محمد الهاشمي's Blog, page 5
October 6, 2013
صحن الفوالة (2)
تعلمنا التجارب أن نجرؤ أو نخاف، أن نستمر في الخطأ أو نفعل الصواب، أن نعيش كغيرنا أو نكون مختلفين، أن نعتمد سلوكاً أو نتخلى عنه. لا يمكن أن نبقى على ما نحن عليه بعد أي تجربة. مخطئ من يعتقد أن أحداً لا يتعلم. أقل درس يمكن لأي أحد تعلمه هو معرفة شعور أن تجرب شيئا جديداً، أو شعور أن تعاود الكرّة، أو شعور أن تعتقد أن تجربتك هذه المرة مغايرة. في الحالات الثلاث أنت تصنع نتاجاً جديداً لا يشبه سابقه، وتصنع من نفسك إنسانا أفضل أو أسوأ تباعاً.
لا أسهل من أن تعتقد أنك تستطيع تقييم تجربتك، والأصعب أن تتحلى بالعدالة والنزاهة في ذلك. نحن ميالون لتلمس ذواتنا بحساسية مفرطة، فننتفخ أو ننكمش بحدّة غالباً. وعليه، فمهما تحدثنا عن تجاربنا فإننا سنرويها كما رأيناها، لا كما رآها الآخرون، وكثيراً ما نرى أنفسنا في دور البطولة، أو الدور الرئيسي. فلا أحد يريد أن يكون “كومبارس” في روايته الخاصة.
في تجاربي أشياء أحب أن أتذكرها، لأنها تذكرني بما يجب أن يدفعني للأمام. أما التجارب التي تعيدني للخلف فهي لائحة ممنوعات، ومن المعلوم أن مقاومة الرغبة في الممنوع أمر صعب. أحاول دائما تذكر أن الأغبياء وحدهم يمشون للأمام ورؤوسهم تتطلع للوراء، أما الأذكياء فينظرون للخلف عندما توقفهم العراقيل فقط. الفارق هنا ضئيل، لكنه خادع جداً.
– في سن الرابعة أسمتني الصحافة “الطفل المعجزة”. ثم كنت خلال المرحلتين الإبتدائية والإعدادية من الأوائل على مستوى المدرسة والمنطقة التعليمية. في الثانوية صرت أدلل نفسي بمحاولة التفوق دون جهد، فتراجعت درجاتي سنة بعد سنة. هذا يحدث عندما يعتقد الجميع بمن فيهم أنت أن نجاحك بتفوق تحصيل حاصل. الغارق هنا كان أنا وحدي، لكنني كنت مستمتعاً بالغرق وإثبات خطأ الجميع. لعل ذلك كان أثراً لهرمونات المراهقة.
– في الإعدادية، كنت متفوقاً في الرياضات الجماعية وسباقات المضمار، ثم مللت تحقيق إنجازات لا يذكرها أحد، فاتجهت للأنشطة الإعلامية، وقمنا بتسجيل مسرحية إذاعية. حصلنا على المركز الأول على مستوى المنطقة التعليمية والثاني على مستوى الدولة. وقد فاز فريق مسرحي من ربيبي “الإصلاح” الذين كانوا بارعين في الدراما “الدعوية” المسرحية، وكانت مسرحيتهم تتسق مع المزاج “الإخواني” للجان التحكيم والقيادات التعليمية.
– حتى لا أحبط أنا وزملائي، قررت أن أؤسس أول إذاعة مدرسية إخبارية، وكانت تلك سنة احتلال الكويت الشقيقة. خلال شهرين كانت المنازل المحيطة بسور المدرسة تتابع برنامجنا الصباحي وتصلنا الكثير من رسائل الإعجاب من ربات البيوت. لذلك، قررت المدرسة مدّ فترة الإذاعة إلى ربع ساعة. بعدها بأشهر تحررت الكويت بحمد الله، ومن فرط غبطتي لم أعد أشعر بأن هناك شيئا يمكن الحديث عنه، كما أن أحداً لم يشعرني بأنه بحاجة لسماع شيء آخر، فتوقفت.
– أردت التفوق في كرة القدم لأنها أكثر شيء يعجب الناس هنا، فانضممت لنادي الجزيرة. بعد عام، انضممت لتجمع للبراعم من مختلف أندية الدولة لتشكيل منتخب ناشئين للمشاركة في التصفيات الآسيوية. أصبت بعد يومين، وعدت للنادي فلم يعالجوني. غضبت لإهمالهم. لم يعجب إدارة النادي أنني قررت البحث عن بديل، فقررَت تسجيلي في كشوفات الفرق العُمْرية حتى لا ألعب لأي فريق آخر.
– تركت النادي واتجهت للموسيقى، فكونت فرقة “هارد روك” مع عدد من أبناء مدرسة الشويفات الخاصة “المتأمركين”، وصرت المغني الرئيسي وارتديت “الجينز المشقق” وقميص “ميتاليكا” وحزاماً بجمجمة وربطت “البندانا”. ثم انتهى التمرد فاتجهت للغناء الخليجي هنا وهناك. كدت أن أحترف الغناء وأوقع لشركة روتانا، لكنني انسحبت إرضاء لجدّي.
– قبل أسبوعين من اختبارات الثانوية العامة، وصلتني رسالة حرمان من الاختبارات بسبب الغياب لأكثر من شهرين، مما أغضب والدي كثيرا. توسلت مدير المدرسة ووعدته بالنجاح، فسخر ونذر أنني لو نجحت فسيذبح بقرة عند باب المدرسة. انكببت على الكتب 13 يوماً فنجحت وتفوقت، ولم أر أي دم حيوان يسيل على الأرض فقد كان المدير يقضي عطلته في بلاده عندما أُعلنت النتائج. كان والديّ مترددين في إرسالي للدراسة في الخارج، فقد اعتقدا أن الدول المتحررة مكان خطر على ذوي “العنفوان الزائد والعاطفة المرهفة”. وجدت نفسي طالباً في جامعة الإمارات، وكانت في ذلك الوقت تعدّ –في نظر خريجي أبوظبي- ملاذاً أخيراً لمن لم يحالفهم الحظ في خيار آخر. في سنوات الجامعة في مدينة العين، تحول ذو العنفوان المرهف إلى “فهلوي”.
كل ما سبق حدث وأنا بعد لم أبلغ العشرين، وفي تلك السنة رسمت طريقي المهني الإعلامي الطويل، وتلك مرحلة أخرى تستحق كتاباً، ولعل هذا المقال يكون توطئته.
قبل أن أعرف الوظيفة والشهرة، فرضت جملة الظروف والملابسات، وسلسلة النجاحات والخيبات وبعض الأخطاء البريئة وأخرى تبت عنها في صنع متمرد مغامر ينتظر الفرصة السانحة ولا يسرقها من أحد، مقامر لا يعترف بالفشل فلا يخافه، لكنه كثيراً ما يفقد الرغبة عندما تغيب نزاهة التنافس ويكثر الغش. كان شابا صغيرا يمل التكرار والروتين ويعشق تحدي الأزمة أكثر من عشقه لصناعة النصر.
علمني ذلك إظهار الصلابة عندما تكثر الرخويات، والتحول إلى قبضة من فولاذ عندما يقرع الحديد بالحديد. لكن كان هناك شبح يطاردني دائماً، ويربك حساباتي، وهو شيء يسمونه غياب التقدير. وكان هناك أحياناً عفريت صغير اسمه انهيار الرمز والقدوة، وحمار أعرج اسمه عدو النجاح. تلك كانت أشياء يمكنني أن أستبعدها من اهتمامي لو أنني نظرت إلى ذاتي من الخارج وتخلصت من عدوي الأول: شعوري بالقرف، لكنه شيء تعلمته متأخراً، ولا أزال أتناساه أحياناً كثيرة. ذلك لأن الأمراض المنتشرة يصعب التخلص منها أو حتى ملاحظتها. والنظر من الداخل أكثر انتشاراً مما نتصور، أما النظر من الخارج فهو أصعب حبة دواء يمكن الحصول عليها.
المهم أن نتذكر، أننا قد نجد في قاعة استقبال ما “صحن فواكه” من البلاستيك، أما “صحن الفوالة” فلا يمكن إلا أن يكون حقيقياً.
— مقال منشور على موقع الصحيفة الكويتي:
http://www.alsahefah.com/ArticleDetai...
تدوينة جديدة: صحن الفوالة (2) ظهرت على موقع موج بلا شاطئ - مدونة محمد الهاشمي موج بلا شاطئ.
October 2, 2013
دليل المبتدئين إلى المقامرة في “تل الخوازيق”*
لا ينفك أبي الغالي ينصحني بأن “الحد من الخسارة يعد بحد ذاته مكسباً”، إلا أنني نادراُ ما استطعت مقاومة رغبتي في المغامرة، وأحيانا المقامرة بحظوظي. وأظن أنني لم أكن محقاً، لكنني لم أكن مخطئاً أيضاً.
علمتني تجاربي الباكرة أنني لن ألامس السقف بمجرد الوقوف ومد ذراعي للأعلى. وقد لامست السقف عدة مرات، وللحظات معدودة حتى لا تصعقني كهرباء السقف. في مرات قليلة، قفزت –ولم أكن مستعداً- فسقطت وتألمت. في مرات أخرى أكثر منها وُضعت المسامير تحت قدمي وأنا لا أزال معلقا في الهواء. لكنني لم أتوقف عن القفز. ليس ذلك أمراً غير اعتيادي في سلوك المقامر، بل بالعكس. هناك دائما جزء روتيني من قوانين القمار، لكن هناك أيضا جزء مهم غير روتيني تخبئه المنافسة في اللعب دوماً.
لم أسمع في حياتي بقصة بيت قمار يخسر، لكنني سمعت عن المبتدئ الذي وضع دولاراً واحداً ثم حقق الجائزة الكبرى المقدرة بعشرات ملايين الدولارات. هذا ما يحدث في لاس فيغاس الأمريكية، فصناعة المقامرة هناك تؤمن بضرورة تساوي الفرص للجميع كجزء من حماية هذا الاستثمار الملياري والمحافظة على مصداقيته. في النهاية فإن بيوت القمار لا تخسر بفوز واحد هنا أو هناك، فالخاسرون أكثر دوماً. لهذا يقال إن “بيت القمار يفوز دائما”.
أما في نادي القمار الواقع في جمهورية افتراضية صغيرة تدعى “تل الخوازيق”، “يصدف” أن يخسر الفنان الشهير عمر الشريف –وهو من أمهر المقامرين- على كل طاولة يجلس عليها، لأن “بيت القمار لا يخسر أبداً” هناك. إن المهارة ليست عاملاً مؤثراً على نتائج طاولة القمار في تل الخوازيق. في الغالب، فإن على الفائز أن يكون شخصاً ذا نفوذ، ذا سلطة، ذا قدرة على إغلاق بيت القمار إن لم تعجبه النتيجة. وتحت هذه الظروف، فإن فوز عمر الشريف في تل الخوازيق لمرة من عشرين محاولة يعادل في إنجازه وصعوبته فوز المقامر المبتدئ صاحب الدولار في فيغاس-نيفادا مرتين متتاليتين. في تلك الحالة، يكون فوز عمر الشريف في تل الخوازيق أقرب ما يكون للمعجزة.
لكن تساوي الفرص “المنعدم” في تل الخوازيق، أو عدم عدالة توزيعها، لا يجب أن يجعلنا نعتقد أن نيفادا هي جنة المأوى، وأن “تل الخوازيق” هي جحيم سقر. هناك دائما من يسعى للغش على طاولة المنافسات حتى في أكبر ملهى قمار في لاس فيغاس، وهناك من ينجح في الغش فيها بين وقت وآخر.
أفضل مافي المقامر أنه يؤمن أن الحظ لن يبقى في الطرف الآخر من الطاولة للأبد. بيد أننا نعرف أن الفوز الحقيقي للمقامر في أي مكان، هو في ابتعاده عن القمار، إلا لو صار جلوس المرء على طاولة القمار طريقه الوحيد للنجاة كما يحدث في أفلام هوليوود أحيانا، وفي تل الخوازيق غالبا.
ليس كل ذلك إلا عبرة مستخلصة لما يجب أن يقوم به المحرومون من تساوي الفرص، سواء كان ضحية هذا الحرمان أنثى في مجتمع يحتقرها، أو ملونا في مجتمع عنصري، أو إنسانا حرا في مجتمع يحب أن يداس تحت الحذاء: مقامرون من ناحية المبدأ، تماماً كمقامري تل الخوازيق!
نحن أيضا نتعلم الكثير عن أنفسنا خلال كل ذلك، حتى ونحن نخسر. لا شك أن أجمل مافي البشر أنهم يضعفون لأنهم بذلك يدركون ما يعيق قوتهم. نحن بدون تجربة الضعف نشبه السيارة الجديدة التي تخرج من الوكالة، فمن المخاطرة أن تتجاوز سرعتها 100 كم/ساعة عند أول استخدام.
عندما يكتشف مقامرو تل الخوازيق أنهم مجبولون على الخسارة فإن الأضعف فيهم ينكسر سريعا، مهما أدرك الجميع أن فرص اللاعبين متساوية في انعدامها منذ البداية. في المقابل، عندما يقرر البعض بشجاعة أن يقامر بحظوظه المنعدمة خارج طاولة القمار وفي خضم المجهول والمعلوم من الحياة، فإنه يتعلم كيف يستشعر كسر المستحيل بأمل تحقيقه، ويباغته بضربة لا يتوقعها بتمسكه بحقه في تحقيق مرة الفوز النادرة التي قد لا تأتي. أحيانا فإن بيت القمار “الذي لا يخسر أبداً” مضطر للسماح بفائزٍ بين فينة وأخرى حتى لا يبدو أن هناك جريمة متعمدة تحدث فيه، ومن الجيد أن يحاول المرء أن يكون ذلك المحظوظ اللعين.
أظن أن الفرق الوحيد بيننا وبين عمر الشريف، هو أننا لو فشلنا مرة فلن نجد من يساعدنا في النهوض أو يلتمس لنا الأعذار لو قمنا بصفع امرأة في مهرجان سينمائي كما فعل. على العكس، لابد أننا سنضطر لمواجهة سهام الاصطياد في كل مرة. لذا، علينا أن نحاول أن نغش مكنة القمار لمرة واحدة على الأقل، علنا نفلت بالجائزة الكبرى رغما عن بيت القمار. فإن فشلنا، علينا أن نستمر في اللعب مادمنا لا نملك خيارا في أي مكان آخر، لأننا على طاولة القمار نملك على الأقل خيار شراء الوقت باللعب والخسارة وإبقاء بيت القمار في حالة رعب مستمر من احتمال تدخل الأقدار، لنفوز ولو مرة واحدة. إن اقتراب فرص مقامري تل الخوازيق من العدم يجب أن يجعل منهم أكثر إصراراً على الاستمرار في اللعب، مخدرين من حزن الخسارة، أكثر هياجاً لحلم الفوز، وهذا يعني أن استسلامهم يصبح أقرب للمستحيل.
..ذلك لأن الفوز مرة واحدة رغما عن بيت القمار في تل الخوازيق، عظيم معجِز بقدر ربح الجائزة الكبرى في فيغاس مرتين متتاليتين، بل أنه قد يكون خارقا للمستحيل كالنجاة من لعبة الروليت الروسي!
*مقال منشور في “القدس العربي” اللندنية 1-10-2013
تدوينة جديدة: دليل المبتدئين إلى المقامرة في “تل الخوازيق”* ظهرت على موقع موج بلا شاطئ - مدونة محمد الهاشمي موج بلا شاطئ.
September 30, 2013
صحن “الفوالة” (1)
إن مشاركة الآخرين لتجاربك لا يجب أن يبدو فعلاً نرجسيا، على الأقل ما دام قد شعر به شخص واحد آخر، ولامس واقعه. مشاركة تجربة واحدة قد تنقذ مستقبل إنسان. تلك المشاركة طوق نجاة اختياري لمن يريد السباحة بأمان، لكنه ضروري لمن لم يتعلم العوم قبل أن يركب السفينة.
مثلاً، تعلمت من سيرة حياة “فريدا” أن الحب الحقيقي لا يموت أبداً، ومن الأم تيريزا أن التمرد على أتباع الله قد يكون أول الطريق إلى حقيقة معرفته. علمني لوثر كينغ أنك قد تموت قبل أن ترى شيئاً من أمجادك يتحقق، وأراني مانديلا كيف أن تكميم الأفواه لا يوقف صدى الكلمات. قد لا أصبح عظيماً مثل هؤلاء وغيرهم أبداً، لكن من الجميل أن تسعى للعظمة حتى تضمن إنسانيتك. وقد لا أصل لأي شيء بعد كل العناء الذي تكبدته، لكنني متأكد أن تجربة أي منا، يمكن أن تكون لائحة أعمال لما كان من الأفضل أن نقوم به، وما كان من الأفضل أن نتحاشاه.
في التجارب بحلوها ومرها ما يمكن أن يشعر به الآخرون ليلهمهم، فالتجارب تتشابه ما دمنا في المحيط والبيئة نفسها، وفي مدارات الحياة عبرة لي ولكل من يعتقد أن الحياة لها لونان فقط: أبيض أو أسود.
كثيرا ما يجعلنا التميز بلا أصدقاء ويحيلنا الطموح إلى سلة فواكه، بين يدي أفواه لا تتذوق لذة الشيء بقدرما يتذوقه الذباب المتجمّع عليه. يجعلنا الأمر نشعر أحيانا أننا “صحن فوالة”، يحب الناس منظره على الطاولة لكن أحداً لا يمد يده لتناوله، لأن الصحن “ما فيه أفوكادو”، ولأنه مثلاً.. الشيء الوحيد الذي لا نملك أن يتدلى منا. على أقل تقدير، من الجيد أن تكون صحن فاكهة لم يُمسّ على أن تكون مزبلة لبذورها المختلطة باللعاب.
من المهم أن أعترف أن شيئا مما قمت به وكل التنقل والترحال وملاحقة الحدس أفقدني حس الاستمرارية، أو الديمومة، فصرت كمسافر الترانزيت الذي يخاف النوم حتى لو كان سيبقى منتظرا لعشر ساعات لحين موعد الطائرة. لكنه في الوقت نفسه أكسبني القدرة على مد خطواتي في كل اتجاه دون خوف من الوقوع في الحفر كلما حل الظلام الدامس. حدسي الذي يستدل مساره دون بوصلة، آمنت أنه سينقذني يوما ما ويحملني إلى حيث يجب أن أقف. وقد حدث واستفدت من كل ما ذكرت في مرحلة تالية من عمري، فكان وقوداً لأحلك الأوقات وأجمل الأخطاء مثلما كان تمهيداً جريئاً لأهم الانجازات. المهم أن تؤمن أن لك مكانا صنعته لنفسك في صيرورة هذا الكون، ولست مجرد صخرة باردة في مدار كوكب زحل.
في المقال القادم بإذن الله، جولة في أولى تجارب إنسان أراد أن يقول: “أنا هنا وأريد أن أصل هناك” حتى عندما لم تكن هناك آذان في الفضاء، وحتى لما كانت الطرق كلها مسدودة، وحتى عندما كانت الأعين مغلقة إلا على ما يضر ولا ينفع.
يتبع..
–مقال منشور في الصحيفة الكويتية: http://alsahefah.com/ArticleDetails.a...
تدوينة جديدة: صحن “الفوالة” (1) ظهرت على موقع موج بلا شاطئ - مدونة محمد الهاشمي موج بلا شاطئ.
September 22, 2013
لو كان الصمم كالصمت ..اختياراً
إن عالمنا مليء بالأصوات التي نستطيع سماعها، بل إن الموجات فوق الصوتية التي لا تستطيع أذننا التقاطها تفوق ما نسمعه بكثير. ويعتقد كثيرون أن الضوضاء عنصر مهم من عناصر التأثير في توازننا النفسي والعضوي.
هناك أبحاث تتحدث عن التأثير العلاجي للأصوات، وتشير أن الاستماع لرتم صوتي معين يمكنه أن يساهم في علاج كثير من الأمراض. هذا الرتم –بحسب كل معتقد- قد يكون تلاوة قرآنية، أو تراتيل انجيلية، أو حتى دقة بمطرقة على صحن “غونغ” كما يسميه الصينيون -ذلك الصحن المعدني يصدر كتلة من الموجات الصوتية تغطي كل درجات السمع التي يمكن لأذن الإنسان التقاطها. كل الأديان تؤمن أن الاستماع للتراتيل الدينية له مفعول علاجي جسدي، ويصلونه بعلاج الروح. المهم، أننا بإيماننا أن الصوت له قدرة علاجية حقيقية، فإننا بديهياً نؤمن أن للصوت أيضاً قدرة على إصابتنا بالمرض وإتلاف أجسادنا وأرواحنا. وقد يسأل سائل: لمَ لم يكن من بين النعم أن تتوفر لأجسادنا الميكانيكية لحجب وتمرير الأصوات وقتما نشاء؟
نحن نشارك في صنع ضوضاء هذا العالم، لكننا نشارك فيه بإرادة على المشاركة وندرك أن تلك الضوضاء تختلف عن كل شيء آخر يمكن سماعه، إنها الضوضاء المحفوفة بنوايا الاختيار المعلنة والمستترة على حد سواء! وهي الضوضاء التي نسميها نحن: الكلام. النوايا المعلنة قد تتوفر في أصوات الحيوانات، لكن المستترة تلك لا تخرج إلا من فوهة إنسان! وكما قال نابليون فإن عشرة متكلمين يمكنهم صنع ضوضاء تفوق ما يتسبب به جمعٌ من عشرة آلاف صامت.
أحياناً نسمع مالا نطيقه فنتمنى لو أننا لم نسمعه، بل أحياناً يخترق أسماعنا شيء لا نريد سماعه، ثم وبمجرد سماعه نشعر أننا لم نعد كما كنا. السمع كحاسة يختلف عن القدرة على الكلام. نحن لا نملك الخيار لاصطفاء ما نسمعه، على الأقل ليس بقدر قدرتنا على انتقاء ما نتفوه به –ومع هذا نتفوه بكثير من التفاهات. نحن نملك اختيار أن نصمت حتى وإن لم نستخدم هذا الخيار إلا نادراً، لكن اختيارنا ألا نسمع يبدو تحدياً صعبا. وبينما يسمى الصمت معظم الأحيان “حكمة” فإن الصمم عن السماع يبدو حلاً غير منطقي في مواجهة ما يزعجنا.
قال الأديب ميلان كونديرا إن للضجة حسناتها فمعها لا يمكننا تمييز الكلام. تلمست في هذه الجملة عمقا رهيباً–حتى وإن لم يقصده كونديرا-، فقد خطر لي إن الضوضاء التي لا نملك اختياراً لسماعها قد تكون أحياناً حلا للضوضاء التي يختار الناس التفوه بها. وقفزت حينها إلى التفكر في كل الأشياء التي لا نملك الإرادة عليها ويمكن أن تكون أفضل مما نمسك بزمامه، ولو كان هذا الأمر يفسر ميل كثير من الناس إلى أن يختار لهم الآخرون ما كان يجب عليهم اختياره بأنفسهم.
بقيت ساعات أفكر وأنتقل من مسألة إلى أخرى، ثم خلصت إلى التمني لو أن الصمم كان اختياراً يمكن الذهاب إليه والعودة منه، كاختيار الصمت عن الكلام، أو كاختيار أن تضغط زر الكتم “mute” لإسكات التلفاز ثم تضغطه مرة أخرى للسماح للصوت بالعبور إلى أذنيك.
ثم تذكرت، أن تحقق الأمنية لم يكن ليحل المشكلة، والدليل أن الناس تملك خيار الصمت والكلام، لكنها غالباً ما تسيء استخدام الاثنين!
*مقال منشور على الصحيفة الالكترونية الكويتية بتاريخ 22-9-2013:
http://www.alsahefah.com/ArticleDetai...
تدوينة جديدة: لو كان الصمم كالصمت ..اختياراً ظهرت على موقع موج بلا شاطئ - مدونة محمد الهاشمي موج بلا شاطئ.
“هكذا تكلم جوبس”*
ليس مستغرباً أن ننادي بحب الحياة وذواتنا، وبقدر
انفلات الحياة من بين أيدينا، تتزايد الرغبة في التمسك بها. هذا التشبث بالحياة
يضعف أكثر فأكثر عندما تصبح اللحظة التي نعاصرها أكثر ألماً من أي مجهول ينتظرنا. وفي
أغلب الحالات يكون الموت أعظم مجهول نخافه.
قد يخال المبدعون والأذكياء أن الموت شيء يمكن مواجهته، بل أن بعضهم يصل
بإبداعه إلى الوقوع فريسة لغروره المشبع بالبحث عن إجابات لكل شيء، بما في ذلك
معرفة ما وراء باب الحياة، فيقفز أحدهم من الشرفة شديدة العلو هرباً من لهب
التساؤلات، الأمر الذي يبدو أهون الشرّين في اعتقاده. أما الناس فيعتقدون أنه كان
“منتحراً” بإرادته.
عدا عن ذلك، فإننا لا نكون انتحاريين، بل متشبثين بالحياة لدرجة أن نقع أسرى لهيبة الموت، وعندما يستعبدنا شبح الموت، نغدو اسفلتاً لمكنةِ الحياة.
كيف نعيش إذاً؟ وكيف نواجه الموت؟ سؤالان
يخطران ببال كل منا..
في طريق بحثي عن إجابة لهما، مررت بخطبة شاهدتها للأمريكي ستيف جوبس (1955-2011م) –مؤسس شركة أبل التي غيرت معالم التطور التكنولوجي بشكل منقطع النظير- عنوانها “كيف تعيش قبل أن تموت”، وذكر فيها “أنه كان من المستحيل أن أصل النقاط غير المترابطة من حياتي ببعضها عندما كنت طالبا في الكلية بالنظر أمامي، لكنها كانت شديدة الوضوح بالنظر للوراء بعدها بعشر سنوات. عليك أن تثق أن النقاط ستصل بعضها في المستقبل. عليك أن تضع ثقتك في شيء ما”. وقد روى جوبس خلال خطبته التي ألقاها على خريجي جامعة ستانفورد العريقة كيف واجه مخاوف الموت عندما أصيب بسرطان البنكرياس، ومنحه الأطباء ثلاثة أشهر لوداع أحبائه قبل موته المحتم، وكيف اكتشفوا بعد ذلك أنه يمكن إجراء جراحة
لهذا النوع النادر من السرطان الذي أصابه، فأجرى العملية وقضى على المرض،
لا أحد يريد أن يموت.
حتى الناس الذين يرغبون بدخول الجنة لا يريدون الموت ليصلوا إليها. ومع ذلك، فإن
الموت هو الوجهة التي نتشارك جميعا في حتميتها. لا أحد استطاع الهروب منها أبداً.
وهكذا يجب أن يكون، لأن الموت هو الاختراع الأفضل الوحيد للحياة. هو العامل
المغيّر للحياة. إنه يقوم بتصفية القديم لإتاحة الفرصة للجديد. في هذه اللحظة،
الجديد هو أنتم، لكن يوما ما ليس بعيدا من الآن، ستصبحون تباعاً القديم الذي ينبغي
أن تتم تصفيته. أعتذر لدراميتي، ولكنها تبدو الحقيقة،
لم يكن جوبس يدرك أن الموت سيقوم بتصفيته بعدها بأسابيع قليلة، بشكل مفاجئ وخلال اجتماع روتيني داخل الشركة. وأعتقد أنه لولا جهله بموعد موته، لما كان واثقا لهذه الدرجة حينما قال في الخطبة نفسها إن تذكره الدائم أنه سيموت قريبا كان أهم وسيلة يحظى بها للقيام بالخيارات الكبيرة في الحياة، لأننا عندما ندرك اقتراب الموت فإن كل الخيارات تبدو صغيرة جدا. إننا
باختيار الموت للخلاص من الحياة، ندفع عن طريقنا كل احتمالات أن نجد شيئا آخر نؤمن أنه سيبدد مخاوفنا، لكننا باختيار أن نسير في دربها حذو مخاوفنا وقلقنا متقلب المزاج، فإننا نسمح لأنفسنا أن نجد مخرجا مؤقتاً أو استراحة أو فندقا رخيصا يمكن
للتوقف عندها أن يعيننا على الاندفاع لاحقا نحو نهاية الطريق دون خوف من تعب ليلة البارحة. إن نهاية الطريق هناك في مكانها بانتظار أن نصل إليها، ما الفرق إذاً إن كنا سنصل إليه اليوم أو غداً؟ لماذا نتجهم عناء القلق من مصير لا فكاك منه أبداً
وفي وقت لا نعرف فيه موعدة وصولنا إليه؟
فكرت في عدة إجابات على هذين التساؤلين لكن أياً منها لم يكن أكثر إرضاء لي من أن الموت ضيف بلا ميعاد، ومثل هذا الضيف لن يسعدك استقباله إلا ومنزلك جاهز لاستقبال ضيوف “الفجاءة” في كل حين.
*مقال منشور على الصحيفة الالكترونية الكويتية بتاريخ 8-9-2013:
http://www.alsahefah.com/ArticleDetai...
تدوينة جديدة: “هكذا تكلم جوبس”* ظهرت على موقع موج بلا شاطئ - مدونة محمد الهاشمي موج بلا شاطئ.
September 21, 2013
الحاجة إلى مسمارٍ في ظهرك
*قصص قصيرة جداً
لم يكن يملك مالا ليستبدل سريره القديم
كان يتوسط ذلك السرير مسمار ضخم، ليغرس ظهره عليه بألمٍ كل ليلة
إلا أنه تعود الألم، لقد تشكلت على ظهره حفرة بحجم المسمار فلم يعد يشعر به الا لو تحرك في نومه، وهو ممن لا يتحركون في نومهم إلا نادراً
وذات يوم، كسب مالا وفيرا
فاشترى سريرا وثيرا ذو ملمس حريري
استلقى عليه اول ليله ..فشلّ …ومات!
*******
في رواية أخرى قيل إنه شُلّ ولم يمت
ظل مشلولا في فراشه الوثير أمدا
واستخدمت جارته الطيبة من ماله للإنفاق على رعايته
حتى نفذ المال فاضطرت لبيع السرير ونقله لسريره القديم ذاك
فنهض صباحا وكأن لم يكن به بأس!
*******
في رواية أخرى أن الرجل.. وبعد أن شفي
قيل إن جارته الطيبة أشفقت عليه من ألم المسمار الذي توسط السرير
فلما خرج من منزله ليعاود العمل..
دخلت وأزالت المسمار عن السرير وخرجت قبل عودته لتترك له المفاجأة السارة
الرجل عاد منهكاً فدخل ونام سريعا
ثم لم يفق بعدها…!
تدوينة جديدة: الحاجة إلى مسمارٍ في ظهرك ظهرت على موقع موج بلا شاطئ - مدونة محمد الهاشمي موج بلا شاطئ.
August 2, 2013
استقراء المقلدين بلسان أبي العلاء المعري*
من بين ما قاله المعري بيت الشعر هذا:
في كل أمرك تقليدٌ رضيتَ به حتى مقالك ربي واحدٌ ، أحد
كان أبو العلاء المعري داهية عصره بل أنه سبق عصره بمئات السنين، وشأنه شأن أي خارج عن النمطي السائد اتهم بالزندقة، بل أنه أسيء فهمه في الغالب. وبدلاً من أن يكون من أوائل –إن لم يكن أول- من انتقدوا نمطية التقليد الديني، فقد اعتبر غالب المؤرخين -وقليل من أنصفه- أنه خرج عن دائرة الإسلام إلى الوجودية الربوبية، والدليل على ذلك أن ربوبيي هذا العصر ينسبون أنفسهم إليه بكل فخر ويعدّونه أول الربوبيين جميعاً، وهو فهم خاطئ إلى حد كبير في نظري.
المعري كره نموذجاً بعينه في سياق عصره، وهو نموذج استمر فيما تقهقر هو وأشباهه من المفكرين، ممن أرادوا أن يحرروا الدين من نمطية التقليد والكهنوت. لا أنحاز لصف أي منهما، بقدر شعوري أحياناً أننا بحاجة لوجود نموذج المعري وغيره لنفهم الدين ومقاصده الكبرى أكثر، ذلك أن بعضا من هؤلاء وأولئك، كانوا ليصنعوا فارقا نحن بأمس حاجة له للقضاء على التناحر الطائفي والديني الذي يتهددنا.
لا غرو أننا نمارس مجموعة من المظاهر الاجتماعية التي نتشارك فيها مع من حولنا في صورة شعائر وعادات تجعلنا نحمل هوية المجتمع المسلم والمذهب الفلاني بعينه، لكن ذلك بعيد كل البعد عن إثبات مدى إيمان الفرد، أو إخلاص نيته لله. هذه المظاهر هي مجرد بداية وهناك ما هو أهم وأشد عمقاً حتى وإن كان أقل إنهاكاً. والدليل على ذلك أن المنافقين منذ عهد النبوة كانوا يمارسون ذلك الاسلام المجتمعي فكانوا يصلون ويصومون ويزكون بل أن بعضهم كان يخرج للجهاد مع جيش المسلمين! والدليل الآخر أن الملحدين في مجتمعاتنا المعاصرة لا يمكن معرفتهم إلا عندما يقرون بإلحادهم، وما عدا ذلك فهم يشبهوننا في كل شيء بل أن بعضهم يصلي الجمعة في المسجد!
لكن المشكلة في (بعض) أولئك المقلدين أنهم لا يدركون أنهم في أول الطريق، بل على العكس، هم ينطلقون من تأسلمهم المجتمعي المطبِق للعرف والوارث للدين بالولادة للتحدث باسم الله، بل اعتبار أنفسهم ممثلا شرعيا وحيداً لكلمته على الأرض، انتهاء إلى القتل باسمه تكبيراً وتهليلاً. النمطيون المقلدون يتضخمون وينتفخون يومياً وسط قناعة كاملة أنهم يمسكون بعصا الله في الدنيا، وفي يدهم الأخرى صك دخولهم إلى الجنة، ودخول غيرهم إلى النار. حينها يبدو أن هؤلاء لا يختلفون كثيراً عن مشركي قريش الذين قاتلوا وآذوا رسول الله وأتباعه، فالمشركون أيضاً كانوا يحاربونه وأصحابه لأنه في نظرهم عدو الدين الذي ورثوه مجتمعياً. إن النمطيين المقلدين لا يختلفون في شيء عمن يكفرون من أعدائهم، فكلاهما ورث دينه مجتمعيا وكلاهما يرى في الآخر أنه كفر بهذا الدين المجتمعي، بغض النظر عن مدى توافق هذا الكفر مع مفهوم الكفر دينياً.
سيبقى دين الله في متناول الجميع، هو ليس حكراً على المسلمين، لأنه للعالمين، لكل نفس على هذه الأرض، كفرت أو آمنت بالله. هو لا يميز في عطائه ورزقه وامتحانه وابتلائه بين من هو مؤمن ومن هو كافر. تلك المسألة ليست من اختصاص الحياة الدنيوية، فقد أعطانا الله حرية العيش فيها بحسب ما نراه مناسباً، واختيارنا أن نكون مقلدين نمطيين يبدو أسوأ الاختيارات، لأنه فضلاً عن أنه ليس خيار قناعة بل خيار برمجة وتلقين وتخزين ووراثة، فهو أيضاً يضعنا –جميعاً دون استثناء- في البدء على قدم المساواة مع المنافق، في أننا مسلمون بالشكل والعادة فقط، ثم ومن بعد…. تنطلق رحلة الإيمان الحقيقي، ويا لها من رحلة، جعلنا الله من أهلها جميعاً –مقلدين كنا أم مجددين.
*مقاال منشور على موقع الصحيفة الكويتية الالكتروني http://assahefah.com/ArticleDetails.a...
تدوينة جديدة: استقراء المقلدين بلسان أبي العلاء المعري* ظهرت على موقع موج بلا شاطئ - مدونة محمد الهاشمي موج بلا شاطئ.


