Hanan Farhat's Blog, page 13

August 27, 2015

السّتار

الستار المنسدل مطوّقاً إيّاي يكاد يعدّل تعريف الظلمة ليصبح ما هو ناصع البياض..والسرير الذي لا أستطيع أن أرى أحشاءه يصدر أزيزاً كأنّه يتأفّف من طول رقادي عليه.. عظامي تأنّ حتى تكاد تتفتّت، مرمياً عليها جلدي الذي أصبح واسعاً عليّ كأنني أصغُرُ على جسمي..
تدخل ابنتي الكبرى مشرقاً وجهها كأنني لست على موعد مع الموت. بلهفةٍ تعانقني وتضع الأزهار المتواضعة التي أعلم أنها قطفتها في غفلة عن حارس الحديقة العامّة على الطاولة الصغيرة بجانبي.
تخبرني كالعادة أن وجهي يبدو أفضل اليوم، وأن صحن مجدرة من صنع يديها يكفي لأن أعود قوياً كما كنت. تقول لو أن أمّها كانت هنا لما رضيت برؤيتي هكذا، فأتبع جملتها المعتادة ب "رحمها الله".. أعلم أن كلماتها تلك تنطلق إليّ من قلبها، مما تتمنى، لا من الواقع.
أسكت قليلاً- عن الإصغاء-، وتسكت عن الكلام.. أسألها:
"هل تأمّن المبلغ المتبقي؟"
فتردّ بابتسامة وهزّة رأس، ثم تتبعها بشرود أعلم منه أن كلامها غير دقيق.. أو غير صحيح.
عيناها المنتفختان تشِيان بأن نهارها موصول بليلها.. ربّما تعمل في غسل الصحون، أو كيّ الثياب. أيّاً يكن يبقى ذلك أفضل من الحياكة والتطريز الذي كادت أمّها أن تفقد نظرها بسببه.
أعود إليها فأجدها تتأملني، تسألني إلى أين ذهبت، فأضحك وأقول:
"إلى أين أستطيع أن أذهب!"
2
_______________________
تحمل حقيبتها التي أكلت جزءاً من كتفها، وتقبّلني مستعدة للمغادرة. تنظر إليّ كأنّها تعتذر عن تركي، وأدرك أنها لا تستطيع البقاء أكثر، فحيث تذهب ينتظرُ يديها عمل لتكمله بعيداً عن نظري، قريباً من قلبي.
أراقبها وهي تغادر، ثم أمسك عينيّ عن الدمع وأقبض بيدي على قلبي فأجده يكوي نفسه مخافة أن يكونَ اللقاءَ الأخير..
بخروجها، تدخل الممرضة بثيابها البيضاء التي لا تزال تذكرني بالموت. لا أقدر إلا أن أتخيلها تغلق لي عينيّ وتستر وجهي بغطائي، ثم تبلّغ الطبيب المسؤول -غير آسفة- بانتهاء صلاحيتي..
تقطع شرودي بصوت خافتٍ لطيف:
"كيف حالنا اليوم؟ المعدّلات هنا تقول بأنّ صحّتك جيدة.. عليك أن تتفاءل ولا تتعب نفسك بالتفكير كي تساعد جسمك على التعافي."
دون أن أردّ عليها، تلقي إليّ بابتسامة ثم تهمّ بالخروج لتفقّد جاري خلف الستار. أودّ أن أستوقفها كي أسألها عنه؛ من يكون؟ لمَ لا تفتح الستارة فنتحدّث ليمضي وقت انتظاري لابنتي أسرع؟ لمَ لا أسمع صوت أي زائر له؟ هل هو في غيبوبة؟ تزداد تساؤلاتي وهي تبتعد ببطء.. ألتقط أنفاسي وبسرعة أحاول أن أستوقفها لأفرّغ ما في جعبتي من استفسارات..
"ياا آنسة.. من فضلك قليلاً.."
تستدير إليّ محوّلة نظرها عن الملفّ الذي بين يديها إليّ، ثم تجيب:
"تفضّل يا عم، بم أساعدك؟"
3
________________
أسألها عنه. أتراه وحيد لا معيل له؟ أأخذت منه الحياة أكثر مما أعطت؟ أحلّت به فاجعة، أو نزلت به نائبة، أو وقعت على رأسه مصيبة؟
تردّ عليّ بتنهيدة ثم تتكلم بصوت منخفض كي لا يسمع :
" السيد هناك رجل ثري، كان سابقاً مديراً مهماً لعدّة شركات، وحين نزل به المرض، تهافتت عليه وسائل الإعلام وجاءته الوفود زائرة وامتلأت غرفته بالورود حتى أصبح يوزع منها على العاملين هنا.. كان في غرفة منفردة نظراً لأهميته وثرائه وعدد قاصديه.. مرّ شهر على مرضه، كنت كلما اقتربت من الغرفة أسمعه يتناقش مع ابنه محاولاً إقناعه باستلام منصبه نهائياً، والابن يرفض برّاً بوالده وثقة بعودته سالماً قريباً.. حتى جاء اليوم الذي خرج فيه الابن مطأطئاً رأسه مع القبول.. وبدأ انشغال الابن يزيد، والضيوف والوفود تقلّ.. أصبحت الزيارة مرة في الشهر، ابنته عادت إلى أميركا حين لم يَطِب والدها، ووسائل الإعلام وجدت بديلاً عنه تشغل نفسها به، وأمواله لم تعد تنفعه حين لم يقاوم جسمه بالشكل اللازم.. فأصيب بشلل بقدميه، وحالته الصحية غير مستقرة.."
"وابنه؟؟ ألم يعد يزوره؟"
"يزوره كل أسبوع أو اثنين.. يتصل أحياناً يسألني إن ما زال والده حيّاً، ويطلب مني أن أطمئنه أن العمل يسير بشكل جيد.."
وبينما كادت تنصرف، صُدِمتُ بابنتي عائدة تلهث، وقبل أن أفتح فمي، قالت بصوت تعِب:
"نسيت أن أخبرك أنني غداً سأتأخر ساعتين عن القدوم إليك، لكنني سأبقى بجانبك إلى الصباح، أخذت إجازة يومين لأنهي معاملات خروجك ونغادر سوياً.."
عندها، ما كان مني إلا أن أمسكت بالورود التي وضعَتها قبل على الطاولة، وطلبتُ منها مبتسماً أن تأخذها لمن خلف الستار.. ثم بصوت خفيّ شكرت الله على ابنةٍ رزقنيها، هي أجمل من الورد، وأغلى من المالٍ..
تمّت

  
 •  0 comments  •  flag
Share on Twitter
Published on August 27, 2015 23:21

August 19, 2015

أحذية السّكّر


أغمضت عينيها الصغيرتين ليلاً، فوجدت كمّ الظلام وحشاً مخيفاً أكثر من "أبو كيس" الذي يختبئ تحت السرير.. فتحت عيناً وقررت الالتزام بنصف نومٍ تتلصّص فيه على النور المتسرّب من شقّ الباب، يضمن لها أن لا تفقد بصرها.. لا تدري لمَ تُصرّ أمها على إغلاق باب الغرفة بعد "تصبحين على خير"، لكنّها تعلم أنّها يجب أن تنام باكراً إن ما زالت ترغب في أن تكبر سريعاً. نامت على جانبها الأيمن، ضمّت ركبتيها، وخبأت كفّيها بينهما، لكنّ روحها رفعتهما دعاءً كي يأتي الصباح بسرعةٍ وينتشلها من وحدتها تلك.أنهت طقوس الدعاء والخوف والقلق، ثمّ تذكرت دكان جدتها. ذاك الدكان الغني، وتلك الجدة المحظوظة. كيف لشخص أن يحلم بأكثر من ذلك؟ أن يكون قادراً على شراء ما يريد دون أن يدفع.. أن يحتار بمَ سيبدأ صباحه، لا بمَ سيكتفي من أشكال السكاكر وأنواع الحلوى.. ثمّ ألم يكن الأولى بمن صنع هذه الجنّة أن لا يجعلها ممّا يؤذي الأسنان؟ ولمَ سلّم مفتاحها لهذه العجوز؟أتُراها تعطيني إيّاها عندما أكبر؟ سأسمح لها بأخذ ما تريد متى تشاء.. عندها سيكون القرار لي.. ولن أمنع أحداً من الإسراف في تناول جدائل السّكّر، ولن أحضر إلى الدكان إلا الحجم الأكبر من علب العلكة وأكياس البطاطس والذرة المملحة.. وسأضاعف الكمّيات التي أحضِرها من أحذية السّكّر.. لكنّني ربّما سأحتفظ بعلب "السَّحبة" لنفسي.. يمكنكم أخذ بعض المفرقات من العيار الخفيف بدلاً منها.. أو إن كانت الدنيا عيداً، خذوا بعض الإكسسوارات الزهرية أو خرزاً أصفر لمسدساتكم السّلميّة..ولكي تبتاعوا من عندي، لكم الشراء يومَ الجمعة مجاناً.. لكن.. لحظة.. أنت، أيها الصغير.. لا تفتح شموع البوظة تلك بهذه الطريقة.. لوّثت الأرض! تعال، سأقصّها لك.. خذ هذه المحرمة، أمسك البوظة بها وعد إلى بيتك..لحظة لحظة، عُد. الاثنان من هذه ب250 ليرة، وأخذت ربطة خبز.. 1750..، يبقى لك 250 ليرة. الحمد لله، بعت ما لديّ من خبز اليوم.. بقيت تلك الربطة آخذها معي إلى البيت حين أنزل.أحسّت الطفلة بدُوار. جلست مكان جدّتها على الكنبة، تحسست المسبحة بيدها، وبالأخرى أطفأت المذياع. دخل وقت صلاة العصر، عدّلت جلستها لتصلي، نظرت على الأرض، ستكنسها حالما تنتهي.. الدوار يشتد.. أحست بيدٍ تمتد إليها.. تهزّها.. استيقظت.نظرت حولها.لباس الطفولة خُلِع عنها.. وال250 لم تعد تبتاع لها الكثير.. امتلأت جيوبها بالمال، دون أن تبقى البركة.. نظرت إلى الباب فوجدته مفتوحاً، لم تعد تغلقه أمّها منذ كبرت، لأنها لن تحتاج الظلام كي تغفو بسرعة.. أبو كيس غادر أحلامها، وأحذية السكّر أصبحت نادرة على رفوف المحالّ.. كما أصبح من العيب أن تأكل مصاصة، ومن غير الأدب أن تأكل كيس البطاطس على حافة الحائط أمام الدكان.نظرت حولها قليلاً، فعلمت أنها استعجلت طلوع الشمس حين لم تعلم أن الليل سيأخذ الجدة والدكان. أغمضت عينيها مجدداً لعلّ نظرها يعمى عن الواقع.. علّ أبو كيس يأخذها إلى حيث كان يأخذ الأولاد المشاغبين.. علّ زمن أحذية السّكّر يعود..

حنان فرحات
 •  0 comments  •  flag
Share on Twitter
Published on August 19, 2015 08:41

August 12, 2015

3015



مقدمةأنت،أيّها الغريب، المتطفل على عالمي،إن كنت تخطو مرة إلى الأمام وعشرة إلى الخلف، فاعلم أني فعلت ذلك قبلك..لكنّ الجهل عدوّ لا يحارب إلا بالإقدام على المعرفة،والواقعُ فسحة ضيقة، نحتاج فيها إلى فقاقيع الخيال!
1
دخل الدكتور "فَحميّ" إلى القاعة بهدوئه المعتاد. توقّف أمام منبره، ثم توجه إلى الحضور:"إدارة جامعة قوس الألوان، العاملون فيها في أي مرفق كان، الطلبة الأعزاء،لا يخفى عليكم أن اليوم يومٌ مجيد في عالم الألوان.في مثل هذا اليوم منذ ثلاثة آلاف عام، اجتمع أجدادنا الأحمر والأزرق والأصفر لوضع دستور عالمي يضمن بقاء ذرية الألوان على كوكبنا هذا. وهذا المرجع القانوني لم يوجد عبثاً.هو الذي حدّد اليوم يوماً للفرح المطلق.. يوماً للتسامح والتفاؤل بالسنة الجديد. ستتعطل الدروس كما في كل عام. وسيحتفل الكوكب بأسره.. هذا الكوكب الفريد وُجد للفرح. تنوّعنا هو سر تألّقنا واختلافنا هو الحلّ لتآلفنا.تجانس بعضنا، أو عدمه لا يزيد أيّاً منا أهمية على غيره،.. واشتداد اللون أو خفوته لا يقسمنا إلى طبقات اجتماعية. والفضل الأكبر في هذا يعود إلى أجدادنا كما سبق وذكرت.لنتذكّر سويةً المواد الأولى من القانون: تولد جميع الألوان حرّة، ومتساوية في الكرامة والحقوق.هذا يذكّرني بكوكب بعيد عنّا، تتحدّث عنه كتب التاريخ:الكوكبُ الأزرق –طبعاً بالإذن من عائلة الأزرق التي نشهد جميعنا على برائتها منه-،.. لم يتمّ التأكّد من صحة الأخبار التي نُقلت عنه، ودُوّنت.. إنما يمكننا توقع حالة الفوضى التي يمكن أن تصير إليها بلادنا في حال سِرنا على نَهْجِهِم.ذاك الشعب له قانون جدّ شبيه بقانوننا، لكنّه وضِع دون أن يُطَبَّق! وُجد لِتُغنّى –ربما- كلماته، وتنسج شعارات فقط.. أو لِتُقدّم في المدارس كأطباق دسمة للامتحانات..بل وزادوا على المادة الأولى في دستورهم بأنّ كلاً منهم قد وُهب عقلاً وضميراً، كأنّ أحداً يحتاج إلى معرفة ذلك.. واشترطوا التعامل مع بعضهم بروح الإخاء.لكن هيهات..فرؤوس الدول تآخت مع من يؤمن مصالحها،..ولم ترحم مع من تعارض معها دفاعاً عن "حقوقه"  التي يقرّها قانونهم!سُلبت الأراضي، ومُزّقت وقُسّمت،واستَولت واعتَدت،وأَمرت سُلُطاتها ونهت، والأرواحَ أزهقت،ثمّ أدانت واعترضت! قُلِبت حياتهم من غير أمن، وأنتم اختبرتم هذا من قبل،وتعلمون جيداً ماذا فعلت ثورة الألوان، ولولا تداركَ الكبار الوضع،وهدّأوا النفوس لوقع ما يقطع الذرية، فننقرض، ولا يبقى منّا إلا القليل القليل في كتب التاريخ كحال هؤلاء، لم يبقَ منهم إلا خبرهم قبل أن تحلّ عليهم الألفية الثالثة.الأعزاء الحضور، لحظات وتتلاحم عقارب الساعة مع حرف الألف..لحظات ونودع عالماً من الرقيّ، لنستقبل عالماً أرقى..ها هي الألوان تتطابق..ها هو مجموعها اللوني الأسود يفتح لنا باباً إلى الغد..الغد الذي يضيئه مجموعنا الضوئي..نحن الأبيض والأسود..دخلت السنة الجديدة..السنة الخامسة عشر من بعد الألفية الثالثة، سنة 3015نعلنها، ونحن نؤكّد على أهمّية التسامح والإخاء..نؤكّد على رباط اللونية الذي يجمعنا، اللونية التي ستضمن تطورنا وانطلاقنا بخفّة نحو عالم الرّخاء والتقدم والازدهار..كل عام وعالم الألوان بخير..كل عام والألوان بخير"
 
2غادر الدكتور القاعة في ذلك النّهار بعد أن أشعل نار فضولي. هل حقاً يوجد في هذا العالم كائنات غريبة كالتي في قصص الصغار منا؟ وكيف سيكون قوامها حتّى يسري عليها قانون ما..خرجت أنا و"زيتيّ" من القاعة مع الجموع لنحتفل مع البقيّة، مع أن بالي اضطرب بعد ما سمعت، مشوشاً تفكيري. لحظة، نسيت أن أخبركم من أكون! أنا "كاكيّ"، موجة ذات تردد لن يهمّك إن كنت من الكائنات الفضائية التي تكلم عليها الدكتور "فحميّ"، عالم التاريخ الأهمّ على كوكب الألوان. أمّا إن كنت شقيقاً من ذات كوكبنا، فلا بد أنّ حسّاساتك قادرة على معرفة تردّدي دون الحاجة إليّ."زيتيّ" هو صديقي الأعزّ، بحكم القرابة التي تربطنا، حيث أنّ تردّداتنا متقاربة، من عائلة الأخضر، التي تتفرّع عن جدّينا الأكبرين: الأصفر والأزرق. نكزني زيتيّ مراراً خلال الاجتماع السنوي لإعلان بداية العيد.. يظنّ أنّه يُسدي لي معروفاً، وكأنّنا لم نسمع هذا الكلام مراراً وتكراراً على مدى الأعوام السابقة.. لكنّ الجديد في الموضوع اليوم، أنّ الكلام ذاته يُعاد ويُقال في سنتي الجامعيّة الأولى. هذا يعني أنّ ما حُكيَ لنا من قبل ليس مزحة، والفكرة التي دَبّت فيّ ليست مجرّد فقّاعة خيال، الإنس موجودون!نظرت حولي: الفضاء يهتزّ فرحاً، والألوان تتحرّك بانسيابيّة، تكاد لا تفرّقها عن بعضها، فغضضت البصر عن الأفكار التي سرت فيّ، وانطلقت برفقة صديقي لنشارك الآخرين البهجة، مؤجلاً التفكير في ما أرّقني لليوم التالي.


3استيقظت باكراً اليوم، أكاد لا أحسّ بي. أظنّ أنّ حفل البارحة أَنْهَكَ طولي الموجيّ ما جعلني أبدو شاحباً. أو ربما كتابة المذكّرات هي التي جعلتني أفكّر أكثر ممّا ينبغي.. غريبٌ هو الشّعور، أن أكتب ما قد يقرأه كائنٌ مجهول بعد آلاف السّنين من انقراض جنسنا.. أو ربّما الغريب هو أن أظنّ أنّ كائناتٍ أخرى موجودة أو ستوجد في بقعة ما من هذا الكون.. بالنّسبة للدكتور فحميّ، احتمالُ انقراضنا لا يتعدّى الجزيئات من الواحد بالمئة، إذا التزمنا ب"الدستور المقدّس" حسب تعبيره. وهذا يعني أنّ حفيداً من العصور القادمة قد يلتفت إلى هذه المذكّرات كمخطوطاتٍ مهمّة يجب تباحثها لمعرفة أصله.  حسناً أيّها القارئ، سأوضح لك كلّ شيءٍ عن عالمنا بالتّدريج. لكنّني سأكتبه بالترتيب الذي يناسبني. لذا لا تعجل، ولا تقرأ ما سأحاول تبسيطه إلا وَقمّةُ موجتك بأحسن حالاتها.أولاً، عليك أن تعرف أنّنا نحن الألوان كائنات ذات خواصٍ فريدة. معقّدة، لكنّها تولد معنا بالفطرة. فلا يحتاج أحدنا لمن يعلمه بأنّ المصدر الأساسيّ للطاقة لدينا هو المحيط الذي نعيش فيه. لكنّ علينا التدرّب قليلاً قبل أن يصبح بمقدورنا الاعتماد على مُستقطبنا دون توجيه. ثانياً، لكلّ لونٍ منّا مُستقطب، هو أقرب إلى "الروح" في مصطلحات "البشر" حسب ما قرأت. هذا العضو هو عبارة عن شريحة صغيرة تسمح لنا بامتصاص الشّعاع المناسب لطولنا الموجيّ، فنستمدّ منه حيويتنا ونضمن استمراريتنا. وعملية الامتصاص ليست ما يجب أن نتدرّب عليه، بل كيفية تحديد الشعاع المنعكس من أحد التضاريس المجاورة.ثالثاً، التضاريس من حولنا ليست كلّها من النّوع الحميد. وسبب وفاة لون من الألوان لا يكون إلا امتصاص شعاع مزيّف يعطّل المُستقطِب لديه. أمّا عن إمكانية إصلاح المُستقطِب بعد ذلك، فلا تزال الأبحاث تجري في هذا المجال. وبينما يصل علماؤنا إلى نتيجة، تُكدّس الألوان المتوفّاة في مُجمّع كبير يحفظهم من التّلف. رابعاً، مستوى الحيويّة فينا يُقاس بالحزمة الضّوئيّة، وهو ما يتراكم من أشعّة تُمتصّ بواسطة المستقطِب.  وأمّا حركتنا فتُسمّى الذّبذبة. مستواها هو ارتفاعها عن التضاريس، واتّجاهها يحدّد المسار، وسرعتها تساعد على بيان قمّة الموجة، أي المستوى الأعلى للطّول الموجيّ، أو ما يسمّى ب"الطّاقة".أتمنّى أن يكون ذهنك قادراً على فهم ما قرأت حتى الآن، وإلا فما سأخبرك به على مدى الأيام القادمة سيكون مجرّد طلاسم لا فائدة لها. سأتركك تحلّل ما قرأت، وأذهب لأستقطب قليلاً من شعاعي الخاصّ، فقد استهلكت معظم مخزوني خلال نومي.
   4واقفٌ أمام الشاشة الخاصّة بي، أستعرض الخلاصات التي دوّنتها خلال الأسبوع. أحسّ ب"بينك" تراقبني، ولكنني أحاول جاهداً أن لا أعيرها أيّ انتباه. تظنّ أنّ أخذنا مادّة التجاذب معاً يجعلننا "لائقان" جداً ببعض. لا تفهم أنّها تظنّني ذكياً جداً، وأنّ ما أحتاجه هو من يؤمن بذكائي، لا من يظنّه. هذا عدا عن كون اسمها مشتقاً من تفسير ل"ورديّ"، مأخوذ من إحدى لغات البشر. وإلى الآن، لا دليل إيجابيٍّ حول الأخذ عنهم بِصِفَتهم متحضّرين. أدقّق النّظر في الملاحظات التي تمرّ تباعاً أمامي. ضربٌ من ضروب الخيال أن تكون كل هذه المعلومات غير صحيحة. من سيهتمّ بتدوين سيرة شعبٍ لم يوجد، ويضع له أوصافاً، ويرسم له أجساماً تشترك في الشكل العام؟ الغريب أنّ الواحد منهم تشترك في كُتلته عدة ألوان. ولكن لا شيء يشير إلى كونهم مركّباتٍ لونيّة. يبدو أنّ الأمر سيحتاج بحثاً أوسع، وتفكيراً أعمق.توقّفت لوهلةٍ أفكّر في الخطوة التّالية، حين أحسست ببينك تتذبذب قريباً منّي مشتّتة تركيزي. اقتَرَبَت ممعنةً النّظر في الشّاشة مُتصنّعة القراءة ثمّ هزّت نفسها دليلَ فَهمٍ واهتمام. وبينما أنا مأخوذ بسذاجتها، إذ بحزمةٍ ضوئيّة تومض من خلف الشاشة متّجهةً إلى قسم التّاريخ، وتحديداً إلى قسم العلوم البشريّة. ولأنّ ما يسري فيك ارتعاشاً يوصلُك إلى طولك الموجيّ الأعلى، لا يأتي في العمر إلا مرّة، كان عليّ أن أتجاهل ما ستتفوّه به بينكمحاولةً استلطافي، لألحق بحفنة الذّكاء تلك.طاقتي تكاد تنفذ. ليس لديّ الكثير من الوقت لأتبيّن من تكون قبل أن ألحق بنفسي أشحنها. كان واضحاً جداً لحاقي بها، والأكثر من ذلك وقاحة سؤالي لها عن اسمها، فإعمال ذهني في دراسة مُستقطِبها قد يكلّفني حياتي. وأن أكسب اسمَ شعلةِ الذكاء هذه مع توبيخٍ منها أفضلُ وأسلمُ من خسارة ذاتي ريثما يجدني أحدهم ويشفق عليّ فينقلني إلى مركز التزويد الشعاعي الاصطناعي. ولكنّ الصدمة كانت أنّها أجابت ببساطة ولا مبالة: اسمي أوركيد.
 •  0 comments  •  flag
Share on Twitter
Published on August 12, 2015 08:33

July 19, 2015

البسمة عيد



"..أفتح عيني كما في كل عيد،
لم أعد أرتدي روح الطفل الذي يوزع ثيابه الجديدة امام السرير كي يرتديها أسرع ما يمكن حين "يأتي العيد"
الثياب الجديدة لا تزال موجودة، وإن في إحدى زوايا الخزانة، مطوية باهتة، لا لون للعيد فيها. 
لكن حين يدخل خالي صباحاً ليعيدنا قبل أن يذهب للصلاة، علي أن أكون جاهزة. لا بأس إن بغير ثوب جديد، علي فقط أن أستعد لجملته المعتادة:"أين ثياب العيد" وهو يضحك.."لم يأت العيد إليكم بعد!".
ربما الحقيقة القاسية كسرت في براءة تلك البهجة. العيد لا يأتي، بل نحن من نذهب إليه أو لا نذهب.لذا لا يهمّ.
سأرتدي له البسمة اليوم، ستكون عيدي، فالبسمة عيد، والصحة عيد، والأهل والأحباب من حولنا أجمل عيد."
 •  0 comments  •  flag
Share on Twitter
Published on July 19, 2015 02:12

أقصوصة


منذ خمس سنوات، قبل ان يصبح الهاتف الخلوي جزءاً لا يتجزأ من مشاغلنا اليومية، كنت اتفقد حسابي على الفيسبوك عبر لابتوب اخي (شكراً له
 •  0 comments  •  flag
Share on Twitter
Published on July 19, 2015 02:07

June 21, 2015

مقابلة لمجلة "الجامعة" في عددها الأول


1-      معروف أنك طالبة هندسة ، أين هي العلاقة والرابط بين اختصاصك وأسلوب السرد  والقصة المعتمد؟


في الواقع، الكتابة أسلوب حرّ للتعبير، يحتاج، بلا شكّ، إلى مهارة في اللغة، وإلى معجم كبير من المفردات لاكتساب الليونة، كما يحتاج إلى مخيّلة واسعة ليتمكن الكاتب من إيصال شعور الشخصيات وطرائق تفكيرهم بما يتناسب مع المشهد المطلوب. لذا، فهو بعيد أشدّ البعد من أيّ اختصاص في غير اللغات.  وبالتالي، لا علاقة للسرد القصصي باختصاصي، إنّما يمكن أن يُعتَبَرَ مُتَنَفّساً لي بعيداً عن الهندسة.


2-       الى أي حد تجدين في الكتابة  طريقة للتعبير عن الذات وكيف يعبر "فنجان ظل فنجان قهوة" عن حنان فرحات؟


"عقل الكاتب في قلمه"، فإن ازدحم العقل  بالأفكار، فلا راحة له إلا بالحديث أو الكتابة. وإن كان ما في العقل أدعى للحفظ، كانت الأوراق أولى من أسماع الآخرين بتلقّفه.
ولا تكون الأفكار معبّرة عن الذات بالضرورة. فقد تجسّد معتقدات أشخاصٍ آخرين، أو تتركّب في مشاهد تعيد صياغة تجارب غير شخصية، كما حصل في أكثر من قصّة في المجموعة القصصية. وبالتالي، تكون عملية الكتابة إمّا ذاتية مجرّدة ( كما في القصة الأخيرة: فصول من زيارتي للعدم)، أو تحوي بعض التسرّبات الذاتية التي تغزو النتاج الكتابي (كما في باقص القصص).


3-      تبدو الحرفية في الكتابة جلية في كتابك الجديد. من أين ذلك لطالبة هندسة مفترض أن تكون بعيدة كل البعد عن فن الكتابة؟
لعلّ للّهفة على القراءة  دوراً مهمّاً في بناء المعجم اللازم للكتابة، وتنمية الخيال المطلوب من أجل تحصيل القدرة على تصوير الأحداث بالدقة المطلوبة. كما إن الاستمرار في الكتابة، إلى جانب تقبّل النّقد البنّاء يساعدان على تطوير الأسلوب أكثر فأكثر.


4-      لو خيرت بين الهندسة والكتابة كإيطار مهني، أي مهنة تختار حنان فرحات؟


فكرة العمل في الكتابة بشكل دائم تبدو خلّابةً، إذ لا متعة لدي أكبر من تمضية الوقت في الكتابة إلا تمضيته في القراءة. لكنّني أرى نفسي في مجالات الهندسة المهنية، وإلا لكنت تخصصت في اللغة العربية وآدابها. لن أنقطع بإذن الله عن الكتابة، وأرى أنّ كلماتي ستكون أنقى وأكثر حريّة إن لم تكن مقيّدة بكسب العيش، حذوَ الكثيرين من الكتّاب المهندسين.


5-      "في ظل فنجان قهوة" عنوان يقدم الكثير من الاشارات والإيحاءات . ما الذي قصدته حنان فرحات من هذا العنوان بالضبط ؟


"في ظل فنجان قهوة" هو عنوان لإحدى القصص الرّمزية التي تضمّنها الكتاب،  وقد فسّرته بمقدّمة منفردة:


في ظل فنجان قهوة ثلاث: قهوة، وفنجان، وظل.
أما سر الفنجان فسرٌ أبيح على كل طاولة في كل مقهى متربع على إحدى رقاع الوطن.. وأما ظله فصرح يختبئ خلفه الجميع من صدى اصواتهم،.. وأما اقهوة فحبيبات لما تنجح في إقناعي بأن لمرارتها لذة.
وأما أنا، فمارّة من جانب الفنجان، دوّنت كلماتها وغادرت تبحث عن آخر.


 ولعل هذا المقدار كافٍ لإيضاح الإبهام المقصود.




6-      بعد هذا النتاج الناجح، هل من جديد في المستقبل القريب؟


أعمل حالياً على مشروع رواية مختلفة نوعاً ما، لكنّها ما زالت بحاجة إلى بعض الجهد. أتمنّى أن يسعفني الوقت لتصدر في الأشهر القليلة القادمة.

جزيل الشكر للجامعة اللبنانية الدولية التي احتضنت توقيع الكتاب، وتفضّلت بإجراء هذا الحوار معي.
 •  0 comments  •  flag
Share on Twitter
Published on June 21, 2015 06:52

March 22, 2015

كتب بغير قصد: حكم عليّ بالمدرسة

الطّفلة المدلّلة، أنا، حُكِم عليها بالمدرسة! في هذا العام المبلللة بدايته بالدموع، تعرّفَتْ على مكانٍ سيحتويها لأكثر من نصف النهار طوال الإثني عشر سنة القادمة. سيقت إلى غرف بدت كئيبة بادئ الأمر.. هي ذاتها التي ستعود لترى جدرانها التي نعتتها بالكئيبةِ مطليّةً، فتتحسّر على الذكريات التي غطّاها الدّهان ليبهر أعين الأطفال.. 

في تلك الصفوف تعلّمَتْ أنّ للأوراق ذاكرة، وأن الأقلام مفاتيح تخزين. فحملت قلمها معها أينما ذهبت: في الصف، والملعب، والمنزل. وفيها أيضاً ضحكت وبكت ببراءة..
 تقاسمت طعامها مراتٍ مع أصدقائها، وطعامهم مرات أخرى. حكّمت حساسيتها المفرطة في النّزاعات فحزنت نهاراً، ثم طِيبتها، فنسيت النزاعات ليلاً. وكم استغربت لاحقاً كيف أمضت تلك الساعات الطوال مع أشخاصٍ لم تسمع عنهم خبراً مذ غادروا الصف لآخر مرة سويةً.. وكيف توطدت علاقتها بعد سنين من الفراق بمن لم يحدث أن جمعهم حديث عابر في رواق المدرسة! لم تدرِ إن كان يتوجب عليها في ذلك السنّ أن تقدّر أن أولئك الأصدقاء الذين جمعهم كأس الحليب اليومي حول الطاولة المستديرة لن يجمعهم سقفٌ تحته مجدّداً.. وأن أقلام التلوين التي تشاركوها يوما مقتتلين على لون منها أو أكثر ليست إلا عينة صغيرة من خلافات متجذرة في طباع بني آدم وحواء..

حين دخلت الصف أول مرة بكت.. وبالدموع المالحة ذاتها انتهت زياراتها اليومية لذلك المبنى بعد اثني عشرة سنة. أما الذين ضحكوا منها في اللقاء الأول فلم يختلف حالهم مع مرور الوقت. هي لم تداري دموعها أو تخجل بها.. فليس يخجل من يحزن لفراق ذاك الكمّ من الأصدقاء، والأساتذة، والمكان الذي توزّعت عليه بصماتهم اتكاءً وتدافعاً ولمساً.. بل هو، الذي لا يحزن،  قد أضاع الكثير من الوقت في أسرة لن تعنيَ له أكثر من محطة لعابر سبيل.
 •  0 comments  •  flag
Share on Twitter
Published on March 22, 2015 07:41

March 8, 2015

كُتِب بغير قصد -1-

لبنان- الرفيد- 1993
بعض التّواريخ تُدفن في ذاتها. تماماً كما تدفن جثامين الآلاف يومياً حول العالم. في بعض الأحيان، أتعجّب كيف للكرة الأرضية أن لا تلفظ ما فيها من رفاة الظالمين بعد أن احتوت طهر الشّهداء والمكافحين والصابرين. تكاد تكون الأمّ الحبلى بالموتى.. تميّز خبيث أجنّتها الكهلة من طيّبها، لكنّها تطبق عليها بحنانٍ ساترٍ لريح نافخ الكير كما لحامل المسك! اليوم وُلدت لوالدين حديثي العهد بمسيرة الكفاح. البسمة تكاد لا تفارق وجهيهما، كما وجوهَ الكثيرين المتفرّسين فيّ! في هذا النّاحِ من القرية تزغرد جدّتاي لقدومي. عرفتهما من خربشات الزمن التي تطغى على ملامحهما. أحببتهما دون أسماء، قبل الدّلال، وقبل الذكريات وقبل ما يُعرف عن الجدات من حكايات. لم أزن حبّي لهما بجمالٍ، أو حسن معاملة، أو ملء قبضة يدٍ من السّكاكر والحلويات.. ولم أُخضِع حبّي لهما لتاريخٍ يدوّن شمالاً في أعلى الصفحة، إذ لن أنهيه بمثيل له. بينما استقبلتني  بمنظر مُصفَرّ الخضرة وسط آب حارّ، بدت القرية كسنبلة سمراء، مثقلة بحبيبات القمح. هنّ، الحبيبات، حكماء القرية العجائز. يُحصدون –العجائز- إذ تنتهي الأعمار، وقد أَطعموا الفتية نتاج تجاربهم، ثمّ يدفنون في باطن الأرض. تغوص أجسادهم، فتذيبها الأرض وتذروها تراباً.. وفي مكان آخر، يغمر التّراب أيضاً حبّاتٍ تتظافر لتنموَ حقول قمح ثريةٍ بسنابل تتمايل بِخُيَلاء.  تاريخ ولادتي، كان في بلدتي يُنحت على قطعة رخامٍ، تاريخَ وفاة لعجوز في البلدة المجاورة. وربّما نُحِت في غير مكان.. ربّما سطّر نجاحات لعلماء، أو أدباء. وربّما عنون خيبات أملٍ.. أو فاجعات. لكنّه على هذه القطعة بالذات كان يربط خيوط بيت عنكبوت واهنة، ضربتها يد الأيام بقبضة أتلفتها. لكن الأشدّ إيلاماً هو حين يدرك العنكبوت أن في مكانٍ ما في العالم دود قزٍّ تُعامل خيوطه برِفعةٍ ما هي إلا دليل على العنصرية المجحفة.. تلك السيدة التي كُتِب لها أن تُغادر الحياة يوم قدومي، شبيهة العنكبوت. كَدَّت وَشقيَتْ وهي تنسج بيتاً لأولادها، ثمّ ها هي أوصاله تتقطّع عند أول مفترق طرق. كنت وليدةً بريئةً بما يكفي لأجهل سبب التمييز بين خيط وآخر. ظننت أنّ خَيْط العنكبوت إذ خِيطَ على باب الغار* قد كفّر عن ذنبه، لكنّ الحقوق السليبة، مع تقدّم الزّمن، بدت لي أكثر من ذلك بكثير.. والتعيير بالأصل، أو نكرانه بديا أقبح على سطح الأرض من باطنها.. كلٌّ منّا رواية، لكنّ ليس كلاً تُكتب.. ولا كلّ ما يُكتَب يبقى.. ولا كلّ ما يبقى يُقرأ. المحظوظ من يبقى صالح أثره في سطور تحتل الرفوف الأولى والعقول الأوعى.. والخاسر الأكبر من يسكن بُغضُ فِعلِه في نفوس من يَليهِ.  تحت الرّكام في مقبرة القرية المجاورة، استقبل الأمواتُ العجوز يسألونها عن حال من تركت. في دار العلم دون الفعل، هام طيفها يحدّث هذا عن قريبه وذاك عن ابنه.. ويأسفون سويّة على ما فات، ولم يبقَ منه سوى الرّفات. ودَّعَتْ في ذلك النّهار عالماً كان مشغولاً باستقبالي، أنا وغيري، بذراعين مفتوحتين. جئت إلى الحياة، وبدأت روايتي بمقدّمة لطيفة. لم يكن حينها ليُسمح لي بالاقتراب من القلم، فهو حادٌّ بوصف سكان الأرض. ظننتي حينها من كوكب آخر. يطلقون على رأسٍ مبريٍّ لهدف نبيل صفة الحدّة، ثمّ يطلقون كلماتهم سهاماً لا تدري أتخطئ أو تُصيب. كنت أكتفي بالحراك يمنة ويسرة، متكلفة ابتسامة هنا وأخرى هناك. أبكي حين أجوع غذاءً، أبكي حين أجوع اهتماماً.. وأبكي الضّجر. الكلّ نظر إليّ على أنّني بريئة. ولا يغرّنكم بياض الوصف النّاصع، فدلالة الاسم لديهم قد لا تمتّ لمعناه بصفة.. إليكم مثلاً أسماءهم.. يزايدون بها ويتباهَوْن، بينما قد لا تجد ريح الكرم عند "جواد"، أو ذرة إخلاص عند "وفاء".. لذا فإن "بريئة" في قاموسهم مرادف ل "ساذجة". لكنّني أبداً لم أكن بسذاجتهم.. بل على العكس، فمع كلّ طلوع شمس ازددت يقيناً أنّ هذه الصفة مكتسبة، لا بالفطرة. وكما كان الفارق بيني وبينهم البياض مالئاً صحيفتي، لم أكن لأبتسم لمن لا أشعرُ تجاهه بالارتياح، أو لا أقرأُ على وجهه أماراتِ الودّ، بل تنهالُ من فمه على سمعي الديباجة المعتادة من المجاملات الخاصة بهذه المناسبة. لم أكن لأدّعي فهمَ ما لا أعي، ولا إدراكَ ما لا أفعل.. ولا فهمت حينها لِمَ يفعل بعض الناس ذلك، في حين غيرهم يُفلحون فلا يفعلون.

حنان فرحات
 •  0 comments  •  flag
Share on Twitter
Published on March 08, 2015 08:07