“هكذا تكلم جوبس”*


ليس مستغرباً أن ننادي بحب الحياة وذواتنا، وبقدر انفلات الحياة من بين أيدينا، تتزايد الرغبة في التمسك بها. هذا التشبث بالحياة يضعف أكثر فأكثر عندما تصبح اللحظة التي نعاصرها أكثر ألماً من أي مجهول ينتظرنا. وفي أغلب الحالات يكون الموت أعظم مجهول نخافه.

قد يخال المبدعون والأذكياء أن الموت شيء يمكن مواجهته، بل أن بعضهم يصل بإبداعه إلى الوقوع فريسة لغروره المشبع بالبحث عن إجابات لكل شيء، بما في ذلك معرفة ما وراء باب الحياة، فيقفز أحدهم من الشرفة شديدة العلو هرباً من لهب

التساؤلات، الأمر الذي يبدو أهون الشرّين في اعتقاده. أما الناس فيعتقدون أنه كان “منتحراً” بإرادته.


عدا عن ذلك، فإننا لا نكون انتحاريين، بل متشبثين بالحياة لدرجة أن نقع أسرى لهيبة الموت، وعندما يستعبدنا شبح الموت، نغدو اسفلتاً لمكنةِ الحياة.


كيف نعيش إذاً؟ وكيف نواجه الموت؟ سؤالان

يخطران ببال كل منا..


في طريق بحثي عن إجابة لهما، مررت بخطبة شاهدتها للأمريكي ستيف جوبس (1955-2011م) –مؤسس شركة أبل التي غيرت معالم التطور التكنولوجي بشكل منقطع النظير- عنوانها “كيف تعيش قبل أن تموت”، وذكر فيها “أنه كان من المستحيل أن أصل النقاط غير المترابطة من حياتي ببعضها عندما كنت طالبا في الكلية بالنظر أمامي، لكنها كانت شديدة الوضوح بالنظر للوراء بعدها بعشر سنوات. عليك أن تثق أن النقاط ستصل بعضها في المستقبل. عليك أن تضع ثقتك في شيء ما”. وقد روى جوبس خلال خطبته التي ألقاها على خريجي جامعة ستانفورد العريقة كيف واجه مخاوف الموت عندما أصيب بسرطان البنكرياس، ومنحه الأطباء ثلاثة أشهر لوداع أحبائه قبل موته المحتم، وكيف اكتشفوا بعد ذلك أنه يمكن إجراء جراحة

لهذا النوع النادر من السرطان الذي أصابه، فأجرى العملية وقضى على المرض،


لا أحد يريد أن يموت.

حتى الناس الذين يرغبون بدخول الجنة لا يريدون الموت ليصلوا إليها. ومع ذلك، فإن

الموت هو الوجهة التي نتشارك جميعا في حتميتها. لا أحد استطاع الهروب منها أبداً.

وهكذا يجب أن يكون، لأن الموت هو الاختراع الأفضل الوحيد للحياة. هو العامل

المغيّر للحياة. إنه يقوم بتصفية القديم لإتاحة الفرصة للجديد. في هذه اللحظة،

الجديد هو أنتم، لكن يوما ما ليس بعيدا من الآن، ستصبحون تباعاً القديم الذي ينبغي

أن تتم تصفيته. أعتذر لدراميتي، ولكنها تبدو الحقيقة،


لم يكن جوبس يدرك أن الموت سيقوم بتصفيته بعدها بأسابيع قليلة، بشكل مفاجئ وخلال اجتماع روتيني داخل الشركة. وأعتقد أنه لولا جهله بموعد موته، لما كان واثقا لهذه الدرجة حينما قال في الخطبة نفسها إن تذكره الدائم أنه سيموت قريبا كان أهم وسيلة يحظى بها للقيام بالخيارات الكبيرة في الحياة، لأننا عندما ندرك اقتراب الموت فإن كل الخيارات تبدو صغيرة جدا. إننا

باختيار الموت للخلاص من الحياة، ندفع عن طريقنا كل احتمالات أن نجد شيئا آخر نؤمن أنه سيبدد مخاوفنا، لكننا باختيار أن نسير في دربها حذو مخاوفنا وقلقنا متقلب المزاج، فإننا نسمح لأنفسنا أن نجد مخرجا مؤقتاً أو استراحة أو فندقا رخيصا يمكن

للتوقف عندها أن يعيننا على الاندفاع لاحقا نحو نهاية الطريق دون خوف من تعب ليلة البارحة. إن نهاية الطريق هناك في مكانها بانتظار أن نصل إليها، ما الفرق إذاً إن كنا سنصل إليه اليوم أو غداً؟ لماذا نتجهم عناء القلق من مصير لا فكاك منه أبداً

وفي وقت لا نعرف فيه موعدة وصولنا إليه؟


فكرت في عدة إجابات على هذين التساؤلين لكن أياً منها لم يكن أكثر إرضاء لي من أن الموت ضيف بلا ميعاد، ومثل هذا الضيف لن يسعدك استقباله إلا ومنزلك جاهز لاستقبال ضيوف “الفجاءة” في كل حين.


*مقال منشور على الصحيفة الالكترونية الكويتية بتاريخ 8-9-2013:


http://www.alsahefah.com/ArticleDetai...


تدوينة جديدة: “هكذا تكلم جوبس”* ظهرت على موقع موج بلا شاطئ - مدونة محمد الهاشمي موج بلا شاطئ.

 •  0 comments  •  flag
Share on Twitter
Published on September 22, 2013 04:48
No comments have been added yet.