Hanan Farhat's Blog, page 8

October 2, 2017

إسمي زينب

إسمي زينب.

كنت عائدة مع صديقة لي من التسوق. كالعادة، كنتُ أحدثها عمّا أعجبني في أحد المحلات، بيدي اليمين ألوّح لها وأشير من مقعدي جانب سائق الباص إليها حيث تجلس في الصف الأول خلفه. كانت كلماتي الممثلة بحركات أصابعي المتتابعة تتدفق غزيرة، تسمعها هي ولا يفقهها الآخرون.

كنت أجلس مطلّة على الركاب جميعهم، لا بقصد لفت الانتباه، بل لأرشد السائق إلى وجهتي حين أصل كي لا أواجه صعوبة في إيقافه في الوقت المناسب. وكانت هي قبالتي، تواجهني أنا.

كانت نظرات العسكري الأول، والثاني، ومن يليه تأكل أصابعي من بعيد. وكان لسان السيدة الجالسة بجانب صديقتي يصدح بكوني كثيرة الكلام، مزعجة الآذان. ضحكَتْ، وضحكوا. مع أن صوتي لم يتعدّ حدود اليد، ولم يطرق أسماع أحد، إلا أن نصيبه من المزاح ونظرات الجميع لم يفُته.

خلف صديقتي تجلس ثلاث فتيات، لم ألحظهن منذ ركوبنا حتى مرحلة متأخرة. لم يضحكن مع الرّكب، ولكنهن لم يستطعن إخفاء دهشتهن. قبل أن أنزل بقليل، همست واحدة منهن للأخرى ببعض الكلمات التي لم أفهم لعدم تحريكها شفاهها بشكل واضح. كان جلياً أنهن يتناقشن بشيء مهم، لكن الأمر لا يخصني بكل الأحوال..!

هكذا حدثت نفسي، حتى أطلّت تلك الجالسة أقصى الشمال مادة ذراعها من الخلف مناولة إياي هاتفها.
أخذته ظناً مني أنها تريد وصله بالشاحن، وقد هممت بإخبارها ألّا شاحن لدى السائق حين تنبّهت إلى كونها كتبت شيئاً لي.

قالت:

"أنا حنان.
هل من الممكن أن أتواصل معك إن كان لديك هاتف؟"

رفعت رأسي مذهولة، إسمي ليس حنان. إسمي زينب.
هزت رأسها نافيةً، ثمّ استعادت الهاتف وكتبت:

"إسمي حنان، ما اسمك؟
هل نستطيع أن نصبح أصدقاء؟"

نظرت إليها فوجدتها تؤكد مشيرة إلى نفسها:
"أنا حنان".

كتبت لها رقم هاتفي ثم انصرفت عنها لصديقتي. أخبرتها أن هذه الفتاة تقول إن اسمها حنان وترغب بالتواصل معي. استغربت هي الأخرى وخمّنت أنها قد تكون راغبة في تقديم نوع من المساعدة.. أو قد تكون معنية بشؤون ذوي الاحتياجات الخاصة ولديها عرض ما لنا، ووافقتها الرأي.

عدت إلى المنزل ذاك اليوم، وقبل أن أنام، فكرت ملياً في أمر حنان. ترى هل ستكلمني أم إنها ممن يتبجحون في العلن ثم يختفون؟ هل تكون يد عونٍ؟ أنا لست بحاجة إليها في كل الأحوال، مردود عملي يكفيني، وكلماتي الشبه مفهومة تفي بالغرض. والصوت المبهم الذي يبثه جهاز السمع خير من لا شيء. لا يعني ذلك أنني لا أتمنى لو كنت أسمع بشكل أفضل.. كنت سأدرس بفعالية أكثر من مجرد تعلم الكتابة وقراءة الشفاه في مدرسة خاصة بذوي الاحتياجات الخاصة.
صحيح. أمضيت هناك ست سنوات، عُرفتُ فيها بالخرس. هناك نصنف أنفسنا بوضوح. كلنا أصدقاء، مميزون بنقصنا عن البقية ممن هم خارج حدود المركز. لا يعيب أحدنا أن يكون من غير حاسة أو اثنتين، ولا ينقص أحداً منا طيبة القلب ونقاؤه.

انتظرت اتصالاً من حنان، على مدار أسبوع أو اثنين. انتظرتها حتى نسيتها. لم تتصل، ولم يكن معي رقمها حتى يدفعني الفضول لأكلمها. كنت أفكر أنني سأهرع إلى أمي أناولها الهاتف حين تتصل، كي تقدر على فهم مبتغاها. لكنني حين يئست، وصلتني رسالة عبر تطبيق واتساب من رقم غريب.

إنها حنان.

لم تسعني الفرحة.
كنت مأخوذة بفكرة أنها اختارت الكتابة بدل الكلام. لكن جملة بعد أخرى، بدأت أحس بأنني لا أفهم ما تكتب أو ما تقصد.
أخبرتني عن عنوانها، وأنها ترغب بالتواصل معي. ذكرت شيئاً عن الكتابة، وعن مشروع يظهر حياة الصم والبكم على حقيقتها، مشيدة بقوة شخصيتي التي ظهرت في الباص سابقاً. قالت إنني الشخص الأنسب للكتابة عنه، واستأذنتني في ذلك.

توقفت عن الرد لبرهة.
تنفست، تنهدت.
لم تكن تريد أن تساعدني.. بل أن أساعدها.
قلت لا بأس.
لأرَ ما قد يلي ذلك.
بدأت تسألني عن حياتي، كيف بدأت بفهم مشكلتي،  كيف كنت أتواصل مع من حولي، من كان يضايقني... كيف تعلمت أن أكتب، ماذا عن أصدقائي، منبع جرأتي؟
ضحكت بيني وبين نفسي.
قلت لها أنا لست قوية كما تظنين. بل إنني هشّة حدّ البكاء إن ما صادفتُ مهب الريح.

لكنك كنت تدبرين أمرك بشكل رائع في الباص، قاطعتني.

لا تعلم أنني أكون قوية في حضور من يحتاجني، كصديقتي، لكنني أضعُف عند الوحدة. كيف أشرح لها أنني أخجل حين ينتصف بي النهار  ويطول الطريق! أجزع عندما أحس بالكلمات تخرج مني دون أن أدري هل أصابت سهامها أم لا.. وتضيق أنفاسي حين أحاول إيصال معلومة أو فكرة عبثاً!
كيف أخبرها أن قواميس العالم لا تستطيع شرح نقص..!

تقول: كلنا ناقصون. أنت نقصك واضح، ولذلك أنت محظوظة، ودليل ذلك حمدك لله  بين كل كلمة وأختها. وأما المساكين فمن لا يدركون نقصهم، ويتملكهم الكِبر، ويتلبّسهم الغرور.

تظن نفسها في عالم مثالي. أدرك أنها تحاول مساعدتي بكلماتها تلك. أو مجرد جعلي أستمر في الحديث. لكنها لن تعي حقاً ما أشعر به من مجرد إجابات مقتضبة أتحكم بأطوالها وأنا منزوية بمفردي في السرير.

قررت أن أتوقف عند ذاك الحد.

لا أريد أن أنكشف للعالم،  فليبقَ ناقصاً قصَتي، ولأبقَ مع نقصي، ولتجد هي شخصاً آخر تبني عليه قصتها.

أريد أن أنام، أنا مريضة ولدي عمل غداً، قلت لها.

تصبحين على خير، نبقى على تواصل، قالت.

ولم أردّ.
لم أرِد أن أعدها بشيء قد لا يحصل.

حنان فرحات | ٢.١٧

 •  0 comments  •  flag
Share on Twitter
Published on October 02, 2017 12:41

August 16, 2017

قرار مَلَكيّ

"لم تَعد هناك حاجة للحراس. وبدل الاستنفار العام، قرر الملك ان كل الموظفين في حِلٍّ من وظائفهم وأعطاهم إجازة مفتوحة. مفتوحة بقدر أربع وعشرين ساعة فقط.. إذ إن إشعارات المركز الفلكي واضحة: سيضرب نيزك الكوكب منتصف الليلة القادمة ولا تدابير يمكنها إنقاذ أكثر من خمسة من الآدميين.
نظر سامي من النافذة فوجد الشوارع فارغة. شغل التلفاز فوجد فلماً وثائقيا عن الفيلة يغطي أسفل صورته شريط يعلن توقف القنوات عن البث المباشر لتفرّغ المذيعين والمنتجين والمصورين والمدراء وكافة العاملين لحياتهم الخاصة.
عاد إلى النافذة عله يرى جاره الحشري فيدعوه إلى فنجان قهوة، لكن الجار كان قد اختفى.

توجه إلى سريره ليرتبه، ثم فكر بأنه لا جدوى من ذلك بعد الآن.. فهو لن يحتاجه من بعد منتصف ليلة غد.

ذهب إلى الحمام يغسل وجهه، فأزعجه منظر علبة معجون الأسنان الممتلئة حيث إنه لم يستفد منها مع أنه أخر موعد عودته مساء إلى المنزل منذ يومين بسببها.

توجه إلى المطبخ وفتح الثلاجة.. أيقن عندها أنه يستطيع أن يأكل أي شيء دون ان يحتسب السعرات الحرارية ذلك أنه لن يعيش حتى يحمل همها، لكنه لم يحس برغبة في تناول أي شيء...

قرر أن عليه الخروج والاستفادة من كل قرش جناه من قبل. فكر ملياً، لا يمكنه الذهاب الى المكتبة لأن عامل المكتبة سيكون في منزله.. ولا الى مدينة الملاهي في عز الظهيرة.. ولا إلى الدكاكين التي تركت مشرعة الأبواب حيث لن يكون لها في اليوم التالي حاجة..

رمق أزهاره بطرف عينه حيث لن تُجديَ سقايته لها الآن في المرة الوحيدة التي وجد فيها وقتاً لذلك. وبعد الإمعان في التفكير، قرر أن يجلس عند عتبة منزله حتى تحين ساعة الصفر. لم يطل انتظاره طويلاً، حين بدأت السماء تُظلم.

يبدو أن الملك لمرة واحدة في عمره قد احسن صنعاً بتأخير إصدار القرار. "

حزيران 2017
حنان فرحات
 •  0 comments  •  flag
Share on Twitter
Published on August 16, 2017 07:14

علامة استفهام

في المرة الماضية قلتَ لي إنك متشوق لقراءة هذا الكتاب. واليوم أكمل عنك المهمة. 
تبدو مهمة شاقة أن تمسك قلم شخص يكمن جل شغفه بالقراءة في رسم خطوط تحت الجمل التي يحب، ودوائر حول الأفكار التي تلفت انتباهه، في حين لا أقوى على طيّ زاوية الصفحة لترك علامة حيث بالقراءة وصلتُ.
قرأتُ المقدمة، ثم الإهداء. هل كان سيعجبك أن يكون الكلام موجهاً لأنثى؟ إن كان ذا، فلتشتعل فيَّ نار الغيرة من قارئة تتخيلها أنت، ولأغلق دفة الكتاب بعنف ولا أعودَ إليه.. أم كنت ستقول إن أحداً لا يكتب لأنثى إلا حين تتقطع به سبل الكلام فيكون جباناً أخرساً لا حيلة له إلا غير المنطوق فيُثبت فوق كلماته بعضاً من روحه ويغلق عليها الصفحات تباعاً حتى تُكوى فتعود من غير ندبات؟ 
كتبتُ علامة استفهام إلى جانبه لأعود، أليس هذا ما كنت ستفعله؟ أن تمنح لأفكارك المتلاطمة فرصة أخرى علّها تصلُ واضحةً نقية؟ السطر الأول كان مشبعاً بالقليل من كل شيء. كلمات قليلة كانت لتجعلك تلتفت إلي وتقول: "يا سلمى، صُحبة هذا الكتاب تنقصها جرعة من الكافيين"، فتحس برائحة الشوكولا الساخن تنسلّ إلى منخريك قبل أن يصل إلى ناظريك. تعلم أنني فهمت أنك تريد القهوة، وأعلم أنك ترضخ لخياري طالما أن الهدف نُفِّذ "حرفياً". 
ماذا عني الآن؟ أأطلب من نفسي فنجان قهوة أم أبدل طلبك إلى الكاكاو، وكلاهما أصله حبّة داكنة تنحدر منها مرارةٌ كَبُعدِك؟ ما علينا.. المهم الآن أنني سأكمل تنفيذ الوصية.. السطر الثالث مَرّ كالثاني، ابتلاعاً من غير مضغ. والرابع والخامس تبخّرا في مخيلتي، فأصبحت الكلمات من بعدهما أفكاراً تخلع رداء الحرف وتطفو على وجه الصفحات.. كان صعباً على قلم لم يعتد على غير صاحبه أن يقيّد كلمات تُقرأ من قِبَل آخر.. فكان الحلّ أن ترتفع أناملي إلى زاوية الصفحة، وبغصّة من يلجأ لأهون الأمرّين وألطف النّارَين، أقدمتُ على طي طرفها، حتى، إن كنتُ أقدمت على الخيانة بوقف تنفيذ الوصية، أن أقوم بها على الوجه الذي ترتئيه.. أنت.

حنان فرحات || حزيران 2017
 •  0 comments  •  flag
Share on Twitter
Published on August 16, 2017 07:11

August 9, 2017

بيت أبي


كنت جالسة إلى جانبها، أفكّر في يوم زرنا قريتها وأشارت إلى منزل على تلّة قائلة: هذا كان بيت أبي.

بيت أبيك؟ هكذا ببساطة؟ هل تجد الواحدة أعزّ عليها من بيت أبيها؟ البيت الذي يجمع الأشقاء حول "قرص جبن" و"طاسة زيت وزعتر" وحبات زيتون؟ أهو البيت ذاته التي وصفتِ لي كيف كان يتربع والدك فيه ويناديكم بصوتٍ كأنه أصوات عدة لتجلسوا في حلقة مغلقة تُحاصر أطباق الغداء؟ يقول : سمّوا بالله وإلا يُشاركنا الشيطان. كنتم كثرةً، ولا متّسع للشيطان كي يطلّ برأسه من بين أكتافكم، ولا وقت كافٍ كي يفتح ثغره قبل أن تنهوا الطعام.

قلتُ:
أمجنونة؟ كيف كان لك أن تتركي قريتك، وبيت والدك، وأشقاءك؟
أكان يكفي أن يكون الزوج عذراً؟
ألم تفكري أن الطريق الطويلة تلك لن تَذْرعها السيارات قبل ثلاثين سنة على أقل تقدير؟ كيف كانت تكفيك زيارة تقصدينهم فيها على ظهر الحمار لتعودي عند الغروب فتغسلي وتطبخي وتنظفي ما خَلّفت فلذات الأكباد؟
كيف تمرّين بهذه السهولة أمام كومة من ذكريات كأنها معلّقة أمامك بخيط يتدلى من السماء، لا أنتِ تطالينها ولا هي ترأف بك فتغيب؟

قلتِ:
يا حبيبة، بادئ الأمر يكون العشّ جدّاكِ. ثم يعِزّ عليك فراق بيت الأب، وبعدها يعِزّ على أولادك فراق بيتك، ثمّ يغدو في لمحةٍ حضنُكِ سَكَناً للأحفاد.
البيت ليس كومة حجارة، مهما أحببت تراصفها، والكحل بين حوافّها، والحلو والمرّ أمامها ومن خلفها وبين جنباتها.
البيتُ أرواح تألفينها، وأعمارٌ تمرّ أمامك فتذكرينها أو تنسينها، وأطياف تبقى معك، في قلبك، أينما اتّجهتِ وارتحلتِ.

سكتت الدمعة في عينها، ووقف الكلام عندما أمسكت يدي فجأة. قالت بصوت مبحوح: كفّكِ بارد، اقتربي من المدفأة.

_____
حديث مع جدتي أم جمال رحمها الله، أطال المكوث فيّ وآن له أن يخرج ❤
_____
حنان فرحات  |  ٢.١٧

 •  0 comments  •  flag
Share on Twitter
Published on August 09, 2017 12:20

July 6, 2017

ذاتَ باصٍ



درجة الحرارة تدّعي أنها تلامس الأربعين، لكن مقاعد الباصات الجلدية تقول غير ذلك. يحدث أن تكون المقاعد في الباص الذي ستستقلّه إلى وجهتك مغطاةً بقماش منتوف لم تبقَ قطعة منه دون قطع أو ترقيع. ثم حين يُقبِل الصيف، تتحول مقاعد الباصات كلها من القماش إلى الجلد حتى تضمن تمتّعك بالدفء. يتباهى سائق الفان الذي أستقلّه اليوم وهو يشير إلى السقف المطرز والمقاعد الفاخرة بأن عملية تنجيد الباص كلّفته خمسة آلاف دولار، و "لن تجد مثله في كل ساحة شتورة". 
نسمة الهواء تمازحك بأن تمرّ من جانب النّافذة المفتوحة ولا تسلمَ عليك. والباص الذي تنتظر فيه اكتمال عدد الرّكاب لينطلق، يقلّ ركابه بدل أن يزيدوا. تستنتج عندها أن غالبية الركاب هم سائقو باصاتٍ ينتظرون دورهم لنقل الركاب. يستذكر أحد السائقين مثل هذه الأيام من العام الماضي، حين كان مسجوناً بتهمة التهريب. يقول: "قال لي الضابط يومها، يا ظالم! تسع وستون مرةً واحدة! إيتِ بهم اثنين اثنين! أين سأضعكم كلكم الآن!" فيردّ عليه سائق من الناحية الأخرى: "أنا حُبست بخمسة عشر". يضحك ثم يتابع، "قضيت اليوم الأول، ثم في اليوم الثاني أحضَروا هذا -يشير إلى السائق الآخر-، وحين خرجنا إلى الباحة ندخّن وإذا بكلّ سائقي شتورة هناك". يعقّب الآخر على كلامه ضاحكاً: "دخلت السجن بعده وخرجت قبله". 
يسترسل السائق يروي التفاصيل دون أن يسأله عنها أحد. "علّقوني، قدماي في الأعلى ورأسي في الأسفل. ضُربت أكثر مما تتصور"، يضحك، "قلتُ للضابط انقلوني إلى مركز آخر، فأجابني: هل تظن أن الأمر يعود إليك؟". يسأله أحد كيف خرج، فيتابع:" قضيت فترة حكمي، ثلاثة أشهر وتسع عشرة يوماً، ودفعت خمسة ملايين ليرة. كنت من قبل قد سُجنتُ ثلاثة أشهر، مع أن حكمي كان خمس عشرة يوماً فقط حينها. في رصيدي الآن شهران وخمس عشرة يوماً، لكن المحامي قال لي أن أتركهم، لربّما احتجت إليهم في يومٍ ما!".
في جانبٍ آخر يقف بائع الساعات الأنتيكة الملوّنة. يمسح الغبار عنها يوماً، ثم ينساه عليها أياماً بينما يلفّ على نفسه حزاماً يربط به الحقيبة التي تكتظ فيها الألوان والنّوعيات. يحلف لك بأنّها من النوعية الممتازة، ويرجوك أن تشتري واحدة لتجرّبها، فيحلف له سائقٌ أنّه كان يشتريهم من قبل، الواحدةُ بعشرين سنتاً، ثمّ يبيعهم بالجملة. يصبح سعر الواحدة ألفاً ومئتين وخمسين ليرة على البائع الجوّال الذي لا يجب أن يبيعها بأكثر من دولار أمريكي. يرحل الرجل بعد أن بخّس السائق بضاعته، وينادي عليها في ناحية أخرى. 
سيدةٌ لا تختلف في هيئتها عن الشحاذين المنتشرين في ساحات تجمّع باصات النقل العمومي، فعباءتها المزركشة وشالها المرميّ على رأسها بملل كأنّه مفتاح الفرج أصبح أشبه بالزي الرسمي للشحاذة. تمدّ يدها إليك، وترفع الأخرى، إن لم يكن عليها رضيع تشحذ باسمه، جهةَ السماء تدعو لك إن كنت شائب الشعر بأن يحفظ الله لك عائلتك، وإن كنتَ مع حقيبة تدلّ على خروجك من وعكةِ اختبارات فتدعو لك بالتوفيق في دراستك، وإن كنتَ بين هذا وذاك، قد ترفع اليد الأخرى حثّاً في الطلب من الله أن يرزقك بابنة الحلال. وعلى هذا قِسْ وزِدْ. 
بينما أنتَ غارقٌ في العرض المسرحي الذي يمرّ من أمامك بعد أن تدفع تذكرة الدخول ساعةً من عُمرِك وحفنة من صبرك ودولارين، يُطِلُّ صبيٌّ صغير من النافذة يعرض عليك أن تشاركه البطاطا المقلية التي يبدو أنه حظيَ بها بعد جهد شِحاذةٍ أو بِسخاء أحد أصحاب المطاعم القريبة. تشكره وتبتسم للُطفِه، وتنتبه إلى السائق يدوس برِجلِه على دعسة البنزين تمهيداً للانطلاق فتتهلّل أسارير وجهك، قبل أن تُدرِك أنّ تلك الحركة كانت للتمويه :)حنان فرحات |2017
1 like ·   •  0 comments  •  flag
Share on Twitter
Published on July 06, 2017 06:02

June 25, 2017

كاكاو

في المرة الماضية قلتَ لي إنك متشوق لقراءة هذا الكتاب. واليوم أكمل عنك المهمة.

تبدو مهمة شاقة أن تمسك قلم شخص يكمن جل شغفه بالقراءة في رسم خطوط تحت الجمل التي يحب، ودوائر حول الأفكار التي تلفت انتباهه، في حين لا أقوى على طيّ زاوية الصفحة لترك علامة حيث بالقراءة وصلتُ.

قرأتُ المقدمة، ثم الإهداء. هل كان سيعجبك أن يكون الكلام موجهاً لأنثى؟ إن كان ذا، فلتشتعل فيَّ نار الغيرة من قارئة تتخيلها أنت، ولأغلق دفة الكتاب بعنف ولا أعودَ إليه.. أم كنت ستقول إن أحداً لا يكتب لأنثى إلا حين تتقطع به سبل الكلام فيكون جباناً أخرساً لا حيلة له إلا غير المنطوق فيُثبت فوق كلماته بعضاً من روحه ويغلق عليها الصفحات تباعاً حتى تُكوى فتعود من غير ندبات؟

كتبتُ علامة استفهام إلى جانبه لأعود، أليس هذا كان كنت تفعله؟ أن تمنح لأفكارك المتلاطمة فرصة أخرى علّها تصلُ واضحةً نقية؟

السطر الأول كان مشبعاً بالقليل من كل شيء. كلمات قليلة كانت لتجعلك تلتفت إلي وتقول: "يا سلمى، صُحبة هذا الكتاب تنقصها جرعة من الكافيين"، فتحس برائحة الشوكولا الساخن تنسلّ إلى منخريك قبل أن يصل إلى ناظريك. تعلم أنني فهمت أنك تريد القهوة، وأعلم أنك ترضخ لخياري طالما أن الهدف نُفِّذ "حرفياً".
ماذا عني الآن؟ أأطلب من نفسي فنجان قهوة أم أبدل طلبك إلى الكاكاو، وكلاهما أصله حبّة داكنة تنحدر منها مرارةٌ كَبُعدِك؟

ما علينا.. المهم الآن أنني سأكمل تنفيذ الوصية.. السطر الثالث مَرّ كالثاني، ابتلاعاً من غير مضغ. والرابع والخامس تبخّرا في مخيلتي، فأصبحت الكلمات من بعدهما أفكاراً تخلع رداء الحرف وتطفو على وجه الصفحات.. كان صعباً على قلم لم يعتد على غير صاحبه أن يقيّد كلمات تُقرأ من قِبَل آخر.. فكان الحلّ أن ترتفع أناملي إلى زاوية الصفحة،  وبغصّة من يلجأ لأهون الأمرّين وألطف النّارَين، أقدمتُ على طي طرفها، حتى، إن كنتُ أقدمت على الخيانة بوقف تنفيذ الوصية، أن أقوم بها على الوجه الذي ترتئيه.. أنت.

 •  0 comments  •  flag
Share on Twitter
Published on June 25, 2017 09:02

June 6, 2017

العائد

لقد عدتُ من الحرب، لكنني لم أجدك.

أعلم جيداً ما الذي يمكن أن يكون قد أبعدك.. لكنني أحتار فيما أتمنى أن يكون السبب.

أذكر بوضوح ملامحك قبل أن أغادر، بينما أفعل.. كنت تريدين أن تقولي:"لا ترحل"، وكنت أريد ان أقول:"ابقِ". لكن كلانا تواطأ مع الرحيل.

ذهبتُ إلى الجبهة التي ظننتها حُلوةً دفاعاً عن الوطن، لكنني وجدتُ أن الوطن يحتاج أكثر من ذلك بكثير. وظننت بخروجي أنني أثبّتك كالوَتَد في أرضه، لا يتزحزح مهما عصفت به النّوائب، لكن ما كنتُ إلا مشكاة للرحيل.

عدتُ وأنا أفكر إن كنت سأجد جدار منزلكم واقفاً كي ألوّح لك بيدي حين تطلين من نافذته. قلتُ جدارٌ واحد يكفي.. لكنني عدت ووجدت بيتك كله، من دونك. كان جدار منزلنا متّكئاً على سور باحَتكم، وكأنّي به يئنّ. وكانت غرفة معيشتنا مفتوحة بفِعلِ قذيفة على الهواء الطلق. وكان منزلكم صامداً متكاتفةً أوصاله.

ذكرت كلام أمك، "البيت بيتكم" كانت تقول، فدخلت.
كانت رائحة غيابكم تملأ المكان. نظرت إلى صورتك على الحائط يوم تخرجك من الثانوية.. كنتِ قلتِ أن أمك ستستبدلها بصورة زفافنا حين نتزوج. على ذكر الزواج،  أتُراك تزوجت؟

أعلم أن الغربة قاسية، وأن العزوبية تزيد من همّك على والديك.. لا تقلقي.. أعلم أن أهلك يحملونك في أعينهم إن اقتضى الأمر، لكنني أفهم جيداً كيف تفكرين.. وأعلم أنك لم تكوني لتفقدي الأمل بعودتي، لكن سرعة الإخلاء لم تسمح لك بالتمرد والعصيان. وأعلم أنك أخذت أوراقك كما نبّهتك أن تفعلي إن حصل واضطررت إلى الذهاب.. وأعلم أنك مزقتِ ورقةً بعينها قبل أن تقفي أمام المأذون.

لا تقلقي، أسامحك.. سامحتك وأسامحك.
أنا لم أعد أصلاً، رسالة مني فعلت لكنها لم تجد أحداً ليقرأها.. فوقفت عند قبري وباشرت العويل.

حنان فرحات
2017

 •  0 comments  •  flag
Share on Twitter
Published on June 06, 2017 17:49

May 21, 2017

سِقاية

فتحت أوراقي اليوم لتستقبل أشعة الشمس، ونهلت من هواء الصباح فيما أشدّ أذرعي لتطول بمقدار لن يكتشفه أحد اليوم تحديداً، لكنه سيزيد من رصيدي لدى صاحبة المنزل مع الوقت. تربتي جافّة قليلاً، أبسط جذوري نزولاً لعلّها تصل إلى قطرة ماء أو اثنتين حين تطل "جورية" من باب المنزل بعينين نصف مغلقتين.. أو لأكن إيجابية، نصف مفتوحتين.

تتوجه إلى صنبور يقف على الحائط يساراً منذ جئت إلى هذه الحديقة، وتشدّه بيدٍ تفتحه فيما ترفع يدها الأخرى لتغطي تثاؤبها.

أضحك في سرّي وأنا أسمع أختي المغروسة بجانبي تدعو الله أن تبدأ "جورية" بالسقاية من الحوض الذي نصطف فيه بدلاً من الحوض المقابل، لكن أنبوب الماء توجه إلى حيث ابنة عمي في الجهة المقابلة قبل أن يصل الدعاء إلى السماء.

في كل صباح،  أو لنقل في الصباحات الجميلة، تخرج جورية لسقايتنا. لكن يوم تخرج بنتها، لوز، يكون فعلاً يومَ السعد! كأن هذه الفتاة تدرك أنني أحتاج للمياه على أوراقي وأغصاني بمقدار ما تحتاجها جذوري! حين تقف قبالتي، ترى في أشواكي كما في زهراتي عطشاً للاغتسال قبل أن ترتفع الشمس فنستتبع جلسة "كَسْبِ اللون"، وتنصرفَ هي إلى أشغالها.

حين وصل أنبوب المياه إليّ، فُتح شباك غرفة لوز. أعرف أنها غرفتها لأنها كانت تطل منه صباحاً لتتفقد إن كانت حافلة المدرسة قد وصلت أو بعد. لحظات وأخرجت رأسها منه ثم نادت أمها لتتناول الفول مع باقي العائلة. ظننت أن الأنبوب سيستلقي عند جذعي ويرويني حتى ينتهي الفطور، لكن لوز توجهت نحو الصنبور وأغلقته.. يبدو أنها ظنت تأخّرها في تناول طعامها فأجّلت حصتي للغد.. :(

حنان فرحات

 •  0 comments  •  flag
Share on Twitter
Published on May 21, 2017 10:44

May 14, 2017

لكن الأماكن كلها ماء

كنت أظن أنني لا أستطيع التفلّت من الأماكن بسهولة. كنت أرى قبضتي مغلقة على كل شيء. 

ولكن كل شيء كان ماءً. 

في البداية كنت أفتح كفّي لصنبور المياه فتتدفق مالئة إياه بشعور الاكتفاء.

ثم شح ماء الصنبور، فوضعت يدي الأخرى بجانب الأولى علّها تحفظ ما يكاد ينفذ. لكن فصل الحرّ حان.

والماء، مهما حاولت، ماء. 

قلتُ أقبض عليه فلا يسيل. لكنه مر من بين أصابعي، لا كالأسير.

قلت أفتح يداي للصنبور من جديد. لكن ماءه لم يعد.

صرتُ أنظر إلى كفّاي وأذرف الدمع. أتذكر ما كان فيه من صفحةٍ تتلألأ عليها صورة السماء كأنها تسير، كلما هوَت قطرة جديدة من عين الصنبور.

أتذكر كم كان سخياً، ووافر الماء.

لكن الدفء جفف يداي اللتان بقيتا تنتظران الماء. 

صارت تنظر مقلتاي إلى الصنبور والكفّين وتتنهد.

وبينما امتدّ الانتظار مع النهار، نكزني أحدهم مشيراً إلى يميني.. 

كان هناك صنبور آخر، وافر الماء، سخي العطاء، كفيل الاكتفاء.

كنت أظنني أستطيع الحفاظ على الماء، لكن الماء كان كله أماكن..!


1 like ·   •  0 comments  •  flag
Share on Twitter
Published on May 14, 2017 10:26

April 18, 2017

في الليل- مُعّدّل



يكتبون الليل يا عزيزة،... يُفنّدون على الأسطر معانٍ قاصرة عن وصفه، مجحفة في حقّه، ثم يقدمونها خَدَّاعةً على أطباق للذّواقة، فيختلط الحابل بالنّابل، ويلبَسُ الواقع رداء الزَّيف، ويتلوّنُ سوادُ الليل بالحزن فيما ينطوي بحلكته على إشراقاتٍ وتباشير. لذا اسمحي لي أن أحكي قليلاً مما أعرف عن رداء السواد، القصّة التي تلتحف بها الأرض كلما قررت أن تنام.
الليل، يا أعزاء، وشاحٌ ذو لون داكن، بأطياف متعددة. هو أسوَدُ ذو هيبةٍ كالكُحْل، ذو رهبَةٍ كالبحر، وذو رأفةٍ لمن أصابه بأس النّهار. هو الدّفء حين يجتمع الأحبة، والبرد يعصف بالوحيد ولو أغرَقَه الزّحام في الغربة.. وهو الظُّلمةُ في كُنه الغيابات، والظُّلم في قعر الزنازين، والحزن في عين المفارق، والبسمة على شفاه الحالم، والضحكة في قلب المُريد للشيء المُستحصل عليه.
أما بداية الليل فسهراتٌ ودردشات، أو حديث مع أخت غير شقيقة، أو مناقشة الخطوب مع صَديقة صِدّيقة... أو ربما سَفَرٌ مستَعجَلٌ عبر صفحات كتابٍ، أو غفوةٌ أقربُ لنصفِ إغماءةٍ في الطريق إلى المنزل على مقعد إحدى الحافلات.
ثمّ صُلبُ الموضوع احتضان الوالدة ابنَها كي ينام، وقصة يتلوها الوالد ليُحسّن نوعية الأحلام. وهو دعاء جدة للأبناء والأحفاد، وراحة للمتسول من مدّ اليد للمارة من الأغراب. والليل فسحة لِساعدٍ أنهكه معول النهار، واتّكاءة لرأس أثقله حِمل الأفكار. وفيما قد يكون الليل ستاراً لدمعة شوق، أو يأس وإذعان.. أو خافقاً يرتجف لفَقْدٍ أو خذلان..  يكونُ مراتٍ احتضاناً لسجدة شكرٍ وامتنان.. أومعقِلاً لطلبات السائلين من رب العالمين.
ونِصفُ الليل بداية انتهائه، يبدأ من عنده مشوار رغيف الخبز السّاخن، وكيس البَنِّ المطحون، ووريقات الجرائد اليومية. وفي ذا أيضاً ركعاتُ قيامٍ، أو استعدادٌ لصيامٍ، أو خطواتٌ عَجولة للّحاقِ جماعةً بالإمام. وفي جزءٍ منه، أيّاً كان، موعدُ إقلاعِ طائرة، وآخر لهبوط. وفيه توقُّف نبضاتِ قلبٍ، وانتظامُ غيرها، وشروق شموس العوالم الأخرى مراعاةً لفارق التوقيت..   
فالليل، يا سادة، قيلولة الشمس بعد إذ صعدت جاهدة إلى وسط السماء، وهو استراحة الغيوم بعد أيامٍ ملأى بالتخبّط وأخرى لا يشوبُ سكُونها النسيم. وأما النجوم فلألآتُ عِقْدٍ تتزيّن بها السّماء، تشرَعُ تُحصيها الغربان كل ليلة، حتى إذا ما شارفت على الانتهاء باغتتها إشراقة الصباح. 
وأمّا حبّات البَرَد فدموع الغيم المتسلّل إلى السّماء ليلاً حين يشتد الأمر على الضعفاء؛ تتكثّف الهواجسُ وتتشكّل ضرباتٍ ثقيلةً على الصّدر، جارحةً بُرودَتُها سطحَ الأرض.. وأما للسائلين عن حبيبات الندى، فماءُ ألفِ وردةٍ تختلط عبثاً بقطراتٍ مُنسابَةٍ من ريشات الطيور، وفي روايةٍ أخرى دموع الفرج يتهلّل بها وجه الأرض كلّما حلّ الربيع مُزيحاً الشّتاءَ -ليلَ الفصول-.
والليل يا أعزاء شارع يقف فيه، وحيداً، عامود الإنارة، وآخر تَغُصّ به سيارات المُنهَكين، وثالثٌ تشقّ سكونَه أنفاسٌ حيارى.. والليل بعيداً عن هذا وذاك: دكان مغلقة، وستار مُسدَل، وباب موصدٌ، وأغلال محكمة، وأجفان؛ مطبَقة أسيرة الهواجس والطموحات، أو مشرعةٌ يثبّتها الأرقُ من عُلوٍ وسُفل.
والليل حديث يطول، وآخر مبتور عند آخر لقمة عشاء أو آخر رشفة شاي، تماماً كما الآن.

 •  0 comments  •  flag
Share on Twitter
Published on April 18, 2017 23:39