صافي ناز كاظم's Blog, page 7
November 7, 2013
آية 35 من سورة الأنعام:
بسم الله الرحمن الرحيم: "وإن كانَ كبُر عليك إعراضُهُمْ فإن استطعت أن تبتغيَ نفقا في الأرض أو سُلّما في السماء فتأتيَهُم بآية ولو شاء اللهُ لجَمَعَهُمْ على الهُدى فلا تكونَنّ من الجاهلين (35)" صدق الله العظيم.
Published on November 07, 2013 23:44
بلاغ إلى السيد النائب العام:
كتب المسكين عمرو عبد السميع هذه الكلمات اليوم بجريدة الأهرام، (7 نوفمبر 2013)، في سياق لا علاقة له بها: "..جواسيس الولايات المتحدة التي كانت تجهز لمؤامرتها الكبرى ضد مصر حتى وجدت فرصتها للنيْل منا يناير 2011..."؛ إنه لا يكف عن سب وقذف ثورة الشعب المصري المجيدة في 25 يناير 2011 منذ سُمح له بالكتابة يوميا في جريدة الأهرام، هذا الأمر الذي تمناه طويلا ولم يتح له إلا في فترة رئاسة الدكتور محمد مرسي وشبط به فوق أدمغتنا حتى الآن.
أظن أنه من الضروري أن نتقدّم ببلاغ إلى السيد النائب العام ضد السيد عمرو عبد السميع عبد الله بتهمة سب وقذف الثورة العظيمة التي إنبثقت في 25 يناير 2011، ودأبه على إزدراء مشاعر الشعب المصري وشهداء الوطن بتمجيد من آذوه وآذوهم من القتلة واللصوص.
أظن أنه من الضروري أن نتقدّم ببلاغ إلى السيد النائب العام ضد السيد عمرو عبد السميع عبد الله بتهمة سب وقذف الثورة العظيمة التي إنبثقت في 25 يناير 2011، ودأبه على إزدراء مشاعر الشعب المصري وشهداء الوطن بتمجيد من آذوه وآذوهم من القتلة واللصوص.
Published on November 07, 2013 06:27
November 6, 2013
طوق النجاة:
أبدا أبدا ليست مستعصية!
من أكثر المتحدثين إلى أنفسهم هو أنا، والحمد لله الذي جعل لي الكتابة، بالقلم أو بالحاسوب، ملاذا ألجأ إليه، تم نشرها أو إنكتمت في واحد من ملفاتي التي تحتفظ بما أقول لحين ميسرة نشر ولو بعد حين طالت سنواته أو قصرت، ولقد عرفت بالخبرة دعائي: الحمد لله الذي لم يجعل نشر مقالاتي بيد غيره.
لقد أحببت منذ الستينات عنوان زاويتي "مونولوج" بمجلة الكواكب معللة ذلك بأنه يرفع الحرج فلا نؤخذ إلى التورط في سراب "الديالوج" الذي يعني وهم "الحوار"!أكلم نفسي وليسمعني من يريد، وليهرب من يشاء، فالحرية لمن يشتاق إليها تأتي في هذا السياق، بحق، مكفولة ومؤكدة وبعيدة عن التزوير!
تهديني ذاكرتي الآن غلاف رواية نشرتها سلسلة روايات الهلال أغسطس 2002 عنوانها: "حالة مستعصية" للأديب السكندري "سعيد سالم"، (فاز هذا العام بجائزة الدولة التقديرية)، وهو أديب لاذع يتملك سطوة المزاح بأدوات فن صعب؛ لا أتحمله إلا من الذين يعرفون دروبه ومسالكه فيتحركون على أرضه بشقاوة وحكمة ورشاقة وثقة، وخفة ظل أصيلة منحها لهم الله سبحانه موهبة لا صنعة فيها ولا تكلف، يوقظون الشغف للقراءة، وإن كتبوا المرفوض لدي فأسامحهم لبلوغهم براعة التوظيف.
هذه الرواية، التي قرأتها منذ سنوات ونسيت، بالطبع، تفاصيلها تماما حققت حضورها في إحساسي وكلما عبرت بخاطري ترسم على وجهي الإبتسامة المخضلة بالحزن والمحن، يتكلم بطلها بالتداعيات، يطارده آخر بمكالمات هاتفية يسبه ويشتمه ويكيل له الإتهامات، ونظل نتساءل، مع بطل الرواية الحائر، عمن يكون هذا العنيد الذي يطارده بالسب واللعنات وسرد الفضائح حتى يكتشف المفاجأة ونعرف منه أنه هو في حالة "مونولوج" منقلب على نفسه؛ فهو المُطارَد ـ بفتح الراء ـ وهو المُطارِد ـ بكسر الراء ـ ! شكل أدبي لتصوير "ذات" تحاسبها نفسها اللّوامة بعد أن سجّلت عليها الخطايا والكذبات وادعاءات التقوى والإستقامة المزيفة.
لا خوف إذن لمن يريد طوق نجاة: اتركوا المجال متسعا للنفس اللّوامة تلهب سياطها أبدانكم ليل نهار ومن ثمّ تخرج "الحالات" من أزمتها وأبدا أبدا لن تكون مستعصية!
Published on November 06, 2013 02:26
November 5, 2013
بنية الترويح عن النفس أحكي حكاية رحلة إلى مدينة تدمر السورية عام 1969 مع الشاعرين نجيب سرور وممدوح عدوان:
لعلي أول من ذكر اسم «الشاعر» السوري ممدوح عدوان في منتديات القاهرة، حاملة دواوينه، متغنية بقصائده، منذ عدت من مهرجان دمشق المسرحي منتصف عام 1969، أقرأ لأصدقائي من أبياته كأني أعرض حالي:
«أنا أعرف كيف تضيق الأقبية الرطبة
كيف يضيق الصدر، وكيف يضيق الشارع
كيف يضيق الوطن الواسع
كيف يزور وجه الوطن الرائع
كيف اضطرتني الأيام،
لأن أهرب من وجه عدوي والضيف
لكني
حتي لو صارت علب الكبريت بيوتا
لو ينخفض السقف ويضحي تحت العتبة
لو ضم رصيف لرصيف،
صار الشارع أضيق من حد السيف
....................
....................
لو جار الأهل، تخلي الصحب،
وهاجر حبي كسنونوّة
لو هجم السيل،
لو انهدمت في حارتنا الجدران
سأظل وحيدًا في الحلبة
سأظل كآخر قنديل
بفتيل لا يتعبه التلويح
مرتعشا في العتمة حتي تطفئني الريح
....................
....................
....................
أنا أدراكم بالقهر،
بما في قلبي من قهر
لكني لن ألحق أحلامي جريا خلف مياه النهر
إني أنتظر الحلم القادم من ليل الموت
لا بأس إذا انتظر اليائس عاما أو عامين؟
....................
....................
....................».
كانت هزيمة 5/6/1967 خلفنا خنجرًا مسمومًا طعنة لابدة بالظهر، لا نكاد نصدق أننا بقينا بعدها أحياء، ولمدة عامين ياللهول ويا لطول الزمن الذي لا بأس إذا انتظر معه اليائس عاما أو عامين!
* * *
لقائي الأول بممدوح عدوان، الشاعر الشاب، المولود بقرية مصياف السورية 23 نوفمبر 1942، كان في مؤتمر الأدباء العرب الذي عقد ببغداد مارس 1969، لم يكن قد أكمل عامه السادس والعشرين، يعلن عن مقدمه بضحكات مجلجلة، ويغادر بخروج مماثل، وبينهما حالة شعر لا تهدأ ولا تكف عن الإنشاد بمفردات الموت والمقابر بعد التعب والقهر والمذلة. كنت مثله أضحك رغم قولي بيقين: لم يعد في قدرة العربي أن يستمتع.
كان المؤتمر كاذبا مزيفا مخادعًا ككل المؤتمرات قبله وبعده، ونبتت صداقتي مع ممدوح عدوان باتفاقنا أننا لا نمت إلي المؤتمر بأي صلة. جاءتني دعوة، قبل ترك بغداد والعودة إلي القاهرة، لحضور مهرجان دمشق المسرحي.
فيدمشق كان نجيب سرور مدعوًا، يجلس علي المنصة في ندوة من الندوات بين آخرين من المتكلمين. جلس ممدوح إلي جواري مع المستمعين، نافد الصبر مثلي، غضبان، يحتج، وبدأتُ المعارضة، وساندني في الشغب. لوهلة بوغت نجيب سرور لكنه سرعان ما انتفض:
«لأ... بقولكم إيه... هوَّه عشان ما أنا علي المنصة بقيت سلطة وبقيتم ثوار؟ آدي المنصة... وآدي الكرسي... أنا جاي جنبكم أصرّخ!» وأصبحنا ثلاثة من الضاحكين الباكين.
كان بكاء نجيب سرور بكاء بدموع حقيقية منهمرة انهمارًا لايهدأ حتي وهو يقفش قفشاته ويطوح بدعاباته. قلت له يا نجيب هوّن عليك، ما كل هذه الدموع؟ واصل انتحابه: «بحبها بنت الكلب!» من هي يا نجيب؟ يواصل: «مصر يا صافي ناز.. بقي أطلب تأشيرة خروج.. يعطوها لي في ثواني، ولما كنت أطلب وأنا في موسكو تأشيرة عودة يماطلوني وأقعد سنين مش عارف أرجع مصر؟..» وينخرط أكثر في النشيج. لم أفهم تماما ماذا كان يقصد، لكني قلت له: يا نجيب أنا طلبت من ممدوح عدوان يرتب لي رحلة إلي «تدمر» لأني عاوزة أشوف مدينة الملكة زنوبيا اللي خالي « محمد فريد أبو حديد» كتب عنها روايته الرائعة «زنوبيا ملكة تدمر».. تحب تيجي معانا؟
قال بلهفة: «طبعا طبعا... وهي اسمها تدمر ليه؟ كانت بتدمر إيه؟» ويشرق بالضحك بين النشيج والنحيب وانسياب أنهار الدموع.
جاء ممدوح إلي قاعة الانتظار بالفندق ليعلننا بأن السيارة والسائق بالباب نحو «تدمر». قال نجيب: «تدمر... تدمر..آهي أحسن م العقدة!»، لم نكن ندرك بالتدقيق المسافة بين دمشق وتدمر، كان التصور عندي أنها بعد ساعتين أو أكثر بنصف ساعة. استراح نجيب سرور إلي جوار السائق يتمتع بوليمة بكائه يسح فيها بلا توقف، ولا نقاطعه إلا بتزويده بالمناديل الورقية لتجفيف الزائد علي حد البلل المحتمل. ممدوح يسألني: تحبي تسمعي شعر؟ وقبل إجابتي يكون الشعر سيالا ينتقيه من ديوانه الأول، «الظل الأخضر»، الذي صدر عام 1967، «حولي عينيك، إن الحزن يسري منهما نحوي كتيار، ومن دفقاته يهمي الشقاء...» أصغي وبيدي نسخة من الديوان المطبوع: «كان لي طفل بعمر الزنبقة، يرضع الريح ويغفو في المطر، ذات يوم..، هاجت الريح وناشت زورقه، لم يكن يخشي الخطر، ظن أن الريح لن تقوي عليه، إنها لن تغرقه، عانق الموج فلم أبصر يديه، رحت أجري لاهثا كي ألحقه، رحت أجري...، كان ظل الموت مرميا أمامي، خفت أن أعثر... أو أن أسبقه».
كل كلامك عن الموت يا ممدوح؟ يدخل نجيب في الخط وتحبكه النكتة من بين زخات بكائه: «ليه كده بس يا سي ممدوح إنت عاوز تنكد علينا؟»، ترجنا الضحكات، ونكتشف أن الساعات قد مرّت علينا، و«تدمر» لم تزل بعيدة. «إيه الحكاية؟ هي فين تدمر دي يا جماعة؟». يرد السائق: لابد من استراحة في فندق المدينة القادمة ثم نواصل غدًا من الصباح. يصخب نجيب ويحتج:
«أنا عندي مواعيد... قلت تعال يا نجيب تدمر.. أنا قلت طيب... فاكرها زي القاهرة وحلوان... ده كده احنا رايحين أسوان!» أقول: من أجل أن تبكي براحتك يا نجيب من دون إزعاج. يشير ممدوح إلي قصيدته، «روي عن الخنساء»، ويقول: كتبتها سنة 1965. أبدأ بالقراءة: «تبح حناجر النداب عن ندم بعاشوراء، يهيم النهر كالمجنون، والتمساح يسكب فيه أدمعه، ويملأ جوفه المسعور بالحمأ، ولكن القتيل بكربلاء يموت وسط النهر من ظمأ، وآلاف الحناجر كل يوم تتخم الدنيا، تؤذن للصلاح وللفلاح، ولا يمر الصوت في الصحراء، ينبه غافلا يقضي، ولا يدري بأن الفقر، أن الغدر في الملأ....» حتي أصل إلي: «فمرَّ جنود هولاكو علي أهل القصور، وخلفوا جيلا من اللقطاء"، استعجلت النوح يا ممدوح أم أنها كانت الرؤية؟ «يذكرني غروب الشمس بالقتلي، بمن من ليلنا انطفأوا، وتجثم فوق أعيننا وحوش الليل، تأبي الشمس أن تأتي مع الريح....».
كانت «تدمر» عندما رأيناها تغطيها أضواء الشمس قبل مغيبها، تقدم منا مصوِّر: ما رأيكم في صورة تذكارية؟
الضوء غير كاف لن تنجح المحاولة. جرّبنا نواجه آلة التصوير، خطر لنا ونحن علي أرض ساحة أطلال مسرح قديم أن نختار أدوارًا نتقمصها. قال نجيب سرور: أنا قائد يتربص بالأعداء، وقال ممدوح: وأنا؟ قلت: ابن الملكة زنوبيا. ثم تساءلت: هل كان لها ولد؟ قال: أكون! قلت: وأنا الجوقة التي تراقب في صمت حتي تنفجر.
لدهشتنا ظهرت الصور بنتيجة واضحة، واستطعت الاحتفاظ بها منذ ذلك التاريخ 19/5/1969 حتي الآن.
أنا «الجوقة» الباقية بعدكما علي قيد الحياة يا نجيب سرور ويا ممدوح عدوان، فمن يا تري المفجوع؟
* * *
عدت إلي القاهرة أحكي لأحمد بهاء الدين، وصديقنا السفير السوري سامي الدروبي عن ممدوح عدوان، الشاعر الذي جعل الموت مدفأة تبث الإيناس والألفة. يضحكان: لم نسمع بهذا الاسم من قبل... أنت لك تقاليع. أصر علي إنصاتهما ليسمعا قصيدته «وتخضر المقابر»:
كل أقوالي صارت صدئة
ودروبي لم يعد فيها سوي تلك الصوي المنطفئة
أمطر الخوف عليها
فأعاق الأمنيات البطرة
كل شيء مات إلا الرهبة المختبئة
وأنا الظامئ تدنيه أمانيه من البحر،
تسقيه فتحيي ظمأه
كلما جابهني الضوء ارتمت في القلب ذكري مجزرة
واشرأب العار ظلا
شد خلفي مئزره
غير أني قادم رغم حصار الأوبئة
سوف آتيك بخوفي
وأنا أعبر هذي المقبرة
سُمِّم العمر، ارتمت أوراقه
صودر في حلقي النداء
منعوا عني الهواء
غير أني لم أزل أحمل في الصدر رئة
ولذا أنهض وحدي
بين آلاف الدمي المتكئة
حاملاً نحوك قلبا صدئا
علّ شيئًا فيك يجلو صدأه
لم أزل أقوي علي الحب بهذي الجثة المهترئة
سأناديك بما تقوي عليه الحنجرة
وبما أبقي لدي الوجع الدامي، وما أبقي الوباء
لا تخالي حرقتي آخر ومضة
لا تخاليها انتهاء
إنها الخلق ونار الابتداء
فبقلبي لم تزل ترجف نبضة
وبها الوهج الذي يقوي علي الحب،
بها الوهج الذي يغسل من عمري الخواء
فأحبِّيني بما عندك من يأس
بما حمِّلت من مرِّ الليالي
علميني،
رغم ذل قد عرفنا حمأه
رغم ما فينا من الموت
بأنا لم نزل نملك رفضه
حينما فاجأني الحب، انجلي ليل... أضاءت كبرياء
فرأيت الحلم في صدري طفلاً راجفًا
والموت نارًا تصطلي كي تدفئه
فأحبيني بما خفت من الموت الذي يملأ وجهي
وارفعي جبهتي المنكفئة
* * *
هذه الكأس التي لم تشربيها
والتي لم تمنحيها
لم تزل من وجعي ممتلئة
فاطمئني
لم يزل وجهك فيها
زاهيا كاللؤلؤة
* * *
ما الذي يعرفه عنك المطر؟
مرّ بالأمس حييا
غض لم يلق تحية
مرت الريح التي تحمله كانت حيية
من تري امتص من الريح البطر؟
وخشينا كلمة توقظ أحزان المساء
فصمتنا في حذر
ثم لم نقو،
ذكِرناك انهمر
.......»
* * *
ظل نجيب سرور صديقي الذي لم يتغير حتى لحظة رحيله 24 أكتوبر 1978، أما ممدوح عدوان فلم أتعرف عليه حين قابلته بعد سنوات في ردهات مؤتمر للمجلس الأعلى للثقافة بالقاهرة ولم يعد صديقي، فصديقي هو الشاعر الشاب الذي لم يزل وجهه «زاهيا كاللؤلؤة»، وقد ذهب إلي صاحبه الموت في 19 ديسمبر 2004.
وكما قال الخيام في رباعياته بترجمة أحمد رامي: " وقد تساوى في الثرى ذاهب غدا وماض من ألوف السنين"!
Published on November 05, 2013 11:30
November 3, 2013
باسم يوسف وحرية الرأي:
هذا المقال عن باسم يوسف نشرته في جريدة الوطن الأربعاء 3 إبريل 2013، وها أنا ذا أنشره بتمامه بعد 8 أشهر، 4 نوفمبر 2013، وكأنك يا أبو زيد ما غزيت! مرات عديدة لن نتوقف عن قول "علّم في المتبلّم يصبح ناسي"! متي يتوقف "الغباء" عن التدخل في شئون حق المواطن في "الحرية" وعلى رأسها "حرية الرأي" و"حرية النقد" لكل من يتصدّر لحكم البلاد من دون تمييز ولا تحديد؟
برنامج البرنامج
خرج باسم يوسف بكفالة قدرها 15 ألف جنيه جعلتني أشفق عليه، متذكرة حالتي عند دفعي الكفالة الباهظة، 100 جنيه كاملة نقدا وعدا، لإخلاء سبيلي من إعتقال ظالم دام تسعة أشهر عام 1973 على ذمة قضية من تلفيقات الزمن الساداتي، ولأن المبلغ كان قاصما لظهري ظللت محتفظة بإيصال الدفع حتى يمكنني إسترداده عند حفظ القضية ولكني لم أتمكن أبدا من ذلك، ولا أظن أن باسم يوسف سوف يتمكن هو الآخر من إسترداد كفالته الباهظة التي أتمنى ألا تكون فوق طاقته.
في مقال بديع كتبه أستاذي علي أمين مطلع السبعينات من القرن الماضي قال فيما قال: " أبحث عن سياسي يحب النكتة ويطرب منها ولو كان ضحيّتها ولا يتصوّر أن كرامته ذات لا تُمس بالنكتة وطول اللسان! أبحث عن سياسي يرتفع عن الخلافات الصغيرة ولا يهتم إلا بالمسائل الكبرى التي تمس استقلال بلاده وكرامتها ورخاء شعبها".
لازلت أذكر ضحكاتي، منذ طفولتي في أربعينات القرن الماضي، بعد مطالعتي رسوم كاريكاتير رخا وصاروخان وعبد السميع وبرني التي تسخر بحدّة وبشدّة من أفعال وأقوال رؤساء وزارة ووزراء وساسة وعلماء أزهر وشخصيات عامة، وتصوّرهم على هيئة حيوانات وطيور وجمادات وغيرها، بل وكانت هناك أغنيات تتناقل على ألسنة الناس تحمل الشتائم لأطراف متخاصمة؛ كتلك التي ذاعت بعد المواجهة العدائية بين مصطفى النحاس باشا ومكرم عبيد باشا، ولم يكن ذلك بسبب أن الشعب المصري ابن نكتة فحسب بل لأن البشرية منذ خُلقت ترى "السخرية" و "الهجاء" من أهم وسائل جلب التوازن النفسي للمظلوم والمقهور والمحروم والمأزوم، وعلى المُتضرّر أن يبحث عن الأسباب التي أدّت إلى استهدافه، أما قطع اللسان فهو غباء و استسهال خائب، وهناك العبرة فيما فعلة عبد الناصر، حينما بلغته أشعار وألحان وغناء أحمد فؤاد نجم والشيخ إمام الساخرة والهازئة من جبروته واستبداده التي كان منها "إيه يعني شعب ف ليل ذلّه ضايع كلّه ده كفايه بس لما تقول له إحنا الثوار، وكفاية أسيادنا البعدا عايشين سُعدا بفضل ناس تملى المعدة وتقول أشعار، أشعار تمجّد وتماين حتى الخاين وان شاالله يخربها مداين عبد الجبار"، فصرخ لوزير داخليته شعراوي جمعة: "في ناس تقول الكلام ده ولسّة واقفة على رجليها؟" وكان أن تقررالحكم بسجن نجم وإمام "مدى الحياة"! وشاء الله أن يكون المدى هو حياة عبد الناصر نفسه وليس الشاعر والمُغني فاعتبروا يا أُلي الألباب!
لا يجوز لحاكم في نظام ديموقراطي أن يستجيب، بدعوى الحفاظ على هيبة الدولة، لنداءات "العين الحمراء" و "الضرب بيد من حديد" وسائر مفردات المتوحّشين، ولا يجوز له أن يتهدّد بنعته بـ "الضعف" إذا لم يستجب بل عليه أن يؤكد للجاهلين أن للديموقراطية أصولها وأحكامها التي لا يحق له أن يحيد عنها، أما هيبة الدولة فلا تُستعاد إلا بالعدل والاحسان.
جاء في كتاب "روضة الورد" لسعدي الشيرازي أن الحكيم "جالينوس" رأي أبلهَ آخذا بتلابيب رجل عاقل وقد أهان بالضرب كرامته فقال: لو كان هذا عاقلا لما انتهى به الحال مع جاهل إلى هذا الحد.
برنامج البرنامج
خرج باسم يوسف بكفالة قدرها 15 ألف جنيه جعلتني أشفق عليه، متذكرة حالتي عند دفعي الكفالة الباهظة، 100 جنيه كاملة نقدا وعدا، لإخلاء سبيلي من إعتقال ظالم دام تسعة أشهر عام 1973 على ذمة قضية من تلفيقات الزمن الساداتي، ولأن المبلغ كان قاصما لظهري ظللت محتفظة بإيصال الدفع حتى يمكنني إسترداده عند حفظ القضية ولكني لم أتمكن أبدا من ذلك، ولا أظن أن باسم يوسف سوف يتمكن هو الآخر من إسترداد كفالته الباهظة التي أتمنى ألا تكون فوق طاقته.
في مقال بديع كتبه أستاذي علي أمين مطلع السبعينات من القرن الماضي قال فيما قال: " أبحث عن سياسي يحب النكتة ويطرب منها ولو كان ضحيّتها ولا يتصوّر أن كرامته ذات لا تُمس بالنكتة وطول اللسان! أبحث عن سياسي يرتفع عن الخلافات الصغيرة ولا يهتم إلا بالمسائل الكبرى التي تمس استقلال بلاده وكرامتها ورخاء شعبها".
لازلت أذكر ضحكاتي، منذ طفولتي في أربعينات القرن الماضي، بعد مطالعتي رسوم كاريكاتير رخا وصاروخان وعبد السميع وبرني التي تسخر بحدّة وبشدّة من أفعال وأقوال رؤساء وزارة ووزراء وساسة وعلماء أزهر وشخصيات عامة، وتصوّرهم على هيئة حيوانات وطيور وجمادات وغيرها، بل وكانت هناك أغنيات تتناقل على ألسنة الناس تحمل الشتائم لأطراف متخاصمة؛ كتلك التي ذاعت بعد المواجهة العدائية بين مصطفى النحاس باشا ومكرم عبيد باشا، ولم يكن ذلك بسبب أن الشعب المصري ابن نكتة فحسب بل لأن البشرية منذ خُلقت ترى "السخرية" و "الهجاء" من أهم وسائل جلب التوازن النفسي للمظلوم والمقهور والمحروم والمأزوم، وعلى المُتضرّر أن يبحث عن الأسباب التي أدّت إلى استهدافه، أما قطع اللسان فهو غباء و استسهال خائب، وهناك العبرة فيما فعلة عبد الناصر، حينما بلغته أشعار وألحان وغناء أحمد فؤاد نجم والشيخ إمام الساخرة والهازئة من جبروته واستبداده التي كان منها "إيه يعني شعب ف ليل ذلّه ضايع كلّه ده كفايه بس لما تقول له إحنا الثوار، وكفاية أسيادنا البعدا عايشين سُعدا بفضل ناس تملى المعدة وتقول أشعار، أشعار تمجّد وتماين حتى الخاين وان شاالله يخربها مداين عبد الجبار"، فصرخ لوزير داخليته شعراوي جمعة: "في ناس تقول الكلام ده ولسّة واقفة على رجليها؟" وكان أن تقررالحكم بسجن نجم وإمام "مدى الحياة"! وشاء الله أن يكون المدى هو حياة عبد الناصر نفسه وليس الشاعر والمُغني فاعتبروا يا أُلي الألباب!
لا يجوز لحاكم في نظام ديموقراطي أن يستجيب، بدعوى الحفاظ على هيبة الدولة، لنداءات "العين الحمراء" و "الضرب بيد من حديد" وسائر مفردات المتوحّشين، ولا يجوز له أن يتهدّد بنعته بـ "الضعف" إذا لم يستجب بل عليه أن يؤكد للجاهلين أن للديموقراطية أصولها وأحكامها التي لا يحق له أن يحيد عنها، أما هيبة الدولة فلا تُستعاد إلا بالعدل والاحسان.
جاء في كتاب "روضة الورد" لسعدي الشيرازي أن الحكيم "جالينوس" رأي أبلهَ آخذا بتلابيب رجل عاقل وقد أهان بالضرب كرامته فقال: لو كان هذا عاقلا لما انتهى به الحال مع جاهل إلى هذا الحد.
Published on November 03, 2013 22:21
طارق البشري في عيد ميلاده الثمانين أول نوفمبر 2013 حفظه الله ورعاه آآآمين:
الإحتفال بهذه المناسبة يدفعني للتنويه بكراسات المستشار طارق البشري التي نشرها منذ سنوات تحت عنوان موحد: «في المسألة الإسلامية المعاصرة»، وهي تجميع لعدد من أبحاثه ومقالاته التي ألقاها في ندوات لجمهور محدود، أو نشرها في مجلات وصحف لا تصل إليها كل يد، فهذا التجميع مع التصنيف يتيح الفرصة لجمهور أوسع التحرك عقليا، والانتعاش ذهنيا مع مناقشته موضوعات مختلفة تصور البعض أن أبواب مناقشتها قد أغلقت بأحكام نهائية، مثل موضوع «الخلافة العثمانية»، وحركات الإصلاح فيها، ثم انهيارها ثم إعدامها ودفنها تاريخيا باعتبارها من أعتى النظم الإجرامية التي حكمت البشر وإلزام كل متكلم عنها بترديد المقولات الجاهزة التي تصب في هذا الاتجاه وإلا كان كذا وكذا وكيت وكيت... إلى آخر التهم المكرورة. ومثل موضوع «المعاصرة» و«الوافد والموروث» و«الإصلاح» و«التحديث» و«التطور» و«الغلو» و«هل غابت الشريعة بعد عهد الراشدين»، إلى آخر كل هذه العقد المربوطة في حناجر العلمانيين بحبال المقولات المستهلكة التي «تزغطوها» بلا نظرة ثانية لمراجعة أو تفكير ويواصلون «تزغيطها» لأجيالهم الشابة، يزمرون بها في كل مجال للنشر أو الكلام أو التعليقات. و«التزغيط» كلمة تعني دفس الطعام بالقوة داخل الجوف.
يقول تنويه الكراسة «ماهية المعاصرة»: "إن أهم ما يواجه العالم العربي الإسلامي يرد من المواجهة بين أصول الحضارة العربية الإسلامية، التي سادت حتى بدايات القرن التاسع عشر دون منازع، والحضارة الغربية التي وفدت مع تغلغل النفوذ الغربي السياسي والاقتصادي والعسكري منذ بداية ذلك القرن. والتاريخ العربي الإسلامي يرتبط، خلال القرنين الأخيرين، بهذه المواجهة في كل جوانبه. وعلى مدى القرن التاسع عشر، فإن المواجهة السياسية والعسكرية قد شحذت همم المفكرين والقادة السياسيين العرب والمسلمين، يفتشون عن مكامن القوة في الغرب ويحاولون نقلها وعن مكامن الضعف في أنفسهم ويعملون على تلافيها. ثم كان للثورة العسكرية والسياسية الغربية المؤيدة بالتفوق العلمي والتنظيمي، ما اختل به ميزان التقدير في أيدي هؤلاء المفكرين والقادة من ناحية مدى الجبر والاختيار في تحديد ما يأخذونه من الغرب وما يدعون من نظمهم وأفكارهم وأصول حضارتهم وعقائدهم. وجاء الاقتحام العسكري والسياسي فاضطربت تماما معايير الانتقاء لما يفيد العرب والمسلمين من منجزات الغرب، وشلت القدرة على التمييز بين النافع وغير النافع، وطمست الفروق بين التجديد والتقليد وبين النهوض والتغيير والإصلاح والاستبدال".
في هذه الكراسة نلحظ غضب طارق البشري شديدا لكنه هادئ يعبر عنه بالفصاحة والحجة والدليل والتدقيق في التصويب، والحرص البالغ في انتقاء الكلمات، التي يضطر أحيانا إلى نحتها، فهو لا يفور طاعنا ضيق الصدر بل يسدد مصطلح الرؤية ليذهب إلى موقعه مرتاحا، يقول: «.. نحن نتساءل الآن عما نستدعي من التراث، بعد أن كان آباؤنا يتساءلون عما يأخذون من الوافد...» ويقول عن «الإسلام» مصححا لمنهج التناول عند اللاإسلاميين: «... فهو الميزان وليس الموزون في ما تأخذ الجماعة وما تدع. وهو ـ أي الإسلام ـ معيار الحكم والاختيار وليس المحكوم ولا المختار...»، ويقول: «... وما يتعين الحذر منه بداءة هو هذا الترادف والتلازم بين الوافد والعصري، وبين الموروث والرجعي...». ثم ينحت هذا التعبير الحاسم والجريء الذي لم أقرأه عند أحد غيره: «الإصلاح الضار» ليعبر به عن فكرة الاندفاع، الذي شهده تاريخنا الحديث نحو كل لافتة براقة تحمل كلمة إصلاح بينما تكون هذه اللافتة في أحوالنا ضلالا بعيدا عن الإصلاح الحق، ليس لأن اللافتة مزيفة فحسب، ولكن لكونها إعلانا عن دواء لا يلائم حالة المريض فيقتله.
كنت دائما أحتاج علم وعقل وحكمة طارق البشري كلما هاج علينا ذباب من دأبوا على التأفف مما يزعمون أنها تفاهة القضايا التي يشغل المسلمون بها بالهم، بينما ينشغل الغرب بالتقدم العلمي وجولات الفضاء إلى زحل والمريخ والمشتري!
أستلهم من العلامة طارق البشري هدوءه في مواجهة هذا التأفف الذي يكون الرد عليه ببساطة وقول مختصر: إنه من غير الصحيح أن كل ما يشغل الغرب هو الفضاء وهموم التقدم العلمي فلحضرته مسائل تافهة مساوية لذلك في الاهتمام، وضرب الأمثلة على ذلك لا يعد ولا يحصى، وكذلك غير صحيح أن ما يعطلنا نحن عن ارتياد الفضاء وتحقيق الإنجازات العلمية الباهرة هو مناقشاتنا في تحليل الربا وتحريمه وزي المرأة المسلمة وما إلى ذلك، بحيث أننا لو كففنا عن هذا الكلام سينطلق بنا الصاروخ فورا إلى عين الشمس.
منذ مطلع القرن العشرين وهؤلاء الناس، ( تسميهم العلمانيين، تسميهم اللادينيين، تسميهم المتغربين، بالنهاية عندي أسمّيهم التبويريين!)، يدقون رؤوسنا، يهدمون ثقتنا بشخصيتنا الإسلامية السوية لنصبح، بدعاوى التغريب، مسخا مشوها متخلفا فاقدا خط الرجعة إلى الصحة التي تولد الإبداع والنهضة والتقدم والتغلب على الفقر والجهل والمرض. فلم تكن دعوى التغريب هذه تتضمن أبدا برنامجا ينهضنا على شاكلة النهضة العلمية الحقة المفيدة التي حققتها اليابان والصين وحتى كوريا.
ولم يكن هذا الإغفال سهوا بل كان خطة يعرف الجميع جيدا أنها كانت مرسومة بدقة فلم يكن مسموحا لمصر ولا لأي بلد عربي وإسلامي أن يرتفع عن مستوى مسح أحذية سيده الغرب. وها هي تركيا التي حين أكلت الربا وحرمت الحجاب وكتبت الخط اللاتيني وتبرأت سياسة حكامها على مدى، سنوات، من الإسلام برمته، فهل سمحوا لها بعد كل هذه التنازلات أن تكون ندا للغرب؟ وهل وصلت إلى قمر أو زحل أو مشترى؟
Published on November 03, 2013 08:53
October 29, 2013
من سيرة ذات ثقافية:
من سيرة ذات ثقافية
إلتحقت عام 1954 بكلية الاداب، جامعة القاهرة، بقسم صحافة، الذي كان قد أُنشئ جديدا في ذلك العام، وكنا دفعة جامحة من الطلبة والطالبات، (100 طالب و 150 طالبة!)، وقرر معظمنا أن الدراسة النظرية بالقسم لن تعلمنا الصحافة كما نريدها فإنقسمنا مجموعتين رئيسيتين: واحدة إختارت التدريب في مدرسة روز اليوسف، والأخرى إختارت مدرسة أخبار اليوم، وكنت واحدة من المجموعة التي إلتحقت بمدرسة أخبار اليوم نوفمبر 1955، لم يكن الإختيار على أساس سياسي بل على أساس مهني محض إذ كان المهم في ذلك الوقت هو كيف نتعلم صنعة الصحافة ونكون لأنفسنا أسلوبا في التحرير الصحفي. ظللت مع مجموعتي نعمل بأخبار اليوم عامين كاملين مجانا ونحمد الله أن أصحاب الدار قد أعفونا من مصروفات الدراسة إلى أن تم تعييننا عام 1957 بمكافأة شهرية قدرها خمسة جنيهات، وأصبحت الدراسة بالجامعة في قسم الصحافة ثانوية إلى جوار خبرتنا في الممارسة الفعلية للعمل الصحفي. منحني تخرجي في الجامعة 1959 شهادة ليسانس في الصحافة لم تقنعني، وكان عملي الصحفي في تلك الفترة قد تكشف لي وبدا ضحلا ومزيف البريق لذلك ألحت عليّ فكرة السفر في الدنيا الواسعة للدراسة وامتحان النفس، وشجعني قبولي للدراسة في جامعة كانساس الأمريكية بقرية لورانس فسافرت إلى الولايات المتحدة أغسطس 1960، وكان قد تم تسجيلي لدراسة الماجستير في الصحافة لكنني راجعت نفسي وقلت: مصر بحاجة إلى ناقد مسرحي فكل الذين يكتبون النقد المسرحي غير متخصصين؛ سأصنع من نفسي ناقدة مسرحية لمصر! ــ (وأرجو من القارئ ألا يبتسم فهكذا كان جيلنا يتكلم عندما يريد أن يحدد مستقبله) ــ كانت مصر في تلك السنوات العشر الأولى لما أردناها ثورة 1952 إبنتنا العروس البهية التي نريد أن نجلب لها حليب العصفور لو شاءت، كنا نريد أن نزوقها ونجملها ونجهزها بكل ما ينقصها، ورأيت أن مصر ينقصها الناقد المسرحي المؤهل حقا لحمل مسئولية دفع النهضة المسرحية المرجوة لبناء وقيادة ما أردناه ليكون المجتمع الثوري الجديد.كان نقاد المسرح صنفين:1 ـ صنف كان ولا يزال يستند إلى معايير اعتباطية في قبوله أو رفضه للعمل الفني، مستخدما خفة ظله، إن توفرت لديه، في تمرير وتبرير مغالطاته، ولا يتورع وهو في حماسه، وقد أخذته العزة بالإثم، أن يستخدم أفحش القول والإرهاب، إذا اقتضى الأمر، ومثل هؤلاء كان ولا يزال شديد الثقة بنفسه، لا يحجم عن إبداء رأيه دائما ومن فوره وفي كل شئ!2 ـ أما الصنف الثاني فكان النقيض: يلبس أكاديميته ويحكم ربطها جيدا حول عنقه حتى تخرج أفكاره وآراؤه مشنوقة تماما بالمصطلحات، وكلما خلت كلماته من الروح كان اغتباط الناقد بمقدرته كبيرا، وذلك على أساس الاعتقاد السائد أن الروح والحيوية وخفة الظل تتنافى مع الأكاديمية؛ فالجهامة ـ كما يعتقدون ـ والجفاف أليق بالأكاديمي. العجيب الذي كان يسترعي إنتباهي أنه رغم ذلك "التأكدم" الشكلي الذي كانوا يحرصون عليه، كانوايقعون في خطأ علمي رهيب وهو خلطهم بين "الأدب" و "المسرح"،وكان هذا الخلط يجرهم دائما إلى التمركز عند خط دفاعهم الأول والأخير وهو: "النص" المدون لغرض العرض المسرحي، ولو كان "النص" في عرف البداهة المسرحية مجرد عنصر غير جوهري في الكيان المسرحي!ما علينا: قررت أن أعد نفسي لأكون "الناقد المسرحي" المطلوب لمرحلة يطورها جيل آت ثم جيل آت بعد الآتي، خلال سنوات يتم فيها ترسيخ المنهج السليم لإعداد الناقد المسرحي.كان عليّ أن أحصل من جامعة كانساس على معادلة ليسانس في الفنون المسرحية، وهكذا أنفقت عامي 1960 \ 1962 في دراسة مواد أساسية وتحضيرية مع دراسة عملية في "الورشة" لكيفية صناعة العرض المسرحي وإقامته كائنا حيا يقف على خشبة المسرح وليس كلمات مدوّنة بين صفحتي كتاب، بعدها صرت مؤهلة لمتابعة الدراسة العليا نحو "التخصص في ممارسة النقد المسرحي"، غير أني لم أستطع متابعة الدراسة من فوري إذ كان لا بد أن أتفرغ للعمل عاما كاملا لسداد ديون دراستي في جامعة كانساس التي كانت على نفقتي الخاصة، فقضيت عام 1962 \ 1963 بمدينة شيكاجو أعمل سكرتيرة محلية في مكتب المستشار الصحفي لقنصليتنا المصرية، "قنصلية الجمهورية العربية المتحدة"، عاما كاملا خصبا، أقرأ وأسمع وأشاهد بنهم كل ماكان عليّ أن أعرفه في الفن والثقافة: من الجديد الذي كان عليّ أن أواكبه إلى القديم الذي كان عليّ أن أستكمله، ثم جاءت فرصتي للعمل في مكتب المستشار الصحفي ببعثة مصر الدائمة للأمم المتحدة بنيويورك فتركت شيكاجو وانتقلت إلي نيويورك أغسطس 1963 وتم قبولي بقسم الدراسات العليا للفنون المسرحية بكلية التربية جامعة نيويورك، استغرقت دراستي عامين، 1964 \ 1966، وكانت على نفقتي الخاصة إلى النهاية؛ كنت أجمع بين عملي الصباحي الذي يستغرق ثماني ساعات يوميا ودراستي المسائية بالجامعة التي انتهت بحصولي على "ماجستير في نقد المسرح" يونيو 1966.
في ذلك الصيف، أغسطس 1966، وبعد ست سنوات كاملة من الغربة والعمل والكدح والتأمل والدراسة شعرت أنني نضجت ثقافيا بما يكفي لأعود إلى مصر وأهديها نفسي قائلة: "كل التعب كان لك ومن أجلك"!
كان الأستاذ أحمد بهاء الدين قد تسلم مسئولية إحياء مجلة المصوّر، وكان منطقيا أن أتوجه للعمل معه في دار الهلال منقولة من دار أخبار اليوم، التي خلت من العبقريين مصطفى أمين وعلي أمين، أخوض مهمة النقد المسرحي، التي أتاحها لي الأستاذ أحمد بهاء الدين بمجلة المصوّر، و كانت قد تحولت تحت رئاستة إلى "كبرى المجلات المصوّرة"، كنت أحاول أن أقدم رؤيتي لما يجب أن يكون عليه الناقد المسرحي، وكان جهدي يتمركز في التأكيد على بدهية أن فن "المسرح" ليس "الأدب"، وأنه ليس هناك كاتب مسرحية: "بلايريتر"،Playwriterبل صانع مسرحية: "بلايرايت"،playwright يصنع أو يبني أو يُنشئ معتمدا على تركيب وتجميع عناصر متعددة مثل صانع السفينة، وكنت أدعو أن يجعلنا هذا التصور نعيد النظر في كثير من المصطلحات والمقولات التي يتم تداولها مثل مقولة " قرأت المسرحية الفلانية" أو " قرأت مسرح فلان"، وهذا لا يجوز لأنك لا يمكن أن تقرأ مسرحية، هل يجوز أن تقول "قرأت سيمفونيات بيتهوفن" أو أي موسيقي آخر رغم أنها كلها مدوّنة على الورق؟ لا يمكن فنحن نقول "إستمعت" إلى الموسيقى، وتعرف أنها دُوّنت ليقرأها قائد الفرقة العازفة، لتصل معزوفة مؤداه على مسرح أو من خلال وسائل مسُجلة، وهكذا يكون الإلتقاء بالعمل الموسيقي، كذلك المسرح، إنك عندما تكتفي بقراءة مسرحية تكون قد أجهضت جنينا من رحمه؛ لن يكون بأيّة حال مخلوقا بين يديك بل دما مسفوحا لمشروع مخلوق، فقراءة ما دوّنه المؤلف المسرحي لا تعطينا الصلاحية لفهمه أو الحكم عليه إذ تظل العملية المسرحية ناقصة ولا يمكننا الحكم عليها ما لم نضعها كالسفينة في بحرها ونراها كيف تسير، وهل تآلفت مع الماء أم أنها لم تطف وغرقت؟ وكنت أتشبث بتعريف المسرح كما حدده أحد ثوار المسرح، وهو المخرج الإنجليزي "بيتر بروك"، وكنت أول من ذكره وعرّف به في مصر، الذي يرى أن المسرح يعني بكل تبسيط: خشبة مسرح؛ أي مساحة فارغة يمكن أن تتيح لنا مكانا يقف عليه مؤد، ويكون هناك جمهور، ويكون هناك محور لمضمون يهم هؤلاء الناس، فيتم من خلاله التواصل بين المؤدي والمتفرج، وهذا التعريف لبيتر بروك يتلاقى كذلك مع رجل المسرح العالمي "جروتوفسكي" مبتكر "المسرح الفقير"، وكنت كذلك أول من كتب عنه وعرّف به في مصر، حين استخدم منهاجه الـ "فيا نيجاتيفا"، ويعني الحذف أو الإلغاء، معلنا أننا بحاجة ملحة إلى تخليص المسرح من أثقاله الدخيلة عليه بطرح الأسئلة:
ـ هل يمكن أن يكون هناك مسرح بدون متفرّج؟ الإجابة: لا.ـ مسرح بدون ممثل؟الإجابة: لا.ـ مسرح بدون نص مسرحي؟الإجابة: نعم!ـ بدون ديكور؟ بدون إضاءة؟ بدون موسيقى؟الإجابة: نعم، نعم، نعم.
إذن كل شئ تقريبا مما نعرفه عن المسرح يمكن حذفه أو إلغاؤه إلا الممثل والمساحة الفارغة والمتفرّج والمضمون الذي يتمحور حوله اللقاء بين المؤدي والجمهور.
لم يكن تشبثي بهذا التعريف للمسرح يدفعني إلى إهمال النص كلّية لكنه كان يدعّمني في رفع راية: إن المُخرج هو مؤلف العرض المسرحي الذي يكون النص جزءا من تكوينه، وأن للمُخرج الصلاحية الكاملة في التصرف مع النص بما يراه ضرورة لمصلحة العرض مسرحيا، وكان هذا التعريف يُدعمني كذلك في الدعوة إلى إستقلال الناقد المسرحي عن الناقد الأدبي المشغول بالكلمة المكتوبة للقراءة والمَعني بتوجه كامل مقصور على الكاتب فحسب، وكنت أتمنى أن تستخرج حركة إستقلال "الناقد المسرحي" جنودها من مسرحيين عملوا بالإخراج وشاركوا في صناعة العرض المسرحي مُستنبتين من أرضيتهم المسرحية لغتهم الواعية والمُدركة للعملية المسرحية رافعين شعار: " دعوا المسرح يتحدّث بلغته"، فعبر نقاد كهؤلاء فحسب يمكن لحركة مسرحية في بلادنا أن تنبثق متفجّرة بالخصوبة والوعي والابتكار، قادرة على حفر مجرى لمسرح يخصنا: نتأصل به ويتأصل بنا ويتصاعد في تطور لإثراء التعبير عن الحق والخير والجمال.
كان من المنطقي ـ وقد إتخذت الموقف المبدئي مسرحيا ـ أن تتوحد لغتي مع لغة المخرج صاحب العرض المسرحي أكثر من توحدها مع كاتب النص الذي كان ولا يزال يعد نفسه أديبا بالدرجة الأولى. والأمر كذلك كان من النتائج المنطقية أن الذين يسمحون لأنفسهم بالإعتداء على المسرح بالنقد والتقييم، بكل موروثات المغالطات الرثة، يكونون بأكملهم في ناحية وأكون في الناحية النقيض مع المسرحيين والوعي المسرحي وجنود الحلم الثوري؛ غرباء لا يحمينا سوى العناد وقوة الإيمان بالمبدأ. رغم صعوبة موقفي إلا أنني كنت سعيدة غاية السعادة كوني أقلّية قادرة على الاستمرار في المواجهة وخوض المعركة وإزعاج الخصوم، وكنت أسمي نفسي "الناقدة المُحاربة" وأحيانا "مقاتلة في الأحراش والغابات"، وفي كل الأحوال واحدة من جنود الحلم الثوري؛ أخوض على صفحات المصوّر، بدعم من رئيس تحريرها المثقف الذواقة المحرّض على التوهج الأستاذ أحمد بهاء الدين، معركة الشكل المسرحي، واللغة المسرحية، وتصحيح المغالطات الفنية المليئة بالخزعبلات المعوّقة لنهضة المسرح كإطار مستقل للتعبير الإنساني، وكنت خلال المعركة قد حددت إنحيازي الكامل لصالح المستضعفين ضد قوى وأشكال المستكبرين المفسدين في الأرض.
كانت سنوات الستينات، تلك الشهيرة بكونها فترة إنتعاش المسرح المصري، هي في الواقع سنوات الصراع الذي خاضه جنود الحلم الثوري لجمع لطع دودة الثورة؛ وكانت الدودة هي: الإنتهازية والزيف والكذب والدجل والسياحة السياسية والسياسة السرابية التي أنتجت الهوّة المخيفة بين القول والفعل، والانفصام بين الشعار المُعلن والتطبيق الواقع، ثم كانت الدودة هي المنهج الإجرامي الذي تبلور وناء بكلكله على صدر الإنسان المصري الباسل الوديع؛ منهج القمع والإرهاب السلطوي، منهج قطع الألسنة وجدع الأنوف وسحق الكرامة الحرام للمواطن، منهج السجن والاعتقال والتعذيب للشبهة و للفتة ولرفّة رمش العين.
كانت الستينات فترة إنتعاش للمسرح المصري، نعم، بما يعني أن كانت هناك، رغم كل شئ، مقاومة ثقافية نابضة تحركها دماء وتضحيات ثوريين أصلاء، (قبل أن يذوى المسرح وينزوي مع مرور السبعينات ويثبت بالدليل أن الموت قد خيّم وفرش أجنحتة القاتمة)، والمقاومة النابضة لا تعني أن أمورها مُيسّرة لكنها تعني أن حركتها مستمرة وأن جنود الحلم الثوري، من أجل إعلاء الحق والخير والجمال، مايزالون في الساحة وإن سقط منهم شهداء، وأنهم مسيطرون في مواقع صراعهم لتسود رؤيتهم الإنسانية لصالح الإنسان، وللتمسك بالمكتسبات الشعبية لتحويلها من صحائف ورقية بلا قيمة إلى واقع يقف على الأرض تنزرع فيها المكتسبات فتضرب جذورها في الأعماق وتتلاقح مع النيل والهواء وعرق عباد الله فتنمو وتشتد وتعلو باسقة كالشجر الطيب.
كان جنود الحلم الثوري مستميتين لترسيخ واقع يتوازن ولو قليلا مع الطقطقات والشقشقات الثورية لفظا والفاسدة أثرا، وكان جنود الحلم الثوري يرون الخطر الأكبر يكمن دائما في سارقي الحلم من أبنائه وحفظته المخلصين، يكمن في المنافقين، في الإنتهازيين الذين يهددون حصاد ومحصول كل ثورة؛ إذ بإجادتهم رطانة اللغة الثورية وبراعة تمييعها لتناسب كل الأهواء ينجحون في تعطيل الأبناء الصادقين، وفي نخر الثورة من قلبها إلى أن ينهار كل شئ ويصبح كالعصف المأكول.
شهدت سنوات الستينات أعنف المعارك التي خاضها جنود الحلم الثوري لجمع لطع دودة الثورة ووقوفهم ببسالة ضد تلك اللطع، التي صارت بالنهاية أخطبوطا هائلا من الإنتهازية استطاع أن يفرش نفسه طولا وعرضا وسماء وأرضا ويتمكن تماما من ضعضعة الحلم الثوري المخطوف من أبنائه، ومن تحويل المكتسبات الشعبية الورقية إلى مسلسلات إذاعية وتلفزيونية، وزفة سياحية، وألاعيب حواه، وأفاعي سحرة يكتبون في الصحف والمجلات، وبرغم ضخامة الأخطبوط وشراسته وخسّته في الدفاع عن منافعه الشخصية لم يفقد جنود الحلم الثوري عنادهم الذي استمر معهم مارا بهم من هلاك إلى هلاك.
كان جنود الحلم الثوري ـ ضمير مصر ونبضها ـ يعرفون أنهم أقليّة وعزّل أمام الأخطبوط، الذي تملّك سلطة الدولة بأكملها، والذي تكون وتجمّع من فصائل ثوريين سابقين فقدوا ثوريّتهم، ومن مثقفين عدميين، ومن إنتهازيين أصلاء يعتنقون الإنتهازية إعتناقا مبدئيا كاملا، ومع كل هؤلاء بالطبع فئة من الخدم والعبيد وعبدة للأوثان؛ أخطبوط رهيب مُدعم بكل شئ، لكن جنود الحلم الثوري كانو يعرفون أن الحشد الهائل من لحم مصر من المستضعفين كانوا معهم، كانوا يعرفون أن الجياع معهم، أن المرضى البلهاريسيين معهم، الشهداء الذين ذبحهم الأخطبوط غيلة في سيناء معهم، الصم البكم والعمي معهم من دون أن يدركوا أنهم مع أحد على الإطلاق! كانت مصر بتاريخها ومواقع مقاومتها كذلك معهم. واستمر جنود الحلم الثوري رغم تشتتهم، حين وحيث لا يكاد الواحد منهم يستدل على أخيه، كانوا مصرين على الاستمرار في الصراع ضد الأخطبوط، ( إلى أن انقسم هذا الأخطبوط على نفسه في 15 \ 5 \ 1971 وأكل ذيله رأسه وتغيّر لونه تماما من أخطبوط يقتل ويخنق ويأكل السحت تحت علم إدعاء الإشتراكية والتقدمية إلى أخطبوط يأتي الجرائم نفسها ولكن تحت علم آخر أكثر إضحاكا وإن لم يكن أقل إبكاء، وهوعلم إدعاء الديموقراطية والتحضر والسلام الاجتماعي، لكن حتى بعد التغيير في الشعارات ظلت هناك سمة مشتركة بين أخطبوط ما قبل 15 مايو 1971 وأخطبوط الطبعة الجديدة المنقحة بعد 15 مايو 1971 تلك هي: أن كلاهما أخطبوط يجبن ويهادن في كل شئ إلا منفعته الشخصية إذ يكون في دفاعه عنها غاية في الشراسة والخسّة)، وكان لا بد لمسرح الستينات أن يرصد الصراع بين النقاء والعفن وأن يلتقطه ويُعبر عنه بجهود جنود الحلم الثوري الذين كانوا يملكون بعض مواقع مشعة في النقد والإخراج والتمثيل والتأليف وكانوا يحاولون أن يستدل بعضهم إلى البعض من خلال كلمة أو موقف أو عمل أو صمت فيتساندون في معركتهم غير المتكافئة مع الأخطبوط والتي كانوا يخسرونها يوما بعد يوم.
كانت مهمتي النقدية تدفعني إلى موقفين إزاء كل عمل أستشعر من ورائه أنفاس ونبض جنود للحلم الثوري مخلصين: موقف ألتزم فيه الصمت خوفا من إعلان الفرح كي لا يتنبه الأخطبوط ويكسر مصابيح الفرح التي تلألأت في غفلة منه، والموقف الثاني يدفعني إلى الكتابة عن العمل في عملية مرهقة ومحفوفة بالمحاذير لأنني أكون قد أردت أن أفصّل العمل للقراء بإشاراته الواضحة ضد الأخطبوط ويكون عليّ بذات الوقت الكتابة بهدوء كاف حتى لا تلتفت عين من عيون الأخطبوط الكثيرة ضدّي أو ضد المسرحية، وكان من حسن طالعي أنني كنت في مجلة المصوّر تحت رئاسة أحمد بهاء الدين النظيفة الراقية التي تحث على الصدق وتكبح أقوال الزور مما أتاح لي قدرا كبيرا من التعبير عن رأيي النقدي بحرية شبه كاملة، إلى أن داهمنا قرار نقله من مؤسسة دار الهلال إلى مؤسسة الأهرام في أغسطس 1971.
بديلا عن أحمد بهاء الدين جاء آخر من يمكن أن يكون بديلا للرقي والتحضر؛ جاء مكارثي الثقافة المصرية بكل غشومية وغباء البطش والتنكيل: جاء يوسف السباعي مفتونا بالسلطة متلذذا بالإبادة!قبل أن يرتشف يوسف السباعي أول فنجان قهوة بمكتبه، كرئيس مجلس إدارة دار الهلال ورئيس تحرير المصوّر، استدعاني، و بيده مقالي عن العرض المسرحي "ملك الشحاتين" لنجيب سرور وجلال الشرقاوي، قائلا وهو يرشق عينه الزرقاء القاتلة بمنتصف جبيني: "يكون في عِلمك إحنا مش عاوزين نشوف اسم صافي ناز كاظم ده منشور أبدا، وعشان تبطّلي عجرفة مناخيرك ح أجيبها الأرض"!
هكذا بلفظة لسان نزلت سكينة الأخطبوط قاطعة عني حقي في أداء جهادي الثقافي تجاه بلادي وأبناء أمتي، ولمن كان تعبي وكدحي وطوافي المشرق والمغرب أجمع خيرات الرحيق؟ لحظة شعرية داهمتني في موقف لا شعر فيه. أي جبروت هذا؟ أي عنف وإرهاب وحشي هذا الذي يمارسه الأخطبوط هكذا وبلا رادع ـ وبلا تعويض طبعا ـ على خلق الله؟ رغم أنني شعرت لحظتها بعين يوسف السباعي الزرقاء مرشوقة في منتصف جبيني كرصاصة إغتيال غادر إلا أنني لم أتمالك نفسي من الضحك لأن المسرح علّمني أن أكثر المشاهد هزلية هي مشاهد الطغاة والمتجبرين، خرجت من مكتبه أتمتم الآية الكريمة من سورة يس: "ومن نعمّره ننكّسه في الخلق أفلا يعقلون".
وهكذا اختفى اسمي من النشر في السبعينات كلها إلى مطلع الثمانينات، فمنذ أغسطس 1971 حتى 25 مارس 1983، تحقق قرار يوسف السباعي بحذافيره فلم يُنشر اسمي قط في صحف مصرنا المحروسة، على مدى مايقرب من 12 سنة، إلا ضمن قوائم المعتقلين والمتحفظ عليهم والمقدّمين لمحاكم أمن الدولة، لماذا؟ لا أدري إلا أنني حاولت دائما أن أكون ناقدة مسرح كما يجب وكما وعدت مصر الحبيبة الطيبة.
أُجبرت على البقاء في بيتي لا أملك سوى النظر من شباكي أرقب في أسى العاصفة الترابية التي هيّجها الأخطبوط في ردائه الجديد بعد 15 مايو 1971. كانت العاصفة تطيح بزهور المسرح اليانعة، والأخطبوط يدوس معها بأذرعه الثعبانية كل النباتات الصغيرة اللينة الواعدة، ويعتصر الأغصان، وبعد المذبحة نظر الأخطبوط إلى جذع شجرة المسرح الناتئ؛ مبتورا أجرد، وبدأ يلصق عليه كل ورقة ذابلة، وكل ثمرة فجة، وكل ما لا يمكن أن ينتمي أو ينمو على الشجرة، وظل الإصرار على إقامة مسرح مع الإصرار الكامل على إقامته من دون مسرحيين، والمدهش أنني رأيت مسرحيين لا يتدخلون في مُعترك الحرب التي دارت لطحنهم بل وكانوا يبدون طواعيتهم الكاملة للإنسحاق التام ويشكرون الإجراءات الرحيمة التي ـ على الأقل ـ تعطيهم فرص الإنسحاق، ( نعمان عاشور وعبد الرحمن الشرقاوي على سبيل المثال)، وأصبح المسرحي يتبنى مُغالطات وخلط غير المسرحيين!
يحلو للبعض في معرض الحديث عن مسرح الستينات أن يبالغ ويُضفي على المرحلة ذهبية يشهد المعاصرون أنها لم تكن موجودة؛ كان المسرح موجودا، نعم، وكانت به حيوية وجهود مُخلصة، نعم، وكان يعج بالمواهب والطاقات، والذين تعبوا ودرسوا وتعلّموا وكانو يحملون القدرة على تحقيق النتائج الذهبية، نعم، نعم، نعم، لكن تركيبة السلطة التي أهدرت الوعود الذهبية في سيناء المخذولة لم يكن من الممكن لها أن تسمح بتحقيق الوعود الذهبية في المسرح الذي كان يجب أن يُخذل هو الآخر، وبلا تردد، قبل أن يُشير ويفضح ويقود مسيرة الاحتجاج، برفض الهزيمة والغفلة، نحو الوعي الذهبي.
على كل حال، ومع الحقيقة التي كان يرددها الشاعر ت. س. إليوت: "ما قد تم فعله لا يمكن نقض فعله"، أحمد الله على ما كان وعلى ما سيكون بمشيئته وقضائه.
إلتحقت عام 1954 بكلية الاداب، جامعة القاهرة، بقسم صحافة، الذي كان قد أُنشئ جديدا في ذلك العام، وكنا دفعة جامحة من الطلبة والطالبات، (100 طالب و 150 طالبة!)، وقرر معظمنا أن الدراسة النظرية بالقسم لن تعلمنا الصحافة كما نريدها فإنقسمنا مجموعتين رئيسيتين: واحدة إختارت التدريب في مدرسة روز اليوسف، والأخرى إختارت مدرسة أخبار اليوم، وكنت واحدة من المجموعة التي إلتحقت بمدرسة أخبار اليوم نوفمبر 1955، لم يكن الإختيار على أساس سياسي بل على أساس مهني محض إذ كان المهم في ذلك الوقت هو كيف نتعلم صنعة الصحافة ونكون لأنفسنا أسلوبا في التحرير الصحفي. ظللت مع مجموعتي نعمل بأخبار اليوم عامين كاملين مجانا ونحمد الله أن أصحاب الدار قد أعفونا من مصروفات الدراسة إلى أن تم تعييننا عام 1957 بمكافأة شهرية قدرها خمسة جنيهات، وأصبحت الدراسة بالجامعة في قسم الصحافة ثانوية إلى جوار خبرتنا في الممارسة الفعلية للعمل الصحفي. منحني تخرجي في الجامعة 1959 شهادة ليسانس في الصحافة لم تقنعني، وكان عملي الصحفي في تلك الفترة قد تكشف لي وبدا ضحلا ومزيف البريق لذلك ألحت عليّ فكرة السفر في الدنيا الواسعة للدراسة وامتحان النفس، وشجعني قبولي للدراسة في جامعة كانساس الأمريكية بقرية لورانس فسافرت إلى الولايات المتحدة أغسطس 1960، وكان قد تم تسجيلي لدراسة الماجستير في الصحافة لكنني راجعت نفسي وقلت: مصر بحاجة إلى ناقد مسرحي فكل الذين يكتبون النقد المسرحي غير متخصصين؛ سأصنع من نفسي ناقدة مسرحية لمصر! ــ (وأرجو من القارئ ألا يبتسم فهكذا كان جيلنا يتكلم عندما يريد أن يحدد مستقبله) ــ كانت مصر في تلك السنوات العشر الأولى لما أردناها ثورة 1952 إبنتنا العروس البهية التي نريد أن نجلب لها حليب العصفور لو شاءت، كنا نريد أن نزوقها ونجملها ونجهزها بكل ما ينقصها، ورأيت أن مصر ينقصها الناقد المسرحي المؤهل حقا لحمل مسئولية دفع النهضة المسرحية المرجوة لبناء وقيادة ما أردناه ليكون المجتمع الثوري الجديد.كان نقاد المسرح صنفين:1 ـ صنف كان ولا يزال يستند إلى معايير اعتباطية في قبوله أو رفضه للعمل الفني، مستخدما خفة ظله، إن توفرت لديه، في تمرير وتبرير مغالطاته، ولا يتورع وهو في حماسه، وقد أخذته العزة بالإثم، أن يستخدم أفحش القول والإرهاب، إذا اقتضى الأمر، ومثل هؤلاء كان ولا يزال شديد الثقة بنفسه، لا يحجم عن إبداء رأيه دائما ومن فوره وفي كل شئ!2 ـ أما الصنف الثاني فكان النقيض: يلبس أكاديميته ويحكم ربطها جيدا حول عنقه حتى تخرج أفكاره وآراؤه مشنوقة تماما بالمصطلحات، وكلما خلت كلماته من الروح كان اغتباط الناقد بمقدرته كبيرا، وذلك على أساس الاعتقاد السائد أن الروح والحيوية وخفة الظل تتنافى مع الأكاديمية؛ فالجهامة ـ كما يعتقدون ـ والجفاف أليق بالأكاديمي. العجيب الذي كان يسترعي إنتباهي أنه رغم ذلك "التأكدم" الشكلي الذي كانوا يحرصون عليه، كانوايقعون في خطأ علمي رهيب وهو خلطهم بين "الأدب" و "المسرح"،وكان هذا الخلط يجرهم دائما إلى التمركز عند خط دفاعهم الأول والأخير وهو: "النص" المدون لغرض العرض المسرحي، ولو كان "النص" في عرف البداهة المسرحية مجرد عنصر غير جوهري في الكيان المسرحي!ما علينا: قررت أن أعد نفسي لأكون "الناقد المسرحي" المطلوب لمرحلة يطورها جيل آت ثم جيل آت بعد الآتي، خلال سنوات يتم فيها ترسيخ المنهج السليم لإعداد الناقد المسرحي.كان عليّ أن أحصل من جامعة كانساس على معادلة ليسانس في الفنون المسرحية، وهكذا أنفقت عامي 1960 \ 1962 في دراسة مواد أساسية وتحضيرية مع دراسة عملية في "الورشة" لكيفية صناعة العرض المسرحي وإقامته كائنا حيا يقف على خشبة المسرح وليس كلمات مدوّنة بين صفحتي كتاب، بعدها صرت مؤهلة لمتابعة الدراسة العليا نحو "التخصص في ممارسة النقد المسرحي"، غير أني لم أستطع متابعة الدراسة من فوري إذ كان لا بد أن أتفرغ للعمل عاما كاملا لسداد ديون دراستي في جامعة كانساس التي كانت على نفقتي الخاصة، فقضيت عام 1962 \ 1963 بمدينة شيكاجو أعمل سكرتيرة محلية في مكتب المستشار الصحفي لقنصليتنا المصرية، "قنصلية الجمهورية العربية المتحدة"، عاما كاملا خصبا، أقرأ وأسمع وأشاهد بنهم كل ماكان عليّ أن أعرفه في الفن والثقافة: من الجديد الذي كان عليّ أن أواكبه إلى القديم الذي كان عليّ أن أستكمله، ثم جاءت فرصتي للعمل في مكتب المستشار الصحفي ببعثة مصر الدائمة للأمم المتحدة بنيويورك فتركت شيكاجو وانتقلت إلي نيويورك أغسطس 1963 وتم قبولي بقسم الدراسات العليا للفنون المسرحية بكلية التربية جامعة نيويورك، استغرقت دراستي عامين، 1964 \ 1966، وكانت على نفقتي الخاصة إلى النهاية؛ كنت أجمع بين عملي الصباحي الذي يستغرق ثماني ساعات يوميا ودراستي المسائية بالجامعة التي انتهت بحصولي على "ماجستير في نقد المسرح" يونيو 1966.
في ذلك الصيف، أغسطس 1966، وبعد ست سنوات كاملة من الغربة والعمل والكدح والتأمل والدراسة شعرت أنني نضجت ثقافيا بما يكفي لأعود إلى مصر وأهديها نفسي قائلة: "كل التعب كان لك ومن أجلك"!
كان الأستاذ أحمد بهاء الدين قد تسلم مسئولية إحياء مجلة المصوّر، وكان منطقيا أن أتوجه للعمل معه في دار الهلال منقولة من دار أخبار اليوم، التي خلت من العبقريين مصطفى أمين وعلي أمين، أخوض مهمة النقد المسرحي، التي أتاحها لي الأستاذ أحمد بهاء الدين بمجلة المصوّر، و كانت قد تحولت تحت رئاستة إلى "كبرى المجلات المصوّرة"، كنت أحاول أن أقدم رؤيتي لما يجب أن يكون عليه الناقد المسرحي، وكان جهدي يتمركز في التأكيد على بدهية أن فن "المسرح" ليس "الأدب"، وأنه ليس هناك كاتب مسرحية: "بلايريتر"،Playwriterبل صانع مسرحية: "بلايرايت"،playwright يصنع أو يبني أو يُنشئ معتمدا على تركيب وتجميع عناصر متعددة مثل صانع السفينة، وكنت أدعو أن يجعلنا هذا التصور نعيد النظر في كثير من المصطلحات والمقولات التي يتم تداولها مثل مقولة " قرأت المسرحية الفلانية" أو " قرأت مسرح فلان"، وهذا لا يجوز لأنك لا يمكن أن تقرأ مسرحية، هل يجوز أن تقول "قرأت سيمفونيات بيتهوفن" أو أي موسيقي آخر رغم أنها كلها مدوّنة على الورق؟ لا يمكن فنحن نقول "إستمعت" إلى الموسيقى، وتعرف أنها دُوّنت ليقرأها قائد الفرقة العازفة، لتصل معزوفة مؤداه على مسرح أو من خلال وسائل مسُجلة، وهكذا يكون الإلتقاء بالعمل الموسيقي، كذلك المسرح، إنك عندما تكتفي بقراءة مسرحية تكون قد أجهضت جنينا من رحمه؛ لن يكون بأيّة حال مخلوقا بين يديك بل دما مسفوحا لمشروع مخلوق، فقراءة ما دوّنه المؤلف المسرحي لا تعطينا الصلاحية لفهمه أو الحكم عليه إذ تظل العملية المسرحية ناقصة ولا يمكننا الحكم عليها ما لم نضعها كالسفينة في بحرها ونراها كيف تسير، وهل تآلفت مع الماء أم أنها لم تطف وغرقت؟ وكنت أتشبث بتعريف المسرح كما حدده أحد ثوار المسرح، وهو المخرج الإنجليزي "بيتر بروك"، وكنت أول من ذكره وعرّف به في مصر، الذي يرى أن المسرح يعني بكل تبسيط: خشبة مسرح؛ أي مساحة فارغة يمكن أن تتيح لنا مكانا يقف عليه مؤد، ويكون هناك جمهور، ويكون هناك محور لمضمون يهم هؤلاء الناس، فيتم من خلاله التواصل بين المؤدي والمتفرج، وهذا التعريف لبيتر بروك يتلاقى كذلك مع رجل المسرح العالمي "جروتوفسكي" مبتكر "المسرح الفقير"، وكنت كذلك أول من كتب عنه وعرّف به في مصر، حين استخدم منهاجه الـ "فيا نيجاتيفا"، ويعني الحذف أو الإلغاء، معلنا أننا بحاجة ملحة إلى تخليص المسرح من أثقاله الدخيلة عليه بطرح الأسئلة:
ـ هل يمكن أن يكون هناك مسرح بدون متفرّج؟ الإجابة: لا.ـ مسرح بدون ممثل؟الإجابة: لا.ـ مسرح بدون نص مسرحي؟الإجابة: نعم!ـ بدون ديكور؟ بدون إضاءة؟ بدون موسيقى؟الإجابة: نعم، نعم، نعم.
إذن كل شئ تقريبا مما نعرفه عن المسرح يمكن حذفه أو إلغاؤه إلا الممثل والمساحة الفارغة والمتفرّج والمضمون الذي يتمحور حوله اللقاء بين المؤدي والجمهور.
لم يكن تشبثي بهذا التعريف للمسرح يدفعني إلى إهمال النص كلّية لكنه كان يدعّمني في رفع راية: إن المُخرج هو مؤلف العرض المسرحي الذي يكون النص جزءا من تكوينه، وأن للمُخرج الصلاحية الكاملة في التصرف مع النص بما يراه ضرورة لمصلحة العرض مسرحيا، وكان هذا التعريف يُدعمني كذلك في الدعوة إلى إستقلال الناقد المسرحي عن الناقد الأدبي المشغول بالكلمة المكتوبة للقراءة والمَعني بتوجه كامل مقصور على الكاتب فحسب، وكنت أتمنى أن تستخرج حركة إستقلال "الناقد المسرحي" جنودها من مسرحيين عملوا بالإخراج وشاركوا في صناعة العرض المسرحي مُستنبتين من أرضيتهم المسرحية لغتهم الواعية والمُدركة للعملية المسرحية رافعين شعار: " دعوا المسرح يتحدّث بلغته"، فعبر نقاد كهؤلاء فحسب يمكن لحركة مسرحية في بلادنا أن تنبثق متفجّرة بالخصوبة والوعي والابتكار، قادرة على حفر مجرى لمسرح يخصنا: نتأصل به ويتأصل بنا ويتصاعد في تطور لإثراء التعبير عن الحق والخير والجمال.
كان من المنطقي ـ وقد إتخذت الموقف المبدئي مسرحيا ـ أن تتوحد لغتي مع لغة المخرج صاحب العرض المسرحي أكثر من توحدها مع كاتب النص الذي كان ولا يزال يعد نفسه أديبا بالدرجة الأولى. والأمر كذلك كان من النتائج المنطقية أن الذين يسمحون لأنفسهم بالإعتداء على المسرح بالنقد والتقييم، بكل موروثات المغالطات الرثة، يكونون بأكملهم في ناحية وأكون في الناحية النقيض مع المسرحيين والوعي المسرحي وجنود الحلم الثوري؛ غرباء لا يحمينا سوى العناد وقوة الإيمان بالمبدأ. رغم صعوبة موقفي إلا أنني كنت سعيدة غاية السعادة كوني أقلّية قادرة على الاستمرار في المواجهة وخوض المعركة وإزعاج الخصوم، وكنت أسمي نفسي "الناقدة المُحاربة" وأحيانا "مقاتلة في الأحراش والغابات"، وفي كل الأحوال واحدة من جنود الحلم الثوري؛ أخوض على صفحات المصوّر، بدعم من رئيس تحريرها المثقف الذواقة المحرّض على التوهج الأستاذ أحمد بهاء الدين، معركة الشكل المسرحي، واللغة المسرحية، وتصحيح المغالطات الفنية المليئة بالخزعبلات المعوّقة لنهضة المسرح كإطار مستقل للتعبير الإنساني، وكنت خلال المعركة قد حددت إنحيازي الكامل لصالح المستضعفين ضد قوى وأشكال المستكبرين المفسدين في الأرض.
كانت سنوات الستينات، تلك الشهيرة بكونها فترة إنتعاش المسرح المصري، هي في الواقع سنوات الصراع الذي خاضه جنود الحلم الثوري لجمع لطع دودة الثورة؛ وكانت الدودة هي: الإنتهازية والزيف والكذب والدجل والسياحة السياسية والسياسة السرابية التي أنتجت الهوّة المخيفة بين القول والفعل، والانفصام بين الشعار المُعلن والتطبيق الواقع، ثم كانت الدودة هي المنهج الإجرامي الذي تبلور وناء بكلكله على صدر الإنسان المصري الباسل الوديع؛ منهج القمع والإرهاب السلطوي، منهج قطع الألسنة وجدع الأنوف وسحق الكرامة الحرام للمواطن، منهج السجن والاعتقال والتعذيب للشبهة و للفتة ولرفّة رمش العين.
كانت الستينات فترة إنتعاش للمسرح المصري، نعم، بما يعني أن كانت هناك، رغم كل شئ، مقاومة ثقافية نابضة تحركها دماء وتضحيات ثوريين أصلاء، (قبل أن يذوى المسرح وينزوي مع مرور السبعينات ويثبت بالدليل أن الموت قد خيّم وفرش أجنحتة القاتمة)، والمقاومة النابضة لا تعني أن أمورها مُيسّرة لكنها تعني أن حركتها مستمرة وأن جنود الحلم الثوري، من أجل إعلاء الحق والخير والجمال، مايزالون في الساحة وإن سقط منهم شهداء، وأنهم مسيطرون في مواقع صراعهم لتسود رؤيتهم الإنسانية لصالح الإنسان، وللتمسك بالمكتسبات الشعبية لتحويلها من صحائف ورقية بلا قيمة إلى واقع يقف على الأرض تنزرع فيها المكتسبات فتضرب جذورها في الأعماق وتتلاقح مع النيل والهواء وعرق عباد الله فتنمو وتشتد وتعلو باسقة كالشجر الطيب.
كان جنود الحلم الثوري مستميتين لترسيخ واقع يتوازن ولو قليلا مع الطقطقات والشقشقات الثورية لفظا والفاسدة أثرا، وكان جنود الحلم الثوري يرون الخطر الأكبر يكمن دائما في سارقي الحلم من أبنائه وحفظته المخلصين، يكمن في المنافقين، في الإنتهازيين الذين يهددون حصاد ومحصول كل ثورة؛ إذ بإجادتهم رطانة اللغة الثورية وبراعة تمييعها لتناسب كل الأهواء ينجحون في تعطيل الأبناء الصادقين، وفي نخر الثورة من قلبها إلى أن ينهار كل شئ ويصبح كالعصف المأكول.
شهدت سنوات الستينات أعنف المعارك التي خاضها جنود الحلم الثوري لجمع لطع دودة الثورة ووقوفهم ببسالة ضد تلك اللطع، التي صارت بالنهاية أخطبوطا هائلا من الإنتهازية استطاع أن يفرش نفسه طولا وعرضا وسماء وأرضا ويتمكن تماما من ضعضعة الحلم الثوري المخطوف من أبنائه، ومن تحويل المكتسبات الشعبية الورقية إلى مسلسلات إذاعية وتلفزيونية، وزفة سياحية، وألاعيب حواه، وأفاعي سحرة يكتبون في الصحف والمجلات، وبرغم ضخامة الأخطبوط وشراسته وخسّته في الدفاع عن منافعه الشخصية لم يفقد جنود الحلم الثوري عنادهم الذي استمر معهم مارا بهم من هلاك إلى هلاك.
كان جنود الحلم الثوري ـ ضمير مصر ونبضها ـ يعرفون أنهم أقليّة وعزّل أمام الأخطبوط، الذي تملّك سلطة الدولة بأكملها، والذي تكون وتجمّع من فصائل ثوريين سابقين فقدوا ثوريّتهم، ومن مثقفين عدميين، ومن إنتهازيين أصلاء يعتنقون الإنتهازية إعتناقا مبدئيا كاملا، ومع كل هؤلاء بالطبع فئة من الخدم والعبيد وعبدة للأوثان؛ أخطبوط رهيب مُدعم بكل شئ، لكن جنود الحلم الثوري كانو يعرفون أن الحشد الهائل من لحم مصر من المستضعفين كانوا معهم، كانوا يعرفون أن الجياع معهم، أن المرضى البلهاريسيين معهم، الشهداء الذين ذبحهم الأخطبوط غيلة في سيناء معهم، الصم البكم والعمي معهم من دون أن يدركوا أنهم مع أحد على الإطلاق! كانت مصر بتاريخها ومواقع مقاومتها كذلك معهم. واستمر جنود الحلم الثوري رغم تشتتهم، حين وحيث لا يكاد الواحد منهم يستدل على أخيه، كانوا مصرين على الاستمرار في الصراع ضد الأخطبوط، ( إلى أن انقسم هذا الأخطبوط على نفسه في 15 \ 5 \ 1971 وأكل ذيله رأسه وتغيّر لونه تماما من أخطبوط يقتل ويخنق ويأكل السحت تحت علم إدعاء الإشتراكية والتقدمية إلى أخطبوط يأتي الجرائم نفسها ولكن تحت علم آخر أكثر إضحاكا وإن لم يكن أقل إبكاء، وهوعلم إدعاء الديموقراطية والتحضر والسلام الاجتماعي، لكن حتى بعد التغيير في الشعارات ظلت هناك سمة مشتركة بين أخطبوط ما قبل 15 مايو 1971 وأخطبوط الطبعة الجديدة المنقحة بعد 15 مايو 1971 تلك هي: أن كلاهما أخطبوط يجبن ويهادن في كل شئ إلا منفعته الشخصية إذ يكون في دفاعه عنها غاية في الشراسة والخسّة)، وكان لا بد لمسرح الستينات أن يرصد الصراع بين النقاء والعفن وأن يلتقطه ويُعبر عنه بجهود جنود الحلم الثوري الذين كانوا يملكون بعض مواقع مشعة في النقد والإخراج والتمثيل والتأليف وكانوا يحاولون أن يستدل بعضهم إلى البعض من خلال كلمة أو موقف أو عمل أو صمت فيتساندون في معركتهم غير المتكافئة مع الأخطبوط والتي كانوا يخسرونها يوما بعد يوم.
كانت مهمتي النقدية تدفعني إلى موقفين إزاء كل عمل أستشعر من ورائه أنفاس ونبض جنود للحلم الثوري مخلصين: موقف ألتزم فيه الصمت خوفا من إعلان الفرح كي لا يتنبه الأخطبوط ويكسر مصابيح الفرح التي تلألأت في غفلة منه، والموقف الثاني يدفعني إلى الكتابة عن العمل في عملية مرهقة ومحفوفة بالمحاذير لأنني أكون قد أردت أن أفصّل العمل للقراء بإشاراته الواضحة ضد الأخطبوط ويكون عليّ بذات الوقت الكتابة بهدوء كاف حتى لا تلتفت عين من عيون الأخطبوط الكثيرة ضدّي أو ضد المسرحية، وكان من حسن طالعي أنني كنت في مجلة المصوّر تحت رئاسة أحمد بهاء الدين النظيفة الراقية التي تحث على الصدق وتكبح أقوال الزور مما أتاح لي قدرا كبيرا من التعبير عن رأيي النقدي بحرية شبه كاملة، إلى أن داهمنا قرار نقله من مؤسسة دار الهلال إلى مؤسسة الأهرام في أغسطس 1971.
بديلا عن أحمد بهاء الدين جاء آخر من يمكن أن يكون بديلا للرقي والتحضر؛ جاء مكارثي الثقافة المصرية بكل غشومية وغباء البطش والتنكيل: جاء يوسف السباعي مفتونا بالسلطة متلذذا بالإبادة!قبل أن يرتشف يوسف السباعي أول فنجان قهوة بمكتبه، كرئيس مجلس إدارة دار الهلال ورئيس تحرير المصوّر، استدعاني، و بيده مقالي عن العرض المسرحي "ملك الشحاتين" لنجيب سرور وجلال الشرقاوي، قائلا وهو يرشق عينه الزرقاء القاتلة بمنتصف جبيني: "يكون في عِلمك إحنا مش عاوزين نشوف اسم صافي ناز كاظم ده منشور أبدا، وعشان تبطّلي عجرفة مناخيرك ح أجيبها الأرض"!
هكذا بلفظة لسان نزلت سكينة الأخطبوط قاطعة عني حقي في أداء جهادي الثقافي تجاه بلادي وأبناء أمتي، ولمن كان تعبي وكدحي وطوافي المشرق والمغرب أجمع خيرات الرحيق؟ لحظة شعرية داهمتني في موقف لا شعر فيه. أي جبروت هذا؟ أي عنف وإرهاب وحشي هذا الذي يمارسه الأخطبوط هكذا وبلا رادع ـ وبلا تعويض طبعا ـ على خلق الله؟ رغم أنني شعرت لحظتها بعين يوسف السباعي الزرقاء مرشوقة في منتصف جبيني كرصاصة إغتيال غادر إلا أنني لم أتمالك نفسي من الضحك لأن المسرح علّمني أن أكثر المشاهد هزلية هي مشاهد الطغاة والمتجبرين، خرجت من مكتبه أتمتم الآية الكريمة من سورة يس: "ومن نعمّره ننكّسه في الخلق أفلا يعقلون".
وهكذا اختفى اسمي من النشر في السبعينات كلها إلى مطلع الثمانينات، فمنذ أغسطس 1971 حتى 25 مارس 1983، تحقق قرار يوسف السباعي بحذافيره فلم يُنشر اسمي قط في صحف مصرنا المحروسة، على مدى مايقرب من 12 سنة، إلا ضمن قوائم المعتقلين والمتحفظ عليهم والمقدّمين لمحاكم أمن الدولة، لماذا؟ لا أدري إلا أنني حاولت دائما أن أكون ناقدة مسرح كما يجب وكما وعدت مصر الحبيبة الطيبة.
أُجبرت على البقاء في بيتي لا أملك سوى النظر من شباكي أرقب في أسى العاصفة الترابية التي هيّجها الأخطبوط في ردائه الجديد بعد 15 مايو 1971. كانت العاصفة تطيح بزهور المسرح اليانعة، والأخطبوط يدوس معها بأذرعه الثعبانية كل النباتات الصغيرة اللينة الواعدة، ويعتصر الأغصان، وبعد المذبحة نظر الأخطبوط إلى جذع شجرة المسرح الناتئ؛ مبتورا أجرد، وبدأ يلصق عليه كل ورقة ذابلة، وكل ثمرة فجة، وكل ما لا يمكن أن ينتمي أو ينمو على الشجرة، وظل الإصرار على إقامة مسرح مع الإصرار الكامل على إقامته من دون مسرحيين، والمدهش أنني رأيت مسرحيين لا يتدخلون في مُعترك الحرب التي دارت لطحنهم بل وكانوا يبدون طواعيتهم الكاملة للإنسحاق التام ويشكرون الإجراءات الرحيمة التي ـ على الأقل ـ تعطيهم فرص الإنسحاق، ( نعمان عاشور وعبد الرحمن الشرقاوي على سبيل المثال)، وأصبح المسرحي يتبنى مُغالطات وخلط غير المسرحيين!
يحلو للبعض في معرض الحديث عن مسرح الستينات أن يبالغ ويُضفي على المرحلة ذهبية يشهد المعاصرون أنها لم تكن موجودة؛ كان المسرح موجودا، نعم، وكانت به حيوية وجهود مُخلصة، نعم، وكان يعج بالمواهب والطاقات، والذين تعبوا ودرسوا وتعلّموا وكانو يحملون القدرة على تحقيق النتائج الذهبية، نعم، نعم، نعم، لكن تركيبة السلطة التي أهدرت الوعود الذهبية في سيناء المخذولة لم يكن من الممكن لها أن تسمح بتحقيق الوعود الذهبية في المسرح الذي كان يجب أن يُخذل هو الآخر، وبلا تردد، قبل أن يُشير ويفضح ويقود مسيرة الاحتجاج، برفض الهزيمة والغفلة، نحو الوعي الذهبي.
على كل حال، ومع الحقيقة التي كان يرددها الشاعر ت. س. إليوت: "ما قد تم فعله لا يمكن نقض فعله"، أحمد الله على ما كان وعلى ما سيكون بمشيئته وقضائه.
Published on October 29, 2013 03:03
October 28, 2013
يا مفرّج الضيق يا ربي:
شكواي أم نجواي في هذا الدجى؟
ونجوم ليلي حُسّدي أم عوّدي؟
أمسيت في الماضي أعيش كأنما،
قطع الزمان طريق أمسي عن غدي،
والطير صادحة على أفنانها،
تُبكي الرّبى بأنينها المتجدد،
قد طال تسهيدى وطال نشيدها،
ومدامعي كالطل في الغصن النّدي.
Published on October 28, 2013 01:01
October 27, 2013
ردا على خيبات عمرو عبد السميع في ذكر النقراشي اليوم بالأهرام 27 أكتوبر 2013:
في ديسمبر 1948 أطلق عبد المجيد حسن الرصاص على محمود فهمي النقراشي، رئيس الوزراء فأرداه قتيلا.
كنت في طريق العودة سيرا من مدرستي الابتدائية بشارع سبيل الخازندار وعرفت الخبر وأنا أعبر ميدان فاروق متجهة إلى منزلي 9 شارع العباسية، فانفجرت باكية بحرقة بالغة أدهشت أختي التي كانت ترافقني، لأنها لم تكن تعرف الارتباط الوجداني السري الذي كان يربطني بالنقراشي والذي كان بعيدا تماما عن دوره السياسي بإيجابياته وسلبياته، كل ما في الأمر أنني تمثلت فيه وجه أبي الذي كان قد توفي قبل أربع سنوات وثمانية أشهر. قالت أختي باستنكار: مالك؟ قلت في شهقات الانتحاب: كان يشبه بابا، وفي غمرة حماسي كتبت في دفتري: «مات رجل والرجال قليلون»، مما أثار سخرية ابن خالتي الطالب الجامعي وهو يصحح عبارتي إلي «والرجال قليل».
لم أدرك وقتها الأسباب التي جعلت غالبية الناس متعاطفة مع القاتل عبد المجيد حسن، الذي ظهر وجهه في صور الصحف مضروبا ملطوشا وارما، أكثر من تعاطفها مع المقتول صاحب الوجه الذي بدا لي دائما طيبا أبويا حنونا. كانت أغلب الكتابات الصحفية، على مدى سنوات، تشيد بالنقراشي وتكاد تضعه في مصاف الشهداء، حتى فاجأتني حقيقة أن محمود فهمي النقراشي، رئيس الوزراء ووزير الداخلية في آن واحد، كان هو المسؤول عن إصدار الأمر بفتح كوبري عباس في 9 فبراير 1946 لإغراق مظاهرة احتجاج قادها طلبة جامعة فؤاد ضد الاحتلال الإنجليزي رافعين شعار «الجلاء بالدماء»، ظلت هذه حقيقة مطموسة ولم أتبينها إلا فيما بعد من خلال قراءاتي ونضوج وعيي.
حقيقة ما كان هو أمر محمود فهمي النقراشي بفتح الكوبري أثناء مرور مظاهرات الطلبة فسقط في النيل منهم من سقط فغرق، ومنهم من تشبث بحديد الكوبري طلبا للنجاة فضربته هروات البوليس على أصابعه ليجبروه على الموت، إلا من تحمل الضرب وأحكم قبضته فاستطاع الصعود إلى الأرض ليكون من المصابين الذين تم اعتقالهم جميعا.
كنت في ذلك الحين في الثامنة من عمري وكان أخي الشاب ابن السابعة عشرة من بين المصابين في تلك الحادثة المتوحشة، وكان من الممكن أن يكون من ضمن الغرقى. تأخر أخي إبراهيم في العودة من الجامعة، فقلقت والدتي. حتى المساء لم يعد إبراهيم، واشتعل القلق لهيبا عم البيت كله. جاء صديق لأخي يحمل قلمه ومنديله وبعض متعلقاته، صرخت أمي لكن الصديق قال إن إبراهيم نجا وهو مصاب ومعتقل في مبنى مستشفى قصر العيني. من الصباح الباكر أعدت والدتي حقيبة ملابس وطعام وقلت لها أحب أشوف إبراهيم. كان الوفد الذاهب للاطمئنان على أخي مكونا مني ومن أمي وأخي إسماعيل، الذي كان عيد ميلاده الخامس عشر في نهاية شهر فبراير. تحت شبابيك المبنى في قصر العيني المحجوز فيه المصابون معتقلين، نادى إسماعيل: «إبراهيم...إبرااااهيم...كاظم...كااااظم». لم يرد أحد.
كنا ننتظر، كما قال لنا البعض، أن يدلي لنا إبراهيم حبلا نربط فيه الطعام والضرورات من الملابس ليسحبه من الشباك خلسة، فلم تكن هناك فرصة للزيارة أو المقابلة، بعد برهة أطل علينا وجه شاب وقال باقتضاب: «كاظم أخذوه إلى بندر الجيزة». مفردات غير مألوفة لأمي فتملكها الهلع وأخذت تبكي وأخي إسماعيل محرج أو متألم من بكائها يقول: «من فضلك يا ماما مش كده!». أنا بردانة، واجمة، لكنني لم أبك حتى لا أتسبب في أية «لخمة»، وربما حتى لا «يشخط» فيّ إسماعيل، مداريا قلقه تحت ظاهر من الشجاعة والتماسك. أذكر أنني سرت معهما محترمة نفسي، ولا أذكر كيف وصلنا إلى بندر الجيزة الذي لم استوعب مدلوله: هل هو بيت؟ هل هو مستشفى؟ هل هو ماذا؟ لم استطع أن أكمل الاحتمالات، الذي أذكره أننا وقفنا أمام بناء بحديقة وخلفنا شجر كثيف على شاطئ النيل. كان الزحام شديدا، بوليس وأهالي، كانت والدتي قد هدأت استسلاما لما رأته ألما جماعيا وظلما شاملا.
الأهالي يتبادلون الأخبار والمشاورات والتكهنات. يشتد إحساسي بالبرد والجوع مع غروب الشمس. من الصباح حتى ذلك المساء ولا نجد وسيلة لإدخال الطعام والملابس لإبراهيم. البعض يطمئن أمي: «الأكل دخل لهم من حزب الوفد والإخوان». لا أذكر رد فعلها، ولا أذكر كيف انتهى المشهد وكيف عدنا إلى بيتنا موغلين في الليل. أذكر يوم دق جرس الباب ودخل إبراهيم البيت معصوب الرأس يضاحك أمي باعتذار ويؤكد أنه صد ضربات البوليس بقبضة أصابعه والدفع القوي بساعده. نظر إلي قائلا: «شايفة العضلات»!
بعد مقتل النقراشي، ديسمبر 1948، جاء إبراهيم عبد الهادي بسياسة التنكيل العمياء يضرب بقبضة الحديد والنار لكنه مع ذروة القسوة لم يستطع أن يخمد الهتاف الذي لف مصر كلها: «عبد الهادي كلب الوادي»!
كنت في طريق العودة سيرا من مدرستي الابتدائية بشارع سبيل الخازندار وعرفت الخبر وأنا أعبر ميدان فاروق متجهة إلى منزلي 9 شارع العباسية، فانفجرت باكية بحرقة بالغة أدهشت أختي التي كانت ترافقني، لأنها لم تكن تعرف الارتباط الوجداني السري الذي كان يربطني بالنقراشي والذي كان بعيدا تماما عن دوره السياسي بإيجابياته وسلبياته، كل ما في الأمر أنني تمثلت فيه وجه أبي الذي كان قد توفي قبل أربع سنوات وثمانية أشهر. قالت أختي باستنكار: مالك؟ قلت في شهقات الانتحاب: كان يشبه بابا، وفي غمرة حماسي كتبت في دفتري: «مات رجل والرجال قليلون»، مما أثار سخرية ابن خالتي الطالب الجامعي وهو يصحح عبارتي إلي «والرجال قليل».
لم أدرك وقتها الأسباب التي جعلت غالبية الناس متعاطفة مع القاتل عبد المجيد حسن، الذي ظهر وجهه في صور الصحف مضروبا ملطوشا وارما، أكثر من تعاطفها مع المقتول صاحب الوجه الذي بدا لي دائما طيبا أبويا حنونا. كانت أغلب الكتابات الصحفية، على مدى سنوات، تشيد بالنقراشي وتكاد تضعه في مصاف الشهداء، حتى فاجأتني حقيقة أن محمود فهمي النقراشي، رئيس الوزراء ووزير الداخلية في آن واحد، كان هو المسؤول عن إصدار الأمر بفتح كوبري عباس في 9 فبراير 1946 لإغراق مظاهرة احتجاج قادها طلبة جامعة فؤاد ضد الاحتلال الإنجليزي رافعين شعار «الجلاء بالدماء»، ظلت هذه حقيقة مطموسة ولم أتبينها إلا فيما بعد من خلال قراءاتي ونضوج وعيي.
حقيقة ما كان هو أمر محمود فهمي النقراشي بفتح الكوبري أثناء مرور مظاهرات الطلبة فسقط في النيل منهم من سقط فغرق، ومنهم من تشبث بحديد الكوبري طلبا للنجاة فضربته هروات البوليس على أصابعه ليجبروه على الموت، إلا من تحمل الضرب وأحكم قبضته فاستطاع الصعود إلى الأرض ليكون من المصابين الذين تم اعتقالهم جميعا.
كنت في ذلك الحين في الثامنة من عمري وكان أخي الشاب ابن السابعة عشرة من بين المصابين في تلك الحادثة المتوحشة، وكان من الممكن أن يكون من ضمن الغرقى. تأخر أخي إبراهيم في العودة من الجامعة، فقلقت والدتي. حتى المساء لم يعد إبراهيم، واشتعل القلق لهيبا عم البيت كله. جاء صديق لأخي يحمل قلمه ومنديله وبعض متعلقاته، صرخت أمي لكن الصديق قال إن إبراهيم نجا وهو مصاب ومعتقل في مبنى مستشفى قصر العيني. من الصباح الباكر أعدت والدتي حقيبة ملابس وطعام وقلت لها أحب أشوف إبراهيم. كان الوفد الذاهب للاطمئنان على أخي مكونا مني ومن أمي وأخي إسماعيل، الذي كان عيد ميلاده الخامس عشر في نهاية شهر فبراير. تحت شبابيك المبنى في قصر العيني المحجوز فيه المصابون معتقلين، نادى إسماعيل: «إبراهيم...إبرااااهيم...كاظم...كااااظم». لم يرد أحد.
كنا ننتظر، كما قال لنا البعض، أن يدلي لنا إبراهيم حبلا نربط فيه الطعام والضرورات من الملابس ليسحبه من الشباك خلسة، فلم تكن هناك فرصة للزيارة أو المقابلة، بعد برهة أطل علينا وجه شاب وقال باقتضاب: «كاظم أخذوه إلى بندر الجيزة». مفردات غير مألوفة لأمي فتملكها الهلع وأخذت تبكي وأخي إسماعيل محرج أو متألم من بكائها يقول: «من فضلك يا ماما مش كده!». أنا بردانة، واجمة، لكنني لم أبك حتى لا أتسبب في أية «لخمة»، وربما حتى لا «يشخط» فيّ إسماعيل، مداريا قلقه تحت ظاهر من الشجاعة والتماسك. أذكر أنني سرت معهما محترمة نفسي، ولا أذكر كيف وصلنا إلى بندر الجيزة الذي لم استوعب مدلوله: هل هو بيت؟ هل هو مستشفى؟ هل هو ماذا؟ لم استطع أن أكمل الاحتمالات، الذي أذكره أننا وقفنا أمام بناء بحديقة وخلفنا شجر كثيف على شاطئ النيل. كان الزحام شديدا، بوليس وأهالي، كانت والدتي قد هدأت استسلاما لما رأته ألما جماعيا وظلما شاملا.
الأهالي يتبادلون الأخبار والمشاورات والتكهنات. يشتد إحساسي بالبرد والجوع مع غروب الشمس. من الصباح حتى ذلك المساء ولا نجد وسيلة لإدخال الطعام والملابس لإبراهيم. البعض يطمئن أمي: «الأكل دخل لهم من حزب الوفد والإخوان». لا أذكر رد فعلها، ولا أذكر كيف انتهى المشهد وكيف عدنا إلى بيتنا موغلين في الليل. أذكر يوم دق جرس الباب ودخل إبراهيم البيت معصوب الرأس يضاحك أمي باعتذار ويؤكد أنه صد ضربات البوليس بقبضة أصابعه والدفع القوي بساعده. نظر إلي قائلا: «شايفة العضلات»!
بعد مقتل النقراشي، ديسمبر 1948، جاء إبراهيم عبد الهادي بسياسة التنكيل العمياء يضرب بقبضة الحديد والنار لكنه مع ذروة القسوة لم يستطع أن يخمد الهتاف الذي لف مصر كلها: «عبد الهادي كلب الوادي»!
Published on October 27, 2013 03:52
October 26, 2013
تخلفنا في اللحاق بأنفسنا!
# بعد ترجمة فورية إستطعت أن أفهم من أخبار الصحف بعض ما يمكن أن أفرح به فرحا مخضلا بالمحنة، رغم حصار مبدعي الدمامة الذين لا يقف أمام طموحهم شيء.إنهم لا يريدون لملامح الوجه أن تظل كما خلقها الله، عينين وأنفا وشفتين، فالمحاولات مستمرة لكي نصبح بعين واحدة مغمضة في القفا، وثلاثة أنوف مرغمة موزعة بين الجبين والقدمين، على أن تطمس الشفاه ونكتفي بأن نحقن بالطعام مخدرات لتعويم العقل علي الترهات والوعي على الأكاذيب، ويكون الصدر أعشاشا لزنابير تطن بالرطانات وخلط الأمور. الجهد دائم «لدلق» الطحين على الاسمنت علي سم الفئران لخبز كعكة مشؤومة للآكلين من أجل أن نرى الحق باطلا والباطل حقا، لكن، رغم كل هذا، لا يزال هناك لا يزال من يرفض الإنسحاق!
# مثل مكعب الحديد المصمت يشق الرئتين فلا أتنفس: هذه هي الكآبة، أما الإكتئاب، فهو أشبه بالشجن الذي يختمر في بؤرته الشعر ونسميه أحيانا الوميض. أما حكاية الشوق إلى الجمال، فهي حكاية التوق إلى الحق والخير والعدل، وأظن الأمر كله يكمن في الحرية، وحتى لا نحتار بين المدلولات المبتذلة، أركز المعنى في حرية القول دفاعا عن كرامة الانسان. أفر إلى الله من الزور والبهتان والزيف ومن صدّق عليهم إبليس ظنه فاتبعوه. الهرب من «الكذب» الذي هو نقيض «الحق» ونقيض «الجمال»، والذي لا يترعرع معه خير أو عدل، فكيف بالله يكون الحال حين نرى الدمامة؛ «الكذب»، تقف في جرأة تنسج بالوهم وخيوط العنكبوت منهجا يزعم الدفاع عن الحق والدعوة إلى الخير والبكاء في مأتم العدل؟
# هل يجتمع قبح وجمال؟ إذا اجتمعا لا يكون الجمال جمالا!
# أواه يا ليل، طال بي سأمي، وساءلتني النجوم، عن شغبي!
# يقول البغاة لمقاوميهم وهم يكتمون أنفاسهم: من الغريب أنكم تتحدثون بكل هذه العصبية، لماذا لا نقهركم ونظل أصدقاء؟
# وتقول الغولة المتوحشة: لقد صفت روحي واغتسل قلبي ولم أستسلم للحقد مثلكم، لقد قتلت منكم من قتلت، ولكني تسامحت ونسيت ذلك تماما، فلماذا لا تحاولون أنتم نسيان جرائمي كذلك؟
# تتأوه الكاتبة الناصحة الكذوب: آه لو تسامح البشر ونسي المقتول طعنة القاتل، كما نسي القاتل طعنه للمقتول، لكن: هكذا القتلى، إنهم علي مر التاريخ ذاتيون، حقودون، لا ينسون الطعنات، وهم لذلك سبب شقاء هذا العالم الذي لن يعرف السلام أبدا إلا بإبادة المقاومين الذين يتسببون في كل هذا الإنفلات الأمني!
# ويصرخ هولاكو من وراء ركام التاريخ: طامة كبرى: فلا يمكن للشهيد أن يحدد نسله!
# يطل وجه من بين ظهرانينا، منمنم، أبيض مستدير، يبدو لوهلة طيبا كأنه سيدة، لا بها ولا عليها، تجلس في شرفتها تطحن بن قهوتها مع الحبهان في مطحنتها النحاسية الصغيرة، ولذلك تكون المفاجأة اكتشاف أنه سفاح: فمن الكتابة ما قتل!
# أما الذي احتكر الكلام لسنوات ولا يزال يتكلم، فعليه أن يدرك أنه لم يحتكر الانتهازية، بقليل من السماحة، وبالتعود، سوف يتمكن من رؤية آخرين إلى جواره، فالأرض قد أينعت الكثير من تلاميذه.
# يشرئب القلب ليرد ببدهيات على فؤوس منطق إستفزازي لا تكف عن شج الرؤوس، فنقول:ما يدفعنا إلى الاستنتاج بأن تخلفنا الحالي في علوم الفضاء والكومبيوتر إلخ... ليس سببه مناقشة ما يسمونه «توافه الأمور»، لقد حان الوقت لنتأمل حقائق ثابتة تؤكد أنه بفضل الإسلام وجدت القواعد الحالية لعلوم الطب، وفي عام 953 ميلادية، أرسل ملك الألمان سفيرا إلى قرطبة، عاصمة الخلافة الأندلسية، عاش فيها ما يقرب من ثلاث سنوات، تعلم أثناءها العربية بإتقان، ونقل مئات المخطوطات الطبية العلمية القيمة التي كان لها الأثر العظيم في نشر العلوم بأوروبا.
نعم، كان العلماء المسلمون يقدمون للإنسانية إنجازات ضخمة، مع أنهم كانوا يناقشون ويبحثون في مسألة المسح على الخف، ويتكلمون في نواقض الوضوء، والفرق بين الزواج الباطل ونكاح الشبهة وفاحشة الزنا، ويؤكدون أن الجهل بالحرمة يدرأ الحد، (يقرر القانون الوضعي الحالي أن الجهل بالقانون لا يُعفى من العقاب)، ويرسخون مبدأ: «لا حد بعد إبتلاء»، أي لا يجوز التعذيب للارغام على الاعتراف، واذا وقع التعذيب تسقط العقوبة.
أيها السادة: إن تخلفنا سببه الحقيقي هو تخلفنا في اللحاق بأنفسنا!>
Published on October 26, 2013 06:40