محمد الهاشمي's Blog, page 4
December 2, 2013
اتفاق ايران والغرب: مواقف دول المنطقة من المنعطف الخطير
صدم الشركاء التاريخيون للولايات المتحدة والغرب بتوصل إيران لاتفاق بشأن ملفها النووي مع دول 5+1، لكن تلك الصدمة عكست بعينها سذاجة سياسية في فهم التحولات الدولية، وكشفت عجزاً لدى دول المنطقة في فهم أشياء كثيرة تغيرت في واقع السياسة الدولية، منذ صعود أوباما، وظهور الثورات، وتداعيات الانهيار الاقتصادي الأخير وأشياء أخرى لا نعلم عنها الكثير.
إن رأياً آخر يرى أن حلفاء الولايات المتحدة والغرب في المنطقة كانوا يدركون كل شيء، لكن أسقط في يد تلك الدول واقع التقارب الإيراني الغربي ووجب عليها اصطناع موقف الصدمة تخفيفا لحدة استياء شعوبها المحتقنة، مع أن شيئاً من ذلك لم يكن مستبعداً من حساباتها. وبفرض أن ذلك حقيقي، فإن المعطيات تقول أن افتعال بعض الدول –كالسعودية مثلا- لموقف مناهض للاتفاق الإيراني لا يبدو أنه يحقق أي تأثير على عزم الغرب المضي في خطته لتعيين إيران حليفا استراتيجيا أكبر له في المنطقة المتخمة بالقلق. وتضع أمريكا في حسبانها واقع أن كثيرا من حلفائها التاريخيين في الشرق الأوسط مستعدون دائماً لقبول التنازلات وعدم خلق استراتيجيات رد صارمة تجاه تخلي أمريكا عنها في أي لحظة، وأن إضرارها بمصالح هؤلاء وقتما شاءت بات كالعنف الأسري الذي تقبله الزوجة من زوجها النزق ضعفا وحاجة. كما أنها ترى فيما يبدو أن أنظمة حلفاءها التاريخيين تواجه خطرأ وشيكا من الداخل، وهو ما لا تراه في النظام الإيراني، على الرغم من كل التوتر الداخلي الذي يواجهه.
لا شك أن الغرب بحاجة لقوة إيران وعنادها السياسي وعنجهيتها الدبلوماسية لخدمة مصالحه وضمان استقرارها، ليس فقط لأنها تشكل آخر القوى العسكرية والاستراتيجية في الشرق الأوسط، بل لأنها تتمتع بالشكلية السياسية الديمقراطية التي لا تتمتع بها دول الخليج والأنظمة السياسية القائمة في المنطقة، وهو ما يجعل التعامل الغربي مع إيران يبدو أكثر منطقية، وأقل ميكافيلية. ومن البديهي التشكيك في حقيقة امتعاض إسرائيل حليف الغرب الأكبر في المنطقة من حدوث الاتفاق أو احتمال أنها لم تبارك هذا الاتفاق من تحت الطاولة، لأن المراقب للمواقف الإسرائيلية الراهنة على قضايا الشرق الأوسط يلاحظ أنها تظهر غير ما تبطن، لإدراكها أنها لن تخدم أي قضية بإعلانها عن تأييدها لها، بل أنها باتت تلعب على إظهار رفضها لأي قضية، لتدعم موقف تلك القضية معنوياً وسياسيا. هذا عدا عن أن عودة إيران إلى صف الأسرة الدولية لا يبدو أنه يضر المصالح الإسرائيلية بأي شكل من الأشكال، بل على العكس من ذلك، يتبين أنه يخدمها على المدى البعيد.
لقد زالت كثير من الذرائع التي كانت تحتم على الولايات المتحدة التغاضي عن المشكلات التي تعاني منها دول المنطقة في هيكليتها السياسية والاقتصادية وتزايد عزلتها عن التحولات نحو الديمقراطية التي تسير فيها معظم دول العالم الأخرى، كما أن أمريكا في طريقها إلى ضمان الاستغناء عن اعتمادها على واردات النفط العربي. وهي وحلفائها في حلف الأطلسي وبحسب تقارير لم يسمع بها العرب كثيراً، ماضية في الاتجاه نحو غاز البلقان بديلاً للطاقة، وتدفع بكل قوتها لإبرام مشروع “نابوكو” لمد أنابيب الغاز في دول البلقان حتى وهي تواجه عرقلة شديدة الصرامة من قبل روسيا التي تعتبر هذا المشروع مهدداً لمصالحها، ما أدى إلى انعدام المصادر التي يمكنها تمرير الغاز الخام عبر تلك الأنابيب. البعض يربط مشروع “نابوكو” هذا، وما يمثله من إحلال لغاز البلقان بديلا للنفط العربي بكل المواقف السياسية التي تشهدها منطقة الشرق الأوسط بما في ذلك الموقف الروسي الداعم لنظام الأسد في سورية، كما يبرر تقبل الغرب للمواقف التركية المشوبة بالحدة تجاه نظام العسكر في مصر، لأن أراضي تركيا ستحتضن الكم الأكبر من تلك الأنابيب. بل أن محللين رأوا أن هذا المشروع كان السبب الأول لإسقاط نظام برلسكوني في إيطاليا، بعد بيعه نصف حصة إيطاليا من شركة إيني البترولية لروسيا.
يستثنى من الانفلات وعدم النضوج في المواقف المناهضة لاتفاق إيران والغرب قلة من دول المنطقة، وأبرزها سلطنة عمان، فقد كانت الوسيط الأكبر لإبرام هذا الاتفاق، عدا عن مواقفها الحذرة تجاه الثورات العربية وما تفرزه من تداعيات داخلية وخارجية، لكن ذلك أيضا يكشف شرخا في المواقف السياسية لدول مجلس التعاون الخليجي، وعمان جزء من الدول المنتمية إليه. بينما كان الموقف الإماراتي المبارك علناً لإبرام هذا الاتفاق خبطة سياسية موفقة، تعكس إدراكاً حقيقياً لمعطيات الواقع الدولي، وعدم اكتراثه لمواقف دول المنطقة مما يبدو أنه تحصيل حاصل في أجندة الخارطة السياسية الجديدة للشرق الأوسط، ومما يظهر أنها تدرك أن أي موقف معارض لن يحد من الغزل الدولي مع إيران حالياً.
يبقى أخيراً أفق ما يمكن لدول المنطقة فعله للحد من الخسائر المترتبة على التقارب الإيراني مع الغرب، وستشهد المنطقة دون شك تحركات خفية وأخرى معلنة، قد تفضي إلى إعادة رسم التحالفات لموازنة الكفة وحماية دول المنطقة من تداعيات الجفاء الأمريكي لها، وهو ما تعول عليه إسرائيل كثيراً، فهي ترى الآن أكثر من أي وقت مضى أن توجس الأنظمة السنية العربية من النظام الشيعي في إيران يمثل جوهرة يمكن صقلها لخلق مصالح استراتيجية مشتركة بينها وبين تلك الدول. ومن المرجح أنه لم يبق أمام الدول الممانعة للدور الإيراني في المنطقة عزاءً سوى التحالف مع إسرائيل، أو القبول بإيران “زوجة أب”، وهذا الخيار الأخير لا يبدو أن دول المنطقة ستقبله بسهولة.
*مقال منشور في صحيفة القدس العربي اللندنية بتاريخ ٢٧-١١-٢٠١٣
http://www.alquds.co.uk/?p=107807
تدوينة جديدة: اتفاق ايران والغرب: مواقف دول المنطقة من المنعطف الخطير ظهرت على موقع موج بلا شاطئ - مدونة محمد الهاشمي موج بلا شاطئ.
November 21, 2013
مستقبل مجلس التعاون في ظل الملفات الراهنة
تشكل الملفات الإقليمية محورا مفصلياً في مستقبل مجلس التعاون الخليجي في ظل تباين المواقف القُطرية تجاه ما يحدث الآن. ويبين التوتر الحاصل في مجريات القمة العربية الإفريقية في الكويت بين الدول المشاركة أن المصالح الاقتصادية لم تعد كافية لرأب الصدع الذي صنعه ويصنعه واقع الربيع العربي، وخصوصاً الحالة في سورية ومصر. ويطرح كل ذلك تساؤلات حول مستقبل مجلس التعاون كمنظومة ومستقبل الوحدة الخليجية كحلم تشكل المجلس من أجل تحقيقه في الأساس، وهو الذي لم يستطع بعد تحقيق خطوة حقيقية واحدة في طريقه، حتى قبل أن تفترق الطرق بين دول الخليج في موقفها تجاه القضايا الإقليمية الراهنة، والوحدة الاقتصادية للمجلس كانت إحدى هذه الخطوات التي فشلت قبل أعوام.
إن الهاجس القلق من الربيع العربي وتداعياته هو حجر زاوية التوترات القائمة بين دول الخليج حالياً، ويخفف من وطأته تقارب المواقف الخليجية تجاه الوضع في سورية، امتداداً للتقارب الذي حدث قبل ذلك في دعم الإطاحة بالرئيس الليبي معمر القذافي بمساعدة الغرب، الذي لم يعد مستعداً لخوض مغامرة جديدة عبر دمشق، لأن أمريكا كما يبدو شعرت بالخذلان من وضع ليبيا ما بعد القذافي، فقد كانت طرفاً في صنعه.
لم يعد سراً أن هناك توتراً يغلف العلاقة بين قطر من ناحية وكلا من السعودية والإمارات والكويت، حتى بعد قيام الشيخ تميم أمير قطر بجولة اتضح أنها تهدف إلى إعادة بلاده إلى وضع آمن في علاقتها بتلك الدول. لكن ما يزعزع من جدية هذه التحركات أن قليلا من المواقف القطرية كان قد تغير منذ استلام تميم مقاليد الحكم في الإمارة، وهو ما كان يعوَل عليه حكام الخليج كخطوة لتصحيح مسار المواقف القطرية من دعم ثورات الربيع والإخوان إلى مراعاة وتقبَل أن الأنظمة الخليجية تعتقد تمام الاعتقاد أن الملفين يمثلان التهديدين الأكبر لاستقرارها السياسي، وسيبقيان كذلك ما دام “الربيع العربي” حيًاً.
لكن التأزم لا يبدو أنه يتجه نحو الاستقرار، لأن الوضع في سوريا تغير كثيراً في الآونة الأخيرة، وبات يخلق مخاوف جمة من أن تكون سورية بوابة لعودة الإخوان إلى واجهة حراك التغيير السياسي في المنطقة بعد أن أصبحت مصر بوابة لسقوطهم، فضلا عن مخاوف تصدير الإرهاب والتطرف التي لم تعد خافية على أحد.
نحن نرى اليوم تداعيات خطر الإرهاب على الوضع الداخلي في لبنان إثر التفجيرات الانتحارية التي شهدتها قبل يومين. كما يفيد التراجع الأمريكي عن ضرب النظام السوري عسكرياً وامتناع المجتمع الدولي عن تطويق المجال الجوي السوري بحظر يمنع استخدام نظام الأسد للطائرات لقصف المدنيين، أن الطريق إلى خلق نهاية لدموية الثورة السورية يبدو طويلا جداً، بل أن هناك قناعة صنعتها تجارب الغرب في السابق من أن سقوط بشار لن يوقف العنف وسفك الدماء فيها. ما يضيق من الآمال عجز الائتلاف السوري المعارض عن قبول الجلوس على طاولة المفاوضات في جنيف دون طرح تنحي بشار الأسد شرطاً لمضيَها فيها، واشتراط روسيا أن يحتضن نظام الأسد أي مبادرة دولية للحل، عدا عن وجود خلافات جلية بين أطراف المعارضة على أرض المعارك وعلى طاولات المفاوضات.
من الواضح أيضاً أن الغرب لا ينظر إلى سورية على أنها بوسنة أو كوسوفو جديدة، كما أن روسيا باعتبارها قوة متعاظمة في المنطقة لا تلعب الدور نفسه الذي لعبته في الاثنتين. المعطيات كلها اختلطت الآن، وحتى مصر بنظامها الجديد مجهول التصنيف باتت تتقرب من روسيا كانتقام لضبابية الموقف الغربي مما يسمى “ثورة/انقلاب” ٣٠ يونيو، حتى أن روسيا أعربت قبل أيام عن رغبتها في إنشاء قواعد عسكرية لها في مصر، الأمر الذي لم تنفه الحكومة المصرية الانتقالية حتى الآن.
لا شك أن الحكومات الخليجية عموما والسعودية بشكل خاص يهمها استقرار لبنان السياسي والاقتصادي، وقد يشكل تنامي العمليات الإرهابية فيها عامل تغيير في مواقفها تجاه الوضع السوري، ما عدا قطر المستمرة في دعمها الواضح للمعارضة وحكومة الائتلاف السوري والجيش الحر. كما أن التقارب الإيراني-الأمريكي قد يدفع بتلك الدول لمراجعة بعض مواقفها الإقليمية، حتى لا تستأثر إيران بصداقة الولايات المتحدة، التي كانت ولا تزال حليفا استراتيجياً لا غنى عنه لدول الخليج. وسيفرز الحضور الإيراني بملفه النووي في جدول أعمال قمة ال٥+١ معطيات قد لا تعجب الحلفاء التقليديين للغرب، مع اقتراب الملف من التسوية، هذا عدا عما يشكله ملف العلاقات الإيرانية-التركية الذي بدأ في التغير من تهديد لصورة التحالفات الإقليمية والدولية كلها. هنا، يبدو أن مخرج الأزمة الوحيد لدول مجلس التعاون سيظهر لو تمكن الكونجرس الأمريكي من تعطيل إمكانية حدوث تسوية بين إيران والغرب حول ملفها النووي بمنعه الرئيس الأمريكي أوباما من تقديم أي تنازلات تجاه إيران في ذلك الجانب.
المشكلة أن كل ما سبق من عوامل ومؤثرات لا يرتبط بحقيقة أهداف المجلس، وهي خدمة مصالح شعوب المنطقة، وتحقيق اتزان اقتصادي شمولي يخدم استقرار أنظمة دوله وحمايتها من آثار التوترات الدائمة التي تشهدها منطقة الشرق الأوسط، وذلك يعني أن المجلس بات فقط نقطة جدال سياسي حول الملفات الخارجية دون الداخلية ومطبخاً لحماية استقرار الأنظمة الحاكمة دون تنمية ملموسة، وأن المجلس حتى وهو يتعاضد لمواجهة التحديات الداخلية كما حدث في البحرين فإنه يندفع نحوها على خلفية الوضع الإقليمي والصراع المصيري بين الخليج وإيران، لا على أساس التحديات الداخلية وضرورات الإصلاح السياسي التي تتعاظم كل يوم.
من المهم أن يحقق المجلس توافقاً بين قلقه الإقليمي من الوضع الراهن في المنطقة، وضرورات تقويته لحل حقيقي يواجه به تصاعد ثقافة التغيير والحاجة إلى إصلاحات في الداخل، وبات واضحاً أن أوتوقراطية الإدارة والحكم بالعصا والصولجان لن يكفيا للحد من طموحات النخبة المثقفة لشعوبه، خاصة وأن نمط الإدارة هذا لم يعد الغرب مطمئناً إليه كما كان سابقاً.
ومن الضروري في نظري أن تبحث دول الخليج عن حلول عاجلة تشتري بها الوقت على الأقل، لحين فراغها من القضايا الإقليمية الملحة تلك، لأن قنبلة الداخل لا يبدو أنها ستنتظر طويلاً قبل أن تنفجر، خصوصا في السعودية التي تعاني الآن احتقانا فرضته ملفات الفساد وقضايا الحريات، وحتى السيول والأمطار. هناك حاجة كبيرة لتوحيد ملفات التنمية الاقتصادية والاجتماعية والإدارية وتبادل القوة العاملة، وإلا فإن دول الخليج ستجد نفسها قريباً منشغلة بأشياء أخرى أكثر خطورة من طموح الإخوان السلطوي، أو الاستفزاز الإيراني والتركي، وهذا الأمر يشمل قطر أسوة بغيرها من دول المجلس.
*مقال منشور في صحيفة القدس العربي بتاريخ ٢٠-١١-٢٠١٣
http://www.alquds.co.uk/?p=105457
تدوينة جديدة: مستقبل مجلس التعاون في ظل الملفات الراهنة ظهرت على موقع موج بلا شاطئ - مدونة محمد الهاشمي موج بلا شاطئ.
November 17, 2013
عندما نظن أن الأحلام تصدق – قصة قصيرة جدا
كانت تقف صباح كل يوم على الشرفة توزع قبلاتها على السماء آملة أن تصل إلى فارس أحلامها فيحضر على جواده ويحملها إلى السعادة
ثم ولما اشتد البرد أصابها الزكام فلم تمارس عادتها ذات صباح
فلما تشافت سمعت من جارتها أن الشاب الذي يسكن في الشقة المقابلة لشرفتها انتحر قبل أيام
تدوينة جديدة: عندما نظن أن الأحلام تصدق – قصة قصيرة جدا ظهرت على موقع موج بلا شاطئ - مدونة محمد الهاشمي موج بلا شاطئ.
لو كانت عبادة “النظام” قصة قصيرة جداً
لا يحتمل هذا المقال سوى أن يكون مكثفا رمزيا وأشبه بمجموعة قصص قصيرة جداً كالتي نشرتها مع زوجتي الحبيبة قبل أقل من أسبوع. كما أننا اليوم نعيش في مستطيل أضلاع لأن الحياة لا يمكن أن تضيق إلا في جهتين متوازيتين مع بعضهما.
“غاشم” هو الحديث عن المقدس الجديد، أو مقدس ما بعد الثورة الأوروبية على الدين، وما بعد عصور الحداثة التي تمردت على ما كان يعرف بالكهنوت ووصاية الإكليروس، على الرغم من بقاء فاعليتهما أحيانا في لاوعي الجماهير حتى وهي تتمرد عليهما أو تتوهم ذلك، ومع بقاء جزء من وعي الدين في صورة وعي بالوطن أو السياسة باعتبارهما مكونا أساسيا لدين بديل “حداثي”، قد يبدوان أحيانا كمولود ذو تشوه خلقي يجمع صفات النوعين: القديم والجديد.
المقترح أن عصرنا لم يتخلص بعد من حاجته لاستبدال الكهنوت بآخر، بل على الأرجح قد استبدل كهنوتاً مزيفا لفكرة أصيلة خلاقة بألف صنم بألف وجه، لأن الوطن والسياسة أخطبوطان وكل منهما له أذرع كثيرة. الفرق أن عرش الآلهة الجديدة لم يعد يسمى “دين” بالمفهوم الكلاسيكي، وصار أقرب لكونه “نظام” سواء كان نظام حكم (متدين أو علماني) أو أسلوب حياة واستهلاك أو نظام اقتصاد أو منهج تفكير.
كنت وأنا أتصفح “سيكولوجية الجماهير” أمني النفس أن أحتفظ بحلمي في إمكانية حصول وعي جماهيري لدى “الرعية” أفضل حالا وأكثر أنسنة دون حاجة إلى صدام ثوري على “الراعي”، لكن مؤلفه غوستاف لوبون أصاب آمالي في مقتل عندما أشار إلى أن الجماهير لا تعرف غير العنف الحاد شعوراً وأن تعاطفها لايلبث أن يصير عبادة، وأنها لا تنفر من شيء إلا وسارعت إلى كراهيته حد الحقد. لكن المشجع في خلاصة لوبون أنه أصر على أن الوعي عملية كيميائية تنتج عن تفاعل جديد لمنتج كان قد تفاعل قديما، وبالتالي فهو يصهر القديم ويحمل بعض خصائصه ولا يعزل مادته عن التركيب الجديد الناتج، ما يعني أن وعي الجماهير في نظره سلسلة ممتدة لا يجوز أن تنقطع وتبدأ من نقطة الصفر لكي تتطور وتتحسن. لكنه جيد سيء أحياناُ، لأنه يعني أن المعادلة الجديدة قد تصهر وتحمل معها أسوأ خصائص المعادلة التي سبقتها وأقذر رواسبها لا أفضلها وأحسنها، وقد فعلت وورثتنا كهنوتاً جديدا متعدد الاتجاهات.
كنت أيضا أمني النفس وأنا أعيد مشاهدة سلسة أفلام “ماتريكس” التي ناقشت مفهوم الثورة على النظام، ورسمت ملامح “السيستم” الذي استعبدنا وصار يسير مصائرنا ولذاتنا وحاجاتنا، أن تنتهي الملحمة بحل آخر لا يعيدنا لنقطة البداية، وهي الحاجة التي أصر مؤلفه على طرحها خاتمة له: مفهوم “الخلاص” الإعجازي الخارج عن المعقول والممكن. ويبدو أن مكون المعادلة الدينية القديمة للحل فرض نفسه في قصة الفيلم وحلِ عقدتها، وصار لزاماً علينا ألا نؤمن بأي مخرج من النظام سوى بـ “مخلص” متفرد فارق ينقذنا من خلال النظام وتحت دائرة قوانينه ورعايته حتى وهو يخترق النظام من باب خفي، لأن النظام كان أصلاً يعرف بوجود ذلك الباب وصنع مسارا بديلا في حال دخل أي متمرد منه.
لو كان كل من ثار على عبودية الواحد القهار قد برر ثورته بشيء آخر غير طلب الحرية المطلقة والانفلات من استبداد النظام الذي نتج عن الدين الراعي لهذه العبودية وضيق قيوده كهنة هيكله العتيق طريقاً إلى حلٍ أفضل، لكنت قد تمردت دون تردد، لكنني خشيت أن أكون كمن يتمرد على أبيه ليصبح موظفاً وضيعا عند أخيه الأكبر. لا شك أن مفهوم المواطنة والولاء والانتماء اليوم اكتسته عبودية أكثر شراسة وتطرفاً، ولا شك أن النظام فرض نفسه بديلاً أقل هيبة وأكثر سادية مما يبدو للبعض أن الدين جالبه. إن ما يبدو أنه كان كفراُ في نظر الدين وتوعدنا الرب بعقوبته الأخروية الآجلة، يبدو في حالة عبودية النظام كالجريمة التي يجب أن نعدم لارتكابها مع النفاذ الدنيوي المستعجل. بل أن التمرد اليوم على أي “نظام” لم يعد يقابله نص متوعد مؤجل كقوله تعالى:”فمن شاء فليؤمن ومن شاء فلكيفر”، فالمقصلة والجلاد بانتظار خروج الكافرين بالنظام إلى الساحة لتنفيذ الحكم عاجلاً غير آجل.
فمن شاء أن يستمتع بعبوديته الجديدة، فإنه مطالب بالانسياق لكل تنويم مغناطيسي يحمله النظام، ويبرر كل سوء برمجة تنتج عنها، بأنها “قيد التطوير”، أو أنها مجرد محاولة بائسة من الحاقدين عليه لمعابته. ومن شاء أن يكون شهيد تمرده، فإنه غالباً سيكون البوعزيزي الذي أحرق نفسه لا لأنه كان يبحث عن باب خلفي ينفذ منه هرباً إلى الحل، بل لأن النظام صادر عربته ولم يعد أمامه سوى اختيار الموت هرباً من موت أشد بشاعة وأطول ألماً وأشد غموضاً.
أقولها مرارا وتكراراُ: لست أجمل فكرة الانتحار هنا، لكنني بت أتفهم الآن أكثر فأكثر لمَ يختار البعض أن يقتلوا أنفسهم، وربما أوضح في كتاب بهذا الشأن كيف نتفهم اختيار الموت المروع مخرجاُ من عيش أكثر ترويعا ورعباً.
الخلاصة أن النظام الجديد، بدأ منذ زمن في سد كل المخارج، أو حول ما ورائها إلى هاوية سحيقة لا مفر منها، لكننا لا ننفك نأمل أن يؤدي انعدام الحل إلى استدعاء “مخلص” أسطوري إعجازي يظهر علينا من أرض الداخل..داخل النظام، وإلا فكما قال القذافي: “ارقصوا وغنوا وامرحوا” تحت ظل عبوديتنا الجديدة.
*مقال منشور في صحيفة القدس العربي بتاريخ ١٣-١١-٢٠١٣
لو كانت عبادة ‘النظام’ قصة قصيرة جدا
تدوينة جديدة: لو كانت عبادة “النظام” قصة قصيرة جداً ظهرت على موقع موج بلا شاطئ - مدونة محمد الهاشمي موج بلا شاطئ.
November 8, 2013
صدور “وجهنا الواحد”..وحفل التوقيع اليوم
صدر عن دار اقرأني للنشر الإماراتية أول إصدار مطبوع للكاتب والإعلامي محمد الهاشمي بالمشاركة مع القاصة والتشكيلية المبدعة عائشة الكعبي. ويظهر الكتاب لأول مرة على رفوف جناح الدار بمعرض الشارقة الدولي للكتاب الذي افتتح الخميس الماضي. وسيتم اليوم السبت الاحتفال بتوقيع الكاتبين على نسخ الكتاب في الركن الرئيسي للتواقيع في تمام الخامسة عصراً ضمن فعاليات المعرض.
قد تكون هناك تساؤلات عند القراء حول الكتاب، وفيما يلي بعض الإجابات التي يمكنها تعريف المهتمين بما يميز هذا الكتاب:
١- ما نوع هذا الكتاب؟
هو كتاب أدبي من جنس القصص القصيرة جدا، وهي تجاربية حداثية للقصص التي تعتمد التكثيف وصناعة الدهشة عند القارئ وتعتمد بشكل أساسي على حس المتلقي ومحاولته إسقاط النص على وجدانه هو.
٢- ما الذي يميز هذا الكتاب؟
التميز كامن في فكرة صناعة الكتاب. فالكتاب مجموعة من العناوين التي تبادل الكاتبان اختيارها، وبعد كل اختيار لعنوان -مجرد عنوان بلا فكرة عما يمكن أن يمثله- يقوم الكاتبان بنسج قصة عليه، كلٌ بحسب ما شعر به من التماس وتذوق للعنوان. قد يكون هذا الكتاب هو الأول من نوعه الذي يطرح آلية كتابة كهذه على مستوى العالم.
٣- ما قصة الوجه الواحد في الغلاف؟
الصورة المنصوفة لوجهي الكاتبين عائشة الكعبي ومحمد الهاشمي هي تعبير عن التحامهما الوجداني في فكرة الكتاب وفي حياتهما كزوجين متحابين. مما لا شك فيه أن القصص عكست الكثير من مظاهر هذا التلاحم الوجداني وظهر من خلالها كم الشغف الذي يعتري تجربتهما المشتركة. كما أن الغلاف يمثل التعبير الضوئي للقصة الأخيرة في الكتاب التي تحمل العنوان نفسه “وجهنا الواحد”.
٤- أين يمكن أن أحصل على نسخة من الكتاب؟
الكتاب متوفر في جناح دار اقرأني الكائن في القاعة رقم واحد لمعرض الشارقة الدولي للكتاب، ورقم الجناح Y11. ويمكن للقراء لقاء الكاتبين والحصول على نسخ موقعة منهما للكتاب في الركن الرئيسي للتواقيع حيث يحتضن حفل التوقيع اليوم السبت ٩- نوفمبر -٢٠١٣ في الخامسة عصرا. بعد المعرض مباشرة ستتوفر بإذن الله نسخ الكتاب في معظم المكتبات ومخازن الكتب الكبرى في دول الخليج. وبنهاية العام يأمل الناشر أن تكون نسخ الكتاب متوفرة في كل المنطقة العربية ولكل قارئ عربي في العالم.
٥- هل يمكنني التعرف على شيء من محتوى الكتاب؟
قطعا. هنا ولأول مرة نموذج لقصتين تحت عنوان “لو كان للظل ظل”، والعنوان كان من اختيار محمد الهاشمي، حيث يبدأ الكتاب دائما بقصة مقترح العنوان بين الكاتبين.
تدوينة جديدة: صدور “وجهنا الواحد”..وحفل التوقيع اليوم ظهرت على موقع موج بلا شاطئ - مدونة محمد الهاشمي موج بلا شاطئ.
November 4, 2013
سنودن ـ نافخ الصافرة التي لم يسمعها العرب بعد
يبدي مراقبون أوروبيون استغرابهم الشديد أن تصح الادعاءات المتكررة بتجسس الولايات المتحدة على قادة دول أوروبا وحلفائها ممن لديهم اتصال مباشر بالبيت الأبيض الأمريكي. هذا استغراب يثير الاستغراب، فالأدلة التي سرب العديدَ منها إدوارد سنودن –العميل السابق في وكالة الأمن القومي الأمريكية- تبدو أعمق من أن تدحض.
لافت جداً ما كشفته صحيفة “لوموند” الفرنسية حديثاً من أن الموساد بدوره كان يتجسس على الرئيس الفرنسي السابق نيكولا ساركوزي، ومصدر الخبر كان أيضا وثائق سربها سنودن. وبقليل من الربط، يبدو أن عملية التجسس التي تستهدف قادة دول الحلفاء كانت تهدف أكثر شيء لاحتواء ملفات الشرق الأوسط، وضمان حماية مصالح الولايات المتحدة ومن ورائها إسرائيل، أو على الأقل استباق أي تبدل في المواقف من شأنه عرقلة تلك المصالح، حتى لو أخذ هذا الاستباق صورة ابتزاز فضائحي كـ”مونيكا-غيت” التي تعرض لها الرئيس الأمريكي الأسبق بيل كلينتون فور طرحه لحلول غير مسبوقة للأزمة في فلسطين عام ١٩٩٨. ويدل على ذلك الربط أن الوثائق نفسها كشفت رصد الموساد ستة أقمار صناعية للتجسس على الدول العربية بشكل حصري، أسمتها “عاموس” تستطيع التقاط (طنة الذبابة وغمزة الأعور). والابتزاز عبر الجنس ليس غريبا على ممارسات الموساد تحديداً، والدليل ما أقرت به سابقاً تسيبي ليفني –وزيرة خارجية إسرائيل- عن تقديمها “خدمات جنسية” مع عدد من القادة الفلسطينيين والعرب بهدف ابتزازهم وتوريطهم في فضائح، خدمةً لمصالح بلادها العليا.
ومنذ أيام، كانت صحيفة “الغارديان” البريطانية قد نشرت وثيقة أخرى سربها سنودن تؤكد أن وكالة الأمن القومي الأمريكية وضعت “خمسة وثلاثين قائداً” حول العالم من بين مائتي مسؤول –خارج أمريكا-هم على اتصال مباشرة بمكاتب البيت الأبيض تم وضعهم تحت التجسس الدائم، وأنها شجعت مسؤولين كباراً على إمدادها بأرقام هواتف قادة ومسؤولين آخرين حول العالم لضمهم لبرنامج التجسس واسع النطاق هذا، مما يدل على أن الحكومة الأمريكية كانت على علم وثيق ببرنامج التجسس، ما يعني أن الرئيس الأمريكي باراك أوباما كذب عندما نفى قيام بلاده بالتجسس على رؤساء الدول الصديقة، بعد سلسلة من الاتهامات دفعتها تسريبات عدة لسنودن، كان آخرها الشكوى التي تقدمت بها المستشارة الالمانية أنجيلا ميركل من أن هاتفها خاضع للتجسس منذ ٢٠٠٢ وأن أوباما كان قد علم بالأمر عام ٢٠١٠ لكنه أمر بالاستمرار في العملية.
من الجائز أن تكون خطوط قصور الرئاسة في منطقة الشرق الأوسط هي بدورها تحت مجهر جواسيس أمريكا وإسرائيل –الذين يعملون على الأرجح بتنسيق مشترك شديد الدقة-، بل أن ذلك يبدو تحصيل حاصل ولم يبق سوى أن يكشف سنودن أو “ويكيليكس” وثيقة تفيد به حرفياً. هو احتمال حتى لو كشف عنه فلم يكن ليهتم باكتشافه أحد منا، لأسباب عدة، من بينها أن عدداً من القصور لا تمانع أصلا أن تكون أمريكا وإسرائيل في الصورة وتحت الرادار، سواء كان عدم الممانعة بادرة ود، أو عدم اكتراث، أو نتيجة ابتزاز سبق ذلك وفرضه، كما أن الصحافة المحلية في المنطقة لا تملك حق التساؤل أو حتى التلميح لأي اتهام من هذا النوع، والدليل ما كشفته “ويكيليكس” قبل سنوات من حقائق تغير صورة التاريخ حول أمور كثيرة جرت وتجري في المنطقة، وعلى سبيل المثال لا الحصر، مجريات حرب أكتوبر عام ١٩٧٣ وقصة قطع النفط ثم دور إحدى مملكات الخليج لاحتواء أي ضرر قد يتسبب به على الولايات المتحدة وتعهدها بتعويض نقص الإمداد “بأثر رجعي”. المثير للسخرية أن الملابسات التي كشفتها وثائق ويكيليكس لم تهز شعرة عربي واحد ولا يبدو أنها ستغير قصة “نصر أكتوبر” التي حفظناها ونتغنى بها عن ظهر غيب، بل أن صحيفة عربية واحدة لم تعرج على ملايين الوثائق التي تعلقت بقضايا أخرى شديدة الأهمية لحاضر الأمة وتاريخها القريب، واكتفت غالبا بنقل التسريبات عن وكالات أنباء عالمية.
إن دراية أمريكا وإسرائيل الكاملة بما يجري في قصور المنطقة ومراكز قياداتها العسكرية –كما أشار لذلك التقرير المسرب- يجب أن تغير فهمنا لكثير مما حدث ويحدث، فذلك يعني أن كثيرا من السيناريوهات التي شهدناها بدءاً من الربيع العربي وانتهاء بالثورات المضادة على الربيع كان لإسرائيل وأمريكا يد مباشرة فيها أو عليها. بل أننا لو أطلقنا العنان لارتيابنا المؤامراتي الذي نشتهر به، فإننا سنعود بعجلة المؤامرة إلى انهيار برج التجارة العالمي عام ٢٠٠١ وحرب الإرهاب، وأن ما حدث لعقود لم يكن سوى مجموعة مراحل لتجزئة وإعادة رسم خارطة منطقة لم تحقق السلام كما تريده أمريكا وإسرائيل، أو أنها لم تصنع أي مواجهة منذ ١٩٧٣ من شأنها حسم النتيجة بشكل نهائي لصالح إسرائيل، فكان لابد من إعادة صياغة مفاجئة للجميع تطرح حلولا جديدة.
الجدير بالذكر أن التسريبات لم تقف بعد، وأنها تتجدد ويضاف إليها كل يوم، بينما يتمتع سنودن باللجوء المؤقت الذي منحه إياه الرئيس الروسي بوتين، ويعد بكشف المزيد حول برنامج “بريسم” الذي كان يقوده عندما كان “مسؤول نظام” في وكالة الأمن القومي الأمريكية، خاصة وأنه أكد أنه سلم جميع الوثائق التي تمكن من تسريبها لصحفيين دوليين في هونغ كونغ قبل اتجاهه لروسيا قبل أكثر من شهرين، ما يعني أن المزيد في طريقه إلينا حتماً.
وحتى موعد إسكات سنودن “نافخ الصافرة Whistleblower” بأي طريقة كانت أو تدمير كل الوثائق التي سربها قبل أن تصل الصحف، فإننا سنبقى على موعد مع سيناريو مثير يفوق أي خيال جاد به عظماء هوليود حول عالم التجسس والمؤامرة. ومن المهم أن نلتفت المرة القادمة للأحداث التي تدور في ساحاتنا الخلفية ضمن هذا السيناريو، على الأقل من باب الفضول، ولأن تسريبات سنودن ستشبع -بعكس كل كتب المؤامرة التي سبقتها- خيالنا المغتبط بقصص تآمرية تخترق جدار المنطق وتجعل ما نراه أبعد بكثير مما كنا نخاف أن نتخيله.
*مقال منشور في صحيفة القدس العربي اللندنية بتاريخ ٣٠-١٠-٢٠١٣
http://www.alquds.co.uk/?p=98446
تدوينة جديدة: سنودن ـ نافخ الصافرة التي لم يسمعها العرب بعد ظهرت على موقع موج بلا شاطئ - مدونة محمد الهاشمي موج بلا شاطئ.
October 27, 2013
اكسبو 2020: منشط واعد لمنطقة مرهقة
تمثل استضافة معرض إكسبو إحدى أبرز الأمنيات للدول، فهذا المعرض يمثل في دورته كل خمسة أعوام نقطة التقاء رئيسية للمجتمع الدولي لتبادل الابتكارات ومناقشة أهم قضايا العالم المشتركة، كالاقتصاد العالمي والتنمية المستدامة وتحسين المستوى المعيشي لشعوب العالم. ومنذ دورته الأولى عام ١٨٥١ تكمن عظمة منجز استضافة المعرض فيما يوفره من فرص وظيفية ضخمة –قرابة ٢٨٠ ألف فرصة عمل-، وإنعاش اقتصادي وسياحي بارز، ودعم للتحول الاجتماعي والثقافي والاقتصادي للدول التي تحتضنه، مما يترك غالباً أثراً منقطع النظير على مختلف جوانب الإنماء والتطوير لتلك الدول، كما حدث في شنغهاي الصينية عام ٢٠١٠ عندما تحولت المدينة إلى إحدى أهم المدن الصناعية العالمية بفضله وأضحت وجهة ثقافية بارزة على إثره، واجتذب معرضها أكثر من ٧٣ مليون شخص خلال ستة أشهر.
يتساءل كثيرون حول ما يمكن أن يوفره معرض كهذا لمدينة دبي ودولة الإمارات التي تنافس للفوز باستضافة المعرض في دورته عام ٢٠٢٠، ومدى استفادة شعب دولة الإمارات وشعوب المنطقة من تنظيم هذا الحدث. كما يشك بعض المراقبين في جديد مختلف تستطيع المدينة توفيره للمشاركين والزوار على حد سواء. إن من المهم استطلاع ما يمكن أن تحققه تلك الاستضافة من أثر على المنطقة كلها، وهي التي تعاني كثيرا من عدم الاستقرار والتوتر السياسي والعسكري. ثم ماذا لو حدث وخسرت دبي شرف الاستضافة لصالح المدن الأخرى المرشحة: إزمير التركية، وأيوتهايا التايلندية، وإيكاتيرنبرغ الروسية، وساوباولو البرازيلية؟ كلها تساؤلات مهمة، وإجاباتها هي التي ستحدد جدارتها بالفوز أو الخسارة، خاصة وأن شهراً واحداً يفصل المدن المرشحة عن إعلان النتيجة وتبدو فيه دبي اليوم الأكثر استعداداً حتى من الناحية التسويقية للحظة التصويت للفائز الذي سيشارك فيه ١٦٧ دولة في عضوية المكتب الدولي للمعارض ومقره باريس. ويبدو من المهم أن نعرج على بعض تلك التساؤلات ببضع إجابات تحليلية، قد تساعد المتابعين للحملة من العرب على تفهم مدى الفائدة التي يعد به فوز دبي بالاستضافة على المنطقة ككل.
بالنظر إلى ملف استضافة دبي للحدث، يُبرز عنوانه “تواصل العقول وصنع المستقبل” رصانة أهداف دبي في منطقة تعج بمخاوف جمة حول مستقبل الشرق الأوسط السياسي والاقتصادي والحضاري، كما يبرز الدعم الدعائي الذي يقدمه بيل جيتس -أثرى أباطرة الاقتصاد العالمي الحديث ومالك شركة ميكروسوفت- جدية الاستعداد الذي يعكسه الملف وتشيد به عدة أطراف دولية اقتصادية وسياسية. غيتس يراهن في رسالته الرسمية للملف على قدرة دبي التي تقويها ما حققته في السنوات من مشاريع تنموية ضخمة تحدت بها العالم. وتعتزم دبي بحسب ملفها الرسمي برهنة شيء لمجتمع دولي ينظر إلى المنطقة على أنها ساحة التحديات الدولية الأكبر والأكثر تعقيداً، كما أن هذا المجتمع كثيراً ما ينظر للإمارات على أنها لاتزال بحاجة لبرهنة كل شيء، والدفع عن نفسها بين الحين والآخر تهما تتعلق بحقوق العمالة وحقوق الإنسان والحقوق المدنية والحريات، وهي الملفات التي لم تمنع مثلا مدينة شنغهاي من الفوز وهي الواقعة في الصين. ويبدو من الظلم أن يسلم جدلاً أن الإمارات لن تحسن من وضع تلك الملفات كما حدث في شنغهاي، فرياح التغيير التي تحيط بالإمارات وتمثل قلقا للأنظمة العربية ككل يتوقع أن تدفع بعجلة الإصلاحات والإنماء نحو الأمام بفعل حدث كهذا، خاصة وأنها لا تشبه الصين في أي من النواحي السياسية والاقتصادية والاجتماعية والسكانية. إن ما يدلل على الفوائد الاجتماعية والاقتصادية للإمارات على إثر استضافتها تلك وجود التفاف ملحوظ من شعبها حول نظامها السياسي، وما تتمتع به الإمارات بفارق واضح عن معظم جيرانها من استقرار أمني وتطور في البنية التحتية والاقتصادية والتكنولوجية، فهي لا تمثل مركزا إقليميا للأعمال فقط بل مركزا عالميا لأنشطتها، وهذا يعني أن أي تأثر إيجابي تحظى به سيصب في أسواق المنطقة والعالم ككل.
يرى البعض أن هناك مخاوف من واقع هذا التأثير الكبير الذي يمثله اقتصاد دبي ويشكل خطرا محتملاً لتداعيات أكبر من إمكانية استيعابه. فقد طرحت وكالة رويترز الإخبارية تقريرا أبرز “مخاوف دولية” من أن تحدث استضافة دبي للمعرض “طفرة باهرة يعقبها انهيار مقلق” على غرار ما شهدته دبي قبل أربع سنوات، وبرر التقرير مخاوفه بحجم الطلب المتوقع “الذي قد يدفع المطورين العقاريين فيها لبناء مشروعات أكثر من اللازم تغرق السوق وتخلق فقاعة تضخم بفعل المضاربات”. لكن التقرير أغفل حقيقتين مهمتين أولاهما أن السوق الدولي ليس على الحال الذي كان عليه عام ٢٠٠٨ عندما حدث الانهيار الاقتصادي الدولي ولعبت أزمة دبي فيه دورا مؤثرا، كما أنه لم يُبرز دور دبي في استيعاب الدرس وهو ما أظهرته تحركاتها منذ ذلك الحين لتحسين مكنتها الاقتصادية ووضعها الائتماني بشكل لافت، مع وعودها من خلال الملف بالسعي لتلافي المخاطر الاقتصادية المحتملة المترتبة على استضافتها للمعرض واحتوائها، وهو ما لمح إليه حاكم دبي الشيخ محمد بن راشد في كتاب صدر له أخيرا قال فيه “إن تحمل المخاطرة ثم الفشل لا يعد إخفاقاً وإن الإخفاق الحقيقي يتمثل في الخوف من تحمل أي مخاطرة”. من بين جملة المخاطر المحتملة يبرز تكرار ما حدث في هانوفر الألمانية عندما خسرت أكثر من مليار دولار إثر استضافتها للمعرض عام ٢٠٠٠، لكنه احتمال يتضاءل أمام الإنفاق الرأسمالي المتوقع الذي ستتحمله دبي البالغ ٦.٨ مليار دولار مقارنة بحجم اقتصادها البالغ ٩٠ مليار دولار، مع وجود الدعم اللامحدود الذي تقدمه العاصمة أبوظبي للملف من ناحية السيولة والدعاية.
وجدانيا، فإن من المهم أن تدعم دول وشعوب المنطقة ككل هذه المبادرة الإماراتية، وأن تتجاوز تشنجات الوضع الراهن الذي تؤججه المتغيرات الفاعلة المتداعية للربيع العربي. ليست مبررات الشعور القومي وحدها التي يجب أن تدفعنا إلى التفاؤل خيراً بأثر هذه الاستضافة على الجميع أو على الإمارات فقط، لكنه بصيص الأمل الذي قد يخلقه نصر دولي كهذا لنا ونحن في خضم الإحباطات التي تحيطنا وتتهددنا، ومدى التهديدات الجمة الواقعة التي تلقي بأثرها على حياة الأفراد قبل مصائر الدول دائما. ذلك أن هناك نظرية ما تقول إن رفرفة جناحي عصفور في هلسنكي قد تدفع بالريح الباردة نحو شواطئ هونولولو، وهو احتمال يستحق أن نحلم به ونسعى إليه، ما دامت الأحلام الأخرى كلها تبدو ثكلى. فإن حدث ولم تهب أي ريح، فمن الجيد معرفة أن العصافير لاتزال ترفرف في السماء.
مقال منشور في صحيفة القدس العربي اللندنية بتاريخ ٢٣-أكتوبر-٢٠١٣
http://www.alquds.co.uk/?p=96063
تدوينة جديدة: اكسبو 2020: منشط واعد لمنطقة مرهقة ظهرت على موقع موج بلا شاطئ - مدونة محمد الهاشمي موج بلا شاطئ.
October 19, 2013
اختبار الكبدة السوداء!
الحقد يضعف ، إنه يفتك بالجسم من الداخل ، ويصيب جهاز المناعة فعندما يقيم الحقد في دواخلنا ، ينتهي الأمر بأن يسحقنا — الطاهر بن جلون
ابدأ!
نتيجتك:
تصنيفك:
تدوينة جديدة: اختبار الكبدة السوداء! ظهرت على موقع موج بلا شاطئ - مدونة محمد الهاشمي موج بلا شاطئ.
October 18, 2013
العربي وإيران: تكرار اللعب بالأوراق الخاسرة
من الغريب والصادم أحياناً أن نشعر من ردود الفعل الدبلوماسية للدول العربية وكأن التحركات الإيرانية الخارجية لاتزال بعد كل هذه السنين من الحرب الباردة بينها وبين جيرانها مفاجئة وصادمة وغير متوقعة بشكل متكرر، وكثيرا ما توحي خطابات الاستنكار والشجب التي تخرج بها تلك الدول ضد التحركات الإيرانية أنها تعاني انعداما أو شحاً في استراتيجيات الرد أو الاحتواء الجماعي؛ حتى وهي تتوقع تكرارها. هنا تحديداً، يكمن “بيت الداء” في ملف العلاقات الإيرانية-العربية.ولكي نبدأ رحلة العلاج علينا الاعتراف بوجود الداء أولا. إنها تكمن هنا في معدة طباخ السياسة العربي.
تلك الإشكاليات التي تزعزع بها إيران حياتنا الفردية الفارهة، ورخائنا الاقتصادي، وهيبتنا الدولية، وأمننا القومي الداخلي، ونسيجنا الاجتماعي المتماسك رغم حساسيته، وسيادتنا الوطنية وأنظمتها المركزية الصارمة، هي نفسها التي تحركها إيران منذ سنوات عديدة مع أنها تتشابه معنا في كل ما سبق أو معظمه على الأقل. ولأن استراتيجيات رد الفعل التي تمارسها دول المنطقة على هذه الإشكاليات لم تتغير بدورها، فإن التحركات الإيرانية ظلت على وتيرتها، تباغت وتحقق مكاسب محددة وجلية مهما صغرت، دون أن تجد مقاومة تردعها أو تدفعها لمراجعة نفسها قبل الإقدام على خطوة مماثلة مجددا. بل أننا وفي بعض الحالات، بتنا -بردود أفعالنا- نخدم الأهداف الإيرانية دون قصد-خصوصا تلك المتعلقة بالشيعة والنسيج الطائفي والعرقي في الخليج عموما. وقد حدث ذلك في حالة البحرين تحديدا في مرحلة “الربيع العربي”، ثم حل الرعب مؤخراً مغازلة الولايات المتحدة للحكومة الجديدة في إيران، واحتمال عودتها إلى حظيرة الدول الصديقة لها.
لا ضير احتراماً للتاريخ والواقعية- من أن نعترف بقلة الخبرة في التعامل مع إرث إيران السياسي الأيديولوجي، لكن من “جلد الذات” أن نعترف بعجزنا عن إيجاد الحل لمشكلة تؤرقنا طويلاً، وهو الاستسلام غير المبرر لواقع أننا لا نملك حولا ولا قوة لمواجهتها، الأمر الذي يجب أن يتغير. علينا أن نفهم محركات الصراع، وقبل ذلك أن ندخل إلى العقل الإيديولوجي المحرك لإيران الدولة، ونستقرئ من خلاله الأساليب والأهداف التي تهددنا.
للأسف، فإن معظم ردود الأفعال الإقليمية الرسمية ضد إيران تكاد لا تجدي نفعاً فهي بالنسبة للإيرانيين لعبة دبلوماسية يجيدون تأجيلها تارة، وتمييعها تارة، والرد عليها بالتهديد والوعيد أو الاستمرار في استفزازاتها المدروسة تارة أخرى. وفي الأخيرة، تسعى إيران لحثنا على الإدراك أنها تتحدث بمنطق القوة “النووية” و “التهور السياسي والعسكري”، على الرغم من أنها لم تستخدم أياً منهما منذ استيلاء ثورة الخميني على مقاليد الحكم فيها. وفي حالة الجزر الإماراتية المحتلة، فإن هذا الملف بالذات هو من القليل النادر الذي ورثته الثورة الإسلامية الإيرانية عن النظام البهلوي العلماني البائد، دون أن تتخلى عنه أو تسعى لحل توافقي فيه مع الإمارات و دول مجلس التعاون الخليجي.
لفهم العقل الإيراني السلطوي أكثر، علينا أن نعود لجذور تكونه وإرثه التاريخي. إن إسلامية أو شيعية النظام الحاكم في إيران ليست الوجه الحقيقي المخطط للسياسات الإيرانية الداخلية والخارجية في رأيي. كما يجب عدم إغفال أن محاولتنا إثارة الأخبار والتقارير التي تتحدث عن قلاقل الداخل الإيراني الراهنة، أو إبرازنا لردود الأفعال الدولية الساخطة على إيران لن تجدي نفعا. ذلك أن إيران الداخل منكفئ على نفسه وحراكه السياسي الاجتماعي لا يستمد قوته من الضغوط أو الدعم الخارجي كما يحدث الآن في دول ربيع الثورات ويهدد أنظمتها السيادية. فالإيرانيون على عكس كثير منا نحن العرب، معتزون بذواتهم وهويتهم الفارسية كثيراً، فخورون بتراثهم الفارسي ومرهصاته التي أنتجت بين جملة منتجاتها دولة ولاية الفقيه والإرث الصفوي التاريخي. وهذا يعني أن الوجه الحقيقي لإيران فارسي استعلائي بامتياز –خصوصا على عرب الجوار. وإن كان الإيراني مستعداً للاستعانة بأحد من الخارج لإسقاط نظام ولاية الفقيه المتسلط، فهو وفي ظل أقسى الظروف سيرفض يد العون عندما تكون عربية. إنها فكرة متجذرة في العقل الجمعي الفارسي-الإيراني تستمد من إيمانه أنه الأعظم حضاريا وثقافيا وقومياً؛ وهي فكرة ترفض واقع أن الساحل المقابل لم يعد صحراء القحط التي تفرق أهلها الظروف البيئية القاهرة والموارد الاقتصادية المحدودة، والتحديات الاجتماعية المنبثقة عن بذرة التعصب القبلية والعرقية، فتلعب دورا هاما ضد التطور الحضاري للجزء العربي من الخليج طويلا.
إن إطار إيران الشيعي ما هو إلا نتاج الفخر الفارسي والفكرة المتأصلة بأن الفكر الشيعي المعاصر هو وليد المدارس والحوزات العريقة في أرجائها، أي أنه وليد فارسي صرف، بغض النظر عن أن جذور هذا الفكر انطلقت من الأراضي العربية وتعود إلى أزمة الخلافة الهاشمية التي سالت دمائها وتولد مفهومها الثأري الثوري على أرض كربلاء العراقية.
لو أدركنا كل ذلك حقاً لقطعنا الطريق على مغذي الطائفية في بلادنا أفراداً وجماعات. إن الطائفية ليست تهديدا مرحليا حتى نعتقد أن إيران تلعب بأوراقه اليوم ولن تلعب بها غداً. وكنتاج حتمي، فإن تسليطنا الضوء على المسألة الطائفية وعلى أن إيران تحرك الأزمات الشيعية داخل حدودنا، هو جزم متهور ذاتي التفجير يغفل حقيقة أن ردود أفعالنا تجاه الشيعة والتشيع؛ هي التي تؤسس لورقة إيران الرابحة في إلهائنا؛ والمتمثلة في الخطاب السياسي الطائفي–الذي يكتسب طابع التدخل والإشعال الداخلي- بين إيران وجاراتها ذات الأنظمة السنية، بما فيها العراق التي يحكمها الشيعة اليوم. هذا لا يعني عدم وجود خطر طائفي محتمل لتأثير المرجعيات الشيعية الإيرانية على شيعة الداخل مما يهدد مفاهيم السيادة والولاء والمواطنة في الأقطار العربية، لكن هذا الخطر محتمل بالقدر نفسه من المرجعيات السنية المتطرفة وفتاواها الفئوية، وقد تهز هذه المرجعيات تلك المفاهيم بالقدر نفسه والجدية نفسها.
علينا –سريعاً- أن نتفكر في حقيقة أن العراق في توتر مع إيران ليس لأن تشيع حكامها لا يعجب إيران، بل لأن هوية العراق وأيدولوجيتها وانتمائاتها: عربية بامتياز. هو صراع يغذيه ادعاء الشيعي العربي أنه أحق بإرث الثأر الحسيني.
كل ذلك يطرح بقوة أهمية أن نعالج مفهوم المواطنة والولاء والهوية الوطنية بشيء من المراجعة وفق وضعنا الحداثي المعاصر وبعيدا عن التعصب والتصنيف، وأن نحتوي الشيعي العربي ونحافظ على هويته الوطنية والقومية بدل أن نتهمه وننبذه. وفي استخلاص سريع يعقب معرفة هذه الجوانب، علينا سريعا أن نعتبر التهديدات الإيرانية تجاه الدول العربية منفردة، تصب في اتجاه تهديد المنطقة بالكامل، وهو ما يستدعي بالضرورة مراجعة جادة للمواقف الأخيرة التي انبثقت عن الدول العربية والمنظومات الإقليمية تجاه الاستفزاز الإيراني للحق الإماراتي في جزره المحتلة مثلا.
مقال منشور في القدس العربي اللندنية بتاريخ ١٦-أكتوبر ٢٠١٣
http://www.alquds.co.uk/?p=93836
تدوينة جديدة: العربي وإيران: تكرار اللعب بالأوراق الخاسرة ظهرت على موقع موج بلا شاطئ - مدونة محمد الهاشمي موج بلا شاطئ.
October 13, 2013
الاستشهاديون: فوق الأرض وخلف أستار السماء
حاولت مراراً أن أتذكر لو أن انتحارياً تمكن من إحداث تغيير جوهري في مسار التاريخ. في أغلب الأحوال فإن الانتحاري –أو الاستشهادي في المفهوم الديني- يمثل شرارة استفزاز، أو دفعة معنوية لصفوف الحلفاء، وصدمة مربكة للأعداء، كما يرمز إلى من يقدم حياته ثمناً لقيمة تمثل عنده شيئاً أكبر من الحياة بكثير.
قد يبدو من يرتمي في أحضان الموت من أجل قضية سامية كمن يقرر الرمي بنفسه في وجه قطار مندفع مبتسماً، رغبة في إيقافه حتى لا يدهس في طريقه باص مدرسة عالق على السكة. ويمثّل القطار المندفع الخطر على الدين أحياناً ، أو اليأس من تغيير الواقع أحياناً أخرى.
حينما يكون الاستشهادي متديناً فإنه يرغب في ضمان مقعده في الجنة، ويدفعه الإيمان بأن قوة شديدة العظمة يمكنها أن تتجسد في هذا الارتطام غير العادل بالقطار وتصنع الفرق الميتافيزيقي (ما فوق الطبيعي) فتتمكن من إيقافه. وقد كانت نماذج الاستشهاديين ماثلة في عدة عصور، وكانت المحفزات والذرائع متشابهة. لكن العمل الاستشهادي الذي يفترض أن يهدف إلى صنع أزمة مفاجئة تسهم في تغيير واقع أقرب للمستحيل، كان كذلك يُرى كتذكرة استثنائية تختصر الطريق إلى الجنة أو المجد الأبدي، وهو ما جعل البعض يعتقد أن الانتحار “الاستشهادي” عمل مرتبط بالتطرف الديني فقط.
قد يقول قائل إن الفعل الانتحاري لا يعدو كونه الحصاة التي يقذف بها قائد السريّة باتجاه آخر ليصرف بها انتباه العدو ويفقده التركيز. الفرق في حالة “الاستشهادي” أن الحصاة جسد يريد أن تُفرغ روحه فتصعد إلى السماء، أو جسد لن تكون له قيمة إلا لو رغب في الصعود باكراً. لكن هذا الأمر لا يعكس كل ما نشهده من تفجيرات انتحارية معاصرة، ففي كثير من الأحيان كان الاستشهاديون ممن لا يؤمنون بحياة بعد الموت، بل أنهم يكفرون بجنة الخلد، لكنهم ما انفكوا يسمّون فعلهم الانتحاري استشهاداً، ويحلمون بمجدٍ يخلدهم على الأرض. وكان الشيوعيون اليساريون في لبنان وسوريا وأعضاء فتح ومنظمة التحرير الفلسطينيتين ممن اشتهر بالعمليات الاستشهادية من العرب قبل الإسلاميين الجهاديين بعقود. لم يتحدث مجدي الصايغ ولا سناء محيدلي –استشهاديان يساريان من جنوب لبنان – عن حلم الفردوس في رسائلهما الأخيرة، بل كانا يحلمان بجنة على الأرض ينعم بها القوم من بعدهما، ولم يبديا تطلعا صريحاً إلى وعود السماء. إنه الحلم عندما يواجه واقعاً، بدلاً من الواقع المستغيث بحلم كما هو عند “المجاهدين”.
بالعودة لأشهر أمثلة التاريخ، كان النزاريون الإسماعيليون–الذين أسماهم الرحالة الأوروبي ماركو بولو بالحشاشين- يرتمون للموت من خلال تنفيذ عمليات اغتيال يدركون أن معظمها لن ينتهي بعودتهم إلى موطنهم المعزول في قلعة الجبل. كل ما كان يفعله حسن الصبّاح ورشيد الدين سنان -شيخا الحشاشين في زمنين مختلفين- هو إرسال محارب يحمل خنجراً مسموماً، ليفتك بضحيته المختارة على رؤوس الأشهاد في مكان عام غالباً، فيكون عبرة لكل من تسوّل له نفسه أن يسير على نهج الضحية أو يوافق فكرها، كما حدث عندما قتل الحشاشون وزير الدولة السلجوقي نظام الملك، والخليفة العباسي المسترشد، وملك القدس الصليبي كونراد الأول.
لكن الحشاشين “النزاريين” انقرضوا كجماعة سياسية، وانقرضت أهدافهم بعد عقود من صيت “الإرهاب”، وتبدد عنهم حلم الدولة وتشرذموا، بل أن التاريخ نادراً ما يذكر أنهم كانوا روّاداً في العلوم والاختراعات. ثم جاء الرحالة الأوروبي ماركو بولو فأفسد كل ما تبقى لهم من هيبة لما روى أن “شيخ الجبل” كان يخدر انتحارييه ويعد لهم قبل يوم التنفيذ حفلاً ساهراً في حديقته الغناء تحييه الجواري العاريات وأقداح النبيذ وسلال الفاكهة، وهو أمر يذكّر بصيت حكاية “نكاح الجهاد” في سوريا الآن.
ومن المجحف أن اعتقد الغرب أن “الحور العين” كنّ كل ما وراء الحشاشين من حافز، ثم اعتقد أن جهاديي القاعدة هم النسخة المحدثة منهم. إن وعد الجنة لا يضمن أن تكون المقاصد من العمل الاستشهادي واحدة دوماً.
لا مانع من أن يجد أي من هؤلاء في وعد الجنة ملاذاً أكثر ملائمة ليقينهم بإمكانية الخلاص من بؤس الواقع –المشحون بالفقر والجوع والكبت السياسي والاجتماعي- فيصبح هدف تغيير حياتهم بالتالي أمراً ثانوياً. من الممكن أن يغدو البؤس وقوداً لأملهم في تحول السواد إلى بياض بانتقالهم إلى مكان آخر، أو عالم آخر، في ظرف لحظة، أو ” ظرف قنبلة” إن صح التعبير. لكن ذلك أيضاً لا يمنع أن يكون الفعل الاستشهادي عند المتدين بادئاً برغبته في تغيير الواقع وتحقيق النصر، تماما كالاستشهادي اليساري “الأرضي”، فيظهر في الاستشهاديين مترفٌ كـ”بن لادن” بل يقودهم، ويتطلع معهم لأمجاد الأرض وأمجاد السماء في آن.
يجب استبعاد أن يكون هناك فهم واحد يفسر العمل الانتحاري أو الاستشهادي، لأنه سيجد لنفسه قوالب مختلفة جديدة دوماً. ليس بحاجة ملحة للدين ولا للحور العين من يريد أن يحمل قنبلة أو يدسها في جسده. الاستشهادي الانتحاري بحاجة لمجرد حلم، ولمن يقنعه بأن الموت طريق وحيد لتحقيقه، سواء كان حلمه فوق الأرض أو خلف أستار السماء.
* مقال منشور في صفحة مدارات – صحيفة “القدس العربي” اللندنية http://t.co/09Uw0e6gad
تدوينة جديدة: الاستشهاديون: فوق الأرض وخلف أستار السماء ظهرت على موقع موج بلا شاطئ - مدونة محمد الهاشمي موج بلا شاطئ.


