Hanan Farhat's Blog, page 2
December 30, 2023
رسالة إلينا في العام الجديد
شهد الغالية، وددت أن أكتب لك ختام العام رسالةً أهمس فيها إليك ببضع كلمات، أدون ذكرياتك ومشاعري تجاهك.. لكن أمهات كثيرات تكتب تحت صور أبنائها على وسائل التواصل كيف كانوا وكانت أحلامهم وضحكاتهم قبل أن يتحولوا إلى أشلاء.. أشتري لك الثياب والألعاب فيما يودع الآباء بسكويتاً وجوارب في أكفان أطفالهم، أطعمك وأسقيك وأهذب شعرك فيما تحشّ الأمهات ما تيسّر لإطعام أفواهٍ لها، وأخرى تُركت لا يُدرى لها راعٍ ولا كفيل... يصل الماء إلى عتبة منزلنا يا ماما في حين يُستهدف رجالٌ يسعون بالماء لأهليهم وللنازحين، ندون قوائم إنجازاتنا فيما تتلخص قوائم آخرين بالنجاة، ونطيل لوائح الأمنيات فيما يختصرونها بالنجاة. لم يكن العالم على غير هذه الصورة أبداً، ولم تكن الصدفة سبباً في كل ما يحصل، بل أقدارٌ نسأل الله أن يهيئ لنا الصبر إذا وقعت، والحكمة إذا طالت، والرضا بما قُسِم لنا. ولكننا نسعى بما بين أيدينا، ونقيم وزناً للكلمة في نصرة الحق، ونبذل الجهد لإحياء الضمائر وإيصال الأمانات؛ أنهم لم يكونوا يوماً إلا أهل حق، لم يكونوا أفكاراً عابرة، بل بشراً من لحم ودم، لهم ذكريات وأماني وإنجازات، ولهم أحبة وأماكن مفضلة وتفاصيل تخصّهم وتفضيلات يحبّذونها، وإن اصطفاهم الله في هذه الأرض الطاهرة، فنسأل الله لهم العون والصبر، وأن يستخدمنا ولا يستبدلنا، وأن يكتب لنا نصرة إخواننا قولاً وعملاً. لتكن هذه الرسالة وصيةً وتذكرة لي ولك، أن لا نحقرن من المعروف شيئاً، فرُبّ كلمةٍ تهزّ عروش الطغاة، ورُبّ دعاءٍ يسدد الرّمي، ورُبّ حشدٍ يصيب العدو في المقتل

August 19, 2023
تين ساحلي
تينُنا الرفيدي -نسبة إلى قرية الرفيد- الذي إن لم تقطفه بيديك مباشرة، أكَلتَه قطافَ يدٍ تحبها.. وكل ما ازداد احمرار حبة التين أخضرَ القشرةِ، أو حلاوة حبة التين الأسود الصغيرة، أو تسرب القطر من التينة 'العسالية'، تذكرت كفّيْ جدي تمام السادسة صباحاً تطرق باب منزلنا، ثم تفتح صندوق السيارة، يقاطع توالي الأحداث صوت أجش يطلب وعاء، ثم يلومني على صغر الوعاء الذي أحضرته، تغرف الكفّ من إناء كبير تيناً -وقثاء وعنباً-.. صندوق سيارة جدي يتسع لبستان، تماماً كما تتسع حقيبة الأمّ لمنزل.
أفكر فيما أضع كيس التين 'الساحلي' على حافة حوض المغسل، ماذا سأحمل بيدي لأحفادي بعد عشرين سنة أو أكثر؟ هل أضع في الصحن نصاً شاعرياً وعواطف مكتوبة؟ ثم أنظر إلى صغيرتي شهد وأسألها إن كانت ترغب بتذوق التين. تهز رأسها كما تفعل عند كل سؤال فأفسر الإجابة على خاطري،.. أستعيد حواري مع البائع، "كيف أزيل الأوساخ عن التين إذ تضعه على حافة الطريق؟" فجاء جوابه غريباً بقدْر غرابة توفر التين مبكراً: "ليه الشجرة وين بتكون؟"نقلت التين من الكيس إلى وعاء في حوض المغسل، وتذكرتُ غربة مريد البرغوثي التي بدأت حين اضطر إلى شراء زيت الزيتون في قنينة بدل الجرار التي اعتاد.. يبدو أن الغربة تسكن تفاصيل كثيرة أكثر بكثير من البعد أو الشوق.
سكبت المياه في الوعاء وأغمضت عيني واستغفرت الله.. من يغسل التين يا الله! لم تقوَ أصابعي على فرك الحبيبات جيداً، أخرجتها من الوعاء ومسّدتها بمحارم ورقية أجففها كمن يستسمحها، ثم قطعت حبةً نصفين وناولت نصفاً لشهد،
وضعَته في فمها ثم لَفَظَته.
تين ساحلي، على رصيف شارع، في كيس، ثم يُغسل؟ كيف كانت ستبتلع ذلك كله!
حنان فرحات | بيروت | آب ٢٠٢٣
June 21, 2023
حُبٌّ بحُكم العادة
في يوم ما، قبل 2006:
دخلت إلى ملعب المدرسة المسقوفالمعتم، ثم مشيت إلى آخره وعيناي تغرقان بالدمع. يميناً صنابير تسيل مياهها إلىحوض ضيق بموازاة الجدار، ويساراً نوافذ كبيرة تطل على الملعب الصيفي الكبير. أمافي مواجهتي فنوافذ طويلة تطل على الأشجار التي تغطي سفح التلة حيث تتربع المدرسة.
غسلت وجهي بعد أن فتحت عدة صنابير على عجل لعل الماء ينزل من إحداها أخيراً، ثمتقدمت إلى النوافذ الطويلة. أحنيت رأسي إليها، واسترجعت اللحظات الماضية الثقيلةالتي كادت ألا تنتهي.
*
لدينا فحص نظر اليوم في المدرسة. بين كل فترة وفترة؛ يأتي وفد طبي من الدولةالكريمة، يبشرنا بطُعم جديد نتاجه إبرة في الكتف أو قطرة مريرة نتجرعها دون حولمنا أو قوة. أما فحص النظر هذا فبدعة جديدة! ما لهم ولعيوننا؟
اصطففتُ ورفاقي أمام الغرفة التي انقلبت من فصل دراسي إلى عيادة طبيب عيون بينليلة وضحاها، أو قل بين حصة دراسية وأختها..
وبدأ الوافدون يخرجون تباعاً بالفوز المظفر، وكأن فحص النظر اختبار وقد أعدّواعدّتهم جيداً قبل المعركة. لم يقل أحد ما الذي في الداخل، كأن لكلٍّ قدره، ولا غشفي المسألة.
حان دوري فدخلت بتردد المقصّرين، وانتظرت توجيهات الحاضرين، ثم مثل المنام أنهيتما عليّ وصرت في رواق المدرسة دون أن أدري كيف خرجت. ولأن النتيجة لم تكن مُرضية،أنستني تفاصيلَ العملية، لكن ما لم أنسَه أبداً سؤال ظل يرن في رأسي سنيناً عديدة:"هل لديكم ضعف نظر في العائلة؟"، فهززت رأسي إيجاباً، قلت"أبي"، فهز رأسه واثقاً : "إذن بالوراثة". وانقلبت الدنيارأساً على عقب في عيني. خرجت هائمة على وجهي لا أدري أين أذهب أو ماذا أقول.
توجهت إلى الملعب "الشتوي"المسقوف، غسلت وجهي بعد أن فتحت عدة صنابير على عجل لعل الماء ينزل من إحداهاأخيراً، ثم تقدمت إلى النوافذ الطويلة. أحنيت رأسي إليها، واسترجعت اللحظاتالماضية الثقيلة التي كادت ألا تنتهي.
لم تكن مشكلة أبداً أن النظاراتسترافقني بعد ذلك اليوم سنوناً عديدة، ولا أنني أشترك مع والدي بالأمر، لكن ما كبرفي قلبي وعقلي في آن: "كيف سأخبره بالأمر دون أن أحزنه!"
**
2011
جالسةٌ في كرسيي عند الطاولة الأولى قبالةطاولة المعلمة. تشرح المعلمة وتستفيض، وأركز أحياناً ثم أشرد. أنزل نظاراتي الطبيةحيناً، ثم أعيدها إلى وجهي. أتابع ما تقوله المعلمة باهتمام، وأجيب كلما اقتضتالحاجة على سؤالها.
لم أكن يوماً من المهتمين بالعلامةالكاملة، بقدر ما كنت أهتم ببذل قصارى جهدي. ولم يكن يعنيني أن أكون الأولى فيالفصل، بالرغم من تصنيفي مع التلاميذ النجباء. ولا أخفيكم سراً، قد يكون عدم سعييلذلك لعدم إيماني بقدرتي على المنافسة. لم أحاول فلم أفشل. ولكنني عند هذه المعلمةبالذات، أحببت التفوق وألفتُه. كان سهلاً ممتعاً، فسعيت إليه.
وفيما تشرح المعلمة، وأتابع، كما كلرفاقي في الصف، أنزلت نظاراتي الطبية، ثم أعدتها عدة مرات. لا أذكر لمَ، قد يكونلاحتقان في أنفي، أو ضغط في أذني، أو انزعاج من احتكاكه بحجابي، أو ارتباك دون أيسبب..لكنني أذكر تماماً أنها أربكتني كملاكم لا يدري من أين تأتيه اللكمة التالية..وفيما كانت تدور معركتي الخاصة، كان يسير شرح الدرس بسلاسة لا يعكر صفوه ضجيج صراعي..
ولأنني مهما كنت منشغلة، أُبقي علىسمعي مع المعلمة لربما باغتتني بسؤال ما، وإذ بها تضرب مثلاً للطلاب عن صاحب معمليطلب موظفين للعمل لديه، ثم تتبعه بالسؤال التالي:
"هل يا ترى سيوظف صاحب المعملأشخاصاً يرتدون نظارات طبية، بحيث يضيعون نصف الوقت في تعديل وضعيتها؟ أو يختار منلا يرتدي نظارات حتى يزيد الانتاجية؟؟"
كانت تلك المرة الأولى التي أنزل يديفيها إجابة على السؤال، بدلاً من رفعها للإجابة عليه.
**
2014
غرف كثيرة، رائحة تعقيم، بلاط براق،لون أبيض ناصع كيفما اتجهت، وصراخ آنسةٍ يشق صمت الحاضرين، مصدره غرفة قبالتي.اُدخِلتُ غرفة أو اثنتين، تصوير مقطعي وغيره من الفحوصات اللازمة قبل الإجراء الأخير،ولحظات وداع بطيئة لنظاراتي وعدساتي اللاصقة في آن، يعكر صفوها توقعات الألم لعدةأيام مقبلة.
حين حان دوري ودخلت، لم يكن هنالك ما يثير الهلع. بل بالعكس.. سرير أسود عاديجداً(وربما الجيد في الأمر أنه لم يكن أبيض اللون)، ماكينات بسيطة لا يبدو عليهاأثر التعقيد.. لا رائحة لدماء أو مصل في الأجواء.. كل ما في الأمر انتظارُ دقائقحسب ما تقول الممرضة. طلَبَت مني أن أتمدد على السرير ثم حيّتني على جرأتي.ثبَّتَتْ جفناي بملقط وأنزلت بضع قطرات مخدر فيهما ريثما دخل الطبيب. وجّه إلىبؤبؤاي تِباعاً شعاعاً أحمر ثم شممت رائحة احتراق بسيطة. لحظات، ثم خرجت من الغرفةمرفوعة الرأس، تعلو أنفي نظارة أيضاً، لكنها هذه المرة شمسية...
**
ما الأجمل من استيقاظة هادئة، لا يعكرصفوها شيء، ولا حتى اضطرارك لوضع النظارة حتى تستطيع تبيان عقارب الساعة قبالتكبوضوح؟
تدخل أشعة الشمس دونما استئذان عبرستائر الغرفة، تتعارك مع أغصان شجرة المشمش الطويلة بلا غلّة، ثم تنساب علىأعيننا، فإن لم توقظنا بنورها، فعلَت بحرارتها المرتفعة.
**
أسير في الجامعة مع صديقة تشاركتُوإياها سنوات دراسة عديدة، قبل أن نتشارك تجربة "الفراق" عن النظاراتالطبية. ترتدي كلتانا نظارات شمسية لتمنع الضوء القوي ونسمات الهواء من الوصول إلىأعيننا في إجراء قسري ريثما طابت من العملية، فيما تصل إلى آذاننا تعليقات بعضالطلبة إذ يستغربون همساً وجود نظارة شمسية على وجه إحدانا التي لا يعرفُ ولا يخصُّهأمرُها دوناً عن غيره.
**
2017
تتوالى قطرات الترطيب التي سمعناكثيراً عن ضرورة الالتزام بها عدة أشهر، وتتوالى الأيام. تتكرر الصباحات الجميلة،وغيرها الممتعضة.. كما ساعات الدراسة الكثيرة.. ويُتعب العينينَ الشوق...
في زيارة تالية بعد سنتين أو ثلاث،يزفّ الطبيب الخبر. عيناك تعبتان. "جيد أن التعب ليس في قلبي"، أحدثنفسي. يكتب لي وصفة طبية "للاحتياط"، وأضحك في سرّي، هذه فرصتي للانضمامإلى لابسي النظارات الطبية بطريقة ألطف، بعد أن أصبحت النظارات "موضة"منذ سنوات.. وتحديداً بمجرد أن خلعتها.
**
2022
"أظن أن عيناي تتعبان أكثر من ذيقبل ليلاً"، أحدّث زوجي فيما أقلّب بعض الأوراق.. أو ربّما تسبب حملي الأولبضعف في نظري.. "قد أنبأني الطبيب ذات مرة أن الحمل يسبب ضعف النظر.."
أحاول أن أريحهما بعد استعمال الشاشاتالإلكترونية. أمضي بعض الوقت وأنا أتأمل البنايات من نافذة المنزل. أتساءل في سريإن كان هذا يعوض عن "النظر إلى المساحات الخضراء البعيدة".. إن الأمرأشبه بالتداوي بالأعشاب بالمقارنة مع منتجات علم الصيدلة. "هذا المتوفر بكلحال".. أزفر ثم أعود إلى عملي...
**
2023
"ما رأيكَ أن تفحصَ عينيك؟ سآخذموعداً لي ولك"، قلت لزوجي فيما أحدّث قائمة الواجبات الأسبوعية.. وقبل أنيهزّ رأسه بالإيجاب، كان الموعد قد ضُرب.
هذه المرة حفظت درسي جيداً. لامفاجآت. لن يتهم أحد عيني بالتقصير، ولن يمس أحد الأسباب الجينيّة.. لن نتطرأ لهذاالموضوع أصلاً... أجريت بعض الاتصالات مع أهلي أتأكد من تفاصيل العملية التي سبقوأجريتها، وأخذت نظاراتي التي بالكاد أستخدمها لربما طلب رؤيتها الطبيب الجديد.
وبعد انتظار طال -كما يطول كلانتظار-، والإجراءات الروتينية التي يتطلبها الأمر، وصلنا إلى كرسي العيادةالمنشود. جلس زوجي على كرسي المحاكمة، فيما أنتظر جانباً دوري بتوتر الطالبةالنجيبة، التي تدعي أن المركز الأول لا يهمها ثم ترمقه بعين المُحب، ولم يطل الأمرحتى صدر الحكم بالبراءة.
"وضعُكَ مستقر"، قال الطبيبلزوجي ثم أشار إليّ للتقدم.
جلستُ على الكرسي جلسة المعتاد علىالامتحان، العارف لكل الأسئلة. قدمتُ رأسي ووضعت ذقني حيث يجب. نظرت بعيني اليمنىحيث أشار الطبيب بإصبعه، وركزت جيداً نظري بالعين الأخرى حيث طلب. توقف الزمنللحظات لا يرمش فيها جفناي انصياعاً للأوامر، ضوء يُشعّ تماماً في منتصف المدى.. ثمانتهى.. أسندت ظهري قليلاً إلى الوراء.
"ارمشي قليلاً،.. تمام، أعيديذقنك إلى حيث كان، انظري إلى إصبعي هنا.. لحظات وننتهي، لا ترمشي بعينك.. همم.. أنهينا"
"يبدو أن علينا أن نعيد الفحص معتوسعة للبؤبؤ للتأكد من النتيجة"، قال الطبيب،
"لقد أجريت عملية لعيني منذ عدةسنوات.."
توالت الأسئلة والإجابات، لم تكن كتلكالتي درست. لم يتّهم أحد جيناتي هذه المرة، بل انصب اللوم على مسار العمليةالأولى... ولكن الشعور بالخيبة كان ذاته.
غادرنا العيادة، بصحبة وريقة تستقدمصديقاً قديماً جديداً: نظاراتي الطبية. نظارات تعود بدون لوم أو عتاب، تماماًكأشياء كثيرة تغيب ثم تعود. قد لا نفرح لعودتها، ولكننا لا نأسف لوجودها.. بل ربمانفهمها أكثر، وقد يكون لها نصيب من الحب يوماً ما، حبٌّ نكتسبه بحكم العادة، لابحكم العقل والقلب.
حنان فرحات |بيروت، رأس النبع
22-6-202312:24 بعد منتصف الليل
November 25, 2022
رسالة رقم ١
هذه الرسالة غير سابقاتها، أكتبها في وقتها تماماً، فلا يتغير الشعور ولا ينطفئ المعنى.بك صار تعداد الأيام فنّاً، ومعك صار الوقت أقيم، والفرح أسمى، والحبّ أجلّ!
بك، يا ماما، أدركتُ كم تحبني أمّي.هذا لا يعني أنني لم أدرِ من قبل، ولكن بعض الدروس أنفعُ بالتجربة. لقد قرأت صباحاً أنّ كل أنثى أمّ، وإن لم تلد. ينتابها شعور العطاء على هيئة حياة بكل تفاصيلها، فتُطعم وتهتم وتُداري وتطبطب وتسمع. وأنا إذ أبصرك حقيقةً بعد إذ كنتِ فكرة خلّابةً، ثم صرتِ حركةً أشعر بها في أحشائي، أدركت سرّ رغبتي العارمة بالطهي والخَبز، وسعادتي الجمّة بفنجان قهوة أعدّه.
أدركت أن الاستيقاظ معك أبهى من النوم المطمئن، والنوم على صوت أنفاسك أهنأ الليالي، ومحاكاتك أمتع أنواع السمر.. وبذا أدرك كم بذل والداي من الحبّ خلال مسيرة تربيتهما لنا، ولو أنه يخيل إليّ أنها ابتدت أمس، إلا أنها تكاد تلامس الثلاثين سنة.. هل ستمرّ سنوننا سوياً بالسرعة ذاتها؟
ماما،يا قطعةً من فؤادي،أتدرب يومياً على فكرة إفلاتك.. فأنا إن أمسكت يديك للأبد، لن تكون لك فرصةٌ للسير في رحلتك الخاصة! أحاول أن أتشاركك مع المحبّين، أن أتهيأ لأحلامك الكبيرة التي قد لا تتناسب مع تطلعاتي، وأن لا يكون لديك متسع من الوقت للدردشة صباحية قبل أن تتوجهي إلى عملك! ولكن هل عليّ الاستعداد فعلاً منذ الآن؟
أتفكر كثيراً فيما إذا كنت ستكبرين ابنة مدينة أم ابنة قرية.. أي انتماء ستعلنينه بفخر؟ أو هل سيتعلق قلبك بمكان أم بترحال؟ أنا التي كنت أرغب في بداية جميلة لك كتلك التي عشت-ولعل ذلك من أنانية الأم-، سأنقلها لك حكايةً طويلة قد تملّين من تفاصيلها أو تكرارها.. سأكتبها لك، وقد لا تحبين القراءة... ولكنك بذلك قد تكسبين أكثر من حياة! -لن أكتب عن قرية والدك، لعل الغيرة تدبّ في قلمه فيكتب لك-
كلامٌ كثيرٌ يا ماما، كلام كثير. لنا عودة في رسالة أخرى..
حنان¦ شحيم ٢٠٢٢
رسالة رقم ٢
كل يوم يولد أطفال في هذا العالم. كل يوم يغادر أحدهم رحماً حنوناً إلى عالم يُظنّ أن يكون أكثر إشراقاً. كل يوم يصرخ أحدهم صرخته الأولى فيما يبتسم والداه، مذعورٌ لفراقٍ يظنه آخر الحياة، فيما يكون مجرد بداية.
تسير الأيام ببطء فيما ينظران إلى عينيه، حتى إذا ما التفتا عنه قليلاً هرولت الساعة كأنها تغافلهما. بعد أشهر قليلة وأخرى كثيرة، ينظران إلى الصورة الأولى بشغف ثم يقول أحدهما للآخر: كأنه الأمس!
يراقبان حركاته كأنهما في إعدادٍ مستمر لاختبار مهم. يتدارسانه، وزنه وطوله وملامحه، سَكَناته وردّات فعله، نومته وجلسته ووقفته وحروفه ونظراته.. يقارنان نموّه بمعدلاتٍ عالمية، هل يواكبها، أم يتقدم عنها، أم يتأخر؟
يفهمان معجزة الكون، كيف كانا وإلامَ صارا.. ويتفكران في غَدِه. لكن فيما هما في غمرة الأحداث وتسارعها، يظنان وليدهما الأفضل والأذكى والأعزّ إلى أي قلب على وجه الأرض... أنّ أحداً لم يكن بذكائه فيما يخطو خطوته الأولى، وينظر نظرته الأولى.. أنه الوحيد الفريد، الذي لا أفضل منه ولا أغلى.. ناسينَ - أو متناسين- أن المعدلات العالمية هي نتيجة لولادات كثيرة كانت كلها لأطفال يشتركون في أنماط وطرائق النمو..
أتعبتك يا ماما بحديثٍ حدثتُ به نفسي؛ الخلاصة يا عزيزة، كأنك قدِمتِ الأمس. وكأنك الأذكى على الإطلاق؟
أمكبيروت في ٢٥ ت٢ ٢٠٢٢
*جعل الله لكل وليد حضناً دافئاً وسكناً آمناً، ولا حرمَ زوجين الذرية الصالحة🙏
March 2, 2022
الزائر الثقيل
#حنان_فرحات ¦ بيروت ٢٠٢٢
December 20, 2021
اللوحة الأجمل
قررتُ ببراءة الأطفال أنني أريد أن أسير يوماً تحت الشتاء. أنا التي اعتادت صقيع البقاع وشتاءه، لم أظن أن شتاء مدينة ما سيكون شلالاً بالمقارنة مع شتاء القرية الأقرب إلى دموع بَكَّاء. وعندما اضطررت أول مرة للوقوف تحت شتاء بيروت بانتظار سيارة الأجرة بعد أن رفضتُ تكراراً عرض أمي صباحاً أن آخد وشاحاً إضافياً أو مظلة، تبللت حتى لم أعد صالحة لأن تُقلني أي سيارة! ضحكت في قرارة نفسي من كثرة الحزن. ما أجمل المطر من خلف الزجاج!
**
تكنس أمي يومياً أوراق الخريف، يلومها خالي على تخريب اللوحة الجمالية الطبيعية.
في أميركا، تأملت التلال الشاسعة تغمرها أوراق الأشجار الملونة في لوحة خلابة لا يضاهيها رسم أي فنان.
على شرفة منزلنا السابق، تهبط أوراق العرائش والأشجار كأنها أكياس تُملأُ وتُفرَغُ قصداً. أفكر في تركها لوحة خلابة، ثم أتذكر البلاط الذي سيفسد، والحشرات التي ستحب قضاء بعض الوقت تحت لحافها الوثير، فأمسك المكنسة آسفة وأحدث نفسي: ما أجملَها من بعيد!
**
بعض طلاب المدارس والجامعات، وآسف لقول ذلك، يعتمدون الغش وسيلة أولى للنجاح، وقد يبتغونها للتميز أيضاً. ينسون تماماً أنّ النجاح بالغش يمنع عنهم المنفعة المقصودة بعملية التعلّم، وهو حل مؤقت قد يشكل عقبات أمامهم في سوق العمل. أما في فئة طلاب الدراسات العليا، فيقل هذا الاحتمال، وأعزو ذلك لكون خيار استكمال الدراسة ما بعد الجامعية يكون نابعاً عن قرار شخصي لا عن قرار يجتمع فيه الضغط النفسي ورغبة الأهل وتوقعات المجتمع. أحياناً يلزم الاقتراب من الذات للتحقق من الرغبة!
**
قد نكون خلف نافذة نشاهد المطر فنتمنى لو أننا تحته، ولو أننا تحته لتمنينا نافدة تقينا إياه.
وقد تكون اللوحة أجمل من بعيد، مليئة بالعيوب لو اقتربنا أكثر من اللزوم.
وقد نبتعد عن ذاتنا كما لو أنها اللوحة الأجمل من بعيد، فيما نحتاج أن نقترب لنرمم الكسور ونغلق الثقوب.
**
قد يكون القريب صحيحاً، وقد يكون البعيد أسلَم؛ العبرة بموقعك من الأمور.
حنان فرحات | بيروت
20-12-2021
December 8, 2021
كل ما لم يبقَ
خاصمت والديّ بيني وبين نفسي عدة مرات.
مرة حين باعوا السيارة الزرقاء الصغيرة. بالرغم من أن الدهر كان قد أكل عليها، وأنا وأخي أشبعناها تمزيقاً وتوسيخاً كحال كل الأطفال، إلا أنني خفت على الذكريات. كيف سيوضع الكرسي الأزرق ذو اللون ذاته في سيارة أخرى. كيف سيكون المشوار بنفس النكهة؟ وهل ستبقى أعمدة الإنارة بذات العدد لو تغيرت النافذة التي أنظر منها؟
في المرة الثانية، كنت قد نسيت السيارة ونسيت لمَ كنتُ مصرّة على استبقائها. لم تكن جميلة أصلاً! استبدلا المدفأة الأسطوانية التي تتمركز وسط المطبخ بأخرى غريبة الشكل. بت الليلة وأنا أفكر كيف لسندويشة اللبنة أن تتسخن بالجودة نفسها، هل ستكون بذات النكهة؟ هل يعقل أن اللذة تكمن في شيء غير حرق الأصابع فيما أمسكها بكلتا يدي وألصقها على حديد المدفأة الجانبي طولياً، ثم يرجوني أخي أن أسخن سندويشته فأوافق بشرط أن يطوي لي عدة مناديل قبل أن يصل باص المدرسة؟
لكن الحزن لمغادرة المدفأة ما لبث أن اضمحل حين صار فرن المدفأة الجديدة سيد الموقف. تدخل السندويشة معززة مكرمة، تتمدد هناك فيما تلسعها الحرارة من كل الجهات، لا أصابع تحرق، ولا انتظار يذكر، وكلٌّ يطوي مناديله! رغم تبدل هيئة المدفأة من أسطوانة طولية إلى شبه مكعب ذا فرن، بقي بإمكاننا الالتصاق بها والتمدد حولها في أيام البرد. ولا أعزّ من صوت والدتي توبخنا على الجوارب المحروقة، إلا صوت والدي الذي يوبخنا لحشر أقدامنا تحت المدفأة لأسباب صحية.
لم يطل الأمر كثيراً. ربما عشر سنوات؟ حسناً، طال الأمر. لكن دوام الحال من المحال. كبر أفراد المنزل، وازداد الاكتظاظ حول المدفأة. فاقترح أحد ما مدفأة جديدة، تجلس في الزاوية كضيف، وتنفث الهواء بمساعدة مروحة كهربائية، وتعطي المفعول ذاته. بل إنها أفضل! رفضت. لا أدري إن أعلنت رأيي أو تعاملت مع الأمر كما لو أنه فرض واجب، واكتفيت بالاستنكار في الخفاء، لكن الإجابات جاءت قبل الأسئلة: "له فرن". قلت لا بأس، فدلال سندويشة اللبنة محفوظ، والهدف من التغيير التوسعة، وكلاهما للخير العام. لكن الحق يقال، كان الفرن أبعد عن النار، فالمدفأة المكعبة طولياً تتربع ك"الشيمينه"، كما لو أنها لا تألف إلا الجبن الفرنسي، أو التوست الأميركي. المهم أنها لا تفهم معنى اللبنة، ولا تتسع لصواني الكعك العديدة، ولا لقالبَي كاتو سوياً.
ما علينا، انتهى شتاء وجاء غيره، وانتقلنا لمّا ازددنا أصهرة وأحجاماً من المطبخ إلى غرفة الجلوس، ولم يعد حتى الفرن الصغير الذي لا يملأ العين في متناول اليد. وفي زاوية الغرفة التي لطالما عهدناها للضيوف، تمركزت مدفأة لا تشبه الماضي ولا الذكريات. كما لو أن عدم وجود فرن فيها لا يكفي، بل إن حديدها حتى لا يصلح إلا للمنظر. بكبسة زر تنفث الهواء الدافئ في الغرفة فأكاد أختنق. وفي كل مرة أسأل نفسي، هل يخرجني ارتفاع الحرارة أو اكتظاظ الصور قي مخيلتي...
---
بعد سنتين ونصف، ها أنا في منزلي الجديد، أنعي عدم الحاجة إلى مدفأة. "تكفي مدفأة كهربائية صغيرة وسترة سميكة. أو يمكن للAC أن يعدل حرارة الغرفة فتنسين أن الفصل شتاء". لا يا أعزاء. لا يمكن أن أنسى. صباح مساء، سألفّ سندويشة اللبنة القروية وسط المدينة، وسأسطحها على المقلاة لتتسخن. قد أتناساها قليلاً حتى تكاد تحترق، أو أثبتها بأصابعي كي تكتسب نكهة المدفأة القديمة. والمرة تلو المرة، سأتنهد مبتلعة غصة المدفأة الأولى، والسيارة الأولى، وكل ما لم يبقَ كما كان.
حنان فرحات
بيروت ديسمبر٢٠٢١
November 15, 2021
في مديح الجمال
وبالرغم من أثوابه العديدة، لطالما استفزّني حبس الجمال في ملامح أو تأطيره في تعريفات مجرّدة، فهو توحّد ألوان مرة، واختلاطها مرات أخرى، هو فصول عديدة، ومناخات أكثر، ونساء ورجالات، صغار وعجائز، بيوت وزوايا وصور وذكريات ولحظات انبثاق وانصهار وانسياقٍ..
أحزن حين يُصار إلى مديح الأشخاص بحُسنِ ملامحهم، أو حتى الإثناء على أيّ من خصالهم ما لم يكن لهم جهد مبذول في سبيل تحقيقها. فالمدح والحمد والشكر هنا للخالق، لا المخلوق الذي لا فضل له ولا منّة في نحت آيات الجمال.
ولو أمعنّا النظر في المسألة لوجدنا أن حبّنا لبعض الأشخاص لم يكن لينقص أو يزيد لو أن أشكالهم تبدّلت، أو ملامحهم شاخت. بل بالعكس تماماً، كنّا سنحبهم أكثر كلّما تعتّقت وجناتهم وغارت عيونهم وتجعدت أكفّهم (قد يفسّر هذا الأمر حبّنا للجدّات حبّاً لا متناهياً).
أما في الحالات المعاكسة، حيث نهتم لأمر شخص ما بسبب انجذاب فيزيولوجي بحت، فإن ذلك الإعجاب يضمحل عند أوّل تضارب مصالحٍ أو سوء معاملة، وتصبح "فلقة القمر" بدراً آفلاً، لا يهم حضوره مرّة في الشهر طالما أنه يغيب كل النهار ومعظم الليال. أمّا إن رافقه حسن المعشر وجميل المنطق فتلك ركيزةٌ متينة لعمارة العمر.
بذرة الجمال تستقرّ في إناء قرب القلب تماماً، تزرعها صلة قربى أو موقف غير عابرٍ أو إعجاب بملامح في مرّات قليلة، لكنّها لا تنبت إلا بالعِشرة والصّبر وبذل الحب. قد تورق بابتسامة، لكن ابتسامة لا تكفي لمواجهة الشتاء. بل إن كأس شاي دافئ في ليلة ماطرة قد يجعل زهرها يتفتح متعارضاً مع قوانين الطبيعة.
لذا فإنك ستكون أجمل في نظري –وقد لا يهمك ذلك أصلاً-، حين تمدح محبوبك بالخصال التي يجهد في تنميتها والحفاظ عليها؛ في بشاشته، تفانيه، صدقه، سعيه الدؤوب لتحقيق أهدافه، دعمه لك، إيمانه بنفسه وبك، وغير ذلك مما يستكشف المحب ويألف.
ليكن مديح الجمال مديحاً للجمال المكتسب بالطرق المشروعة، لأنه يزيده وينميه، لا للملامح التي تختلف باختلاف الناظر إليها، وتتغير بفعل الزمن وحوادثه، وتنهار عند أول منعطف، وتزداد كِبراً بالغزل فيكون له تبراً.
حنان فرحات ¦ ت١، ٢٠٢١بيروت
مطبخ الحب
مطابخ المدينة للطهي، ومطابخ القرية للطهي والحب. سأكتشف ذلك لاحقاً.
من روايتي المقبلة