More on this book
Kindle Notes & Highlights
by
خالد فهمي
Read between
July 4 - September 26, 2022
غير أن ثمة صورة مختلفة تماما خلف هذه الاستعراضات للنظام والانضباط. ويعد ما يراه المرء خلف المظهر الاستعراضي مؤشرا على المشاكل التي واجهها الباشا في بناء جيشه الجديد: موظفون يغشونه، ضباط فاسدون يسيئون استغلال سلطتهم، بيروقراط غير أكفاء لا يعملون إلا لاسترضاء الباشا، وحتى الباشا نفسه كان يصدر في بعض الأوقات أوامر متضاربة، بل ومتناقضة أحيانا.
وتعتبر الطريقة التي حاول بها الضباط الالتفاف على بعض شروط الترقي التي وضعها الباشا وأجهزته العسكرية مثالا جيدا للمشكلات الكامنة خلف مظاهر الاستعراضات المنظمة هذه. ففي سنوات الجيش الأولى لم يكن بمقدور محمد علي أن يتحمل الانتظار حتى يتعلم ضباطه القراءة والكتابة، فكتب لإبراهيم باشا يخبره أنه «برغم أن الجيوش الأوربية لديها ضباط ومهندسون يعرفون القراءة والكتابة ليس باستطاعتنا أن نتحمل عمل نفس الشيء حين نقيم آلاياتنا الجديدة»(611)، ولكن على المدى الطويل أصبح محو الأمية، بل (ويا للعجب) حسن الخط، شرطا للترقية(612)، وتقرر أن يقدم كافة المرشحين عينات من كتابتهم للباشا ليتأكد من أنهم ليسوا أميين
...more
تشكلت المراتب العليا من هيئة الضباط من ثلاث مجموعات رئيسة، فكان المنحدرون من صلب الباشا وأصهاره وعبيده المعتقون يحتلون قلب هيئة الضباط ويشغلون أعلى المناصب العسكرية. وتكشف أية نظرة سريعة على تركيب المناصب العليا في الجيش في أي لحظة عن هذا الجانب في جيش محمد علي، أي كونه «جيشا عائليا». فمثلا كان قائد الأسطول المصري أثناء حرب المورة محرم بك، زوج ابنة الباشا، وبعد ذلك عُين في هذا المنصب محمد سعيد باشا رابع أبنائه. وكان إبراهيم باشا ابنه هو قائد الجيش الذي غزا سوريا، وكان إبراهيم باشا يكن ابن أخته قائد قوات المشاة (وكان قبل ذلك واليا على اليمن)، كما كان عباس باشا حفيده قائد قوات الفرسان. وبعد
...more
وقد فسر وصوله إلى هذا الحد في التوبيخ بأن صالح بك عنيد «راسه ناشفة [بالتركية: «صالح بكك قفاسي قالين» أي أن صالح بك له قفا عريض]». ولم يكن تعليق إبراهيم على سليمان بك أكثر لطفا.. فقال إنه نظرا لأصله الفرنسي فإنه معروف بجلافته وعصبيته(639).
في ظاهر الأمور كان يبدو أن محمد علي يدرك العلاقة بين قواته المقاتلة وقوة القاعدة الاقتصادية، فمثلا كان يعتني، هو وابنه إبراهيم، بأن يحصل جنودهما على ماهياتهم بانتظام وبإعاشتهم وعدم السماح لهم بالمعيشة على حساب الأرض التي يزحفون عبرها.. فالنهب والغنائم كانت محظورة تماما(645). وصدرت الأوامر التي تعمل على إرسال المال والغذاء والإمدادات الأخرى لمختلف وحدات الجيش أينما كانت(646). كان ذلك أحد أهم المعالم التي تميز جيش محمد علي عن الجيوش السابقة: فبينما كان الجنود في الجيوش السابقة يُتركون ليدبروا أمورهم كيفما شاءوا اعتمد جيش محمد علي على بنية الدولة الحديثة، التي أقامها أساسا لكي تعول الجيش. غير أنه
...more
«إنني أعرف أنكم لم تتسلموا عطايا خمسة عشر شهرا متأخرة منذ كنتم في الحجاز، وخمسة عشر إلى عشرين شهرا آخرين منذ كنتم في السودان.. ولكن يجب أن تعلموا أنكم لستم وحدكم في ذلك وأن القوات الأخرى في المورة وكريت تأخرت ماهياتها»، ثم حذرهم قائلا إنهم إن لم يُنهوا تمردهم سيرسل لهم قوات بالبحر لتتعامل معهم وسيكتب إلى الصدر الأعظم ويطلب منه أن يغلق أمامهم الطريق إلى الشمال إذا لجئوا للهرب(649). وحتى في أثناء الحملة السورية، التي يُسلَّم جدلا بأنها أفضل الحملات تنظيما، كان إبراهيم باشا يكتب إلى والده ليحثه على إرسال ماهيات القوات بانتظام، لأن الدخل الذي استطاع أن يجمعه من سوريا ليس كافيا للوفاء بالنفقات
...more
فحين أرسل الباشا أحد آلاياته الأولى إلى الحجاز لتقمع انتفاضة العسير عام ١٨٢٣ أدرك فورا أن عطاياه الشهرية لن تكفي لإعاشتهم، وأن عليه أن يُطعم قواته وألا يسمح لها بالمعيشة على حساب الأرض المفتوحة على عادة القوات القديمة، وقال لابن أخته أحمد باشا يكن، والي مكة آنذاك، أنه «برغم أن القوات الجديدة مدربة جيدا وتتبع لوائح معروفة وثابتة، فإن عطاياهم [الجنود] لا تتجاوز ١٥ قرشا، ولكنهم لن يستطيعوا أن يعيشوا بالطريقة التي اعتاد عليها جنود المشاة قديما. وبالتالي تقرر أن تُرسل جرايات الطعام مع الجيش وأن توزع عليهم يوميا» (652). غير أن أوامر الباشا هذه واجهت مشاكل جمة في التطبيق. فقباطنة البحار الذين صدرت
...more
وربما كان الإمداد بالخبز واللحم أفضل الأمثلة على محاولات السلطات اليائسة لإطعام الجنود كما ينبغي، وعلى المشكلات اللوجستية التي واجهتها في تأمين توريد إمدادات الغذاء الأساسية (التعيين) للجنود بانتظام وفي حالة جيدة. فدفاتر اليومية العسكرية للجيش في سوريا حافلة بالأوامر الإدارية التي تحاول أن تزود الجنود في مختلف المواقع، وخصوصا في أثناء الزحف، بالخبز (وهو عادة البقسماط الجاف [بالتركيه: بكسماد]) واللحم، حتى لا يهاجموا أراضي الفلاحين وهم في الطريق(655). غير أن تطبيق هذه الأوامر كان في واقع الأمر في منتهى الصعوبة.. فالخبز الذي كان يقدَّم للجنود كثيرا ما كان عفنا أو مخبوزا بطريقة سيئة، واضطر إبراهيم
...more
This highlight has been truncated due to consecutive passage length restrictions.
ففي إحدى الحالات تُرك سبعة جنود من آلاي البلطجية بلا طعام لمدة ثلاثة أيام. وحين ذهبوا إلى اليوزباشي الذي يرأسهم يشتكون أجبرهم على الرقاد على الأرض وضرب كل منهم أربع ضربات بالخيزرانة، فقرروا أن يعرضوا قضيتهم على المحكمة العسكرية التي أمرت بسجن الضابط المذكور عشرة أيام(667).
كانت كسوة الجيش أيضا من المهمات التي سببت مشاكل جمة للسلطات وهي تحاول إيصالها للجنود تنفيذًا لتعليمات الباشا. كان محمد علي قد قرر، منذ الأيام الأولى للجيش الحديث، أن يرتدي جنوده كسوة موحدة وأن يُكسى ضباطه ببذلات رفيعة، بل وفاخرة، مثل الجيوش الحديثة في أوربا(668). وفي البداية اختير قماش البفتة الرفيع، ثم استُبدل به الجوخ عندما تبين أن البفتة لن تتحمل تدريبات الجنود الشاقة(669)، وأرسلت الأوامر للحكام ليجمعوا مثل هذه الأقمشة من الفلاحين(670)، وتمت دعوة حِرفي أجنبي ليُدخل صناعة الجوخ في البلاد، كما تقرر تسجيل كل الأغنام في البلاد لضمان إمداده بالصوف بانتظام(671)، وفي نهاية المطاف احتكر الباشا هذه
...more
كذلك كانت فاوريقات الملابس تنتج أحيانا كساوٍ معيبة، وقد اشتكى إبراهيم باشا مرارا لأدهم بك، مفتش الذخيرة، من نوعية الكساوى المقدَّمة للجيش وقال له إن «شئون الجهادية يجب ألا تقارَن بغيرها»(683). وكان إبراهيم يشكو أيضا من نوعية البيادات(684).. وفي أحد المرات تم إرسال ١٠ آلاف زوج من البيادات المصنوعة في مصر إلى الجيش في سوريا، ليتبين هناك أنها جميعا من الصغر بحيث تناسب بالكاد أقدام الأطفال!(685).
والأكثر من ذلك أنه برغم الأوامر المتكررة بعدم إرسال وحدات الجيش بغير معدات كانت الآلايات تؤمر غالبا بالتحرك إلى مواقعها بغير أن تكون «أي من معداتها جاهزة». ففي ذات يوم رحيل الجيش إلى سوريا كان الآلاي العاشر مشاة ما زال بغير كساوٍ، ولم تكن «أي من معدات الآلاي الثاني عشر مشاة قد وصلت»(691)
فكتب إبراهيم باشا إلى ناظر الجهادية قائلا إنه بينما تقع المسئولية الرئيسة عن ذلك على الميرلوا والميرالاي وكبار الضباط الآخرين في الآلاي، فإنه هو أيضا ليس برئيا كلية.. وقال له، مستبقا إجابة الناظر المتوقعة، بأنه إن لم يكن بمقدوره أن يأمر بتسليم هذه الأغراض العسكرية بغير إيصال [بالتركية: رجعه] فإنه كان يجب عليه أن يزوَّر إيصالا ويرسله لنفسه، «وبذلك تحافظ على دفاترك نظيفة».. وأضاف أن مثل هذه المعاذير البيروقراطية السخيفة لا يجب أن تعرقل تنفيذ الأوامر المهمة(693).
ولكن الموظفين المسئولين سيظلون مترددين في العمل بغير وثائق خوفا من الاتهام بالفساد(696).
وفي النهاية صُرف نظيف أفندي من الخدمة(702)، وأعيد إلى مصر(703).
إن النقطة التي يجب أن تُستخلص من فحص هذه السيرورة التي تبدو بلا نهاية من استعارات «الرجال العظماء» للنماذج العسكرية، هي أنه لا يوجد شيء خاص يميز «أميرا شرقيا» يستعير من «الغرب». فعملية التبسيط والتجريد وإضفاء المثالية على وضع الجيش الذي يؤخذ كمثال يُحتذى به تمتد إلى جميع مستويات سيرورة «الاستعارة» بصرف النظر عمن يقوم بها. ففي كل مراحل الاستعارة سوف تجد الاعتقاد بأن النموذج كان قد طُبق حقا وفعلا بطريقة أصلية محكمة في زمن أسبق، وأن المطلوب هو إعادة خلق هذا الماضي وكذلك تكييف النموذج ليتماشى مع الواقع الجديد.
وعلى ذلك فإن الحجة التي يجرى إثباتها هنا بشأن الاعتماد على المخططات والبرامج الرسمية وحدها في اكتشاف وإبراز منطق أشكال السلطة الجديدة (كما يقول ميشيل فوكو)، هي أن هذه المصادر مجبرة على تقديم صورة بالغة الواحدية للسلطة، تبهرنا بمنطقها وتماسكها. لقد حاول هذا الفصل أن ينزع القناع عن هذا المظهر الزائف للسلطة ليرى ما كانت عليه بالفعل: إنها تقدم مظهرا مبهرا.. نعم، ولكنه مع ذلك مجرد مظهر.. بل ومظهر مليء بالشروخ فوق ذلك. وعلى ذلك فإن الاعتماد على هذه المصادر وحدها يبالغ كثيرا في تماسك أشكال السلطة الجديدة هذه. ولا يرجع هذا فحسب إلى أنه من المحتم أن يوجد اختلاف ملحوظ بين الخطة وتنفيذها، ولكن أيضا إلى
...more
والحال أنه هذا التصرف ربما كان يعكس ازدواجا في مشاعر الكتاب العاملين في خدمة محمد علي عموما والعاملين في الجيش خصوصا عند الإشارة إلى الهزائم التي وقعت للجيش العثماني، جيش «حامي العقيدة»، و«خادم الحرمين الشريفين»، وهي ألقاب السلطان العثماني المعروفة.
وباختصار فإن المسألة المطروحة هنا هي أن الطريقة المبهرة التي تبدو بها نصوص معينة ليست أمرا بالغ الأهمية، فالنصوص مع ذلك لا تكتب نفسها: إنها انعكاس للمصالح المخولة لمجموعة بعينها من الناس الذين يحاولون أن يخفوا مصالحهم خلف فكرة ما عن الحقيقة العامة أو الكتابة المجردة، ويغلفوها في لغة متماسكة مبهرة ما.
أحال إبراهيم باشا الالتماس إلى إبراهيم يكن، أما إبراهيم يكن فـ «لم يرد»(713).
غير أن صعوبة كتابة تاريخ الرجال الذين فقدوا حياتهم في حملات الباشا، وتاريخ حياة زملائهم الذين عاشوا من بعدهم، لا ترجع فقط إلى عدم وجود شواهد قبور مقامة في حدائق جميلة. ذلك أن الفلاحين المصريين الذين شكلوا الغالبية الساحقة من قوة محمد علي المقاتلة، وقدموا بالقطع غالبية الخسائر البشرية، كانوا أميين، ولم يتركوا لنا أية شهادات مكتوبة عن معنى القتال في جيوش الباشا عندهم؛ فلم يكن من بينهم أمثال جريفز Graves أو أوين Owen أو رمارك Remarque أو ساسون Sassoon (720) ليتكلموا بلسانهم ويطلعونا على مشاعرهم في مواجهة الأهوال والمخاوف، وفي التعامل مع القلق والأكوام الدامية في ساحات الوغى، «حيث يبدو الحال وكأن
...more
القسر هو الشيء الوحيد الذي جعلهم يواصلون القتال؟ وإذا كان القسر يفسر كيفية إرسالهم لساحات الوغى، فهل يمكن أن يكون أيضا تفسيرا مناسبا للنجاح الذي حققوه حين بدأ القتال الفعلي؟ والمهمة، يجب أن أعترف، ليست سهلة، ليس فقط بسبب ندرة المصادر التي تصف مشاعر الجنود وانفعالاتهم خلال هذه الأوقات العصيبة، وإنما أيضا لأن السؤال عموما من الأسئلة التي يصعب تناولها بشأن أية معركة وأي جيش. فحين يواجه الجنود الاقتراب الشديد للموت، حين تكون جميع الحواس مشدودة، حرفيا، إلى الحد الأقصى، وحين يغلب أن تعني طاعة الأوامر أن يجروا «أقدامهم المتقرحة على ممرات مرصوفة بإخوتهم»(722)، ما الذي يحملهم على أن يطيعوا الأوامر
...more
وربما كانت هذه القوات مجرد قوات احتياطية أبقاها إبراهيم هناك لحين احتياجه إليها، غير أنه بالنظر إلى الدور التقليدي الذي لعبه العربان في جيش محمد علي يبدو القول بأنها قد وُضعت هناك للقبض على أي هارب من الجانب المصري افتراضا لا يقل معقولية. فحين كانت المعركة الواقعية تبدأ كان الكثير من الجنود يشعرون بأنهم قد وقعوا بين فكي كماشة، ليس فقط بين حراسهم الدائمي اليقظة من خلفهم والعدو من أمامهم، ولكن أيضا بين الحافز القوي لإطلاق سيقانهم للريح والهرب من الجيش كلية، وهو حافز لم يتم أبدا وأده والقضاء عليه، والالتزام بطاعة الأوامر و«الاشتباك مع العدو» بشجاعة و«رجولة». فإذا لم يكن المرء يعتنق بغير حس نقدي
...more
وقد توصل و.هـ. ر. ريفرز W.H. R. Rivers، عالم الأنثروبولوجيا الشهير والطبيب النفسي الذي عالج حالات كثيرة من «صدمة القذائف» خلال الحرب، إلى أن «كمية الأعراض العصابية لا ترتبط بشدة المعركة ولا بطول خدمة الفرد أو مزاجه العاطفي، ولكن بمدى مكوثه في نفس المكان»(727) وإحساسه بأنه محاصر.
وقد حدث ذلك في الحرب السورية خلال الحصار الممتد لعكا (من بدايات ديسمبر ١٨٣١ إلى نهايات مايو من العام التالي)، حيث كان الآلاف من جنود القوات المصرية يشعرون بالخطر وهم يجلسون بلا حراك، وفقا لمقتضى الحال، في الخنادق التي كانت الهندسة العسكرية تحفرها لتقترب من أسوار القلعة، حيث كانوا بمثابة أهداف ثابتة للقذائف التي كانت تطلق من المدينة الصامدة. فهنا بدأت تظهر على الرجال أعراض لا يمكن إلا أن تكون «صدمة القذائف»، شبيهة بتجارب الجنود البريطانيين الذين عانوا منها بعد ذلك بثمانين عاما.
ففي إحدى الحوادث خلال الحصار قتلت القذائف المنطلقة من القلعة أحد الجنود، فأصاب الذعر زملاءه حين رأوا جثته، وتركوا ساحة القتال كلية واستداروا عائدين إلى الخنادق حيث الأمان النسبي، كما فر اليوزباشي الذي كان يقودهم من موقعه وعاد لا يلوي عن شيء إلى معسكر الجيش ليخبر قائده بالحادث. وعندما حوكم هؤلاء الرجال محاكمة عسكرية بعد أربعة أيام، قيل لليوزباشي إن الأعذار التي قدمها لفراره من موقعه غير مقبولة، لأنه ليس من المعقول أن يذهب ليُخبر قائده بكل جندي يموت. كذلك قيل للجنود إن سلوكهم كان يتسم بانعدام الرجولة والجبن، كما أنه ينتهك القانون الذي ينص على أنه «إذا مات أحد الجنود يجب أن تُخفى جثته عن زملائه
...more
This highlight has been truncated due to consecutive passage length restrictions.
فالكثير من الرجال، القلقين على عائلاتهم التي تركوها خلفهم وعلى أطيانهم التي كانت إنتاجيتها قد تأثرت بالتأكيد، كان مؤلما لهم إلى أقصى حد أن يجبَروا بالقوة على ترك قراهم لغايات وأهداف غامضة تماما بالنسبة لهم ولمدة غير معروفة. ولم يكن من غير الشائع عند عودتهم في نهاية المطاف إلى قراهم «أن يجدوا زوجاتهم وبناتهم، اللاتي، ربما، يحبونهن ويعزونهن قد ضعن بلا أمل في استعادتهن، وبهذه الطريقة تحطمت أسر كثيرة تحطيما تاما»(730)
الاشتياق إلى الوطن مرض يصيب في الغالب العساكر الجديدة بسبب مفارقة أوطانهم وعيالهم والاشياء المألوفة عندهم وذلك ما يوقعهم في غم شديد وسقم وذبول ونهوكه وأحيانا في الموت فينبغي تسليتهم حسب الإمكان بالوعد بالرجوع إلى الوطن قريبا ووضعهم مع أهالي بلادهم وبتلطيف الأشغال والخدمة المطلوبة منهم. والتأثرات المغمة تضر بالصحة وتسبب تهيجات معدية فلذا ينبغي حسب الإمكان أن تبقى العساكر في حالة سارة ويؤمر ضباطهم بأن يلينوا لهم القول ويعدوهم بأشيا مفرحة لهم ويهونوا عليهم الأخطار التي هم معرضون لها ولا بأس بتفريحهم باللعب والطرب(735).
وربما يوضح مثل من معركة قونية هذا الأمر: فخلال هجوم مضاد صغير من جانب العثمانيين فقد المصريون النظام تماما وتملك الارتباك لواء الفرسان الأول بأكمله. وها هي شهادة صاغ من هذا اللواء: حين بدأ آلاي الحرس في الاشتباك مع العدو أمر كل من ميرالاينا وبكباشينا بتشكيل طابور. ولكنني لم أسمع الميرلوا وهو يأمر بذلك. ولكن قبل أن نتخذ التشكيل الجديد أمر كل من الميرلوا والميرالاي بالهجوم فهجمنا، ولكن جناحنا الأيسر بدأ في التراجع واختلط اللواء كله ببعضه البعض بلا نظام. وجُرح حامل الراية وكان الضباط يجبرون الجنود على العودة بدفعهم بسيوفهم. وحينئذ جمعنا أورطاتنا وفصلناها عن بعضها البعض ونظمناها... ثم أعطى نافخو
...more
إذا كان الجيش المصري يستحق أن يوصف بالتفوق على عدوه العثماني، فإن ذلك يرجع إلى حالات كهذه، حين لا تكون الشجاعة أو الشرف أو الروح المعنوية العالية هي المعول عليها في إنقاذ الموقف، ولكن التدريب المستمر والمتكرر الذي أوحى للجنود بالتعرف على الموضع المألوف للراية أو الصوت المفهوم للبوق، الذي يعني بالنسبة لهم شيئا له معنى في وسط لغط الصيحات وضجيج المعركة. لقد كانت هذه الإشارات والرايات وصيحات الأوامر تبدو لهم في مثل هذه اللحظات العصيبة وكأنها توهمهم بوجود النظام. لم يكن للجنود في ساعات المعركة العصيبة خيار سوى طاعة الأوامر، ليس فقط لأن عدم الطاعة يجلب معه احتمال العقاب الحتمي، ولكن أيضا لأن تجاهلها
...more
النظرة الطبية الثاقبة إلى جانب التغذية والكسوة وتدريب القوات أولت السلطات انتباها ملحوظا لحالة الجنود الصحية، الجسمانية والعامة. ويبدو أن محمد علي قد أدرك أن الحصول على قوات عسكرية تتمتع بالصحة يتطلب العناية بالوضع الصحي العام للسكان ككل. فلم يقتصر اهتمامه بالشئون الطبية على القوات، وإنما تضمن «التلاميذ في المدارس والعمال في المصانع والجماعات المدينية والفلاحية المتصلة بالنشاطات الحكومية»(740). وكثيرا ما كانت تُروى عن الباشا قصص افتتاح الإسبتاليات وإرسال الطلبة إلى أوربا لدراسة الطب والأمر بتطعيم السكان ضد الجدري وتأسيس المحاجر الصحية حول المواني والمدن الرئيسية للسيطرة على انتشار الأمراض
...more
والأمثلة وفيرة على اهتمامات الباشا الصحية: ففي زمن مبكر يرجع إلى عام ١٨١٩ أمر الكتخدا (نائبه) بوضع برنامج للتطعيم ضد الجدري في البلد بأكملها(742). ولا شك أن الحافز على ذلك أن الجدري كان يقتطع من السكان ضريبة فادحة.. فيذكر كلوت بك أنه عند وصوله إلى مصر عام ١٨٢٥ كان الجدري «يخرِّب البلاد بوحشية، ففي كل عام كان يقتل ما لا يقل عن خمسين إلى ستين ألف طفل»(743)، الأمر الذي يعني أنه كان مسئولا بمفرده عن زيادة معدل وفيات الأطفال بمقدار ٤٠ أو ٥٠ في الألف، الأمر الذي أدى بدوره إلى رفع معدل الوفيات السنوي إلى ما يترواح بين ٣و ٤ في الألف(744). وفي عام ١٨٢٤ طلب الباشا من دروفيتي، القنصل الفرنسي العام، أن
...more
وكانت مصر في النصف الأول من القرن التاسع عشر تصاب، إلى جانب الجدري، بوباءين آخرين فتاكين، هما الكوليرا والطاعون، الأمر الذي دفع السلطات إلى اتخاذ إجراءات جدية للحد من أثرهما على السكان(750). ففي عام ١٨١٢ اقترح طبيب الباشا الإيطالي غيطاني بك (Gaetani) عليه أن يحد من دخول السفن الآتية من إسطنبول التي أصيبت في ذلك العام بوباء الطاعون(751). وفي العام التالي، بعد أن انتشر الطاعون في مختلف نواحي الدلتا، عبر الباشا عن رغبته في إقامة حجر صحي (كورنتينا) في الإسكندرية، يحجز المسافرين والبحارة الذين يصلون من مناطق مصابة بالطاعون، على أساس أنه من المحتمل أن يكون المرض قد أصابها أولا (752). وفي عام ١٨٢٨
...more
حين شرع الباشا في إقامة جيشه النظامي الجديد لم يكن بمقدوره أن يتحمل خسارة الرجال بهذه التكلفة العالية. وفي هذا الصدد أثبت الدكتور كلوت بك أنه الأكثر فائدة للباشا. كان أحد الإنجازات المبكرة لكلوت بك(759) بناء مستشفيين عسكريين دائمين، إحداهما للجيش والآخر للأسطول، بالقرب من مناطق التركز الكبرى للقوات. ففي ١٨٢٧ بُنيت إسبتالية أبو زعبل العسكرية بالقرب من معسكر تدريب جهاد أباد في الخانكة شمال القاهرة (760)، وأقيمت إسبتالية المحمودية في الإسكندرية لتخدم ٢٦ ألف جندي و١١ ألف معتقل يعملون في الليمان سيئ السمعة(761).
وقد تمتع هذان المستشفيان بسمعة جيدة مؤداها أنهما مؤسستان طبيتان مبهرتان تتفقان «مع نمط مراكز التعليم الملحقة بمستشفى التي أصبحت المعيار السائد في فرنسا وإنجلترا بحلول الثلاثينيات [من القرن التاسع عشر]»(762). كذلك كانت إسبتالية «أبو زعبل» (التي ستُعرف فيما بعد باسم مقرها الجديد، قصر العيني) مدرسة طبية، بالإضافة لدورها كمستشفى عسكري. وكان الطلبة، وأغلبهم من المصريين المتحدثين بالعربية، يعيَّنون بعد تخرجهم أطباء عسكريين ويُلحقون بمختلف آلايات المشاة والفرسان، فشكلوا نواة سلاح الطب العسكري. وكان كلوت بك قد وضع عشية الحملة السورية مخطط تشكيل هذا السلاح، ووافق عليه الباشا بعد استشارة كبير أطبائه،
...more
ويبدو أن هناك مشكلتين بعينهما أثرتا على أداء هذه المدرسة، أولاهما تتعلق باللغة المستخدمة كوسيط للتلقين، والثانية بالزمن الذي يقضيه الطالب في المدرسة قبل التخرج. فبينما لجأ الباشا وكلوت بك، كبير أطباء جيشه، إلى خيار منطقي يتمثل في تجنيد المتخرجين من الأزهر لأنهم يشكلون الفئة الوحيدة من الرجال غير الأميين في البلاد، فإن هؤلاء لم يكونوا بالقطع من الملمين بالفرنسية ولا بأية لغة أجنبية أخرى. ومن جهة أخرى كان معظم الأطباء الذين عُينوا للتدريس في المدرسة لا علم لهم باللغة العربية. وللتغلب على هذه العقبة تم تخصيص عدد من المترجمين لكل محاضر وطُلب منهم أن يترجموا المحاضرة أثناء إلقائها: كان موقفا في
...more
فمثلا حين لفت كلوت بك انتباهه إلى أن طلبة مدرسة الطب قد صُرفت لهم كساوى لا تناسب أحجامهم أجاب بطريقته المميزة بأن «على قد لحافك مد رجليك»(785). وهناك مثل آخر على هذا البخل بشأن أمر قد يبدو تافها، ولكنه مركزي في أداء المؤسسة الطبية، دارت بشأنه مراسلات ضخمة، وهو نوعية «النسالة»؛ وهي الأربطة الجراحية المستخدمة في تضميد الجروح. فبرغم حصول الأطباء على كتاب خاص عن الموضوع مترجم ومطبوع في مطبعة بولاق (786)، فإنهم كانوا يشكون باستمرار من الأربطة التي تُصرف لهم(787). وكتب كلوت بك في أحد خطاباته يشكو، بيأس بالغ، من نوعية الأربطة في مستشفى قصر العيني: بما أن النسالة المستعملة في الجراحة من أهم الأمور في
...more
أحوال إسبتاليتي طرة وقصر العيني في القاهرة، فتبين، ضمن أشياء أخرى، أن كلاهما يصرفان لمرضاهما لحما أقل بما نصت عليه اللوائح، وحين أرسل التقرير لمحمد علي حوَّله إلى ديوان الجهادية ليتخذ الخطوات الضرورية لتخفيف هذه المشكلة، غير أن وكيل ناظر الجهادية أعاد التقرير إلى الباشا مدعيا أن ذلك ليس من شأن ديوان الجهادية وإنما شأن مشورة الطب، فرفض الباشا الحجة وأصر على أن يتولى ديوان الجهادية نظر هذه الشكاوى(790). وبعد ذلك بعامين، حين رأى الباشا بنفسه حالة مستشفيات القاهرة المقززة، كتب إلى كلوت بك وإلى وكيل ناظر الجهادية يحثهما على تنسيق جهودهما لتحسين أحوال المستشفيات(791).
ومع ذلك، كان كلوت بك بعد ثماني سنوات ما زال يكتب إلى ديوان الجهادية شاكيا من نوعية الغذاء في مستشفى قصر العيني. فكتب في تقرير مطول أن: مأكولات الضباط كانت بخلاف مأكولات العساكر والآن بعكس زلك [ذلك] لأن مأكولات الضباط والعساكر على حد سواء وهذ الأرز واللحم المسلوق والمشوي والخبز الذي أغلب الأوقات غير جيد... ومأكولات المرضى بمقتضى الأصول الطبية لا يناسب أنها دايما تكون أرزا ولحما بل في بعض الأحيان يأمر لهم بالزجاج [الدجاج] والحمام والبيض واللبن والسمك والخضار والفواكه وما يماثل زلك [ذلك] بحسب رأي الحكما وهو شيء مندرج في قانون الإسبتاليات الذي ترجم تركيا وصدرت عليه الإرادة الخديوية بالاجر عليموجبه
...more
وفي ضوء مشكلة الافتقار للاعتمادات المالية لن يكون من المثير للدهشة أن نكتشف أن مستشفيات القاهرة، ناهيك عن مستشفيات الآلايات، لم تكن تتوافر فيها الاشتراطات الصحية العامة. وقد وجد سليم بك، أميرالاي آلاي الحرس، أثناء جولة تفتيشية لثكنات آلايه في سوريا، أن المكان في منتهى النتانة(794)، واكتشف أن ذلك يرجع إلى عدم تخصيص أي فرد لتنظيف الحمامات. كما وجد أن الغرف المخصصة لإقامة الجرحى كريهة الرائحة لأن شاغليها ظلوا يرتدون ملابسهم الملوثة بالدماء. وحين زار المستشفى وجد أكثر من مائتي مريض بالجرب ينامون على الأرض لأن فرشاتهم لم تُحش بالق...
This highlight has been truncated due to consecutive passage length restrictions.
عن العساكر الموجودين بيافا [الآلاي ٣١]... المركوب [الأحذية] قد فات ميعادهم شهرين فوجدنا بعض العساكر حافيين... والطربوش بتاعهم قديم وميعاده فات ثلاثة شهور، ومن خصوص السيور البندق والجربندية والبعض من سيور الكفوف وسخ من حين طلعوا من المحروسة لم مساحوهم... عن أحوال العساكر المقيمين بالإسبتالية:... لا أحد بينظر عليهم بالليل والنهار ولا حد ضابط [ليشرف عليهم]... العساكر المقيمين بحيفا:... وجدنا حالهم [أجسامهم] وسلاحهم وسيور كفوفهم وحوائجهم وسخة لم نظيفة وماشيين من غير ترتيب على كيفهم.. عن العساكر العيانين بالإسبتالية: أنه قد اطلعنا عليهم فوجدنا أن المذكورين البعض منهم نايمين على الأرض من غير حصير
...more
تكررت هذه المقاومة التي أبداها الجنود للفحوص الطبية المنتظمة من جانب المدنيين في المجتمع ككل بشأن التطعيم، فالتطعيم الذي قد يبدو لنا سياسة تهدف إلى مصلحتهم ورفاهتهم اعتبره الفلاحون وأهل المدن، على السواء، طريقة أخرى لتمييز أطفالهم [الذكور] بعلامات بغرض تجنيدهم(813)
فإنه من المشكوك فيه أيضا، في ضوء ما رأيناه من قذارة مستشفيات الميدان وافتقارها للشروط الصحية، أن ثكنات الجنود، ناهيك عن مساكن زوجاتهن، كانت تتمتع بما أراده لها كلوت بك من شروط صحية وبناء سليم. ولكن حتى إذا كانت كذلك، تظل هناك مشكلة أخرى مهمة، وهي تحديد اللقاءات التي كانت تتم خلسة ولكن بانتظام، ليس بالزوجات، ولكن بالمومسات. وهناك بعض الدلائل التي تشير إلى أن الدعارة كانت مزدهرة للغاية في المدن الكبيرة في مصر وسوريا خلال النصف الأول من القرن التاسع عشر. ولم يكن ذلك بسبب أي انتشار مفاجئ للرذيلة، على نحو ما تمثلها شخصية مثل العالمة كوتشوك هانم(829) أو تختها، أو بسبب زيادة مفاجئة في عدد
...more
This highlight has been truncated due to consecutive passage length restrictions.
يتناول الفصل التالي هذا السؤال، وهو تحديدا إمكانية أن يكون الجنود قد اعتبروا هذا الجيش جيشا وطنيا يحارب في سبيل وطنهم هم.
كان إبراهيم باشا، بوصفه ابن محمد علي والقائد العام لجيشه، محل الكثير من التخمينات والإشاعات وخاصة في شأن مشاعره تجاه الترك والدولة العثمانية. فقيل إنه على خلاف أبيه لم يكن يعتبر نفسه تركيا أو عثمانيا؛ وإنما «كان يعتبر نفسه عربيا، وكان يتكلم العربية ويحترم العرب، بينما كان يحتقر العثمانيين والأتراك»(873). وكثيرا ما كان يقول إن ضباطه الأتراك لا يصلحون لأي شيء، «يدخنون طول اليوم ويريدون من يغسل لهم أيديهم»(874). وحين سمعه أحد جنوده أولاد العرب [أي المصريين] وهو يعبر عن آراء كهذه، سأله: كيف يمكنه أن يقول ذلك في حين أنه هو نفسه تركي، فأجاب: «أنا لست تركيا، فقد أتيت مصر وأنا بعد في طور الطفولة، ومنذ
...more
وقد دفعت هذه العواطف التي كان إبراهيم باشا يفصح عنها كثيرا لأبيه بعض المؤرخين للقول بأن إبراهيم هو الذي «يستحق بالتأكيد مكان الشرف في تاريخ الوطنية في الشرق العربي»(879)، أكثر من أبيه.
قال إن لديهم كمية كبيرة من الذخيرة [يكتب إبراهيم لأبيه عن المفاوضات الفاشلة]. فأجبته قائلا: «إننا نتكلم عن الصداقة، فلم الإشارة إلى الذخيرة؟ ومع ذلك فبالنسبة للذخيرة، هل تظن أننا نهتم بالكمية التي لديكم منها حين نتلقى من القاهرة ١٢٠٠ حمولة سفينة من الذخيرة سنويا؟ إن قضيتك تشبه شخصا لديه الكثير من الطعام حين يظهر رجل آخر لديه قبضة حديدية وينتزع كل ما لديه من طعام».
ثم قال له إنهم برغم قدرتهم على الصمود أمام حصار نابليون قبل ثلاثين عاما، لن تكون لديهم أية فرصة للنجاح هذه المرة، لأن استعداداته أفضل بكثير مما توافر لنابليون وجيشه. وأضاف أنه إذا أطلق عليهم ٢٠٠ ألف قذيفة «سعر كل منها ثلاثة قروش، يكون المجموع ١٢٠٠ كيس، وهو مبلغ تافه بالنسبة لمحمد علي باشا»(884).
وكان هذا التوتر يرجع أساسا إلى أن الضباط لم يكونوا في الواقع يقابلون جهود رجالهم بالتقدير ولا يتعاملون معهم باحترام. فذات مرة طلب أحد اليوزباشية، ويسمى درويش أغا، من جندي (هو خادمه، كما يطلق عليه) أن يجلب له زجاجة ماء، فلما جلب له الجندي زجاجة فارغة صرخ في وجهه لاعنا دينه وضربه على قفاه. وحين حوكم قال متحديا: «إذا كنتم تريدون أن تعاقبوني على إهانتي لفلاح يساوي خمسة عشرة قرشا فافعلوا. فالفلاح عندي لا يساوي أكثر من ذلك»(905). وحين أرسل أحد الآلايات إلى دمياط وأدى استعراضا عبر شوارع المدينة لعن أحد الموظفين الأتراك على الملأ اليوم الذي أصبح فيه «الفلاحون العمي» عساكر. وأضاف أنهم لن يكونوا أبدا
...more
غير أنه تبين أنه من الصعب إجبار الضباط على معاملة جنودهم باحترام برغم هذا التحذير الواضح الصارم، ولم تتوقف الشكاوى من مثل هذه المعاملة السيئة(909). فحتى إذا آمن المرء بأن عواطف إبراهيم كانت منحازة إلى الجنود المتحدثين بالعربية فإن مشكلاته مع ضباطه التي سلطنا عليها الضوء في الفصل الرابع كانت متأصلة في الجيش وكانت من الضخامة بحيث لا يمكن أن تحلها طيبة قلبه هذه، ولا أفكاره الليبرالية المزعومة. وبعبارة أخرى فإن إبراهيم كان يعرف في لحظة الاختيار الحرجة أين تقع مصالحه الحقيقية: مع أبيه والنخبة المملوكية ـ التركية التي شُكل منها قلب هيئة الضباط.

