
قلت له:
ـ أنت على الأقل ستندمج في شخص شاب جامعي، سيكون الطموح أمامك والحياة الرحبة، ليست أمامك عوائق الأطفال، أو عجز الشيوخ، ما أجمل خلودك.
بسام: ـ هذا ما تتخيله يا صديقي، ولكن الطموح سيبقى أمامي، ولن أصل إليه، سأبقى طالباً إلى مدى غير معلوم... الخطان المتوازيان لا يلتقيان أليس كذلك!
ـ أظن أننا في ورطة.
بسام: ـ هذا كابوس حقيقي، ليتني لم آت إلى هنا.
ـ هل كنت ستنتظر الديناصورات وعصر الجليد؟
بسام: ـ لا أدري، هيّا بنا نحاول العودة إلى الأرض، لست مرتاحاً للبقاء هنا.
ـ يا ترى ماذا حلّ بالآخرين؟
بسام: ـ سيعودون إلى المكوك، هذا ما أظنه.
ـ ﻻ تنس، بقي لدينا وقت محدود قبل انتهاء مفعول مسحوق الاختفاء، قد يعثر علينا أهل الكوكب.
بسام: ـ هل سيضعوننا في حديقة حيوانات؟
ـ لا أدري...
كان المساء قد بدأ يخيم على المكان، حين همستُ في أذن بسّام:
ـ بسّام، انظر، أليست هذه هي الأرض، هناك في السماء.
بسام: ـ أين؟
ـ من جهة الشرق إلى الأعلى قليلاً...
بسام: ـ أجل، كأنني أراها... ولكن، المفترض الآن أن سنوات ضوئية هائلة قد مضت.
ـ هل يعني هذا أن الأرض قد...
بسام: ـ أجل، قد ماتت.
ـ ما نراه هو خيالها فقط!
بسام: ـ بالضبط... ظاهرة الهولندي الطائر.
ـ يا للهول، ولكنني رأيتها من نافذة المكوك في الطريق إلى هنا.
بسام: ـ يبدو أن ظاهرة الهولندي الطائر كانت فعـّالة منذ ذلك الحين، كنتَ الأشد حساسية لها.
تذكرت حينها العرّافة، وحديثها عن البحر... وحين وصلنا قريباً من الواحة، حيث تركنا المكوك، فوجئنا بأنه كان نصف محطّم، تماماً كما هي صورته في حلمي المتكرر، كان هذا تعريفاً لليأس، ولتحطمنا نحن.
بسام: ـ ليس هناك غيرنا في هذا المكان.
ـ يبدو أن الآخرين قد نفذوا الخطة.
بسام: ـ لن نعثر عليهم.
ـ لديّ فكرة يا بسّام، سنجلس هنا وننتظر هبوط المكوك القادم، سنحذرهم، أو لعلّ لديهم دراسات أكثر تقدماً توضح لنا جوهر الخطة وكيف ستكون شخصيتنا الحقيقية.
نظر بسّام إلى الأعلى، حيث الأرض ـ الهولندي الطائر فوقنا بعيداً:
ـ فرصنا ضئيلة، الأرض هناك، ليست سوى شبح، تذكّر كل تلك السنين الضوئية، لا بد أنها تحولت إلى ركام، ما نراه الآن هو مرآة صورتها القديمة التي تركناها. إنه مفعول الزمن. المركبات القادمة التي ستأتي، ستنفذ خطتها، ولن تستمع إليك، فكر ماذا قد يحدث بعد ساعات حين يفقد مسحوق الاختفاء تأثيره...
وانسحب بسّام عائداً، من حيث أتينا، قرر أن يبتلع الحبة، ويندمج في شخص الشاب الجامعي.
أما أنا، فبقيتُ بين الواحة والمكوك، بعد أن شطرتُ جزءاً من قميصي، وجعلتُه قماشاً عقدتُ طرفيه بعودٍ اقتطعته من إحدى الأشجار، صار في يدي علم غريب الشكل ألوّح به باتجاه السماء وأنا أحاول الصياح، لقد أصبحت بالفعل طفلاً في حلم قديم، ضاع منذ أن رأى شبح الأرض يسكن بحر الفضاء.
* نشرت القصة في مجلة "الخيال العلمي" ـ فصلية ثقافية تصدر عن وزارة الثقافة في دمشق، العدد 56، كانون الثاني 2016.
قصة : علياء الداية
نظرت العرافة في فنجاني وقالت: "أمامك بحر كبير، لن تضيع فيه ولكن احذر من الطريق". كان هذا قبل زمن طويل، حين كان مشروع "المريخ واحد" (مارس ون) هو المشروع الفضائي الرائد لتوطين بعض البشر على كوكب المريخ. ولكنني وفريق العمل سبقنا ذلك المشروع.
كنا نتدرب في مؤسسة الفضاء على الرحيل إلى كوكب كبلر452 ، هذا الكوكب الذي تم الحديث عنه علنياً في نشرات الأخبار وإعلان اكتشافه عام 2015. عرف الناس بأنه شبيه بالأرض، وأن له صفات مختلفة من حيث الجاذبية والتعرض للشمس، ولكننا كنا نعرف ما لم يعلن للناس، وكنا نتهيأ للرحيل إليه نهائياً، فهو يحقق جزءاً من طموحات البشر.
لم أستطع التخلص من حلم مزعج كان يراودني من حين لآخر، في هذا الحلم كنت أرى طفلاً يشبهني، يركض وهو يحمل علماً غريباً بيد، وباليد الأخرى يمسك بصفارة من منتصفها، طرفها في فمه والآخر ينتهي بقطعة ورقية تتمدد وتنكمش مع الصفير الاحتفالي الاستفزازي المزعج. وفي الساحة نفسها التي يقف فيها الطفل، كان بضعة أشخاص يدفنون مكوكاً فضائياً جزء منه لامع، والآخر مكسّر محطّم، من الواضح أنه غير صالح للاستخدام من جديد. كنت أتساءل في كل مرة أشاهد فيها هذا الحلم: "لم لا يصلحونه؟" وأكاد أدخل إلى الحلم للحديث معهم، لكنني كنت معزولاً، وأشارف على الاستيقاظ.
خضعنا لفحوص طبية كثيرة، واختبارات للياقة البدنية في مؤسسة الفضاء، وفي كل اختبار للعيون كان التساؤل الطفولي نفسه يراودني: "لماذا صورة المنطاد على الطرف الآخر من جهاز الفحص؟ لماذا لا يكون مكوكاً فضائياً مثلاً؟ وأتذكر الحلم المزعج فأتكدّر وأشعر بالرضا لأنه منطاد."
في اليوم المقرر، كنا عشرين من الرجال والنساء، متطوعين ورواد فضاء. دخلنا إلى مركبة الفضاء، كنت حتى اللحظات الأخيرة قبل الدخول إليها أتمنى لو تكون منطاداً ملوناً. حملنا معنا كل ما يلزم: الحبوب المُطورة، التي أَطلقتُ عليها "الحبوب السحرية" هذه التسمية التي راجت بين أصدقائي، والأجهزة الإلكترونية، والملابس بحسب ما سيتلاءم مع حالة كل منا، والمسحوق الذي يجعلنا نختفي عن الأنظار.
الطريق إلى كوكب كبلر452 كان أطول مما توقعت، مع اللحظات الأولى لانطلاق الصاروخ، ثم مع انفصال مكوكنا عنه، كنت أغالب شعور الحنين إلى كوكب الأرض، الذي أعلم بأني لن أراه مجدداً. كان فريقنا يعرف بأن فرص الحياة صارت شحيحة على الأرض، ستستمر موجات غزونا لكوكب كبلر452، إلى أن نستقر فيه بشكل كامل، ويصبح نسخة مطورة أو متغيرة عن كوكب الأرض. الأرض مهددة بتغيرات مناخية ستعيد عصر الجليد، ومع الفناء التدريجي للبشر، ستقضي على ما تبقى منهم مجموعة من الديناصورات المخيفة المتطورة لتعيش في المناطق الجليدية. فبما يشبه المصادفة، سيمر نيزك بجانب الأرض بشكل يخيّل للناس أنه سيصطدم بها، ومع هذا القرب سيقوم بعض الغزاة الذين يتشبثون بالنيزك بإطلاق عدة مكوكات تحمل هذه الديناصورات وتنشرها في كوكب الأرض. سيعود النيزك بهؤﻻء الغزاة إلى كوكبهم، قبل أن تدمر الديناصوراتُ ما تبقّى من البشر ويخلو المكان تماماً.
البشر الآن يحلمون بنقل الحياة إلى كوكب كبلر452، ولكن المشكلة هي أن الحياة ستكون بشروط كوكب كبلر452 نفسه، ويحلمون أيضاً بأن يعيشوا بسلام، وهم يرون بأن صلاحية أهالي كوكب كبلر452 قد انتهت، وأن من حق أهالي كوكب الأرض أن يرِثوا كوكب كبلر452 منذ الأيام الأولى لهبوطهم على سطحه.
في المكوك، تجرعتُ ملعقة من شراب يقضي على دوار الفضاء، ولكني استمررت في الشعور بعدم الاستقرار، وبشيء من الشك. ماذا لو أخفقت الرحلة، وضِعنا في الكون الواسع، هل سنجد "كبلر" آخر؟ تغلبت حساباتنا المتطورة على مشكلة السنوات الضوئية الألف والأربعمئة التي تفصل بيننا وبين الكوكب، وبقيت نصف ساعة كي نصل بسلام.
كنت أشعر بتأنيب الضمير على ما ننوي فعله في كوكب كبلر452، ولكن زميلي "بسام" لم يكن كذلك، بل إنه توّاق لما وصفه بالاندماج في حياة أحد أهالي الكوكب.
كان الزملاء المسافرون ملوا من التوافد على نافذة المكوك الوحيدة، لذا فقد فرغ المجال لي وحدي، وللحظةٍ، رأيت الفضاء ـ بمعنى الكلمة ـ وكأنه بحر كبير ليست له نهاية... " أمامك بحر كبير، لن تضيع فيه ولكن احذر من الطريق"! هل هذا هو البحر المقصود؟ ولماذا أحذر من الطريق؟ كنت قادراً على رؤية هذا البحر من كوكب الأرض، كان أمامي، ولكني الآن أستخدمه بوصفه طريقاً إلى... كبلر452.
"انظروا، ها هي ذي الأرض تظهر من بعيد، ظننت أننا تخطيناها". اقترب مني بسّام، نظر من النافذة ثم قال: "أنا ﻻ أرى شيئاً، لعلك تتخيل يا صديقي، خذ ملعقة ثانية من الدواء".
هذا غريب، كانت الأرض تظهر ثم تختفي، هل يعقل أنني أراها وحدي؟ خطر في بالي أنني في الجزء المعطوب من المكوك، الذي سيتم ردمه مع الجزء اللامع كما رأيته في الحلم المزعج القديم. وعاد طفل الحلم إلى القفز في مخيلتي مع العلم الغريب وصفارته، كان هذه المرة يشبه مهرجاً سمجاً.
"أما زلت نائماً، استيقظ! ها قد وصلنا." أحدهم يوقظني وقد وصلنا بالفعل إلى كوكب كبلر452.
نزلنا من المكوك، في منطقة صحراوية، كانت الواحات تحيط بنا من كل الجوانب، "ليس علينا سوى الاختيار." هذا ما قلته فأجابني أحد رواد الفضاء: "ماذا ستختار؟ لقد حددنا لك الشخص الذي ستندمج فيه، لا يمكنك الاختيار أو التراجع". نظرت إليه بدهشة: "لم أقصد هذا الأمر، أنا ملتزم بما جئنا من أجله، أقصد اختيار إحدى هذه الواحات للاستراحة فيها قبل المهمة." همهم بعض الرواد وقال لي الرائد المشرف بنفسه: "ليست هناك سوى واحة واحدة. هل أنت مريض؟". اقترب زميلي بسّام بسرعة، وهو يربت على كتفي: "إنه كثير المزاح، كان يمزح معي في المكوك ويزعم أنه يرى كوكب الأرض... إنه محبّ للفكاهة فحسب، كأنكم لا تعرفونه!". أنقذني بسّام، تبادلنا النظرات المشجعة، وتوجهنا إلى الواحة.
تناولنا وجبة من الطعام، واسترحنا قليلاً، ثم رشّ كل منا على نفسه مسحوق الاختفاء، سيمكننا مفعوله من الاختفاء عن أنظار أهل الكوكب لمدة أقصاها أربع وعشرون ساعة، ولكننا سنبقى مرئيين لبعضنا بعضاً. يجب إتمام المهمة كاملة خلال هذه المدة. أما المهمة التي كنا نعرفها وجئنا من أجلها فهي الحلول في أجساد أهالي الكوكب. قام فريق العلماء بدراسة الكوكب وسكّانه، وحددوا لكلّ منا شخصاً سيقوم بالتماهي معه. أحدنا سيندمج في شخص رجل كهل، والآخر في شخص طفل، أو فتاة، أو شيخ هرم. المهم في الموضوع هو أن أهالي كوكب كبلر452 خالدون. أجل! والغريب هو أنهم يبقون كما هم، الرجل الكهل كهل، والطفل يبقى طفلاً، والفتاة فتاة، والشيخ الهرم شيخ هرم! تركيبتهم السكانية لا تتزايد، الأفراد أنفسهم يمارسون حياتهم نفسها على مرّ الزمان. لا نعرف كيف توصلوا إلى ذلك، ولكننا سنسلبهم شخوصهم، سنصبح نحن هم. والخطة هي أن يأتي المزيد والمزيد من سكان الأرض، إلى أن "نستهلك" آخر سكان كوكب كبلر452.
كان المقرر أن أحل في شخص طفل. أما "بسّام" فكان سيحل في شخص شاب جامعي. وكانا كلاهما يسكنان في بناء واحد. طريقنا مشترك، أنا وبسّام، لذا فقد سرنا معاً، وارتحنا جداً لأن أحداً من المارة لم يلحظ وجودنا.
ـ ماذا تفعل يا بسّام؟
ـ سأبتلع الحبّة السحرية، كما أسميتها، لقد حان الوقت.
ـ ليس بعد، ما تزال أمامنا ثلاث وعشرون ساعة، لنتسلّ قليلاً.
ـ بماذا نتسلى؟
ـ انظر، ها هو الطفل الذي سأكونه، كم يبدو وديعاً، يبدو أنه عاد من المدرسة لتوّه، حقيبته بجانب الباب.
كنا ننظر من نافذة الحديقة التي تكشف ما بداخل المنزل.
ـ هل تريدني أن أراقب الشاب الجامعي أيضاً؟ هيّا، لا تكن مماطلاً، تناول الحبة.
ـ حسناً يا بسام، ماذا تخسر لو أنك تبقى معي بضع ساعات إضافية، سيكون أمامك الخلود كله لاحقاً.
وقطع حديثنا مجيء والدة الطفل وبدا أنها تتحدث مع ابنها، ثم سارا في الممر واختفيا. عاد الطفل وحده، لكنه تزحلق أثناء مشيه وصرخ باكياً. جاءت الأم ومعها الأب هذه المرة، وانشغلا بتهدئة الطفل. بعد حوالي ساعة، خرج الطفل إلى الحديقة، اختبأنا وراء إحدى الأشجار ـ مع أننا نعلم بأنه لا يرانا ـ وما هي إلاّ دقائق حتى برز من وراء إحدى الشجيرات ثلاثة أطفال، انقضوا على الطفل بوحشية، وأخذوا يضربونه، وهو يصرخ ويبكي. سرعان ما جاء الأب راكضاً، فهرب الأولاد.
وألتفت إلى بسّام:
ـ حين أتحول إلى هذا الطفل، هل سأكون واعياً بشخصيتي التي تعرفها، أم سأكون شخصاً آخر؟
يشرد بسّام، ثم يقول لي:
ـ لا أدري. لم يخبرونا بذلك أثناء التدريب.
ـ هل هذه هي الحياة التي تنتظرني؟ هل سأكون محدوداً بقدرات طفل؟
ـ على الأرجح أنك لن تنمو أكثر من ذلك، جسدياً وذهنياً.
كان بسام يرغب في الضحك وأن يقول شيئاً عن الطفولة والمرح، ولكن شيئاً كان يجول في ذهنه.
قلت له:
ـ أنت على الأقل ستندمج في شخص شاب جامعي، سيكون الطموح أمامك والحياة الرحبة، ليست أمامك عوائق الأطفال، أو عجز الشيوخ، ما أجمل خلودك.
بسام: ـ هذا ما تتخيله يا صديقي، ولكن الطموح سيبقى أمامي، ولن أصل إليه، سأبقى طالباً إلى مدى غير معلوم... الخطان المتوازيان لا يلتقيان أليس كذلك!
ـ أظن أننا في ورطة.
بسام: ـ هذا كابوس حقيقي، ليتني لم آت إلى هنا.
ـ هل كنت ستنتظر الديناصورات وعصر الجليد؟
بسام: ـ لا أدري، هيّا بنا نحاول العودة إلى الأرض، لست مرتاحاً للبقاء هنا.
ـ يا ترى ماذا حلّ بالآخرين؟
بسام: ـ سيعودون إلى المكوك، هذا ما أظنه.
ـ ﻻ تنس، بقي لدينا وقت محدود قبل انتهاء مفعول مسحوق الاختفاء، قد يعثر علينا أهل الكوكب.
بسام: ـ هل سيضعوننا في حديقة حيوانات؟
ـ لا أدري...
كان المساء قد بدأ يخيم على المكان، حين همستُ في أذن بسّام:
ـ بسّام، انظر، أليست هذه هي الأرض، هناك في السماء.
بسام: ـ أين؟
ـ من جهة الشرق إلى الأعلى قليلاً...
بسام: ـ أجل، كأنني أراها... ولكن، المفترض الآن أن سنوات ضوئية هائلة قد مضت.
ـ هل يعني هذا أن الأرض قد...
بسام: ـ أجل، قد ماتت.
ـ ما نراه هو خيالها فقط!
بسام: ـ بالضبط... ظاهرة الهولندي الطائر.
ـ يا للهول، ولكنني رأيتها من نافذة المكوك في الطريق إلى هنا.
بسام: ـ يبدو أن ظاهرة الهولندي الطائر كانت فعـّالة منذ ذلك الحين، كنتَ الأشد حساسية لها.
تذكرت حينها العرّافة، وحديثها عن البحر... وحين وصلنا قريباً من الواحة، حيث تركنا المكوك، فوجئنا بأنه كان نصف محطّم، تماماً كما هي صورته في حلمي المتكرر، كان هذا تعريفاً لليأس، ولتحطمنا نحن.
بسام: ـ ليس هناك غيرنا في هذا المكان.
ـ يبدو أن الآخرين قد نفذوا الخطة.
بسام: ـ لن نعثر عليهم.
ـ لديّ فكرة يا بسّام، سنجلس هنا وننتظر هبوط المكوك القادم، سنحذرهم، أو لعلّ لديهم دراسات أكثر تقدماً توضح لنا جوهر الخطة وكيف ستكون شخصيتنا الحقيقية.
نظر بسّام إلى الأعلى، حيث الأرض ـ الهولندي الطائر فوقنا بعيداً:
ـ فرصنا ضئيلة، الأرض هناك، ليست سوى شبح، تذكّر كل تلك السنين الضوئية، لا بد أنها تحولت إلى ركام، ما نراه الآن هو مرآة صورتها القديمة التي تركناها. إنه مفعول الزمن. المركبات القادمة التي ستأتي، ستنفذ خطتها، ولن تستمع إليك، فكر ماذا قد يحدث بعد ساعات حين يفقد مسحوق الاختفاء تأثيره...
وانسحب بسّام عائداً، من حيث أتينا، قرر أن يبتلع الحبة، ويندمج في شخص الشاب الجامعي.
أما أنا، فبقيتُ بين الواحة والمكوك، بعد أن شطرتُ جزءاً من قميصي، وجعلتُه قماشاً عقدتُ طرفيه بعودٍ اقتطعته من إحدى الأشجار، صار في يدي علم غريب الشكل ألوّح به باتجاه السماء وأنا أحاول الصياح، لقد أصبحت بالفعل طفلاً في حلم قديم، ضاع منذ أن رأى شبح الأرض يسكن بحر الفضاء.
* نشرت القصة في مجلة "الخيال العلمي" ـ فصلية ثقافية تصدر عن وزارة الثقافة في دمشق، العدد 56، كانون الثاني 2016.
Published on May 27, 2016 11:35
May 5, 2016
لماذا غابت كتب الشعر لمصلحة الروايات العالمية؟ مشاركة: د.علياء الداية
"الشعر يتطلّب من القارئ نوعاً من اليقظة للدخول في عالم حلم الشاعر"... من مشاركتي في موضوع:
لماذا غابت كتب الشعر لمصلحة الروايات العالمية؟.. أزمة في الشعر أم في القراءة... وندرة المتابعين؟
إعداد: زيد قطريب
صحيفة تشرين
المشوار يبدأ من تحت جسر فيكتوريا حيث تتربع بسطة كتب شهيرة تعرض أحدث الروايات العالمية التي تمت ترجمتها إلى العربية.
كتب أنيقة مغلفة بالنايلون تحمل أغلفتها أسماء لها سمعتها في المشهد العالمي بدءاً من باولو كويلهو وإيزابيل الليندي، وصولاً إلى كازانتزاكي وهمنغواي وغابرييل غارسيا ماركيز.. وانطلاقاً من هذا المكان باتجاه الحلبوني أو البرامكة تحت الجسر، فإن المشهد يكادُ لا يختلف تقريباً، إنها الروايات العالمية المترجمة التي تستولي على الواجهة على حساب كتب الشعر التي تغيب أو تكون نادرة في أقل توصيف، إلى درجة أن العابر يتمنى أن يعثر على كتاب للماغوط أو درويش أو فايز خضور أو أدونيس أو سعدي يوسف..
إنه الشعر أو «ديوان العرب» وسجل مآثرهم وتاريخهم، يترجل عن رفوف المكتبات ويغيب عن البسطات لمصلحة فنون أخرى معظمها تمت ترجمته من ثقافات أخرى!. هل المسألة مرتبطة بمآزق الشعر التي ما فتىء يشير إليها النقد؟، أم إن مزاج القراء قد تغير؟، هل بات الشعر متشابهاً جداً إلى درجة تصح فيه مقولة «كثر الشعر وقلّ الشعراء» لذلك هجره الناس على عكس ما كانوا يفعلون في السابق عندما كانوا يتابعونه في كل شطر وبيت؟. في المقابل، فإن المهتم سينتبه إلى حضور بعض الكتب المرتبطة بجذب أهواء المراهقين العاشقين، مثل أشعار الحب عند نزار قباني بدافع الحصول على مبيعات عالية وربح وليس بعامل الاهتمام بالشعر سواء من قبل البائع أو الشاري أو القارئ إن صح التعبير!.
لا يختلف أحد أن تقنيات «الريزو» قد سهلت موضوع السطو على الكتب العالمية من أجل الحصول على «مرابح» بأقل تكلفة، لكن المشكلة هنا ليست في موضوع التكلفة المادية المتحكمة بذوق القارئ أولاً، لأن البائع يهرع لإرضاء طلب القراء بغض النظر عن العناوين، لكن النتيجة تقول إن إقبال المهتمين أكبر على الروايات العالمية تقابله ندرة في قراءة الشعر ومحاولة تتبع إصداراته، والدليل غياب معروضات الشعر عن واجهات مكتبات الأرصفة والمكتبات العامة الشهيرة بشكل كامل تقريباً.
في هذا الإطار، تقول الكاتبة القصصية الدكتورة علياء الداية إن سبب الإقبال على قراءة الرواية يعود إلى كونها عملاً أدبياً ينجح بسهولة في إقحام المتلقي في عالمه المتخيل، وشغله بفضول لمتابعة حيوات شخصياته ومصائرهم. وكثيراً ما يكون الأسلوب الشائق لبعض روايات «الأكثر مبيعاً» أو «الأكثر قراءة» فخاً يقع فيه القارئ الهاوي أو المتخصص، قبل أن يكتشف عيوب هذا العمل أو بساطته المفرطة أو اندراجه في خانة المكرر، سواء أكان العمل الروائي مترجماً أم عربياً.
من جانب آخر، يرى الشاعر زياد الجبيلي جانباً نقدياً في هذا الموضوع المتصل بغياب الشعر وهو يتصل بحال قصيدة النثر ومحاربتها خلال عقود طويلة، الأمر الذي غيب هذا الفن بشكل عام، يقول زياد: «عصرنا ليس عصر تراجع الشعر على حساب تقدم الرواية، إنه العصر الذي تلا عصر تهميش قصيدة النثر على حساب أرباب الحداثة الأولى في القرن العشرين، أعتقد أن هذا ما أسهم في تكريس مقولة (إنه عصر الرواية)، الرواية كانت تزحف ببطء مستغلة الانقسام الداخلي في البيت الشعري بين مجددٍ ومحافظ، هل للشعر بيت؟، مستحيل، إنه جبهةٌ مشتعلة دائماً، هذا تماماً ما حصل خلال أكثر من عشرين عاماً، هذه الحرب انعكست سلباً على القارئ العادي، القارئ المعني فقط بشعر الحماسة والقضايا الكبرى كشعر محمود درويش على سبيل المثال».
الشاعر مهتدي غالب رأى جانباً مختلفاً يتصل بطغيان الميديا وغياب الاهتمام بالشعر على صعيد الجوائز وأعمال الدعاية المختلفة حيث يغلب الاحتفاء بالرواية.. يقول مهتدي: «الأمر معقد ويرتبط بالميديا الإعلامية التي تسوق للرواية بشكل غريب، ونحن نعرف في هذه الظروف الاقتصادية بسعي القارئ للانتقائية في القراءة، فلا يغامر بقراءة شيء لم يسمع عنه.. إضافة إلى غياب الجوائز الكبرى للشعر كما الرواية فهناك البوكر العربي والعالمي.. ولا يوجد إلا مسابقات الشاشة للشعراء، فتبدو هذه البرامج الدعائية الاستهلاكية تعويضاً شعرياً للمتلقي».
المسألة تبدو متعددة الجوانب ومتشعبة الأسباب حيث ترى الدكتورة علياء الداية، وهي المدرِّسة في جامعة حلب، أن آلية تلقف الشعر وكتابته تختلف تماماً عن النص الروائي، فهو يتطلب قارئاً يعشقه قبل كل شيء إضافة إلى موضوع الاتصالات الحديثة وتأثير المسموع والمرئي على حساب المطبوع.. تقول علياء: «أما الشعر، فهو يحتاج بذل مجهود أكبر وقصديّة لقراءته، ويتطلّب من القارئ نوعاً من اليقظة للدخول في عالم حلم الشاعر! لا يخلو عصر من وجود الشعراء، ونحن نلمس حضور الشعر في حياة الناس، من خلال مظهر يومي مسموع هو الأغنية، فلا وجود لأغنية من دون كلمات، غير أن حضور الكلمة المطبوعة والمقروءة ليس بالانتشار المسموع ذاته.
ويمكن تقسيم الأسباب إلى ثلاثة، أحدها هو انشغال الناس بالتكنولوجيا ووسائل التواصل الاجتماعي، فمن خلالها يقعون في وهم التفاعل مع الشاشة وقضاء الوقت، من دون تحقيق تطوير حقيقي في الشخصية، بل مجرد تداول للمعلومات، وهذا يتم على حساب القراءة الجادة. والسبب الثاني هو تسرع بعض الشعراء في إصدار أعمالهم أو الدوران ضمن مجموعة محدودة من الكلمات والتعبيرات، ما يجعل الشاعر يكرر نفسه في عدة قصائد في الديوان الواحد، أو عبر أكثر من نتاج شعري له، أما السبب الثالث فهو التقصير الذي قد نجده لدى دور النشر والمكتبات ومؤسسات الجوائز، هناك الكثير من الأعمال الشعرية الجديرة بالاهتمام والقراءة، وبإمكان دور النشر أن تتحلى بالجرأة في تبني بعض هذه الأعمال ونشرها في معارض الكتب، وهذا ينطبق على المكتبات التي لها دور كبير في ترويج الشعر من خلال عرضه وتوافره أولاً فأولاً على رفوفها مهما طال به الزمن، فهو ليس سلعة تجارية لا بد من بيعها قبل وصول منافس جديد! أما مؤسسات الجوائز التي يفوز فيها سنوياً العديد من الشعراء المتميزين على اختلاف المراحل العمرية لهم، ففرصة قراءة هذه القصائد تضيع في كثير من الأحيان بسبب عدم طباعة الأعمال، أو اقتصار نشرها على نطاق ضيق، وعدم توافرها إلكترونياً عبر مواقع الجائزة. ومن الجدير ذكره أن بسطات الكتب ومواقع التحميل الإلكترونية المجانية هما أشبه ببورصة للكتاب، وبيئة خصبة لدراسة تيار التلقي وارتباطه بحركة الإبداع».
هموم الشعر تبدو متشعبة أكثر ومتنوعة أيضاً في نظر الشاعر مهتدي غالب الذي ربط القضية في جانب منها بموضوع النشر والطباعة، حيث يعمد الشاعر إلى طباعة عدد محدود من النسخ تكفي المقربين منه فقط، وذلك بسبب غياب المقدرة المالية على تحمل الأعباء.. يقول غالب: «الشعر يعاني كثيراً وكذلك الشعراء.. فالشاعر يطبع عدداً محدوداً من النسخ تكفي من يعرفه فقط، ودور النشر العربية عموماً تتبع التسويق لا القيمة الإبداعية.. كما أن الشعر كان الأكثر تعرضاً وتأثراً بالكتابة الفيسبوكية التي جعلت كل من يكتب كلمتين يصبح علَمَاً، حيث أصبح الأكثر استسهالاً في الكتابة هو الشعر».
في كل الأحوال، لا تبدو وسائل الإعلام بريئة مما يعصف بالشعر من مطبات وأزمات، خاصة فيما يتصل بتعدد ألوان الكتابة الشعرية، وتشجيع أنواع محددة من الشعر على حساب أنواع أخرى يراها التراثيون أو الميالون إلى الكلاسيكيات أنها خرجت على ماضي الأجداد، ولذلك لابد من وأدها وعدم إتاحة الفرصة أمامها للظهور.. يقول الجبيلي: «الإعلام الثقافي فضل تصدير الرواية على أنها الجنس الأدبي (الصرعة) على إلقاء الضوء باتجاه قصيدة النثر باعتبارها التطور المنطقي والطبيعي للشعر الرؤيوي والمعرفي الذي كانت تحمله قصيدة الستينيات، النثر الذي لا يحتفي بالقضايا الكبرى، فنظروا إليه وكأنه جنسٌ غبي، أو بسيط، أو أن شعراءه لا يملكون الموهبة حتى، كل هذا انعكس بطبيعة الحال على القارئ المؤدلج سلفاً على المطولات الحماسية الذي بطبيعته سيبقى جاهزاً لأية أدلجةٍ حديثة، فصار يتكلم ويفكر بلسان هذا الإعلام، لن أقول إن ما كتب من شعر خلال فترة صعود الرواية لا يستحق القراءة، هذا قطعاً مرفوض».
يعود الجبيلي إلى تاريخ الحركة الشعرية ويحاول إجراء المكاشفات حول تطور النص الشعري مقابل النص الروائي، يقول: «الستينيون بمواضيعهم وقضاياهم أصبحوا مملين، والحداثيّون الجدد يقرؤون من قبل المتخصصين والمتخصصين فقط (شعراء أو مشاريع شعراء) بغض النظر عن قيمتهم، الرواية أصبحت شرطاً بدهياً في كل بيتٍ يدعي القراءة، ربما لأن حجمها أكبر من ديوان الشعر، ويأخذ حيزاً أكبر، عندما أتحدث هكذا، أنا لا أهاجم أورويل أو كونراد أو كونديرا أو حتى ماركيز، لكني أنحاز رغماً عن أنفي إلى كيتس وويتمان وبورخيس و لوتريامون.. الرواية تُقرأ مرة واحدة فقط، أما الشعر فيقرأ كل يوم، وكل يوم سترى فيه شيئاً جديداً، ربما لهذا خُلق لجيلٍ أحدث».
البحث في هموم الشعر قد يتشعب إلى جوانب تاريخية وإبداعية وثقافية كثيرة، فالجميع يعلم أن حصة الفرد العربي من القراءة سنوياً تثير الشفقة إذا ما نظرنا إلى بلدان متقدمة في هذا المجال، كذلك الأمر بالنسبة للمستوى الاقتصادي وما تمكن تسميته بالخيبات الكثيرة التي حصدها الناس من الثقافة المحلية النظرية التي جعلتهم يتغنون بالمفاهيم من دون أن يعيشوها.. كل هذا ربما يمكن أن يضاف إلى ما قيل في هذا الصدد، لكن ما لم يحدث تاريخياً هو اندثار الشعر أو تلاشيه لمصلحة أي فن آخر.. يقول النقاد: في كل عصر هناك من يعمل لمجد الشعر من دون قصديّة مسبقة، بل بقدريّة صعبة على التفسير!.
صحيفة تشرين ـ دمشق، 05/05/2016
رابط إلكتروني للموضوع:
http://www.tishreen.news.sy/tishreen/...
لماذا غابت كتب الشعر لمصلحة الروايات العالمية؟.. أزمة في الشعر أم في القراءة... وندرة المتابعين؟
إعداد: زيد قطريب
صحيفة تشرين
المشوار يبدأ من تحت جسر فيكتوريا حيث تتربع بسطة كتب شهيرة تعرض أحدث الروايات العالمية التي تمت ترجمتها إلى العربية.
كتب أنيقة مغلفة بالنايلون تحمل أغلفتها أسماء لها سمعتها في المشهد العالمي بدءاً من باولو كويلهو وإيزابيل الليندي، وصولاً إلى كازانتزاكي وهمنغواي وغابرييل غارسيا ماركيز.. وانطلاقاً من هذا المكان باتجاه الحلبوني أو البرامكة تحت الجسر، فإن المشهد يكادُ لا يختلف تقريباً، إنها الروايات العالمية المترجمة التي تستولي على الواجهة على حساب كتب الشعر التي تغيب أو تكون نادرة في أقل توصيف، إلى درجة أن العابر يتمنى أن يعثر على كتاب للماغوط أو درويش أو فايز خضور أو أدونيس أو سعدي يوسف..
إنه الشعر أو «ديوان العرب» وسجل مآثرهم وتاريخهم، يترجل عن رفوف المكتبات ويغيب عن البسطات لمصلحة فنون أخرى معظمها تمت ترجمته من ثقافات أخرى!. هل المسألة مرتبطة بمآزق الشعر التي ما فتىء يشير إليها النقد؟، أم إن مزاج القراء قد تغير؟، هل بات الشعر متشابهاً جداً إلى درجة تصح فيه مقولة «كثر الشعر وقلّ الشعراء» لذلك هجره الناس على عكس ما كانوا يفعلون في السابق عندما كانوا يتابعونه في كل شطر وبيت؟. في المقابل، فإن المهتم سينتبه إلى حضور بعض الكتب المرتبطة بجذب أهواء المراهقين العاشقين، مثل أشعار الحب عند نزار قباني بدافع الحصول على مبيعات عالية وربح وليس بعامل الاهتمام بالشعر سواء من قبل البائع أو الشاري أو القارئ إن صح التعبير!.
لا يختلف أحد أن تقنيات «الريزو» قد سهلت موضوع السطو على الكتب العالمية من أجل الحصول على «مرابح» بأقل تكلفة، لكن المشكلة هنا ليست في موضوع التكلفة المادية المتحكمة بذوق القارئ أولاً، لأن البائع يهرع لإرضاء طلب القراء بغض النظر عن العناوين، لكن النتيجة تقول إن إقبال المهتمين أكبر على الروايات العالمية تقابله ندرة في قراءة الشعر ومحاولة تتبع إصداراته، والدليل غياب معروضات الشعر عن واجهات مكتبات الأرصفة والمكتبات العامة الشهيرة بشكل كامل تقريباً.
في هذا الإطار، تقول الكاتبة القصصية الدكتورة علياء الداية إن سبب الإقبال على قراءة الرواية يعود إلى كونها عملاً أدبياً ينجح بسهولة في إقحام المتلقي في عالمه المتخيل، وشغله بفضول لمتابعة حيوات شخصياته ومصائرهم. وكثيراً ما يكون الأسلوب الشائق لبعض روايات «الأكثر مبيعاً» أو «الأكثر قراءة» فخاً يقع فيه القارئ الهاوي أو المتخصص، قبل أن يكتشف عيوب هذا العمل أو بساطته المفرطة أو اندراجه في خانة المكرر، سواء أكان العمل الروائي مترجماً أم عربياً.
من جانب آخر، يرى الشاعر زياد الجبيلي جانباً نقدياً في هذا الموضوع المتصل بغياب الشعر وهو يتصل بحال قصيدة النثر ومحاربتها خلال عقود طويلة، الأمر الذي غيب هذا الفن بشكل عام، يقول زياد: «عصرنا ليس عصر تراجع الشعر على حساب تقدم الرواية، إنه العصر الذي تلا عصر تهميش قصيدة النثر على حساب أرباب الحداثة الأولى في القرن العشرين، أعتقد أن هذا ما أسهم في تكريس مقولة (إنه عصر الرواية)، الرواية كانت تزحف ببطء مستغلة الانقسام الداخلي في البيت الشعري بين مجددٍ ومحافظ، هل للشعر بيت؟، مستحيل، إنه جبهةٌ مشتعلة دائماً، هذا تماماً ما حصل خلال أكثر من عشرين عاماً، هذه الحرب انعكست سلباً على القارئ العادي، القارئ المعني فقط بشعر الحماسة والقضايا الكبرى كشعر محمود درويش على سبيل المثال».
الشاعر مهتدي غالب رأى جانباً مختلفاً يتصل بطغيان الميديا وغياب الاهتمام بالشعر على صعيد الجوائز وأعمال الدعاية المختلفة حيث يغلب الاحتفاء بالرواية.. يقول مهتدي: «الأمر معقد ويرتبط بالميديا الإعلامية التي تسوق للرواية بشكل غريب، ونحن نعرف في هذه الظروف الاقتصادية بسعي القارئ للانتقائية في القراءة، فلا يغامر بقراءة شيء لم يسمع عنه.. إضافة إلى غياب الجوائز الكبرى للشعر كما الرواية فهناك البوكر العربي والعالمي.. ولا يوجد إلا مسابقات الشاشة للشعراء، فتبدو هذه البرامج الدعائية الاستهلاكية تعويضاً شعرياً للمتلقي».
المسألة تبدو متعددة الجوانب ومتشعبة الأسباب حيث ترى الدكتورة علياء الداية، وهي المدرِّسة في جامعة حلب، أن آلية تلقف الشعر وكتابته تختلف تماماً عن النص الروائي، فهو يتطلب قارئاً يعشقه قبل كل شيء إضافة إلى موضوع الاتصالات الحديثة وتأثير المسموع والمرئي على حساب المطبوع.. تقول علياء: «أما الشعر، فهو يحتاج بذل مجهود أكبر وقصديّة لقراءته، ويتطلّب من القارئ نوعاً من اليقظة للدخول في عالم حلم الشاعر! لا يخلو عصر من وجود الشعراء، ونحن نلمس حضور الشعر في حياة الناس، من خلال مظهر يومي مسموع هو الأغنية، فلا وجود لأغنية من دون كلمات، غير أن حضور الكلمة المطبوعة والمقروءة ليس بالانتشار المسموع ذاته.
ويمكن تقسيم الأسباب إلى ثلاثة، أحدها هو انشغال الناس بالتكنولوجيا ووسائل التواصل الاجتماعي، فمن خلالها يقعون في وهم التفاعل مع الشاشة وقضاء الوقت، من دون تحقيق تطوير حقيقي في الشخصية، بل مجرد تداول للمعلومات، وهذا يتم على حساب القراءة الجادة. والسبب الثاني هو تسرع بعض الشعراء في إصدار أعمالهم أو الدوران ضمن مجموعة محدودة من الكلمات والتعبيرات، ما يجعل الشاعر يكرر نفسه في عدة قصائد في الديوان الواحد، أو عبر أكثر من نتاج شعري له، أما السبب الثالث فهو التقصير الذي قد نجده لدى دور النشر والمكتبات ومؤسسات الجوائز، هناك الكثير من الأعمال الشعرية الجديرة بالاهتمام والقراءة، وبإمكان دور النشر أن تتحلى بالجرأة في تبني بعض هذه الأعمال ونشرها في معارض الكتب، وهذا ينطبق على المكتبات التي لها دور كبير في ترويج الشعر من خلال عرضه وتوافره أولاً فأولاً على رفوفها مهما طال به الزمن، فهو ليس سلعة تجارية لا بد من بيعها قبل وصول منافس جديد! أما مؤسسات الجوائز التي يفوز فيها سنوياً العديد من الشعراء المتميزين على اختلاف المراحل العمرية لهم، ففرصة قراءة هذه القصائد تضيع في كثير من الأحيان بسبب عدم طباعة الأعمال، أو اقتصار نشرها على نطاق ضيق، وعدم توافرها إلكترونياً عبر مواقع الجائزة. ومن الجدير ذكره أن بسطات الكتب ومواقع التحميل الإلكترونية المجانية هما أشبه ببورصة للكتاب، وبيئة خصبة لدراسة تيار التلقي وارتباطه بحركة الإبداع».
هموم الشعر تبدو متشعبة أكثر ومتنوعة أيضاً في نظر الشاعر مهتدي غالب الذي ربط القضية في جانب منها بموضوع النشر والطباعة، حيث يعمد الشاعر إلى طباعة عدد محدود من النسخ تكفي المقربين منه فقط، وذلك بسبب غياب المقدرة المالية على تحمل الأعباء.. يقول غالب: «الشعر يعاني كثيراً وكذلك الشعراء.. فالشاعر يطبع عدداً محدوداً من النسخ تكفي من يعرفه فقط، ودور النشر العربية عموماً تتبع التسويق لا القيمة الإبداعية.. كما أن الشعر كان الأكثر تعرضاً وتأثراً بالكتابة الفيسبوكية التي جعلت كل من يكتب كلمتين يصبح علَمَاً، حيث أصبح الأكثر استسهالاً في الكتابة هو الشعر».
في كل الأحوال، لا تبدو وسائل الإعلام بريئة مما يعصف بالشعر من مطبات وأزمات، خاصة فيما يتصل بتعدد ألوان الكتابة الشعرية، وتشجيع أنواع محددة من الشعر على حساب أنواع أخرى يراها التراثيون أو الميالون إلى الكلاسيكيات أنها خرجت على ماضي الأجداد، ولذلك لابد من وأدها وعدم إتاحة الفرصة أمامها للظهور.. يقول الجبيلي: «الإعلام الثقافي فضل تصدير الرواية على أنها الجنس الأدبي (الصرعة) على إلقاء الضوء باتجاه قصيدة النثر باعتبارها التطور المنطقي والطبيعي للشعر الرؤيوي والمعرفي الذي كانت تحمله قصيدة الستينيات، النثر الذي لا يحتفي بالقضايا الكبرى، فنظروا إليه وكأنه جنسٌ غبي، أو بسيط، أو أن شعراءه لا يملكون الموهبة حتى، كل هذا انعكس بطبيعة الحال على القارئ المؤدلج سلفاً على المطولات الحماسية الذي بطبيعته سيبقى جاهزاً لأية أدلجةٍ حديثة، فصار يتكلم ويفكر بلسان هذا الإعلام، لن أقول إن ما كتب من شعر خلال فترة صعود الرواية لا يستحق القراءة، هذا قطعاً مرفوض».
يعود الجبيلي إلى تاريخ الحركة الشعرية ويحاول إجراء المكاشفات حول تطور النص الشعري مقابل النص الروائي، يقول: «الستينيون بمواضيعهم وقضاياهم أصبحوا مملين، والحداثيّون الجدد يقرؤون من قبل المتخصصين والمتخصصين فقط (شعراء أو مشاريع شعراء) بغض النظر عن قيمتهم، الرواية أصبحت شرطاً بدهياً في كل بيتٍ يدعي القراءة، ربما لأن حجمها أكبر من ديوان الشعر، ويأخذ حيزاً أكبر، عندما أتحدث هكذا، أنا لا أهاجم أورويل أو كونراد أو كونديرا أو حتى ماركيز، لكني أنحاز رغماً عن أنفي إلى كيتس وويتمان وبورخيس و لوتريامون.. الرواية تُقرأ مرة واحدة فقط، أما الشعر فيقرأ كل يوم، وكل يوم سترى فيه شيئاً جديداً، ربما لهذا خُلق لجيلٍ أحدث».
البحث في هموم الشعر قد يتشعب إلى جوانب تاريخية وإبداعية وثقافية كثيرة، فالجميع يعلم أن حصة الفرد العربي من القراءة سنوياً تثير الشفقة إذا ما نظرنا إلى بلدان متقدمة في هذا المجال، كذلك الأمر بالنسبة للمستوى الاقتصادي وما تمكن تسميته بالخيبات الكثيرة التي حصدها الناس من الثقافة المحلية النظرية التي جعلتهم يتغنون بالمفاهيم من دون أن يعيشوها.. كل هذا ربما يمكن أن يضاف إلى ما قيل في هذا الصدد، لكن ما لم يحدث تاريخياً هو اندثار الشعر أو تلاشيه لمصلحة أي فن آخر.. يقول النقاد: في كل عصر هناك من يعمل لمجد الشعر من دون قصديّة مسبقة، بل بقدريّة صعبة على التفسير!.
صحيفة تشرين ـ دمشق، 05/05/2016
رابط إلكتروني للموضوع:
http://www.tishreen.news.sy/tishreen/...
Published on May 05, 2016 12:00
•
Tags:
شعر-رواية-كتب-نشر-قراءة
April 27, 2016
أرنوب الذي هرب من النافذة
أرنوب الذي هرب من النافذة
قصة للأطفال
بقلم: علياء الداية ـ رسوم: نجلاء الداية
شعر أرنوب بالسعادة، فها هو ذا قد انتهى من رسم لوحة لقارب شراعي وسط أمواج البحر الجميل. كان المساء قد حلّ، وعلى أرنوب أن يخلد إلى النوم ليبدأ النهار الجديد غداً بكل همة ونشاط. ولكن أرنوب كان منشغلاً بالتفكير في جيرانهم الجدد، سكان البيت القريب على التلة، الذي تغلَق نوافذه في أول الليل. وقرر أن يذهب في الغد لاستكشاف المكان، على الرغم مما قد يحتويه من أخطار، فالسكان هم من البشر الذين قد لا يحبون الأرانب لأنها تقضم الأثاث.
استيقظ أرنوب، وأكل الفطور الذي أعدته له أمه، وتناول كذلك الفيتامين المصنّع على شكل جزر، ولكنه على عكس الجزر العادي، ثمرته خضراء وأوراقه حمراء! ثم انطلق يلعب حول البيت على أطراف الغابة، وتوجّه بعد ذلك إلى التلة حيث منزل الجيران الجدد.
قفز أرنوب فوق صناديق الفاكهة، ونظر من خلال النافذة المفتوحة، كانت هناك غرفة خالية من البشر ذات باب مقفل من الداخل، فقفز من جديد على السرير ثم إلى أرض الغرفة، وأخذ يتأمل ما حوله، هنالك خزانة عالية، وأقلام ودفتر على الطاولة، إنها تشبه أقلامه وأوراقه التي يرسم بها ويلوّن. "كم يبدو هذا الخشب طيب الطعم!" قال أرنوب لنفسه، فالأرانب مشهورة بقضم كل ما يروق لها، وكاد يأخذ قضمة من خشب قائمة السرير، ولكن أحدهم صاح به: "توقف... أنت، أيها الأرنب!"
"من هناك؟" تساءل أرنوب وهو يتلفّت حوله بخوف، وسرعان ما لفتت نظره دمية محشوة على شكل دب.
"أنا، دبدوب!" وجاءه صوت آخر ولكنه حاد: "وأنا أيضاً، الزرافة". بالفعل، كانت إلى جانب الدب زرافة ذات شعر بنفسجي غريب. وبخطوات قصيرة، أصبح الأرنب إلى جوار الدميتين المحشوتين، وأخذوا يتجاذبون أطراف الحديث:
دبدوب: في مثل هذا الوقت يكون "كريم" في المدرسة، هذه غرفته.
الزرافة: كنا نشعر بالملل الشديد إلى أن جئت أنت، احك لنا عن العالم هناك خارج النافذة.
أرنوب: إنه عالم واسع ومليء بالأعشاب الخضراء، وأشجار السرو العالية، وتوجد بحيرة كبيرة تطلّ عليها الغابة، وجبال تظهر في جانب من الأفق، وحيوانات تشبهكما، ولكنها حقيقية بالطبع.
"كريم يشبهني أنا"... من قال ذلك؟ نظر أرنوب فرأى دمية تختبئ خلف صندوق بجانب السرير، فسألها: "من أنت؟"
ـ أنا اللاعب ذو القبعة.
ـ ولماذا أنت مختبئ هناك؟
ـ أخشى أن أتّسخ بالغبار، انظر ألا ترى كم يحتاج دبدوب والزرافة إلى الغسيل؟
تأمل أرنوب صديقيه الجديدين، ولكنه لم يلحظ شيئاً مما قاله اللاعب ذو القبعة.
وهكذا استمر أرنوب في اليومين التاليين بزيارة أصدقائه الجدد، في وقت انشغال كريم بالدوام في مدرسته، وكان مسروراً لأنه وجد ما يتحدث به مع اللاعب ذي القبعة، حول مباريات كرة القدم التي يحبها اللاعب، وقفز الحواجز الذي يبرع به أرنوب.
كان أرنوب قد انشغل تماماً بأصدقائه الجدد، وأهمل هواية الرسم، وقد بقيت لوحة القارب الشراعي على حالها من دون ألوان، وكان أرنوب أيضاً يتجاهل كلام أمه ودعوتها له كي يكمل تلوين اللوحة.
في اليوم الثالث، كانت هناك حركة غريبة في طرف حديقة منزل الجيران الجدد، النافذة مفتوحة كالمعتاد، ولكن هناك أسلاك ممدودة بين الأشجار، وتتدلى منها قطع من الأقمشة والملابس، وجو الرطوبة يفوح في المكان. قفز أرنوب إلى الغرفة، وعلى غير المألوف، كان الباب مفتوحاً، ولم يجد أصدقاءه، وبينما هو يتلفّت للبحث عنهم، نادته الزرافة: "هنا، هنا، أرنوب، تعال!"
"أين أنتم؟" سأل أرنوب، ولكنه سرعان ما وجد دبدوب والزرافة داخل الصندوق.
"لماذا أنتما هنا؟ هل..." وقبل أن يكمل أرنوب جملته قاطعه دبدوب قائلاً:
"الخطر قادم! اقفز إلينا هنا، بسرعة". وفي اللحظة التي دخلت فيها والدة كريم إلى الغرفة، كان أرنوب قد اختفى في قاع الصندوق، مع دبدوب والزرافة.
رفعت والدة كريم طرف الوشاح الأخضر الذي يغطي الصندوق، واطمأنت حين لمحت رأس دبدوب وشعر الزرافة البنفسجي، ثم مدت كلتا يديها لتحمل الصندوق.
شعر أرنوب بالفزع، الصندوق الذي هو فيه يرتفع بسرعة هائلة عن سطح الأرض، ويتحرك باتجاه الباب، وقد أصبح الآن خارج الغرفة، في الممر الذي تسير فيه والدة كريم بخطوات متثاقلة ولكن بتصميم كبير.
"اشرحا لي، ما الذي يحصل؟"
قالت الزرافة: "هل تذكر ما قاله اللاعب ذو القبعة منذ يومين؟"
فقال أرنوب: "عن الاتساخ والغسيل؟ هل تعنين أننا سنخضع للتنظيف؟"
فأجابه دبدوب هذه المرّة: "أجل يا صديقي، يا لها من رحلة ممتعة، سندخل إلى الغسالة حيث المياه والصابون، ونخرج منها بنظافة".
وقالت الزرافة: "يا للروعة، وسوف نوضع هناك في الخارج إلى جانب الملابس على السلك بين الأشجار، نستمتع بمشاهدة الطبيعة الجميلة والطيور والشمس الرائعة!"
ولكن أرنوب يعلم جيداً أن الغسالة غير مخصصة للأرانب، كما أنه نظيف ولا يحتاج إلى غسيل من هذا النوع، كان عليه أن يستمع إلى ما قاله اللاعب ذو القبعة هناك في الغرفة قبل يومين، ولكن... صحيح أين هو اللاعب؟
وفي هذه اللحظة، سمع والدة كريم تقول: "آه، كان يجب أن أتذكر تلك اللعبة، اللاعب ذا القبعة، كريم يخفيه دائماً حتى لا أغسله، سأذهب لإحضاره من الغرفة". وابتعدت خطواتها وهي تغادر المطبخ ومكانها أمام الغسالة، عائدة إلى الغرفة.
"هذه فرصتك أيها الأرنب الشاطر" قال أرنوب لنفسه، وقبل أن تغير والدة كريم رأيها أو تعود بسرعة، كان أرنوب قد قفز إلى أقرب نافذة، وصار صندوق الغسيل بعيداً بما يكفي، لوّح أرنوب لصديقيه الدب والزرافة ذات الشعر البنفسجي الغريب، وأخذ يعدو على العشب الأخضر مخلفاً التلة بعيداً جداً، وهو يفكر في أسرته التي سيعود إليها، وفي فيتامين الجزر المعكوس، وفي الألوان التي تنتظره بجانب لوحة القارب، كي يمارس هوايته في الرسم والتلوين غداً في الصباح عندما يبدأ النهار الجديد.
* نشرت القصة في موقع مجلة نور الصحافة، الثلاثاء 25/4/2016
رابط إلكتروني: http://nourjournalism.com/
قصة للأطفال
بقلم: علياء الداية ـ رسوم: نجلاء الداية
شعر أرنوب بالسعادة، فها هو ذا قد انتهى من رسم لوحة لقارب شراعي وسط أمواج البحر الجميل. كان المساء قد حلّ، وعلى أرنوب أن يخلد إلى النوم ليبدأ النهار الجديد غداً بكل همة ونشاط. ولكن أرنوب كان منشغلاً بالتفكير في جيرانهم الجدد، سكان البيت القريب على التلة، الذي تغلَق نوافذه في أول الليل. وقرر أن يذهب في الغد لاستكشاف المكان، على الرغم مما قد يحتويه من أخطار، فالسكان هم من البشر الذين قد لا يحبون الأرانب لأنها تقضم الأثاث.
استيقظ أرنوب، وأكل الفطور الذي أعدته له أمه، وتناول كذلك الفيتامين المصنّع على شكل جزر، ولكنه على عكس الجزر العادي، ثمرته خضراء وأوراقه حمراء! ثم انطلق يلعب حول البيت على أطراف الغابة، وتوجّه بعد ذلك إلى التلة حيث منزل الجيران الجدد.
قفز أرنوب فوق صناديق الفاكهة، ونظر من خلال النافذة المفتوحة، كانت هناك غرفة خالية من البشر ذات باب مقفل من الداخل، فقفز من جديد على السرير ثم إلى أرض الغرفة، وأخذ يتأمل ما حوله، هنالك خزانة عالية، وأقلام ودفتر على الطاولة، إنها تشبه أقلامه وأوراقه التي يرسم بها ويلوّن. "كم يبدو هذا الخشب طيب الطعم!" قال أرنوب لنفسه، فالأرانب مشهورة بقضم كل ما يروق لها، وكاد يأخذ قضمة من خشب قائمة السرير، ولكن أحدهم صاح به: "توقف... أنت، أيها الأرنب!"
"من هناك؟" تساءل أرنوب وهو يتلفّت حوله بخوف، وسرعان ما لفتت نظره دمية محشوة على شكل دب.
"أنا، دبدوب!" وجاءه صوت آخر ولكنه حاد: "وأنا أيضاً، الزرافة". بالفعل، كانت إلى جانب الدب زرافة ذات شعر بنفسجي غريب. وبخطوات قصيرة، أصبح الأرنب إلى جوار الدميتين المحشوتين، وأخذوا يتجاذبون أطراف الحديث:
دبدوب: في مثل هذا الوقت يكون "كريم" في المدرسة، هذه غرفته.
الزرافة: كنا نشعر بالملل الشديد إلى أن جئت أنت، احك لنا عن العالم هناك خارج النافذة.
أرنوب: إنه عالم واسع ومليء بالأعشاب الخضراء، وأشجار السرو العالية، وتوجد بحيرة كبيرة تطلّ عليها الغابة، وجبال تظهر في جانب من الأفق، وحيوانات تشبهكما، ولكنها حقيقية بالطبع.
"كريم يشبهني أنا"... من قال ذلك؟ نظر أرنوب فرأى دمية تختبئ خلف صندوق بجانب السرير، فسألها: "من أنت؟"
ـ أنا اللاعب ذو القبعة.
ـ ولماذا أنت مختبئ هناك؟
ـ أخشى أن أتّسخ بالغبار، انظر ألا ترى كم يحتاج دبدوب والزرافة إلى الغسيل؟
تأمل أرنوب صديقيه الجديدين، ولكنه لم يلحظ شيئاً مما قاله اللاعب ذو القبعة.
وهكذا استمر أرنوب في اليومين التاليين بزيارة أصدقائه الجدد، في وقت انشغال كريم بالدوام في مدرسته، وكان مسروراً لأنه وجد ما يتحدث به مع اللاعب ذي القبعة، حول مباريات كرة القدم التي يحبها اللاعب، وقفز الحواجز الذي يبرع به أرنوب.
كان أرنوب قد انشغل تماماً بأصدقائه الجدد، وأهمل هواية الرسم، وقد بقيت لوحة القارب الشراعي على حالها من دون ألوان، وكان أرنوب أيضاً يتجاهل كلام أمه ودعوتها له كي يكمل تلوين اللوحة.
في اليوم الثالث، كانت هناك حركة غريبة في طرف حديقة منزل الجيران الجدد، النافذة مفتوحة كالمعتاد، ولكن هناك أسلاك ممدودة بين الأشجار، وتتدلى منها قطع من الأقمشة والملابس، وجو الرطوبة يفوح في المكان. قفز أرنوب إلى الغرفة، وعلى غير المألوف، كان الباب مفتوحاً، ولم يجد أصدقاءه، وبينما هو يتلفّت للبحث عنهم، نادته الزرافة: "هنا، هنا، أرنوب، تعال!"
"أين أنتم؟" سأل أرنوب، ولكنه سرعان ما وجد دبدوب والزرافة داخل الصندوق.
"لماذا أنتما هنا؟ هل..." وقبل أن يكمل أرنوب جملته قاطعه دبدوب قائلاً:
"الخطر قادم! اقفز إلينا هنا، بسرعة". وفي اللحظة التي دخلت فيها والدة كريم إلى الغرفة، كان أرنوب قد اختفى في قاع الصندوق، مع دبدوب والزرافة.
رفعت والدة كريم طرف الوشاح الأخضر الذي يغطي الصندوق، واطمأنت حين لمحت رأس دبدوب وشعر الزرافة البنفسجي، ثم مدت كلتا يديها لتحمل الصندوق.
شعر أرنوب بالفزع، الصندوق الذي هو فيه يرتفع بسرعة هائلة عن سطح الأرض، ويتحرك باتجاه الباب، وقد أصبح الآن خارج الغرفة، في الممر الذي تسير فيه والدة كريم بخطوات متثاقلة ولكن بتصميم كبير.
"اشرحا لي، ما الذي يحصل؟"
قالت الزرافة: "هل تذكر ما قاله اللاعب ذو القبعة منذ يومين؟"
فقال أرنوب: "عن الاتساخ والغسيل؟ هل تعنين أننا سنخضع للتنظيف؟"
فأجابه دبدوب هذه المرّة: "أجل يا صديقي، يا لها من رحلة ممتعة، سندخل إلى الغسالة حيث المياه والصابون، ونخرج منها بنظافة".
وقالت الزرافة: "يا للروعة، وسوف نوضع هناك في الخارج إلى جانب الملابس على السلك بين الأشجار، نستمتع بمشاهدة الطبيعة الجميلة والطيور والشمس الرائعة!"
ولكن أرنوب يعلم جيداً أن الغسالة غير مخصصة للأرانب، كما أنه نظيف ولا يحتاج إلى غسيل من هذا النوع، كان عليه أن يستمع إلى ما قاله اللاعب ذو القبعة هناك في الغرفة قبل يومين، ولكن... صحيح أين هو اللاعب؟
وفي هذه اللحظة، سمع والدة كريم تقول: "آه، كان يجب أن أتذكر تلك اللعبة، اللاعب ذا القبعة، كريم يخفيه دائماً حتى لا أغسله، سأذهب لإحضاره من الغرفة". وابتعدت خطواتها وهي تغادر المطبخ ومكانها أمام الغسالة، عائدة إلى الغرفة.
"هذه فرصتك أيها الأرنب الشاطر" قال أرنوب لنفسه، وقبل أن تغير والدة كريم رأيها أو تعود بسرعة، كان أرنوب قد قفز إلى أقرب نافذة، وصار صندوق الغسيل بعيداً بما يكفي، لوّح أرنوب لصديقيه الدب والزرافة ذات الشعر البنفسجي الغريب، وأخذ يعدو على العشب الأخضر مخلفاً التلة بعيداً جداً، وهو يفكر في أسرته التي سيعود إليها، وفي فيتامين الجزر المعكوس، وفي الألوان التي تنتظره بجانب لوحة القارب، كي يمارس هوايته في الرسم والتلوين غداً في الصباح عندما يبدأ النهار الجديد.
* نشرت القصة في موقع مجلة نور الصحافة، الثلاثاء 25/4/2016
رابط إلكتروني: http://nourjournalism.com/
Published on April 27, 2016 13:59
•
Tags:
أرنوب-نافذة-ألوان-لعبة-بيت
March 5, 2016
ليالي الخريف الفنلندية
ترجمتي لحوار مع المصوّرة تينا تورمانين، في موقع ثقافات:
ليالي الخريف الفنلندية ـ ترجمة: د.علياء الداية
إنها تخوم الدائرة القطبية، كما تتراءى في أقصى درجات الدهشة والإبهار.
هذا هو الأثر الساحر الذي تحدثه مشاهدة صور "تينا تورمانين"، فهي تستحوذ بالتأكيد على إعجاب كل الأشخاص الذين تأسرهم الطبيعة بجمالها.
كنا قد نوهنا في وقت سابق بأعمال "تينا تورمانين"، أما الآن فحان الوقت لزيارتها من جديد. ابتهجنا بالفعل حين اكتشفنا أن رصيدها الفني قد ازدهر بقوة وكثافة خلال هذه المدة، مشتملاً على الحياة البرية في قسوتها وصفائها، وعلى الغموض السرمدي لجمال الطبيعة في مسقط رأسها "بوسيو" في شمال "لابلاند" في فنلندا. "الصور كلّها ملتقطة من على بُعد 100 متر حتى 130 كيلومتراً المحيطة بمنزل الطفولة"، هذا ما تؤكّده تينا.
مصوّة فوتوغرافية علّمت نفسها بنفسها، وكان دافعها الأساسي هو حب الطبيعة، ونزهاتها الخلوية بصحبة آلة التصوير. "حين أمتلك الوقت الكافي ذات يوم، أرغب في العودة إلى صوري القديمة الأصيلة التي خزنتها في علب الأحذية، وأن أؤلفّ عنها كتاباً"، هذا ما أخبرتنا به. كثيراً ما يحظى الحضور الذاتي للفنان في صوره بالثناء والاهتمام، ولكنه لا يكاد يلحظ في صور تينا الفوتوغرافية، غير أن استخدام كاميرا كانون
Canon 5D Mk3
، ينطوي على الإبهار في مشهدية الصورة بأسلوب متميّز وطموح، فالأشجار والسماء والثلوج تبدو أشبه بشخصيات حقيقية. إن صور تينا تتجسد في حساسيتها العالية لحيوية البيئة والطبيعة على شكل لوحات بورتريه للمناظر الطبيعية، بما فيها من البراري ومحيطها المتذبذب حيناً، والهادئ الثابت حيناً آخر، في لامبالاته بعالم البشر.
كما تنداح الظلال الداكنة لرفيقي السفر، الرجل وكلبه، وتمتدّ مفترشة الأرض في مقابل سماء تحتضر بألوانها الخضراء المشعة؛ هذه الظلال تشبه ضربات فرشاة، بطبقاتها الثقيلة على القماش، في مواجهة السماء الشاسعة بزينتها الليلية.
تتوهج ألوان الخريف وهي تشعل مهرجاناً قوياً من درجات الأخضر والأصفر، لتحلّ محلّ تلك الألوان النمطية الخريفية الحمراء والمائلة إلى البني.
أما الموجة الوردية الهائلة فكأنها تكريم قطبي لـ ديفيد إلفيك، في فيلمه "المسافر البللوري" في عام 1973، في أجواء أسطورية تحيط بها الانفجارات النجمية التي تندلع باتجاه الغلاف الجوي للأرض.
فيا لها من متعة حقيقية، أن نلمح ليالي الخريف في سحرها وهدوئها وفخامتها ولانهائيتها...
ها قد التقينا بالمصورة "تينا تورمانين" نتجاذب أطراف الحوار حول جديدها:
ـ متى بدأت بالتصوير الفوتوغرافي؟
ـ منذ عام 1998 بدأت ألتقط الصور، كنت حينها في السابعة عشرة. اهتمامي كان منصباً على الأفلام والأسلوب الوثائقي في التصوير الفوتوغرافي، وكل ما له صلة بالناس والحياة من حولي في منطقة هلسنكي. استمررت في التصوير باستخدام الأفلام حتى عام 2007، وقد تخللت مسيرتي سنوات لم أمارس التصوير فيها. ثم اشتريت أول كاميرا رقمية لي من نمط
DSLR
في عام 2010. وحتى عام 2012 لم أكن قد التقطت الكثير من الصور، إلى أن عدت أدراجي إلى الشمال من جديد، وبدأت ألتقط صور المناظر الطبيعية تحديداً. في بدايات أعوام الألفين، حاولت جاهدةً ولعدة سنوات أن أنتسب إلى معاهد فنية وأحظى بفرصة فيها، ولكنهم لم يسمحوا لي بذلك قط. فما كان مني إلاّ أن واصلت اهتماماتي واتخذت مسارات أخرى في حياتي.
ـ ما هي آلات التصوير التي تستخدمينها؟ وبشكل خاص ما الذي تستخدمينه لتصوير ليالي الخريف؟
ـ حالياً، أستخدم كانون
Canon 5D Mk3
. ولكني أنتظر لأرى ما هي الإصدارات الجديدة التي ستنزل إلى السوق هذا العام.
ـ ما هو شعورك وقد تمكنت من التقاط الصورة الجميلة لانعكاس كوكب الزهرة على الماء؟
ـ كنت ألتقط الصور طول الليل. كنت منهكة تماماً وقد انتهيت لتوي من التصوير، وأنا أقود السيارة عائدة إلى البيت. ثمة طريق بين بحيرتين، ومن نافذة السيارة أبصرتُ ذلك الوميض المتلألئ المنعكس على صفحة الماء. وكان عليّ حينها بالضبط أن أتوقف لألتقط الصور. كان هذا مثالياً، التوقيت الصحيح في المكان الصحيح. كانت تلك لحظة تحوّل، حين تكون الشمس في طور البزوغ، بينما مايزال في وسعك رؤية النجوم.
إنها لحظة خاصة لا يمكنك الحصول عليها بسهولة. قد يكون في وسعك التقاط موضوعات كهذه إن كنت أكثر اهتماماً بالتصوير الفلكي، وعارفاً بحركات الكواكب ومواعيدها، أما أنا فأرصد تحركات القمر والشمس فحسب.
ـ ما الذي يلهمك في عملك؟
ـ الحياة نفسها. الطبيعة جميلة، وهي مكان من المريح أن يحتوينا ونكون فيه. هناك أيضاً تلك اللحظات السحرية، وفصول السنة التي تختص بمشاعر متنوعة.
ـ كيف تنشئين أعمالك وتعدّلينها؟
ـ حين يكون ذلك ممكناً، فإنني أصوّر دائماً من دون استخدام الحامل ثلاثي القوائم، أستخدمه ليلاً فقط. وأنا أعشق أسلوب الطريق: أشِر ثم صوّر!
في الليل أستخدم الحامل الثلاثي القوائم، ثم أقوم بعدة لقطات تجريبية، ثم آخذ لقطة نهائية. أحبّذ التقاط القليل من الصور ومعايشة تركيبة المكان، بدلاً من التقاط مئات الصور المتشابهة من دون تفكير.
ـ ما هو وقتك المفضل للخروج والتصوير؟
ـ في الشمال لا تتوافر أيام مثالية لتصوير المسطحات المائية والسماء المليئة بالنجوم، ففي الصيف هناك أربع وعشرون ساعة من الشمس، وفي آخر الخريف تكون الأيام طويلة بما يكفي، لذلك فهناك أسابيع قليلة فقط متاحة للتصوير قبل أن تتجمد البحيرات.
ـ ما الذي تمارسينه من أعمال إلى جانب التصوير؟
ـ أعمل موسمياً كطاهية في منتجع وفندق للتزلج.
***
نشر الحوار في موقع ثقافات، بتاريخ 5 آذار 2016:
رابط مباشر:
http://www.thaqafat.com/News.aspx?id=...
ليالي الخريف الفنلندية ـ ترجمة: د.علياء الداية
إنها تخوم الدائرة القطبية، كما تتراءى في أقصى درجات الدهشة والإبهار.
هذا هو الأثر الساحر الذي تحدثه مشاهدة صور "تينا تورمانين"، فهي تستحوذ بالتأكيد على إعجاب كل الأشخاص الذين تأسرهم الطبيعة بجمالها.
كنا قد نوهنا في وقت سابق بأعمال "تينا تورمانين"، أما الآن فحان الوقت لزيارتها من جديد. ابتهجنا بالفعل حين اكتشفنا أن رصيدها الفني قد ازدهر بقوة وكثافة خلال هذه المدة، مشتملاً على الحياة البرية في قسوتها وصفائها، وعلى الغموض السرمدي لجمال الطبيعة في مسقط رأسها "بوسيو" في شمال "لابلاند" في فنلندا. "الصور كلّها ملتقطة من على بُعد 100 متر حتى 130 كيلومتراً المحيطة بمنزل الطفولة"، هذا ما تؤكّده تينا.
مصوّة فوتوغرافية علّمت نفسها بنفسها، وكان دافعها الأساسي هو حب الطبيعة، ونزهاتها الخلوية بصحبة آلة التصوير. "حين أمتلك الوقت الكافي ذات يوم، أرغب في العودة إلى صوري القديمة الأصيلة التي خزنتها في علب الأحذية، وأن أؤلفّ عنها كتاباً"، هذا ما أخبرتنا به. كثيراً ما يحظى الحضور الذاتي للفنان في صوره بالثناء والاهتمام، ولكنه لا يكاد يلحظ في صور تينا الفوتوغرافية، غير أن استخدام كاميرا كانون
Canon 5D Mk3
، ينطوي على الإبهار في مشهدية الصورة بأسلوب متميّز وطموح، فالأشجار والسماء والثلوج تبدو أشبه بشخصيات حقيقية. إن صور تينا تتجسد في حساسيتها العالية لحيوية البيئة والطبيعة على شكل لوحات بورتريه للمناظر الطبيعية، بما فيها من البراري ومحيطها المتذبذب حيناً، والهادئ الثابت حيناً آخر، في لامبالاته بعالم البشر.
كما تنداح الظلال الداكنة لرفيقي السفر، الرجل وكلبه، وتمتدّ مفترشة الأرض في مقابل سماء تحتضر بألوانها الخضراء المشعة؛ هذه الظلال تشبه ضربات فرشاة، بطبقاتها الثقيلة على القماش، في مواجهة السماء الشاسعة بزينتها الليلية.
تتوهج ألوان الخريف وهي تشعل مهرجاناً قوياً من درجات الأخضر والأصفر، لتحلّ محلّ تلك الألوان النمطية الخريفية الحمراء والمائلة إلى البني.
أما الموجة الوردية الهائلة فكأنها تكريم قطبي لـ ديفيد إلفيك، في فيلمه "المسافر البللوري" في عام 1973، في أجواء أسطورية تحيط بها الانفجارات النجمية التي تندلع باتجاه الغلاف الجوي للأرض.
فيا لها من متعة حقيقية، أن نلمح ليالي الخريف في سحرها وهدوئها وفخامتها ولانهائيتها...
ها قد التقينا بالمصورة "تينا تورمانين" نتجاذب أطراف الحوار حول جديدها:
ـ متى بدأت بالتصوير الفوتوغرافي؟
ـ منذ عام 1998 بدأت ألتقط الصور، كنت حينها في السابعة عشرة. اهتمامي كان منصباً على الأفلام والأسلوب الوثائقي في التصوير الفوتوغرافي، وكل ما له صلة بالناس والحياة من حولي في منطقة هلسنكي. استمررت في التصوير باستخدام الأفلام حتى عام 2007، وقد تخللت مسيرتي سنوات لم أمارس التصوير فيها. ثم اشتريت أول كاميرا رقمية لي من نمط
DSLR
في عام 2010. وحتى عام 2012 لم أكن قد التقطت الكثير من الصور، إلى أن عدت أدراجي إلى الشمال من جديد، وبدأت ألتقط صور المناظر الطبيعية تحديداً. في بدايات أعوام الألفين، حاولت جاهدةً ولعدة سنوات أن أنتسب إلى معاهد فنية وأحظى بفرصة فيها، ولكنهم لم يسمحوا لي بذلك قط. فما كان مني إلاّ أن واصلت اهتماماتي واتخذت مسارات أخرى في حياتي.
ـ ما هي آلات التصوير التي تستخدمينها؟ وبشكل خاص ما الذي تستخدمينه لتصوير ليالي الخريف؟
ـ حالياً، أستخدم كانون
Canon 5D Mk3
. ولكني أنتظر لأرى ما هي الإصدارات الجديدة التي ستنزل إلى السوق هذا العام.
ـ ما هو شعورك وقد تمكنت من التقاط الصورة الجميلة لانعكاس كوكب الزهرة على الماء؟
ـ كنت ألتقط الصور طول الليل. كنت منهكة تماماً وقد انتهيت لتوي من التصوير، وأنا أقود السيارة عائدة إلى البيت. ثمة طريق بين بحيرتين، ومن نافذة السيارة أبصرتُ ذلك الوميض المتلألئ المنعكس على صفحة الماء. وكان عليّ حينها بالضبط أن أتوقف لألتقط الصور. كان هذا مثالياً، التوقيت الصحيح في المكان الصحيح. كانت تلك لحظة تحوّل، حين تكون الشمس في طور البزوغ، بينما مايزال في وسعك رؤية النجوم.
إنها لحظة خاصة لا يمكنك الحصول عليها بسهولة. قد يكون في وسعك التقاط موضوعات كهذه إن كنت أكثر اهتماماً بالتصوير الفلكي، وعارفاً بحركات الكواكب ومواعيدها، أما أنا فأرصد تحركات القمر والشمس فحسب.
ـ ما الذي يلهمك في عملك؟
ـ الحياة نفسها. الطبيعة جميلة، وهي مكان من المريح أن يحتوينا ونكون فيه. هناك أيضاً تلك اللحظات السحرية، وفصول السنة التي تختص بمشاعر متنوعة.
ـ كيف تنشئين أعمالك وتعدّلينها؟
ـ حين يكون ذلك ممكناً، فإنني أصوّر دائماً من دون استخدام الحامل ثلاثي القوائم، أستخدمه ليلاً فقط. وأنا أعشق أسلوب الطريق: أشِر ثم صوّر!
في الليل أستخدم الحامل الثلاثي القوائم، ثم أقوم بعدة لقطات تجريبية، ثم آخذ لقطة نهائية. أحبّذ التقاط القليل من الصور ومعايشة تركيبة المكان، بدلاً من التقاط مئات الصور المتشابهة من دون تفكير.
ـ ما هو وقتك المفضل للخروج والتصوير؟
ـ في الشمال لا تتوافر أيام مثالية لتصوير المسطحات المائية والسماء المليئة بالنجوم، ففي الصيف هناك أربع وعشرون ساعة من الشمس، وفي آخر الخريف تكون الأيام طويلة بما يكفي، لذلك فهناك أسابيع قليلة فقط متاحة للتصوير قبل أن تتجمد البحيرات.
ـ ما الذي تمارسينه من أعمال إلى جانب التصوير؟
ـ أعمل موسمياً كطاهية في منتجع وفندق للتزلج.
***
نشر الحوار في موقع ثقافات، بتاريخ 5 آذار 2016:
رابط مباشر:
http://www.thaqafat.com/News.aspx?id=...
Published on March 05, 2016 10:58
•
Tags:
فنلندا-خريف-صور-طبيعة
January 31, 2016
خرائط التيه بين قارتين . قراءة في رواية بثينة العيسى
خرائط التيه... بين قارتين
قراءة في رواية بثينة العيسى
بقلم: د.علياء الداية
"إذا تركت يد أمك، فسيأتي الغول ويأخذك". هذا ما كان يجب أن يقال للطفل الصغير "مشاري"، فما حصل في هذه الرواية هو أن "مشاري" الذي ترك يد أمه وقع فريسة الغيلان البشرية، التي انتهزت الفرصة واقتادته بعيداً، بعيداً جداً.
منذ بداية الرواية تطالعنا كلمة "التيه" بوضوح من خلال الافتتاحية التي اختارتها بثينة العيسى، حيث بيت أبي تمّام:
"تاهت على صورة الأشياء صورتُه / حتى إذا كملت تاهت على التيهِ".
لقد حافظت الروائية الكويتية بثينة العيسى على كلاسيكيات السرد في الرواية، من التوالي الزمني للأحداث، ومركزية الشخصيات، ومنطقية الاستنتاجات. ولكنها طوّرت موضوعها الروائي، فاحتفظت بما ورد في أعمال روائية سابقة من سمات معاناة الفقد كما في "عائشة تنزل إلى العالم السفلي"، وبطولة الأطفال كما في "تحت أقدام الأمهات"، وحيرة المرأة تجاه مجتمعها كما في "عروس المطر" و"سعار" و"كبرت ونسيت أن أنسى"، واختلافات الرأي والفكر كما في "ارتطام لم يسمع له دوي"، ومزجت هذه السمات تاركةً للموضوع الأساسي أن يتّخذ أبعاده بأقصى ما يمكن. امتداد المكان ليغطي أجزاء واسعة من قارتين، واحتشاد الزمن، فكل دقيقة منه عبارة عن معاناة قائمة وكل ساعة هي مخزون من الانفعالات "الزمن ليس حليفاً لك. الزمن هو العدوّ. كيف يمكنك أن توقف تدفّق هذا النهر الأبدي الذي يسمونه الزمن؟ إنه يجري بعيداً، بعيداً صوب الاحتمالات المؤسفة." أما الشخصيات فهي مختبر لتفاعل مع أزمات نفسية وفكرية تشرع أسئلة الوجود. تحافظ بثينة على ملمح من أسلوبها في تقسيم الرواية إلى فصول كثيرة، تحمل عناوين مستقلة، ويحمل العديد من صفحاتها تحديداً لتاريخ اليوم والساعة التي يجري فيها الحدث، إمعاناً في إشراك المتلقي ليعيش مع الشخصية دقائق التفاصيل وقتياً.
الخير والشرّ :
تقدّم لنا الرواية الأحداث منذ البداية بتقنية الراوي العليم، وهذا ما يضع تحدياً في الوقت نفسه أمام الرواية في إيجاد بيئة تشويق للمتلقي، فهو لا يتابع ما يجري فقط، بل ينظر إليه ويفكّر معه "كيف" يجري، إنه عملياً متورّط مع الشخصيات، ومن الصعوبة بمكان أن يقف موقف القاضي، مع أنه يعلم مسبقاً ما حصل، وليس أمامه سوى مشاهدة مواقف الشخصيات وانفعالها ودهشتها.
تظهر جدلية الخير والشرّ في أكثر من محور في هذه الرواية "خرائط التيه"، المحور الأول هو سميّة وزوجها فيصل، ففي البداية يبدو وكأنّ فيصل هو الجانب الخيّر، الذي يسعى للسؤال والبحث عن ابنه الذي اختفى في الحرم المكي، أثناء موسم الحج، في حين تكون سميّة قليلة الحيلة، منصرفة إلى البكاء والحزن. ولكن مع تقادم الساعات فالأيام، يقوم الحوار بدور مهم في محاولة قلب الأدوار، فتبدو سميّة في مظهر أقرب إلى الملائكي، وهي تكمل مناسك الحجّ، وتشعر بالعطف الشديد تجاه كل الأطفال الصغار في المكان وهي تبحث عن ولدها، وتلوم نفسها، وتتدرّج شيئاً فشيئاً إلى اعتبار ضياع ابنها رسالة من اللـه، وسرّاَ خفياً يقودها إلى مزيد من التأمل والروحانيات والدوران في المكان والبحث عن الخير المطلق في الاستسلام. أما زوجها فيصل، فهو يبدو على العكس، أقرب إلى مظهر متمرّد، ولأنه يبتعد عن المكان كله بحثاً عن أي وسيلة مساعدة لإيجاد ابنه، ولأنه يلوم زوجته على تقصيرها حين كان الطفل معها أثناء الطواف، فهو ينتقل إلى الجانب الآخر الشرير المقابل للخيّر، "نهض فيصل من مكانه وهمّ يغادر. نظر إلى ساعة يده؛ تسع ساعات على اختفائه. أحس باحتشاد الذعر في صدره. ظلت كلمات الرجل ترتجع في داخله؛ يمكن أن يحدث له أيّ شيء! ترى، ما الذي حدث له خلال تسع ساعات؟ حث خطوه للمغادرة، يريد أن يخرج نافراً إلى شعاب مكة، أن يمشّطها شبراً بعد شبر. ولأوّل مرة وجد نفسه يسأل؛ هل أخطأنا يوم أحضرناه معنا؟"
المحور الثاني هو "روينا" بوصفها نموذجاً من أفراد العصابة التي اختطفت "مشاري" وغيره من الأطفال. إن الرواية تُظهر "روينا" بمظهر القوي الشرير حين تراءى لها أن زعيم العصابة موافق على اختطاف طفل غير أسود البشرة، وأنه سيكون نافعاً ليكون مادة للتفاوض مقابل فدية، لا من أجل الاتجار به وبأعضائه كما هي الحال مع باقي الأطفال. قامت "روينا" باختطاف "مشاري" معتمدة على قوة كلمتها وخدمتها الطويلة في العصابة. ولكن الرواية سرعان ما تُظهر "روينا" على الطرف الآخر، بمظهر الإنسانة الخيّرة التي ترغب في إنقاذ "مشاري" بعد أن اكتشفت أنه بات عبئاً ومسؤولية غير مرغوب بها، ستعيق العصابة أكثر مما تنفعها. إن الرواية قد تُوهم المتلقي بأن روينا شخص يرغب في الخير، ولكن الواقع هو أنها مجرد شخص مستسلم لضعفه، لقد أرادت أن تحتفظ بحق تقرير مصير الطفل، وأن تستهلك آخر ما بقي لديها من سلطة أو قوة بعد أن فقدت حظوتها لدى زعيم العصابة؛ "لماذا لم يأمر بترك الطفل في مكة إذا لم يكن يريده؟ أحست بالدماء تغلي في عروقها وهي تتبيّن حقيقة الأمر؛ لقد خانها جرجس. إنه يريد الطفل، والملايين التي سيجلبها معه، وهو مستعدٌ تماماً لدفع الثمن، الثمن الذي هو روينا نفسها، هي التي أتته بالطفل، والملايين. وفي الوقت الذي بدأ فيه الألم يندحّ من جميع جسدها، صار الأمر أوضح في رأسها أيضاً. لقد استخدمها. كانت الطُّعم والفريسة معاً."
المحور الثالث هو فِرق البحث والإنقاذ، مقابل العصابة وكل ما سيرتبط بها في قارتي آسيا وأفريقيا، الخير مقابل الشرّ، والحياة مقابل الموت. وتبدو هذه المفارقة أكثر وضوحاً في قارة آسيا منها في أفريقيا، ففرق البحث المحلية تجوب عسير وما حولها على بعد ساعات من مكة بحثاً عن الطفل، مقابل العصابة التي تمعن في الاختباء من العالم بأسره، في شروطها الخاصة وأمكنتها الخافية بعيداً عن القوانين: "سارت إلى البيت؛ بيت حجري من طابقين، يشبه هرماً ناقصاً، بجدرانه التي تضيق كلما علت في السماء، ناتئاً في فراغ الوادي، يلفُّه الليل. كان للبيت بابٌ مطلي بالقطران، نوافذ صغيرة مرتفعة، وجدران داخلية مزدانة بنقوش ملوّنة؛ خضراء وحمراء وسوداء. كانت الدّرجات مطلية بالأخضر، وهي تتواتر إلى أعلى باتجاه غرفة الأطفال." أما في أفريقيا، قرب سيناء على وجه التحديد، فإن المعادلة هي نفسها، فرق البحث مقابل بقايا العصابة أو العصابات، ولكن المكونات مختلفة، فيصل وأخوه سعود يقتربان أكثر فأكثر من لب الموضوع، ومن مرتكزات العصابة، وهما يلمسان على أرض الواقع آثار الموت وتُطرح أمامهما مع رجال الشرطة قضايا قاسية كصخور المكان ورماله. ما يشعران به من إهمال وتقصير في أداء مهمة البحث يبعدها عن الخير المطلق، وكذلك فإن وجود شخصية من مثل "هويشل" التائب تُخرج العصابات عن مفهوم الشر المطلق أيضاً، هناك استثناءات واختراقات لكلّ منهما، الموضوع هنا أكثر وضوحاً منه هناك، على الضفة الأخرى للبحر الأحمر.
ثمة محور رابع، هو شخصية "نظام شجاع الدين"، الرجل الذي لا يمكن لمتلقي الرواية التعاطف معه، أو تصنيفه ضمن مظاهر الخير. ففي بيته يتعرض الطفل "مشاري" إلى الانتهاكات الجسدية، ويبدو الرجل في حالة فصام قيمية وأخلاقية، فهو في وادٍ وسلوكه في وادٍ آخر. وكأنّ كل ما يمارسه ينطوي على سلوك يتسم بالتكرار والاعتياد فحسب، مشاهدة التلفاز، العبادة، زراعة الحقل، وحتى هذا الأخير تماهى مع حالة الطفل "مشاري" في حدث أقرب إلى التخييل العجائبي ولكنه ممكن الحدوث، كان الطفل يذبل مريضاً يكاد يموت من الإهمال والعنف، وكذلك الحقل، أصيب بآفة العفن الأبيض وانهارت المحاصيل آخذة بالذبول. "خرج إلى الحقل رائق المزاج. كان للهواء طراوة وإحساس ملحي يحبه، شمس الجنوب ترسل دفئها على الجبال البعيدة. لقد مرّ أسبوعان على زراعة الدخن، واليوم هو موعد التسميد الثاني. أخرج كيس اليوريا من غرفة المؤن. أدخل يده في الكيس وقبض على المادة الحبيبية البيضاء. همّ بنثرها على سطح التربة عندما لمح على سطح وريقات الدّخن بقعاً زغبية. تحسّسها بأصابعه غير مصدّق؛ لا يمكن! عفن؟! ركع بين سيقان المحاصيل يتفحّصها بعينين مذعورتين، قفز راكضاً بين خطوط الدخن والذرة، تفحّص أحواض الخضراوات في زاوية الحقل؛ البصل، الخيار، الخس، البطاطا... كانت مريضة كلّها، رازحة تحت وطأة البقع البيضاء. لقد مات حقله."
الرحلة :
يحمل عنوان الرواية "خرائط التيه" إشارة واضحة ومباشرة إلى مفهوم الرحلة الواسعة التي تحتاج إلى خرائط، ويوحي بالأحداث المتضمنة بما فيها من تيه وضياع. سيكتشف المتلقي أن هذا التيه معنوي أولاً ومادي ثانياً. لقد بدأ التيه منذ السطور الأولى، منذ أن تاه "مشاري" الطفل ذو السنوات السبع، ضائعاً من يد أمه نحو المجهول، بين حشود الحجاح. بينما لم تملك أمه سوى أن تصيح به "امش، امش..." كان واقفاً على قدميه يمشي ويمشي حتى لا يتهاوى بين الكبار، ولكن فُتح له باب قاده إلى رحلة تهاوى فيها فعلاً، في السيارة، وفي مقرّ العصابة، وفي بيت الرجل الغريب، وفي الكهف.
من هذا المنطلق، صاغت بثينة العيسى رحلة روايتها بأسلوب يقترب من البوليسي في تشويقه، وكونه حافلاً بالمفاجآت، يحمل الجديد من دون أن يكشف كل شيء، وفي الوقت نفسه تقود فنية اللغة العمل نحو التوازن بين الوصف والحوار.
تتوزع الرحلة بين قارتين، آسيا وأفريقيا، ففي الأولى قارة آسيا، ثمة أنواع من الارتحال، السفر من الكويت إلى مكة للحجّ، في مكة يكتشف فيصل وسمية كم أن فكرة اصطحاب طفلهما كانت مسؤولية جسيمة، يدفعان الآن ثمن أحد احتمالاتها: الضياع، الذي يعقبه القلق والخوف والأرق ثم الرعب. إن النفس الإنسانية تتكشّف على نحو متدرج في مخاوفها وتراوحها بين الخيبة والرجاء وبين اليأس والأمل، وتتحول هذه المخاوف لدى سمية إلى الاستسلام والبحث عن اللـه في كل ما تجده أمامها، وتقترب من مفاهيم التصوف حين تتوسع نفسها وتلغي إرادتها المنفردة، في سبيل هدف بعيد جداً، حين يبدو لها كل من حولها من الأطفال شبيهين بطفلها "مشاري"، وحين يبدو لها كل حاج أو شيخ أو موظف غريباً تماماً، ما دام لا يمت بصلة إلى هدفها في التقرب من اللـه وتلقّي أي رسالة روحية تعينها على التفكير بابنها. وفي مكّة أيضاً ينفعل فيصل على نحو مختلف مع ضياع ابنه، هذه الرحلة كانت بداية لاعتلال صحته، الثمن الذي يدفعه مقابل فضوله وشجاعته في مواجهة أسوأ الاحتمالات، إنه بطل من نوع ما، ولكن البطولة لا تنسجم مع تسلل الضعف الجسدي إليه، لذلك كان لا بد من انضمام شخصين آخرين إلى الرحلة، وهما أخوه "سعود" الذي جاء من الكويت، و"مازن" صديق أخيه الذي جاء من مدينة "جدة". وفيما بعد ستكون الرحلة من نصيب بعض الأقرباء والمعارف الذين أخذوا في البحث عن "مشاري"، وكذلك والدته "سمية" التي ستبقى في أبها لفترة من الوقت.
النصيب الأكبر من هذه الرحلة كان للطفل "مشاري"، لم تكن رحلة سياحة، أو نزهة برفقة والديه، بل تحولت إلى سكون وجمود في المكان، لقد وقع "مشاري" في مستنقع، والرواية تصوّر بدقة متناهية ما كابده من عذاب وإرهاق ومرض ومشارفة على الموت، وكان الأشد إيلاماً ووجعاً هو تمكّن الرعب من "مشاري" وهو يخوض خبرات لا عهد له بها، تجرّه بعيداً عن عالم الطفولة، العالم الوحيد الذي يعرفه. وصفحات الرواية تقرّب هذا الإحساس إلى المتلقي بكونه رابطاً بين "مشاري" من جهة، وعمّه "سعود" من جهة أخرى، فمشاري في مكان مظلم، ليس وحيداً دائماً، ولكنه محاط بما يجعله فريسة ومجرد مادة للصيد، أما عمّه فيتصفّح صوره على هاتفه الذكي، ويستذكر مشاهدتهما لأفلام السينما ونزهاتهما بالسيارة وكيف كانت أمه توصيه به وتحرص على سلامته. كان "مشاري" يحب مشاهدة فيلم "الرجل الوطواط" والوطاويط الصغيرة والسيارات، أما الآن، فقد صارت السيارة كابوساً حين وُضع "مشاري" في مخزنها في الظلام، وصارت الوطاويط كائنات حقيقية تهدده داخل الكهف بعد أن ينقضي الغروب ويزول نور النهار، فيا لها من رحلة، ويا له من شاطئ بحر ومزرعة وبيت مخيف، كلها تشبه السيارة منطلق الرحلة، والكهف الذي كان قريباً من نهايتها. كان مشاري يهرب من خطر ليقع في خطر آخر في عالم يغتال الطفولة، كان ذاك الرجل قد "تراجع إلى الخلف حبواً، يخاف إن رفع رأسه أن يصطدم بوطواطٍ لعين. رفع الصبي وجهه ينظر إلى الوطاويط ويصرخ مذعوراً. غادر الكهف، وخرجت بعض الوطاويط معه. أخذ يعدو خبباً، نزولاً إلى الوادي، حيث سيّارته. أطلق قدميه للركض، وخيّل إليه مع كلّ خطوة تأخذه أبعد أن الوطاويط تتبعه. عندما ابتعد كفاية ورأى أنه بات بعيداً، بين شجيرات العرعر، يلهث. تناهى إليه صراخ الصغير."
أما الرحلة في جزئها الثاني، في قارة أفريقيا، حيث سافر فيصل وأخوه سعود بحثاً عن آثار المهربين الذين قيل لهما إنهم عبروا البحر الأحمر إلى سيناء، فهي تصوّر الغريق الذي يتعلّق بقشة؛ كان لدى "فيصل" بقية من أمل، ولكنه صار يرجو مجرد العثور على بقية من ابنه. إن تفكير المتلقي هنا قد يبقى معلّقاً بما يجري هناك، في قارة آسيا، حيث سميّة تنتظر بأمل غريب أن تستيقظ "روينا" إحدى أفراد العصابة، في المستشفى، وتتعافى من إصاباتها البليغة. ولكن المتلقي نفسه يبقى مشدوداً أيضاً لما يجري مع الأخوين في سيناء، وإلى أين يمكن أن يصل المدى العجيب لهذه الرحلة. وتتميز رحلة قارة آسيا بجودة الوصف وبدقّته، لإظهار قسوة المناطق الجبلية ووحشتها وأحجارها الداكنة وغموضها حتى على ساكنيها، كأنها عالم قائم بذاته وبكهوفه ودروبه القليلة وذئابه وخفافيشه، "أرسل فيصل عينيه في المكان، خضرته الكابية والسفوح التي تلفّه من كل ناحية. نظر إلى أخيه... سار في الجوار، تمسح عيناه السفوح، الأرض الترابية، شجيرات السرو وشتلات الريحان النابتة بين الصخور. رفع عينيه إلى السماء. الشمس توشك أن تغيب. رأى طائراً أسود يخطف بجناحيه. ليس غراباً، هل يمكن أن يكون وطواطا؟ ثمة ما ينغزه في قلبه. رمق شقيقه بطرف عينه، يجلس على ركامٍ حجري ويهمّ بإشعال سيجارة." ثم يأتي الوصف في سيناء والعريش وقبلها شرم الشيخ ليكمل على الشخصيات إحساس الغرابة والمزيد من العجز أمام البشر المتخفين بالعوائق الطبيعية إلى جانب فساد البشر أنفسهم. "بزغت الجبال الصخرية على اليمين، غاب البحر وجاءت الصحراء. لمح فيصل فتى يرعى عدداً من الإبل... عبروا مجموعة من المنتجعات، مروراً بمدينة طابا. ثم اختفى البحر، وجاءت الرمال. صحراء مترامية تملأ العين، رأى في أطرافها سلسلة هضاب. أشار إليها المحقق؛ هذا جبل الحلال. نظر الأخوان إلى الجبل. أردف؛ الحلال عند البدو يعني الغنم. قطّب سعود: خليج نعمة، ميناء نويبع، جبل الحلال... هل نبدو لك كالسيّاح؟!" ثمة شاطئ، ثم صحراء منبسطة، ثم كهوف من جديد، وحُفر، ومنشآت بشرية ومؤسسات تنطوي على كثير من الحيرة التي يصعب معها اتخاذ أي قرار إيجابي، بل يسهل التخاذل والانسياق وراء الغضب والشك وتهاوي القوة كما حصل مع فيصل.
لقد أتاحت الرحلة لجميع الشخصيات أن تتغير، وما بعد الرحلة، مختلف عما كان قبلها، والهدف الوحيد لديهم هو "مشاري"، جعلت الرحلة العمّ "سعود" يكتشف في نفسه القدرة على التطوع في سبيل الآخرين، ولاحقاً القدرة على تحمّل المسؤولية الفعلية برعاية طفل، أما "فيصل" و"سمية" فقد نالت منهما أحداث الرحلة، أو الرحلات، بتغيرات متوقّعة ولكنها صادمة جداً وقاسية لمن يقع تحت ضغط الخوف والرعب في فترة محدودة جداً، خلال بضعة أيام، وكذلك يشرّع الباب أمام تغيرات "مشاري"، فلم يعد أي شيء مطلقاً كما كان.
* نشر المقال في موقع ميدل إيست أونلاين ـ الأربعاء 27 كانون الثاني/ يناير 2016
http://www.middle-east-online.com/?id...
خرائط التيه
قراءة في رواية بثينة العيسى
بقلم: د.علياء الداية
"إذا تركت يد أمك، فسيأتي الغول ويأخذك". هذا ما كان يجب أن يقال للطفل الصغير "مشاري"، فما حصل في هذه الرواية هو أن "مشاري" الذي ترك يد أمه وقع فريسة الغيلان البشرية، التي انتهزت الفرصة واقتادته بعيداً، بعيداً جداً.
منذ بداية الرواية تطالعنا كلمة "التيه" بوضوح من خلال الافتتاحية التي اختارتها بثينة العيسى، حيث بيت أبي تمّام:
"تاهت على صورة الأشياء صورتُه / حتى إذا كملت تاهت على التيهِ".
لقد حافظت الروائية الكويتية بثينة العيسى على كلاسيكيات السرد في الرواية، من التوالي الزمني للأحداث، ومركزية الشخصيات، ومنطقية الاستنتاجات. ولكنها طوّرت موضوعها الروائي، فاحتفظت بما ورد في أعمال روائية سابقة من سمات معاناة الفقد كما في "عائشة تنزل إلى العالم السفلي"، وبطولة الأطفال كما في "تحت أقدام الأمهات"، وحيرة المرأة تجاه مجتمعها كما في "عروس المطر" و"سعار" و"كبرت ونسيت أن أنسى"، واختلافات الرأي والفكر كما في "ارتطام لم يسمع له دوي"، ومزجت هذه السمات تاركةً للموضوع الأساسي أن يتّخذ أبعاده بأقصى ما يمكن. امتداد المكان ليغطي أجزاء واسعة من قارتين، واحتشاد الزمن، فكل دقيقة منه عبارة عن معاناة قائمة وكل ساعة هي مخزون من الانفعالات "الزمن ليس حليفاً لك. الزمن هو العدوّ. كيف يمكنك أن توقف تدفّق هذا النهر الأبدي الذي يسمونه الزمن؟ إنه يجري بعيداً، بعيداً صوب الاحتمالات المؤسفة." أما الشخصيات فهي مختبر لتفاعل مع أزمات نفسية وفكرية تشرع أسئلة الوجود. تحافظ بثينة على ملمح من أسلوبها في تقسيم الرواية إلى فصول كثيرة، تحمل عناوين مستقلة، ويحمل العديد من صفحاتها تحديداً لتاريخ اليوم والساعة التي يجري فيها الحدث، إمعاناً في إشراك المتلقي ليعيش مع الشخصية دقائق التفاصيل وقتياً.
الخير والشرّ :
تقدّم لنا الرواية الأحداث منذ البداية بتقنية الراوي العليم، وهذا ما يضع تحدياً في الوقت نفسه أمام الرواية في إيجاد بيئة تشويق للمتلقي، فهو لا يتابع ما يجري فقط، بل ينظر إليه ويفكّر معه "كيف" يجري، إنه عملياً متورّط مع الشخصيات، ومن الصعوبة بمكان أن يقف موقف القاضي، مع أنه يعلم مسبقاً ما حصل، وليس أمامه سوى مشاهدة مواقف الشخصيات وانفعالها ودهشتها.
تظهر جدلية الخير والشرّ في أكثر من محور في هذه الرواية "خرائط التيه"، المحور الأول هو سميّة وزوجها فيصل، ففي البداية يبدو وكأنّ فيصل هو الجانب الخيّر، الذي يسعى للسؤال والبحث عن ابنه الذي اختفى في الحرم المكي، أثناء موسم الحج، في حين تكون سميّة قليلة الحيلة، منصرفة إلى البكاء والحزن. ولكن مع تقادم الساعات فالأيام، يقوم الحوار بدور مهم في محاولة قلب الأدوار، فتبدو سميّة في مظهر أقرب إلى الملائكي، وهي تكمل مناسك الحجّ، وتشعر بالعطف الشديد تجاه كل الأطفال الصغار في المكان وهي تبحث عن ولدها، وتلوم نفسها، وتتدرّج شيئاً فشيئاً إلى اعتبار ضياع ابنها رسالة من اللـه، وسرّاَ خفياً يقودها إلى مزيد من التأمل والروحانيات والدوران في المكان والبحث عن الخير المطلق في الاستسلام. أما زوجها فيصل، فهو يبدو على العكس، أقرب إلى مظهر متمرّد، ولأنه يبتعد عن المكان كله بحثاً عن أي وسيلة مساعدة لإيجاد ابنه، ولأنه يلوم زوجته على تقصيرها حين كان الطفل معها أثناء الطواف، فهو ينتقل إلى الجانب الآخر الشرير المقابل للخيّر، "نهض فيصل من مكانه وهمّ يغادر. نظر إلى ساعة يده؛ تسع ساعات على اختفائه. أحس باحتشاد الذعر في صدره. ظلت كلمات الرجل ترتجع في داخله؛ يمكن أن يحدث له أيّ شيء! ترى، ما الذي حدث له خلال تسع ساعات؟ حث خطوه للمغادرة، يريد أن يخرج نافراً إلى شعاب مكة، أن يمشّطها شبراً بعد شبر. ولأوّل مرة وجد نفسه يسأل؛ هل أخطأنا يوم أحضرناه معنا؟"
المحور الثاني هو "روينا" بوصفها نموذجاً من أفراد العصابة التي اختطفت "مشاري" وغيره من الأطفال. إن الرواية تُظهر "روينا" بمظهر القوي الشرير حين تراءى لها أن زعيم العصابة موافق على اختطاف طفل غير أسود البشرة، وأنه سيكون نافعاً ليكون مادة للتفاوض مقابل فدية، لا من أجل الاتجار به وبأعضائه كما هي الحال مع باقي الأطفال. قامت "روينا" باختطاف "مشاري" معتمدة على قوة كلمتها وخدمتها الطويلة في العصابة. ولكن الرواية سرعان ما تُظهر "روينا" على الطرف الآخر، بمظهر الإنسانة الخيّرة التي ترغب في إنقاذ "مشاري" بعد أن اكتشفت أنه بات عبئاً ومسؤولية غير مرغوب بها، ستعيق العصابة أكثر مما تنفعها. إن الرواية قد تُوهم المتلقي بأن روينا شخص يرغب في الخير، ولكن الواقع هو أنها مجرد شخص مستسلم لضعفه، لقد أرادت أن تحتفظ بحق تقرير مصير الطفل، وأن تستهلك آخر ما بقي لديها من سلطة أو قوة بعد أن فقدت حظوتها لدى زعيم العصابة؛ "لماذا لم يأمر بترك الطفل في مكة إذا لم يكن يريده؟ أحست بالدماء تغلي في عروقها وهي تتبيّن حقيقة الأمر؛ لقد خانها جرجس. إنه يريد الطفل، والملايين التي سيجلبها معه، وهو مستعدٌ تماماً لدفع الثمن، الثمن الذي هو روينا نفسها، هي التي أتته بالطفل، والملايين. وفي الوقت الذي بدأ فيه الألم يندحّ من جميع جسدها، صار الأمر أوضح في رأسها أيضاً. لقد استخدمها. كانت الطُّعم والفريسة معاً."
المحور الثالث هو فِرق البحث والإنقاذ، مقابل العصابة وكل ما سيرتبط بها في قارتي آسيا وأفريقيا، الخير مقابل الشرّ، والحياة مقابل الموت. وتبدو هذه المفارقة أكثر وضوحاً في قارة آسيا منها في أفريقيا، ففرق البحث المحلية تجوب عسير وما حولها على بعد ساعات من مكة بحثاً عن الطفل، مقابل العصابة التي تمعن في الاختباء من العالم بأسره، في شروطها الخاصة وأمكنتها الخافية بعيداً عن القوانين: "سارت إلى البيت؛ بيت حجري من طابقين، يشبه هرماً ناقصاً، بجدرانه التي تضيق كلما علت في السماء، ناتئاً في فراغ الوادي، يلفُّه الليل. كان للبيت بابٌ مطلي بالقطران، نوافذ صغيرة مرتفعة، وجدران داخلية مزدانة بنقوش ملوّنة؛ خضراء وحمراء وسوداء. كانت الدّرجات مطلية بالأخضر، وهي تتواتر إلى أعلى باتجاه غرفة الأطفال." أما في أفريقيا، قرب سيناء على وجه التحديد، فإن المعادلة هي نفسها، فرق البحث مقابل بقايا العصابة أو العصابات، ولكن المكونات مختلفة، فيصل وأخوه سعود يقتربان أكثر فأكثر من لب الموضوع، ومن مرتكزات العصابة، وهما يلمسان على أرض الواقع آثار الموت وتُطرح أمامهما مع رجال الشرطة قضايا قاسية كصخور المكان ورماله. ما يشعران به من إهمال وتقصير في أداء مهمة البحث يبعدها عن الخير المطلق، وكذلك فإن وجود شخصية من مثل "هويشل" التائب تُخرج العصابات عن مفهوم الشر المطلق أيضاً، هناك استثناءات واختراقات لكلّ منهما، الموضوع هنا أكثر وضوحاً منه هناك، على الضفة الأخرى للبحر الأحمر.
ثمة محور رابع، هو شخصية "نظام شجاع الدين"، الرجل الذي لا يمكن لمتلقي الرواية التعاطف معه، أو تصنيفه ضمن مظاهر الخير. ففي بيته يتعرض الطفل "مشاري" إلى الانتهاكات الجسدية، ويبدو الرجل في حالة فصام قيمية وأخلاقية، فهو في وادٍ وسلوكه في وادٍ آخر. وكأنّ كل ما يمارسه ينطوي على سلوك يتسم بالتكرار والاعتياد فحسب، مشاهدة التلفاز، العبادة، زراعة الحقل، وحتى هذا الأخير تماهى مع حالة الطفل "مشاري" في حدث أقرب إلى التخييل العجائبي ولكنه ممكن الحدوث، كان الطفل يذبل مريضاً يكاد يموت من الإهمال والعنف، وكذلك الحقل، أصيب بآفة العفن الأبيض وانهارت المحاصيل آخذة بالذبول. "خرج إلى الحقل رائق المزاج. كان للهواء طراوة وإحساس ملحي يحبه، شمس الجنوب ترسل دفئها على الجبال البعيدة. لقد مرّ أسبوعان على زراعة الدخن، واليوم هو موعد التسميد الثاني. أخرج كيس اليوريا من غرفة المؤن. أدخل يده في الكيس وقبض على المادة الحبيبية البيضاء. همّ بنثرها على سطح التربة عندما لمح على سطح وريقات الدّخن بقعاً زغبية. تحسّسها بأصابعه غير مصدّق؛ لا يمكن! عفن؟! ركع بين سيقان المحاصيل يتفحّصها بعينين مذعورتين، قفز راكضاً بين خطوط الدخن والذرة، تفحّص أحواض الخضراوات في زاوية الحقل؛ البصل، الخيار، الخس، البطاطا... كانت مريضة كلّها، رازحة تحت وطأة البقع البيضاء. لقد مات حقله."
الرحلة :
يحمل عنوان الرواية "خرائط التيه" إشارة واضحة ومباشرة إلى مفهوم الرحلة الواسعة التي تحتاج إلى خرائط، ويوحي بالأحداث المتضمنة بما فيها من تيه وضياع. سيكتشف المتلقي أن هذا التيه معنوي أولاً ومادي ثانياً. لقد بدأ التيه منذ السطور الأولى، منذ أن تاه "مشاري" الطفل ذو السنوات السبع، ضائعاً من يد أمه نحو المجهول، بين حشود الحجاح. بينما لم تملك أمه سوى أن تصيح به "امش، امش..." كان واقفاً على قدميه يمشي ويمشي حتى لا يتهاوى بين الكبار، ولكن فُتح له باب قاده إلى رحلة تهاوى فيها فعلاً، في السيارة، وفي مقرّ العصابة، وفي بيت الرجل الغريب، وفي الكهف.
من هذا المنطلق، صاغت بثينة العيسى رحلة روايتها بأسلوب يقترب من البوليسي في تشويقه، وكونه حافلاً بالمفاجآت، يحمل الجديد من دون أن يكشف كل شيء، وفي الوقت نفسه تقود فنية اللغة العمل نحو التوازن بين الوصف والحوار.
تتوزع الرحلة بين قارتين، آسيا وأفريقيا، ففي الأولى قارة آسيا، ثمة أنواع من الارتحال، السفر من الكويت إلى مكة للحجّ، في مكة يكتشف فيصل وسمية كم أن فكرة اصطحاب طفلهما كانت مسؤولية جسيمة، يدفعان الآن ثمن أحد احتمالاتها: الضياع، الذي يعقبه القلق والخوف والأرق ثم الرعب. إن النفس الإنسانية تتكشّف على نحو متدرج في مخاوفها وتراوحها بين الخيبة والرجاء وبين اليأس والأمل، وتتحول هذه المخاوف لدى سمية إلى الاستسلام والبحث عن اللـه في كل ما تجده أمامها، وتقترب من مفاهيم التصوف حين تتوسع نفسها وتلغي إرادتها المنفردة، في سبيل هدف بعيد جداً، حين يبدو لها كل من حولها من الأطفال شبيهين بطفلها "مشاري"، وحين يبدو لها كل حاج أو شيخ أو موظف غريباً تماماً، ما دام لا يمت بصلة إلى هدفها في التقرب من اللـه وتلقّي أي رسالة روحية تعينها على التفكير بابنها. وفي مكّة أيضاً ينفعل فيصل على نحو مختلف مع ضياع ابنه، هذه الرحلة كانت بداية لاعتلال صحته، الثمن الذي يدفعه مقابل فضوله وشجاعته في مواجهة أسوأ الاحتمالات، إنه بطل من نوع ما، ولكن البطولة لا تنسجم مع تسلل الضعف الجسدي إليه، لذلك كان لا بد من انضمام شخصين آخرين إلى الرحلة، وهما أخوه "سعود" الذي جاء من الكويت، و"مازن" صديق أخيه الذي جاء من مدينة "جدة". وفيما بعد ستكون الرحلة من نصيب بعض الأقرباء والمعارف الذين أخذوا في البحث عن "مشاري"، وكذلك والدته "سمية" التي ستبقى في أبها لفترة من الوقت.
النصيب الأكبر من هذه الرحلة كان للطفل "مشاري"، لم تكن رحلة سياحة، أو نزهة برفقة والديه، بل تحولت إلى سكون وجمود في المكان، لقد وقع "مشاري" في مستنقع، والرواية تصوّر بدقة متناهية ما كابده من عذاب وإرهاق ومرض ومشارفة على الموت، وكان الأشد إيلاماً ووجعاً هو تمكّن الرعب من "مشاري" وهو يخوض خبرات لا عهد له بها، تجرّه بعيداً عن عالم الطفولة، العالم الوحيد الذي يعرفه. وصفحات الرواية تقرّب هذا الإحساس إلى المتلقي بكونه رابطاً بين "مشاري" من جهة، وعمّه "سعود" من جهة أخرى، فمشاري في مكان مظلم، ليس وحيداً دائماً، ولكنه محاط بما يجعله فريسة ومجرد مادة للصيد، أما عمّه فيتصفّح صوره على هاتفه الذكي، ويستذكر مشاهدتهما لأفلام السينما ونزهاتهما بالسيارة وكيف كانت أمه توصيه به وتحرص على سلامته. كان "مشاري" يحب مشاهدة فيلم "الرجل الوطواط" والوطاويط الصغيرة والسيارات، أما الآن، فقد صارت السيارة كابوساً حين وُضع "مشاري" في مخزنها في الظلام، وصارت الوطاويط كائنات حقيقية تهدده داخل الكهف بعد أن ينقضي الغروب ويزول نور النهار، فيا لها من رحلة، ويا له من شاطئ بحر ومزرعة وبيت مخيف، كلها تشبه السيارة منطلق الرحلة، والكهف الذي كان قريباً من نهايتها. كان مشاري يهرب من خطر ليقع في خطر آخر في عالم يغتال الطفولة، كان ذاك الرجل قد "تراجع إلى الخلف حبواً، يخاف إن رفع رأسه أن يصطدم بوطواطٍ لعين. رفع الصبي وجهه ينظر إلى الوطاويط ويصرخ مذعوراً. غادر الكهف، وخرجت بعض الوطاويط معه. أخذ يعدو خبباً، نزولاً إلى الوادي، حيث سيّارته. أطلق قدميه للركض، وخيّل إليه مع كلّ خطوة تأخذه أبعد أن الوطاويط تتبعه. عندما ابتعد كفاية ورأى أنه بات بعيداً، بين شجيرات العرعر، يلهث. تناهى إليه صراخ الصغير."
أما الرحلة في جزئها الثاني، في قارة أفريقيا، حيث سافر فيصل وأخوه سعود بحثاً عن آثار المهربين الذين قيل لهما إنهم عبروا البحر الأحمر إلى سيناء، فهي تصوّر الغريق الذي يتعلّق بقشة؛ كان لدى "فيصل" بقية من أمل، ولكنه صار يرجو مجرد العثور على بقية من ابنه. إن تفكير المتلقي هنا قد يبقى معلّقاً بما يجري هناك، في قارة آسيا، حيث سميّة تنتظر بأمل غريب أن تستيقظ "روينا" إحدى أفراد العصابة، في المستشفى، وتتعافى من إصاباتها البليغة. ولكن المتلقي نفسه يبقى مشدوداً أيضاً لما يجري مع الأخوين في سيناء، وإلى أين يمكن أن يصل المدى العجيب لهذه الرحلة. وتتميز رحلة قارة آسيا بجودة الوصف وبدقّته، لإظهار قسوة المناطق الجبلية ووحشتها وأحجارها الداكنة وغموضها حتى على ساكنيها، كأنها عالم قائم بذاته وبكهوفه ودروبه القليلة وذئابه وخفافيشه، "أرسل فيصل عينيه في المكان، خضرته الكابية والسفوح التي تلفّه من كل ناحية. نظر إلى أخيه... سار في الجوار، تمسح عيناه السفوح، الأرض الترابية، شجيرات السرو وشتلات الريحان النابتة بين الصخور. رفع عينيه إلى السماء. الشمس توشك أن تغيب. رأى طائراً أسود يخطف بجناحيه. ليس غراباً، هل يمكن أن يكون وطواطا؟ ثمة ما ينغزه في قلبه. رمق شقيقه بطرف عينه، يجلس على ركامٍ حجري ويهمّ بإشعال سيجارة." ثم يأتي الوصف في سيناء والعريش وقبلها شرم الشيخ ليكمل على الشخصيات إحساس الغرابة والمزيد من العجز أمام البشر المتخفين بالعوائق الطبيعية إلى جانب فساد البشر أنفسهم. "بزغت الجبال الصخرية على اليمين، غاب البحر وجاءت الصحراء. لمح فيصل فتى يرعى عدداً من الإبل... عبروا مجموعة من المنتجعات، مروراً بمدينة طابا. ثم اختفى البحر، وجاءت الرمال. صحراء مترامية تملأ العين، رأى في أطرافها سلسلة هضاب. أشار إليها المحقق؛ هذا جبل الحلال. نظر الأخوان إلى الجبل. أردف؛ الحلال عند البدو يعني الغنم. قطّب سعود: خليج نعمة، ميناء نويبع، جبل الحلال... هل نبدو لك كالسيّاح؟!" ثمة شاطئ، ثم صحراء منبسطة، ثم كهوف من جديد، وحُفر، ومنشآت بشرية ومؤسسات تنطوي على كثير من الحيرة التي يصعب معها اتخاذ أي قرار إيجابي، بل يسهل التخاذل والانسياق وراء الغضب والشك وتهاوي القوة كما حصل مع فيصل.
لقد أتاحت الرحلة لجميع الشخصيات أن تتغير، وما بعد الرحلة، مختلف عما كان قبلها، والهدف الوحيد لديهم هو "مشاري"، جعلت الرحلة العمّ "سعود" يكتشف في نفسه القدرة على التطوع في سبيل الآخرين، ولاحقاً القدرة على تحمّل المسؤولية الفعلية برعاية طفل، أما "فيصل" و"سمية" فقد نالت منهما أحداث الرحلة، أو الرحلات، بتغيرات متوقّعة ولكنها صادمة جداً وقاسية لمن يقع تحت ضغط الخوف والرعب في فترة محدودة جداً، خلال بضعة أيام، وكذلك يشرّع الباب أمام تغيرات "مشاري"، فلم يعد أي شيء مطلقاً كما كان.
* نشر المقال في موقع ميدل إيست أونلاين ـ الأربعاء 27 كانون الثاني/ يناير 2016
http://www.middle-east-online.com/?id...
خرائط التيه
Published on January 31, 2016 14:01
علياء الداية's Blog
- علياء الداية's profile
- 778 followers
علياء الداية isn't a Goodreads Author
(yet),
but they
do have a blog,
so here are some recent posts imported from
their feed.
