جمالية الاغتراب المكاني في شعر لميعة عباس عمارة (مقال)
جمالية الاغتراب المكاني
في شعر لميعة عباس عمارة
د.علياء الداية
كان السفر بالنسبة إلى الشاعرة لميعة عباس عمارة(1) حلم الطفولة ومرشّحاً ليكون هواية أثيرة تبعث على البهجة وتَجدد الحياة، لكنه تحوّل إلى سببٍ للشوق والألم على فراق الأحبّة ووطنها العراق، تتأمّله عن بُعد. فقد عاشت الشاعرة في بلدها وغادرته عدة مرّات آخرها في الثمانينات من القرن الماضي، الوطن الذي كانت تسكنه صار يسكن فيها تحمله أينما ارتحلت، ويتجلّى في أشعارها على مدى سنوات طويلة. ومن هنا فإن هذه الدراسة تركّز على جمالية الاغتراب المكاني لديها، ومدى علاقته بوجدانها وتمثّلها للقيم وانعكاس الوطن ومفهومه لديها، ولا سيما أن القصائد المدروسة كتبت في أعوام ما بين 1965 و 1999م. هناك قصائد ترتبط بمكان معيّن أقامت فيه الشاعرة أو زارته لفترة، مثل بيروت والكويت وباريس وكاليفورنيا وغيرها، وقصائد تتناول السفر بشكلٍ عام، دون الإشارة إلى مكان محدّد، بل هو هاجس تترتّب عليه قرارات ومصائر وتشعّ منه أفراح وأحزان.
كانت الشاعرة في طفولتها تنظر إلى السفر على أنه حلم ببلوغ أماكن طالما شاهدتها على الخريطة: “ولعبة خطيرة كنت أحبها، اسمها السفَر/ مارستُها قبلُ على الأطلس والصور/ مللتها.../ خاب بها ظني/ وما عاد لها إغراء،/ فقدتُ لذّة الوداع واللقاء”(2). كما يرِد الأطلس في صورة مشابهة في قصيدتها بعنوان "إنمي" من ديوانها: قبل الـ2000، غير أنها بعد سنوات طويلة تكتشف أن السفر أصبح أمراً عادياً مكروراً ومملاً بحيث لا يعدو كونه شيئاً هامشياً بالقياس إلى ما حولها من صخب وحركة حيوية: "رقم أنا/ في الفندق الكبير/ معلّقٌ في عروة المفتاح"(3)، ففي عالم الفنادق والمقاهي والبحر وتأنّق المصطافين لا تجد نفسها إلا وحيدة.
وهنا يبرز في تجربتها الشعرية مفتاحان جماليان من منطلق علاقتها بكل ما حولها وهما: المثل الأعلى الجمالي، ومفهوم الجميل. فالمثل الأعلى الجمالي لديها هو مدينة بغداد، تتّخذ منها معياراً لكل ما حولها في الغربة، وبوصلة ترشدها إلى مركز الكون "وبغداد أنتَ. إذا شطّ بي/ مزارٌ، لواني إليها القدَر"(4) وهي تقرّ بأن جمال السفر وهمٌ لم تجن منه إلا القلق والحزن، فلم تنسَ الوطن بل زادت غوصاً فيه "كان وهماً شواطئ البحر تُقصينا فأنساهُ/ كان وهماً فراري/ …/ يحسّ الجمال حولي احتضاري/ …/ وما زالت بتوقيت بغداد ساعتي"(5)، كما أنها تستذكر مزايا الأماكن الجميلة في العراق إذ ترى مشهداً أخّاذاً في سفرها، ففي قصيدتها "زهر الليمون" تقارن بين ما تُشاهده ومكوّنات الوطن من مدن ومظاهر حضارية كالشمال وكركوك وأربيل والإلهة عشتار، "كلّما أزهرت على البُعد ليمونة/ كأن فتحت من جراحي/ نسمات يا ليتها من بساتين بعقوبة/ سرَت في الصباح"(6) ولا تنسى المثال المركزي الأبهى: بغداد، فـ "تلك من شاطئ النواسيّ في بغداد/ أضواؤه سنا الأقداح”(7)، فضلاً على أنّ حضور النواسي وشهرزاد في القصيدة، يحيل إلى شخوص ذات صلة بتراث بلدها وقيمته الحضارية.
ولا تقتصر صورة المثل الأعلى الجمالي لديها على الاسم العلَم بغداد، بل يظهر أحياناً في صورة النخلة. فـ“الكمال هو المثل الأعلى الضمني لكل ما نرغب فيه ونفضّله على غيره. إننا لا نرى هذا الكمال إلا في أجزائه فحسب حينما تُوجّه العاطفة أو الإدراك انتباهنا إلى عناصره"(8). وهذا ما نجده لدى الشاعرة، فهي تفضّل مدينة بغداد وتستذكر منها التفاصيل المادية أو المعنوية كالشوارع والليل والصباح والنور والنخيل. كما أنّ “المُثل العليا لا تكون أصيلة إلا إذا عبّرت عن الإمكانات والاحتمالات التي ينطوي عليها سير الحياة... لكن هذه المثل ليست أكثر من صور في حلم إلا إذا ردّت إلى الوقائع وربطت بها"(9)، وبما أن الشاعرة في حالٍ من الغربة المكانية فالحلم يختلط لديها بالواقع، إذ تتداخل صورة المثل الأعلى الجمالي لديها لتغطي الوقائع والأيام الفعلية التي تعيشها، فـ“حين يقدّم شاعر بعداً جغرافياً، فهو يعرف بشكل غريزي أن هذا البعد يجري تحديده في نفس اللحظة، بسبب كونه مغروساً في قيمة حُلمية ما"(10).
أما نموذج الجميل بالنسبة إليها فيكمن في الحبيب الذي يتقمّص صورة تمّوز البطل الأسطوري وشهر الصيف الحارّ، لأنها كثيراً ما تقابل بينه وبين الشتاء الثلجي البارد في الأمكنة التي تسافر إليها وتقرّ بعجزها عن استيعاب البرد وهي بعيدة عمّن تحب. إنها مضطرة إلى ترك بلدها والنأي عنه، ولكن كما بينَت في قصيدة سابقة فإنها تستنتج أنها تبقى وحيدة بلا أهل مهما حملت من القيم الإنسانية في جعبتها: “تناءيتُ عن بلدي من أسى/ وبارحتُهُ أتقرّى العزاء/ وناديتُ كل الثرى موطني/ فردّ الصدى "موطني" بازدراء"(11).
وفي قصيدة حوارية بينها وبين تموز الحبيب مع عتابه لها ومعاناتها الأمر الواقع تقرّ الشاعرة بضرورة انفصالها عن أرض الوطن: “وأعلم: حبّك حبّ محالٌ/ وأسطورةٌ من زمانٍ غبَر"(12)، وفي ظلّ حاجتها إلى السفر تصرّح "أقول سأهجر كل العراقِ/ ولستُ بأوّل صبٍّ هجر"(13). “إننا لا نترك الشيء الجميل إلا كما نترك الحقيقة أو الصديق، نتركه لكي نعود إليه دائماً وقد زدنا تقديراً له"(14)، فالشاعرة غير قادرة على البقاء في أي مكان من الوطن بسبب التضييق الذي تعانيه وعدم قدرتها على ممارسة حقوقها، لكنّها تؤكّد اعتزازها بهذا الحبيب الذي يوازي تموز بطل الأسطورة ويمثّل فصل السنابل والحصاد، وتعِده بأنها ستواصل الحياة مادامت تذْكره بوفاء: “سلامٌ لحرّك يشوي الوجوه/ أذبتُ به الصبر حتى انفجر/ …/ أتموز أعلمُ أني سكتُّ/ عن الشعر، هبني جواداً عثر"(15).
الاغتراب في بيروت
في بيروت تعيش لميعة عباس عمارة جمال الطبيعة والمكان تارةً، وقبح الحرب تارة أخرى، وفي كلتا الحالتين تستذكر بُعدها عن الحبيب بشكل خاص. إنها في أماكن أخرى كأميركا كما سيرد لاحقاً، تفتقد وطنها أكثر، أما في بيروت فتشعر بوحدة لا يعوّضها وجود الناس حولها لأن الحرب تنال منهم ولا تجعلهم في حالٍ مستقرّة. في ذروة الجمال تقول: “يسأل عنك البحرُ حبيبي/ وصخور الروشة/ والمقهى"(16)، وفي القصيدة نفسها تنادي مدينتها بغداد لعلّها تحمل لها شيئاً من السكينة.
وفي صورة مختلفة تُقحم الشاعرة نفسها في جوّ الرهبان والكنيسة بعيداً عن البحر والطبيعة، لعلّها في هذه المفارقة تشعر بقرب حبيبها والوفاء له من خلال اكتشاف شعائر التعبد والترهبن الخالية من زينة الحياة وصخبها. غير أنها في الحالين لا تستشعر الجمال بل المزيد من الانقطاع عن الحياة، وتسعى الشاعرة إلى مقارنة كل شيء بالوطن، وتتمنى وجود الحبيب إلى جانبها حتى أثناء إذاعة خبر هبوط أول إنسان على سطح القمر، فهي تناجي حبيبها ثم تنتقل إلى افتقاد بغداد والقول بأن بيروت خالية من الجمال في غياب من تحب. وتُعمّق وعيها الداخلي الذي يسكنه النخيل بوصفه مثلاً أعلى جمالياً، فهي تستهجن القمر الذي يتحدثون عنه في وسائل الإعلام "ما ذاك بالقمر الذي خلّفتُه/ فوق النخيل بزهوه المعتادِ"(17) في تناصٍ ثقافي مع الأغنية العراقية التراثية "فوق النخل"، إنها عراقية حتى الصميم يسكنها هاجس الوطن في كل حال.
وفي موضع آخر يتأكّد تماهي الحبيب مع تموز "تموز ببيروت/ يبعد عن آذار ثلاثين دقيقة"(18)، وهي إمعاناً في حبّ تموز على الرغم من حرّه الشديد تبقى ملازمة للبحر وتُعرض عن المضيّ إلى الجبل المنعش الأجواء، فالجمال لديها يحقق نسبيته في أنه ما ترتاح إليه، لا ما يقرّه الآخرون بمقاييسهم.
تمرّ الشاعرة بتجربة مختلفة تماماً عمّا سبق، ففي الملجأ الذي تقبع فيه هرباً من عنف الحرب وقذائفها ليس ثمة جمال نسبي، بل القبح وعواقب القتال والأسلحة حاضرٌ يلقي بظلاله على الجميع “ما جدوى كل وجودي في بيروت/ مفترسٌ هذا الحب وأعمى"(19)، وفي هذا الموقف تستدعي الشاعرة حبيبها: "كنت أريدكَ تحمل خوفي/ فأنا أضعفُ من أن أحمله وحدي"(20) مقابل الخوف والهلع تحاول استذكار الجميل الذي قد يخفف عنها، مع أنها تحت وطأة الواقع تكاد تتخلى عن يقينها بالحياة وتسلم زمامها للموت "أستدعي الوهم/ وأستنجدُ بالأحلام/ بالحبّ المطلق لا شكل له لا رائحة/ لا لون"(21) إنها تعاني الغربة عن الوطن والحبيب والإنسانية، وتتحقق من أنّ الأحلام والقيم المطلقة لا وجود لها في الملاجئ ولا تعني شيئاً في حضور السلاح والكراهية.
إن صورة الموت السابقة تتوافق جزئياً مع الجوّ الكئيب الذي تعيشه الشاعرة وتخلعه على أيامها ومشاهداتها في بيروت، فتستوقفها إحدى حوادث الانتحار الشهيرة من على صخرة الروشة في بيروت، لتتأمل ما قيل عن امرأة انتحرت هناك. إنها تتمثّل فيها نفسها وتنظر إلى كل شيء بمنظار أسود يبدو فيه أنّ "الشمس رغيف نهشَتْه الأسماك/ الشمس رغيف كان هناك"(22) فهي لا تستدعي الوطن أو الحبيب مباشرة، لكن غربتها تفرض عليها مفردات توحي بالبرد الذي تكرهه وبالجمود الذي يقابل ما تعهدُه من دفء الحب والحياة عادةً: “سيدة السرّ الباردة القدمين"(23)، وترِد بيروت في بعض القصائد كـ "الهجرة الدائرة" و"صباحات بيروت" و"ليل بيروت" في ديوانها "البعد الأخير" ضمن سياق من التأمل في حال المدينة وسكّانها وما تؤول إليه من ألم وحسرة في الحرب.
الاغتراب في الكويت
يَبرز اغتراب الشاعرة لميعة عباس عمارة المكاني في الكويت من خلال جانبين، الأول هو غربتها عن الحبيب الذي يرمز إلى مفهوم الجميل، فهو يعمل في الكويت وهي تشتاق إلى حضوره، والثاني غربتها في الكويت عن الأحبة وعن مدينتها ومثلها الأعلى الجمالي بغداد. تدلّ على الجانب الأول قصيدة من مقطعين بعنوان "رسالتان إلى الكويت"، ففيها تستذكر التشابه بين حبيبها وبين شهر تموز الحارّ الذي يحيل إلى بطل الأسطورة القديمة "تموز" الذي تعشقه "عشتار"، ويبرز تماهي حبيبها مع الدلالة الأسطورية في قولها: “يا مؤثراً حرّ الكويت/ على نسائمنا اللّطاف" (24) ففي شهر تموز ثمة حبيب غائب تغيب معه مظاهر الجمال التي تصاحب وجوده عادةً إلى جانبها "ألقاك/ تشرق نظرتي".(25) أما في حالة الشوق والغياب فثمة مفارقة، فكفّاها باردتان. ونرى أنّ ظاهرة كره الشاعرة للبرد ستتكرر في قصائد تالية الأمر الذي يعزز حضور تموز بوصفه رمزاً جمالياً.
أما في القسم الثاني والرسالة الثانية في القصيدة، فتوجّه الشاعرة حديثها إلى طبيعة الكويت ومكوّناتها. لقد كانت في القسم الأول تناشد حبيبها بأن يلقاها في مكان معتدل مثل لبنان أو بغداد حيث الذكريات الجميلة، وحيث بغداد هي المثل الأعلى الجمالي وأفضل مكان تحبّه الشاعرة، وترغب أن تتمحور حوله كل الأشياء الجميلة مهما كان قبح الواقع. ولكنها في هذه الرسالة تطالب الطبيعة بأن تتقمّص شخصيتها وتحنّ على حبيبها وتمنحه المزيد من الصمود في وجه القسوة والشظف، إنها تستخدم صيغة الأمر بمعنى الرجاء فتخاطب البحر والبرّ، وموجة الخليج، ورمال الشط وتطلب منها البركة في الرزق والعطف "ضمّيه يا نسائم الخليج في الضلوع/ فهو غريبٌ متعبٌ ضاقت به الدروب"(26). ويمكن القول إن حضور "السفَر" لدى الشاعرة جعل من الطبيعة لديها أساساً تُخاطبه قبل الإنسان، وتسعى إلى التصالح معه أولاً، فقد خَبرت تقلبات البشر ونسبيّة القيم لدى الناس وتقلقل مفهوم الإنسانية والأوطان، فاتّخذت من الطبيعة التي اعتادت ظواهرَها منذ الطفولة عنصراً ثابتاً أزلياً.
تستعيد الشاعرة صورة بغداد المكان المثال، في قصيدتها "إلى الخليج العربي"، الموثّقة مكانياً بالكويت، فهي تعني بالخليج منطقةَ الكويت التي تعاني فيها من الحنين والقلق والعذاب والشجو، وتطالعنا مفردة "الجرح" ذات الصلة بالآلام التي ترغب الشاعرة في دفنها "سأدفن هذا الحنين اللجوج"(27)، فهي تكرر عبارة "أحنّ لبغداد"(28) في إشارة ومعاناة من أنها ضائعة في هذا المكان الذي تضطر إلى دفن حنينها فيه نظراً لعدم قدرتها على العودة إلى بلدها حيث مدينة بغداد، فالمعاناة والاضطراب السياسي يمنعانها من تحقيق راحتها وسكينتها النفسية في الإقامة فيه.
ونشير إلى أنّ ثمة مدناً وبلاداً ترد في قصائد لميعة عباس عمارة، وقد اغتربت الشاعرة لبعض الوقت في هذه الأماكن من مثل: تونس وقطر والإمارات العربية ومصر وليبيا والمغرب والشام، ولكن لم تبدُ معاناة في ذلك، وإنما جاءت القصائد لأغراض توثيقية أو بحسب مناسبة معينة، ومنها القصائد: “في مصر لأول مرة" و"أبو القاسم الشابي" و"بغداد لن ترتد" من ديوانها: البعد الأخير. وقصائد: “تونس" من ديوانها: يسمونه الحب، و"بيروت ملهمة الشعراء" و"سلام على قطر" و"في المغرب" من ديوانها: قبل الـ2000.
الاغتراب في باريس
في القصيدة النوعية "شتاء باريس" يقتصر تجلّي الاغتراب المكاني لدى الشاعرة في أوروبا على مدينة باريس، حيث تفتقد أحبابها: “آه ما أبعد أحبابي"(29)، وفي صفحات قليلة تَلوح علاقة مضطربة بين الشاعرة والمدينة على الرغم من أنها تقرّ بجمال الطبيعة فيها، ولكنها لا تستطيع التلاؤم معها، ولا سيّما أن الحبيب غائب، وذكرى بغداد تسكن الروح وليست تغيب.
“تتقاصر أشباح الأبنية الدكناء من البرد/ وتسكن أوصال الشجر/ وأنا في صمتي الثلجي/ بساتين نخيل خرساء/ وبيتٌ من شَعر/ أجهلُ ترويض البرد بباريس"(30)، وكما في قصائد عديدة فإن مفردة النخلة أو النخيل تنوب عن بغداد في أنها المثل الأعلى الجمالي لدى لميعة عباس عمارة، ففي مقابل الأبنية والأشجار تُستحضر صورة النخيل، لكنه وإن كان في المخيّلة، فهو لا يعيش في زهو خارج الوطن، إنه نخيل أخرس يتجاوب مع صمت الشاعرة الثلجي. وهذا يتوافق مع تصورها للجمال في بلادها حيث الحبيب تموز والطقس المواتي للنخيل، حيث كل شيء يصبح جميلاً ولو كان بيتاً من شعر. لا ترى الشاعرة الأبنية الدكناء إلا قصيرة ولا تستشعر جمال الأشجار الساكنة الأوصال من البرد. البرد حالة طارئة على الشاعرة تزيدها الغربة عجزاً فهي وحيدة غائبة عن مظاهر الجمال. وتعزز أبياتُ القصيدة نسبيةَ الجمال، فالشاعرة تقرّ بالرذاذ الناعم للمطر وحضور مظاهر الفن والعشّاق، ولكن يطغى عليها إحساس الغربة في هذا المكان، ويعكّر عليها الاستمتاع بهذه المباهج، بل هي تفتقد قيود الحبّ والرقابة في بلادها على العشّاق والأفكار وتراها جديرة ببعض الحنين "آه ما أبعد أحبابي/ أهدابي أوتار/ ورذاذ المطر الأنعم من كفّ حبيب/ أصابع فنّان/ وحوائط ليس لها آذان/ الأبواب الخرس هنا تلسعني"(31)، إذ ليس من اليسير أن تتحول فجأة من قيم اجتماعية إلى قيم أخرى مهما كانت أفضل، فهي وحيدة وتحتاج إلى مشاركة من بيئتها كي تتمكن من الحصول على السعادة.
الاغتراب في كاليفورنيا
في سان دييغو في ولاية كاليفورنيا الأميركية حيث أقامت الشاعرة، تلوح الحدود مع دولة المكسيك المجاورة، وتبرز أزمة إنسانية تكمن في وجود المهاجرين العراقيين الذين هربوا من بلادهم. إنهم مواطنو الشاعرة لميعة عباس عمارة، تجد في تأمّل حالهم الكثير من الأسى، وهي تنعى قبح الواقع الذي دفع بهم إلى اللجوء، بما يحمله من ألم ومعاناة وضياع، فنرى في قصيدتها مفردات عن الخوف والفزع والتدمير والحرق والملاجئ والصواريخ والقذائف. وفي غمرة الأسى لا تملك الشاعرة إلا أن تجد في وجه كل عراقي وجه الحبيب الجميل بالضرورة، فهو قادم من هناك، من أرض الوطن، تشاركه الانتماء: “يا وجهه ورغم ما تحمل من كآبةٍ/ ما أجملك!”(32)
ومن جهة أخرى فإن النخيل رمز المثل الأعلى الجمالي ـ بغداد ـ مقيمٌ في روح الشاعرة وحاضرٌ للمقارنة دائماً، فهي تقول: “بي من شموخ النخل والكرَم المؤصَّل في بلادي/ كان اعتزازي أن أجوع ولا أطأطئ كالنخيل"(33). كما تنشد في نهاية القصيدة مقاطع من شعرها الشعبي حول نخل منطقة السماوة والجسر المعلّق، وما يحيل إليه من حزن على حال العراق وأطفاله وسكّانه. وهي تعرض للظروف القاسية التي نحّت المثل الأعلى الجمالي جانباً، لتحلّ محلّه صور من قسوة الواقع، فبلدها العراق الذي أنهكته الظروف السياسية الداخلية والخارجية وقع في كوارث إنسانية، منها الفقر والعوز والضيق واضطرار الناس إلى الهجرة، وكوارث ميدانية منها مأساة ملجأ العامرية المدني الضخم في بغداد، الذي قصف في حرب الخليج الثانية عام 1991.
إنّ الشاعرة مكبّلة بالإحساس أن الحضارة ذات وجهين: الطرف القوي والآخر الفقير، وهي وسطهما لا تملك سوى التأمل لترى في وجه كل هاربٍ وجه أمها تارة وحفيدها تارة أخرى، وجوه مألوفة بعيدة عن الجمال المنشود وأقرب إلى البؤس الأليم "الدرب للمكسيك يوصلني إلى كل الدروب/ لأرى يد الجبّار ممسكة بأعناق الشعوب/ الدرب ملأى بالجياع وبالمساكين الذليلة/ من هاربٍ عبر الحدود وهاربين إلى التكيلة/ ضيّعتُ وجهك في زحام الفقر في المكسيك"(34).
وتَظهر مدينة سان دييغو في قصيدة أخرى، بوصفها المدينة الجميلة التي تقضي فيها الشاعرة فصولاً من السنة، لكنها لا تلبث أن تذكر الحبيب ثم تتذكر الأماكن الجميلة التي تحبها وترى فيها الكثير من الجمال، كما هو جمال الحبيب في نفسها. وكما في قصائد سابقة فإن الطبيعة عنصر محوري في وجدان الشاعرة وتفاعلها مع ما حولها من قيم إنسانية، فإذ تشتاق إلى الحبيب "يشوقني لك المطر الخفيف/ ويُسقط كل أوراقي الخريف"(35) تكمن مفارقة بين الحبيب القريب من صورة شهر تموز شهر الصيف، وحضور الخريف الممطر ذي الورق المتساقط، وكذلك هي مفارقة في قولها أمام شاطئ المحيط الهادي: “كأنك ذلك الهادي المخيف"(36) فجمال سان دييغو منقوص، مقابل الحبيب ذي الجمال الكامل المُفتقَد بشدّة على بُعد آلاف الأميال من أرض الوطن. أما فصل الربيع في سان دييغو أيضاً فيذكّرها بأماكن أثيرة إلى نفسها، لبنان وكردستان والقدس، إنها أماكن اكتسبت قيمة الجمال لطبيعتها الساحرة وأفراحها وبعدها التاريخي، فضلاً على كونها مألوفة لدى الشاعرة لها فيها معارف وذكريات وتجد فيها امتداداً روحياً، يختلف بالضرورة عن مكانٍ آخر قَصي كمدينة سان دييغو.
إن لميعة عباس عمارة سرعان ما تُبيّن سبب المفارقة الواضحة في موقفها، والغصّة التي تمنع مكاناً كهذا الشاطئ من أن يكون جميلاً، إذ تقول: “وكيف أعيش رغداً في بلادٍ/ تُسنّ لأهلنا فيها السيوف"(37). إنها تنظر إلى المكان الأميركي بوصفه متبايناً لأنه جميل الطبيعة من جهة، وقبيح التعامل مع شعب الشاعرة وإقليمها الجغرافي من جهة أخرى، وهكذا مع نسبية القيم الإنسانية تقصَى سان دييغو عن قيمة الجميل، بل تتصاعد مفردات مانعة في ذهن الشاعرة كالمنافي والتباعد والشرود.
وفي قصيدة أخرى تلقيها الشاعرة في مدينة سان دييغو بعنون "إنمي Enemy” ـ العدوّ باللغة الإنكليزيةـ تُبرز الشاعرة كفّتي ميزان غير متكافئتين، ففي مقابل الحب والإقبال اللذين تتوجه بهما إلى أميركا عموماً، فإن الطرف الآخر يواجهها بالاتهامات المسبقة، ويتجرّد من إنسانيته المدّعاة. فهي التي تحب أميركا منذ أن كانت طفلة تتصفّحُ الخريطة وتتمثّل فيها الجمال والرّوعة والطبيعة مع خيالها الطفولي الحالم، تُقابَل هي وكل بني قومها باتّهام خطير بالعداوة المسبقة وسوء النوايا: “أنا أحببتك أمريكا/ ومذ وعي الطفوله/ ولكم سافرتُ في حلمي/ إلى سيدة البحر الجميله/ زورقي من ورقٍ/ أُبحر فوق الأطلس المرسوم بالألوان"(38).
إنها تلقي القصيدة في منبر يكافح ضد التمييز العنصري، وتشعر بالمزيد من الاغتراب الروحي المصاحب لغربة المكان، فكأنها محامٍ في محكمة، يسوق الحجج على براءة موكله المتهم زوراً، وتحاولُ أن تقرّب الفكرة إلى وعي متلقيها الأجانب، وتعلن براءتها من الأفعال القبيحة التي لا صلة لها بها، بل إن هذه الأفعال ليست غريبة عن مجتمع الأميركيين وتعاملهم مع الأقوام الأخرى: “أنا ما جوّعتُ طفلاً من كاليفورنيا/ ولا أحرقتُ بالحقد المعامل/ أنا ما دمّرت جسراً من على (الهدسن)/ لم أقصف (سياتل)/ أنا ما وشّحتُ بالأسود آلاف الأرامل/ فلماذا أنا أدعى إنمي؟"(39)
في موضوع ذي صلة بالقصيدة السابقة تسعى الشاعرة في قصيدتها "لعنة التمييز" إلى بيان حالة الألم والاضطهاد التي يمارسها المجتمع على الفرد فيما يتعلق بمعتقداته ودينه واختياراته الشخصية أحياناً، وتُبرز الشاعرة أنها تعاني قيود المجتمع حتى وهي في كاليفورنيا، إذ يذهب المحيطون بها إلى تَقَصّي أصلها ودينها بوصفهما داعياً للمقارنات والفوارق “من الطوفان حتى كاليفورنيا/ لم أزل أعثر بالقيد الذي هم ألبسوني"(40). وفي الوقت نفسه فإن الشاعرة تصرّ على انفتاحها على جميع ما حولها من أفكار وتفاعلها مع عقائد مجتمعها وأن الطبيعي هو اندماج الفرد في محيطه لا التقوقع على ذاته. إنها تتخذ من الغربة المكانية في كاليفورنيا نافذة على تاريخ التمييز العنصري منذ عصر الطوفان حتى يومنا هذا، وتوحي بأنّ القيد مفارق لجمال الحرية والانطلاق، وأنه عائق قبيح يمنع المجتمع من الإحساس بجمال تنوعه وقوّته.
في قصيدة "لي أندرسون Lee Anderson” يعاود رمز النخلة الظهور ممتداً على مدار القصيدة، وتدور معه المفارقات بين الجمال والقبح، بين الحب والظلم. وتُبرز الشاعرة الجانب المشرق الحضاري لدى الطرف الآخر أي المواطن الأميركي لي أندرسون عاشق النخيل، فهي تجد شخصاً يتفق معها في النظر إلى النخيل على أنه مهمّ. لكن النخلة في نظرها رمز للمثل الأعلى الجمالي، فهو قيمة ثابتة راسخة قد تختفي زمناً لكنها مزروعة في الوجدان، أما أندرسون الذي يمتلك بستان نخيل في كاليفورنيا، فينظر إلى النخيل على أنه شيء جميل، ويسعى إلى العناية به عناية فائقة ولا سيما أنه عانى كثيراً في سبيل تهريبه إلى بلده أو شرائه من التجار المهربين. المهم في الأمر أن جمال النخيل لديه محصور في الجانب المادي الملموس، فمن المرجّح أنه يحب شكله وثماره التي يحفظ أسماءها ويسعى إلى الحديث مع الشاعرة العراقية مطولاً حول خصائصها وأنواعها، غير أن البعد المادي الوحيد يجعل أندرسون ينوء بحزنه وألمه أمام مشاهد النخيل المحروق في العراق في فترة الحرب. إنه يتفجّع عليه بوصفه ضحيّة "منتصباً يقف النخل المحروق على مدّ البصر/ شهداء لم تُدفن/ ليذكّر بالحرب العبثيه/ ترثيه الريح/ وتعوِل نادبةً:/ حتى النخلُ ضحيّه؟/ حتى النخل ضحيّه؟"(41)
أما الشاعرة فيؤلمها احتراق النخيل، وتستذكر حادثة الوالي العثماني الذي أمر بقطع رقاب النخيل عندما قيل له إن الحرّ الشديد الذي أزعجه ضروري لإنضاج التمر، فهي موقنة أن المثل الأعلى في الجمال يبقى حياً مهما توالت عليه صروف الدهر، ولن يضيره الحرق أو القطع لأنه حيّ وذو حضور تاريخي تراثي ويحمل مقومات الاستمرار في بيئته وبين سكّان العراق.
الاغتراب في ديترويت
في مدينة ديترويت الأميركية يتعاظم إحساس لميعة عباس عمارة بالاغتراب، فمثلها الأعلى الجمالي يقتحم المكان رغماً عنها حين تلتقي بمحبيها وتصافحهم بمودّة وسط ترحيبهم، فترى بغداد بين يديها وجوداً غير كامل نظراً للبعد المكاني، “أبغدادُ جاءت إلى هذه البقعة النائية/ أحسُّ ورود المَحبة في كل كفّ تصافحني"(42). إنّ إحساسها بمدينتها الأثيرة يستحضر ما فيها من صور الحزن والألم مفارقة لما في ديترويت من طمأنينة ورفاهية، ففي بغداد الذكريات ثمة الآن بؤس يتمثّل في مفردات في القصيدة تدور حول ويلات الحرب من الغصّة والجوع والحزن، وشحّ الدواء والسرقة والذبح والجنون والقتل والمعاقين. فليس من سبيل للإحساس بالهناء، والجمالُ غائبٌ ما دام الوطن في ضيق، "يوحّدنا الحبّ، حب العراق/ وتجمعنا غصّةٌ وهمومٌ كبيره"(43).
الاغتراب في لونغ آيلند
تستعيد الشاعرة في قصيدتها "موسم الشجر الملون" ذكرى حبيبها وذكرى بغداد، فيجتمع كل من الجميل والمثل الأعلى الجمالي، أحدهما في بداية القصيدة والآخر في نهايتها، وما بينهما تكمن الغربة وأحاسيس الحيرة وعدم الانسجام مع مظاهر الطبيعة الجميلة، فهو جمال ناقص كما في كثير من قصائدها السابقة. إن الشاعرة لم تعتد الثلج والشتاء وبرودة شهر كانون، فثمة مفارقة بين حبيبها القوي الذي تشبّهه بالأطلس الورد، وبرد الشتاء "تقضّى الصيف فالشطآن خالية/ وعزف الريح ترتيلُ/ ومثل مواسم الأزياء في باريس/ للأشجار بالألوان تبديلُ"(44). ففي غياب الصيف تكمن صور الوحشة والورق المذبوح والفوضى والخذلان المفارِقة للجمال والمستقرّة في نفسها.
إنها تعترف بجمال الطبيعة لكنها عاجزة عن الإحاطة بها وكأنّ أحاسيس الدهشة والحب والبهجة لا تكون إلا في رحاب بغداد وفي صحبة الحبيب "جميلٌ كل ما حولي/ نقيٌ مترفٌ خضل/ على أني بهذا الثلجِ/ ثلجٌ آخر/ لا يعرف الدهشه"(45) وفي قصيدة أخرى بعنوان "حلم" من ديوانها "أغاني عشتار"، تبدي لميعة عباس عمارة وحشة مماثلة إذ يطوف بها الخيال في قمم ألاسكا الباردة التي تسلبها تفاعلها الجميل مع محيطها "فألتقيكَ في ذرى ألاسكا البيضاء/ والشمس في عزّتها أوهى من الشموع"(46).
لقد تفاوت موقف الشاعرة من السفر على نحوٍ جليّ، بين السعادة بما فيه من جديد، والإحساس بالنجاة والبعد عن القيود، وبين كونه مسرحاً للحلم ببهجة الوطن، ومكاناً تفتقد فيه الظواهر والأجواء الأليفة والحبيب البعيد. فكان الاغتراب المكاني واقعاً يرافق الشاعرة لميعة عباس عمارة، ويتشكّل جمالياً في قصائدها على امتداد حياتها الشعرية الزاخرة.
الهوامش:
1 ـ لميعة عباس عمارة: شاعرة عراقية معاصرة ولدت في بغداد عام 1929، تعود أصول عائلتها إلى مدينة العمارة العراقية، عملت في التدريس وفي الحقل الثقافي والدبلوماسي، تكتب الشعر الفصيح والشعبي، وتعيش منذ ثمانينات القرن الماضي في ولاية كاليفورنيا الأميركية، أبرز دواوينها: الزاوية الخالية، بغداد 1959. عودة الربيع، بغداد1962. أغاني عشتار، بيروت1969. عراقية، بيروت1971. يسمّونه الحب، بيروت1972. لو أنبأني العرّاف، بيروت1980. البعد الأخير، بيروت1987. قبل الـ2000، بيروت/كاليفورنيا2001
2 ـ لوأنبأني العرّاف، لميعة عباس عمارة، الطبعة الثانية، كاليفورنيا1996، ص77
3 ـ لو أنبأني العرّاف، ص75
4 ـ لو أنبأني العرّاف، ص32
5 ـ يسمّونه الحب، لميعة عباس عمارة، طبعة جديدة، كاليفورنيا2001، ص73
6 ـ قبل الـ2000، لميعة عباس عمارة، الطبعة الأولى، بيروت/كاليفورنيا2001، ص47
7 ـ قبل الـ2000، ص48
8 ـ الإحساس بالجمال، جورج سانتيانا، ترجمة د.محمد مصطفى بدوي، مكتبة الأسرة، القاهرة 2001، ص347
9 ـ الفردية قديماً وحديثاً، جون ديوي، ترجمة خيري حماد، مكتبة الأسرة، القاهرة2001، ص126
10 ـ جماليات المكان، غاستون باشلار، ترجمة غالب هلسا، المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر، الطبعة الثانية، بيروت1984، ص172
11 ـ أغاني عشتار، لميعة عباس عمارة، الطبعة الثالثة، بيروت/كاليفورنيا2001، ص12
12 ـ لو أنبأني العرّاف، ص34
13 ـ لو أنبأني العرّاف، ص30
14 ـ الإحساس بالجمال، جورج سانتيانا، ص347
15 ـ لو أنبأني العرّاف، ص37ـ 38
16 ـ يسمّونه الحب، ص90
17 ـ أغاني عشتار، ص99
18 ـ يسمّونه الحب، ص88
19 ـ البعد الأخير، لميعة عباس عمارة، الطبعة الثالثة، كاليفورنيا2001، ص60
20 ـ البعد الأخير، ص55
21 ـ البعد الأخير، ص58
22 ـ البعد الأخير، ص62
23 ـ البعد الأخير، ص62
24 ـ أغاني عشتار، ص15
25 ـ أغاني عشتار، ص14
26 ـ أغاني عشتار، ص16
27 ـ أغاني عشتار، ص21
28 ـ أغاني عشتار، ص19 ـ 20
29 ـ لو أنبأني العرّاف، ص22
30 ـ لو أنبأني العرّاف، ص21
31 ـ لو أنبأني العرّاف، ص22 ـ 23
32 ـ قبل الـ2000، ص59
33 ـ قبل الـ2000، 58
34 ـ قبل الـ2000، ص63
35 ـ البعد الأخير، ص5
36 ـ البعد الأخير، ص5
37 ـ البعد الأخير، ص7
38 ـ قبل الـ2000، ص55
39 ـ قبل الـ2000، ص57
40 ـ قبل الـ2000، ص67
41 ـ قبل الـ2000، ص46
42 ـ قبل الـ2000، ص24
43 ـ قبل الـ2000، ص25
44 ـ لو أنبأني العرّاف، ص10
45 ـ لو أنبأني العرّاف، ص11
46 ـ البعد الأخير، ص49
* نشر المقال في مجلة أبابيل العدد رقم 58 ، تشرين الأول/ أكتوبر 2012
رابط عدد المجلة والأعداد السابقة:
http://www.ebabil.net/
في شعر لميعة عباس عمارة
د.علياء الداية
كان السفر بالنسبة إلى الشاعرة لميعة عباس عمارة(1) حلم الطفولة ومرشّحاً ليكون هواية أثيرة تبعث على البهجة وتَجدد الحياة، لكنه تحوّل إلى سببٍ للشوق والألم على فراق الأحبّة ووطنها العراق، تتأمّله عن بُعد. فقد عاشت الشاعرة في بلدها وغادرته عدة مرّات آخرها في الثمانينات من القرن الماضي، الوطن الذي كانت تسكنه صار يسكن فيها تحمله أينما ارتحلت، ويتجلّى في أشعارها على مدى سنوات طويلة. ومن هنا فإن هذه الدراسة تركّز على جمالية الاغتراب المكاني لديها، ومدى علاقته بوجدانها وتمثّلها للقيم وانعكاس الوطن ومفهومه لديها، ولا سيما أن القصائد المدروسة كتبت في أعوام ما بين 1965 و 1999م. هناك قصائد ترتبط بمكان معيّن أقامت فيه الشاعرة أو زارته لفترة، مثل بيروت والكويت وباريس وكاليفورنيا وغيرها، وقصائد تتناول السفر بشكلٍ عام، دون الإشارة إلى مكان محدّد، بل هو هاجس تترتّب عليه قرارات ومصائر وتشعّ منه أفراح وأحزان.
كانت الشاعرة في طفولتها تنظر إلى السفر على أنه حلم ببلوغ أماكن طالما شاهدتها على الخريطة: “ولعبة خطيرة كنت أحبها، اسمها السفَر/ مارستُها قبلُ على الأطلس والصور/ مللتها.../ خاب بها ظني/ وما عاد لها إغراء،/ فقدتُ لذّة الوداع واللقاء”(2). كما يرِد الأطلس في صورة مشابهة في قصيدتها بعنوان "إنمي" من ديوانها: قبل الـ2000، غير أنها بعد سنوات طويلة تكتشف أن السفر أصبح أمراً عادياً مكروراً ومملاً بحيث لا يعدو كونه شيئاً هامشياً بالقياس إلى ما حولها من صخب وحركة حيوية: "رقم أنا/ في الفندق الكبير/ معلّقٌ في عروة المفتاح"(3)، ففي عالم الفنادق والمقاهي والبحر وتأنّق المصطافين لا تجد نفسها إلا وحيدة.
وهنا يبرز في تجربتها الشعرية مفتاحان جماليان من منطلق علاقتها بكل ما حولها وهما: المثل الأعلى الجمالي، ومفهوم الجميل. فالمثل الأعلى الجمالي لديها هو مدينة بغداد، تتّخذ منها معياراً لكل ما حولها في الغربة، وبوصلة ترشدها إلى مركز الكون "وبغداد أنتَ. إذا شطّ بي/ مزارٌ، لواني إليها القدَر"(4) وهي تقرّ بأن جمال السفر وهمٌ لم تجن منه إلا القلق والحزن، فلم تنسَ الوطن بل زادت غوصاً فيه "كان وهماً شواطئ البحر تُقصينا فأنساهُ/ كان وهماً فراري/ …/ يحسّ الجمال حولي احتضاري/ …/ وما زالت بتوقيت بغداد ساعتي"(5)، كما أنها تستذكر مزايا الأماكن الجميلة في العراق إذ ترى مشهداً أخّاذاً في سفرها، ففي قصيدتها "زهر الليمون" تقارن بين ما تُشاهده ومكوّنات الوطن من مدن ومظاهر حضارية كالشمال وكركوك وأربيل والإلهة عشتار، "كلّما أزهرت على البُعد ليمونة/ كأن فتحت من جراحي/ نسمات يا ليتها من بساتين بعقوبة/ سرَت في الصباح"(6) ولا تنسى المثال المركزي الأبهى: بغداد، فـ "تلك من شاطئ النواسيّ في بغداد/ أضواؤه سنا الأقداح”(7)، فضلاً على أنّ حضور النواسي وشهرزاد في القصيدة، يحيل إلى شخوص ذات صلة بتراث بلدها وقيمته الحضارية.
ولا تقتصر صورة المثل الأعلى الجمالي لديها على الاسم العلَم بغداد، بل يظهر أحياناً في صورة النخلة. فـ“الكمال هو المثل الأعلى الضمني لكل ما نرغب فيه ونفضّله على غيره. إننا لا نرى هذا الكمال إلا في أجزائه فحسب حينما تُوجّه العاطفة أو الإدراك انتباهنا إلى عناصره"(8). وهذا ما نجده لدى الشاعرة، فهي تفضّل مدينة بغداد وتستذكر منها التفاصيل المادية أو المعنوية كالشوارع والليل والصباح والنور والنخيل. كما أنّ “المُثل العليا لا تكون أصيلة إلا إذا عبّرت عن الإمكانات والاحتمالات التي ينطوي عليها سير الحياة... لكن هذه المثل ليست أكثر من صور في حلم إلا إذا ردّت إلى الوقائع وربطت بها"(9)، وبما أن الشاعرة في حالٍ من الغربة المكانية فالحلم يختلط لديها بالواقع، إذ تتداخل صورة المثل الأعلى الجمالي لديها لتغطي الوقائع والأيام الفعلية التي تعيشها، فـ“حين يقدّم شاعر بعداً جغرافياً، فهو يعرف بشكل غريزي أن هذا البعد يجري تحديده في نفس اللحظة، بسبب كونه مغروساً في قيمة حُلمية ما"(10).
أما نموذج الجميل بالنسبة إليها فيكمن في الحبيب الذي يتقمّص صورة تمّوز البطل الأسطوري وشهر الصيف الحارّ، لأنها كثيراً ما تقابل بينه وبين الشتاء الثلجي البارد في الأمكنة التي تسافر إليها وتقرّ بعجزها عن استيعاب البرد وهي بعيدة عمّن تحب. إنها مضطرة إلى ترك بلدها والنأي عنه، ولكن كما بينَت في قصيدة سابقة فإنها تستنتج أنها تبقى وحيدة بلا أهل مهما حملت من القيم الإنسانية في جعبتها: “تناءيتُ عن بلدي من أسى/ وبارحتُهُ أتقرّى العزاء/ وناديتُ كل الثرى موطني/ فردّ الصدى "موطني" بازدراء"(11).
وفي قصيدة حوارية بينها وبين تموز الحبيب مع عتابه لها ومعاناتها الأمر الواقع تقرّ الشاعرة بضرورة انفصالها عن أرض الوطن: “وأعلم: حبّك حبّ محالٌ/ وأسطورةٌ من زمانٍ غبَر"(12)، وفي ظلّ حاجتها إلى السفر تصرّح "أقول سأهجر كل العراقِ/ ولستُ بأوّل صبٍّ هجر"(13). “إننا لا نترك الشيء الجميل إلا كما نترك الحقيقة أو الصديق، نتركه لكي نعود إليه دائماً وقد زدنا تقديراً له"(14)، فالشاعرة غير قادرة على البقاء في أي مكان من الوطن بسبب التضييق الذي تعانيه وعدم قدرتها على ممارسة حقوقها، لكنّها تؤكّد اعتزازها بهذا الحبيب الذي يوازي تموز بطل الأسطورة ويمثّل فصل السنابل والحصاد، وتعِده بأنها ستواصل الحياة مادامت تذْكره بوفاء: “سلامٌ لحرّك يشوي الوجوه/ أذبتُ به الصبر حتى انفجر/ …/ أتموز أعلمُ أني سكتُّ/ عن الشعر، هبني جواداً عثر"(15).
الاغتراب في بيروت
في بيروت تعيش لميعة عباس عمارة جمال الطبيعة والمكان تارةً، وقبح الحرب تارة أخرى، وفي كلتا الحالتين تستذكر بُعدها عن الحبيب بشكل خاص. إنها في أماكن أخرى كأميركا كما سيرد لاحقاً، تفتقد وطنها أكثر، أما في بيروت فتشعر بوحدة لا يعوّضها وجود الناس حولها لأن الحرب تنال منهم ولا تجعلهم في حالٍ مستقرّة. في ذروة الجمال تقول: “يسأل عنك البحرُ حبيبي/ وصخور الروشة/ والمقهى"(16)، وفي القصيدة نفسها تنادي مدينتها بغداد لعلّها تحمل لها شيئاً من السكينة.
وفي صورة مختلفة تُقحم الشاعرة نفسها في جوّ الرهبان والكنيسة بعيداً عن البحر والطبيعة، لعلّها في هذه المفارقة تشعر بقرب حبيبها والوفاء له من خلال اكتشاف شعائر التعبد والترهبن الخالية من زينة الحياة وصخبها. غير أنها في الحالين لا تستشعر الجمال بل المزيد من الانقطاع عن الحياة، وتسعى الشاعرة إلى مقارنة كل شيء بالوطن، وتتمنى وجود الحبيب إلى جانبها حتى أثناء إذاعة خبر هبوط أول إنسان على سطح القمر، فهي تناجي حبيبها ثم تنتقل إلى افتقاد بغداد والقول بأن بيروت خالية من الجمال في غياب من تحب. وتُعمّق وعيها الداخلي الذي يسكنه النخيل بوصفه مثلاً أعلى جمالياً، فهي تستهجن القمر الذي يتحدثون عنه في وسائل الإعلام "ما ذاك بالقمر الذي خلّفتُه/ فوق النخيل بزهوه المعتادِ"(17) في تناصٍ ثقافي مع الأغنية العراقية التراثية "فوق النخل"، إنها عراقية حتى الصميم يسكنها هاجس الوطن في كل حال.
وفي موضع آخر يتأكّد تماهي الحبيب مع تموز "تموز ببيروت/ يبعد عن آذار ثلاثين دقيقة"(18)، وهي إمعاناً في حبّ تموز على الرغم من حرّه الشديد تبقى ملازمة للبحر وتُعرض عن المضيّ إلى الجبل المنعش الأجواء، فالجمال لديها يحقق نسبيته في أنه ما ترتاح إليه، لا ما يقرّه الآخرون بمقاييسهم.
تمرّ الشاعرة بتجربة مختلفة تماماً عمّا سبق، ففي الملجأ الذي تقبع فيه هرباً من عنف الحرب وقذائفها ليس ثمة جمال نسبي، بل القبح وعواقب القتال والأسلحة حاضرٌ يلقي بظلاله على الجميع “ما جدوى كل وجودي في بيروت/ مفترسٌ هذا الحب وأعمى"(19)، وفي هذا الموقف تستدعي الشاعرة حبيبها: "كنت أريدكَ تحمل خوفي/ فأنا أضعفُ من أن أحمله وحدي"(20) مقابل الخوف والهلع تحاول استذكار الجميل الذي قد يخفف عنها، مع أنها تحت وطأة الواقع تكاد تتخلى عن يقينها بالحياة وتسلم زمامها للموت "أستدعي الوهم/ وأستنجدُ بالأحلام/ بالحبّ المطلق لا شكل له لا رائحة/ لا لون"(21) إنها تعاني الغربة عن الوطن والحبيب والإنسانية، وتتحقق من أنّ الأحلام والقيم المطلقة لا وجود لها في الملاجئ ولا تعني شيئاً في حضور السلاح والكراهية.
إن صورة الموت السابقة تتوافق جزئياً مع الجوّ الكئيب الذي تعيشه الشاعرة وتخلعه على أيامها ومشاهداتها في بيروت، فتستوقفها إحدى حوادث الانتحار الشهيرة من على صخرة الروشة في بيروت، لتتأمل ما قيل عن امرأة انتحرت هناك. إنها تتمثّل فيها نفسها وتنظر إلى كل شيء بمنظار أسود يبدو فيه أنّ "الشمس رغيف نهشَتْه الأسماك/ الشمس رغيف كان هناك"(22) فهي لا تستدعي الوطن أو الحبيب مباشرة، لكن غربتها تفرض عليها مفردات توحي بالبرد الذي تكرهه وبالجمود الذي يقابل ما تعهدُه من دفء الحب والحياة عادةً: “سيدة السرّ الباردة القدمين"(23)، وترِد بيروت في بعض القصائد كـ "الهجرة الدائرة" و"صباحات بيروت" و"ليل بيروت" في ديوانها "البعد الأخير" ضمن سياق من التأمل في حال المدينة وسكّانها وما تؤول إليه من ألم وحسرة في الحرب.
الاغتراب في الكويت
يَبرز اغتراب الشاعرة لميعة عباس عمارة المكاني في الكويت من خلال جانبين، الأول هو غربتها عن الحبيب الذي يرمز إلى مفهوم الجميل، فهو يعمل في الكويت وهي تشتاق إلى حضوره، والثاني غربتها في الكويت عن الأحبة وعن مدينتها ومثلها الأعلى الجمالي بغداد. تدلّ على الجانب الأول قصيدة من مقطعين بعنوان "رسالتان إلى الكويت"، ففيها تستذكر التشابه بين حبيبها وبين شهر تموز الحارّ الذي يحيل إلى بطل الأسطورة القديمة "تموز" الذي تعشقه "عشتار"، ويبرز تماهي حبيبها مع الدلالة الأسطورية في قولها: “يا مؤثراً حرّ الكويت/ على نسائمنا اللّطاف" (24) ففي شهر تموز ثمة حبيب غائب تغيب معه مظاهر الجمال التي تصاحب وجوده عادةً إلى جانبها "ألقاك/ تشرق نظرتي".(25) أما في حالة الشوق والغياب فثمة مفارقة، فكفّاها باردتان. ونرى أنّ ظاهرة كره الشاعرة للبرد ستتكرر في قصائد تالية الأمر الذي يعزز حضور تموز بوصفه رمزاً جمالياً.
أما في القسم الثاني والرسالة الثانية في القصيدة، فتوجّه الشاعرة حديثها إلى طبيعة الكويت ومكوّناتها. لقد كانت في القسم الأول تناشد حبيبها بأن يلقاها في مكان معتدل مثل لبنان أو بغداد حيث الذكريات الجميلة، وحيث بغداد هي المثل الأعلى الجمالي وأفضل مكان تحبّه الشاعرة، وترغب أن تتمحور حوله كل الأشياء الجميلة مهما كان قبح الواقع. ولكنها في هذه الرسالة تطالب الطبيعة بأن تتقمّص شخصيتها وتحنّ على حبيبها وتمنحه المزيد من الصمود في وجه القسوة والشظف، إنها تستخدم صيغة الأمر بمعنى الرجاء فتخاطب البحر والبرّ، وموجة الخليج، ورمال الشط وتطلب منها البركة في الرزق والعطف "ضمّيه يا نسائم الخليج في الضلوع/ فهو غريبٌ متعبٌ ضاقت به الدروب"(26). ويمكن القول إن حضور "السفَر" لدى الشاعرة جعل من الطبيعة لديها أساساً تُخاطبه قبل الإنسان، وتسعى إلى التصالح معه أولاً، فقد خَبرت تقلبات البشر ونسبيّة القيم لدى الناس وتقلقل مفهوم الإنسانية والأوطان، فاتّخذت من الطبيعة التي اعتادت ظواهرَها منذ الطفولة عنصراً ثابتاً أزلياً.
تستعيد الشاعرة صورة بغداد المكان المثال، في قصيدتها "إلى الخليج العربي"، الموثّقة مكانياً بالكويت، فهي تعني بالخليج منطقةَ الكويت التي تعاني فيها من الحنين والقلق والعذاب والشجو، وتطالعنا مفردة "الجرح" ذات الصلة بالآلام التي ترغب الشاعرة في دفنها "سأدفن هذا الحنين اللجوج"(27)، فهي تكرر عبارة "أحنّ لبغداد"(28) في إشارة ومعاناة من أنها ضائعة في هذا المكان الذي تضطر إلى دفن حنينها فيه نظراً لعدم قدرتها على العودة إلى بلدها حيث مدينة بغداد، فالمعاناة والاضطراب السياسي يمنعانها من تحقيق راحتها وسكينتها النفسية في الإقامة فيه.
ونشير إلى أنّ ثمة مدناً وبلاداً ترد في قصائد لميعة عباس عمارة، وقد اغتربت الشاعرة لبعض الوقت في هذه الأماكن من مثل: تونس وقطر والإمارات العربية ومصر وليبيا والمغرب والشام، ولكن لم تبدُ معاناة في ذلك، وإنما جاءت القصائد لأغراض توثيقية أو بحسب مناسبة معينة، ومنها القصائد: “في مصر لأول مرة" و"أبو القاسم الشابي" و"بغداد لن ترتد" من ديوانها: البعد الأخير. وقصائد: “تونس" من ديوانها: يسمونه الحب، و"بيروت ملهمة الشعراء" و"سلام على قطر" و"في المغرب" من ديوانها: قبل الـ2000.
الاغتراب في باريس
في القصيدة النوعية "شتاء باريس" يقتصر تجلّي الاغتراب المكاني لدى الشاعرة في أوروبا على مدينة باريس، حيث تفتقد أحبابها: “آه ما أبعد أحبابي"(29)، وفي صفحات قليلة تَلوح علاقة مضطربة بين الشاعرة والمدينة على الرغم من أنها تقرّ بجمال الطبيعة فيها، ولكنها لا تستطيع التلاؤم معها، ولا سيّما أن الحبيب غائب، وذكرى بغداد تسكن الروح وليست تغيب.
“تتقاصر أشباح الأبنية الدكناء من البرد/ وتسكن أوصال الشجر/ وأنا في صمتي الثلجي/ بساتين نخيل خرساء/ وبيتٌ من شَعر/ أجهلُ ترويض البرد بباريس"(30)، وكما في قصائد عديدة فإن مفردة النخلة أو النخيل تنوب عن بغداد في أنها المثل الأعلى الجمالي لدى لميعة عباس عمارة، ففي مقابل الأبنية والأشجار تُستحضر صورة النخيل، لكنه وإن كان في المخيّلة، فهو لا يعيش في زهو خارج الوطن، إنه نخيل أخرس يتجاوب مع صمت الشاعرة الثلجي. وهذا يتوافق مع تصورها للجمال في بلادها حيث الحبيب تموز والطقس المواتي للنخيل، حيث كل شيء يصبح جميلاً ولو كان بيتاً من شعر. لا ترى الشاعرة الأبنية الدكناء إلا قصيرة ولا تستشعر جمال الأشجار الساكنة الأوصال من البرد. البرد حالة طارئة على الشاعرة تزيدها الغربة عجزاً فهي وحيدة غائبة عن مظاهر الجمال. وتعزز أبياتُ القصيدة نسبيةَ الجمال، فالشاعرة تقرّ بالرذاذ الناعم للمطر وحضور مظاهر الفن والعشّاق، ولكن يطغى عليها إحساس الغربة في هذا المكان، ويعكّر عليها الاستمتاع بهذه المباهج، بل هي تفتقد قيود الحبّ والرقابة في بلادها على العشّاق والأفكار وتراها جديرة ببعض الحنين "آه ما أبعد أحبابي/ أهدابي أوتار/ ورذاذ المطر الأنعم من كفّ حبيب/ أصابع فنّان/ وحوائط ليس لها آذان/ الأبواب الخرس هنا تلسعني"(31)، إذ ليس من اليسير أن تتحول فجأة من قيم اجتماعية إلى قيم أخرى مهما كانت أفضل، فهي وحيدة وتحتاج إلى مشاركة من بيئتها كي تتمكن من الحصول على السعادة.
الاغتراب في كاليفورنيا
في سان دييغو في ولاية كاليفورنيا الأميركية حيث أقامت الشاعرة، تلوح الحدود مع دولة المكسيك المجاورة، وتبرز أزمة إنسانية تكمن في وجود المهاجرين العراقيين الذين هربوا من بلادهم. إنهم مواطنو الشاعرة لميعة عباس عمارة، تجد في تأمّل حالهم الكثير من الأسى، وهي تنعى قبح الواقع الذي دفع بهم إلى اللجوء، بما يحمله من ألم ومعاناة وضياع، فنرى في قصيدتها مفردات عن الخوف والفزع والتدمير والحرق والملاجئ والصواريخ والقذائف. وفي غمرة الأسى لا تملك الشاعرة إلا أن تجد في وجه كل عراقي وجه الحبيب الجميل بالضرورة، فهو قادم من هناك، من أرض الوطن، تشاركه الانتماء: “يا وجهه ورغم ما تحمل من كآبةٍ/ ما أجملك!”(32)
ومن جهة أخرى فإن النخيل رمز المثل الأعلى الجمالي ـ بغداد ـ مقيمٌ في روح الشاعرة وحاضرٌ للمقارنة دائماً، فهي تقول: “بي من شموخ النخل والكرَم المؤصَّل في بلادي/ كان اعتزازي أن أجوع ولا أطأطئ كالنخيل"(33). كما تنشد في نهاية القصيدة مقاطع من شعرها الشعبي حول نخل منطقة السماوة والجسر المعلّق، وما يحيل إليه من حزن على حال العراق وأطفاله وسكّانه. وهي تعرض للظروف القاسية التي نحّت المثل الأعلى الجمالي جانباً، لتحلّ محلّه صور من قسوة الواقع، فبلدها العراق الذي أنهكته الظروف السياسية الداخلية والخارجية وقع في كوارث إنسانية، منها الفقر والعوز والضيق واضطرار الناس إلى الهجرة، وكوارث ميدانية منها مأساة ملجأ العامرية المدني الضخم في بغداد، الذي قصف في حرب الخليج الثانية عام 1991.
إنّ الشاعرة مكبّلة بالإحساس أن الحضارة ذات وجهين: الطرف القوي والآخر الفقير، وهي وسطهما لا تملك سوى التأمل لترى في وجه كل هاربٍ وجه أمها تارة وحفيدها تارة أخرى، وجوه مألوفة بعيدة عن الجمال المنشود وأقرب إلى البؤس الأليم "الدرب للمكسيك يوصلني إلى كل الدروب/ لأرى يد الجبّار ممسكة بأعناق الشعوب/ الدرب ملأى بالجياع وبالمساكين الذليلة/ من هاربٍ عبر الحدود وهاربين إلى التكيلة/ ضيّعتُ وجهك في زحام الفقر في المكسيك"(34).
وتَظهر مدينة سان دييغو في قصيدة أخرى، بوصفها المدينة الجميلة التي تقضي فيها الشاعرة فصولاً من السنة، لكنها لا تلبث أن تذكر الحبيب ثم تتذكر الأماكن الجميلة التي تحبها وترى فيها الكثير من الجمال، كما هو جمال الحبيب في نفسها. وكما في قصائد سابقة فإن الطبيعة عنصر محوري في وجدان الشاعرة وتفاعلها مع ما حولها من قيم إنسانية، فإذ تشتاق إلى الحبيب "يشوقني لك المطر الخفيف/ ويُسقط كل أوراقي الخريف"(35) تكمن مفارقة بين الحبيب القريب من صورة شهر تموز شهر الصيف، وحضور الخريف الممطر ذي الورق المتساقط، وكذلك هي مفارقة في قولها أمام شاطئ المحيط الهادي: “كأنك ذلك الهادي المخيف"(36) فجمال سان دييغو منقوص، مقابل الحبيب ذي الجمال الكامل المُفتقَد بشدّة على بُعد آلاف الأميال من أرض الوطن. أما فصل الربيع في سان دييغو أيضاً فيذكّرها بأماكن أثيرة إلى نفسها، لبنان وكردستان والقدس، إنها أماكن اكتسبت قيمة الجمال لطبيعتها الساحرة وأفراحها وبعدها التاريخي، فضلاً على كونها مألوفة لدى الشاعرة لها فيها معارف وذكريات وتجد فيها امتداداً روحياً، يختلف بالضرورة عن مكانٍ آخر قَصي كمدينة سان دييغو.
إن لميعة عباس عمارة سرعان ما تُبيّن سبب المفارقة الواضحة في موقفها، والغصّة التي تمنع مكاناً كهذا الشاطئ من أن يكون جميلاً، إذ تقول: “وكيف أعيش رغداً في بلادٍ/ تُسنّ لأهلنا فيها السيوف"(37). إنها تنظر إلى المكان الأميركي بوصفه متبايناً لأنه جميل الطبيعة من جهة، وقبيح التعامل مع شعب الشاعرة وإقليمها الجغرافي من جهة أخرى، وهكذا مع نسبية القيم الإنسانية تقصَى سان دييغو عن قيمة الجميل، بل تتصاعد مفردات مانعة في ذهن الشاعرة كالمنافي والتباعد والشرود.
وفي قصيدة أخرى تلقيها الشاعرة في مدينة سان دييغو بعنون "إنمي Enemy” ـ العدوّ باللغة الإنكليزيةـ تُبرز الشاعرة كفّتي ميزان غير متكافئتين، ففي مقابل الحب والإقبال اللذين تتوجه بهما إلى أميركا عموماً، فإن الطرف الآخر يواجهها بالاتهامات المسبقة، ويتجرّد من إنسانيته المدّعاة. فهي التي تحب أميركا منذ أن كانت طفلة تتصفّحُ الخريطة وتتمثّل فيها الجمال والرّوعة والطبيعة مع خيالها الطفولي الحالم، تُقابَل هي وكل بني قومها باتّهام خطير بالعداوة المسبقة وسوء النوايا: “أنا أحببتك أمريكا/ ومذ وعي الطفوله/ ولكم سافرتُ في حلمي/ إلى سيدة البحر الجميله/ زورقي من ورقٍ/ أُبحر فوق الأطلس المرسوم بالألوان"(38).
إنها تلقي القصيدة في منبر يكافح ضد التمييز العنصري، وتشعر بالمزيد من الاغتراب الروحي المصاحب لغربة المكان، فكأنها محامٍ في محكمة، يسوق الحجج على براءة موكله المتهم زوراً، وتحاولُ أن تقرّب الفكرة إلى وعي متلقيها الأجانب، وتعلن براءتها من الأفعال القبيحة التي لا صلة لها بها، بل إن هذه الأفعال ليست غريبة عن مجتمع الأميركيين وتعاملهم مع الأقوام الأخرى: “أنا ما جوّعتُ طفلاً من كاليفورنيا/ ولا أحرقتُ بالحقد المعامل/ أنا ما دمّرت جسراً من على (الهدسن)/ لم أقصف (سياتل)/ أنا ما وشّحتُ بالأسود آلاف الأرامل/ فلماذا أنا أدعى إنمي؟"(39)
في موضوع ذي صلة بالقصيدة السابقة تسعى الشاعرة في قصيدتها "لعنة التمييز" إلى بيان حالة الألم والاضطهاد التي يمارسها المجتمع على الفرد فيما يتعلق بمعتقداته ودينه واختياراته الشخصية أحياناً، وتُبرز الشاعرة أنها تعاني قيود المجتمع حتى وهي في كاليفورنيا، إذ يذهب المحيطون بها إلى تَقَصّي أصلها ودينها بوصفهما داعياً للمقارنات والفوارق “من الطوفان حتى كاليفورنيا/ لم أزل أعثر بالقيد الذي هم ألبسوني"(40). وفي الوقت نفسه فإن الشاعرة تصرّ على انفتاحها على جميع ما حولها من أفكار وتفاعلها مع عقائد مجتمعها وأن الطبيعي هو اندماج الفرد في محيطه لا التقوقع على ذاته. إنها تتخذ من الغربة المكانية في كاليفورنيا نافذة على تاريخ التمييز العنصري منذ عصر الطوفان حتى يومنا هذا، وتوحي بأنّ القيد مفارق لجمال الحرية والانطلاق، وأنه عائق قبيح يمنع المجتمع من الإحساس بجمال تنوعه وقوّته.
في قصيدة "لي أندرسون Lee Anderson” يعاود رمز النخلة الظهور ممتداً على مدار القصيدة، وتدور معه المفارقات بين الجمال والقبح، بين الحب والظلم. وتُبرز الشاعرة الجانب المشرق الحضاري لدى الطرف الآخر أي المواطن الأميركي لي أندرسون عاشق النخيل، فهي تجد شخصاً يتفق معها في النظر إلى النخيل على أنه مهمّ. لكن النخلة في نظرها رمز للمثل الأعلى الجمالي، فهو قيمة ثابتة راسخة قد تختفي زمناً لكنها مزروعة في الوجدان، أما أندرسون الذي يمتلك بستان نخيل في كاليفورنيا، فينظر إلى النخيل على أنه شيء جميل، ويسعى إلى العناية به عناية فائقة ولا سيما أنه عانى كثيراً في سبيل تهريبه إلى بلده أو شرائه من التجار المهربين. المهم في الأمر أن جمال النخيل لديه محصور في الجانب المادي الملموس، فمن المرجّح أنه يحب شكله وثماره التي يحفظ أسماءها ويسعى إلى الحديث مع الشاعرة العراقية مطولاً حول خصائصها وأنواعها، غير أن البعد المادي الوحيد يجعل أندرسون ينوء بحزنه وألمه أمام مشاهد النخيل المحروق في العراق في فترة الحرب. إنه يتفجّع عليه بوصفه ضحيّة "منتصباً يقف النخل المحروق على مدّ البصر/ شهداء لم تُدفن/ ليذكّر بالحرب العبثيه/ ترثيه الريح/ وتعوِل نادبةً:/ حتى النخلُ ضحيّه؟/ حتى النخل ضحيّه؟"(41)
أما الشاعرة فيؤلمها احتراق النخيل، وتستذكر حادثة الوالي العثماني الذي أمر بقطع رقاب النخيل عندما قيل له إن الحرّ الشديد الذي أزعجه ضروري لإنضاج التمر، فهي موقنة أن المثل الأعلى في الجمال يبقى حياً مهما توالت عليه صروف الدهر، ولن يضيره الحرق أو القطع لأنه حيّ وذو حضور تاريخي تراثي ويحمل مقومات الاستمرار في بيئته وبين سكّان العراق.
الاغتراب في ديترويت
في مدينة ديترويت الأميركية يتعاظم إحساس لميعة عباس عمارة بالاغتراب، فمثلها الأعلى الجمالي يقتحم المكان رغماً عنها حين تلتقي بمحبيها وتصافحهم بمودّة وسط ترحيبهم، فترى بغداد بين يديها وجوداً غير كامل نظراً للبعد المكاني، “أبغدادُ جاءت إلى هذه البقعة النائية/ أحسُّ ورود المَحبة في كل كفّ تصافحني"(42). إنّ إحساسها بمدينتها الأثيرة يستحضر ما فيها من صور الحزن والألم مفارقة لما في ديترويت من طمأنينة ورفاهية، ففي بغداد الذكريات ثمة الآن بؤس يتمثّل في مفردات في القصيدة تدور حول ويلات الحرب من الغصّة والجوع والحزن، وشحّ الدواء والسرقة والذبح والجنون والقتل والمعاقين. فليس من سبيل للإحساس بالهناء، والجمالُ غائبٌ ما دام الوطن في ضيق، "يوحّدنا الحبّ، حب العراق/ وتجمعنا غصّةٌ وهمومٌ كبيره"(43).
الاغتراب في لونغ آيلند
تستعيد الشاعرة في قصيدتها "موسم الشجر الملون" ذكرى حبيبها وذكرى بغداد، فيجتمع كل من الجميل والمثل الأعلى الجمالي، أحدهما في بداية القصيدة والآخر في نهايتها، وما بينهما تكمن الغربة وأحاسيس الحيرة وعدم الانسجام مع مظاهر الطبيعة الجميلة، فهو جمال ناقص كما في كثير من قصائدها السابقة. إن الشاعرة لم تعتد الثلج والشتاء وبرودة شهر كانون، فثمة مفارقة بين حبيبها القوي الذي تشبّهه بالأطلس الورد، وبرد الشتاء "تقضّى الصيف فالشطآن خالية/ وعزف الريح ترتيلُ/ ومثل مواسم الأزياء في باريس/ للأشجار بالألوان تبديلُ"(44). ففي غياب الصيف تكمن صور الوحشة والورق المذبوح والفوضى والخذلان المفارِقة للجمال والمستقرّة في نفسها.
إنها تعترف بجمال الطبيعة لكنها عاجزة عن الإحاطة بها وكأنّ أحاسيس الدهشة والحب والبهجة لا تكون إلا في رحاب بغداد وفي صحبة الحبيب "جميلٌ كل ما حولي/ نقيٌ مترفٌ خضل/ على أني بهذا الثلجِ/ ثلجٌ آخر/ لا يعرف الدهشه"(45) وفي قصيدة أخرى بعنوان "حلم" من ديوانها "أغاني عشتار"، تبدي لميعة عباس عمارة وحشة مماثلة إذ يطوف بها الخيال في قمم ألاسكا الباردة التي تسلبها تفاعلها الجميل مع محيطها "فألتقيكَ في ذرى ألاسكا البيضاء/ والشمس في عزّتها أوهى من الشموع"(46).
لقد تفاوت موقف الشاعرة من السفر على نحوٍ جليّ، بين السعادة بما فيه من جديد، والإحساس بالنجاة والبعد عن القيود، وبين كونه مسرحاً للحلم ببهجة الوطن، ومكاناً تفتقد فيه الظواهر والأجواء الأليفة والحبيب البعيد. فكان الاغتراب المكاني واقعاً يرافق الشاعرة لميعة عباس عمارة، ويتشكّل جمالياً في قصائدها على امتداد حياتها الشعرية الزاخرة.
الهوامش:
1 ـ لميعة عباس عمارة: شاعرة عراقية معاصرة ولدت في بغداد عام 1929، تعود أصول عائلتها إلى مدينة العمارة العراقية، عملت في التدريس وفي الحقل الثقافي والدبلوماسي، تكتب الشعر الفصيح والشعبي، وتعيش منذ ثمانينات القرن الماضي في ولاية كاليفورنيا الأميركية، أبرز دواوينها: الزاوية الخالية، بغداد 1959. عودة الربيع، بغداد1962. أغاني عشتار، بيروت1969. عراقية، بيروت1971. يسمّونه الحب، بيروت1972. لو أنبأني العرّاف، بيروت1980. البعد الأخير، بيروت1987. قبل الـ2000، بيروت/كاليفورنيا2001
2 ـ لوأنبأني العرّاف، لميعة عباس عمارة، الطبعة الثانية، كاليفورنيا1996، ص77
3 ـ لو أنبأني العرّاف، ص75
4 ـ لو أنبأني العرّاف، ص32
5 ـ يسمّونه الحب، لميعة عباس عمارة، طبعة جديدة، كاليفورنيا2001، ص73
6 ـ قبل الـ2000، لميعة عباس عمارة، الطبعة الأولى، بيروت/كاليفورنيا2001، ص47
7 ـ قبل الـ2000، ص48
8 ـ الإحساس بالجمال، جورج سانتيانا، ترجمة د.محمد مصطفى بدوي، مكتبة الأسرة، القاهرة 2001، ص347
9 ـ الفردية قديماً وحديثاً، جون ديوي، ترجمة خيري حماد، مكتبة الأسرة، القاهرة2001، ص126
10 ـ جماليات المكان، غاستون باشلار، ترجمة غالب هلسا، المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر، الطبعة الثانية، بيروت1984، ص172
11 ـ أغاني عشتار، لميعة عباس عمارة، الطبعة الثالثة، بيروت/كاليفورنيا2001، ص12
12 ـ لو أنبأني العرّاف، ص34
13 ـ لو أنبأني العرّاف، ص30
14 ـ الإحساس بالجمال، جورج سانتيانا، ص347
15 ـ لو أنبأني العرّاف، ص37ـ 38
16 ـ يسمّونه الحب، ص90
17 ـ أغاني عشتار، ص99
18 ـ يسمّونه الحب، ص88
19 ـ البعد الأخير، لميعة عباس عمارة، الطبعة الثالثة، كاليفورنيا2001، ص60
20 ـ البعد الأخير، ص55
21 ـ البعد الأخير، ص58
22 ـ البعد الأخير، ص62
23 ـ البعد الأخير، ص62
24 ـ أغاني عشتار، ص15
25 ـ أغاني عشتار، ص14
26 ـ أغاني عشتار، ص16
27 ـ أغاني عشتار، ص21
28 ـ أغاني عشتار، ص19 ـ 20
29 ـ لو أنبأني العرّاف، ص22
30 ـ لو أنبأني العرّاف، ص21
31 ـ لو أنبأني العرّاف، ص22 ـ 23
32 ـ قبل الـ2000، ص59
33 ـ قبل الـ2000، 58
34 ـ قبل الـ2000، ص63
35 ـ البعد الأخير، ص5
36 ـ البعد الأخير، ص5
37 ـ البعد الأخير، ص7
38 ـ قبل الـ2000، ص55
39 ـ قبل الـ2000، ص57
40 ـ قبل الـ2000، ص67
41 ـ قبل الـ2000، ص46
42 ـ قبل الـ2000، ص24
43 ـ قبل الـ2000، ص25
44 ـ لو أنبأني العرّاف، ص10
45 ـ لو أنبأني العرّاف، ص11
46 ـ البعد الأخير، ص49
* نشر المقال في مجلة أبابيل العدد رقم 58 ، تشرين الأول/ أكتوبر 2012
رابط عدد المجلة والأعداد السابقة:
http://www.ebabil.net/
Published on February 08, 2013 01:57
No comments have been added yet.
علياء الداية's Blog
- علياء الداية's profile
- 778 followers
علياء الداية isn't a Goodreads Author
(yet),
but they
do have a blog,
so here are some recent posts imported from
their feed.
