سلطان العامر's Blog
May 27, 2021
صراع القبة: هل أصبحت المعارضة غاية بذاتها؟
نشهد في أيامنا هذه احتدام حاد في الصراع السياسي، أدى إلى تعطيل الحركة الإصلاحية وكبح جماحها وعرقلتها من خلال معارضة الحكومة للإصلاح من جهة والمطالبات الشعبية المتزايدة، وقد بدأ الصراع مبكراً في التصويت حول رئاسة المجلس، فاتخذت الحكومة مرزوق الغانم مرشحاً لها معارضةً بذلك المطالب الشعبية الواسعة والتي مثلها أكثر من ٤٠ نائباً في اجتماع خاص عقد قبل الجلسة الافتتاحية لمجلس الأمة، وبعد أن انحازت السلطة لمشروع العهد القديم متراجعةً بذلك عن الوعود التي عبر عنها رئيس الحكومة في خطابه الأول أمام مجلس الأمة، لم تقف الحكومة عند ذلك الحد بل تقدمت بخطوات اعتبرتها الأغلبية البرلمانية تجاوزاً صارخاً على مطالب الشعب وآماله، فقد تدخلت الحكومة بثقلها الكبير في اللجان البرلمانية والسيطرة عليها ثم تعليق الجلسات لمدة شهر كامل، تطورت الأحداث بشكلٍ متسارع وحاد مما أدى الى إنغلاق في الأفق السياسي بعد أن شطب الداهوم وأقسمت الحكومة بعد تشكيلها، فيما تقف الأغلبية البرلمانية عاجزة عن إيجاد حلول وآليات جديدة للصراع داخل قبة عبدالله السالم وذلك لضعف الإمكانات البرلمانية في كبح جماح السلطة ومساعيها لتقوض الحركة الإصلاحية، فقد عجزت المعارضة عن تعيين مرشحها للرئاسة وعن استحواذها على اللجان ثم فشلها بتشكيل تحقيق فيما حدث في الجلسة الإفتتاحية ثم شطب الداهوم واخيراً فشلها في تعطيل القسم، إن أكثر من ثلاثين نائباً من أصل خمسين لم يكفي المعارضة لتتجاوز القدرات المهولة التي منحها الدستور واللوائح للحكومة لبسط يدها على العملية البرلمانية.
تظهر المعارضة وعلى الرغم من شخصيات بارزة وذات تاريخ برلماني طويل عجزا واضحا في إدارة الصراع مما يجعلها مكبلةً أمام الضربات التي تشنها الحكومة، مما يضع الكتلة البرلمانية الإصلاحية في حالة من الدفاع الدائم والتفاعل كردة فعل على الممارسات السلطوية، نكتشف من خلال المتابعة الدقيقة للصراع أن مشكلة هامة وملحة قد أثرت كثيرا على قدرة الحركة الإصلاحية في إحراز مكاسب جديدة وبقاء دورها في حدود حماية ما يمكن حمايته من المكتسبات التاريخية، إن هذا التوتر الدائم والذي يشل الحركات الإصلاحية منذ نشئها على طول التاريخ السياسي الكويتي سببها أن الصراعات السياسية بمختلف أشكالها تحصر في البرلمان، الذي غالباً ما يعطي للحكومة اليد العليا فيه، تسعى الحركات الإصلاحية أن تقرْ الأحزاب لإدراكها لضرورتها في تنظيم العمل السياسي ، ولكن وجود الأحزاب لا يكفي لتوسيع دائرة الصراع أو تنويعها وهذا ما تحتاجه الحركات الإصلاحية، إن ما على الحركات الإصلاحية فعله هو استيعاب نقاط القوى لدى الحكومة والقفز على حدودها ، فإن أي دعوة لحصر الصراع داخل القبة البرلمانية هي دعوة للمثول أمام طغيان اليد العليا فيه وهي الحكومة.
يشتد الصراع بين السلطات الثلاث فتارةً تتقدم السلطة من خلال جهازها التنفيذي بالتعدي على السلطة التشريعية وبرلمانها وتارةً يصد البرلمان هذه التعديات بدعمٍ شعبي جارف، فيما تبقى السلطة القضائية ممزقةً بين دستورية تطعن في احكام التميز كقضية الغاء عضوية د. بدر الداهوم في مارس ٢٠٢١ وإلغاء عضوية النائبين السابقين د. جمعان الحربش و د. وليد الطبطبائي أكتوبر ٢٠١٨، وتظهر المعارضة انشقاقاً واضحاً للعيان بين توجهٍ يدعو إلى حل البرلمان وإعادة انتخاب رئيسه وتغيير رئيس الوزراء بقيادة العضو السابق د. فيصل المسلم وأعضاء برلمانين على رأسهم محمد المطير وشعيب المويزري، فيما تبقى كتلة ناعمة -تفاوضية- مكبلة بين استبداد الحكومة وصلابة المعارضة بقيادة د. حسن جوهر تفتقد الجرأة السياسية وغموض المطالبات.
يعطي هذا النوع من المعارضة ما بين كتلة صلبة وأخرى ناعمة ميزة تستطيع المعارضة استغلالها لتحقيق مطالباتها، فلولا وجود كتلة صلبة قادرة على تأجيج الرأي العام وممارسة الضغط على الحكومة لاستهانت الأخيرة بها، ومن ناحية أخرى تساهم هذه الكتلة الصلبة بتقييم المعارضين وجعلهم تحت الرقابة الشديدة للرأي العام مما يجعلهم ملتزمين بمواقفهم الإصلاحية حتى وإن اضمروا غير ذلك، فالرصيد الشعبي هو المهم، فيما تتجسد مساوءاها في قدرتها على الانحراف عن التقويم والرقابة على الكتلة الإصلاحية ككل إلى ممارسة المزايدات الشعبوية تجاه الكتلة الناعمة، مما يؤدي الى إمكانية انقسام المعارضة وتفككها من جهة أو جمودها وعدم قدرتها على المفاوضة والمبادرة من جهة أخرى.
تكمن مشكلة الكتلة الناعمة -التفاوضية- بأنها تتفق على المطالب العامة كقضية العفو وتغيير النظام الانتخابي وقوانين الحريات وامن الدولة وملف الجنسية وغيرها، فيما تختلف في تفاصيل هذه القضايا مما يجعل فرصة انقسامها واختراقها من قبل الحكومة امراً متوقع، تحتاج هذه الكتلة التي يتزعمها ضمنياً د. حسن جوهر إلى تحديد القضايا المتفق عليها ومناقشة التفاصيل فيها حتى يتم الاتفاق، كي تتمكن من اظهارها للرأي العام ومناقشتها وتأييدها او تعديلها، وهذا ما سيضفي الشرعية على هذه المطالبات ونوع التعديلات المطلوبة شعبياً، فالخلاف على النظام الانتخابي على سبيل المثال ما زال قائما داخل الكتلة وما زال يهدد اجتماعها وغيرها من القضايا الأخرى كالتي تتعلق بالحريات وقوانين أمن الدولة.
تتضح المشكلة العميقة في العمل السياسي الكويتي من خلال غياب التنظيم السياسي عن طريق الأحزاب وضعف المجتمع المدني المعزول سياسياً ممثلاً بالنقابات وجمعيات النفع العام عن الصراع السياسي بشكل واضح وهذا ما يقلل من الأدوات التي يمكن للحركة الإصلاحية الاستفادة منها، ليس فقط من خلال الإضرابات الجزئية والشاملة التي بواسطتها يستطيع الإصلاحيون إرضاخ الحكومة وإجبارها على الجلوس على طاولة الحوار، بل ومن خلال خلق كيانات تسمح باستقطاب المواطنين المسيسين في الحركة الإصلاحية، مما يوسع رقعة الصراع وينوع أدواته، فدمج الناشطين السياسيين في الحركة الإصلاحية أحد أهم الضرورات التي تقتضيها المرحلة. يمكننا أن نقول بما لا يقبل الشك فيه أن خلق قنوات بين الأعضاء والسياسيين خارج البرلمان هو أمرٌ لا يمكن تجاوزه في حال التحول الديمقراطي المنشود في الكويت، ولكن نوع تلك القنوات أو الحواضن أيّ مؤسسات المجتمع المدني لا يجب أن تكون مرهونة بطبيعة أعضاء البرلمان وعلاقتهم بمن هم خارج اللعبة البرلمانية، بل إن تخليص النقابات وجمعيات النفع العام من سلطات الدولة ضرورةٌ لا بد منها، إن بناء الدولة الحديثة وديمقراطيتها لا يقوم إلا على وجود مؤسسات أهلية معترف بها من قبل الدولة وخارج حدود سلطاتها في آنٍ واحد، وهذه الضرورة هي ضرورة قصوى على الإصلاحيين إدراكها والعمل لتحقيقها، فلا يمكن أن ينتهي دور الشعب وسياسيه بعد أن يتم إنتخاب أعضاء البرلمان، بل على هذا الوجود أن يستمر كي يكون داعماً للإصلاح ومراقباً لدور مقيميه.
صراع القبة
الكاتب: عمر العبدلي
قراءة في المشهد السياسي الكويتي
هل أصبحت المعارضة غاية بذاتها؟
نشهد في أيامنا هذه احتدام حاد في الصراع السياسي، أدى إلى تعطيل الحركة الإصلاحية وكبح جماحها وعرقلتها من خلال معارضة الحكومة للإصلاح من جهة والمطالبات الشعبية المتزايدة، وقد بدأ الصراع مبكراً في التصويت حول رئاسة المجلس، فاتخذت الحكومة مرزوق الغانم مرشحاً لها معارضةً بذلك المطالب الشعبية الواسعة والتي مثلها أكثر من ٤٠ نائباً في اجتماع خاص عقد قبل الجلسة الافتتاحية لمجلس الأمة، وبعد أن انحازت السلطة لمشروع العهد القديم متراجعةً بذلك عن الوعود التي عبر عنها رئيس الحكومة في خطابه الأول أمام مجلس الأمة، لم تقف الحكومة عند ذلك الحد بل تقدمت بخطوات اعتبرتها الأغلبية البرلمانية تجاوزاً صارخاً على مطالب الشعب وآماله، فقد تدخلت الحكومة بثقلها الكبير في اللجان البرلمانية والسيطرة عليها ثم تعليق الجلسات لمدة شهر كامل، تطورت الأحداث بشكلٍ متسارع وحاد مما أدى الى إنغلاق في الأفق السياسي بعد أن شطب الداهوم وأقسمت الحكومة بعد تشكيلها، فيما تقف الأغلبية البرلمانية عاجزة عن إيجاد حلول وآليات جديدة للصراع داخل قبة عبدالله السالم وذلك لضعف الإمكانات البرلمانية في كبح جماح السلطة ومساعيها لتقوض الحركة الإصلاحية، فقد عجزت المعارضة عن تعيين مرشحها للرئاسة وعن استحواذها على اللجان ثم فشلها بتشكيل تحقيق فيما حدث في الجلسة الإفتتاحية ثم شطب الداهوم واخيراً فشلها في تعطيل القسم، إن أكثر من ثلاثين نائباً من أصل خمسين لم يكفي المعارضة لتتجاوز القدرات المهولة التي منحها الدستور واللوائح للحكومة لبسط يدها على العملية البرلمانية.
تظهر المعارضة وعلى الرغم من شخصيات بارزة وذات تاريخ برلماني طويل عجزا واضحا في إدارة الصراع مما يجعلها مكبلةً أمام الضربات التي تشنها الحكومة، مما يضع الكتلة البرلمانية الإصلاحية في حالة من الدفاع الدائم والتفاعل كردة فعل على الممارسات السلطوية، نكتشف من خلال المتابعة الدقيقة للصراع أن مشكلة هامة وملحة قد أثرت كثيرا على قدرة الحركة الإصلاحية في إحراز مكاسب جديدة وبقاء دورها في حدود حماية ما يمكن حمايته من المكتسبات التاريخية، إن هذا التوتر الدائم والذي يشل الحركات الإصلاحية منذ نشئها على طول التاريخ السياسي الكويتي سببها أن الصراعات السياسية بمختلف أشكالها تحصر في البرلمان، الذي غالباً ما يعطي للحكومة اليد العليا فيه، تسعى الحركات الإصلاحية أن تقرْ الأحزاب لإدراكها لضرورتها في تنظيم العمل السياسي ، ولكن وجود الأحزاب لا يكفي لتوسيع دائرة الصراع أو تنويعها وهذا ما تحتاجه الحركات الإصلاحية، إن ما على الحركات الإصلاحية فعله هو استيعاب نقاط القوى لدى الحكومة والقفز على حدودها ، فإن أي دعوة لحصر الصراع داخل القبة البرلمانية هي دعوة للمثول أمام طغيان اليد العليا فيه وهي الحكومة.
يشتد الصراع بين السلطات الثلاث فتارةً تتقدم السلطة من خلال جهازها التنفيذي بالتعدي على السلطة التشريعية وبرلمانها وتارةً يصد البرلمان هذه التعديات بدعمٍ شعبي جارف، فيما تبقى السلطة القضائية ممزقةً بين دستورية تطعن في احكام التميز كقضية الغاء عضوية د. بدر الداهوم في مارس ٢٠٢١ وإلغاء عضوية النائبين السابقين د. جمعان الحربش و د. وليد الطبطبائي أكتوبر ٢٠١٨، وتظهر المعارضة انشقاقاً واضحاً للعيان بين توجهٍ يدعو إلى حل البرلمان وإعادة انتخاب رئيسه وتغيير رئيس الوزراء بقيادة العضو السابق د. فيصل المسلم وأعضاء برلمانين على رأسهم محمد المطير وشعيب المويزري، فيما تبقى كتلة ناعمة -تفاوضية- مكبلة بين استبداد الحكومة وصلابة المعارضة بقيادة د. حسن جوهر تفتقد الجرأة السياسية وغموض المطالبات.
يعطي هذا النوع من المعارضة ما بين كتلة صلبة وأخرى ناعمة ميزة تستطيع المعارضة استغلالها لتحقيق مطالباتها، فلولا وجود كتلة صلبة قادرة على تأجيج الرأي العام وممارسة الضغط على الحكومة لاستهانت الأخيرة بها، ومن ناحية أخرى تساهم هذه الكتلة الصلبة بتقييم المعارضين وجعلهم تحت الرقابة الشديدة للرأي العام مما يجعلهم ملتزمين بمواقفهم الإصلاحية حتى وإن اضمروا غير ذلك، فالرصيد الشعبي هو المهم، فيما تتجسد مساوءاها في قدرتها على الانحراف عن التقويم والرقابة على الكتلة الإصلاحية ككل إلى ممارسة المزايدات الشعبوية تجاه الكتلة الناعمة، مما يؤدي الى إمكانية انقسام المعارضة وتفككها من جهة أو جمودها وعدم قدرتها على المفاوضة والمبادرة من جهة أخرى.
تكمن مشكلة الكتلة الناعمة -التفاوضية- بأنها تتفق على المطالب العامة كقضية العفو وتغيير النظام الانتخابي وقوانين الحريات وامن الدولة وملف الجنسية وغيرها، فيما تختلف في تفاصيل هذه القضايا مما يجعل فرصة انقسامها واختراقها من قبل الحكومة امراً متوقع، تحتاج هذه الكتلة التي يتزعمها ضمنياً د. حسن جوهر إلى تحديد القضايا المتفق عليها ومناقشة التفاصيل فيها حتى يتم الاتفاق، كي تتمكن من اظهارها للرأي العام ومناقشتها وتأييدها او تعديلها، وهذا ما سيضفي الشرعية على هذه المطالبات ونوع التعديلات المطلوبة شعبياً، فالخلاف على النظام الانتخابي على سبيل المثال ما زال قائما داخل الكتلة وما زال يهدد اجتماعها وغيرها من القضايا الأخرى كالتي تتعلق بالحريات وقوانين أمن الدولة.
تتضح المشكلة العميقة في العمل السياسي الكويتي من خلال غياب التنظيم السياسي عن طريق الأحزاب وضعف المجتمع المدني المعزول سياسياً ممثلاً بالنقابات وجمعيات النفع العام عن الصراع السياسي بشكل واضح وهذا ما يقلل من الأدوات التي يمكن للحركة الإصلاحية الاستفادة منها، ليس فقط من خلال الإضرابات الجزئية والشاملة التي بواسطتها يستطيع الإصلاحيون إرضاخ الحكومة وإجبارها على الجلوس على طاولة الحوار، بل ومن خلال خلق كيانات تسمح باستقطاب المواطنين المسيسين في الحركة الإصلاحية، مما يوسع رقعة الصراع وينوع أدواته، فدمج الناشطين السياسيين في الحركة الإصلاحية أحد أهم الضرورات التي تقتضيها المرحلة. يمكننا أن نقول بما لا يقبل الشك فيه أن خلق قنوات بين الأعضاء والسياسيين خارج البرلمان هو أمرٌ لا يمكن تجاوزه في حال التحول الديمقراطي المنشود في الكويت، ولكن نوع تلك القنوات أو الحواضن أيّ مؤسسات المجتمع المدني لا يجب أن تكون مرهونة بطبيعة أعضاء البرلمان وعلاقتهم بمن هم خارج اللعبة البرلمانية، بل إن تخليص النقابات وجمعيات النفع العام من سلطات الدولة ضرورةٌ لا بد منها، إن بناء الدولة الحديثة وديمقراطيتها لا يقوم إلا على وجود مؤسسات أهلية معترف بها من قبل الدولة وخارج حدود سلطاتها في آنٍ واحد، وهذه الضرورة هي ضرورة قصوى على الإصلاحيين إدراكها والعمل لتحقيقها، فلا يمكن أن ينتهي دور الشعب وسياسيه بعد أن يتم إنتخاب أعضاء البرلمان، بل على هذا الوجود أن يستمر كي يكون داعماً للإصلاح ومراقباً لدور مقيميه.
April 25, 2021
الديمقراطية وثقافة الجماهير
الكاتب: عمر العبدلي
يستخدم الاستبداد العربي خطابين لنقد الحركات الشعبية الساعية للتحول الديمقراطي في الوطن العربي منذ أوائل القرن العشرين وإلى يومنا هذا، أولها هو جهل الشعوب العربية ووعيها المتدني بالديمقراطية ومن ثم -وهو ثانيها- أن الديمقراطية لن تأتي بالاستقرار والتنمية.
إذ تحاول الأنظمة التسلطية بأدواتها الإعلامية ان تنتقد الوعي السياسي للشعب العربي بوصفه شعباً جاهلاً في السياسة من جهة وغير جاهز للديمقراطية من جهة أخرى، وقبل تفنيد هذا الإدعاء الزائف والساذج، نطرح نحن كأفراد في هذه الشعوب سؤالاً حول مسألة الجهل في شؤون السياسة التي تدعيها الأنظمة في دعاياتها التاريخية
هل حظيت الديمقراطيات في العالم بشعوبٍ ذات ثقافةٌ ديمقراطية في ظل الاستبداد أم بعد ممارسة الديمقراطية؟
ونتساءل أيضا عما فعلته هذه الأنظمة طوال نصف قرن وأكثر لمجتمعاتها؟ هل ساهمت في زيادة الوعي؟ فإذا كانت الإجابة بنعم، فهذا يبطل ادعاءها وينقضه، أما إذا كانت الإجابة لا، أيّ أنها لم تساهم في رفع مستوى الوعي السياسي للجماهير، فهي إذن ليست أهلاً للحكم وكفؤاً له ولإدارة شؤوننا، بل إن هذا تأكيد على صدق مطالبات الجماهير العربية، وعلى فشلها -أي الأنظمة- في توعية وتأهيل المجتمع وبنائه، وهو الدور الرئيسي للدولة الوطنية ومن يتربع في سدة حكمها.
وهل يعني خطاب الأنظمة العربية هذا بأنها تسعى للتخلي عن تسلّطها والبدء في مشروع التحول الديمقراطي حتى تهتم بجاهزية المجتمع؟ لا أعتقد، فهي تدعّي بأنها الاكفأ في الحكم من الشعب كافة، ولكن ما برهانهم على دعواهم وما مبدأ الكفاءة التي تستند إليه؟
إن الدول العربية تعيش عالةً على مجتمعاتها ومثبطة لعزائم شبابها وشاباتها وحاصدةً لروح نهضتها وتقدمه، منذ عهد الاستقلال، فالانقلابات العسكرية والعائلية والإحتلالات والغزوات على الدول المجاورة والحروب العبثية كانت عناوين المشهد السياسي العربي منذ عقود، سالبةً بذلك كل حجة عقلانية ترفع من قدر الحكام وتاريخ حكمهم، وبعد أن أتى الربيع العربي وانتفضت الجماهير وطالبت بالحرية والكرامة والعدالة الاجتماعية، رفض الاستبداد ان ينصاع لهذه المطالبات مؤكداً على فشل الدولة العربية الممتد منذ عهد الاستقلال في تلبية طموحات الشعوب وعلى انشغاله بتبديد مقدرات الوطن وامتهان كرامات المواطنين.
الواقع يرفض من حيث هو أن يثبت دعوى الإستبداد هذه فهو شاهدٌ على أنظمة يطغى عليها العنف والحرمان، بل إن سجونها ومنافيها أكثر مؤسساتها حداثةً وتطوراً وفعالية، وكذلك أنظمتها التكنولوجية فيما يخص الرقابة والتنصت. ليس من بين تلك الدول من تفتخر بجامعاتها أو برلماناتها أو دساتيرها الحديثة أو حتى رضا مواطنيها عنها.
إذن تؤكد الأدلة والشواهد فشل هذه الأنظمة التسلطية في تحقيق الأستقرار والأمن وحفظ الكرامة الإنسانية والحقوق الأساسية والتنمية الحضارية. فالإستقرار التي تؤكد عليه هو صمت الشعوب، والأمن هو سجن المعارضين ونفيهم، والكرامة هي لمن في سدة الحكم، والتنمية هي لجماعات طفيلية وعلاقات فساد تاريخية.
ينفي الديمقراطيون بأن الديمقراطية هي الحل النهائي لكل المشكلات التاريخية، فهي لا تحقق النعيم على الأرض ولكنها بالمقابل لا تجعل الأرض جحيماً كما يفعل الاستبداد، فالديمقراطية تستند على أساسين جوهريين وهما الحرية والتجربة، ولا عجب أن يكون أعتى منظريها، جون لوك، الفيلسوف الإنجليزي الشهير ليبرالياً يؤمن بحرية الاعتقاد والتعبير، وأن يكون تجريبياً كذلك مؤمناً بأن الوسيلة الوحيدة لمعرفة صحة نظريةٍ ما، ممكنة فقط من خلال التجربة.
فالديمقراطية تحمل في جوهرها نظرية علمية وهي القابلية للدحض، أي أنه بالتجربة فقط نستطيع معرفة صحة الشيء أو بطلانه، وينسحب هذا المبدأ على المجال السياسي فوفقاً للتجربة وتغييرها أو تكرارها، يمكن معرفة أيّ البرامج السياسية أصلح وأنسب وتشترط مبدأ الحرية كي تمنح الفرصة لمختلف الأفكار أن تناقش وتُختبر، على العكس من الاستبداد، الذي يقدم مشروعاً واحداً ويسجن ويُقتل ويُقصى كل من يشكك فيه، فكيف للناس معرفة صحة المشروع إن كان هو المشروع الأوحد وكيف لهم معرفة المشاريع الأخرى إن كان معتنقوها في غياهب السجون المظلمة؟
إن الديمقراطيات الراسخة في العالم الغربي لم توجد كما هي بل مرّت بتقلبات وإشكالات كبرى، ففي فرنسا قطع رأس الملك لويس السادس عشر إبان الثورة ثم شهدت منذ ذلك الحين قيام ٤ جمهوريات وسقوطها، وتعيش الآن جمهوريتها الخامسة، أما الولايات المتحدة الأمريكية فقد خاض شعبها حرباً أهلية ضارية ما بين ١٨٦١-١٨٦٥، وليس الاقتحام الأخيرة للكونغرس سوى أحد أشكال هذه الاضطرابات المستمرة، فيما النموذج البريطاني فقد مرّ بما لا يقل عن كلاهما فقد كان الصراع الديني ما بين الملكية والكنيسة والطوائف الأخرى والإقطاع حاداً وأدى في مراحل الى أسر الملك وقطع رأسه على يد كرومل إبان الثورة البيوريتانية ١٦٤٢ وبعد تطورات كبيرة انتهت بالثورة المجيدة التي نصبت غيوم دورانج وزوجته ماري ملكين على انجلترا ١٦٨٩، وآخرها محاولة الملكة تعليق البرلمان عام ٢٠١٩ بعد طلب رئيس الوزراء الحالي بوريس جونسن، والذي أبطلته المحكمة العليا.
إن قراءة التاريخ تؤكد لنا ان العملية الديمقراطية ليست ثابتة ومنتهية بل هي صيرورة مستمرة لترسيخ المؤسسات المدنية وإشراك الجماهير، وليس أيّ من هذه الأنظمة العربية السلطوية من ساهم في ترسيخ المؤسسات أو أشرك الجماهير في بناء الدولة، ولنا في تجربة البعث في سوريا الأسد وصدام حسين في العراق والقذافي في ليبيا وغيرهم عبراً لنعتبر.
March 4, 2020
عن الكتابة
قبل عدة أيام وصلني بريد إلكتروني يبشرني بموافقة مطبعة إحدى الجامعات الأمريكية على مقترح كتاب تقدمنا به أنا ومجموعة من الأكاديميين والذي سيشارك فيه كل واحد منّا بفصل. تعجّبت من نفسي وأنا أقرأ البريد، فلم تكن السعادة ولذة الإنجاز هو أول ما شعرت به بقدر ما كان شعور بالضيق بأن إلتزاما جديدا سيضاف الآن لقائمة طويلة تنتظرني من الإلتزامات. عندما قمت بكتابة أول مقالة لي قبل عشرين عاما، لم أكن أعلم يوما بأن الكتابة ستتحول من مجرد كونها شغفا وهواية إلى مهنة تحمل ما تحمله المهنة من معاني ومشاعر الإغتراب.
عندما كنت أسئل “ماذا تريد أن تصبح إذا كبرت؟” أجيب: “طيار”. لم تكن الكتابة حلما أو غاية، بل لم تكن تقدم على أنها مهنة أصلا. لو أردت تحديد نقطة بداية اعتباطية لعلاقتي مع الكتابة، فإن أول ما يحضر في ذهني هو بدايات القراءة المتبعثرة. فأنا أتذكر جيدا أول كتاب تعثرت به. كان ذلك ذات صيف قديم، بينما كنت في المرحلة المتوسطة أقضي جزءاً من الإجازة في الرياض عند خالتي في حيّ الربوة، أحد تجمّعات القصمان في الرياض. فالرياض، على الأقل في تلك الفترة، ليست من ذلك النوع من المدن الذي ينصهر فيه الناس. أحد الأصدقاء يصفها بأنها مدينة بلا معدة، تأكل الناس ولا تهضمهم. فهي أقرب ما تكون إلى مجموعة من التجمعات المناطقية والقبلية المتراصة جنبا إلى جنب: حيّ للقصمان هناك بجانبه حيّ لأهل الزبير، وهناك حيّ لأهل الجنوب، وهكذا، لدرجة أنك تستطيع التنبؤ بأحياء الأشخاص بمجرد أن تعرف من أي منطقة أو خلفية اجتماعية يتحدرون منها. الفقر وحده، ربما، هو الذي يتجاوز هذه الحدود المناطقية والقبلية، ذلك أن الفقراء من كل الأماكن يعيشون في نفس الأحياء المهمشة والفقيرة والمهملة.
في ذلك الصيف، أتذكر أنه كان هناك بالقرب من بيت خالتي أسواق كبيرة اسمها “أسواق الشثري” والذي يبدو أنه قد اختفى من الوجود. كانت هذه الأسواق مبهرة بالنسبة لي، ففيها كل ملذات الدنيا مجتمعة في مكان واحد: أصناف الحلوى والشوكولاته مثل حلوى الرافايلو والريفيرو روشيه والفانفير، وكان هناك ممر كامل فيه كل لعبة يمكن أن يتخيلها طفل. فيه درج آلي وأبواب تفتح دون أن تمسّها، كل هذا كان جديدا عليّ. في ذاك الوقت، بداية التسعينات الميلادية، كان عمر الأسواق التجارية الكبيرة عشر أو خمسة عشر سنة. إذ ءن بدايتها تعود لأواخر السبعينات، عندما أسس كل من عبدالله فؤاد وعلي التميمي، وهما تاجران من المنطقة الشرقية من الذين بنوا تجارتهم من التعاقد مبكراً مع آرامكو، أسواق التميمي بالتعاقد مع شركة (سيف وي) الأمريكية. وفي الرياض أسس الأمير الوليد بن طلال أسواق العزيزية، وأسس حمد سعد الإبراهيم شركة بندة في الرياض، ليندمجا معا في مطلع التسعينات. وفي عام ١٩٨٠، قام عبدالله العثيم، ابن صالح العثيم الذي كان صاحب دكّان صغير في حلة القصمان في الرياض لبيع المواد الغذائية، بتأسيس أسواق العثيم.
في مطلع التسعينات، لم يكن هناك في بريدة أسواق كبرى بهذا الشكل، كان هناك فرع واحد لبندة افتتح في حيّ الصفراء نهاية الثمانينات مقابل موقع الإمارة الحالي ويبدو أنه اختفى من الوجود أيضا. وكنا لا نذهب إلى بندة إلا مرات قليلة جدا،وهي المرات القليلة التي نأكل فيها في مطعم هرفي الملاصق به لأن حمد الإبراهيم، مالك بندة، يملك حصة كبيرة من هرفي التي أسسها مطلع الثمانينات مع أحمد السعيد. ويمكنني التجرأ على القول، أن هرفي هو من أوائل سلاسل الوجبات السريعة في السعودية التي قدمت وعرفّت بالأكلات الأمريكية للمستهلك السعودية. وتسميته بـ”هرفي” غريبة، فالهرفي في اللهجة النجدية يعني الخروف صغير السنّ، والمطعم لا يقدم أيّ وجبة فيها لحم غنم رغم أن اسمه وشعاره القديم كان على شكل رأس خروف. وأعتقد أن تسميته بهرفي ووضع صورة رأس خروف في الشعار كان لجذب أهل نجد لهذا النوع من المأكولات الجديدة، خصوصا أن أهل نجد كانوا إلى فترة قريبة لا يأكلون لحم البقر. ولهذا السبب نجد البرجر الدجاج مشتهر في السعودية بشكل كبير جدا في حين أنه في أمريكا ظاهرة جديدة، بل إن وجبة “الماك تشيكن” الشهيرة في فروع ماكدونالدز السعودية لا يوجد مشابه لها في الفروع الأمريكية.
لنعد إلى ذلك الصيف. ففي كل مرة كنت أحاسب فيها في أسواق الشثري عن حلوياتي وألعابي وعصائري كنت أرى كتابا معروضا للبيع بجانب البائع عنوانه “قصص الأنبياء”. وفي كل مرة أود أن أشتريه تغلبني شهواتي فأنفق ريالاتي المعدودة لإشباعها، حتى جاء يوم كانت الغلبة في لي فاشتريته ودخلت به منزل خالتي وبدأت أقرأه. كان هذا أول كتاب اشتريه في حياتي. أذكر أن خالتي رمتني بنظرة ملؤها الاعجاب فانطبع في عقلي أن القراءة شيء محبوب ومدعاة للإعجاب. إلا أني لم أتمكن من قراءة الكتاب. كان صعبا جدا، مكتوبا على طريقة الكتب القديمة التي تعتمد على نقل الأسانيد والروايات في الموضوع الواحد دون اهتمام بحبكة وسرد وترابط. وإذا كانت ذاكرتي سليمة، فأعتقد أنه كان منتزعا من سلسلة البداية والنهاية لابن كثير.
لم تكن هذه أول مرة أجرب فيها القراءة خارج مقررات الدراسة. ففي بيتنا عدد من الروايات البوليسية للكاتبة الإنجليزية آجاثا كريستي كان يأتي بها أخي الأكبر الذي يدرس في جامعة الملك سعود في الرياض. وكان هناك روايات عربية ليوسف السباعي تقرأها أمي، جذبني لها رسومات النساء المنفوشات الشعر على أغلفتها. وكان لنا قريب من “إخوان بريدة”، وهم مجموعة من الأشخاص قرروا اعتزال الدولة الحديثة والعيش بعيدا عنها: ليس لديهم أوراق حكومية، لا يدرسون أبناؤهم وبناتهم في مدارسها، ولا يعملون بوظائف حكومية، ولا يتعاملون مع البنوك. كانت لديهم مدارسهم الخاصة التي ينفقون عليها من أموالهم، ويعملون غالبا في مزارع النخيل المحيطة ببريدة. وهذا القريب، الرافض للمدرسة والحياة النظامية، كان أول من شجعني على القراءة والإطلاع خارج مقررات الدراسة. أذكر أنه أهداني كتابا عن محنة خلق القرآن للإمام أحمد بن حنبل، وكان صعبا مكتوبا بنفس الطريقة الأسانيدية غير المشوقة التي واجهتها مع كتاب قصص الأنبياء. لكنه أيضا أهداني كتاب السيرة النبوية للأطفال التي كتبها الشيخ محمد بن عثيمين، وكان مكتوبا بأسلوب سهل سلس فيه أسئلة بعد كل فصل. هذا الكتاب حفظته صمّا.
في المتوسطة كنا انتقلنا من حيّ الإسكان شمال بريدة إلى حيّ الصفراء وسط المدينة الجديد. في ذلك الوقت، لم تكن البلدية في بريدة تأبه بتسمية الشوارع، فكان الناس يسمون شوارعهم باسمهم. بالقرب من بيتنا كان هناك شارع يعرف باسمين محليين: الشباب المتدين يسمونه شارع أحد، نسبة لتسجيلات أُحد الإسلامية. وتسجيلات أحد، التي تأسست في عام ١٩٨٦، تعتبر من أشهر المؤسسات التجارية التي انتعشت في فترة الصحوة ولعبت دورا كبيرا في الإنتاج المرئي والمسموع حيث أنتجت ووزعت الكثير من المحاضرات والدروس والأناشيد والأفلام. أما الشباب غير المتدين فيسمونه بشارع المحبين كونه شارع عريض وقريب من عدة مدارس مما يجعله مناسبا لأن يقوم الشباب بالتفحيط لأجل محبوبيهم من طلاب المدارس.
في هذا الشارع كان يقع مكتب والدي العقاري على رأس حرف تي مع شارع طويل يحمل اسمين هو الآخر. فالمهذبين يسمونه بشارع الخياطين ذلك أنه ممتلئ بمحلات الخياطة النسائية التي يبيع فيها رجال من الهند وباكستان وبنجلاديش على النساء اللاتي يقفن مستقبلات واجهات المحلات ومستدبرات الشارع ليتفاوضن مع الخياطين على ملابسهن وتفاصيل مقاسات أجسادهن . وبسبب طريقة وقوفهن أمام محلات الخياطة بدأ البعض، غير المهذب، بتسمية الشارع بـ”شارع المؤخرات”. اليوم لا وجود لمحلات الخياطة هذه، فهي قد تلاشت وحلّ محلها مشاغل نسائية مغلقة تعمل فيها خياطات قادمات من شرق آسيا.
عند التقاء الشارعين، وبالجهة المقابلة لمكتب والدي كانت هناك سوبرماركت صغيرة اسمها “أسواق الراشد”، كانت تأتي بالعديد من المجلات والصحف التي لا يمكن أن توجد في البقالات العادية. كنت بعد كل صلاة جمعة في الجامع الواقع خلفها، أذهب لأسواق الراشد لشراء مجلة ميكي ماوس، وفي آخر المتوسطة كنت مهووسا بقراءة الصحف والمجلات الرياضية. كنت أقسّم الخمسة ريالات التي كانت أمي تعطيني إياها للفسحة لثلاث أقسام: عصير وساندوتش بثلاثة ريال في الفسحة، وريالين لجريدة الرياضية بعد المدرسة.
******
لم تكن أول تجربة كتابة لي في مجال فكري أو سياسي، بل كانت في صحيفة الرياضية عندما كنت في الصف الثاني أو الثالث متوسط. في اللغة الإنجليزية هناك مفردة تنطق هكذا “كونتراريان”، ويعرّفها القاموس بأنه تشير إلى “الشخص الذي يعارض الآراء الشائعة”. في ثقافتنا المحلية، لا توجد كلمة واحدة مشهورة تقبض على هذا المعنى، لكن يقال عن مثل هذا الشخص على سبيل الاستنقاص بأنه “خالف تعرف”، أما الإسلاميين فعادة ما يسمون مثل هذا الشخص “رويبضة”- رغم أن حديث الرويبضة يتحدث عن “الرجل التافه يتكلم في أمر العامة” وليس الذي يخالف التوجهات الشائعة- ويشبهونه بالذي “بال في بئر زمزم” طلبا للشهرة. أنا أعرف هذه الأوصاف جيدا، لأني وصفت بها كلها، باللغتين.
كتب أحد فلاسفة العلم الراديكاليين، واسمه بول فيربيراند، كتابا بعنوان “ضد المنهج” حاجج فيه عن “التعددية النظرية في العلم”، والتي تقوم على عدة مبادئ، أحدها “مبدأ التشبث” الذي تحدث عنه في أحد كتاباته التي عنوانها “تعازٍ للمتخصص. الكلمة الإنجليزية هي “Tenacity” وتعني التمسّك والتشبّث بالرأي، وهي درجة قريبة من درجة العناد لكن تختلف عنها في جانب مهم. في لسان العرب، “العناد أن يعرف الرجل الشيء فيأباه ويميل عنه”، أي أن الرفض في حالة العناد تأتي بعد المعرفة والتحقق، أما حالة التشبث بالرأي فيصلها المرء عندما تكون الحجج المؤيدة للرأي المتشبث به ضعيفة، والحجج المعارضة له أشهر وأقوى، ومع ذلك يختار المرء التشبث بالرأي والسعي لإثباته والإجابة على الإشكالات والاعتراضات التي تفرضها الحجج المعارضة. أي أنه، بخلاف المعاند، لا يعلم أنه مخطئ، بل لديه إحساس، اعتقاد، حدس، شكّ، بأنه محقّ، رغم ضعف حججه مقابل قوّة وشهرة وانتشار حجج الطرف المقابل، إلا أنه يسعى جاهدا لإثبات صحة كلامه بكل ما أوتي من قوّة. يعرف فيربيراند هذا المبدأ قائلا بأنه “الإشارة بأن تختار بين عدة نظريات النظرية التي توحي بأنها أكثر إثمارا، وتتشبّث بها حتى لو كانت الصعوبات التي تواجهها هائلة”. يستخدم فيربيراند هذا المبدأ ليفسر به تطوّر العلوم. فهو يرى أن العلم يتطور لأن العلماء يتشبثون بنظريات تبدو للوهلة الأولى واهية ومناقضة للحقيقة، لكن بسبب هذا التشبّث يتمكنون من تحقيق القفزات العلمية. يسمي هذا السلوك “الاستقراء المضاد”. فجاليليو عندما قرر الدفاع عن نظرية كوبرينسكو حول دوران الأرض كانت الوقائع والحقائق والنظريات العلمية المشهورة مناقضة ومعارضة لنظريته، لكنه تشبّث برأيه، ولولا تشبّثه لما حدثت تلك النقلة الهائلة في العلوم. هناك خيط رفيع جدا يفصل بين التشبث بالرأي وبين العناد، وهذا الحدّ الرفيع هو الذي يجعل الكثير يخطئ فيتهّم متشبثا بالعناد، ويسعى للتفتيش عن دوافع خفيّة وراء هذا العناد، أشهرها طلب الشهرة.
كانت الأندية المشهورة في بريدة أربعة: الهلال والنصر والرائد والتعاون. الأولان من أندية العاصمة الرياض، ويلعبان في دوري الدرجة الممتازة. أما الثانيان، فهما أندية المدينة، وكانا في تلك الفترة يلعبان غالبا في الدرجة الأولى. وكانت العادة أن يختار كل شخص في المدينة ناد عاصمي وناد محلي- هلال ورائد أو نصر وتعاون. أنا كنت أشجّع نادي الشباب. ناد عاصمي لم يكن يشجعه أحد تقريبا وليس له جمهور، لكنه كان ناديا صاعدا في تلك الفترة، حقق بطولة الدوري لثلاثة سنوات متتالية، بالإضافة لكأس ولي العهد والخليج وكأس العرب، وكثير من لاعبيه ضمن التشكيلة الأساسية للمنتخب السعودي، مثل سعيد العويران صاحب الهدف الشهير على بلجيكا في كأس العالم عام ١٩٩٤م وفؤاد أنور صاحب الهدف على هولندا في نفس البطولة وأفضل لاعب في بطولة آسيا ١٩٩٦، وفهد المهلل المهاجم الشهير، والمدافع صالح الداوود، والقائمة تطول.
كنت محلّ سخرية وتندّر وتنمّر من قبل أصحابي. أن تكون في مدرسة متوسطة فهذا يعني أن التنمّر وباء متفشي، لهذا كان عليّ التسلّح بشكل مستمر، أقرأ بشكل مستمر، أتابع كل الأخبار وكل التفاصيل، اقرأ تاريخ كرة القدم من بدايات القرن العشرين، وذلك حتى أكون جاهزا للدفاع عن اختياري. كان لدي مجموعة من الدفاتر أسجل فيها كل شيء يحدث في الدوري من أول ما يبدأ، وكنت أسجل المباريات على أشرطة فيديو حتى استخدمها أدلة على صحة كلامي. كان دائما التأهب والتشبث بالرأي محركا كبيرا للنهم المعرفي لدي.
في ظلّ هذه الأجواء قررت كتابة مقال في الرياضية عن نادي الشباب. والكتابة مثلها مثل أي فنّ تقوم في جوهرها اقتداء. والاقتداء حالة وسط بين التقليد والإبداع، فأنت لا تكرر غيرك ولكنك لا تبدأ من العدم. عندما تكتب يكون في بالك ومخيلتك مثال ونماذج تقتدي به، تسير على نهجه، لكن لا تتقيد به تماما. وإبداعك يأتي من خلال تعاطيك مع هذا النموذج. عندما كتبت تلك المقالة كان النموذج هو كتابات أمي. فأمي لم تكمل الثاني ابتدائي في ذلك الوقت، لكنها كانت تحتفظ بدفتر يوميات تكتب فيه عن نفسها. وكانت تستمتع بحصص التعبير الخاصة بنا فكانت تساعدنا في كتابتها. عندما طلب مني مدرس التعبير أن أكتب مادة تعبيرية عن أثر المخدرات، كتبت أمي قصة قصيرة عن شاب وقع في المخدرات وذهب للعلاج في مستشفى الأمل. كنت في خامس ابتدائي وكانت تلك المرة الأولى التي أسمع بها بمستشفى الأمل. ولا أعلم حتى الآن ما العلاقة بين مستشفى الأمل والإدمان على المخدرات، لكنها كتبت جملة لا زلت أتذكرها إلى اليوم “ذهب أحمد لمستشفى الأمل بقليل من الأمل”.
كتبت المقالة بأسلوب مشابه قائم على تلاعب بالألفاظ المتقاربة وقليل من السجع. وكان موضوع المقال تساؤل عن الظلم الذي يتعرض له نادي الشباب بسبب انعدام الجماهير وتمزقهم وتفرقهم رغم أداؤه المميز وإنجازاته. لم يكن هناك في ذلك الوقت أجهزة حاسوب، ولا إنترنت. كتبت المقالة بالقلم، ثم وضعتها في ظرف، وذهبت لمكتب البريد في حيّنا، حيّ الصفراء على طريق الملك عبدالله مقابل أسواق النخيل حاليا (وقتها لم تكن موجودة) وأرسلتها من هناك.
مرت أيام وأسابيع ولم تظهر المقالة، فيأست وأحبطت. بعد شهرين، ذكر لي مجموعة من أصدقاء المدرسة أنهم قرأوها. لم أصدقهم، فذهبت لفرع الجريدة في بريدة، طلبت نسخة من العدد الذي ذكروه لي، وقرأته. ها هو اسمي موجود هنا مدافعا عن ما أعتقد أنه حقا. هذه كانت أول تجربة كتابة علنية، والفرحة التي عشتها تلك اللحظة لا يعادلها شيء حدث لي بعد ذلك أبدا بما في ذلك خبر موافقة المطبعة الجامعية على نشر كتابنا القادم.
September 28, 2018
هل أتخصص علوم سياسية؟ ما هو مستقبلها في السعودية؟
هذه التدوينة موجهة للسعوديين الذين يرغبون في دراسة العلوم السياسية سواء كمرحلة بكالوريوس أو ماجستير أو دكتوراة. وهي إجابة مفصلة لكثير من الأشخاص الذين راسلوني سائلين عن المستقبل الوظيفي والفائدة العملية والعلمية لهذا التخصص. سأقسم الإجابة لقسمين، قسم موجه لمن يريدون دراسة العلوم السياسية كدرجة بكالوريوس، وقسم موجه لمن يريدون دراستها للماجستير أو الدكتوراة.
أ- مسارات التوظيف لخريج البكالوريوس في العلوم السياسية
هناك خمسة مسارات وظيفية لدارس العلوم السياسية في السعودية. وقبل الحديث عنها، يجب توضيح أنه قد يبدو للقارئ أن هناك العديد من الفرص لحامل هذه الشهادة، لكن هذا سببه محاولتي ذكر خيارات متنوعة وليس لأن العدد كبير. فمقارنة بتخصصات مثل الهندسة والطب والإدارة والمالية والمحاسبة والحاسب والقانون، فإن الطلب على هذا التخصص قليل. الآن، إلى المسارات:
١- المسار الأكاديمي:
ففي السعودية قسمين للعلوم السياسية، قسم في جامعة الملك سعود وقسم في جامعة الملك عبدالعزيز. وبالإضافة لهذين التخصصين، فهناك كليات وجامعات تدرس مواد لها علاقة بتخصص العلوم السياسية، فكليات الثقافة الإسلامية مثلا تدرس مواد متعلقة بالفلسفة السياسية، وكليات الشريعة تدرس موادا متعلقة بالنظام السياسي والعلاقات الدولية في الإسلام، وكليات القانون تدرس موادا مرتبطة بالنظام السياسي بشكل عام، كما أن جامعة الملك فهد للبترول والمعادن تدرس مادة عن العلاقات الدولية، كما أن هناك معهد الأمير سعود الفيصل الدبلوماسي التابع لوزارة الخارجية يدرس موادا كثيرة عن العلوم السياسية، وكذلك معهد الإدارة.
هذه المؤسسات العلمية المحلية تشترط في المتقدم أن تكون دراسته للعلوم السياسية مستمرة، أي أن تخصص البكالوريوس والماجستير والدكتوراة يكون متماثلا، وغيرها من الاشتراطات الأكاديمية.
فإذا كنت تريد العمل في المجال الأكاديمي، فعليك أن تحرص أن تتخرج من درجة البكالوريوس بمعدل مرتفع حتى تستطيع أن تكون معيدا ثم يتم ابتعاثك من المؤسسة الأكاديمية لإكمال دراساتك.
إذا كنت امرأة وتريدين العمل في المجال الأكاديمي، فالوسط مهيمن عليه غالبا من الرجال. لا أعرف امرأة سعودية تحمل درجة الدكتوراة في العلوم السياسية، وقسم العلوم السياسية في جامعة الملك سعود لم يبدأ بقبول الطالبات كمعيدات إلا من عام ٢٠١٥م فقط.
٢- المسار الحكومي
أكثر جهة حكومية توظف طلاب العلوم السياسية هي وزارة الخارجية، ولكنها ليست الجهة الوحيدة، فهناك جهات أخرى توظف خريجي العلوم السياسية في وظائف مرتبطة بالسياسة العامة والعلاقات العامة والتحليل السياسي، كوزارة الإقتصاد والديوان الملكي والهيئات الملكية ومجلس الوزراء وغيرها من الجهات. إلا أنه بشكل عام هذه الوظائف قليلة العدد والتنافس عليها عالي وهي ليست محصورة بالمتخصصين بالعلوم السياسية.
٣- مسار القطاع الخاص
فالشركات الكبرى في السعودية، كآرامكو وسابك، توظف خريجي العلوم السياسية كمحللين للسياسات. ومع تضخم حجم سوق الاستشارات في السعودية، فإن كثيرا من شركات الإستشارات الأجنبية توظف خريجي العلوم السياسية كمحللي ومستشارين لجوانب مختلفة من السياسات. بالإضافة لهذا النوع من الوظائف، فإن مؤسسات الإعلام- كالقنوات والصحف وغيرها- وشركات العلاقات العامة والقانون المحلية توظف خريجي العلوم السياسية باعتبار أن التخصص يتقاطع بكيفية ما مع تخصصات الإعلام (الإعلام السياسي) والقانون.
٤- مسار مراكز الدراسات والقطاع الثالث
ففي السنوات الماضية تزايد عدد مراكز الدراسات وبيوت الخبرة والمؤسسات الخيرية التي تحتاج لمحللين وباحثين يحملون درجة العلوم السياسية. فهناك مركز الملك فيصل للدراسات الإسلامية، ومؤسسة الملك خالد الخيرية، ومركز الملك عبدالله للدراسات والبحوث البترولية، ومركز البحوث والتواصل المعرفي، بالإضافة لمراكز الدراسات الكثيرة التابعة للديوان الملكي وغيرها من الجهات.
٥- العمل في خارج المملكة
ففي الفترة الماضية تكاثرت في كل أنحاء العالم المراكز والشركات والمؤسسات التي تريد دراسة منطقة الخليج وتحتاج لباحثين لديهم المعرفة والتأهيل واللغة للمساهمة معهم، وخريجي العلوم السياسية الذين يتقنون اللغة الإنجليزية سيجدون فرص كثيرة خارج المملكة للعمل في هذه المؤسسات التي تنتشر في منطقة الخليج نفسها وفي أمريكا وأوروبا وحتى في دول شرق آسيا.
ب- مسارات التوظيف للعلوم السياسية كدرجة عليا:
في حال كان تخصصك للبكالوريوس في مجال غير العلوم السياسية، وترغب بدراستها للماجستير أو الدكتوراة، فأغلب المسارات السابقة تنطبق عليك ما عدا المسار الأكاديمي. والنقاط التالية توضح الفروقات:
١- لأن وزارة التعليم في السعودية لديها قانون غريب يشترط امتداد المسار لحامل الدكتوراة كي يصبح دكتورا في الجامعة، فإن هذا يحدّ من فرص توظيفك في هذا القطاع. أقول “يحدّ” ولا يمنع، لأن في ظروف محددة يمكن توظيفك، كأن يكون تخصصك في البكالوريوس مقاربا للعلوم السياسية (قانون أو علم اجتماع أو اقتصاد وغيرها) أو تكون الجامعة جديدة أو في منطقة غير مرغوبة فتتنازل عن الشروط المعتادة أو غيرها من الظروف. هذا غير الفرص التي يمكن أن تطرح لك في الجامعات الخاصة. لكن بشكل عام شرط عدم الامتداد يحدّ من الفرص.
٢- تضاؤل فرصك في المسار الأكاديمي يقابله ارتفاع طفيف في الفرص في القطاعات الأخرى، إذا كان تخصصك في البكالوريوس من التخصصات الجذابة. ذلك أن مزيج التخصصين قد يمنحك تفوقا على منافسيك باعتبار أنه يمكن الاستفادة من معرفتك هذه في مجالات أخرى. بمعنى آخر، ستعمل هذه الشهادة عملا مشابها- وإن كان أقل قوة- لشهادة ماجسيتر الإدارة للذين يحملون بكالوريوس في الهندسة والقانون وغيرها من التخصصات.
هل أستطيع إكمال الماجستير في العلوم السياسية وتخصصي في البكالوريوس بعيد جدا عنه؟
الإجابة نعم. أنا تخصصي البكالوريوس هندسة كهربائية وأدرس علوم سياسية. في الولايات المتحدة الأمريكية يمكنك دراسة أي شيء، المهم أن يكون ملفك الذي تقدم فيه للجامعة يقدم رسالة مقنعة عن شخصيتك: من أنت؟ لماذا تريد دراسة هذا التخصص في هذه الجامعة؟ ولماذا غيرت تخصصك؟ وهل أنت مؤهل ومنافس للنجاح في البرنامج الذي تقدم عليه؟ وما هو الموضوع الذي تريد دراسته معنا؟. الحصول على درجات عالية في اللغة الإنجليزية والجي آر إي (اختبار قدرات للدراسات العليا) وشهادات توصية قوية ومعدل جيّد– كل هذه عوامل تساعد في الطلب وأهم من نوع التخصص. والأهم من هذا كله هي رسالة الغرض من الدراسة، لابد أن تكتب بطريقة ذكية، لأنها قناتك الوحيدة لشرح نفسك أمام هيئة القبول.
ملاحظات ختامية:
أ- نوع التخصص ليس هو المحدد الوحيد للفرص الوظيفية، فهناك محددات أخرى. فمثلا كون الشهادة بكالوريوس يلعب دورا مهما في الحصول على عمل أكثر من تخصص البكالوريوس، أو نوع الجامعة المتخرج منها، أو إتقان لغات وخبرات إضافية غير متعلقة بالتخصص نفسه. كونه ليس المحدد الوحيد، لا يعني أنه غير محدد غير مهم. والمحددات الأخرى قد تلعب دورا في الحصول على وظيفة، لكن قد تكون الوظيفة غير مرتبطة بالتخصص. وهنا الناس يختلفون في مدى تقبلهم العمل في عمل بعيد عن تخصصهم.
ب- كما وضحت في تدوينة سابقة، هناك تصور عام مغلوط عن نوع المعرفة التي يمكن تحصيلها من دراسة العلوم السياسية، فيجب على الذي يريد دراسة هذا التخصص أن يقرأ عن المواد التي سيدرسها، ومفرادات كل مادة، وسؤال من يدرس فيها، فقد يكون ما يجذبه لهذا التخصص شيء مختلف عن ما يفعله الدارسون فيه.
ج- في حال وجدت أن هذه الفرص ليست مغرية، فيمكن الإنصراف عن الموضوع كتخصص أكاديمي مع المحافظة عليه كاهتمام معرفي. يمكنك القراءة في هذا المجال والإطلاع على أمهات الكتب والأبحاث والنقاشات. أما إذا كنت تريد التحوّل من مستهلك للمعرفة إلى منتج لها، فإن التعليم الجامعي ضروري لتنال التأهيل ويصبح لديك قناة للدخول إلى المجتمع العلمي والأكاديمي.
July 8, 2018
العلوم السياسية: ما هي؟ وكيف أقرأ فيها؟
في كل فترة، يأتيني طلب على تويتر أو على البريد الإلكتروني حول كتب مفيدة عن العلوم السياسية. وقررت حينها كتابة تدوينة أضع فيها جوابا مفصلا حول الموضوع.
١- العلوم السياسية… علوم وليست مهارة
كلما أركب مع سائق أجرة أو أوبر ويسألني ماذا تفعل؟ أجيبه: “أدرس علوم سياسية”، فيرد علي: “أووه، ستكون رئيسا للسعودية؟”. هذه قصة، قصة أخرى تتعلق بأسلوبي الحاد والمباشر بعض الشيء، والذي يوقعني عادة في مشاكل وسوء فهم كان بإمكاني عدم الوقوع فيها لو كنت أقل نزقا. في مثل هذه الموضوع، تعلق علي أختي، أو أمي: “هذا وأنت دارس سياسة ولا تعرف تحل الموضوع”.
في كلا هذه الحالات نجد أن هناك فهم شائع لدارس العلوم السياسية، بأنه يتعلّم مجموعة مهارات كي يصبح سياسيا، أو مرشحا، أو دبلوماسيا بارعا. هذه الفكرة الشائعة خاطئة. العلوم السياسية هي- كما اسمها يقول- “علوم” وليست مهارات. دارس العلوم السياسية مثله مثل أي متخصص أكاديمي- إلا من رحم ربي- انطوائي وفاشل اجتماعيا وليس لديه المهارات الكافية في التعاطي مع الحيل والمكايد والخداع والنفاق الذي يحدث في عالم السياسة والتي تحتاج لمهارات كثيرة وتعوّد كأي صنعة أو مهنة.
فإن كنت تظن أن العلوم السياسية تخصص يساعدك لكي تصبح ناشطا سياسيا، أو موظفا دبلوماسيا، أو مفاوضا بارعا، أو وزيرا كبيرا، فأنت مخطئ.
٢- التحليل السياسي ليس هو دراسة العلوم السياسية
قد يستطيع متخصص في الطقس والمناخ تقييم سياسات وعمل مؤسسة “الهيئة العامة للأرصاد وحماية البيئة”، وقد يستطيع متخصص في الآركيولوجيا تقييم عمل “هيئة السياحة والآثار”، وقد يستطيع متخصص في هندسة الإتصالات تقييم سياسات هيئة الإتصالات…إلخ. لكن قدرتهم على تحليل وتقييم سياسات هذه المؤسسات لا يعني أن تحليل السياسات هو جوهر علومهم ومعارفهم. نفس الأمر بالنسبة للعلوم السياسية، فالمتخصص في العلوم السياسية يستطيع تحليل سياسات دولة ما أو مؤسسات داخلها، لكن هذا ليس هذا هو عمل عالم السياسة الرئيسي، فعمل عالم السياسة الرئيسي هو دراسة الظواهر السياسية بشكل عام. أسئلة مثل: “متى يتحول النظام المستبد لديمقراطية؟”، “ما علاقة الديمقراطية بالتنمية الإقتصادية؟”، “ما هي أسباب الثورات؟”، “متى تظهر الحروب الأهلية وكيف تنتهي؟”…إلخ.
فإن كنت لا تهتم لفهم هذه الظواهر العامة في العالم السياسي، وهدفك الرئيسي هو تعلم أدوات تحليل القرارت والأحداث اليومية، فالعلوم السياسية ليست هي المكان المناسب لك، بل يجب أن تدرس تخصص (السياسات العامة) أو (الإدارة العامة) أو ربما تدرس في البرامج المخصصة لمناطق جغرافية محددة كالدراسات الشرق الأوسطية أو الدراسات الأوروبية أو الدراسات اللاتينية والتي تجمع التاريخ بالسياسة بالاقتصاد وطرق التحليل وأدواتها وتستطيع التخرج منها كمحلل للسياسات والقرارات اليومية. هذا لا يعني أن تخصص العلوم السياسية لا يزودك بهذه الأدوات والمهارات، لكن ليست هذه هي الغاية الرئيسية منه، بل الغاية هي دراسة هذه الظواهر العامة في العلوم السياسية.
٣- هل العلوم السياسية علوم بنفس معنى العلوم الطبيعية؟
هناك خلاف حول هذا الموضوع، ولكن بشكل عام، فإن الإقتصاد والعلوم السياسية وعلم الإجتماع، في الولايات المتحدة الأمريكية خصوصا، تدرس السلوك الإنساني بنفس المنهجية العلمية التي يدرس فيها الفيزيائيون والبيولوجيون والكيميائيون مواضيعهم. أي أنهم يعتمدون منهجية امبريقية في دراسة موضوعهم.
ما هي أهم مسلمات هذه المنهجية العلمية؟ أولا، أنها تسلّم بوجود عالم خارج الوعي البشري، ثانيا، أن بإمكان الوعي البشري إنتاج معرفة عن هذا العالم. ثالثا، أن هذه المعرفة ليست بالضرورة قطعية. هناك من الباحثين والفلاسفة المنتمين لمدارس ما بعد الحداثة وغيرها من المناهضين للمدرسة الوضعية يشككون في هذه المسلمات وغيرها من التي يقوم عليها المنهج العلمي، وهذه النقاشات مفيدة ومهمة للباحث حتى يعرف حدود معرفته وتحيزاتها السياسية (انظر على سبيل مثال هذا الفصل المترجم لليزا واديين والذي تنتقد فيه العلوم السياسية ، لكن التيّار السائد في العلوم الإجتماعية، حتى اليوم وفي الولايات المتحدة تحديدا، ما زال يعتمد المنهجية الإمبريقية العلمية في دراسة السلوك الإنساني.
والبحث العلمي- حسب ما يفهمه هذا التيار العريض من علماء السياسة- يقوم على أربعة أركان:
١- أن هدف البحث هو الإستنتاج. فالبحث العلمي مصمم بطريقة تهدف للوصول إلى استنتاجات وصفية أو تفسيرية انطلاقا من معلومات وبيانات مأخوذة من العالم. فليس الهدف هو تجميع البيانات أو وصف الظواهر، بل هذه الخطوة الأولى الضرورية، ذلك أن الخطوة الثانية هي الهدف وهي استنتاج شيء ما إضافي من هذه البيانات والظواهر.
٢- أن طريقة العمل عمومية. أي أن البيانات والمعلومات والملاحظات التي يستخدمها عالم السياسة في عمله يجب ألا تكون سريّة وخفيّة، بل علنية وظاهرة حتى يتمكن أي شخص من الإطلاع عليها والتأكد من سلامتها وسلامة الإستنتاجات التي يقدمها الباحث بناء عليها.
٣- النتائج ليست قطعية. فالمنهج العلمي يعتمد على بيانات ومعلومات من العالم، هذه المعلومات نفسها لم يتم تحصيلها بشكل قطعي، وليست كاملة. وبالتالي فإن أي استنتاج منها هو عمل ظنيّ بالضرورة وليس قطعيّا. (وهذا الأمر ليس محصورا في العلوم الإجتماعية، بل يشمل العلوم الطبيعية أيضا رغم كل هالة القداسة التي تحيط بها). ولأن النتائج غير قطعية، واحتمالية، فحتى يكون البحث علميا، يجب على الباحث تقديم تقدير لمدى احتمالية استنتاجاته.
٤- المحتوى هو المنهج. البحث العلمي قائم على قواعد وطرق منهجية للإستنتاج. وحتى يكون البحث علميا، يجب على الباحث توضيح الطرق والمنهجية التي جمع فيها معلوماته واستنتج منها استنتاجاته.
إن وصلت للقراءة إلى هنا، فهذا يعني أنك ما زلت مهتما بهذه العلوم وتريد حقا التزوّد بقائمة كتب بالعربية لتحسّن من حصيلتك حوله، وهذا ما سأفعله في الفقرة التالية.
٤- قائمة الكتب الرئيسية في السياسة المقارنة
قسم العلوم السياسية ينقسم لعدة أقسام فرعية: هناك قسم اسمه “السياسة المقارنة”، وهناك قسم اسمه “العلاقات الدولية”، وهناك قسم اسمه “النظرية السياسية”، وهناك قسم اسم “السياسة العامة”، وهكذا. القسمين المشهورين هما الأوّلين، أما النظرية السياسية فهو أقرب ما يكون للفلسفة السياسية. وبما أن تخصصي هو السياسة المقارنة، فسأحصر هذه القائمة بالكتب المتعلقة بهذا المجال. والمقصود بالسياسة المقارنة متنازع عليه، لكن غالبا المعتمد هو الظواهر التي تحدث داخل الدولة وليس بين الدول. فمثلا ظاهرة مثل “الحرب الأهلية” تقع دراستها داخل السياسة المقارنة، أما ظاهرة مثل الحرب بين الدول، فتدرس ضمن العلاقات الدولية. أما ظاهرة مثل شكل نظام الحكم، فهذا ضمن السياسة المقارنة، أما المؤسسات الدولية مثل مجلس التعاون الخليجي فدراسته تقع ضمن العلاقات الدولية.
قبل أن أضع القائمة، أحب أن أذكر أن المكتبة العربية للأسف فقيرة جدا في الكتب العلمية المتخصصة في العلوم السياسية، لهذا وضعت في القائمة الكتب الكلاسيكية في السياسة المقارنة المترجمة. هذه الكتب أساسية ومهمة، لكنها لا تمثل القول في الفصل في موضوعها، فالأبحاث في العشرين سنة الماضية تجاوزت كثيرا من مقولاتها. لكن الغالبية الساحقة من هذه الكتب الحديثة غير مترجم.
١- بارينجتون مور، الأصول الإجتماعية للدكتاتورية والديمقراطية.
٢- موريس دوفرجيه، الأحزاب السياسية، دار النهار.
٣- صمويل هنتنجتون، النظام السياسي في مجتمعات متغيرة، دار التنوير للطباعة والنشر.
٤- سيمور مارتن ليبست، رجل السياسة: الأسس الاجتماعية للسياسة، دار الآفاق الجديدة. ترجمة خيري حمادة.
٥- ماكس فيبر، الأخلاق البروتستانتية وروح الرأسمالية.
٦- ماكس فيبر، السياسة كمهنة.
٧- كارل ماركس، الثامن عشر من بروميير.
٨- توماس شيلينج، استراتيجية الصراع.
٩- فيليب شميتر ، الانتقالات من الحكم السلطوي: استنتاجات أولية حول الديمقراطيات
١٠- صمويل هنتنغتون، الموجة الثالثة: التحول الديمقراطي في القرن العشرين، دار سعاد الصباح.
١١- تيري لين كارل، مخاطر الدولة النفطية،
١٢- بندكت أندرسون، الجماعات المتخيلة.
١٣- تشارلز تلي، القسر والدول ورأس المال عبر التاريخ، دار الفارابي.
١٤- تشارلز تيلي، الحركات الإجتماعية ١٧٦٨-٢٠٠٤، المركز القومي للترجمة.
١٥- جيمس سكوت، المقاومة بالحيلة
١٦- كليفورد جيرتز، تأويل الثقافات.
١٧- ليزا وادين، السيطرة الغامضة: السياسة والخطاب والرموز في سوريا المعاصرة
١٨- إيرنست غيلنر، الأمم والقومية.
October 9, 2017
لؤي الشريف والصعود إلى أسفل
في هذا المقطع ذكر لؤي الشريف رأيه العجيب أن القرآن أعطى الروس والبولنديين الصهاينة أرض فلسطين، فقمت بالرد عليه بهذه التدوينة. بعد ذلك، كتب هو هذا المقال ليرد على منتقديه ومعترضيه. قرأت مقاله، ووجدته ضعيفا جدا، مهلهلا، متناقضا، ويفتقر لأدنى أساسيات الكتابة المتسقة والتفكير المنهجي، فاستغربت أن يصدر هذا من شخص يدعي أنه باحث ومختص.
في تدوينتي، قلت إن كان لؤي الشريف جادا في اعتقاده بأن القرآن منح أرض فلسطين للبولنديين والروس الصهاينة المحتلين لأرض فلسطين، فعليه أن يثبت أمرا ويقبل أمرا:
١- عليه أن يثبت أن هؤلاء البولنديين والروس والأوروبيين الصهاينة هم وحدهم الأحفاد البيولوجيين العرقيين لنبي الله يعقوب.
٢- وعليه أن يرفض المبادرة العربية التي تسلب هؤلاء البولنديين والروس الصهاينة ٩٠٪ من أرض الميعاد بما في ذلك شمال السعودية.
فكيف ردّ لؤي الشريف على هذين الأمرين؟
ردّ لؤي الشريف الأول: بنو اسرائيل ليسوا بنو اسرائيل.
يقول لؤي أن الأبوّة في القرآن ليست أبوّة بيولوجية بل أبوّة عقدية. أي أن بنو اسرائيل ليسوا هم “أبناؤه البيولوجيين”، بل “أتباعه العقديين”. يعني أن أي شخص يتبع النبي ابراهيم فهو من ابنائه حتى لو كان صينيا أو ألمانيا، فالعرق والنسب ليسا هما المحددان للإنتماء بل العقيدة.
هذا الموقف يختلف عن ما قاله في مقدمة حديثه عندما قال: “الأرض المقدسة هي أرض للشعبين الفلسطيني والإسرائيلي، الفلسطينيين (الكنعانيين) بالأقدمية والإسرائيلي لأن أسلافهم دخلوها مع يوشع بن نون..”. فهو هنا يحدد بني اسرائيل بأنهم خلف- خلف بالمعنى البيولوجي- لأولئك الذين دخلوا الأرض المقدسة مع يوشع بن نون، وقبل قليل يقول لا يلزم أن تكون الأبوّة بيولوجية. فمرّة يجعل للصهاينة حق في فلسطين لأنهم (خلف) ليوشع بن نون ومن معه، وإذا طالبناه بالدليل على هذا النسب، قال لا يلزم أن يكون نسبا بيولوجيا، بل هو عقديا. والرد على هذا الكلام من وجهين:
١- دليل لؤي على أن الأبوّة تكون “عقدية” هي آية “أم كنتم شهداء إذ حضر يعقوب الموت إذا قال لبنيه ماتعبدون من بعدي قالوا نعبد إلهك وإله آبائك ابراهيم واسماعيل وإسحق إلهاً واحداً ونحن له مسلمون“. فهو يقول: “فإسماعيل لم يكن أبداً أباً بيولوجياً للأسباط! إسماعيل هو عم اسرائيل وأخو اسحق”.
سأكتفي في الرد على هذا الاستدلال العجيب بنقل كلام الطبري (الذي يحب لؤي الشريف الإستشهاد فيه والاحتجاج به) فهو يقول عمن يفهم من الآية نفس فهم لؤي، بأن ذلك “قلة علم منه بمجاري كلام العرب . والعرب لا تمتنع من أن تجعل الأعمام بمعنى الآباء ، والأخوال بمعنى الأمهات“. وهذا ليس كلام الطبري لوحده، بل هو قول قوم كثر من المتخصصين بالتفسير واللغة مثل ابن كثير والبغوي والنحاس والقرطبي وابن عاشور. وفي الحديث، يقول الرسول عن عمه العبّاس “هذا بقية آبائي” وقال عن العباس: “ردوا علي أبي فإني أخشى أن تفعل به قريش ما فعلت ثقيف بعروة بن مسعود“. فهل أبوّة العباس للرسول هنا أبوّة “عقدية”؟ لا يقول بهذا من لديه أدنى علم باللغات.
فإذا اقتنع لؤي بأن استدلاله باطل، فعليه أن يثبت لنا أن البولنديين والروس الصهاينة الموجودين في فلسطين هم من نسل النبي يعقوب، فإن لم يستطع، فعلى أي أساس يقول أن هذه الأرض من حقهم؟
٢- حتى لو فرضنا أن استدلاله بالآية صحيح، وأن الأبوّة عقدية ليست نسبية. فما هي (العقيدة) التي ينتسب لها بنو اسرائيل؟
فالآية التي استدل بها لؤي هي جزء من آيات متتالية بدأت بقول الله متحدثا عن أهل الكتاب: “وقالوا لن يدخل الجنة إلا من كان هودا أو نصارى“. فجاء ردّ القرآن عليهم واضحا بأن “من أسلم وجهه لله وهو محسن فله أجره عند ربه ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون“، ثم أشار القرآن إلى حقيقة تاريخية تؤكد بطلان قولهم وهي أن ابراهيم وإسماعيل ويعقوب لم يكونوا يهودا ولا نصارى. بل إن ابراهيم واسماعيل مسلمين إذ قالا: “ربنا واجعلنا مسلمين لك ومن ذريتنا أمة مسلمة لك“، وقال أن الإسلام هو الوصيّة التي وصى بها إبراهيم أبناؤه: “لا تموتن إلا وأنتم مسلمون“، وهي نفسها الوصيّة التي أكدها أبناء يعقوب إذ قالوا: “نعبد إلهك وإله آباءك إبراهيم واسماعيل واسحاق إلها واحدا ونحن له مسلمون“. ولهذا السبب نجد الله يأمر نبيه بعد هذه الآية بأن يرد على من يقولون: “كونوا هودا أو نصارى تهتدوا” بأن يقول: “بل ملة إبراهيم حنيفا… قولوا آمنا بالله وما أنزل إلينا وما أنزل إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحق ويعقوب والأسباط وما أوتي موسى وعيسى وما أوتي النبيون من ربهم لا نفرق بين أحد منهم ونحن له مسلمون“.
فالإسلام ليس دينا جديدا جاء به محمد، بل هو إحياء لدعوة إبراهيم ويعقوب وموسى وعيسى وامتداد لها. ومن هنا نقول للؤي الشريف: إذا كانت “الأبوّة عقدية”، فهي، بمقتضى القرآن، “أبوّة الإسلام”، وليست أبوّة الديانة اليهودية. وهذا يعني أن “بني اسرائيل” العقديين هم المسلمون، فيعقوب لم يكن يهوديا بل كان مسلما على ملّة ابراهيم.
فإن كانت الأبوّة “نسبية” لزم لؤي إثبات أن الصهاينة الحاليين هم أبناء يعقوب (وهو الأمر الذي لن يستطيع إثباته)، وإن كانت الأبوّة “عقدية” فأتباع عقيدة يعقوب هم المسلمون وليس اليهود. فكلا القولين يؤديان لنتيجة واحدة: أن البولنديين والروس والأوروبيين الصهاينة الموجودين في فلسطين لا حقّ لهم بالأرض.
ردّ لؤي الشريف الثاني: حدود أرض الميعاد هي حدود مملكة داوود
في المقال السابق، ذكرت أن مجموعة من علماء اليهود يرون أن حدود أرض الميعاد يشمل شمال السعودية، وهذا يعني أن لؤي الشريف يؤمن بأن القرآن منح البولنديين والروس الصهاينة الموجودين في فلسطين الحق في احتلالها، وأن عليه أن يعارض المبادرة العربية من منطلق عقدي لأنها تناقض ما يأمره به دينه. ماذا كان رد لؤي الشريف؟ قام بالتذاكي عبر الخلط بين حدود مملكة داوود وحدود أرض الميعاد، ولكن هذا التذاكي سيوقعه في مشكلة جديدة. لنبدأ أولا بالنقطة الأولى، ثم ننتقل للمشكلة الجديدة.
١- في التوراة، وعد الله ابراهيم بقطعة أرض، وهذه الأرض اسمها “ارض الميعاد”. وهذه الأرض ليست هي نفسها حدود مملكة داوود، فهذه الأخيرة هي حدود جزء من أرض الميعاد، وهو الجزء الذي استطاع داوود وقومه السيطرة عليه واستيطانه. أما حدود أرض الميعاد فقد وضحتها التوراة في ميثاق الله مع إبراهيم، ففي سفر التكوين، في الإصحاح الخامس عشر، في الآيات من ١٨-٢١، نجد التوراة تقول: “18 في ذلك اليوم قطع الرب مع ابرام ميثاقا قائلا: «لنسلك اعطي هذه الارض، من نهر مصر الى النهر الكبير، نهر الفرات. 19 القينيين والقنزيين والقدمونيين 20والحثيين والفرزيين والرفائيين 21 والاموريين والكنعانيين والجرجاشيين واليبوسيين»”.
فضمن هذه الحدود التوراتية لأرض الميعاد، فإن شمال السعودية يقع ضمن حدود “الأرض المقدسة”، وبالتالي على لؤي الشريف أن لا يجادل في الحق، وأن يعلن عقيدته بضرورة إعطاء نصف سوريا ونصف العراق وشمال السعودية والاردن ولبنان وسيناء للبولنديين والروس الصهاينة في فلسطين، وأن يعلن معارضته للمبادرة العربية التي تحرم الصهاينة من ٩٠٪ من أراضيهم التي أعطاها إياهم القرآن بحسب رواية لؤي الشريف.
٢- حتى لو فرضنا أن حدود الأرض هي حدود مملكة داوود ا(أو حدود استيطان قومه) التي ذكرها لؤي الشريف. فكيف يكون مؤيدا للمبادرة العربية التي تحرم الصهاينة من الضفة الغربية وغزة؟ فحدوده التي وضعها تجعل هذه الأراضي لليهود، ولؤي الشريف يقول أن “ربنا وربكم وإلهنا وإلهكم” منح هذه الأراضي لهم، فكيف الآن يقبل بمبادرة تتعارض مع إسلامه وإيمانه؟
فإن كان إسلامه “مرنا” لهذه الدرجة بأن يحرم الصهاينة المساكين من الضفة وغزة، فلماذا لا يكون “مرنا” أكثر ويطالب بالأرض كاملة للشعب الذي يقر بأنه تعرض لجرائم وتهجير وتطهير عرقي وعنصرية ؟
October 3, 2017
هل أورث الله فلسطين للصهاينة؟ ردّ على لؤي الشريف
في هذا المقطع، يقول لؤي الشريف: “في نص صريح من إلهي وإله محمد وإلهكم…. إن هذي الأرض لبني إسرائيل… واضح جدا جدا لحد يلف ويدور…” ثم يتابع بجملة عجيبة: “كل مسلم لابد يكون صهيوني لأن صهيون هذا جبل”. في هذه التدوينة، سأقوم بتوضيح تهافت هذا الإدعاء خطوة خطوة حتى ننتهي في الخطوّة الأخيرة لتوضيح أن لؤي الشريف إذا كان فعلا مقتنع بهذا الكلام المتهافت، فعليه المطالبة بتسليم شمال المملكة العربية السعودية ونصف العراق ونصف سوريا والأردن ولبنان وسيناء للصهاينة.
ما هو مضمون إدعاء لؤي الشريف؟
يستشهد لؤي بالآية الكريمة: “يا قوم ادخلوا الأرض المقدسة التي كتب الله لكم ولا ترتدوا على أدباركم فتنقلبوا خاسرين“، على أن الله منح الصهاينة ملكية فلسطين للأبد. وهذا الإدعاء مكوّن من عدة إدعاءات:
الإدعاء الأول: أن قول الله: “كتب الله لكم” تفيد أنه كتبها لبني إسرائيل لأنهم بني إسرائيل، وليس مقابل إيمانهم أو أعمالهم، بل لأنهم جينيا وبيولوجيا من بني اسرائيل. أي أن هذه الأرض لهم سواء آمنوا أو كفروا، ظلموا أو عدلوا، فهي لهم لأنهم هم، وليس لما فعلوا.
الإدعاء الثاني: أن الآية تفيد أنها لهم ولنسلهم للأبد.
الإدعاء الثالث: أن الصهاينة الموجودين الآن في الكيان الصهيوني هم نسل بني إسرائيل. (لا يكفي أن تكون ديانتهم اليهودية، بل يجب أن يكونوا حرفيّا من نسل هؤلاء الذين كتبت لهم الأرض).
الإدعاء الرابع: أن “الأرض المقدسة” هي الحدود الحالية لدولة فلسطين.
سننتقل الآن لتفحّص هذه الإدعاءات.
١- لا يوجد في الإسلام نظرية “شعب الله المختار”.
قبل هذه الآية التي يستشهد بها لؤي الشريف بثلاث آيات، نجد الله يقول التالي: “وقالت اليهود والنصارى نحن أبناء الله وأحباؤه“، فاليهود والنصارى هنا يدعون أن لهم صفة خاصة تميزهم عن بقية البشر، وهذا الإدعاء يسمى بـ”دعوى شعب الله المختار”، ومفاده بأن هناك شعوب أو أقوام لهم ميزة أو فضل عرقي أو قبلي على بقية البشر. فكيف أمر الله الرسول بالرد عليهم وعلى كل من يدعي هذه الدعوى؟ قال له: “قل: فلم يعذبكم بذنوبكم؟ بل أنتم بشر ممن خلق يغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء“. أي أن الرد عليهم جاء واضحا ومباشرا ومقنعا: ١- لو كنتم شعب الله المختار لما يحاسبكم على أعمالكم؟ ٢- أنكم مثلكم مثل غيركم من البشر الذي خلق.
فإذا كان بنو إسرائيل ليسوا شعبا مختارا، فلماذا يكتب الله لهم الأرض المقدسة؟ الإجابة في النقاط التالية:
الإستخلاف في الأرض والتمكين هو وعد من الله، لكن لمن؟ لـ١- المؤمنين. ٢- الذين يعملون الصالحات. هذا هو مضمون آية: “وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض…”. أي أن الإستخلاف والتمكين لا يكون لسبب عرقي أو قبلي أو جيني، بل مقابل الإيمان والعمل، والإيمان والعمل ممكن أن يقوم به أي إنسان، فلا فرق بين عربي وعجمي إلا بالتقوى.
الله وعد بني اسرائيل، أي قوم موسى في ذلك الزمان، بالإستخلاف في الأرض إذا قاموا بمجموعة أعمال: كأن يؤمنوا، ويعملوا الصالحات، ويستعينوا بالله، ويصبروا على بطش آل فرعون. ففي سورة الأعراف يقول لهم موسى: “قال موسى لقومه استعينوا بالله واصبروا إن الأرض لله يورثها من يشاء من عباده”. وعندما أهلك الله فرعون وقومه، قال: “وأورثنا القوم الذين كانوا يستضعفون مشارق الأرض ومغاربها التي باركنا فيها وتمت كلمة ربك الحسنى على بني إسرائيل” لماذا أورثهم الله هذه الأرض؟ هل لسبب جيني أو بيولوجي أو لأنهم من نسل النبي يعقوب؟ الإجابة: لا، فالآية وضحت السبب عندما قالت: “بما صبروا“. فبني إسرائيل الموجودين في ذلك الوقت مع موسى وعدهم الله بأن يورثهم الأرض مقابل أن يقوموا بمجموعة من الأعمال، وليس لأن هناك شيء في جيناتهم أو نسبهم يجعلهم يستحقون هذه الأرض.
ومما يزيد التأكيد على أن كتابة الأرض مقيدة بمجموعة من الأعمال الشرعية (الإيمان بالله والعمل الصالح وغيرها) وليس بكونهم جينيا من نسل فلان وعلان، هو أنهم لما عصوا أوامر الله عاقبهم وحرم عليهم الأرض أربعين سنة. فبعد أن عصوا الله سماهم نبي الله موسى “القوم الفاسقين“، فجاء عقاب الله: “قال إنها محرّمة عليهم أربعين سنة يتيهون في الأرض فلا تأس على القوم الفاسقين“. فلو كانت الأرض منحت لهم لسبب جيني أو بيولوجي وليس مقابل أوامر إلهية، فليس هناك معنى من معاقبتهم على عصيانهم أمر الله، وهذا تأكيد على رد الله عليهم عندما ادعوا أنهم شعب الله المختار: “فلم يعذبكم بذنوبكم؟“.
٢- حتى لو فرضنا أن الله أعطاهم الأرض المقدسة لسبب جيني أو بيولوجي أو بسبب النسب، فما دليل لؤي الشريف على أن هذه الأعطية لهم للأبد؟
لو قررنا التنزّل قليلا وسلمنا جدلاً بأن فهم لؤي للآية صحيح وأن الله فعلا أعطى فلسطين لقوم موسى من بني اسرائيل. فهل في الآية أي دليل على أنها لنسلهم للأبد؟ لا يوجد في الآية ما يدل على ذلك، إذ أنها نقل لحديث موسى مع قومه، وهم القوم الذين صبروا على أذى فرعون. بل إن سورة الإسراء واضحة في نفي هذا العطاء الأبدي، ففيها يحكي الله كيف أن بني إسرائيل أفسدوا في الأرض وعلوا علوا كبيرا مرتين، وفي كل مرّة يفسدون يبعث الله عبادا ينهون حكمهم. وبعد أن حكى القصتين قال: “عسى ربكم أن يرحمكم وإن عدتم عدنا وجعلنا جهنّم للكافرين حصيرا“. فهذه الآية الأخيرة تقول لهم: كل مرة تعودون للعلو والإفساد فسيتم إنهاء ملككم وحكمكم، فكيف يجمع لؤي هذا مع أن الله منحهم الأرض للأبد مهما عملوا ومهما فعلوا؟
٣- حتى لو فرضنا أن الله أعطاهم الأرض للأبد، فما دليل لؤي الشريف أن الصهاينة الذين يحتلون أرض فلسطين هم من نسل بني اسرائيل؟
هنا نستطيع أن نقول الكثير، ولكن، للإختصار، لنبدأ بالقول أن الأبحاث التاريخية والجينية الحديثة تثبت بأنه لا يوجد هناك شعب يهودي نقي عرقيا وأن اليهود الحاليين لا ينحدرون من أصل جيني مشترك. إن أسطورة “الشعب اليهودي الواحد الموزع في قارات العالم الثلاث والممتد عبر آلاف السنين” هي فكرة حديثة لم يكن لها وجود قبل عام القرن الثامن عشر الميلادي، وهي فكرة تشكلت من قبل مثقفين أوروبيين- يهود وغير يهود- متأثرين بالأفكار القومية والنظريات العنصرية التي كانت سائدة في أوروبا في تلك الفترة. ولمزيد معلومات عن هذا الموضوع يرجى مطالعة هذا الكتاب للمؤرخ الإسرائيلي شلومو ساند: اختراع الشعب اليهودي، وللإطلاع أكثر على الأبحاث الجينية والبيولوجية والأنثروبولوجية حول هذا الموضوع يرجى مطالعة كتاب الأنثروبولوجي اليهودي المتخصص بالدراسات اليهودية رافائيل باتاي (والذي لا يخفي دعمه للكيان الصهيوني في الكتاب): “أسطورة العرق اليهودي“، وكذلك الكتيب الصغير للبيولوجي اليهودي والذي يحمل نفس العنوان: “أسطورة العرق اليهودي: وجهة نظر بيولوجي“. وأنا تعمدت الإستشهاد بكتاب يهود، بعضهم مناصر للكيان الصهيوني الذي يعتمد في تشريع وجوده على هذه الفكرة، لتوضيح أن هذه الفكرة بيّنة الفساد.
ويمكن تسويد عشرات الصفحات حول مراجع تؤكد كيف أن يهود العالم (مثل مسلمي العالم ومسيحي العالم وبوذيي العالم) لا يجمعهم رابطة بيولوجية وجينية، بل ما يجمعهم دين وثقافة مشتركة (تماما مثل المسلمين والمسيحيين وغيرهم، وتؤكد كيف أنهم تزاوجوا واختلطوا بالجماعات التي عاشوا معهم، وكيف أن الديانة اليهودية، مثل غيرها من الأديان، تمارس الدعوة ويتحول إليها أقوام وأفراد جدد.
بل إن هذه الفكرة هي الفكرة التي على أساسها ارتكبت أبشع جرائم العصر الحديث: الهولوكوست والتطهير العرقي. فالنازيين، مثل الصهاينة ولؤي الشريف، يؤمنون بأن اليهود شعب واحد بعنصر واحد متحدر من أصل واحد، ولهذا يبررون استخدامهم لتبرير سياسات إجرامية. فباسم فكرة العرق اليهودي الواحد، قام هتلر بإبادة يهود أوروبا، وباسم هذه الفكرة قام الكيان الصهيوني بتطهير فلسطين من أهلها. ولهذا السبب تطرح المؤرخة اليهودية شيرا روبنسون صاحبة كتاب “المواطن الأجنبي” الذي تصف فيه تعامل الصهاينة مع عرب ٤٨: أن الصهيونية هي تحقيق لمشروع النازية، فإذا كان هدف النازية تطهير أوروبا من اليهود فإن اسرائيل هي التي جمعتهم خارج أوروبا.
٤- حتى لو فرضنا أن الله أعطاهم الأرض للأبد وأن بني إسرائيل ما زالوا موجودين بيننا كمجموعة متجانسة، فما دليل لؤي الشريف أنهم كلهم يهود؟
فإسرائيل تعرف نفسها بأنها يهودية. ولا تقبل مسيحيين أو مسلمين أو غيرهم حتى لو كانوا من “بني اسرائيل”. وإن شكك لؤي الشريف بوجود مسلمين ومسيحيين من بني اسرائيل، فعليه أن يخبرنا: هل المسيح عيسى بن مريم من بني اسرائيل؟ هل حواريه وأتباعه الأوائل من بني اسرائيل؟ إن قال نعم، فهذا يعني أنه يقر أن نبي المسيحية وأتباعها الأوائل ودعاتها الذين نشروها في الأصقاع هم من بني اسرائيل. أين هم هؤلاء؟ هل لهم الحق في فلسطين؟ ونفس الأمر يقال أيضا بالنسبة لليهود الذين تحولوا للإسلام وهم يشكلون سلسلة طويلة تبدأ من يهود المدينة الذين آمنوا بالنبي صلى الله عليه وسلم ولا تنتهي إلى اليوم.
٥- حتى لو فرضنا أن الله أعطاهم الأرض للأبد وأن بني إسرائيل ما زالوا موجودين بيننا كمجموعة عرقية متجانسة وأن كلهم يهود، فما دليل لؤي الشريف أن حدود هذه الأرض هي نفسها الحدود الحالية لدولة الكيان الصهيوني؟
فحدود فلسطين الحالية رسمتها بريطانيا، ولم يرسمها الله. والآيات لم تذكر حدودا واضحة، فكيف نعرف حدود هذه الأرض التي يدين لؤي الشريف الله بها؟ الحلّ لهذه الإشكالية هو أن نلجأ للتوراة، والتي يعتقد لؤي الشريف أنها ليست محرفة، ومن منطلق القاعدة الفقهية: شرع من قبلنا شرع لنا، فإن الحدود التقريبية للأرض التي منحها الله لبني اسرائيل حسب التوراة وبحسب تفسير مجموعة من العلماء اليهود الأرثوذكس هي التالي:
وكما هو واضح من الخريطة، فإن أرض الميعاد تشمل الأردن ونصف العراق كل لبنان وسيناء ونصف سوريا والجزء الشمالي من السعودية. فإذا كان إيمان لؤي الشريف بحق الصهاينة في الأرض الميعاد نابع من إيمانه بالقرآن وحسب فهمه له، فيلزمه أن يكون معارضا للمبادرة العربية للسلام، لأنها تحرم بني اسرائيل من ٩٠٪ من الأرض التي أعطاها الله لهم، وعليه أن يطالب الحكومات العربية- بما فيها السعودية- بالتخلي عن أراضيها لصالح الصهاينة. فهل سيفعل ذلك؟ أم أنه سيكفر بالآية؟ نترك له الإجابة.
July 7, 2017
هل كان آدم سميث ضد تدخل الدولة في السوق؟
-١-
قبل أيام، قررنا أنا ومجموعة من الأصدقاء قراءة مشروع عبدالوهاب المسيري. وأثناء القراءة، ذكر المسيري في الجزء الأول من موسوعة اليهود واليهودية والصهاينة، وأثناء حديثه عن الإنسان الطبيعي، والذي يعرفه بأنه ذاك “الذي يدور في إطار المرجعية الكامنة في الطبيعة” والمستسلم لنزعة تدفعه للتجرد من كل الحدود التي تفصله عن ما حوله من مادة وطبيعة، ذكر أن هذا الإنسان الطبيعي يأتي بعدة تنويعات، أحدها هو “الإنسان الإقتصادي”. وبسطر واحد، ذكر أن الإنسان الإقتصادي هو “انسان آدم سميث الذي تحركه الدوافع الإقتصادية والرغبة في تحقيق الربح والثروة”. أثناء النقاش حول هذا النص، اعترضت أنا على هذا الفهم لفكر آدم سميث، إلا أن بعض الزملاء اعتبر أن هذا الفهم هو الفهم السائد والمعروف، فقررت كتابة هذه التدوينة لتقديم فهما أكثر دقّة وأكثر عدالة لفكر آدم سميث الذي باعتقادي أنه تم اختطافه وتشويهه من قبل دعاة النيولبرالية.
الصورة الكاريكاتورية التي يُقدّم لنا بها آدم سميث تقوم على ركيزتين: ١- أنه كان معارضا شرسا لأي تقييد حكومي للسوق، وأن رفضه للتقييد الحكومي مبدأي وجذري. ٢- أنه قدّم تصورا عقلانيا للإنسان، باعتباره كائن نفعي عقلاني يحرّك نشاطه الاقتصادي دوافع أنانية بمراكمة الأرباح والثروات. في هذه التدوينة سأوضح أن هذان الأساسان ليسا دقيقان، وسأكشف أن القراءة المتعمقة لآدم سميث ستكشف أن موقفه من علاقة الحكومة بالسوق علاقة معقدة وفيها تفاصيل كثيرة، وكذلك ستكشف أن تفسيره لسلوك الإنسان الإقتصادي ليس عقلانيا بقدر ما هو امتداد لنظريته الأخلاقية والنفسية حول الطبيعة البشرية.
-٢-
في كتابه ثروة الأمم، جاء نقد آدم سميث للقيود الحكومية على السوق في سياق محدد، وهو سياق نقده للنظام الإقتصادي المركنتالي السائد في عصره. وقبل توضيح أوجه نقده لهذا النظام، فإنه من المهم استعراض كيف فهم سميث النظام المركنتالي. في هذا النظام، فإن غاية الدولة هو زيادة قوتها، وحتى تزيد من قوتها فإن عليها أن تزيد من ثروتها، والثروة تعني مراكمة الذهب والفضّة. وحتى تحصل الدولة على مزيد من الذهب والفضة فإن عليها أن تصدر أكثر مما تستورد، فإذا كانت تبيع للعالم أكثر مما تشتري، فهذا يعني أنها ستحصل من الذهب والفضة أكثر مما تنفق، وهذا يعني أنها ستكون أكثر ثروة، وبالتالي أكثر قوّة.
انطلق سميث في نقده لهذا النظام من معيار ما إذا كان هذا النظام يحقق “مضاعفة للإنتاج العام للمجتمع، أو يقوده للطريق الأكثر نفعا”. فهو قد أقر أن سياسة الحكومة في تقليل الإستيراد من الخارج سيجعل السوق المحلي محتكر من قبل المصانع والمنتجين المحليين، وأقر بأن هذا سيكون مفيدا لهذه الشريحة من الناس. لكن، تساءل سميث، هل هذه السياسة ستكون مفيدة للمجتمع ككل وليس فقط لفئة التجار والشركات؟ كانت إجابته بأنه لا، وهذا السبب هو الذي جعله يعارض هذه السياسة. ماذا يعني ذلك؟ إنه يعني أن رفض آدم سميث لتدخل الحكومة في السوق لم يكن من موقف مبدئي ضد التدخل نفسه، بل لأن التدخل هذا لا يؤدي إلى تحقيق نفع عام لكل شرائح المجتمع بل لنفع خاص لحفنة من المصانع والتجار. أي أنه نظر لتدخل الحكومة في السوق باعتبارها وسيلة، وحكم عليها كحكمنا على أي وسيلة: هل تحقق الغاية أم لا تحققها؟ والغاية التي تهم سميث هي زيادة الثروة والإنتاج العام للمجتمع ككل. وهذا يعني أنه لو وجد أن تدخّل الحكومة في السوق سيؤدي إلى هذه الغاية، فإنه لن يعارضه.
وما يؤكد هذه النتيجة أنه في نفس الكتاب أيّد بعض الحالات التي تتدخل فيها الحكومة في السوق، واعتبرها نافعة. ففي حالات الدفاع عن البلاد فإن كل ما من شأنه تقييد الإقتصاد لهذه الغاية سيكون مقبولا. فعلى الرغم من أنه اعتبر مثل هذه التقييدات ستكون مضرة للإقتصاد، إلا أنه اعتبر تحقيق الأمان والدفاع عن الحكومة مقدّم على تحسين مستوى الرفاه. أما المستوى الثاني من التدخل الذي دافع عنه فهو فرض ضرائب على بعض المنتجات الأجنبية إذا كانت مثيلاتها المحلية مفروصة عليها ضرائب. وذلك لأن مثل هذا التقييد لن يؤدي إلى تقليل المنافسة في السوق ولا إلى الاحتكار، وبالتالي فهو لن يمانعه. أخيرا، وفي الجزء الخامس من كتابه، تحدث سميث عن أوجه إنفاق الحكومة لأموالها. فبالإضافة لأعمال الدفاع وتحقيق العدل، فإن الوجه الثالث هو “الأعمال والمؤسسات العامة”. وعلى الرغم من أهميتها للمجتمع، فإن هذه الأعمال والمنافع العامة ليست مربحة للمستثمرين، وبالتالي على الدولة أن تتولى توفيرها. إن وجود مثل هذه المنافع في عالم آدم سميث يعني عدة أمور، أهمها إقراره بأن ليس كل أعمال المجتمع مربحة وبالتالي ليس كلها يجب أن تترك للسوق، والثاني أن المجالات التي تغطيها هذه الأعمال واسعة فهي تبدأ من الأعمال التي تساعد التجار على إتمام تجارتهم ولا تنتهي عند مؤسسات التعليم.
-٣-
إن النصوص التي دافع فيها سميث عن تحرير السوق وانتقد التدخل الحكومي يجب فهمها في هذا السياق، أي سياق نقده للنظام المركنتالي وضرره على الإقتصاد بشكل عام. ففي محاججته ضد هذا النظام، خطى سميث خطوتان: في الخطوة الأولى، حاجج بأن تقييد السوق لن يؤدي إلى زيادة رفاه الإقتصاد، وذلك لأن أي اقتصاد يعتمد في توسعه على مقدار رأس المال الموجود في المجتمع. ولهذا، يقول سميث، “لن يقود أي تقييد حكومي إلي زيادة حجم الاقتصاد بأكثر مما يسمح به حجم رأس المال الموجود”. فإن كان التقييد الحكومي لا يؤدي إلى زيادة حجم الاقتصاد، فما هو أثره الفعلي؟ يجيب سميث قائلا: إن أثره هو التوجيه. وهو يعني أن الأثر الذي يمكن أن يحققه التقييد الحكومي هو تعديل من بنية الحوافز داخل النظام الاقتصادي بحيث ينتقل الإستثمار من وجهة إلى أخرى ما كان له أن يتجه إليها لولا التدخل الحكومي. فإن صحّ أن دور التقييد الحكومي هو توجيه الإستثمار، فإن السؤال يكون: من لديه المعرفة في أي المجالات أفضل للاستثمار؟ الحكومة أم المستثمر؟ وحتى يجيب على هذا السؤال، ينتقل سميث للخطوة الثانية في محاججته ضد النظام المركنتالي.
يقدّم آدم سميث سببين لإثبات أن المستثمر الفرد مجهّز بإمكانيات أفضل من الدولة في تحديد أي الوجهات أفضل في الإستثمار. أما السبب الأول، فهو أن التقييد الحكومي لا يخرج عن كونه غير نافع أو مؤذي. فإن كانت المنتجات المحليّة تستطيع منافسة المنتجات الأجنبية في السوق، فإنه من غير المفيد حمايتها عبر تقييد استيراد الأخيرة. أما إن كانت المنتجات المحليّة أغلى ثمنا من الأجنبية، أو كانت جودتها أقل، فإنه من المؤذي منع استيراد الأجنبية. وهو مؤذي لأنه، كما قال سميث، “من عادة أي سيد بيت حكيم أن لا يصنع في منزله ما يكلفه صناعته أكثر من شرائه”. أي أن شراء منتجات أجنبية رخيصة سيجعل الدولة المستوردة تنفق أقل، وهذا يعني توفير رأس مال أكثر يمكن استثماره لإنتاج منتجات أكثر تنافسية.
أما بالنسبة للسبب الثاني فملخصه هو أن منح المستثمر الفرد حريّة تحقيق مصالحه الخاصة فيه فائدة للإقتصاد العام أكثر من أن تقوم الحكومة بتقييد سلوكه. وهذه النتيجة تجد مقدماتها في نظريّة سميث عن المستثمر الفرد إذا ما ترك حرا في تحقيق مصالحه الخاصة. فبالنسبة له، فإن المستثمر الفرد سيقوم بوظيفتين تخدمان الإقتصاد العام إذا ما ترك حرا. أما الوظيفة الأولى فهي أن المستثمر الفرد سيستثمر في السوق المحلي، وذلك ليس نابعا من وطنيته، بل لأنه مفيد له أكثر أن يكون استثماره قريبا منه ومع أشخاص يعرفهم ويعرفونه وفي ظل قوانين معتاد عليها ويعرفها. وباستثماره محليا يقوم المستثمر الفرد بنفع الإقتصاد عبر توظيف أفراده وزيادة منتجاته. هذه هي الوظيفة الأولى، أما الثانية، فهي أن المصلحة الشخصية للمستثمر الفرد ستدفعه لتحسين جودة منتجاته، وذلك لأن زيادة جودتها ستؤدي لزيادة أرباحه. وهو بعمله هذا سيؤدي إلى نفع الاقتصاد العام وزيادة حجمه. وبهذه الطريقة، فإن المستثمر الفرد “تقوده بيد خفيّة لتحقيق غاية لم تكن من ضمن نواياه”. وهذا هو السياق الذي تظهر فيه فكرة “اليد الخفيّة” التي كثيرا ما يساء فهمها عند نسبتها إلى سميث. فهو يعني أن الرفاه، وهو من المنافع العامة، سيكون تحققه أكثر احتمالية كنتيجة غير مقصودة من ترك المستثمر الفرد يمارس استثماراته وتحقيق مصالحه بحرية، وذلك ضمن سياق محدد في مناقشة أطروحات النظام المركنتالي في الاقتصاد الدولي والتجارة الدولية، وليس في علاقة الدولة بالسوق المحلي.
-٤-
حتى الآن، اتضح أن موقف سميث من التقييد الحكومي ليس مبدئي، بل يحكم عليه من خلال الآثار التي يتركها، واتضح كذلك أن تفضيله لتحرير السوق نابع من قناعته بأن تحصيل المستثمر الفرد لمصالحه ستكون له آثار غير مقصودة على الاقتصاد ككل أكثر فائدة من تقييد سلوكه من قبل الحكومة. كل هذا جميل، لكن سيبرز هنا سؤال: ما الذي يجعل سميث واثقا كل الثقة بأن المستمثر سيتصرف بهذه الطريقة العقلانية؟ ما الذي يجعله واثقا من أنه لن يبذر أمواله أو ينفقها على أمور ليست منتجة ومفيدة للاقتصاد؟ هذا السؤال مهم، وذلك نظرا لأن سميث نفسه يعتقد أن الناس عادة ما يكونون مبذرين، بل ويرى أن تبذيرهم نتيجة لنزعة غريزية “نحو الإستمتاع الآني”.
يجيب سميث عن هذا الإشكال بالغوص في أعماق النفس البشرية. فهو يرى أن الإنسان تتنازعه نزعتان: نزعة نحو الإستمتاع اللحظي وهي التي تقوده نحو التبذير، ونزعة أخرى تسعى للحفاظ على النفس وتحسين ظروفها، وهذه تقوده للتوفير. ورغم أنه صحيح أن نزعة التبذير تضر الفرد مؤقتا وفي بعض الأحيان، إلا أن نزعة الحفاظ على النفس أقوى منها ومتغلبة عليها وموجودة معنا دائما. لكن ما هو مصدر هذه النزعة للحفاظ على أنفسنا وتحسين ظروفنا؟ حتى نجد إجابة على هذا السؤال، يجب أن نتوجه لكتابه الآخر المشاعر الأخلاقية. في هذا الكتاب، نجده يقول أن ما يدفعنا للحفاظ على أنفسنا وتحسين ظروفنا هو حاجتنا “لأن يرانا الآخرون، لأن يقدروا وجودنا ونثير اهتمامهم وتعاطفهم وتقديرهم”. وهو يعني بهذا الكلام ما يسميه “التعاطف المتبادل”، والذي يعتبره مصدرا للذّة والمتعة. فبالنسبة لسميث، “لا شيء يثير متعتنا من أن نجد في شخص آخر احساسا مماثلا لكل المشاعر الموجودة في صدورنا، ولا شيء يثير صدمتنا من أن يصادفنا عكس ذلك”. وحتى يحافظ الإنسان على هذه اللذة والمتعة، فإنه يخوض صراعا دائما من أجل تحسين حظوظه، وذلك حتى تتم ملاحظته. وهذا هو الأساس الذي يجعل سميث واثقا من أن المستثمر الفرد سيكون مدفوعا بحافز قوي نحو تحصيل أفضل مصالحه.
وهذا التفصيل يوضح كيف أن نظرة سميث للإنسان لم تكن بتلك الصورة الكاريكاتورية التي تقدّم لنا وتجعله يعتبره عقلانيا أداتيا بحتا ينطلق من حساباته الخاصة بالربح والخسارة بشكل مجرّد عن أي بعد نفسي أو اجتماعي. بل على العكس من ذلك، فهو قد اعتبر أنشطته الاقتصادية العقلانية عبارة عن وسيلة للإنسان ليستجيب لدوافع نفسية واخلاقية، دوافع تجعله يرغب بأن يكون مُشاهدَا من قبل الاشخاص المحيطين به ومحسوسا به. إنه آدم سميث، ولا أحد غيره، الذي يقول: “أن الإنسان لا يريد فقط حبا، بل أن يكون محبوبا”.
-٥-
النقطة الأخيرة في هذه المناقشة عن آدم سميث، ستكون في توضيح رأيه هو عن الاقتصاد الحر. ففي نقاشه حول هذا الموضوع، فإن سميث وضّح أن مثل هذا النظام الاقتصادي المحرر بالكامل، غير ممكن. فهو يقول أن الاعتقاد بأن مثل هذا النظام ممكن هو مثل الاعتقاد بأن “يوتوبيا يمكن أن تؤسس”. ويوتوبيا هنا مدينة مثالية متخيلة، وكثيرا ما كان يستخدمها الكتاب المدافعون عن السوق الحرة في وصم خصومهم من الاشتراكيين والشيوعيين باعتبار أن الاشتراكية مثالية وطوباوية.
لكن، وكما يبدو واضحا الآن، آدم سميث ليس من النوع الذي يلقي بالمزاعم دون أن يسعى لإثباتها. فكيف خلص إلى أن السوق المحررة من الدولة غير ممكنة؟ السبب الذي دفعه لذلك هو نفس السبب الذي دفعه لرفض تقييد السوق في النظام المركنتالي: المصالح الخاصة. فعلى الرغم من أن المصالح الخاصة تلعب دورا مهما في زيادة حجم السوق والرفاه، إلا أنها أيضا تلعب دورا في ممانعة المطالب التي تدعو لمزيد من تحرير السوق. فالقوانين التي تريد تحرير السوق ستزيد من المنافسة، وزيادة المنافسة تعني تقليل الربح، وهذا سيجعل التجار الموجودين حاليا في السوق سيمانعون تحرير السوق انطلاقا من مصالحهم الشخصية. ولهذا فإن على الدولة أن تتدخل من أجل زيادة المنافسة في السوق، إذ لولا تدخلها فإن السوق نفسه لن يؤدي من تلقاء نفسه إلى حرية أكبر ومنافسة أكثر.
May 23, 2017
فهم الاحتلال … شرط فهم التطبيع والمقاطعة والمقاومة
منذ احتلال العراق عام 2003، اشتعلت في المنطقة العربية حرب باردة بين محورين درج الإعلام على تسميتهما بمحوري المقاومة والاعتدال. وعندما أشعل التونسي، محمد البوعزيزي، نفسه معلنا انطلاق الربيع، ارتفعت الآمال ببروز طريق ثالث غير هذين المحورين، طريق لا يجعل النضال لأجل فلسطين مناقضا لمطلب الديمقراطية، وطريق لا يجعل مطلب الديمقراطية مشروطا بالتخلي عن فلسطين. إلا أن هذه الآمال حطمها هذان المحوران، حيث أدى الربيع العربي إلى تحويل تلك الحرب الباردة إلى أخرى أكثر حرارة بكثير.في خضمّ هذا الصراع، تنشط النخب الفكرية والأجهزة الإعلامية التابعة لهذا المحور وذاك، في إعادة تعريف المفاهيم، واستغلال القيم، وتوظيف ما هو ثمين وغال (كالقضية الفلسطينية) في قلوب وعقول الشعوب العربية، لخدمة مصالح وغايات هذا المحور وذاك.
وهذا الظرف هو ما يجعل الواحد منّا، نفسه، مندهشا من حجم التشويش وانعدام الوضوح في قضايا ومفاهيم يفترض بها أن تكون دوما واضحة. لهذا السبب سأقوم في هذا المقال بشرح ثلاثة مفاهيم: التطبيع، والمقاطعة، والمقاومة. وسأقوم بذلك عن طريق إعادة الاعتبار لمعنى “الإحتلال”، ذلك أن نسيان أن القضية الفلسطينية في جوهرها هي قضية احتلال استيطاني، وليست نزاعا حدوديا، هي الخطوة الأولى نحو انعدام الوضوح.
لنبدأ القصّة من أولها: كان هناك شعب عربي فلسطيني يعيش على أرض فلسطين. بعد ذلك، جاءت مجموعة من الصهاينة الأوروبيين، بالتعاون مع الدول الأوروبية، إلى أرض الفلسطينيين واستعمروها، وطردوهم منها، وأسسوا عليها عام 1948 دولة لهم سموها “اسرائيل”.
الفلسطينيون الآن إما يعيشون كلاجئين في العديد من دول العالم، أو تحت الاحتلال الصهيوني. فالقضية في جوهرها هي اغتصاب أرض وتشريد شعب، وليست قضية دينية (فالصهيونية حركة علمانية، والقدس لم تُحتَل إلا عام 1967).
الآن، بماذا يختلف الاحتلال الصهيوني عن غيره من أنواع الاحتلال؟ الجواب: أنه احتلال استيطاني. فالاحتلال أنواع: هناك احتلال لأغراض سياسية واقتصادية، يكون فيه الأجنبي هو المسيطر سياسيا بشكل مباشر على شعب ما، ويدخل في هذا التصنيف الاحتلال الأميركي للعراق.… وهناك احتلال استيطاني.
في الاحتلال الاستيطاني يقوم الأجنبي بتأسيس كيان سياسي له ولشعبه فوق أرض ما على حساب الشعب الأصلي. في النوع الأول، مهما طالت مدة إقامة المحتل، فهو يعود من حيث جاء، في حين في النوع الثاني، يأتي المحتل الاستيطاني ليبقى. في النوع الأول المحتل يعمل لمصلحة بلد بعيد، في حين أن المحتل الاستيطاني يعمل لمصلحة الكيان الاستيطاني الجديد الذي قام بإنشائه. في النوع الأول، المحتل يستغل الشعب الأصلي، في النوع الثاني، المحتل يستبدل الشعب الأصلي ويلغيه.
هذه التمييزات التحليلية تجعل ظواهر مثل التطهير العرقي للسكان الأصليين، السياسات العنصرية اتجاههم، الفوقية، الإقصاء، ضرورية لبقاء الاحتلال الاستيطاني، في حين أنها ليست ضرورية في النوع الأول من الاحتلال الذي لا يجد مانعا – كما كان يفعل الاحتلال البريطاني – من تأهيل نخبة محليّة وتوظيفها لتخفيف أعباء السيطرة على هذا البلد لصالح مركز الإمبراطورية، أو حرصه على الكدح رخيص الثمن، الذي يمكن استغلاله في المستعمرات.
إن الأمثلة على الاحتلال الاستيطاني ليست محصورة بالاحتلال الصهيوني، بل هناك أمثلة أخرى… كالاحتلال الفرنسي في الجزائر، والاحتلال الاستيطاني في جنوب أفريقيا.
من هذا التحليل، نستطيع استنتاج أن الانتصار بالنسبة إلى المحتل الاستيطاني يكتمل عندما يتم الاعتراف به – من الشعب المُحتَل – باعتباره “شعبا طبيعيا” على الأرض، التي استولى عليها وطرد شعبها منها. أميركا مثال على هذا الانتصار للمحتل الاستيطاني الذي استطاع أن يبيد ويطهّر ويخضع السكان المحليين، حتى أصبح وجوده هناك “طبيعيا”.
النتيجة الأولى، إذن، من هذا الكلام هي أن التطبيع- أي الاعتراف بالصهاينة “كشعب طبيعي في فلسطين”- يعني المساهمة في انتصارهم. إن استطاعت إسرائيل كسب اعتراف العالم أجمع، فهذا يكسبها قوّة كبيرة، لكنه لا يجعلها منتصرة.
انتصار الصهيونية يتحقق فقط عندما يعترف بها العرب كدولة طبيعية، ذلك أن العرب هم الخاضعون للاحتلال. لهذا يكون التطبيع خيانة وإعلان استسلام، ولا يمكن النظر إليه كتكتيك أو مناورة سياسية.
من هذا التحليل أيضاً، يتبيّن أن واجبات العرب تختلف عن واجبات غيرهم، لأن الأرض المسلوبة عربيّة، ولأن الشعب المهجّر والمنتهكة حقوقه عربيّ. فكون قضية فلسطين قضية عربية يعني أن العرب ليسوا فيها مراقبين محايدين، أو طرفاً ثالثاً، بل هم الطرف الخاضع للاحتلال الاستيطاني، وبالتالي واجباتهم ومسؤولياتهم تختلف عن واجبات ومسؤوليات غيرهم.
فإن كان أقصى ما يراد من غيرهم هو المقاطعة، فإن هذا الواجب هو أقل ما يراد من العرب. والمقاطعة هي كل نشاط يهدف لنزع الشرعية وعزل العدوّ الصهيوني سياسيا وثقافيا واقتصاديا وغيره.
إن انتشار ثقافة وحركة المقاطعة أمر حميد وضروري، لكن يجب التذكير دائما بأنه أقل واجبات العرب. أما أعلى واجباتهم فهو المقاومة. والمقاومة لا تنحصر فقط في الأنشطة العسكرية، بل تشمل كل نشاط – عسكري أم سلمي أم اقتصادي – لا يهدف فقط لنزع الاعتراف والشرعية عن الصهاينة بل في هزيمتهم وإنهاء احتلالهم.
لهذا هناك تداخل بين المقاطعة والمقاومة، حيث أن الأولى يمكن أن تتحول إلى الثانية، لأنها تتضمن نوعا من الإضعاف غير المباشر.
صحيح أن شعارات مثل المقاومة ونصرة فلسطين تمت الإساءة لها وتلطيخها بالدماء البريئة من قبل الدول التي تبنتها، وليس آخرها إلا ما يدعى بمحور وحركات المقاومة، وهذه الظاهرة دفعت بعض العرب للكفر بهذه الشعارات.
لكن أليس هذا قدر كل الشعارات النبيلة؟ إن كان استغلال الظلمة للشعارات النبيلة مبررا للتخلي عنها، فيجب التخلي عن كل شعار وقيمة نبيلة: كالحرية والعدالة والرفاه، فهذه كلها تم استغلالها لأعمال الشر.
سلطان العامر's Blog
- سلطان العامر's profile
- 21 followers

