إسمي زينب
إسمي زينب.
كنت عائدة مع صديقة لي من التسوق. كالعادة، كنتُ أحدثها عمّا أعجبني في أحد المحلات، بيدي اليمين ألوّح لها وأشير من مقعدي جانب سائق الباص إليها حيث تجلس في الصف الأول خلفه. كانت كلماتي الممثلة بحركات أصابعي المتتابعة تتدفق غزيرة، تسمعها هي ولا يفقهها الآخرون.
كنت أجلس مطلّة على الركاب جميعهم، لا بقصد لفت الانتباه، بل لأرشد السائق إلى وجهتي حين أصل كي لا أواجه صعوبة في إيقافه في الوقت المناسب. وكانت هي قبالتي، تواجهني أنا.
كانت نظرات العسكري الأول، والثاني، ومن يليه تأكل أصابعي من بعيد. وكان لسان السيدة الجالسة بجانب صديقتي يصدح بكوني كثيرة الكلام، مزعجة الآذان. ضحكَتْ، وضحكوا. مع أن صوتي لم يتعدّ حدود اليد، ولم يطرق أسماع أحد، إلا أن نصيبه من المزاح ونظرات الجميع لم يفُته.
خلف صديقتي تجلس ثلاث فتيات، لم ألحظهن منذ ركوبنا حتى مرحلة متأخرة. لم يضحكن مع الرّكب، ولكنهن لم يستطعن إخفاء دهشتهن. قبل أن أنزل بقليل، همست واحدة منهن للأخرى ببعض الكلمات التي لم أفهم لعدم تحريكها شفاهها بشكل واضح. كان جلياً أنهن يتناقشن بشيء مهم، لكن الأمر لا يخصني بكل الأحوال..!
هكذا حدثت نفسي، حتى أطلّت تلك الجالسة أقصى الشمال مادة ذراعها من الخلف مناولة إياي هاتفها.
أخذته ظناً مني أنها تريد وصله بالشاحن، وقد هممت بإخبارها ألّا شاحن لدى السائق حين تنبّهت إلى كونها كتبت شيئاً لي.
قالت:
"أنا حنان.
هل من الممكن أن أتواصل معك إن كان لديك هاتف؟"
رفعت رأسي مذهولة، إسمي ليس حنان. إسمي زينب.
هزت رأسها نافيةً، ثمّ استعادت الهاتف وكتبت:
"إسمي حنان، ما اسمك؟
هل نستطيع أن نصبح أصدقاء؟"
نظرت إليها فوجدتها تؤكد مشيرة إلى نفسها:
"أنا حنان".
كتبت لها رقم هاتفي ثم انصرفت عنها لصديقتي. أخبرتها أن هذه الفتاة تقول إن اسمها حنان وترغب بالتواصل معي. استغربت هي الأخرى وخمّنت أنها قد تكون راغبة في تقديم نوع من المساعدة.. أو قد تكون معنية بشؤون ذوي الاحتياجات الخاصة ولديها عرض ما لنا، ووافقتها الرأي.
عدت إلى المنزل ذاك اليوم، وقبل أن أنام، فكرت ملياً في أمر حنان. ترى هل ستكلمني أم إنها ممن يتبجحون في العلن ثم يختفون؟ هل تكون يد عونٍ؟ أنا لست بحاجة إليها في كل الأحوال، مردود عملي يكفيني، وكلماتي الشبه مفهومة تفي بالغرض. والصوت المبهم الذي يبثه جهاز السمع خير من لا شيء. لا يعني ذلك أنني لا أتمنى لو كنت أسمع بشكل أفضل.. كنت سأدرس بفعالية أكثر من مجرد تعلم الكتابة وقراءة الشفاه في مدرسة خاصة بذوي الاحتياجات الخاصة.
صحيح. أمضيت هناك ست سنوات، عُرفتُ فيها بالخرس. هناك نصنف أنفسنا بوضوح. كلنا أصدقاء، مميزون بنقصنا عن البقية ممن هم خارج حدود المركز. لا يعيب أحدنا أن يكون من غير حاسة أو اثنتين، ولا ينقص أحداً منا طيبة القلب ونقاؤه.
انتظرت اتصالاً من حنان، على مدار أسبوع أو اثنين. انتظرتها حتى نسيتها. لم تتصل، ولم يكن معي رقمها حتى يدفعني الفضول لأكلمها. كنت أفكر أنني سأهرع إلى أمي أناولها الهاتف حين تتصل، كي تقدر على فهم مبتغاها. لكنني حين يئست، وصلتني رسالة عبر تطبيق واتساب من رقم غريب.
إنها حنان.
لم تسعني الفرحة.
كنت مأخوذة بفكرة أنها اختارت الكتابة بدل الكلام. لكن جملة بعد أخرى، بدأت أحس بأنني لا أفهم ما تكتب أو ما تقصد.
أخبرتني عن عنوانها، وأنها ترغب بالتواصل معي. ذكرت شيئاً عن الكتابة، وعن مشروع يظهر حياة الصم والبكم على حقيقتها، مشيدة بقوة شخصيتي التي ظهرت في الباص سابقاً. قالت إنني الشخص الأنسب للكتابة عنه، واستأذنتني في ذلك.
توقفت عن الرد لبرهة.
تنفست، تنهدت.
لم تكن تريد أن تساعدني.. بل أن أساعدها.
قلت لا بأس.
لأرَ ما قد يلي ذلك.
بدأت تسألني عن حياتي، كيف بدأت بفهم مشكلتي، كيف كنت أتواصل مع من حولي، من كان يضايقني... كيف تعلمت أن أكتب، ماذا عن أصدقائي، منبع جرأتي؟
ضحكت بيني وبين نفسي.
قلت لها أنا لست قوية كما تظنين. بل إنني هشّة حدّ البكاء إن ما صادفتُ مهب الريح.
لكنك كنت تدبرين أمرك بشكل رائع في الباص، قاطعتني.
لا تعلم أنني أكون قوية في حضور من يحتاجني، كصديقتي، لكنني أضعُف عند الوحدة. كيف أشرح لها أنني أخجل حين ينتصف بي النهار ويطول الطريق! أجزع عندما أحس بالكلمات تخرج مني دون أن أدري هل أصابت سهامها أم لا.. وتضيق أنفاسي حين أحاول إيصال معلومة أو فكرة عبثاً!
كيف أخبرها أن قواميس العالم لا تستطيع شرح نقص..!
تقول: كلنا ناقصون. أنت نقصك واضح، ولذلك أنت محظوظة، ودليل ذلك حمدك لله بين كل كلمة وأختها. وأما المساكين فمن لا يدركون نقصهم، ويتملكهم الكِبر، ويتلبّسهم الغرور.
تظن نفسها في عالم مثالي. أدرك أنها تحاول مساعدتي بكلماتها تلك. أو مجرد جعلي أستمر في الحديث. لكنها لن تعي حقاً ما أشعر به من مجرد إجابات مقتضبة أتحكم بأطوالها وأنا منزوية بمفردي في السرير.
قررت أن أتوقف عند ذاك الحد.
لا أريد أن أنكشف للعالم، فليبقَ ناقصاً قصَتي، ولأبقَ مع نقصي، ولتجد هي شخصاً آخر تبني عليه قصتها.
أريد أن أنام، أنا مريضة ولدي عمل غداً، قلت لها.
تصبحين على خير، نبقى على تواصل، قالت.
ولم أردّ.
لم أرِد أن أعدها بشيء قد لا يحصل.
حنان فرحات | ٢.١٧