More on this book
Kindle Notes & Highlights
by
خالد فهمي
Read between
July 4 - September 26, 2022
ويشمل النقد الذي يوجهه هؤلاء الباحثون المؤرخين الماركسيين أيضًا. ذلك أنهم مثل القوميين ــ في نظرهم ــ متهمون باقتفاء نمط أوربي المركز في كتاباتهم، ولم يتمكنوا من التحرر من النموذج الغربي في التأريخ.... فالكتابات التاريخية الماركسية سواء الهندية أو المصرية عن الاستعمار تبرز الجوانب السلبية للحداثة، خاصة اتساع الاستغلال الاستعماري ودور النخـب القومية القمعي أو المتعاون مع الاستعمار، إلا أنها تظل تفهم التاريخ غير الغربي من زاوية توسع تجربة تاريخية أوربية(65).
وتعد دراسات هذه المجموعة عن تاريخ الثورات الفلاحية الهندية أهم إسهاماتها. فعلى خلاف المؤرخين القوميين الذين ركزوا على دور النخبة السياسية ممثلة في حزب المؤتمر وفي شخص غاندي، استطاع هؤلاء الباحثون أن يظهروا أن الهبات والثورات الفلاحية الهندية لم تكن مجرد هوجات حمقاء رعناء تفتقد إلى الحنكة السياسية والقدرة على التنظير والتنظيم، فتحدوا بذلك تراث المؤرخين القوميين، الذين أكدوا على اتسام ثورات الفلاحين الهنود بطابع عفوي منعدم الاتجاه لكي يظهروا أهمية قيادة حزب المؤتمر لهذه الثورات، التي لم تكن في عرفهم لتتعدى أن تكون مجرد هوجات عفوية منعدمة الأثر السياسي لولا هذه القيادة الحكيمة.
وبالمثل تحفظ هؤلاء الباحثون من أعضاء جماعة دراسات التابع على المقولات الماركسية التي لا ترى في الفلاحين إلا «زكائب بطاطس» على حد قول ماركس نفسه. وعلى الادعاءات اليسارية التي لا ترى إمكانية للثورة (وبالتالي للحراك الاجتماعي ولحركة التاريخ ذاتها) إلا من خ...
This highlight has been truncated due to consecutive passage length restrictions.
على أنه قد ظهرت مؤخرًا عدة دراسات من شأنها أن تعيد كتابة التاريخ العثماني بشكل جذري وأن تشكك في تلك المقولات التي شاعت لوقت طويل عن طبيعة الدولة العثمانية. فقد ساعد فتح الأرشيف العثماني الباحثين على الاطلاع على معلومات دقيقة عن الحياة الاقتصادية والاجتماعية للكثير من الولايات العثمانية، وعلى تفاصيل كثيرة عن التطورات السياسية والدبلوماسية التي مرت بها هذه الدولة في القرون الثلاثة الأخيرة من عمرها الطويل.
ومنذ أن نشر ألبرت حوراني مقاله بالغ الأهمية: «حركة الإصلاح العثماني وسياسة الأعيان»(67) عام ١٩٦٨، اقتفت خطاه عدة دراسات جادة، مستندة أيضا إلى المادة الخصبة المستقاة من الأرشيف العثماني.
وبناء على ذلك لم يعتبر حوراني حركة التنظيمات محاولة يائسة فاشلة من قبل المركز العثماني لاستعادة هيبته وسلطته الضائعة، وإنما محاولة قامت بها إسطنبول لإعادة رسم قواعد اللعبة السياسية في الدولة العثمانية بشكل يضمن لها بقاءها في الصدارة، ولكن مع الاعتراف بأحقية المراكز الأخرى كدمشق الشام ومصر القاهرة والموصل وغيرها من الحواضر المهمة بأن تملي شروطها وتحتفظ بخصوصيتها. وقد اقتفى العديد من الباحثين أثر حوراني وساهموا في التشكيك في النظرية التقليدية عن صعود وسقوط الدولة العثمانية. لعل من أهم أعمالهم دراسة دينا خوري عن الموصل(68)، ودراسة بشارة دوماني عن جبل نابلس(69)، ودراسة جين هاذاواي عن بيت
...more
لا ينظر هذا الكتاب إلى مصر ككيان مستقل بل كولاية داخل الدولة العثمانية، تشترك مع غيرها من الولايات العثمانية في الكثير من القسمات الاقتصادية والثقافية والقانونية والسياسية. ويحاول هذا الكتاب، فيما يحاول، أن يشرح ظهور محمد علي، لا كـ «مؤسس مصر الحديثة»، وإنما كمؤسس «بيت» مثل سائر البيوتات الإقليمية في الدولة العثمانية، شأنه في ذلك شأن بيت العظم أو بيت الأمراء الشهابيين أو بيت الجزار في الشام وجبل لبنان وعكا. كما يحاول أن يدلل على أن هذه الظاهرة- ظاهرة البيوتات - ساعدت الدولة العثمانية على الاحتفاظ بوحدتها وتماسكها الداخلي ــ على عكس ما كان شائعًا إلى وقت قريب.
بداية أؤكد مرة أخرى أن الكتاب لا يقدم سيرة لحياة محمد علي ولا تحليلا لشخصيته، فهو لا يقتفي أثره منقبا عن مآثره الرائعة منذ وصوله إلى مصر عام ١٨٠١ إلى موته بعد نصف قرن تقريبًا، ولا هو يقدم رواية عن هذه الفترة الطويلة من منظوره هو. أيضا لا يقدم هذا الكتاب تاريخًا عسكريًا لجيش محمد علي، ولا يقتفي خطوات قادة وضباط هذا الجيش وهم يدربون رجالهم في المعسكرات، ولا وهم يأمرون قواتهم في المعركة، ولا وهم ينعمون بانتصاراتهم العسكرية. فهذا بالأحرى كتاب عن الحداثة والسلطة: عن الحداثة وكيف يجب دائمًا أن ننتقدها لا أن نلهث وراءها، وعن السلطة ووسائلها الانضباطية الحديثة وكيف يجب رؤيتها دائمًا لا كشيء جامد يتجلى
...more
وهـو في المقـام الثــاني كتــاب عــن القـومية. ولكنه لا يعتبر القومية شعورا طبيعيا يتوصل المرء من خلاله لإدراك انتماءاته الغريزية، ولا يعتبرها أيضا أيديولوجيا مصطنعة تخترع الأمم من حيث لا توجد، وإنما يعتبرها مجتمعا سياسيا متخيَّلا، ويحاول أن يشرح كيف يمكن أن تكون الجيوش الحديثة وسيلة لإنشاء تخيل الأمة.
وهو في المقام الثالث كتاب عن التاريخ الاجتماعي، لا الحربي، لجيش محمد علي. فاهتمامه الأساسي لا ينصب على تتبع سير المعارك والخطط العسكرية، وإنما على تفاصيل الحياة اليومية داخل معسكرات هذا الجيش: كيف كان يجري إطعام جنوده والعناية صحيًا بأبدانهم، وكيف تم تجنيدهم أولا ثم تدريبهم، وكيف قاوموا السلطات العسكرية، وأخيرًا، كيف كان هذا الجيش أيضا عاملا حاسمًا في تغيير التركيبة الإثنية واللغوية للطبقتين الوسطى والعليا في البلاد بطريقة أدت بغير قصد إلى ظهور «مشاعر وطنية» بين الجنود الذين كان معظمهم يتحدثو...
This highlight has been truncated due to consecutive passage length restrictions.
وأخيرًا فإن هذا كتاب عن مكانة مصر كولاية مهمة وغنية من ولايات الدولة العثمانية وعن محاولات حاكمها القوي لتأسيس حكم أسري في ولايته، وكيف كادت محاولاته هذه أ...
This highlight has been truncated due to consecutive passage length restrictions.
وقبل أن نلخص أفكار فصول الكتاب السبعة وخطة عرضها قد يكون من المناسب أن نتعرض لسؤال أساسي وهو: لماذا كان اختيار الجيش موضوعا للدراسة ما دمنا لا نهدف إلى دراسة التاريخ الحربي لعصر محمد علي؟ تكمن الإجابة في أن دراسة الجيش تمكننا، لأسباب عدة، من الإجابة على الأسئلة الأساسية التي يتعرض لها هذا الكتاب: فجيش محمد علي كان ــ كسائر الجيوش الحديثة في القرن التاسع عشر ــ مؤسسة السلطة بألف لام التعريف، وبالتالي تمكننا درا...
This highlight has been truncated due to consecutive passage length restrictions.
تميز الجنود عن الضباط (في الملبس والمرتبات والحقوق والواجبات)، على غرار الفوارق الطبقية التي صبغت المجتمع ككل. كذلك كانت هذه الفوارق أكثر وضوحا في جيش محمد علي عنها في جيوش أخرى معاصرة، حيث تميز جيشه بوجود فواصل إثنية بين الجنود والضباط، بالإضافة للفواصل الطبقية. وبما أن هذا الكتاب معني بتقديم تاريخ اجتماعي لهذا الجيش فإن دراسة العلاقة بين الجنود والضباط في جيش محمد علي وتتبع الصراعات والمناوشات التي كانت تدور حول الحدود التي تفصل بين الجنود والضباط، تستطيع أن تقدم لنا نموذجا لكيفية تعامل المصريين مع تلك النخبة التي كانت تتحدث التركية وتسيطر على الحياة المدنية والعسكرية على السواء.
وأخيرًا تستطيع دراسة جيش الباشا أن تساعدنا على الوقوف على وضع مصر في النصف الأول من القرن التاسع عشر كولاية عثمانية. فبتحليل أهداف الحروب التي خاضها هذا الجيش وطبيعتها ونتائجها، خاصة ضد جيش السلطان محمود الثاني، نستطيع أن نتعرف على طبيعة العلاقة بين مصر والدولة العثمانية.
أعتقد أن الوثائق التي اعتمد عليها الكتاب قد أتاحت إمكانية إدراج منظور الجنود في رواية تاريخ جيش محمد علي؛ فقد استخدمت الدراسة على نطاق ضيق بعض وثائق وزارة الخارجية البريطانية المودعة في دار المحفوظات العامة بلندن، لكونها مفيدة بعض الشيء في فهم كيفية عمل الجيش، ولكنها تقدم في معظم الأحوال رؤية من الخارج للأحداث والشخصيات التي مستها هذه الدراسة.
وبما أن الكتاب يحاول جاهدا أن يتفادى إعادة إنتاج خطاب السلطة، أو إعادة إنتاج رؤية محمد علي وضباطه وأعوانه لأنفسهم ولأعمالهم البطولية، فقد توخى الحذر في ترتيب الفصول ذاتها. فالسير وفق التسلسل الزمني مثل معظم الدراسات عن جيش الباشا قد يمكِّن القارئ من تتبع التطور الذي طرأ على هذا الجيش، غير أن هذه الطريقة التقليدية لا تخلو من المخاطر؛ لأن من شأنها أن توحي بوجود خطة موضوعة أصلا حكمت بناء هذا الجيش وتطوره فيما بعد. فمن المعروف أن عرض الأحداث التاريخية في إطار تسلسل زمني يعطي الإيحاء بأن الأحداث التاريخية نفسها تسير بشكل غائي نحو نهاية أو هدف محدد منذ البداية. وبما أن الأفكار التي يعتمد عليها هذا
...more
وقد افترضت أن هذا الجندي إذا تمكن من رواية تجربته هو عن انخراطه في هذا الجيش لن يبدأ قصته بلحظة هبوط محمد علي أرض مصر ولا بمذبحة المماليك، ولن ينتهي عند معركة نزيب أو قونية، فالأكثر منطقية أنه سيبدأ قصته بلحظة تجنيده هو، ثم يعرج على طريقة تدريبه، فالقوانين التي كان لزاما عليه أن يطيعها، ثم سيسرد تجربته في معركة من المعارك وأهوالها، وأخيرًا سيروي آثار هذه المعركة عليه: إما الجرح أو الموت أو الفرار.
تلك هي الخطة التي انتهجها هذا الكتاب، بغرض حث القارئ باستمرار على تخيل خطاب الجندي الصامت، ذلك الخطاب الذي لم أجده في المصادر المكتوبة، ولكنه مع ذلك خطاب حاضر موجود وإن جرت العادة على إهماله. ومع ذلك يبدأ الكتاب وينتهي بفصلين «تقليديين» عن جانبين مهمين من جوانب التاريخ السياسي لفترة حكم محمد علي. والمقصود بهما التذك...
This highlight has been truncated due to consecutive passage length restrictions.
يبدأ الفصل الأول إذن، بعرض لحملة الشام (١٨٣١-١٨٤٠)؛ نظرا لأنها كانت أهم الحملات التي خاضها جيش محمد علي النظامي. ولا يحاول هذا الفصل أن يربط بين هذه الحملة وغيرها من حملاته، بل يحاول، على العكس، أن يدلل على أن هذه الحملة تختلف تماما عن الحملات الأخرى، سواء من حيث أهدافها أو طريقة إدارتها. ونظرا لأهمية هذه الحملة في فهم طريقة عمل هذا الجيش، خصصت النصف الثاني من هذا الفصل لعرض بداية هذه الحملة وأهم معاركها. وينتهي الفصل...
This highlight has been truncated due to consecutive passage length restrictions.
ويبدأ الفصل الرابع بوصف للمعركة الرئيسية التي خاضها جيش محمد علي ضد الجيش العثماني، وهي معركة قونية (ديسمبر ١٨٣٢). فبرغم أن الجيش المصري حقق نصرا حاسما في تلك المعركة، فقد تبين أن ثمة قائدا كبيرا برتبة ميرلوا قد ارتكب أخطاء عظيمة، وهو أداء يثير الدهشة بعد قراءة القوانين واللوائح وكتيبات التدريب التي عرضنا لها في الفصل السابق.
ويثير الفصل السادس السؤال المركزي عن الدور الذي لعبه الجيش في خلق النزعة القومية المصرية خلال النصف الأول من القرن التاسع عشر. فعن طريق تحليل رؤية الباشا وضباطه وجنوده للجيش وللمعارك التي قاتلوا فيها، يعيد الفصل اختبار الادعاء الشائع القائل بأن سكان مصر قد توصلوا، حين سُمح لهم بحمل السلاح للمرة الأولى منذ قرون، إلى اعتبار أنفسهم يشكلون شعبا محددا له هوية منفصلة وشخصية جماعية. وبعد ذلك يختم الفصل قصة الارتباط الافتراضي للجندي بالجيش، بالهرب طبعا، ثم يحاول أن يجيب على السؤال المحرج، وهو: كيف كان بمقدور جيش، كان جنوده من مجندين كارهين لتجنيدهم، سُحبوا إليه ضد إرادتهم، أن ينجح مع ذلك في تحقيق تلك
...more
تفسير توسع الباشا العسكري حين يتناول المؤرخون الحملات المختلفة التي دخلها محمد علي كلاًّ على حدة، لا كحلقات تحتل كل منها مكانا في إستراتيجية كبرى، يعترف معظمهم بأن كل واحدة من هذه الحملات قد أملتها أسباب تاريخية فريدة. فمثلا قيل إن حملة الحجاز، بالإضافة إلى أنها أتت استجابة لأمر السلطان بإخماد الثورة الوهابية(74)، تخدم عددا من أهداف الباشا الخاصة، منها رغبته في التخلص من قوات المماليك والألبان المضطربة غير النظامية في جيشه (75)، والأمل في الحصول على سوريا كمكافأة على مساعدة السلطان في حربه ضد الوهابيين المتمردين (76)، ورغبته في اكتساب سمعة طيبة ومكانة في العالم الإسلامي لاستخلاصه لمدينتي
...more
بالإضافة إلى إدراكه أن الدولة العثمانية تتعفن ورغبته في ملء الفجوة التي ستنشأ عن اضمحلال أملاكها بالدخول في «توازن دبلوماسي دقيق بين إنجلترا وفرنسا بضرب كل منهما بالأخرى» (86) . أما الذرائع فكثيرة، وأهمها النزاع مع عبد الله باشا والي عكا الذي اتهمه محمد علي بإيواء حوالي ستة آلاف فلاح مصري فروا عبر الحدود إلى سوريا المجاورة هربا من الضرائب (87)
وحين تبين له أنه يحتاج إلى ما لا يقل عن ٢٠ ألف جمل، نظرا لتزايد طول خطوط إمداد جيشه تدريجيا في حربه ضد الوهابيين، وللإعداد للهجوم النهائي على الدرعية، عاصمة آل سعود، لم توفر له سوريا سوى ٣ آلاف جمل منها برغم وعود المساعدة المتكررة من والي دمشق.
بحجج من قبيل أن ضباط جيشه يتلقون رواتب أكبر من رواتب الضباط العثمانيين،
عام ١٨٢٨ ليساعده في مواجهة زحف الجيش الروسي على مولدافيا والقوقاز وشرقي الأناضول، رفض محمد علي أن يرسل قواته ما لم يمنحه السلطان ولاية الأناضول كمقابل(147)، وهو طلب يعرف تماما أنه لن يُقبل.
وأفصح إبراهيم صراحة عن اشمئزازه من عجز العثمانيين عن إمداد أسطولهم واعتمادهم بدلا من ذلك على الموارد المصرية، فكتب إلى أبيه قائلا: إنهم قليلو الحيلة وخائبون لدرجة أنهم يعجزون حتى عن تثبيت صواري فرقاطتهم... وسموكم تعرفون جيدا حجم الإمدادات التي كنت كريما في منحها لهم، وتعرف أيضا كمية الطعام التي أكلوها وطفحوها حين كانوا في الإسكندرية(152) .
[اطمينان ايله قوي القلب أو لملري الحلاشد يغنه ونصرت إلهيه إيسه سفاينك كثرتنه موقوف أو لميه رق مأمولرك بوكونه قوت قليلريله استدلال أولنه كلديكنه ومصلحت إيسه غايت تتكلى وتمام حق وباطلك تفريقي موسمي أولديغنه مبنى متوسلًا بنصر الله المعين حركت عزيمت ترغيبلري مناسب كورنمسندن نشأت ايتمش]».
واعتبرا وجود الأساطيل البريطانية والفرنسية والروسية المتحالفة خطيرا للغاية(165) . وقبل معركة نفارين البحرية التي خسر فيها محمد علي أغلبية أسطوله المحبوب كتب خطابا صريحا ويائسا للغاية إلى نجيب أفندي، مندوبه في إسطنبول، يتوقع فيه الكارثة ويقول إنه ليس مستعدا ولا راغبا في مواجهة القوى الأوربية. والخطاب من الطرافة والأهمية بحيث يستحق اقتباسه بالكامل.
في هذا الخطاب كان محمد علي من الذكاء بحيث أدرك أن الأوربيين لا يكذبون في تهديدهم، وفوق ذلك اتضح له أن نتيجة المواجهة خطيرة، بل وكان توقعه قريبا جدا من مدى الكارثة المروعة التي لحقت بالأسطول العثماني المصري المشترك في نفارين في ٢٠ أكتوبر ١٨٢٧ (167) . ففي أقل من ثلاث ساعات انتهى الأسطول العثماني بكامله ودُمرت أغلبية السفن المصرية، إما غرقا أو حرقا (168) . كان ذلك هو الأسطول الذي قطع محمد علي شوطا طويلا في شرائه وتحسينه، واعتاد أن يتباهى بامتلاكه قائلا إن العالم الإسلامي لم يشهد له نظيرا من قبل(169) . لم يُفقد هذا الأسطول بسبب إهمال محمد علي أو سوء قيادته، ولكن بسبب «رفض الباب العالي العنيد
...more
لمدة عامين بدأ محمد علي في إصلاح الدمار الذي عانى منه في هزيمة المورة المروعة استعدادا لأخذ ما لابد أنه أصبح يعتبره آنذاك حقه المشروع. (خلال هذه الفترة خاطبته فرنسا في القيام بحملة للاستيلاء على طرابلس وتونس والجزائر. إلا أن الباشا أدرك بعد بعض التدبر والكثير من المداولات الدبلوماسية أن الحملة أكثر تكلفة من أن تستحق التعرض للمخاطر التي تتضمنها، وأنها ستحوله عن الولايات التي يرغب فيها بشدة)(173). فبعد تحطم أسطوله في نفارين صمم الباشا على الحصول على أسطول جديد، ليس هذه المرة عن طريق الشراء ممن يقبل لطفا منه أن يبيع له السفن فقط، ولكن أيضا بمحاولة بناء أسطول لنفسه في مصر. ولهذا الهدف وفر لنفسه
...more
أما القسم الرابع والأخير فكان يتكون من عشرين إلى ثــلاثين ألــف رجــل، وهــم بقــايا جيـش حسين باشا، وقد جُمعوا حول قونية بقيادة رءوف باشا(206). وكان إبراهيم منتبها إلى هذه الاستعدادات من جانب العثمانيين، فضغط على والده ليسمح له بالتقدم شمالا ليتعامل مع تمركزات القوات هذه قبل أن تجتمع وتشكل جبهة رهيبة يكون التعامل معها أكثر صعوبة. وأخيرًا في أكتوبر أمر إبراهيم رجاله بالتحرك شمالا نحو مدينة قونية الإستراتيجية في قلب سهل الأناضول. وبعد ذلك بشهرين، في ١٢ ديسمبر ١٨٣٢، التقى الجيشان في السهل الواقع شمال المدينة. وخلال ساعات المعركة السبع نجح جيش إبراهيم في إنزال هزيمة ثقيلة بالعثمانيين بقيادة رشيد
...more
كان ذلك أوضح انتصار حققه إبراهيم حتى ذلك الحين: فقد العثمانيون ٩٢ مدفعا وقُتل منهم ثلاثة آلاف وأسر عشرة آلاف. والأهم من ذلك أن الجيش المصري أسر الصدر الأعظم ذاته، فاقتيد إلى إبراهيم باشا كأسير. أما من ناحية المصريين فقد خسروا ٢٦٢ قتيلا وجُرح ٥٣٠ منهم. وتجمعت بقايا الجيش العثماني في إسكي شهر، وقبل السلطان عندما عرف بنبأ الهزيمة معظم مطالب محمد علي. ووفقا لجريدة «تقويم وقايع» الرسمية التركية فإن السلطان «بعطفه وكرمه المعهودين قرر أن يرسل مبعوثين خصوصيين لوالي مصر لإيجاد سبيل لوقف إراقة دم رعاياه»(208).
صلح كوتاهية وعلى ذلك أرسل خليل باشا قائد الأسطول العثماني إلى الإسكندرية بعروض للسلام لعرضها على باشا مصر. وكان ذلك بداية مفاوضات طويلة شاقة انتهت بصلح كوتاهية الذي ووفق عليه في مايو ١٨٣٣. وفي هذا الصلح الذي تم بتوسط القوى الأوربية (روسيا وفرنسا أساسا)، منح السلطان واليه المتمرد كارها إيالات مصر والحجاز وكريت، وفوق ذلك مُنح إبراهيم إيالات عكا ودمشق وطرابلس وحلب، وأيضا، بعد تردد ملحوظ، منصب محصل (جامع ضرائب) أضنة(209). غير أنه من المهم أن نلاحظ هنا أن «صلح كوتاهية» لم يكن تسوية دائمة، فهو لم يكن معاهدة صلح وإنما كان اتفاقا بين محمود الثاني ومحمد علي لإنهاء حالة الحرب التي قامت بينهما لمدة
...more
مولد جيش: التجنيد والمقاومة في زيارة إلى سوق قروي في بني سويف عام ١٨٣٢ وصف رحالة إنجليزي مشهد الفلاحين الفقراء، رجالا ونساء، وهم يجلسون القرفصاء ويبيعون منتجاتهم المتواضعة مثل الجرار والقدور والأوعية والحُصُر، وفجأة: وسط هذه الأشياء لاحظنا عددا من ضباط الفرسان. وكأنما يُريدون أن يُشعروا الفلاحين بحقارة ملابسهم المتواضعة، ظهروا في بدلهم الفاخرة المبرقشة، على ظهور خيول مطهمة، يعدون بها فوق الأكوام العالية ويهبطون ثانية وهم يكبحون جماح خيولهم المندفعة بحيوية في منتصف القفزة. ويرتدي قائدهم عباءة قرمزية ورداء مطرزا وشالا ثمينا، مع حصان رائع وسيف معقوف، فبدا بشواربه المنمقة الشقراء المحمرة كما لو
...more
This highlight has been truncated due to consecutive passage length restrictions.
ما يقدَّم لنا أي تفسير لكيفية توصل تاجر الدخان هذا الذي يبدو أميا(234)، وبلا دراية، عاش في مدينة صغيرة شمالي بلاد اليونان، إلى إدراك أمور مثل علم الطب وانضباط القوات ونظام المدارس الحديث. ولذلك يبدو «مؤسس مصر الحديثة» شخصية شامخة أقرب إلى الأنبياء منها إلى المصلحين العثمانيين. كما يبدو فشله راجعا إلى ذلك الواقع المؤسف، الذي يتمثل في أنه كان يسبق عصره وأن شعبه لم يفهمه(235)
أصول فكرة الجيش النظامي لم يستطع أي إنسان عاش في مطلع القرن التاسع عشر أن يفلت من تأثير نابليون وجيوشه التي اجتاحت القارة الأوربية أو من الدمار والخراب الذي خلَّفته. ولابد أن محمد علي ذاته، باعتباره رجلا عسكريا يعيش على حافة هذه القارة، كان متلهفا على معرفة المزيد عن هذه الجيوش التي كانت حديث الساعة. وكان الباشا - والحق يقال - شديد الاحترام للإمبراطور، واعتاد متملقوه حتى في حياته على «إقناعه بأنه نابليون ثان»(238). كما أمر فيما بعد بترجمة سيرة عن نابليون إلى التركية وطبعها في مطابع بولاق الأميرية (239). وفوق ذلك أتيحت له الفرصة عندما نزل إلى بر مصر عام ١٨٠١ ليرى جيش بونابرت بنفسه. فبرغم أن
...more
اعتمد بشدة على المستشارين الفرنسيين في إدارة جيشه وتدريب جنوده. وعلى رأس هؤلاء المستشارين «الكولونيل» سيف Sève، المعروف بسليمان باشا، الذي عينه محمد علي عام ١٨٢٠ (242)، وأصبح فيما بعد الرجل الثاني في قيادة الجيش، لا يعلوه سوى إبراهيم باشا. كذلك فإن محمد علي حين أراد أن يقيم «نظاما قويا ومتماسكا يُدرب عليه جنود [ه]، قرر أن يطلب المساعدة من مسيو دروفيتي Drovetti، القنصل الفرنسي العام، الذي اقترح عليه اسم الجنرال بواييه Boyer، وهو ضابط فرنسي كان أحد ضباط حملة بونابرت على مصر(243). ووصل الجنرال بواييه إلى مصر في الوقت المحدد على رأس بعثة عسكرية كان مأمولا أن تتمكن من «تنظيم إدارة قوات [الباشا]
...more
كان على الباشا قبل أن يقوم بتدريب أية قوات على النمط الجديد الذي كان يفكر فيه أن يدعم وضعه الجديد كسيد لمصر. وتطلب ذلك التخلص من قوة المماليك الذين كانوا فعليا أمراء البلاد العسكريين لعدة قرون مضت. كان محمد علي يعلم تماما، مسترشدا بتجربة سليم الثالث المؤسفة في التعامل مع حرسه القديم الخاص (الإنكشارية)، أن أية محاولة لإدخال التكتيكات والتدريبات الحديثة سوف يقاومها المماليك باستماتة، لأنهم سيعتبرون هذه التقنيات العسكرية الجديدة، عن حق، محاولة لإلغاء النظام القديم الذي كانوا يحتكرون مزاياه لقرون مضت واستبداله بنظام جديد يعرض أوضاعهم المتميزة لتحدٍ خطير.
وإذا كان الألبان يُعتبرون شبه مرتزقة بالمقارنة بالقوة العثمانية الأكبر التي أتت بهم إلى مصر، إلا أنهم لم يكونوا قوة نظامية، فكانوا يثورون عادة ثورات صغيرة في شوارع القاهرة مطالبين برواتبهم أو بالعودة إلى بلادهم. كما أنهم احتفظوا ببنيتهم القبلية، ولذا لم تكن مكانة محمد علي تتجاوز في نظرهم مكانة «الأول بين أنداد»، وبالتالي رفضوا أية محاولة من جانبه لفرض الانضباط عليهم.
وفي النهاية كلفته قسوته وتهوره واندفاعه حياته في حادثة تراجيدية؛ حيث حُرق حيا خلال مأدبة تظاهر نمر، ملك شندي، بإقامتها على شرفه، ليثأر من إسماعيل الذي كان قد أهانه قبل ذلك بصفعه على وجهه(278) . غير أن المشكلة الرئيسية التي واجهها الجيش لم تكن قيادة إسماعيل، على سوئها، بل كانت تأمين نقل العبيد الذين جُمعوا إلى مصر. كان العدد الإجمالي للشحنة الأولى من هذه الكائنات التعسة ١٩٠٠ رجل وامرأة وطفل، وصلوا إلى إسنا في أغسطس ١٨٢١، واختير منهم من يصلح للخدمة العسكرية، وبيع الباقون في أسواق العبيد في القاهرة(279)، وفيما بعد أرسل هؤلاء العبيد إلى أسوان، حيث بُنيت لهم خصيصا ثكنات لاستقبالهم(280) . غير أن
...more
وقد اتضح قبل ذلك أن الجيش الذي أرسل إلى السودان كان أكبر من عدد العبيد الأسرى، الأمر الذي أحبط الهدف الأساسي للحملة، ولذا تقرر أنه لابد من جمع ٣ آلاف عبد مقابل كل ألف رجل أرسل في الحملة(286). ولكن حتى هذا المبدأ لم يعد له معنى، لأن الذين جُمعوا كانوا في حالة صحية سيئة للغاية وكانوا يموتون «كما تموت الخراف المصابة بوباء العفن»(287). فكتب محمد علي، بعدما تمكن منه اليأس، إلى بوغوص بك، مستشاره الأرمني للشئون الخارجية، يأمره باستئجار عدد من الأطباء الأمريكيين ليعالجوا العبيد. أما تفضيلهم على الأطباء الأوربيين فيرجع إلى خبرتهم في علاج «هذه الطائفة»(288) .
تجنيد المصريين اتضح للباشا سريعا أن خطته في تكوين جيش من السودانيين تسير على نحو بالغ السوء. فمثلا حين علم أنه من بين ٢٤٠٠ عبد وصلوا إلى أسوان لن يُرسل سوى ١٢٤٥ إلى القاهرة قال: «يا للهول! هل بذلنا كل هذا الجهد في جلب هؤلاء العبيد بصحة جيدة وقادرين على العمل من مناطق بعيدة لا لشيء إلا لكي يموتوا بيننا وأمام أعيننا!»(289). ولأن المصائب لا تأتي فرادى، لم يتكيف الجنود الأتراك والألبان الذين أرسلوا إلى السودان بدورهم مع الجو، ففتكت بهم الدوسنتاريا وأمراض أخرى(290). كذلك بدأت القوات تتذمر وتطالب بالعودة إلى مصر. كانت هذه هي اللحظة التي فكر فيها الباشا لأول مرة في تجنيد سكان مصر المحليين، بغرض إزاحة
...more
حتى ذلك الوقت كان معظم الجنود من العبيد المجلوبين من السودان. وقد أرسل هؤلاء العبيد السودانيين مع العدد المحدود من الفلاحين المصريين الذين جُندوا إلى معسكر التدريب في أسوان بقيادة محمد بك لاظ أوغلي، كتخدا (نائب) الباشا المؤتمن(293)
وكانت أية محاولة لجمع المزيد من الفلاحين المصريين تحمل معها خطر نزع عدد معتبر من العاملين من القطاع الزراعي(306)، يضاف إلى ذلك أن الفلاحين المصريين لم يألفوا الخدمة العسكرية وكانوا ممنوعين قانونا في العهد العثماني من حمل السلاح(307). ومع ذلك لم يكن أمام الباشا خيار آخر وقرر أن يجرب. وقد أشار في خطاب صريح إلى إبراهيم إلى المشكلات التي قد تواجهه إذا قرر أن يجند المزيد من الفلاحين؛ فقال إنه بالرغم من أن الحكومات الأوربية تجند فلاحيها، فإن: أهل مصر ليسوا معتادين على الخدمة العسكرية مثل أهل أوربا، كما أن حكومتنا ليست قوية كحكوماتهم. ولما كان الأمر كذلك، فإن علينا أن نكيف احتياجاتنا لتتفق مع قدراتنا
...more
وفي نوفمبر ١٨٢٣، وبينما كان الباشا ينتظر وصول أنباء عن هذه القوات، انتقل إلى بني عدي ليشرف على عملية التدريب بنفسه، ودعا القنصلين العامَّين البريطاني والفرنسي لاصطحابه إلى المعسكر(314). وكانت النتيجة أكثر من مُرضية، حيث أدت القوات استعراضا مبهرًا، كان الباشا سعيدًا برؤيته بلاشك. وفوق ذلك لقي أداء القوات إعجاب القنصلين؛ فقال دروفيتي، القنصل الفرنسي العام، إنها «حققت درجة من الدقة تشرِّف الضباط الفرنسيين المسئولين عن تدريبها»(315). وكتب صولت، القنصل الإنجليزي العام: «فخر واحتفال بالحرب المجيدة يقام يوما بعد يوم»، وأضاف: إن الباشا «أقام استعراضا ضخما، وقامت أربعة آلايات بالتدريب في السهل [الواقع
...more
وفي أثناء وجوده في منفلوط وصلت أنباء النصر الكبير الذي حققته القوات الجديدة على الوهابيين المتمردين في العسير: فقد نجح تشكيل لا يتجاوز ٢٥٠٠ جندي مشاة مصري في إلحاق الهزيمة بقوة وهابية تبلغ عشرة أضعافه(319). واتضح أن عدم اكتمال تدريب القوات لا يهم كثيرا، فحتى الوهابيون الشرسون لا يضارعونهم.
وفي الشهر التالي، أي في أبريل ١٨٢٤، أتيحت للقوات الجديدة فرصة ثالثة لتُظهر مدى ولائها وانضباطها وإمكانية الاعتماد عليها. فقد نشبت انتفاضة كبيرة في الصعيد ضد سياسات الباشا في التجنيد والضرائب، وشارك أكثر من ٣٠ ألف رجل وامرأة في التمرد الذي قاده شيخ يدعى رضوان، ادعى أنه المهدي المنتظر وأعلن كفر محمد علي. وزحف السكان المحليون على مقرات حكم الحكام المحليين عدة مرات وأَسروهم(322). واتضح أن التمرد بالغ الخطورة، وبدأ يمتد إلى المديريات المجاورة في مصر الوسطى التي كان التجنيد قد طُبق عليها بالفعل في نفس العام. وقد حاولت السلطات أن تُخمد التمرد بمختلف وسائل التهديد والإرهاب(323)، وحين ثبت عدم تأثير هذه
...more
This highlight has been truncated due to consecutive passage length restrictions.
حقيقة أن التجنيد والمؤسسة العسكرية بصفة عامة قد غيرا بعنف طبيعة الحكومة في القاهرة بإدخال تقنيات جديدة في التحكم والمراقبة لم تسبق تجربتها في مصر.
نظرا لأن الفلاحين ليسوا معتادين على الخدمة العسكرية، فيجب ألا يُسحبوا إلى الجيش بالقوة. فعلينا أن نرغبهم فيه... ويمكن تحقيق ذلك بتعيين بعض الوعاظ والفقهاء الذين يجب أن يقنعوا الفلاحين بأنها [الخدمة العسكرية] ليست كالسخرة... ونستطيع بالمقابل أن نذكرهم بأن الفرنسيين استطاعوا بسهولة [حين كانوا في مصر] أن يجمعوا الأقباط للخدمة في جيشهم بسبب تلهفهم على خدمة عقيدتهم. فإذا كان هذا حال القبط، فلا شك في أن حال المسلمين سيكونون أفضل، فقلوبهم تمتلئ بالتقوى والحماس للدفاع عن الدين (334)

