More on this book
Kindle Notes & Highlights
by
خالد فهمي
Read between
July 4 - September 26, 2022
فالأمر كما قال جون كامبل John Campbell، القنصل البريطاني العام في مصر عام ١٨٣٨: «إنه لا يستطيع.. أن يقبل مطلقا بعودة كل المؤسسات [التي أقامها في مصر على مدى ثلاثين عاما] إلى الباب العالي وضياعها بعد وفاته، ولاشك أنه يؤلمه الشعور بأن كل جهوده ستئول إلى الباب العالي الذي سيدعها للخراب، بينما ستتعرض أسرته وأطفاله للحاجة وربما حتى للقتل»(1056). تلك هي الأسباب التي طرحها الباشا على الحكومة البريطانية لطلب الحصول على الاستقلال عن الدولة العثمانية. ولن نجد هنا ولا في أية وثيقة أخرى معاصرة ما يبين أنه كان عرضة لأية أوهام بشأن طبيعة صراعه مع السلطان. لقد كان هذا الصراع أسريا، وفهمه هو ومعاصروه على هذا
...more
وبناء على ذلك يستحيل أن نعتبر الحروب التي خاضها الباشا، وخصوصا الحروب التي شنها على السلطان العثماني، حروبا للاستقلال القومي، تهدف إلى تحرير المصريين من «النير التركي»، ولا نستطيع أن نقارنها بحروب اليونانيين مع السلطان. فالأمر لا يقتصر على أن آلاف الفلاحين الذين شكلوا الكتلة الأساسية لقواته المقاتلة كان عسيرا عليهم أن يصدقوا مثل هذا الادعاء، فالباشا ذاته لم يكن بمقدوره أن يفكر في هذه الحروب إلا وفقا لمبادئ أسرية، وقد صرح مرارا بأن ما يسعى إليه هو إحباط المؤامرات المضادة «لأسرتنا»(1057)، ولم يكن يأمل فيما هو أكثر من «تدعيم أسس أسرتي الحاكمة»(1058)، و«نحت مكانًا لأسرتي وسلالتي الحاكمة في
...more
إذا نظرنا لمحمد علي كحاكم لولاية عثمانية مهتم بشكل دائم بوضعه داخل الدولة العثمانية، ينصب قلقه على مستقبل أسرته بعد وفاته، وهو ما يشكل رؤيته هو بالتأكيد، لن يكون الخصم اللدود للباشا هو السلطان محمود، الذي قضى حياته بأكملها يقاتله، ولا حتى اللورد بالمرستون Lord Palmerston، وزير الخارجية البريطاني (الذي سنعود إليه بعد قليل)، وإنما محمد خسرو باشا، عدوه القديم الذي التقى به لأول مرة عام ١٨٠١، والذي عُين منذ ذلك الحين واليا على ولايات مختلفة في الأناضول والروم ايلي، وقائدًا عامًا للأسطول العثماني، وأصبح في نهاية المطاف الصدر الأعظم أكثر من مرة في تاريخ خدمته العامة الطويل. والواقع أن سيرة حياة
...more
This highlight has been truncated due to consecutive passage length restrictions.
بدأت قصة هذين الرجلين معا في عام ١٨٠١، حين التحق كل منهما على حدة بقوة الأسطول العثماني التي أرسلها السلطان إلى مصر لتساعد القوات البريطانية على إجلاء جيش الشرق البونابرتي عن هذه الولاية الغنية (1061).
ولما كان خسرو نفسه محسوبا من محاسيب القائد العام للأسطول فقد عينه ملازما له وأشركه في حملته إلى مصر(1063). أما محمد علي فقد عُين نائبا لقائد قوة مكونة من ٣٠٠ مقاتل من أصل ألباني يرأسها طاهر باشا(1064)
وبعد نجاح البريطانيين في إخراج الفرنسيين من مصر كان من الطبيعي بالنسبة لإسطنبول أن تعين أعلى الموظفين العثمانيين في الحملة مرتبة واليا على مصر، اعترافا بجهوده في التعاون مع البريطانيين في أنشطتهم العسكرية.
ولما كان الصدر الأعظم والقائد العام للأسطول قد رحلا إلى إسطنبول قبل ذلك، أصبح خسرو المفضل لدى السلطان، فعينه على الفور واليا على مصر. بذلك وجد خسرو نفسه يحكم ولاية غنية باسم السلطان وبدأ يجرب أفكاره عن الإصلاح العسكري. ولكن لم يتح له الوقت الكافي لذلك، ففور التصديق على تعيينه واليا تمردت القوات الألبانية بقيادة طاهر وأجبرته على الفرار بجلده إلى دمياط. وعندئذ اغتيل طاهر ذاته، بأيدي بعض رجال محمد علي فيما يبدو، وسرعان ما استدار محمد علي نحو خسرو وأسره، وفي نهاية المطاف أجبره على الإبحار من مصر. بعد عامين تم التصديق على تعيين محمد علي ذاته واليا على هذه الولاية الممتازة. وعلى ذلك نجح محمد علي
...more
This highlight has been truncated due to consecutive passage length restrictions.
بعد ذلك بقليل، وفور تشكيل محمود للجيش النظامي الجديد، المسمى العساكر المنصورة المحمدية،
يجب أن نتذكر أن هدنة كوتاهية لم تكن تسوية دائمة، فقد كانت مجرد اتفاق لم يوقعه أيا من السلطان أو الوالي، وكان فوق ذلك يجدد سنويا، الأمر الذي جعل محمد علي يشعر بأنه لم يضمن بعد لأسرته المستقبل الآمن الذي كان يكافح من أجله. يضاف إلى ذلك أن محمد علي كان عليه أن يدفع جزية سنوية لإسطنبول، كان مقدارها من أكثر القضايا إثارة للخلافات بين عامي ١٨٣٣ و١٨٣٩. فقد كان السلطان يدعي أن له حقا في متأخرات هائلة، ورفض الباشا أن يدفعها.
غير أن خسرو لم يُطرد، بل كان على العكس عنيدا، فطلب بدوره من خصمه أن يتخلى عن كل أملاكه مكتفيا بباشوية مصر وحدها. وحين تسلم محمد علي «عروض السلام» هذه كتب إلى عدوه القديم يسأله ساخرا عما يمكن أن يُجبره على قبول هذه الشروط بينما رفض من قبل شروطا أفضل عرضها محمود، وكرر مرة أخرى مطالبته لخسرو بالاستقالة، وقال له إنه إذا كان قلقا بشأن أمور معيشته بعد التقاعد فإنه، أي محمد علي، يعده بأن يوفر له كل مصروفاته ومصروفات أهل بيته وأتباعه مهما كان قدرها. بل ودعاه إلى التقاعد معه في الحجاز حيث بنى لنفسه مقرين، أحدهما شتوي في مكة والآخر صيفي في الطائف،
لم يكن عناد خسرو هو الذي حال دون حل هذه المنافسة الممتدة مدى الحياة بينهما بهذه الطريقة السعيدة الهانئة، فلم يكن بمقدور خسرو، مهما كان كرهه لمحمد علي، أن يقاوم هذا الضغط الرهيب. وإنما كان الحائل هو موقف أوربا الموحد الذي اتفقت عليه للمرة الأولى بشأن الصراع بين السلطان ووالي مصر. ففي الخامسة من ذات الصباح الذي كان خسرو سيجيب فيه على مطالب محمد علي (٢٧ يوليو ١٨٣٩) سلم ممثلو القوى الأوربية الخمس (بريطانيا العظمى وفرنسا وبروسيا والنمسا والروسيا) للصدر الأعظم مذكرة مشتركة تطلب من الباب العالي «أن يوقف أي قرار نهائي (بشأن المسألة الشرقية) يُتخذ بدون اتفاق معهم»(1075). لقد منحت هذه المذكرة خسرو فرصة
...more
وجد أوربا الموحدة تعضده، الأمر الذي حرم محمد علي من المساعدة الفرنسية التي كان يعول عليها، لم يكتف برفض مطالبة الوالي له بالاستقالة، وإنما كرر طلبه منه بإعادة الأراضي التي احتلها وإعادة الأسطول العثماني الذي هرب إلى الإسكندرية. وفي النهاية أجبر محمد علي على الانصياع لهذه الشروط، بسبب الضغط البريطاني أساسا. ومع ذلك أبدى محمد علي مقاومة قوية يائسة قبل أن يخضع(1076). في ٧ أغسطس ١٨٣٩ أرسل السلطان الصغير رسالة واضحة شديدة اللهجة إلى القاهرة، مع منيب أفندي، مندوب محمد علي الجديد في إسطنبول، قال فيها إن الأمور الآن ليست في يده أو في يد خسرو وإنما سيقررها السفراء الأوربيون في إسطنبول(1077). وبعد عشرة
...more
This highlight has been truncated due to consecutive passage length restrictions.
وردا على موقف الباشا المتصلب عقد بالمرستون مؤتمرا في لندن في يوليو ١٨٤٠، سُمي «مؤتمر تهدئة الليفانت [شرق المتوسط]»، دُعيت إليه كل القوى الأوربية الكبرى (ولكن فرنسا رفضت هذه المرة أن تشارك في التفاهم الأوربي)، وأسفر عن تقديم إنذار نهائي للباشا بالانسحاب من سوريا وأضنة وكريت والحجاز(1081). وحين رفض الانصياع نزلت قوة بريطانية بحرية في بيروت في سبتمبر وأجبرت إبراهيم على الانسحاب إلى مصر. ولم يعد أمام الباشا بحلول ديسمبر من خيار سوى قبول الشروط التي وضعتها القوى الأوربية بقيادة بريطانيا. وفي النهاية أصدر السلطان فرمانا في أول يونيه ١٨٤١ يعين محمد علي واليا على مصر مدى الحياة ويمنح سلالته من الذكور
...more
هذا النص الأخير كان أهم النصوص جميعا لأنه كان يشير بوضوح إلى معاهدة بالطة ليمان التجارية التي تم توقيعها عام ١٨٣٨ بين الباب العالي والإمبراطورية البريطانية، والتي ثبتت التعريفات الجمركية للدولة العثمانية على التصدير والاستيراد، كما خفضت نسب الجمارك الداخلية بشدة، والأهم من ذلك كله أنها حظــرت الاحتــكارات فـي كـل ولايــات الـدولة العثمانية (1083). وقد قيل إن بريطانيــا، وقـد حــرمت الباشا من جيشه الذي كان يشكل منفذا مهما لسلعه المنتجة في الداخل، وأجبرته على الانسحاب من سوريا وكريت والحجاز، وأكرهته على إلغاء الاحتكارات الداخلية، نجحت في تخريب مؤسسات محمد علي التجارية والصناعية، وأجهضت بذلك أحد
...more
غالبا ما يتم التأكيد على أن سبب معارضة بريطانيا لمحمد علي هو أن سياسة «التصنيع» التي بدأها في مصر هددت مصالح بريطانيا الاقتصادية في المنطقة. وقد اعتُبر الباشا خطرا على بريطانيا وعلى مصالحها الاقتصادية لأنه حاول أن ينتج المزيد والمزيد من السلع محليا، وكان يمتلك «صناعة نسيج نامية، وسيطر [باحتكاره للتجارة] على الأسواق المحتملة التي كانت بريطانيا تطمع فيها»(1086). فلما أدركت بريطانيا أن سياسات الباشا ستضر بمصالحها الاقتصادية صممت على إجهاضها، وأتيحت لها الفرصة حين وافق الباب العالي عام ١٨٣٨ على توقيع معاهدة بالطة ليمان التي تحظر الاحتكارات في طول الدولة وعرضها، والتي كانت تهدف بصفة خاصة إلى مواجهة
...more
This highlight has been truncated due to consecutive passage length restrictions.
غير أن ذلك التفسير تجانبه الحقيقة ويقدم قراءة غير دقيقة للمصالح البريطانية في الشرق الأوسط في منتصف القرن التاسع عشر ولمجمل سياستها الخارجية خلال عقدي الثلاثينيات والأربعينيات الحرجين من القرن التاسع عشر. لاشك أن بريطانيا قد عارضت محمد علي بقوة وتصميم، وأن بالمرستون، وزير الخارجية خلال معظم سنوات الثلاثينيات (١٨٣٠-٤، ١٨٣٥ - ١٤، ثم من ١٨٤٦ إلى ١٨٥١)، كان يمثل هذه العداوة أفضل تمثيل، حيث كان شخصيا يكره الباشا بشدة. وصحيح أيضا أن بالمرستون كان يرمي في حربه مع محمد علي إلى إلغاء الاحتكارات وأن معاهدة بالطة ليمان كانت صريحة في التأكيد على حظر كل الاحتكارات التجارية في طول الدولة العثمانية وعرضها.
...more
This highlight has been truncated due to consecutive passage length restrictions.
ولابد أن مجموع منتجات البلاد التي كانت تعالج محليا بدلا من تصديرها كمواد خام إلى المصانع البريطانية كان يضايق بالمرستون، وربما كان أيضا قد شعر بالتأذي من سياسات الباشا في التجنيد والسخرة والضرائب المرتفعة «غير الليبرالية»(1092). إلا أن بالمرستون كان منشغلا قبل كل شيء بأخطار توسع الباشا الإقليمي على إسطنبول، ذلك أن هذه النشاطات العسكرية كانت تدفع إسطنبول، كما رأى بالمرستون بحق، لطلب مساعدة الروس الذين كانوا متلهفين للغاية على توفير كل المساعدات التي يطلبها السلطان، لما تمنحه لهم من فرصة للتدخل في الشئون العثمانية. لقد كان هذا التوقع لتزايد نفوذ روسيا في إسطنبول وتوسعها جنوبا في اتجاه الهند،
...more
This highlight has been truncated due to consecutive passage length restrictions.
ويؤيد تتبع سياسة وزير الخارجية البريطاني تجاه الباشا من الشهور الأولى للأزمة السورية الأولى في أعوام ١٨٣١ ـ ١٨٣٣ إلى الشهور الحاسمة من الأزمة الثانية لأعوام ١٨٣٩ ـ ١٨٤١ ما ذهبنا إليه من أن الخوف من التوسع الروسي، لا الاهتمام بالأسواق البريطانية في شرق المتوسط، هو الذي أفزع بالمرستون من احتكارات محمد علي. ففي خلال الشهور الأولى من الأزمة الأولى، كما ذكرنا في الفصل الأول، لم يكد وزير الخارجية البريطاني يقول شيئا، مفضلا فيما يبدو أن يعتبر الأزمة شأنا عثمانيا داخليا: «لا توجد كلمة واحدة [من بالمرستون] سواء للقسطنطينية [إسطنبول] أو للإسكندرية أو للسفراء البريطانيين في باريس وفيينا وسان بطرسبرج
...more
This highlight has been truncated due to consecutive passage length restrictions.
يجب أن نطلب في الحال من محمد علي أن ينسحب إلى مصر... فامتلاك سوريا سيجر معه بالضرورة امتلاك بغداد، وتكفي نظرة واحدة إلى الخريطة لبيان ذلك... ولكن من المشكوك فيه للغاية أن يكون من مصلحة إنجلترا إضعاف السلطان إلى هذا الحد وأن تنشأ دولة جديدة في مصر وسوريا وبغداد. فمن الواضح أن استقطاع هذا القدر الكبير من أراضي وموارد السلطان سوف تجعله أعجز مما هو عليه بالفعل عن مقاومة روسيا، وسيصبح فعليا تابعا لها... وليس هذا بالقطع ما نتمناه...(1097).
اقتناعه، ولكن لأن زملاءه في مجلس الوزراء رأوا أنه لا يمكن الاستغناء عن الأسطول وتركه يغادر مسرح العمليات الأوربي نظرا للحاجة إليه لتنفيذ العقوبات التجارية على هولندا(1098)
هنكار إسكلاسي في يوليو وكانت تحتوي على بند سري يغير سياسة الباب العالي التقليدية التي تحظر دخول كل السفن الأجنبية بحر مرمرة، فاستثنت السفن الروسية من هذا الشرط.
تهدد المصالح البريطانية في آسيا، التي رأى أن أفضل حماية لها، بدورها، تكون بتقوية تركيا لتعمل كدولة عازلة بين روسيا والهند.
معاهدة هنكار اسكلاسي الموقعة في يوليو ١٨٣٣. فبالنسبة لبريطانيا فإن المعاهدة قد سلطت الضوء على فشل السلطان في القيام بالواجبين اللذين يُفترض في دولته بوصفها دولة أوربية وآسيوية في آن واحد أن تؤديهما: الواجب الأوربي في الدفاع عن المضايق والواجب الآسيوي في كبح المخططات الروسية بشأن المناطق الواقعة على حدود الهند. فأصبح محمد علي مسئولا في نظر لندن وبومباي عن إتاحة الفرصة للروس لتقويض استقرار الدولة العثمانية، حيث تسبب في رسو الأسطول الروسي في إسطنبول وتنامي النفوذ الروسي فيها، وبذلك أصبح بالمرستون يعتقد أن محمد علي «[وإن كان] ربما لن يدمر هو نفسه تركيا فإنه قد يمنح الروس الفرصة للقيام بذلك فيما
...more
ويبدو أن الباشا كان مدركا لهذه المخاوف البريطانية وأنه حاول أن يهدئها، فاقترح على بريطانيا الاشتراك في حلف مكون من سلطان إسطنبول وشاه إيران وهو ذاته، بعد أن يُسمح له بالتحكم في سوريا وبلاد ما بين النهرين بالإضافة إلى مصر. وقال محمد علي دفاعا عن فكرته إن هذا الحلف سيكون مانعا قويا في وجه مخططات الروس بشأن آسيا(1103).
وقد تأججت الكراهية القائمة على هذا الرأي بفعل التقارير التي كان يرسلها له بانتظام بونسونبي Ponsonby، سفيره الجديد في إسطنبول والذي اشتُهر بكراهيته العمياء للروس(1105)
وبرغم تقديم فرمان للباشا من السلطان ذاته، يسمح فيه بمواصلة هذه الحملة(1108)، فعل إبراهيم باشا، بأوامر من أبيه، كل ما يمكن لتعطيلها(1109). «وقعت أعجب الحوادث: كانت العربات تنقلب، والآلات تتكسر، وحيوانات الجر تفر مذعورة ـ كل ذلك بلا منطق ولا سبب ـ وسرعان ما اتضح أن ثمة نظام تخريب متعمد يمارس عمله...»(1110). ولم يكن بالمرستون غافلا عن هذه التحركات: فحين قدم له صامويل بريجز Samuel Briggs، مندوب الباشا في لندن، تقريرا يحثه على مساندة طلب الباشا للاستقلال، قائلا إن حكم الباشا في مصر مهم «للممتلكات [البريطانية] الثمينة في الهند»، كتب بالمرستون على هوامش هذه المذكرة أن «محمد علي يسيطر [بالفعل] على
...more
«محمد علي مصمم على فتح مجمل شبه الجزيرة العربية، ولديه مخططات بالنسبة لعدن، ومتى وصل هناك فسوف يندفع عبر حضرموت ويُسقط حكم الإمام في مسقط ـ الحاكم العربي الوحيد الذي يستطيع البريطانيون الاعتماد عليه»(1113).
كما كان بونسونبي يغذي بالمرستون بصفة مستمرة بتقارير تنذر بالخطر عن إمكانية قيام تحالف مصري ـ روسي. وبسبب هذه التقارير أصبح بالمرستون مقتنعا بأن محمد علي قد تخطى في توسعه الحد المسموح به. فلم تكن إمبراطوريته الصغيرة تهدد إمبراطورية السلطان فحسب، ولكن إمبراطورية جلالة ملك (ملكة بعد ١٨٣٧) بريطانيا.
ذلك هو مصطفى رشيد باشا، الذي أصبح فيما بعد صدرا أعظم لمدة استثنائية في طولها، قدرها ست سنوات، وواحدًا من أكثر من الرجال الذين يسمَّوْن رجال التنظيمات أصالة.
على عكس خسرو الموالي للروس، كان مصطفى رشيد ميالا للإنجليز بلا جدال. وفي عام ١٨٣٣ اشترك بنشاط في مفاوضات صلح كوتاهية التي تلت هزيمة السلطان على يد إبراهيم باشا.
بريطانيا بتقليص اعتماد الدولة العثمانية على قيصر روسيا بسبب تقلص خطر عدم استقرارها؛ والسلطان بإجبار قوات الباشا على الانسحاب من سوريا بسبب تقلص عوائده. وبعد مفاوضات طويلة وصعبة تم توقيع معاهدة بالطة ليمان، ورأى مصطفى رشيد أن المعاهدة وإن كانت تقلص عوائد السلطان الخاصة، فإنها تعد ثمنا عادلا يُدفع من أجل إنقاذ الدولة من تهديد محمد علي بغير الوقوع في الفخ الروسي(1115). وعلى مدار هذه السنوات الحاسمة أي من ١٨٣٨ إلى ١٨٤١ كان كلا من مصطفى رشيد وبالمرستون مقتنعين بضرورة تطبيق مواد المعاهدة على مصر. وزاد من إحساس بالمرستون بأهمية هذه الخطوة قراءته عام ١٨٣٩ لتقرير باورنج عن زيارته لمصر وعن أهمية
...more
وحين فشلت هذه الحجة حاول محمد علي أن يوحي لبالمرستون أنه المصلح اللييبرالي الذي يبحث عنه، والذي يستطيع أن يتفق معه على أعمال مشتركة. وقد اشتهر عنه أنه قال لبالمرستون، على حد تعبير دكتور باورنج: «لا تحكم عليَّ بمعايير معرفتك، وإنما قارن بيني وبين الجهل المحيط بي... لم أجد من القادرين على فهمي وتنفيذ ما أدعو إليه سوى قلائل... لقد كنت وحيدا معظم حياتي تقريبا»(1116).
وفي ذروة الأزمة السورية لم يستسلم: فظل يحاول أن يدفع بالمرستون إلى أخذه بجدية كمصلح ليبرالي. ففي يونيه ١٨٤٠ قال للكولونيل هودجسHodges، القنصل البريطاني العام الجديد؛ «حين أتيت إلى مصر كانت بربرية حقيقة، في غاية البربرية، وما زالت بربرية حتى يومنا هذا. ولكن مع ذلك آمل أن جهودي قد جعلت أحوالها أفضل بعض الشيء مما كانت. يجب ألا تُصدم حين لا تعثر في هذه البلاد على الحضارة السائدة في أوربا»(1117). غير أن بالمرستون لم يتأثر بأي من هذه الادعاءات، فقد كتب إلى سفيره في باريس: «بالنسبة لي فإنني أكره محمد علي، الذي أعتبره مجرد بربري جهول لا أكثر... وأجد في الحضارة التي يتفاخر بها أسوأ أشكال الدجل؛ وأنا
...more
ومن جهة أخرى وجد بالمرستون في مصطفى رشيد الرجل الذي يستطيع أن يحقق أحلامه الاستعمارية متنكرة في مصطلحات ليبرالية: فهو موظف عثماني عاقد العزم على تحقيق إصلاح أصيل ولكنه يعترف في ذات الوقت بالسمو الأوربي.
فبعد كل شيء كان رشيد هو الذي وضع مسودة خط كلخانة الشريف، وهو التشريع الرئيسي الذي دشن عصر التنظيمات بشكل جدي واستخدم لغة الليبرالية والمساواة والحرية، وهي اللغة التي يستطيع بالمرستون أن يفهمها ويتعامل معها. لقد أثبت مصطفى رشيد بوضع مسودة الخط الشريف أنه الشخصية الوحيدة في العاصمة القادرة على إحباط طموحات محمد علي. وقد حقق ذلك بالتفوق عليه في لعبته الخاصة: لعبة محاولة التأثير على الغرب، وخصوصا بريطانيا العظمى، بفكرة الإصلاح. وكان بالمرستون يؤمن بأن هؤلاء المصلحين ضروريون لكي يستعيد رجل أوربا المريض ـ وهو الاسم الشائن لدولة السلطان ـ بعضا من قوته السابقة لكي يحارب العملاق الروسي الذي يهدده. وقد
...more
فمحمد علي كان أبعد ما يمكن عن أن يكون بطلا لمصالح مصر (إذا كنا نعني بكلمة مصر دولة قومية حديثة)، وإنما كان واليا طموحا لولاية عثمانية نجح في إدخال إصلاحات مختلفة في ولايته الغنية وكان يقلقه ألا تجني أسرته ثمار جهوده.
لم تكن هذه المنافسة الأسرية موجهة ضد السلطان ذاته، لأن نَسَب محمد علي، لم يكن في نهاية الأمر لامعا بما يكفي ليقارن نفسه بنجاح مع بيت آل عثمان.
فأن تكون مصر له ولذريته من بعده، فهذا بالضبــط ما كــان يكافــح محمد علي مـن أجله طيلة حياته، وهو ما توصل إلى تحقيقه في النهاية في عمر السبعين. لقد كان هذا النجاح تتويجا لحياة الباشا الطويلة، فقضى السنوات التسع التي بقيت له من حياته ينعم به إلى أن أصابه الجنون في عمر الثمانين.
للاطلاع على نموذج لرأيه في أن مصر كانت بالغة الثراء على مدى التاريخ وأنها على حد تعبيره «جار زراعتها دفعتين بل قابلة للزراعة أربع مرات في السنة»، انظر: أمين سامي، تقويم النيل، الجزء الثاني، ص ٥٢٥-٦، خطاب مؤرخ ٤ جماد الآخر ١٢٥٩/٣ يونيه ١٨٤٣.
وقد فعل ذلك لأنه ظن أن خسرو سوف يسلم الأسطول للروس، ثم يهاجمان سويا محمد علي. وتجد خطاب محمد علي إلى أحمد فوزي الذي يحذره فيه من مؤامرات خسرو واحتمال قيامه بتسليم الأسطول إلى الروس، و«يدعوه إلى الإسكندرية لمناقشة المسألة»، في: س/٥/٤٧/٢/١٥٠ في ٢٧ ربيع الثاني ١٢٥٥/١١ يوليو ١٨٣٩.
.بالنسبة لرأي مجلس الوزراء انظر: Ibid، وبعد سنوات كتب بالمرستون: «لم أندم على شيء حدث منذ أن توليت الوزارة قدر ما ندمت على هذا الخطأ الفادح من جانب الحكومة البريطانية. ولكن الخطأ لم يكن خطئي؛ فقد حاولت بكل ما في وسعي أن أقنع مجلس الوزراء بأن يدعني أخطو هذه الخطوة»: اقتُبس من: Ibid.
كان بونسونبي سفيرا من عام ١٨٣٣ إلى عام ١٨٤١. وبالنسبة لخوفه المرضي من روسيا انظر: Temperley, Near East, p. 75، حيث يعزو مشاعره المعادية للروس إلى وصوله إلى إسطنبول في الوقت الذي كان الأسطول الروسي يرسو فيها، «فلمدة ثلاثة شهور كان يراه، ويتوقع في كل ساعة أن يسمع طلقات مدافعه».
تحتفظ دار الوثائق القومية بالقاهرة بـخطابات عديدة من إبراهيم وأبــيه تبيـن كيـف حاولا أن يعرقلا إنجاز الحملة وإرباك مختلف الموظفين البريطانيين في الأمور المتعلقة بالمشروع. انظر مثلا: س/٥/٤٧/١/٥٧ في ١٤ ذو الحجة ١٢٥٠/١٣ إبريل ١٨٣٥، من محمد علي إلى إبراهيم، وفيه يقول له صراحة إنه لا يعرف ماذا يفعل بشأن المطالب البريطانية المستمرة بالمساعدة في هذا الشأن. وتجد رد ابنه في: الشام ٣١/٧، في ٧ محرم ١٢٥١/٥ مايو ١٨٣٥. وفيه يخمن إبراهيم أن المعدات الثقيلة التي سمع بإنزال البريطانيين لها على ساحل البحر المتوسط وينقلونها عبر الصحراء إلى الفرات إنما يحتاجونها لبناء قاعدة عسكرية أمامية للسيطرة على بغداد. وقال
...more
فالرافعي مثلا، وإن كان يعترف بوجود بُعد شخصي في صراع محمد علي مع السلطان العثماني، لم يكن بمقدوره، وهو يتبع هذا التقليد الوطني في التأريخ، سوى أن يرى أن «تلك الحروب التي خاضت مصر غمارها في عهد (محمد علي) هي السبيل التي أوصلتها إلى تحقيق استقلالها... والمكانة التي نالتها بين الأمم»(1121).وبالمثل تنهي عفاف لطفي السيد مارسو كتابها، بالإصرار على أن محمد علي، ولو بغير قصد، «قد وضع مصر على طريق الاستقلال والإدراك الذاتي لهويتها المستقلة المتمايزة عن المسلمين والعثمانيين الآخرين»(1122).
وقد كشف هذا الكتاب عن عدد من المشكلات بشأن هذه الحجة. وتتمثل إحدى هذه المشكلات التي تعترض الحجة الوطنية، بالقدر الذي يتصل بجيش محمد علي، في الواقعة القائلة بأن الجنود كانوا أبعد ما يكونون عن الاندفاع بحماس للالتحاق بالجيش والدفاع عن الأمة، وإنما كانوا ينظرون للتجنيد كضريبة ثقيلة ينتزعها نظام كان أصلا قبل التجنيد قمعيا، قاسيا، بحيث كان من الصعب بالنسبة لهم أن يتعاطفوا معه. وتوصل الجنود تدريجيا إلى أن يعتبروا أن «الآخر» إنما يتمثل في قادتهم الضباط وليس في العدو الذي يحاربونه. فكيف فسر الخطاب الوطني واقعة أن الجنود المصريين قد قاوموا الخدمة في الجيش، المفترض فيه أنه «الـ» مؤسسة الوطنية بألف لام
...more
غير أن سان جون لم يقع في الفخ، ولم يسر كتابه وفقا للتتابع الزمني، فيتتبع الباشا من طفولته إلى شيبته، ويتوج القصة بمغامراته العسكرية المختلفة. ومع ذلك، فبعد أكثر من مائة عام على وفاته، ما زال ثمة كتب تُكتب، تعتمد على مادة أرشيفية انتُقيت بذكاء في المحل الأول، تبدو كما لو كان الباشا قد أملاها بنفسه، وبكلماته هو. فهي تبدأ بكلمة عن وضع مصر قبل ظهور الباشا على أرضها، ثم تتقدم وفقا للتابع الزمني، فتتبعه من مغامرة إلى أخرى، وتنتهي بمحاولاته التي يُفترض أنها فشلت في الحصول على الاستقلال عن الدولة العثمانية، مع إبراز دور بريطانيا في إجهاض هذا المحاولات(1126).
حين ننظر في سيرة محمد علي من هذا المنظور لن تبدو لنا سيرة لقائد وطني قاتل باجتهاد ليخلص مصر من عبء القهر الأجنبي الثقيل، ولكن كمصلح إشكالي للدولة العثمانية، بيَّن لإداريي إسطنبول، عن طريق التغييرات العديدة التي عمل على إدخالها في الاقتصاد والمجتمع المصري، نموذجا لكيفية إجراء الإصلاحات التي كانت الدولة في أشد الحاجة إليها في أراضيها المركزية. لم يكن محمد علي في عمله هذا مدفوعا بأية رغبة في تحسين نصيب المصريين، ناهيك عن إنقاذهم من «القهر الأجنبي»، وإنما كان مدفوعا برغبته الملحة الثابتة في تأمين وضعه القلق كوالٍ على مصر.
وفوق ذلك حاول هذا الكتاب أن يبين، على خلاف الادعاء الوطني الجذاب بأن جهود محمد علي قد أحبطتها بريطانيا العظمى، أن سياسات الباشا في مصر قد أفادت بريطانيا في واقع الأمر: بالسماح بدخول المزيد والمزيد من السلع البريطانية إلى السوق المصري (وإن كان ذلك بوساطته هو وحده)، وبالتودد باستمرار للموظفين البريطانيين، وقبل ذلك كله بحماية التجار البريطانيين المقيمين في مصر وإقامة دولة القانون والنظام فيها، والتي أمنت طريق بريطانيا البري مع الهند. فكما تبين من قبل كانت عداوة بريطانيا لمحمد علي ترجع إلى توسعه العسكري، الذي اعتُبر في كل من لندن وبومباي تهديدا للأملاك البريطانية في آسيا، بإتاحة المبرر للروس
...more
وباختصار رأى هذا الكتاب أن محمد علي كان يسعى لتأسيس وتأمين حكمه الشخصي وحكم بيته لمصر، بدلا من الرأي القائل بأنه كان يناضل لتحقيق الاستقلال لصالح الأمة المصرية، ولم ير أن بريطانيا العظمى كانت العقبة الرئيسية أمام هذه المحاولة. فجهوده في رأينا قد تُوجت بالنجاح حين منحه السلطان بموافقة بريطانيا عام ١٨٤١ فرمانا يخوله الحكم الوراثي لمصر.
ليس هذا الكتاب إذن دراسة في كيفية نجاح الخطابات والمؤسسات السلطوية الحديثة في التوصل إلى إحكام قبضتها بشكل غير مسبوق على الجسم من خلال القبض عليه وعزله ومراقبته، وإنما هو بالأحرى دراسة للحوار القائم باستمرار بين السلطة والمقاومة. وموضوعه الرئيسي هو الجيش الذي نجح محمد علي في إقامته في مصر في النصف الأول من القرن التاسع عشر، وهو مؤسسة تمثل التصورات الحديثة عن السلطة بأنقى شكل يمكن أن توجد عليه. ويرى الكتاب أن الباشا وسلطاته قد نجحوا حقا في القبض على أجسام عشرات الآلاف من الرجال المصريين، وأنهم نجحوا أيضا في تدريبهم وتجميع جهودهم ليشكلوا منها جيشا انضباطيا حديثا. وترتب على ذلك أن الباشا استطاع
...more

