لا أقصد أنك الإنسان الوحيد ، أبدا.. فمجتمعنا لا يخلو من النماذج الخيرة الرفيعة ، بل عنيت إنك إذا أردت أن تكون إنسانا نبيلا ، فسوف تبدو غريبا ، سينظر إليك المجتمع وكأنك كائن عجيب قادم من عالم منقرض ، ستكون منبوذا لا يكاد يلتفت إليك أحد ، وستعيش غربة قاتلة.. وليت الأمر يقف عند هذا الحد!.. إذن لهان الأمر ، لكن المصيبة أن الناس لن يتركوك في وحدتك تمارس النظافة التي ترتاح إليها ، بل سيلومونك ويثبطونك ويحذرونك من مسلك النبيل ، لأن قدرتك على السمو ستعريهم وتكشف ضعفهم ، سيتهمونك بالسذاجة والمثالية الفارغة.. هكذا نحن اليوم ، نسمي النبل والتطوع والإحساس بالآخرين والالتزام بالقيم مثالية فارغة ، وتطلق على هذا النوع من السلوك "التعامل الرومانسي مع الواقع"..
فقد أكدت لي التجربة أننا أمة هاربة ، ترهبها الحقائق، و ترهقها الصراحة. نحن مجتمع لا يريد أن يواجه نفسه، يخشى أن يرى وجهه في المرآة حتى لا تفجعه التشوهات الدميمة التي تتسع مساحتها فينا يوما بعد يوم. نحن مجتمع يريد أن يبقى مخدرا نائما مغمض العيون، مجتمع يخشى أن يسترد وعيه ..
- هل تعلم ما هو أقسى شيء في الوجود ؟ في هذا العالم ألوان من القسوة ، فأيهما تريدين ؟ أقسى ما في الوجود أن تصدم فيمن أحببت .. أن ترسم في خيالك صورة مشرقة لإنسان عزيز ، ثم يأتي الواقع الفسد ليلطخ تلك الصورة الزاهية الجميلة بالأوحال .. فما بالك إذا كان هذا الإنسان العزيز عليك هو قدوتك و مثالك ؟
- انظر حولك ، ليس بعينيك يا دكتور - بم ينظر الناس إذن ؟ - بقلوبهم ! - لم أقرأ في كتب التشريح أن للقلب عيونا - لأنك لا تقرأ إلا السطور ! - و هل تخفي السطور خلفها غير السطور ؟ - خلف السطور كلمات و معان لاتخفى على لبيب مثلك
منذ زمن بعيد و أنا أبحث عن إنسان أبوح له بسري .. أبثه ما في صدري .. أتكلم إليه بصدق و صراحة .. فكن هذا الإنسان ، و لو للحظة ، ثم انس ما سمعته مني أو احتفظ به . لا فرق
ثمة أحاديث كثيرة ، لا يرتاح الإنسان للخوض فيها ، لكن هذه الأحاديث لا ينبغي أن تبقى مكتومة في الصدر إلى ما لا نهاية .. يجب أن تخرج إلى الهواء قليلا . نخرجها من خلف الضلوع ليسمعها إنسان قريب منا ، فيألم لألمنا ، و يشاركنا أحزاننا ، و يحمل معنا همنا الثقيل .