الطريق إلى كوكب كبلر

الطريق إلى كوكب كبلر

قصة : علياء الداية

نظرت العرافة في فنجاني وقالت: "أمامك بحر كبير، لن تضيع فيه ولكن احذر من الطريق". كان هذا قبل زمن طويل، حين كان مشروع "المريخ واحد" (مارس ون) هو المشروع الفضائي الرائد لتوطين بعض البشر على كوكب المريخ. ولكنني وفريق العمل سبقنا ذلك المشروع.


كنا نتدرب في مؤسسة الفضاء على الرحيل إلى كوكب كبلر452 ، هذا الكوكب الذي تم الحديث عنه علنياً في نشرات الأخبار وإعلان اكتشافه عام 2015. عرف الناس بأنه شبيه بالأرض، وأن له صفات مختلفة من حيث الجاذبية والتعرض للشمس، ولكننا كنا نعرف ما لم يعلن للناس، وكنا نتهيأ للرحيل إليه نهائياً، فهو يحقق جزءاً من طموحات البشر.


لم أستطع التخلص من حلم مزعج كان يراودني من حين لآخر، في هذا الحلم كنت أرى طفلاً يشبهني، يركض وهو يحمل علماً غريباً بيد، وباليد الأخرى يمسك بصفارة من منتصفها، طرفها في فمه والآخر ينتهي بقطعة ورقية تتمدد وتنكمش مع الصفير الاحتفالي الاستفزازي المزعج. وفي الساحة نفسها التي يقف فيها الطفل، كان بضعة أشخاص يدفنون مكوكاً فضائياً جزء منه لامع، والآخر مكسّر محطّم، من الواضح أنه غير صالح للاستخدام من جديد. كنت أتساءل في كل مرة أشاهد فيها هذا الحلم: "لم لا يصلحونه؟" وأكاد أدخل إلى الحلم للحديث معهم، لكنني كنت معزولاً، وأشارف على الاستيقاظ.


خضعنا لفحوص طبية كثيرة، واختبارات للياقة البدنية في مؤسسة الفضاء، وفي كل اختبار للعيون كان التساؤل الطفولي نفسه يراودني: "لماذا صورة المنطاد على الطرف الآخر من جهاز الفحص؟ لماذا لا يكون مكوكاً فضائياً مثلاً؟ وأتذكر الحلم المزعج فأتكدّر وأشعر بالرضا لأنه منطاد."


في اليوم المقرر، كنا عشرين من الرجال والنساء، متطوعين ورواد فضاء. دخلنا إلى مركبة الفضاء، كنت حتى اللحظات الأخيرة قبل الدخول إليها أتمنى لو تكون منطاداً ملوناً. حملنا معنا كل ما يلزم: الحبوب المُطورة، التي أَطلقتُ عليها "الحبوب السحرية" هذه التسمية التي راجت بين أصدقائي، والأجهزة الإلكترونية، والملابس بحسب ما سيتلاءم مع حالة كل منا، والمسحوق الذي يجعلنا نختفي عن الأنظار.


الطريق إلى كوكب كبلر452 كان أطول مما توقعت، مع اللحظات الأولى لانطلاق الصاروخ، ثم مع انفصال مكوكنا عنه، كنت أغالب شعور الحنين إلى كوكب الأرض، الذي أعلم بأني لن أراه مجدداً. كان فريقنا يعرف بأن فرص الحياة صارت شحيحة على الأرض، ستستمر موجات غزونا لكوكب كبلر452، إلى أن نستقر فيه بشكل كامل، ويصبح نسخة مطورة أو متغيرة عن كوكب الأرض. الأرض مهددة بتغيرات مناخية ستعيد عصر الجليد، ومع الفناء التدريجي للبشر، ستقضي على ما تبقى منهم مجموعة من الديناصورات المخيفة المتطورة لتعيش في المناطق الجليدية. فبما يشبه المصادفة، سيمر نيزك بجانب الأرض بشكل يخيّل للناس أنه سيصطدم بها، ومع هذا القرب سيقوم بعض الغزاة الذين يتشبثون بالنيزك بإطلاق عدة مكوكات تحمل هذه الديناصورات وتنشرها في كوكب الأرض. سيعود النيزك بهؤﻻء الغزاة إلى كوكبهم، قبل أن تدمر الديناصوراتُ ما تبقّى من البشر ويخلو المكان تماماً.


البشر الآن يحلمون بنقل الحياة إلى كوكب كبلر452، ولكن المشكلة هي أن الحياة ستكون بشروط كوكب كبلر452 نفسه، ويحلمون أيضاً بأن يعيشوا بسلام، وهم يرون بأن صلاحية أهالي كوكب كبلر452 قد انتهت، وأن من حق أهالي كوكب الأرض أن يرِثوا كوكب كبلر452 منذ الأيام الأولى لهبوطهم على سطحه.


في المكوك، تجرعتُ ملعقة من شراب يقضي على دوار الفضاء، ولكني استمررت في الشعور بعدم الاستقرار، وبشيء من الشك. ماذا لو أخفقت الرحلة، وضِعنا في الكون الواسع، هل سنجد "كبلر" آخر؟ تغلبت حساباتنا المتطورة على مشكلة السنوات الضوئية الألف والأربعمئة التي تفصل بيننا وبين الكوكب، وبقيت نصف ساعة كي نصل بسلام.
كنت أشعر بتأنيب الضمير على ما ننوي فعله في كوكب كبلر452، ولكن زميلي "بسام" لم يكن كذلك، بل إنه توّاق لما وصفه بالاندماج في حياة أحد أهالي الكوكب.


كان الزملاء المسافرون ملوا من التوافد على نافذة المكوك الوحيدة، لذا فقد فرغ المجال لي وحدي، وللحظةٍ، رأيت الفضاء ـ بمعنى الكلمة ـ وكأنه بحر كبير ليست له نهاية... " أمامك بحر كبير، لن تضيع فيه ولكن احذر من الطريق"! هل هذا هو البحر المقصود؟ ولماذا أحذر من الطريق؟ كنت قادراً على رؤية هذا البحر من كوكب الأرض، كان أمامي، ولكني الآن أستخدمه بوصفه طريقاً إلى... كبلر452.


"انظروا، ها هي ذي الأرض تظهر من بعيد، ظننت أننا تخطيناها". اقترب مني بسّام، نظر من النافذة ثم قال: "أنا ﻻ أرى شيئاً، لعلك تتخيل يا صديقي، خذ ملعقة ثانية من الدواء".
هذا غريب، كانت الأرض تظهر ثم تختفي، هل يعقل أنني أراها وحدي؟ خطر في بالي أنني في الجزء المعطوب من المكوك، الذي سيتم ردمه مع الجزء اللامع كما رأيته في الحلم المزعج القديم. وعاد طفل الحلم إلى القفز في مخيلتي مع العلم الغريب وصفارته، كان هذه المرة يشبه مهرجاً سمجاً.
"أما زلت نائماً، استيقظ! ها قد وصلنا." أحدهم يوقظني وقد وصلنا بالفعل إلى كوكب كبلر452.


نزلنا من المكوك، في منطقة صحراوية، كانت الواحات تحيط بنا من كل الجوانب، "ليس علينا سوى الاختيار." هذا ما قلته فأجابني أحد رواد الفضاء: "ماذا ستختار؟ لقد حددنا لك الشخص الذي ستندمج فيه، لا يمكنك الاختيار أو التراجع". نظرت إليه بدهشة: "لم أقصد هذا الأمر، أنا ملتزم بما جئنا من أجله، أقصد اختيار إحدى هذه الواحات للاستراحة فيها قبل المهمة." همهم بعض الرواد وقال لي الرائد المشرف بنفسه: "ليست هناك سوى واحة واحدة. هل أنت مريض؟". اقترب زميلي بسّام بسرعة، وهو يربت على كتفي: "إنه كثير المزاح، كان يمزح معي في المكوك ويزعم أنه يرى كوكب الأرض... إنه محبّ للفكاهة فحسب، كأنكم لا تعرفونه!". أنقذني بسّام، تبادلنا النظرات المشجعة، وتوجهنا إلى الواحة.


تناولنا وجبة من الطعام، واسترحنا قليلاً، ثم رشّ كل منا على نفسه مسحوق الاختفاء، سيمكننا مفعوله من الاختفاء عن أنظار أهل الكوكب لمدة أقصاها أربع وعشرون ساعة، ولكننا سنبقى مرئيين لبعضنا بعضاً. يجب إتمام المهمة كاملة خلال هذه المدة. أما المهمة التي كنا نعرفها وجئنا من أجلها فهي الحلول في أجساد أهالي الكوكب. قام فريق العلماء بدراسة الكوكب وسكّانه، وحددوا لكلّ منا شخصاً سيقوم بالتماهي معه. أحدنا سيندمج في شخص رجل كهل، والآخر في شخص طفل، أو فتاة، أو شيخ هرم. المهم في الموضوع هو أن أهالي كوكب كبلر452 خالدون. أجل! والغريب هو أنهم يبقون كما هم، الرجل الكهل كهل، والطفل يبقى طفلاً، والفتاة فتاة، والشيخ الهرم شيخ هرم! تركيبتهم السكانية لا تتزايد، الأفراد أنفسهم يمارسون حياتهم نفسها على مرّ الزمان. لا نعرف كيف توصلوا إلى ذلك، ولكننا سنسلبهم شخوصهم، سنصبح نحن هم. والخطة هي أن يأتي المزيد والمزيد من سكان الأرض، إلى أن "نستهلك" آخر سكان كوكب كبلر452.


كان المقرر أن أحل في شخص طفل. أما "بسّام" فكان سيحل في شخص شاب جامعي. وكانا كلاهما يسكنان في بناء واحد. طريقنا مشترك، أنا وبسّام، لذا فقد سرنا معاً، وارتحنا جداً لأن أحداً من المارة لم يلحظ وجودنا.


ـ ماذا تفعل يا بسّام؟
ـ سأبتلع الحبّة السحرية، كما أسميتها، لقد حان الوقت.
ـ ليس بعد، ما تزال أمامنا ثلاث وعشرون ساعة، لنتسلّ قليلاً.
ـ بماذا نتسلى؟
ـ انظر، ها هو الطفل الذي سأكونه، كم يبدو وديعاً، يبدو أنه عاد من المدرسة لتوّه، حقيبته بجانب الباب.
كنا ننظر من نافذة الحديقة التي تكشف ما بداخل المنزل.
ـ هل تريدني أن أراقب الشاب الجامعي أيضاً؟ هيّا، لا تكن مماطلاً، تناول الحبة.
ـ حسناً يا بسام، ماذا تخسر لو أنك تبقى معي بضع ساعات إضافية، سيكون أمامك الخلود كله لاحقاً.


وقطع حديثنا مجيء والدة الطفل وبدا أنها تتحدث مع ابنها، ثم سارا في الممر واختفيا. عاد الطفل وحده، لكنه تزحلق أثناء مشيه وصرخ باكياً. جاءت الأم ومعها الأب هذه المرة، وانشغلا بتهدئة الطفل. بعد حوالي ساعة، خرج الطفل إلى الحديقة، اختبأنا وراء إحدى الأشجار ـ مع أننا نعلم بأنه لا يرانا ـ وما هي إلاّ دقائق حتى برز من وراء إحدى الشجيرات ثلاثة أطفال، انقضوا على الطفل بوحشية، وأخذوا يضربونه، وهو يصرخ ويبكي. سرعان ما جاء الأب راكضاً، فهرب الأولاد.


وألتفت إلى بسّام:
ـ حين أتحول إلى هذا الطفل، هل سأكون واعياً بشخصيتي التي تعرفها، أم سأكون شخصاً آخر؟
يشرد بسّام، ثم يقول لي:
ـ لا أدري. لم يخبرونا بذلك أثناء التدريب.
ـ هل هذه هي الحياة التي تنتظرني؟ هل سأكون محدوداً بقدرات طفل؟
ـ على الأرجح أنك لن تنمو أكثر من ذلك، جسدياً وذهنياً.
كان بسام يرغب في الضحك وأن يقول شيئاً عن الطفولة والمرح، ولكن شيئاً كان يجول في ذهنه.
قلت له:
ـ أنت على الأقل ستندمج في شخص شاب جامعي، سيكون الطموح أمامك والحياة الرحبة، ليست أمامك عوائق الأطفال، أو عجز الشيوخ، ما أجمل خلودك.
بسام: ـ هذا ما تتخيله يا صديقي، ولكن الطموح سيبقى أمامي، ولن أصل إليه، سأبقى طالباً إلى مدى غير معلوم... الخطان المتوازيان لا يلتقيان أليس كذلك!
ـ أظن أننا في ورطة.


بسام: ـ هذا كابوس حقيقي، ليتني لم آت إلى هنا.
ـ هل كنت ستنتظر الديناصورات وعصر الجليد؟
بسام: ـ لا أدري، هيّا بنا نحاول العودة إلى الأرض، لست مرتاحاً للبقاء هنا.
ـ يا ترى ماذا حلّ بالآخرين؟
بسام: ـ سيعودون إلى المكوك، هذا ما أظنه.
ـ ﻻ تنس، بقي لدينا وقت محدود قبل انتهاء مفعول مسحوق الاختفاء، قد يعثر علينا أهل الكوكب.
بسام: ـ هل سيضعوننا في حديقة حيوانات؟
ـ لا أدري...
كان المساء قد بدأ يخيم على المكان، حين همستُ في أذن بسّام:
ـ بسّام، انظر، أليست هذه هي الأرض، هناك في السماء.
بسام: ـ أين؟
ـ من جهة الشرق إلى الأعلى قليلاً...
بسام: ـ أجل، كأنني أراها... ولكن، المفترض الآن أن سنوات ضوئية هائلة قد مضت.


ـ هل يعني هذا أن الأرض قد...
بسام: ـ أجل، قد ماتت.
ـ ما نراه هو خيالها فقط!
بسام: ـ بالضبط... ظاهرة الهولندي الطائر.
ـ يا للهول، ولكنني رأيتها من نافذة المكوك في الطريق إلى هنا.
بسام: ـ يبدو أن ظاهرة الهولندي الطائر كانت فعـّالة منذ ذلك الحين، كنتَ الأشد حساسية لها.


تذكرت حينها العرّافة، وحديثها عن البحر... وحين وصلنا قريباً من الواحة، حيث تركنا المكوك، فوجئنا بأنه كان نصف محطّم، تماماً كما هي صورته في حلمي المتكرر، كان هذا تعريفاً لليأس، ولتحطمنا نحن.
بسام: ـ ليس هناك غيرنا في هذا المكان.
ـ يبدو أن الآخرين قد نفذوا الخطة.
بسام: ـ لن نعثر عليهم.
ـ لديّ فكرة يا بسّام، سنجلس هنا وننتظر هبوط المكوك القادم، سنحذرهم، أو لعلّ لديهم دراسات أكثر تقدماً توضح لنا جوهر الخطة وكيف ستكون شخصيتنا الحقيقية.


نظر بسّام إلى الأعلى، حيث الأرض ـ الهولندي الطائر فوقنا بعيداً:
ـ فرصنا ضئيلة، الأرض هناك، ليست سوى شبح، تذكّر كل تلك السنين الضوئية، لا بد أنها تحولت إلى ركام، ما نراه الآن هو مرآة صورتها القديمة التي تركناها. إنه مفعول الزمن. المركبات القادمة التي ستأتي، ستنفذ خطتها، ولن تستمع إليك، فكر ماذا قد يحدث بعد ساعات حين يفقد مسحوق الاختفاء تأثيره...
وانسحب بسّام عائداً، من حيث أتينا، قرر أن يبتلع الحبة، ويندمج في شخص الشاب الجامعي.


أما أنا، فبقيتُ بين الواحة والمكوك، بعد أن شطرتُ جزءاً من قميصي، وجعلتُه قماشاً عقدتُ طرفيه بعودٍ اقتطعته من إحدى الأشجار، صار في يدي علم غريب الشكل ألوّح به باتجاه السماء وأنا أحاول الصياح، لقد أصبحت بالفعل طفلاً في حلم قديم، ضاع منذ أن رأى شبح الأرض يسكن بحر الفضاء.


* نشرت القصة في مجلة "الخيال العلمي" ـ فصلية ثقافية تصدر عن وزارة الثقافة في دمشق، العدد 56، كانون الثاني 2016.
3 likes ·   •  0 comments  •  flag
Share on Twitter
Published on May 27, 2016 11:35
No comments have been added yet.


علياء الداية's Blog

علياء الداية
علياء الداية isn't a Goodreads Author (yet), but they do have a blog, so here are some recent posts imported from their feed.
Follow علياء الداية's blog with rss.