More on this book
Kindle Notes & Highlights
by
خالد فهمي
Read between
July 4 - September 26, 2022
كذلك لجأت السلطات لطريقة أكثر راديكالية، هي وشم أجساد بعض الجنود لتسهيل القبض عليهم في حالة الهرب، فحين اكتُشف أن البحارة يهربون من سفنهم كل جمعة، وهو اليوم الذي يُمنحون فيه تصاريح بالنزول إلى البر، تقرر وشم كل الجنود البحارة على أذرعهم وسيقانهم بوشم عبارة عن سفينة وهلب (373). (وقد اتُّبع نفس الإجراء مع المحكوم عليهم بالسجن مدى الحياة: فوُشمت أذرعهم بحرف «ل» اختصارا لكلمة «ليمان» وهي اسم سجن سيئ السمعة في «أبو قير» قرب الإسكندرية )(374).
قوات خاصة، هي ورط البلطجية (أي القائمة بأعمال الهندسة العسكرية) (377). التي كانت مهمتها الأصلية حراسة عمال السخرة في عملية تطهير ترعة المحمودية (378).
لقد بينت الطرق المبكرة في جمع الفلاحين من قراهم أن الاعتماد على القوة المجردة لا يتسم بكفاءة كافية، فقد اكتشف الفلاحون طرقا لتجنبها وساعدهم في ذلك مشايخ قراهم. إن ما تمثله قوائم الهاربين ودفاتر المتسحبين، وقبلها جميعا التعداد العام، هو منهج جديد في السيطرة والتوجيه تهدف فيه السلطات إلى امتلاك المبادرة بصفة دائمة وتحاشي الوقوع تحت رحمة الموظفين المحليين غير الموثوق بهم.
إن أهمية التذكرة أو الدفتر أو القائمة أو التعداد العام لا تكمن فحسب في أنها أدوات ترفع كفاءة الجهاز البيروقراطي، أو تمكنه من مسك الدفاتر على نحو سليم، ذلك أن الدفاتر والجدول الزمني وكتيبات تعليمات التدريب والتقارير الطبية وأشباهها من المبتكرات البيروقراطية النصية تشترك جميعا في خاصية مشتركة: أنها تحاول أن تجزئ الوقت والمكان إلى وحدات متماثلة مجردة وقابلة للمقارنة. وكما سنرى في الفصول التالية، سنجد أنه بمجرد استخدام هذه المبتكرات لا يعود الزمن يقاس بمصطلحات المساحة الزمنية التي يشغلها فعل معين (مثل زمن الحصاد أو تعلم القرآن)، بل يقاس بالوحدات المجردة المتساوية القابلة للعد: الساعات والدقائق
...more
«دفترة الواقع»،
لا شيء يمثل طغيان الكلمة المكتوبة وأثرها على الأشياء أكثر من مصطلح «قيد»، وهو المصطلح الذي استُخدم منذ عهد محمد علي بمعنى التجنيد. ولا يعني هذا المصطلح رسميا أكثر من كتابة اسم في سجلات التجنيد. إلا أن الكلمة تتضمن بالإضافة إلى الكتابة أو التسجيل فعل التقييد (مثل تقييد حيوان إلى شجرة)، ويتضمن فوق ذلك معنى الاستعباد والتوجيه والانقياد. فكلمة «القائد» مثلا، وهي من نفس الجذر اللغوي، تعني من يقود أو يسوق، أي شخص له سلطة ونفوذ. وعلى ذلك فإن المصطلح قد اختير من بين مصطلحات أخرى عديدة ممكنة ليشير إلى أن عملية التجنيد أبعد ما تكون عن الوصف بأنها مصطلح محايد و«موضوعي». فهو مصطلح محمل بأفكار السلطة
...more
وعلى ذلك يرى هذا الفصل، على مستوى أعمق، أن أهمية التجنيد في جيش محمد علي تتجاوز محض الثقل العددي لمن جُمعوا أو تأثيرها على التركيب السكاني للريف، ذلك أن التجنيد ومقت السكان له ورد فعلهم عليه ومحاولات الحكومة في إيقاف هذه المقاومة كانت بمثابة الحافز لتطبيق نظام مختلف جذريا بالنسبة لمصر للتحكم في البلد وحكمها. لم يعد اللجوء إلى القوة المادية ممثلة في فصيلة التجنيد يعتبر فعالا في جلب موارد البلاد البشرية. وتم الانتقال تدريجيا إلى تقنية للسلطة أكثر دقة وخفاء، ممثلة في التذكرة والدفتر، وفي التعداد العام في نهاية المطاف.
ضج العامة والغوغاء من الرعية وأخلاط الناس بالصياح ورفع الأصوات بقولهم يا رب ويا لطيف ويا رجال الله ونحو ذلك وكأنهم يحاربون بصياحهم وجلبتهم فكان العقلاء من الناس يصرخون عليهم ويأمرونهم بترك ذلك ويقولون لهم إن الرسول والصحابة والمجاهدين إنما كانوا يقاتلون بالسيف والحراب وضرب الرقاب لا برفع الأصوات والصراخ والنباح فلا يستمعون ولا يرجعون عما هم فيه ومن يقرأ ومن يسمع(398).
ولمزيد من الإيضاح عن هذا الجانب من نظام السلطة الجديد يصف هذا الفصل كيف حاولت السلطات العسكرية أن تحول الفلاحين إلى جنود منضبطين مدربين جيدا، ويحاول أن يبرهن على أنه في لب تقنيات التدريب والانضباط الجديدة التي استخدمتها السلطات يكمن تصور جديد عن السلطة، وهو التصور الذي يصفه ميشيل فوكو بأنه «يعمل... من حيث المبدأ على الأقل، بغير لجوء إلى الإفراط في استخدام القوة أوالعنف. إنها سلطة تبدو أقل «جسمية» بكثير لأنها «مادية» بشكل أكثر خفاء»(411). وبالرغم من أن عمل فوكو يتعلق غالبا بالتاريخ الفرنسي والأوربي فإن أفكاره عن السلطة «بوصفها شيئا يدور، لا يتموضع أبدا هنا أو هناك»(412)، وإنما يمارَس باستمرار
...more
بالإضافة إلى ذلك يرى ميتشل، معتمدا على أعمال دريدا Derrida عن اللغة والعلامات وإنتاج المعنى، أن منظومة السلطة والنظام التي شهدتها مصر في الثلث الأخير من القرن التاسع عشر لها جانب ميتافيزيقي (وهو هنا يختلف عن فوكو): «لقد كانت تعمل عن طريق خلق مظهر نظام، مظهر بنية، كنوع من عالم منفصل غير مادي... لقد سعت [الأشكال الحديثة] للسلطة لا إلى العمل فقط على الجسم من الخارج، من الداخل للخارج، ولكن أيضا بتشكيل العقل الفردي»(416).
ويرى ميتشل أن هذا التمييز الديكارتي بين المثالي والمادي خاصية أساسية للميتافيزيقا الغربية وأنه كان حاسما في إدخال الكثير جدا من «الإصلاحات» التي شهدتها مصر في القرن التاسع عشر.. ويقول: إن إعادة تخطيط البنادر وتصميم الأحياء الاستعمارية الجديدة، وكل تنظيم للممارسات الاقتصادية والاجتماعية، وبناء قنوات نظام الري الجديد للبلاد، والسيطرة على تدفق النيل، وبناء الثكنات ومراكز الشرطة وفصول المدارس، واستكمال منظومة السكك الحديدية ــ إن عملية الاختراق الشامل هذه من جانب «النظام» يجب أن نفهم أنها أكثر من مجرد تحسينات أو «إصلاحات»، فقد تم الاضطلاع بهذه المشروعات جميعا كتأطير، ومن هنا كان لها أثر إعادة -
...more
وبرغم أن ميتشل يشير إلى بعض «إصلاحات» محمد علي فإن هذه الإشارات كانت عابرة، لأنه أولى اهتماما أكبر بالإصلاحات التعليمية في الثلث الأخير من القرن التاسع عشر وعملية إنتاج الحقيقة والمعنى في المدارس المنشأة حديثا آنذاك. ومع ذلك يمكن القول بأن جيش محمد علي، بوصفه مؤسسة السلطة والنظام بامتياز، هو الموضع الأنسب لأقصى إيضاح ممكن لأفكار «التأطير». ويحاول هذا الفصل، الذي يستمد مصادره من مواد القانون وكتيبات التدريب وكشوف التمام وكشوف الجرد المختلفة التي استخدمها هذا الجيش، أن يشرح كيفية تدريب وضبط المجندين الجدد، ليقدم مزيدا من الإيضاحات بشأن تصور «التأطير» عند ميتشل، وتبيان كيف أن أفكار النظام والسلطة
...more
كان الأثر الصافي المقصود منها أن تطبع في ذهنه الحاجز الرهيب الذي يجب أن يفصل حياته الجديدة في الجيش عن حياته المدنية السابقة.
ذلك أنه كان يُسمح لزوجات الجنود وأطفالهم باتباعهم من معسكر إلى آخر وبناء تجمعات سكنية من الأكواخ قريبة من معسكر التدريب، طالما ظل الجنود في مصر، فيعيشون كيفما اتفق باقتسام الجرايات الضئيلة المعطاة للجنود. وعلى سبيل المثال يُفترض أن نحو ٢٢ ألف امرأة وطفل كانوا يعيشون على حواف معسكر الخانكة قرب أبو زعبل(424). غير أن هذه الممارسة توقفت في نهاية المطاف، لأسباب صحية أساسا، وتم تفكيك تجمعات الأكواخ السكنية الملحقة واتُّخذت تدابير تنظيمية قاسية لمنع الجنود من إيجاد منفذ يوصلهم لعائلاتهم(425).
وفي مواجهة ذلك نصت المادة ١٥ من قانون الفلاحة الصادر عام ١٨٣٠ على: إذا اختفى أحد الفلاحين عند العربان وتزيا بزيهم ثم وجد عندهم فإن كان عليه بواقي فيؤخذ ما عليه ممن أخفاه من العربان وإن لم يكن عنده بواقي وكان من أخفاه شابا فيرسل إلى الجهادية وإن كان اختيارا [كهلا] فيرسل إلى اللومان ستة أشهر(446)
أورط البلطجية (الهندسة العسكرية)
وكان المأمول في هذا النظام أن يستهدف عقول المجندين، لا أجسادهم وحدها؛ بحيث يستطيع، بكلمات مفكر عسكري فرنسي في القرن الثامن عشر، أن يربطهم «بقيد من أفكارهم ذاتها» بأكثر مما «يقيدهم بسلاسل حديدية»(451). وهناك حدثان يمكن استخدامهما لإيضاح تحول أجهزة محمد علي تدريجيا إلى نظام سيطرة خفي وأقل انكشافا، نظام لا يعتمد على مشهد العقاب الاستعراضي ولكن على فكرة النظام، وهو تنظيم يمكن وصفه بأنه «الحكم عن بعد»(452). يروي هنري صولت، القنصل البريطاني العام في العشرينيات، الحدث الأول، الذي يتعلق بضابط يسمى كُرد علي. فبعد أن سجنه جنوده بسبب تأخر توزيع عطاياهم كلمهم في إنهاء عصيانهم وتسليم أنفسهم «لأنه ليس له
...more
ولكنه بدلا من أن يطلب إرسال قوات من العربان لتقبض على الهاربين اقترح حلا بسيطا ولكنه فعال: التمام، الذي قال إنه يجب أن يجري مرتين يوميا، ومن لا يوجد يقيد كحالة فرار، وحين يتم العثور عليه بعد يوم أو أكثر تطبق عليه عقوبة الفرار(454)
فقد أعلن أن الجندي بمجرد اعتقاله في المعسكر لا يستطيع أن يتركه إلا إذا كانت لديه وثيقة مختومة صادرة من الضابط القائد تحدد طبيعة خروجه ومدته(455).
وكما قلنا من قبل لا يجب أن يُفهم هذا التحول من تنظيم يقوم على فرض النظام باللجوء إلى الاستخدام الوحشي المفرط للقوة إلى تنظيم آخر أكثر خفاء وبعدا وأقل شخصنة كتحول إلى تطبيق أكثر تنورا وإصلاحية للقانون، وإنما هو يبرهن بالأحرى على ما يسميه فوكو في كتابه «المراقبة والعقاب» تحولا من العقاب الاستعراضي إلى العقاب التمثيلي، ثم إلى العقاب الانضباطي. لم تكن المثل الإنسانية العقلانية التقدمية للتنوير هي التي أملت هذا التحول، وإنما أملته الحاجة إلى جعل سلطة العاهل (محمد علي في هذه الحالة) محتملة ومقبولة من جانب رعاياه. لأن «السلطة لا تكون محتملة إلا إذا أخفت جانبا معتبرا من ذاتها»(459). ومن هنا كان هذا
...more
ومنها حالة وقعت عندما أدى طول حصار عكا إلى الانزعاج في القاهرة، وانتشار الشائعات بين السكان المدنيين. فهنا أمر محمد علي بضرب أعناق ثلاثة أشخاص وتعليق أجسادهم على أحد أبواب القاهرة القديمة، مع وضع لافتات على صدورهم تقول «هذا جزاء كل من لا يمسكون ألسنتهم»(468). وخلال الانتفاضة السورية ضد حكم محمد علي عام ١٨٣٤ شُنق شخص وظل معلقا لمدة طويلة بسبب ترويجه للشائعات (469).
وبكلمات أخرى فإن منطق العقوبات العلنية ومشهدها الاستعراضي لم تمِله فقط الحاجة إلى إخضاع المشاهدين بإرهابهم، ولا الحاجة إلى تحقيق رابطة بين الجريمة والعقاب، ولكن أملاه أيضا هدف تذكيرهم بالهوة التي تفصل جسم المذنب الهامشي المعرض للتدمير عن الجسد المقدس المركزي للعاهل. ولهذا السبب قال فوكو بأن العقوبات الاستعراضية العامة يجب أن تعتبر طرفا واحدا من طرفي معادلة شعائر السلطة، أما الجانب الآخر فيتكون من الشعائر التي يستعرض فيها العاهل مجده العظيم مجسدًا في جسمه هو أمام رعاياه، مثل احتفالات التتويج وإخضاع الرعايا المتمردين ودخول المدن المفتوحة، إلخ(474)
قارن ذلك بالطريقة التي كان الباشا يعرض بها جسده الخاص حين كان يحاول أن يسيطر على الانتفاضة التي انفجرت ضد حكمه في سوريا عام ١٨٣٤، وخصوصا طريقة دخوله ميناء يافا: كان شارع «الميناء» في يافا محاطا بصف من أفضل قوات الجيش. ووُضعت فرقة موسيقية كبيرة في المنتصف. وفي الساعة الواحدة وصلت سفينتان جميلتان من نوع الكورفيت وبدأتا في إطلاق طلقات التحية التي ردها لها الأسطول وبطاريات المدافع كلها. وفي الساعة الرابعة امتلأت الساحات بالرجال، ووسط زئير مدافع الأسطول والقلاع هبط جلالته، محمد علي، إلى الشاطئ.
وفوق ذلك أراد محمد علي، من خلال إصراره على عمل كل شيء بنفسه والإشراف على كل تفاصيل عمل الحكومة، أن ينشر انطباعا بأن مقر إقامته هو مركز السلطة الحقيقي في عالمه. ففي وقت مبكر يرجع إلى عام ١٨١٧ قيل إن «كل شيء الآن يُسوى هناك [أي في القلعة]. فالباشا والكخيا [نائب الباشا] ــ وهو نصير مخلص له ــ ينظران في كل شيء بنفسيهما بانتباه متشكك يربك المؤامرات ويجعل كل معارضة لأوامرهما أمرا في غاية الخطورة»(481). وفوق ذلك لم يَقنع الباشا أبدا بالجلوس في القلعة وإدارة الأمور من بعد، ولم يكتف أبدا بالتقارير التي كان يتلقاها بانتظام، فكان يذهب باستمرار في جولات تفتيشية ليفحص الأمور بنفسه. ونادرا ما كانت زياراته
...more
وقد ساعدت هذه الزيارات المفاجئة، مثل القصص التي نُسجت حول شخصه المادي، والتي قرأنا عنها في المقدمة، على التبشير بوجوده ووضع علامته على المناطق التي زارها «مثلما ينشر بعض الذئاب والنمور رائحته على مدى منطقته»(482). ففي عام ١٨٢٦، مثلا، ذهب في إحدى نوبات غضبه التي اشتُهر بها إلى حد إقناع نفسه بأن مديريه وحكامه يخدعونه. وانطلاقا من شعوره بأن أحدا لا يفهمه أصدر منشورا عاما لكل مديري مديرياته يقول فيه بأنه قرر أن يجوب البلاد كلها ويجمع كل المديرين الذين يعتبرهم مهملين وغير أكفاء «ويحفر حفرة في وسط حقل واسع ويدفنهم جميعا أحياء بيديه حتى يعلم الجميع [عاقبة الفشل]»(483)
كان الغرض من هذا التحول من «شعائر» العقوبات العلنية إلى «روتين» القواعد القانونية(489) هو التغلب على الحدود التي ذكرناها سابقا والتي تحاصر قدرة مشهد المشنقة على التخويف والردع. فالهدف الآن هو عقول العامة وليس «نظراتهم»، عن طريق «تمثيل» الباشا في غيابه واستخدام القانون كرمز فعال يعبر عن إرادته ورغبته. وفي هذا التبدِّي الأكثر خفاء للسلطة «[تستخدم] السلطة «العقل» كسطح تكتب عليه...، و[يتحقق] إخضاع الأجسام من خلال السيطرة على الأفكار؛ [ويصبح] تحليل التمثيلات أكثر كفاءة بكثير، كمبدأ في سياسة الأجسام، من التشريح الشعائري الحاصل في التعذيب والشنق»(490)
لقد كان الجيش والمؤسسة العسكرية عموما، أكثر من أي مجال آخر من مجالات المجتمع ككل، هي التي كشفت عن فهم أوضح للمفهوم الجديد عن السلطة، ونستطيع أن نفهم عن طريق المقارنة بين نظم العقاب في الجيش ونظيرتها في القطاع المدني المنطق الذي أملى هذه التقنيات الجديدة للسلطة. وسوف نقارن فيما يلي بين عدد من القوانين المدنية واثنين من القوانين العسكرية التي أقرت لتنظيم الحياة في المدارس العسكرية والمعسكرات للتعرف على كيفية اختلاف الجيش عن المجتمع ككل من هذه الناحية. وتهدف هذه المقارنة إلى إظهار أن الحكم بالسجن بصفة خاصة، بوصفه الحالة المتطرفة للعقاب بالاعتقال، كان يُستخدم كأداة لفرض الانضباط، وأن القوانين
...more
وفوق ذلك كانت ظروف سجنهم أبعد ما تكون عن الظروف الصحية، بحيث اقتضى الأمر ذات يوم القيام بتحقيق لتحديد سبب وفاة أعداد كبيرة من السجناء(504). هذا بالإضافة إلى أن المعتقلين في الليمان لم يكونوا يتمتعون بسيطرة تذكر على أجسامهم، وكان بمقدور السلطات أن تستخدمهم لأي غرض تراه مناسبا. ففي عام ١٨٤٣ أصدر الباشا الأمر التالي إلى وكيل شورى المعاونة: إنه لحضور أشخاص أخيرا من طرف حكومة الروسيا لأجل إجراء بعض تجارب لمعرفة درجة سريان علة الوباء ولتمكن من تخصيص حدود لها وذلك موقوف على إلباس بعض الأشخاص السليمي البنية ملابس الذين أصيبوا بالداء. بعد تطهيرها في حرارة الشمس على درجة ٦٠، ومن المؤكد عدم إمكان وجود من
...more
وفي هذه الحالة كان الليمان مثله مثل جبل فيزاوغلي، مكانا للنفي والإبعاد، وليس مكانا للإصلاح وإعادة التأهيل. فالقوانين المدنية، كما يمثلها هذا القانون، لم تكن تهدف إلى إقامة رابطة وثيقة في أذهان العامة بين الجريمة والعقاب، بقدر ما كانت تهدف إلى دفع الناس للخضوع عن طريق إرهابهم بتكوين صورة للسجن تحوم كالشبح فوق المجتمع، لتذكِّر الجميع بمصير من ينتهك القانون.
لقد بلغت قوة تأثير فكرة السجن على العقلية المصرية حدا جعل كلمة «ليمان» التي تعني في التركية مجرد ميناء أو مرفأ مرادفا لكلمة «السجن». وما زالت تحمل نفس المعنى في اللغة العربية المصرية إلى وقتنا هذا(506).
القوانين ا...
This highlight has been truncated due to consecutive passage length restrictions.
وأول ما يصدم المرء حين يقرأ هذا القانون أنه قد وُضع على هيئة جدول ينقسم أساسا وفقا لنوع المذنب: الطلبة العسكريون وضباط الصف؛ ثم الضباط والمعلمون. كما قسم القانون كلا من هذين القسمين إلى ثلاثة أقسام أخرى: الجرائم والذنوب؛ التأديبات (العقوبات) المقابلة لها؛ و(المؤدِّب)، أي الضابط الذي يضطلع بتنفيذ العقاب.
لم يكن هذا التحول إلى أنواع أكثر «تمثيلية» من التحكم والمراقبة قاصرا على الجيش المصري. ففي أوربا القرن الثامن عشر نستطيع أن نتبين هذا الإدراك المتزايد بأن العقاب «يجب أن يضرب الروح أكثر من الجسم»(513) بأوضح ما يكون في المناظرات التي دارت حول انضباط الأسطول البريطاني بعد تمردات عام ١٧٩٧. وتتمثل الأصوات المتشككة الجديدة في كتابات فيليب باتون Philip Patton، الذي كتب عددا من الكتيبات ينتقد فيها، بين أشياء أخرى، نظام العقاب ونظام الانضباط المطبق في الأسطول الملكي: «أيا كانت قوة تأثير [الخوف] فقد وجد أنه غير كاف لتحقيق الانسجام... وأنه لا يستطيع مطلقا أن يجلب الإجماع في المواقف الصعبة التي يميل فيها
...more
وفي مصر، ربما كان التغير في أهداف وأغراض العقاب وفي معنى الانضباط عموما يتمثل بأفضل ما يكون في ظاهرتين، هما تقلص عدد عمليات الإعدام العلنية وتطور دلالات كلمة «سياسة». قال الدكتور باورنج الذي زار مصر في ثلاثينيات القرن التاسع عشر، إنه بسبب تزايد كفاءة مراقبة البوليس في القاهرة ومصر عموما انخفض عدد عمليات الإعدام العلنية حتى أصبحت نادرة، وأن عشماوي قال له: «لم يعد لدي الكثير لأقوم به الآن»(515). ويتساوى مع هذا التطور في الأهمية أن كلمة سياسة بدأت في اكتساب دلالات جديدة. فقد كانت تشير في سياقها العثماني القانوني إلى العقاب بأعرض معنى للكلمة: «غير أن هذه الكلمة تعني عموما، كمصطلح تقني، إما الإعدام
...more
غير أن هذه الكلمة، في استعمالاتها المصرية الخاصة في النصف الأول من القرن التاسع عشر، بدأت تكتسب تدريجيا دلالتها العربية الأصلية، بمعنى الحكم. ويقدم إدوارد لين Edward Lane، الذي زار بدوره مصر في ثلاثينيات القرن التاسع عشر، المعنى الآتي للكلمة في قاموسه الشهير: «الإدارة، الحكم، الحكومة، والتحكم أو السيطرة»(518). ولذلك لم تكن «السياستنامة» الصادرة عام ١٨٣٧ (519) قانون عقوبات مثل «السياستنامات» السابقة، وإنما قانونا «سياسيا» بحق، يدير وينظم شئون الحكومة. ويعكس هذا التحول في معنى كلمة «سياسة» تحولا حدث في معنى الحكم والسلطة.. فبدلا من الاعتماد على القوة المجردة بالطريقة التي اعتاد عليها المماليك
...more
السلطة الانضباطية
هو الذي يسميه فوكو «السلطة الانضباطية»، والتي كان يؤمل فيها، لا أن تغرس الشعور بالحضور الدائم للمراقبة والحراس المتيقظين فحسب، ولكن أيضا أن تضبط جسم الجندي بدقة تختزل حركاته إلى وحدات ثابتة ونمطية وقابلة للمقارنة والتجميع في وحدات أكبر.
الترقيم والعنونة
ويلزم أن تكون جربندية كل نفر مقفولة ومربوطة على وجه يمكن حملها به عند الحاجة... وأن تكون برانس هؤلاء الأنفار مطوية على الوجه المقنن وموضوعة على الرف المذكور وكذلك ألبستهم تكون مطوية على ظاهرها بأن تكون بطانتها من خارج وتوضع أيضًا على الرف المذكور تحت جربنديته وتوضع الطرابيش على الرف الأعلى... وأن تعلق الكفف والسيوف من أفيشتها في مساميرها المخصوصة لها... وأن تكون المراكيب [الأحذية] منظفة ومعلقة في المسامير التي جعلت لها في مسند الرف الأعلى ويكون ظاهر النعالات إلى الخارج(532).
وقد بلغت السيطرة على الجنود في أثناء الزحف من الدقة أن القانون كان يحدد قواعد إزالة الضرورة، حيث تذكر المادة ٤٣٢ من قانون الداخلية أن على كل جندي أو عريف يريد أن يقضي حاجته خلال الزحف أن يعطي بندقيته لأحد زملائه ويمشي سريعا إلى الغائط ويعود بغير تأخير وإلا سُجن في السجن العسكري(534).
إننا نشهد هنا ما هو أبعد من مجرد محاولة للحفاظ على بيئة صحية. إننا نشهد أول مظاهر نوع جديد من السلطة يتبدى على جسم المجند، ليس بالطريقة الاستعراضية بضربه أمام أورطته، ولكن بطريقة أكثر مكرا وتغلغلا وسوء ظن. ذلك هو ما يسميه فوكو «السلطة الانضباطية» Disciplinay Power: انضباطية ليس فقط لأنها تحاول أن تدير الجسم (جسم المواطن والمجند على السواء)، ولكن أيضا بمعنى أنها تخلق العلوم(559) والخطابات التي تجعل جسم الفرد محل اهتمامها الأول، مثل الطب والطب النفسي وعلم الجريمة، إلخ. فانطلاقا من الحاجة إلى تدريب المجندين الجدد وإخضاعهم لتقنيات الانضباط الجديدة، كما سنبين لاحقا، أصبح جسم الجندي موضوعا، ليس
...more
ينبغي لكل عسكري أن تكون كعباه قريبين من بعضهما على خط واحد.. وأن تكون مقدم القدم أقل من زاوية قائمة... وبدنه مثل العمود على سكرجيته [كذا] وأن يكون مائلا إلى قدام ورءوس اكتافه مائلة إلى وراء... وكوعه قريب من بدنه وكفه مدور قليلا إلى الخارج وخنصريه يكونان على قيطان جيب السروال ملامسين له ورأسه مستقيما من غير تعب ولا مشقة وتكون ذقنه قريبة من رقبته بحيث لا تغطيها وعينيه ناظرتين إلى قدام مستقيمًا مسافة خمسة عشر خطوة تقريبا (574)
هل هو نظام «مؤطَّر» أم «مُدفتر»؟
وعلى ذلك، يبدو للوهلة الأولى (والوهلات الأولى مهمة، حيث إن هذا الفصل يتناول الاستعراضات) أن صورة جيش محمد علي، التي ترد على الذهن من قراءة الكتيبات التي كانت تُستخدم في تدريب ضباطه وجنوده، تبدو مؤطرة بالمعنى الذي يقصده ميتشل. وللتذكير، يتضمن فعل التأطير عمليتين منفصلتين ولكنهما مرتبطتان بوضوح. أولهما فعل السلطة الميكروفيزيائية التي اكتشفها فوكو، والتي تسجل وترتب وتحسب وتوجه وتضبط الجوانب المختلفة للحياة الحديثة. وهي العملية التي رأينا تفصيلا في كتيب التدريب كيفية تحققها بالكامل وتبدِّيها على جسم المجند، فتوجه نظرته وتتحكم في خطوته وتنظم وقفته وتضبط حركته لتنسجم مع حركات الجنود الآخرين.
...more
ومع اعترافي بالتأثير المغوي لرؤية جيش محمد علي، أو مصر ككل، كواقع «مؤطر»، كصورة في معرض، فإنني أفضل أن أشير إلى ما فعله الباشا ورجاله في مصر بعملية «دفترة» الواقع بدلا من «تأطيره». ليس ذلك مجرد مناورة لغوية بسيطة (بفرض أن المناورة اللغوية يمكن يوما أن تكون أمرا بسيطا)، وإنما هو تفضيل لمصطلح يظل، مع اعترافه بالعنف المتضمن في التقنيات الخطابية لتنظيم وإدارة المجتمعات الحديثة، يفترض وجود فاعل خلف هذه التقنيات. فـ «التأطير» كما يستخدمه ميتشل يفترض وجود ذات واحدة فقط، هي ذات المشاهد، الذي يبدو العالم أمامه كلوحة في معرض؛ لوحة «يحدث نظامـ[ها] كعلاقة بين مشاهد وصورة، تبدو وتُجرَّب من زاوية العلاقة
...more
نسبة إلى فريدريك الثاني (العظيم) (١٧١٢ ـ ١٧٨٦) ملك بروسيا (١٧٤٠ ـ ١٧٨٦) الذي كان أول من أدخل نظم الانضباط الحديثة في جيشه وحقق بها انتصارات كبرى أشهرها انتصاره على فرنسا في معركة روزباخ (المترجم).
لاشك في أن معركة قونية في ديسمبر ١٨٣٢ كانت واحدة من أعظم انتصارات إبراهيم باشا العسكرية. ففي قلب الأناضول، أي على بعد مئات الأميال من الوطن، ووسط مناخ قارس البرودة، نجح إبراهيم في إيقاع هزيمة كبرى بجيش يبلغ ثلاثة أضعاف حجم جيشه. بل ونجح في الإيقاع بالصدر الأعظم، محمد رشيد باشا، الذي كان يقود الجيش العثماني بنفسه. وبعد الختام الناجح لمعركة الساعات السبع أصبح الطريق إلى إسطنبول مفتوحا أمامه على مصراعيه، خاليا من أية قوة عسكرية عثمانية تُذكر تستطيع أن توقفه عن الزحف إلى عاصمة الدولة العثمانية.
أما المحكمة العسكرية فهي تصف، في محاولتها أن تحدد المذنب والمسئولية، وضع المعركة كما تُخاض، بكل الارتباك والدمار والذعر الذي يميزها ويفصلها عن التدريبات. وفوق ذلك ترجع أهمية دفتر المحاكمة العسكرية بالنسبة لأهدافنا إلى أنه، إلى جانب تسجيل شهادة الجنود وتقديم فرصة فريدة للاطلاع على الكيفية التي ربما كانوا يدركون بها المعركة، يفعل ذلك دائما بطريقة مناقضة لما يُفترض أنه يستخدمها. فالمحكمة العسكرية تنعقد في المقام الأول لتحقق في واقعة انحراف عن الخطة، أو في انتهاك للقواعد التي وضعتها كتيبات التدريب أو غيرها من القواعد. فالقانون يخيم دائما بكل ثقله على هذه الروايات، والمحكمة العسكرية هي دائما ظل
...more
ومع ذلك يهتم هذا الفصل أيضا بمسألة أوسع، فهذه الطريقة التي كُتب بها تاريخ مصر العسكري، كما يمثلها «نموذج المعركة الأدبي» عند عبد الرحمن زكي في وصفه لمعركة قونية، لها صداها (بل وصدى أوسع بكثير) في طريقة كتابة تاريخ مصر عموما خلال حكم محمد علي ـ وليس سيرته العسكرية وحدها. وهنا يجب أن نشير إلى أن الباشا كان برغم أميته «يكتب» باستمرار خطابات (أو بالدقة يمليها على كُتابه)، ويصدر قرارات ويمنح مقابلات، وهو أمر لم يفت معاصريه، على نحو ما أشار السفير البابوي النمساوي ذات مرة: «إن الباشا لا يتمتع دائما بفضيلة الصمت أو التظاهر بها»(605). وكانت النتيجة خطابات ومقابلات لا تُعد استخدمها المؤرخون في بناء
...more
ويحاول هذا الفصل مستخدما المؤسسة العسكرية كمثال أن يصل إلى قراءة أقرب، وأكثر نقدية فيما آمل، لهذه الخطابات. فهو لا يبدأ بالكلام عن الباشا العظيم، وكيف أنه كان، ربما، «حكيما» أو كيف كان يسبق عصره، وإنما يقول إن الباشا كان، إلى جانب قيامه بإصدار قواعد مبهرة ومنظمة، واقعا تحت ضغط وقت عصيب وقيود مالية أجبرته مرارا على الانحراف عن نفس القوانين التي كان يُصدرها. وفوق ذلك هناك مئات من الضباط والقادة يقفون بين القيادة «الحكيمة» للباشا في قصره بالقاهرة والجندي الكائن في الميدان أو في ثكنته.

