قادة الفكر Quotes
قادة الفكر
by
Taha Hussein262 ratings, 3.78 average rating, 41 reviews
قادة الفكر Quotes
Showing 1-30 of 51
“قلنا : إن سقراط اتخذ لنفسه قاعدة جعلها إمامًا له في سيرته وفي تعليمه ، وهي هذه الحكمة التي كانت مكتوبة على معبد « دلف » : « اعرف نفسك بنفسك » . وهذه الحكمة نفسها إذا تأملناها أوضحت لنا جملة الفلسفة السقراطية .”
― قادة الفكر
― قادة الفكر
“النبوغ إذًا ظاهرة اجتماعية واقعة ، نشهدها من حين إلى حين ، والأفراد النابغون مهما تعترضهم العقاب ، ومهما يكتنفهم من الظروف ، فلهم من قيادة الفكر ، والسيطرة عليه حظ يلائم نصيبهم من النبوغ .”
― قادة الفكر
― قادة الفكر
“كان سقراط قليل الميل إلى الديمقراطية ؛ كما كان شديد البغض للاستبداد ، عدوًّا للأرستقراطية.”
― قادة الفكر
― قادة الفكر
“الحق أنك لا تكاد تنظر في التاريخ منذ ابتداء عصر القياصرة حتى تستيقن أن شيئين قد أخفقا إخفاقًا ، وآن أن يقوم مقامهما شيئان آخران . فأما الشيئان اللذان أخفقا فهما الديمقراطية والفلسفة . وأما الشيئان اللذان قدرت لهما السيادة وكتب لهما الفوز ، فهما الأوتقراطية والدين .”
― قادة الفكر
― قادة الفكر
“شهد سقراط في شبابه مجد الأمة اليونانية عامة ومدينة أثينا خاصة ، وشهد في شيخوخته هذه الجهود العنيفة التي كانت تبذلها هذه الأمة اليونانية نفسها لتقضي على ما كان لها من قوة وسلطان ، شهد تلك الحرب التي لم يعرف العالم القديم مثلها ، والتي أثرت في الحياة اليونانية تأثيرين مختلفين : فرقت الحياة العقلية ، وحطت الحياة السياسية ؛ وكانت فلسفة سقراط ممثلة لهذين التأثيرين : كان فيها انصراف عن السياسة ، وكانت فيها من ناحية أخرى عناية بالحياة العقلية ، وحرص على تقويتها وترقيتها وتهذيبها . وشهد أفلاطون في شبابه ضعف الأمة اليونانية عامة ومدينة أثينا خاصة ؛ وتدخل الأجنبي في أمر هذه الأمة التي كانت شديدة البأس واسعة السلطان ؛ فأصبحت أداة تصطنعها الأمة الفارسية لإرضاء مطامعها المختلفة في آسيا وفي أوربا . وشهد في شيخوخته انحلال هذه الأمة اليونانية وموت الروح الوطني فيها .
وكانت فلسفته ممثلة لهذا العصر الذي عاش فيه تمثيلًا صحيحًا ؛ فكانت من جهة كفلسفة سقراط ترمي إلى تقوية الحياة العقلية ومحاولة أن تكون وحدها غاية الرجل الحكيم . وكانت من جهة أخرى كفلسفة سقراط أيضًا تمثل السخط على الحياة السياسية الحاضرة ، وتتخذها موضوعًا للعبث والسخرية . ولكنها لم تكن يائسة من الإصلاح ، وإنما كانت تخالف فلسفة سقراط وترمي إلى وضع نظام جديد للحياة السياسية ليس يعنينا الآن أكان في نفسه حسنًا أم سيئًا ، معقولًا أم غير معقول ، ولكن الذي يعنينا أنه كان محاولةً للإصلاح ورغبة في إقامة بناء سياسي جديد ، ودليلًا واضحًا على أن البناء السياسي القديم الذي كان قد أخذ يتصدع أيام سقراط قد أشرف الآن على أن ينهار ، ولم يبق من الاستعداد بد لإقامة بناء جديد على أنقاضه .”
― قادة الفكر
وكانت فلسفته ممثلة لهذا العصر الذي عاش فيه تمثيلًا صحيحًا ؛ فكانت من جهة كفلسفة سقراط ترمي إلى تقوية الحياة العقلية ومحاولة أن تكون وحدها غاية الرجل الحكيم . وكانت من جهة أخرى كفلسفة سقراط أيضًا تمثل السخط على الحياة السياسية الحاضرة ، وتتخذها موضوعًا للعبث والسخرية . ولكنها لم تكن يائسة من الإصلاح ، وإنما كانت تخالف فلسفة سقراط وترمي إلى وضع نظام جديد للحياة السياسية ليس يعنينا الآن أكان في نفسه حسنًا أم سيئًا ، معقولًا أم غير معقول ، ولكن الذي يعنينا أنه كان محاولةً للإصلاح ورغبة في إقامة بناء سياسي جديد ، ودليلًا واضحًا على أن البناء السياسي القديم الذي كان قد أخذ يتصدع أيام سقراط قد أشرف الآن على أن ينهار ، ولم يبق من الاستعداد بد لإقامة بناء جديد على أنقاضه .”
― قادة الفكر
“لا توجد مدرسة تحترم نفسها في أوربا لا يدرس فيها الشباب الأوربي « الإلياذة » و « الأودسا » في نصوصها اليونانية ، أو مترجمة إلى اللغات الحديثة .”
― قادة الفكر
― قادة الفكر
“وهل كانت توجد الحضارة اليونانية التي أنشأت « سقراط » أو « أرسطاطاليس » ، والتي أنشأت « إسكولوس » و « سوفكليس » ، والتي أنشأت « فدياس » و « بيركليس » لو لم توجد البداوة اليونانية التي سيطر عليها شعر « هوميروس » وخلفائه ؟ ! وهل كانت توجد الحضارة الإسلامية ، التي ظهر فيها من ظهر من الخلفاء والعلماء وأفذاذ الرجال ، لو لم توجد البداوة العربية ، التي سيطر عليها امرؤ القيس والنابغة والأعشى وزهير وغيرهم من هؤلاء الشعراء الذين نبخسهم أقدارهم ولا نعرف لهم حقهم ؟ ! غير أن هناك فرقًا عظيمًا بين بداوة العرب وبداوة اليونان : بداوة العرب أثرت في العرب وفي الحضارة الإسلامية ، ولم تجاوز الحضارة الإسلامية إلا قليلًا . وإذن ، فشعراء الجاهلية العربية عرب لا أكثر ولا أقل . أما بداوة اليونان ، فقد أثرت في اليونان ، وأثرت في الرومان ، وأثرت في العرب ، وأثرت في الإنسانية القديمة والمتوسطة ، وهي تؤثر الآن في الإنسانية الحديثة ، وستؤثر فيها إلى ما شاء الله ، وإذن فشعراء البداوة اليونانية يونان ، ولكنهم مِلْكٌ للإنسانية كلها .”
― قادة الفكر
― قادة الفكر
“إن أفلاطون لا يفرِّق في الأخلاق بين العلم والعمل ؛ فهو يؤكد ، كما كان يؤكد سقراط ، أن مصدر ما نتورط فيه من الرذائل والآثام إنما هو جهلنا بالخير وقصورنا عن إدراكه ؛ فإذا أزيل هذا الجهل وأتيحت لنا القوة التي تمكننا من إدراك الخير ومشاهدته ، فنحن بمأمن من الرذائل والآثام . وليس يستطيع أفلاطون ، كما لم يكن يستطيع سقراط ، أن يتصور أن الإنسان يقدم على الشر وهو يعلم أنه شر ، وينصرف عن الخير وهو يعلم أنه خير . وإذًا فالفلسفة التي تؤدي إلى إدراك فكرة الخير ليست مصدر السعادة النظرية العملية وحدها ، بل هي مصدر السعادة العملية أيضًا ؛ فالفيلسوف أسعد الناس لأنه يدرك الخير ويراه ، ثم لأنه يسعى إليه ويطمع فيه وينظم حياته تنظيمًا يجعلها ملائمة له .”
― قادة الفكر
― قادة الفكر
“؛ فالناس جميعًا يؤمنون بأن الإسكندر عظيم ، ولكنهم يردُّون هذه العظمة إلى ما أحدث الإسكندر من فتح لم يعرفه التاريخ القديم . وكيف لا يكون عظيمًا ذلك الشاب الذي نهض بالأمر بعد أبيه ، فلم يكد يستقبل الملك حتى فسد عليه كل شيء ، واضطرب من حوله كل شيء ، فإذا جيرانه يغيرون على مملكته من كل صوب ، وإذا حلفاؤه ينقضون الحلف ويثورون به يريدون أن يقضوا على سلطانه ؛ وإذا هو على حداثة سنه وقلة حظه من التجربة ، قد ثبت لهذا كله ، فَصَدَّ المُغِير ، وردَّ الحليف إلى الوفاء بالعهد ، وقضى على أطماع جيرانه ، ومحا آمال اليونان في الاستقلال ، واتخذ من خصومه وأعدائه على اختلاف أجناسهم ، وتباين أهوائهم ، وتفاوت حظوظهم من الرقي العقلي ، جيشًا ضخمًا منظمًا ، عبر به البحر إلى آسيا . فلم يكد يظهر فيها حتى طرد الفرس من آسيا الصغرى ، ومضى في طريقه يتبع ساحل البحر حتى أخضع البحر كله لسلطانه ، وإذا هو في الشام ، وإذا هو في مصر ، وإذا هو وارث ملك الفراعنة ، وإذا هو يؤسس عاصمة العالم الجديد ، وإذا هو يترك مصر ويتعمق في آسيا ، فيقضي على دولة الفرس ويرث عرشها ، وإذا هو يجدُّ في غزوه ويُمْعِن في فتحه ، فيبلغ الشرق الأقصى ، ويُوغِل في الهند إيغالًا ، ويرفع لواء الحضارة اليونانية والأدب اليوناني في أرض لم تسمع باليونان من قبل ، وإذا هو يعود إلى بلاد الفرس ويستقر للراحة في بابل وقد ورث ملك الفراعنة والبابليين والآشوريين والفرس وسلطان اليونان والفينيقيين ، وضم هذا كله إلى ملك مقدونيا الذي ورثه عن أبيه . كل ذلك لم يرضه ولم يقنعه ، وما كان استقراره في بابل إلا استعدادًا لحركة أخرى أشد عنفًا من الحركة الأولى وأبعد منها أثرًا ؛ فقد كان يريد أن يستأنف السير فيعبر البحر إلى إفريقية ، ويمضي في طريقه حتى يبلغ عمود هرقل أو مضيق جبل طارق ، فيقضي على سلطان الفينيقيين في إفريقية الشمالية ، ويبسط سلطانه على أوربا الغربية ، ويقتحم هذا القسم من أوربا حتى يتم دورته ، وينتهي إلى مقدونيا حيث ابتدأ حركته . كان يستعد لهذا كله ، كان زعيمًا أن يتمه ويوفق له ، لولا أن الموت عاجله فوقفه في منتصف الطريق ! كيف لا يكون عظيمًا هذا الشاب الذي فعل هذا كله في عشر سنين أو أقل من عشر سنين ؛ نعم هو عظيم ، ولم تخطئ الأجيال الماضية حين أضافت عظمته إلى هذه الحركة العنيفة الخصبة .
ولكننا مع ذلك نرى أن عظمة الإسكندر ينبغي أن تضاف إلى شيء غير هذا خليق بالخلود حقًّا ؛ لأنه يتصل بالعقل لا بالأرض ، فلم يكن الإسكندر قائد جيش ليس غير ، وإنما كان قائد فكر قبل كل شيء وبعد كل شيء ، وفوق كل شيء . لم يفهمه معاصروه ، ولم يفهمه خلفاؤه ، وفهمناه نحن ، ولكننا لم نفهمه بعد كما ينبغي .”
― قادة الفكر
ولكننا مع ذلك نرى أن عظمة الإسكندر ينبغي أن تضاف إلى شيء غير هذا خليق بالخلود حقًّا ؛ لأنه يتصل بالعقل لا بالأرض ، فلم يكن الإسكندر قائد جيش ليس غير ، وإنما كان قائد فكر قبل كل شيء وبعد كل شيء ، وفوق كل شيء . لم يفهمه معاصروه ، ولم يفهمه خلفاؤه ، وفهمناه نحن ، ولكننا لم نفهمه بعد كما ينبغي .”
― قادة الفكر
“لعلك تعجب حين تراني أحدثك عن الإسكندر الفاتح ، في كتاب يبحث عن قادة الفكر . ولعلك تسأل : ما بال قائد من قواد الجيوش يخلط بهؤلاء الذين لم يتسلطوا إلا على العقول ؟ ولكني قلت لك في أول هذا الفصل : إن قيادة الفكر قد انتقلت من الشعر إلى الفلسفة ، ثم من الفلسفة إلى السياسة ، وكان الإسكندر هو الذي نقلها ، أو قل هو الذي انتزعها عن الفلسفة وأقرها للسياسة .”
― قادة الفكر
― قادة الفكر
“وربما كان من الحق أن نقرر أن أرسطاطاليس قد نهض بالفلسفة نهوضًا عظيمًا ، ورقاها ترقية بعيدة الأثر ، حين عدل عن أسلوب الحوار إلى أسلوب البحث المباشر المتصل ؛ فقد يصلح الحوار في ألوان من الفلسفة وضروب من التفكير ، ولكنه من غير شك بعيد كل البعد عن أن يلائم البحث الفلسفي العميق عن الطبيعة وما بعد الطبيعة وعن المنطق ، وما يتصل به من فنون الأدب ، فهو إذا صح أسلوبًا للبحث السياسي والخلقي لا يصلح لغيرهما ، ومن هنا كانت فلسفة أرسطاطاليس في الطبيعة وما بعد الطبيعة أشد استقرارًا وأقدر على البقاء من فلسفة أفلاطون .”
― قادة الفكر
― قادة الفكر
“فقد كان سقراط ينتقل بفلسفته في شوارع أثينا من حانوت إلى حانوت ، ومن ميدان إلى ميدان ؛ ثم جاء أفلاطون فأقر تعليمه الفلسفي في مدرسة اختارها لهذا التعليم هي « الأكاديمية » ، كان يعيش فيها ويختلف إليه تلاميذه فيدرسون ويتحاورون . أما أرسطاطاليس فقد تخير المدرسة واستقر فيها مع تلاميذه كما فعل أفلاطون ، ولكنه لم يكن يعلم ولا يحاور جالسًا مستقرًّا ، وإنما كان يمشي في حديقة مدرسته ومن حوله أصحابه وتلاميذه ، فيدرسون ويحللون ويستنبطون ؛ فكان وسطًا في ذلك بين سقراط المتنقل وأفلاطون المستقر ، ومن هذا المشي مع أصحابه سميت مدرسته مدرسة المشائين ، وأطلق اسم المشائين على الذين ينتمون إلى مذهب أرسطاطاليس في الفلسفة .”
― قادة الفكر
― قادة الفكر
“كما أن فلسفة سقراط وفلسفة أفلاطون تمثلان الحياة اليونانية في عصريهما ، فإن فلسفة أرسطاطاليس تمثل هذه الحياة أيضًا تمثيلًا قويًّا صادقًا ، فهي الدليل الناطق بأن الفلسفة السقراطية قد نجحت فيما كانت تحاول من إضعاف النظم السياسية القائمة ، وهي الدليل الناطق بأن الفلاسفة كانوا مصيبين في فهم الحياة السياسية والاقتناع بأنها سيئة ، وبأنها منتهية للكوارث من غير شك .”
― قادة الفكر
― قادة الفكر
“شيء آخر يتم نظرية أفلاطون في الأخلاق ، ويعين على فهم هذه الشخصية القوية ، وعلى فهم ما كان لفلسفة أفلاطون من أثر بعيد في الحياة الإنسانية ، وهو رأيه في العقوبة الخلقية ، فليس يكفي أن يمثل لك الخير ويدعوك إليه . بل ليس يكفي أن يمثل لك الشر ويحذرك منه . وإنما هو يرى أن العقوبة أمر محتوم لا منصرف عنه ولا مفر منه ، فلكل عمل جزاؤه ، له الثواب إن كان خيرًا ، وله العقاب إن كان شرًّا — تلك نتيجة محتومة للعدل ، وهي نتيجة طبيعية ليست متكلفة ولا مصطنعة ، ليست كهذه العقوبات التي تفرضها القوانين المكتوبة ، وإنما هي أقوى وأنفع وألزم من هذه العقوبات .
يرى أفلاطون أن هذه العقوبة ليست شرًّا ، وإنما هي الخير كل الخير ، ذلك أنها لا ترمي إلى الانتقام ولا إلى التعذيب ، وإنما ترمي إلى التصفية والتطهير ؛ فالأنفس الآثمة عندما تعاقب تطهر من أدران الإثم ، وتعد لأن تستأنف حياتها الصالحة الراقية التي تلحقها بنفوس الأخيار وترقى بها إلى مستقرها الأول في الملأ الأعلى . أما تفصيل هذه العقوبات فجميل لا يخلو من لذة شعرية ، ولا من قوة خيالية مدهشة . وحسبك أن مذهب التناسخ يختصر هذه العقوبات : فالنفس الآثمة بعد الموت تعود إلى هذه الحياة لتمحو إثمها ، وهي تستقر في جسم من الأجسام يلائم نوع الإثم الذي اقترفته : كانت نفس رجل ، فهي الآن نفس امرأة . كانت نفس إنسان ، فهي الآن نفس فرس ، أو نفس كلب ، أو نفس حمار ، وهلم جرًّا ، فأنت ترى أن النظرية الخلقية لأفلاطون متصلة بنظريته في الطبيعية وفيما بعد الطبيعة . وليست بنظريته السياسية بأقل اتصالًا بفلسفته العامة من نظريته الخلقية . ذلك لأن رأيه السياسي يقوم على رأيه الخلقي : فالجماعة عنده كالفرد تتأثر بما يتأثر به وتخضع له ، ويجب أن تطمح إلى ما يطمح إليه .”
― قادة الفكر
يرى أفلاطون أن هذه العقوبة ليست شرًّا ، وإنما هي الخير كل الخير ، ذلك أنها لا ترمي إلى الانتقام ولا إلى التعذيب ، وإنما ترمي إلى التصفية والتطهير ؛ فالأنفس الآثمة عندما تعاقب تطهر من أدران الإثم ، وتعد لأن تستأنف حياتها الصالحة الراقية التي تلحقها بنفوس الأخيار وترقى بها إلى مستقرها الأول في الملأ الأعلى . أما تفصيل هذه العقوبات فجميل لا يخلو من لذة شعرية ، ولا من قوة خيالية مدهشة . وحسبك أن مذهب التناسخ يختصر هذه العقوبات : فالنفس الآثمة بعد الموت تعود إلى هذه الحياة لتمحو إثمها ، وهي تستقر في جسم من الأجسام يلائم نوع الإثم الذي اقترفته : كانت نفس رجل ، فهي الآن نفس امرأة . كانت نفس إنسان ، فهي الآن نفس فرس ، أو نفس كلب ، أو نفس حمار ، وهلم جرًّا ، فأنت ترى أن النظرية الخلقية لأفلاطون متصلة بنظريته في الطبيعية وفيما بعد الطبيعة . وليست بنظريته السياسية بأقل اتصالًا بفلسفته العامة من نظريته الخلقية . ذلك لأن رأيه السياسي يقوم على رأيه الخلقي : فالجماعة عنده كالفرد تتأثر بما يتأثر به وتخضع له ، ويجب أن تطمح إلى ما يطمح إليه .”
― قادة الفكر
“كانت فلسفة سقراط حربًا على السوفسطائية ، وكذلك كانت فلسفة أفلاطون . فإن انتصار سقراط على السوفسطائيين ، لم يزل سلطانهم ، ولم يمح آثارهم . بل نستطيع أن نقول : إن كثيرًا من السوفسطائيين اتخذوا الفلسفة السقراطية وسيلة إلى تقوية مذهبهم ، والإمعان فيما كانوا فيه من شك وتشكيك ، ولعل هذا هو الذي يفسر لنا وجود هذه المدارس السقراطية المتناقضة فيما بينها ، والتي انبثت في أقطار الأرض . فلم يكن إذًا بد لأفلاطون من أن يذهب مذهب أستاذه في محاربة السوفسطائية ، وإقامة فلسفة جديدة تعتمد على أن الحقائق ثابتة ، وعلى أن الشك ضرب من الضعف لا خير فيه ولا غناء . وقد سلك أفلاطون إلى تأسيس هذه الفلسفة سبيلًا واضحة قيمة ، ولكن سلوكها ليس باليسير على غير الفيلسوف .”
― قادة الفكر
― قادة الفكر
“نستطيع أن ندرس أفلاطون من حيث إنه كاتب ؛ فنحن نعلم أن تاريخ الأدب اليوناني لم يعرف كاتبًا ثائرًا كأفلاطون ، وأن آثار أفلاطون كلها آيات ، لا بالقياس إلى الأدب اليوناني وحده ، بل بالقياس إلى الأدب الإنساني كله ، سواء منه القديم والحديث . ونحن نعلم أن كل إنسان — مهما يكن حظه من الرقي العقلي ، ومهما تكن جنسيته وحضارته — يستطيع إذا قرأ أفلاطون أن يجد فيه لذة لا تعدلها لذة ، ولا يشعر بها الإنسان إلا حين يقرأ آيات اليونان ، ثم نستطيع أن ندرس أفلاطون من ناحية أخرى غير ناحية الكتابة والنثر ، وهي ناحية الشعر والخيال ، فلم ينظم أفلاطون الشعر على قواعد العروض والقافية ، ولكنه كان شاعرًا في نثره ؛ ولا يعرف تاريخ الأدب القديم شاعرًا كان له من قوة الخيال ولطفه وسحره وسلطانه على النفوس مثل أفلاطون . ثم نستطيع أن ندرس أفلاطون من ناحية ثالثة ، هي ناحية الفيلسوف الذي يبحث عما بعد الطبيعة . فيتعمق في بحثه تعمقًا لم يسبق إليه ، وأخشى أن أقول لم يلحق فيه ، بل أستطيع أن أقول ذلك ، بشرط أن أستثني تلميذه « أرسطاطاليس » . ثم هناك ناحية رابعة ، نستطيع أن ندرس منها أفلاطون ، وهي ناحية الفيلسوف الخلقي ، الذي يؤسس علم الأخلاق ، لا على مبادئ سقراط وحدها ، بل عليها وعلى مبادئ أخرى ، استطاع هو أن يكشفها أثناء بحثه عن الطبيعة وعما بعد الطبيعة . ثم هناك ناحية خامسة نستطيع أن ندرس منها أفلاطون وهي ناحية الفيلسوف السياسي ، الذي وضع علم السياسة ، وحاول لا أن يتفهم الحياة السياسية فحسب ، بل أن يضع نظامًا سياسيًّا يعتقد هو أنه المثل الأعلى للإنسانية المنظمة . ثم هناك ناحية سادسة ، نستطيع أن ندرس منها أفلاطون ، وهي ناحية الفيلسوف النفسي ، الذي هوَّن الأمر على أرسطاطاليس وغير أرسطاطاليس من الذين عُنُوا بالمنطق ، ووضع علمًا جديدًا يبحث عن المعرفة وشروطها ونظمها وغايتها ، فوضع أساس المنطق ، وأساس علم النفس ، أو قل : وضع أساس الفلسفة كلها . تستطيع أن تدرس أفلاطون من كل هذه النواحي . ولكنك تستطيع أن تطمئن ؛ فلن أدرس أفلاطون في هذا البحث من كل هذه النواحي ؛ فمثل هذا الدرس يحتاج إلى كتاب ضخم لست أنا الذي يستطيع أن يضعه . إنما أريد أن أوجز لك أشد الإيجاز ، خلاصةً من الفلسفة الأفلاطونية التي كان لها الأثر العظيم جدًّا في قيادة الفكر الإنساني قديمًا وحديثًا .”
― قادة الفكر
― قادة الفكر
“قلت : إن الشباب الأثيني كان شديد الالتفاف حول سقراط ، وإن الناس تسامعوا به في جميع البلاد اليونانية ، فأقبلوا إليه واشتركوا في حواره ، فلما قضي عليه بالموت وأنفذ فيه هذا القضاء ، ظهر في أثينا روح رجعي معاد للفلسفة والفلاسفة ميال إلى المحافظة في الرأي ، فتفرق تلاميذ سقراط الأصفياء سواء منهم الأثينيون وغير الأثينيين . فمنهم من عاد إلى وطنه وأخذ يعلم الفلسفة فيه ، ومنهم من هاجر إلى أرض أخرى وأنشأ فيها مدرسة توارثها خلفاؤه من بعده ، ومنهم من ساح في الأرض ، ومنهم من استخفى في أثينا وترك الفلسفة إلى حين ، حتى إذا هدأت العاصفة استأنف بحثه الفلسفي وأخذ يعلم الناس . كل هؤلاء التلاميذ نشروا في أطراف الأرض اليونانية فلسفة سقراط وفلسفتهم الخاصة . وما هي إلا أعوام بعد موت سقراط . حتى كان تلاميذه قد أنشئوا المدارس المختلفة في أطراف من بلاد اليونان الحقيقية أو في بعض المدن الإيطالية والآسيوية ، بل في إفريقية . وأخذت هذه المدارس بحظوظها المختلفة من الحياة ، فمنها ما بقي وحفظت آثاره ، ومنها ما ذهب به عبث الأيام . ولست أذكر من هذه المدارس إلا ثلاثًا كان لها أثرًا عظيمًا جدًّا في حياة العالم القديم ، وكان لبعضها أثرٌ لا يزال قويًّا في حياة العالم الحديث : الأولى : مدرسة « الكلبيين » التي أنشأها رجل من تلاميذ سقراط يسمى « أنتستين » (Antistène) في أثينا ، والتي اتخذت اسمها من المكان الذي أنشئت فيه ، والتي كانت تقوم فلسفتها على قاعدة سقراط التي قدَّمناها ، وهي معرفة النفس بالنفس ، ولكنها كانت تطبق هذه القاعدة تطبيقًا انتهى بها إلى الزهد وإلى المبالغة فيه ؛ لأنها حاولت أن تعرف النفس فعرفتها واستغنت بها عن كل شيء ، وحملتها هذه المعرفة على أن تزدري الحياة والأحياء ، وما يستمتعون به من لذة ، وما يتهالكون عليه من زينة . ولعلك تعرف كثيرًا من أخبار « ديوجين » (Diogène) الذي كان يبحث عن الإنسان فلا يجده ؛ لأن الإنسان عنده هو من عرف نفسه ؛ وأي الناس يعرف نفسه ! والذي يقال إنه كان يأوي إلى دَنٍّ يتخذه له بيتًا ، وكان لا يكره أن يستظل السماء ويتخذ الأرض له وطاءً ويشرب الماء بيده يستغني بها عن الأقداح ، والذي يقال إن الإسكندر زاره وسأله : ماذا يريد ؟ فأجابه : أريد ألا تحجب عني الشمس ، فقال الإسكندر : لو لم أكن الإسكندر لوددت أن أكون ديوجين . كان تأثير هذه المدرسة شديدًا جدًّا في العصور الأولى ؛ فقد انبعث تلاميذها في البلاد اليونانية في أزياء الفقراء والمعوزين لا يلتمسون من الناس شيئًا ، ولكنهم يدعونهم إلى الزهد والقناعة والانصراف عن اللذات . ولعلك تذكر ما كان لمثل هذه النظريات من الأثر ي حياة العالم القديم ، ولا سيما أيام الإمبراطورية الرومانية قبل انتشار الديانة المسيحية . المدرسة الثانية : مدرسة « قورينا » (Cyrène) ، أو مدرسة « برقة » ، وهي مدرسة مناقضة من كل وجه للمدرسة التي قدَّمت لك ذكرها ، أنشأها تلميذ من تلاميذ سقراط يقال له أرِستيب (Aristippe) ، وتوارثها خلفاؤه من بعده إلى أيام المقدونيين في مصر ، وكانت تقوم أيضًا على قاعدة سقراط « اعرف نفسك بنفسك » ، ولكنها سلكت سبيلًا غير سبيل « الكلبيين » ، عرف النفس فوجدت أن الخير إنما هو في أن تزدري النفس الحياة والأحياء ازدراء لا يقوم على الزهد والحرمان ، وإنما يقوم على اللذة والاستمتاع بالخير ، ما وجدت إلى هذا الاستمتاع سبيلًا . فلمَ الحرمان ؟ ولمَ الزهد ولمَ النفاق ؟ ألست تشعر بأن شيئًا يلذك وشيئًا يؤذيك ! فالخير هو أن تؤثر ما يلذك على ما يؤذيك ، ولكن لا على أن تجعل نفسك عبدًا للذة ، بل على أن تجعل اللذة أمةً لنفسك ، تأخذ منها ما استطعت ، دون أن تأسف عليها إذا حيل بينك وبينها ، ودون أن تضحِّي في سبيلها بإنسانيتك في حاجة إلى أن أذكرك بما كان لهذه المدرسة من التأثير في الحياة القديمة ؛ فأنت تعلم أن مذهبين خلقيين كانا يتنازعان حياة القدماء : أحدهما مذهب الزهد الذي أعلنه الكلبيون بعد سقراط ، وبالغ فيه الرواقيون بعد أرسطاطاليس . والآخر مذهب اللذة الذي أعلنه « أرستيب » بعد سقراط ، وبالغ فيه « أبيقور » (Epicure) بعد أرسطاطاليس . أما المدرسة الثالثة ، فهي أبقى المدارس التي نشأت عن فلسفة سقراط وأبعدها أثرًا في الحياة الإنسانية ، وأعظمها حظًّا في الخلود : أثرت في العالم القديم ، وأثرت في القرون الوسطى ، وأثرت في العالم الحديث ، وما زال لها أنصارها وتلاميذها إلى اليوم وإلى ما بعد اليوم ؛ ولكني لا أحدِّثك عنها في هذا الفصل ؛ فهي تحتاج إلى فصل خاص ؛ لأنها نشأت لنا رجلين من قادة الفكر الإنساني العام : أحدهما : « أفلاطون » ، والآخر : « أرسطاطاليس » .”
― قادة الفكر
― قادة الفكر
“فهذه الفلسفة - الفلسفة السقراطية - تنحصر ، أو تكاد تنحصر ، في شيئين : الأول : أن الإنسان قد جهل نفسه في جميع العصور المتقدمة ، وأن جهله نفسه هو الذي حمله على أن يلتمس العلم في الخارج ، فيبحث عنه مرة في الأرض وأخرى في السماء ، وحينًا في الجو وحينًا في الماء ؛ وكان الحق عليه أن يبدأ بنفسه فيدرسها ويتبين أمرها ، حتى إذا فرغ منها استطاع أن ينتقل إلى الخارج . وليس هو في حاجة إلى ذلك ؛ لأنه لن يفرغ في درس نفسه أبدًا ، ولأنه سيجد في نفسه إذا درسها كل شيء . الثاني : أن الفلسفة يجب أن تقوم منذ اليوم على معرفة النفس والعلم بها ، أي إن الفلسفة يجب أن تكون إنسانية ، أي إن الفلسفة يجب أن تقوم قبل كل شيء على الأخلاق .”
― قادة الفكر
― قادة الفكر
“كان سقراط قليل الميل إلى الديمقراطية ؛ كما كان شديد البغض للاستبداد ، عدوًّا للأرستقراطية ، وقد أغضب هذه الطبقة كما أغضب الشعب : أغضبها حين أبى على الطغاة الثلاثين ما أرادوه عليه من المعونة ، وحين عرض نفسه بذلك الخطر . ومن هنا لم ينته القرن الخامس حتى كان سقراط قد ألَّب على نفسه الديمقراطية المنتصرة والأرستقراطية المنهزمة ، كما أنه كان قد ألَّب على نفسه الشعراء والفلاسفة والمعلمين ، لأنه صرف عنهم الشباب من جهة ، ولأنه كان شديد السخر بهم من جهة أخرى . فما هي إلا أن تم انتصار الديمقراطية على الطغاة الثلاثين ، حتى تقدم اثنان من الأثينيين ، أحدهما شاعر ، بقضية إلى الشعب يتهمان فيها سقراط تهمًا عدَّة : منها أنه أفسد الشباب ، ومنها أنه لا دين له ، ومنها أنه يعبث بالنظم السياسية القائمة . وحوكم سقراط ، فلم يكن موقفه من قضاته موقف الرجل الذي يريد أن يدافع عن نفسه حقًّا ويثبت براءته حقًّا ، وإنما كان موقفه من القضاة موقف الساخر بهم ، المزدري لهم ، ومع ذلك فقد صدر الحكم عليه بكثرة قليلة جدًّا . وكانت العادة عند الأثينيين وغيرهم من القدماء أن يصدر في مثل هذه القضايا الجنائية حكمان : الأول يثبت إدانة المتهم أو ينفيها ، والثاني يقرر العقوبة التي يستحقها المتهم إذا ثبتت إدانته . وكانت العادة إذا ثبتت إدانة المتهم أن يُسأل عن العقوبة التي يرى أن يستحقها ، وأن يُسأل المدعي عن العقوبة التي يرى أن المتهم خليق بها ، ثم تفصل المحكمة بين هذين الجوابين ، فتقر إحدى العقوبتين اللتين اقترحهما المتهم والمدعي . فلما صدر الحكم بإدانة سقراط سُئل عن العقوبة التي يرى أن يستحقها ، فأجاب ساخرًا مستهزئًا : أنه يرى أن تطعمه الدولة مجانًا بقية حياته ؛ لأنه أنفق هذه الحياة في تعليم الأثينيين وتهذيبهم . وسئل المدعون فطلبوا الموت ، وكان القضاة قد سخطوا لهذه السخرية القاسية ، فأقروا في حكمهم ما طلب المدعون ، وقُضِيَ بالموت على سقراط .
وليس من شك في أنه لو أحسن الدفاع عن نفسه لبرئ . وليس من شك في أنه لو لم يسخر من القضاة بعد إدانته لما حكم عليه إلا بالغرامة كثيرة أو قليلة ؛ ولكن موقفه أحنق عليه القضاة ، ثم انتهت به هذه السخرية إلى أن اعتبر مهينًا للدولة ، فعوقب معاقبة من تثبت عليه الخيانة العظمى أو الخروج على النظام القائم .”
― قادة الفكر
وليس من شك في أنه لو أحسن الدفاع عن نفسه لبرئ . وليس من شك في أنه لو لم يسخر من القضاة بعد إدانته لما حكم عليه إلا بالغرامة كثيرة أو قليلة ؛ ولكن موقفه أحنق عليه القضاة ، ثم انتهت به هذه السخرية إلى أن اعتبر مهينًا للدولة ، فعوقب معاقبة من تثبت عليه الخيانة العظمى أو الخروج على النظام القائم .”
― قادة الفكر
“إن القرن الثاني قبل المسيح لم يكد ينقضي حتى كان السلطان الروماني منبسطًا بدرجات تختلف قوةً وضعفًا على البلاد اليونانية في أوربا ، وعلى الدول اليونانية في الشرق ؛ وحتى كانت فكرة الإسكندر — وهي تحقيق الوحدة السياسية للعالم القديم — قد أخذت تسرع إلى التحقيق وتظفر بالوجود الفعلي .”
― قادة الفكر
― قادة الفكر
“كانت قيادة الفكر إلى الشعراء أول عهد العالم القديم بالوجود الاجتماعي والسياسي ، ثم ارتقى هذا العالم القديم من الوجهة الاجتماعية والسياسية والعقلية ، فانتقلت قيادة الفكر من الشعر إلى الفلسفة ، وأصبح قادة الفكر فلاسفة ومفكرين ، بعد أن كانوا أصحاب شعر وخيال ، ولكن هذه الفلسفة نفسها جدَّت في سبيلها التي سلكتها إلى الرقي ، وانتهت إلى ما لم يكن بدٌّ من أن تنتهي إليه ، فأحدثت في النفوس شكًّا ، وتناولت النظم القائمة بالنقد حتى هدمتها ، أو كادت تهدمها ؛ وظهر أنها عاجزة عن قيادة الفكر بعد أن وصلت الجماعات إلى هذا التطور الذي وصلت إليه في القرن الرابع قبل المسيح ، كما ظهر منذ قرون عجز الشعر عن قيادة الفكر بعد أن تبدلت الحياة الاجتماعية والسياسية .
ولم يكن بد من أن تنزل الفلسفة عن سلطانها لشيء آخر يخلفها على قيادة الفكر وتوجيه الحياة الإنسانية وجهة جديدة ؛ تلائم هذه الأطوار الجديدة التي انتهت إلى الجماعات . وفي الحق أن هذا القرن الرابع قبل المسيح كان عصر انتقال عام تظهر آثاره في جميع أجزاء العالم القديم : في الشرق الآسيوي ، وفي الغرب الأوربي ، وفي بلاد اليونان خاصة ، وشبه جزيرة البلقان بوجه عام ، فأنت حين تستعرض تاريخ العالم القديم في هذا العصر ، لا تجد إلا تغيرًا وتبدلًا في النظم وأصول الحكم ، في الأخلاق والعادات ، بل في الشعور الديني نفسه . أما في الشرق ، فقد كانت الدولة الفارسية العظمى ، التي بسطت سلطانها على أعظم إمبراطورية عرفها تاريخ الشرق القديم ، وأخضعت لهذا السلطان بلاد الفراعنة وبلاد البابليين والآشوريين والفينيقيين ، كانت قد انتهت إلى شيء من الضعف آذن بأن سقوطها قد أصبح أمرًا ليس منه بد : كان الفساد قد اشتمل على ملوكها وزعمائها ، وكان الترف قد عبث بعامة شعبها الذي كان مصدر قوتها وبأسها ، وكان العصيان قد انبث في أقطار الأرض التي خضعت لها ، فأصبحت هذه الأقطار ثائرة مضطربة يطمع بعضها في استرداد استقلاله القديم ، ويخضع بعضها الآخر لأطماع الحكام والمستبدين . وكانت السلطة المركزية قد يئست من أن تقبض بنفسها على أزِمَّة الأمر ، فلجأت إلى أعدائها اليونان ، تجندهم لحماية أقطارها ، وتستأجرهم للدفاع عن سلطانها . وكانت الأمة اليونانية على ما علمت في الفصل الماضي ، من الضعف والانحلال ، والفساد الخلقي والسياسي ، والزهد في هذه النظم السياسية التي ألفتها والتي ظهر فسادها وعجزها عن ضبط الأمور . ولم تكن إيطاليا ولا غرب أوربا أقل اضطرابًا من بلاد اليونان والشرق ، فقد كانت مدينة روما الناهضة تبسط سلطانها الجديد قليلًا قليلًا على إيطاليا — وكان الجهاد عنيفًا بينها وبين عناصر مختلفة كانت تنازعها السلطان : كان الجهاد عنيفًا بينها وبين المستعمرات اليونانية الإيطالية ؛ وكان عنيفًا بينها وبين الفينيقيين من أهل قرطاجنة ؛ وكان عنيفًا بينها وبين المدن الإيطالية التي كانت تستمتع بالحياة المستقلة في أمن وسلم ، فأصبحت الآن ترى هذه الحياة المستقلة معرضة للخطر ؛ ذلك إلى هذه القبائل البربرية التي أخذت تندفع إلى بلاد إيطاليا وإلى غرب أوربا ، والتي لم تجد روما بدًّا من أن تقف منها موقف المدافع المانع . كل شيء في العالم القديم كان يدل في هذا القرن الرابع على أن الحياة الإنسانية في حاجة إلى أن تتغير ، وعلى أن القوة لا بد من أن تظهر لتضبط الأمر وتقضي على هذه الفوضى العامة . وكان لهذه القوة المنتظرة مركزان : أحدهما قريب من الشرق في مقدونيا ، والآخر قريب من الغرب في روما . ولكن هذه القوة المقدونية كانت ، فيما يظهر أقدر على الظفر وأخلق بالانتصار من القوة الرومانية ؛ لأنها كانت قريبة من مركز الحياة الأدبية والسياسية القوية : كانت قريبة من اليونان شديدة الاتصال بهم ، وكانت قريبة من آسيا أيضًا ، ولست في حاجة إلى أن أذكر لك مقدونيا وتاريخها ، ولا إلى أن أفصل لك نهضتها السياسية واستئثارها بالقوة ، فكل ذلك شيء لا يعنينا الآن ، وإنما الذي يعنينا هو أن ملكًا من ملوكها وهو فيليب ، قد استطاع أن يكسب لها قوة حربية ضخمة ، واستطاع بهذه القوة أن يستأثر بالأمر كله في البلاد اليونانية ، وأن يخضع هذه المدن اليونانية لسلطان قوي حازم ، ويقضي على ما كان بينها من نزاع وخصومة ، ويوجه قوتها المادية والمعنوية إلى جهة جديدة نافعة ، هي الاستيلاء على الشرق ، والقضاء على سلطان الفرس فيه . ولكن فيليب قتل غيلةً ، ولما يبدأ تحقيق غايته الكبرى التي كان يسعى إليها ؛ فنهض بالأمر بعده ابنه الشاب الإسكندر ؛ واستطاع لا أن يحقق غاية أبيه ، بل أن يتجاوزها إلى شيء لم يكن يخطر لفيليب ولا لغيره من المقدونيين واليونان ، بل لم يخطر لأحد من قبله ، وهو إخضاع العالم القديم المتحضر كله لسلطان واحد قوي منظم .”
― قادة الفكر
ولم يكن بد من أن تنزل الفلسفة عن سلطانها لشيء آخر يخلفها على قيادة الفكر وتوجيه الحياة الإنسانية وجهة جديدة ؛ تلائم هذه الأطوار الجديدة التي انتهت إلى الجماعات . وفي الحق أن هذا القرن الرابع قبل المسيح كان عصر انتقال عام تظهر آثاره في جميع أجزاء العالم القديم : في الشرق الآسيوي ، وفي الغرب الأوربي ، وفي بلاد اليونان خاصة ، وشبه جزيرة البلقان بوجه عام ، فأنت حين تستعرض تاريخ العالم القديم في هذا العصر ، لا تجد إلا تغيرًا وتبدلًا في النظم وأصول الحكم ، في الأخلاق والعادات ، بل في الشعور الديني نفسه . أما في الشرق ، فقد كانت الدولة الفارسية العظمى ، التي بسطت سلطانها على أعظم إمبراطورية عرفها تاريخ الشرق القديم ، وأخضعت لهذا السلطان بلاد الفراعنة وبلاد البابليين والآشوريين والفينيقيين ، كانت قد انتهت إلى شيء من الضعف آذن بأن سقوطها قد أصبح أمرًا ليس منه بد : كان الفساد قد اشتمل على ملوكها وزعمائها ، وكان الترف قد عبث بعامة شعبها الذي كان مصدر قوتها وبأسها ، وكان العصيان قد انبث في أقطار الأرض التي خضعت لها ، فأصبحت هذه الأقطار ثائرة مضطربة يطمع بعضها في استرداد استقلاله القديم ، ويخضع بعضها الآخر لأطماع الحكام والمستبدين . وكانت السلطة المركزية قد يئست من أن تقبض بنفسها على أزِمَّة الأمر ، فلجأت إلى أعدائها اليونان ، تجندهم لحماية أقطارها ، وتستأجرهم للدفاع عن سلطانها . وكانت الأمة اليونانية على ما علمت في الفصل الماضي ، من الضعف والانحلال ، والفساد الخلقي والسياسي ، والزهد في هذه النظم السياسية التي ألفتها والتي ظهر فسادها وعجزها عن ضبط الأمور . ولم تكن إيطاليا ولا غرب أوربا أقل اضطرابًا من بلاد اليونان والشرق ، فقد كانت مدينة روما الناهضة تبسط سلطانها الجديد قليلًا قليلًا على إيطاليا — وكان الجهاد عنيفًا بينها وبين عناصر مختلفة كانت تنازعها السلطان : كان الجهاد عنيفًا بينها وبين المستعمرات اليونانية الإيطالية ؛ وكان عنيفًا بينها وبين الفينيقيين من أهل قرطاجنة ؛ وكان عنيفًا بينها وبين المدن الإيطالية التي كانت تستمتع بالحياة المستقلة في أمن وسلم ، فأصبحت الآن ترى هذه الحياة المستقلة معرضة للخطر ؛ ذلك إلى هذه القبائل البربرية التي أخذت تندفع إلى بلاد إيطاليا وإلى غرب أوربا ، والتي لم تجد روما بدًّا من أن تقف منها موقف المدافع المانع . كل شيء في العالم القديم كان يدل في هذا القرن الرابع على أن الحياة الإنسانية في حاجة إلى أن تتغير ، وعلى أن القوة لا بد من أن تظهر لتضبط الأمر وتقضي على هذه الفوضى العامة . وكان لهذه القوة المنتظرة مركزان : أحدهما قريب من الشرق في مقدونيا ، والآخر قريب من الغرب في روما . ولكن هذه القوة المقدونية كانت ، فيما يظهر أقدر على الظفر وأخلق بالانتصار من القوة الرومانية ؛ لأنها كانت قريبة من مركز الحياة الأدبية والسياسية القوية : كانت قريبة من اليونان شديدة الاتصال بهم ، وكانت قريبة من آسيا أيضًا ، ولست في حاجة إلى أن أذكر لك مقدونيا وتاريخها ، ولا إلى أن أفصل لك نهضتها السياسية واستئثارها بالقوة ، فكل ذلك شيء لا يعنينا الآن ، وإنما الذي يعنينا هو أن ملكًا من ملوكها وهو فيليب ، قد استطاع أن يكسب لها قوة حربية ضخمة ، واستطاع بهذه القوة أن يستأثر بالأمر كله في البلاد اليونانية ، وأن يخضع هذه المدن اليونانية لسلطان قوي حازم ، ويقضي على ما كان بينها من نزاع وخصومة ، ويوجه قوتها المادية والمعنوية إلى جهة جديدة نافعة ، هي الاستيلاء على الشرق ، والقضاء على سلطان الفرس فيه . ولكن فيليب قتل غيلةً ، ولما يبدأ تحقيق غايته الكبرى التي كان يسعى إليها ؛ فنهض بالأمر بعده ابنه الشاب الإسكندر ؛ واستطاع لا أن يحقق غاية أبيه ، بل أن يتجاوزها إلى شيء لم يكن يخطر لفيليب ولا لغيره من المقدونيين واليونان ، بل لم يخطر لأحد من قبله ، وهو إخضاع العالم القديم المتحضر كله لسلطان واحد قوي منظم .”
― قادة الفكر
“وإذًا فليس من الحق أن أرسطاطاليس فيلسوف قديم ، وإنما الحق أنه فيلسوف خالد ملائم لكل زمان ولكل مكان ، وهو — كما سمَّاه الغرب حقًّا — « المعلم الأول » . وهو بحكم هذا الاسم قائد من قادة الفكر ، أو قُلْ : أكبر قائد من قادة الفكر ، وكيف تريد أن أثبت لك أنه أكبر قائد من قادة الفكر وأنت تعلم معي أن فلسفة أرسطاطاليس سيطرت منذ ظهورها على العقل الإنساني القديم ، وأنها هي التي كانت لها الأثر الأكبر في تكوين العقل العربي الإسلامي ، وفي وجود فلسفة العرب وعلم الكلام عندهم ، وهي التي تغلغلت في الحياة العربية حتى أثرت في البيان العربي تأثيرًا قويًّا ، وهي التي كونت العقل الأوربي في القرون الوسطى ، وهي التي اتخذها العقل الأوربي مصدرًا وأساسًا لعلمه وفلسفته في العصر الحديث . بل هناك ميزة يختص بها أرسطاطاليس دون غيره من الفلاسفة القدماء والمحدثين ، وهي أن خصومه والمنتمين إلى المذاهب الفلسفية والدينية المناقضة لفلسفته يتخذون فلسفته نفسها وسيلة إلى محاربته ، فالأفلاطونيون ينقضون فلسفة أرسطاطاليس بنفس القواعد التي كشفها أرسطاطاليس للبحث والنقض والاستدلال ؛ وكذلك قل عن المسيحيين والمسلمين والمحدثين من الفلاسفة ، كل أولئك استخدم وما زال يستخدم منطق أرسطاطاليس لمخاصمة أرسطاطاليس . إذًا فهذا الاسم من الأسماء الخالدة التي قد تكون أشد من الدهر قدرة على البقاء ، إن صح مثل هذا التعبير . ومن أراد أن يبحث عن قادة الفكر فلن يستطيع أن يوفق لإجادة البحث وإحسانه إلا إذا عُنِيَ بأسطاطاليس وفلسفته ، وأنزلهما منزلتهما الحقيقية ، وهي المنزلة الأولى .”
― قادة الفكر
― قادة الفكر
“فليس هناك خير مطلق أو شر مطلق لا ينالهما تغير أو تبدل ، وإنما الخير والشر إضافيان يتأثران بكل ما تتأثر به الحياة العامة والخاصة من الظروف .”
― قادة الفكر
― قادة الفكر
“وكما أن منطق أرسطاطاليس خالد فأدبه خالد أيضًا . ونريد بهذا الأدب قوانين البيان التي استكشفها أرسطاطاليس في العبارة والشعر والخطابة ، فهذه القوانين باقية خالدة ؛ لأنها الصور الطبيعية لتعبير الإنسان عن آرائه ، كما أن قوانين المنطق هي الصور الطبيعية لتكوين هذه الآراء . ومن غريب الأمر أن أهل الأدب الأوربي في أواخر القرون الوسطى وأوائل العصر الحديث ، كانوا يزعمون أن أرسطاطاليس يقيد القصص التمثيلية المحزنة بقيود يقال هي الوحدات الثلاث : وحدة الزمان ، والمكان ، والعمل ، فلما وضع « كرنيل » قصة « السيد » اشتدت حملة النقاد عليه ؛ لأنه شذَّ عن هذه الوحدات ؛ ونشأ من هذا خلاف بين الأدب القديم والأحرار من الأدب الحديث كثر فيه القول كثرة فاحشة ، ثم استكشف أدب أرسطاطاليس وما كتبه عن الشعر وعن القصص التمثلية المحزنة ، فإذا هو لم يذكر هذه الوحدات ولم يشر إليها ، وإذا آراء الأوربيين الذين كانوا يضيفون إليه هذه الوحدات لم تكن قائمة إلا على الجهل والوهم ، وإذا القوانين الأدبية التي استكشفها أرسطاطاليس لا تزال باقية صالحة للبقاء كقوانين المنطق .”
― قادة الفكر
― قادة الفكر
“تريد أن تعلم إلى أي حد وصل العقل الإنساني في القرن الرابع قبل المسيح في دروس مسألة بعينها من مسائل الطبيعة أو ما بعد الطبيعة ؟ فمرجعك في ذلك إنما هو أرسطاطاليس ، تجد فيه نتائج البحث الذي سبقه . وتجد فيه نقد هذه النتائج ، وتجد فيه رأيه الخاص في هذه النتائج ، ومن هنا انقسمت فلسفة أرسطاطاليس إلى قسمين أساسيين :
أحدهما القسم الذي أحدث آثاره الطبيعية المعقولة ، ثم أصبح شيئًا تاريخيًّا يرجع إليه الذين يدرسون تاريخ الفلسفة وتاريخ الحياة العقلية عامة ؛ ليستعينوا على فهم هذا التاريخ ، وهذا القسم هو المباحث التي تتصل بالطبيعة وما بعد الطبيعة ؛ فهو يدرس الآن ويدرس درسًا دقيقًا لا ينتفع به انتفاعًا مباشرًا في الحياة العملية ، بل ليستعان به على فهم العقل الإنساني وما ناله من التطور على اختلاف العصور ؛ وليس هذا بالشيء القليل . والآخر هو القسم الذي أحدث آثاره الطبيعية المعقولة ، وما زال يحدثها ، وسيحدثها أبدًا دون أن يناله في ذلك ضعف أو قصور ، أي هو القسم الذي بقي وسيظل صالحًا للبقاء ، والذي لم يستطع العقل الإنساني على رقيه ونضوجه أن يمحوه أو يغير منه قليلًا ، وهو كل ما تركه أرسطاطاليس في المنطق والأدب والأخلاق والسياسة . فقد استقصى أرسطاطاليس في المنطق قوانين العقل الإنساني في البحث والتفكير على اختلاف درجاتهما وأطوارهما ؛ وهذه القوانين ثابتة لا تتغير ، ملائمة للإنسان من حيث هو إنسان ، لا من حيث إنه شرقي أو غربي ، ولا من حيث إنه قديم أو حديث .”
― قادة الفكر
أحدهما القسم الذي أحدث آثاره الطبيعية المعقولة ، ثم أصبح شيئًا تاريخيًّا يرجع إليه الذين يدرسون تاريخ الفلسفة وتاريخ الحياة العقلية عامة ؛ ليستعينوا على فهم هذا التاريخ ، وهذا القسم هو المباحث التي تتصل بالطبيعة وما بعد الطبيعة ؛ فهو يدرس الآن ويدرس درسًا دقيقًا لا ينتفع به انتفاعًا مباشرًا في الحياة العملية ، بل ليستعان به على فهم العقل الإنساني وما ناله من التطور على اختلاف العصور ؛ وليس هذا بالشيء القليل . والآخر هو القسم الذي أحدث آثاره الطبيعية المعقولة ، وما زال يحدثها ، وسيحدثها أبدًا دون أن يناله في ذلك ضعف أو قصور ، أي هو القسم الذي بقي وسيظل صالحًا للبقاء ، والذي لم يستطع العقل الإنساني على رقيه ونضوجه أن يمحوه أو يغير منه قليلًا ، وهو كل ما تركه أرسطاطاليس في المنطق والأدب والأخلاق والسياسة . فقد استقصى أرسطاطاليس في المنطق قوانين العقل الإنساني في البحث والتفكير على اختلاف درجاتهما وأطوارهما ؛ وهذه القوانين ثابتة لا تتغير ، ملائمة للإنسان من حيث هو إنسان ، لا من حيث إنه شرقي أو غربي ، ولا من حيث إنه قديم أو حديث .”
― قادة الفكر
“ولقد أَشُقُّ ولقد أُسرف في الإطالة لو أني حاولت أن أختصر لك صورة ما من فلسفة أرسطاطاليس . وكيف السبيل إلى ذلك في صحف معدودة ولم يترك أرسطاطاليس فنًّا من فنون الفلسفة ولا لونًا من ألوان البحث الإنساني إلا عرض له وقال كلمته فيه — إنما الذي يعنيك من فلسفة أرسطاطاليس هو أن تعلم أن الفيلسوف الوحيد الذي حاول في العصر القديم أن ينظم العلم الإنساني من جهة ، ويستقصي قوانين التفكير والتعبير والسيرة العامة والخاصة من جهة أخرى ؛ ففلسفته تدور على هذين الأمرين .”
― قادة الفكر
― قادة الفكر
“لا يكتفي بهذا التفسير النظري الخالص ، وإنما يحاول أن يفسر لنا مصدر الجهل الذي يورطنا في الشر والإثم . وتفسيره لهذا الجهل بديع قوي ، فيه شعر ، وفيه فلسفة معًا . فالنفس عند أفلاطون مزاج يتألف من قوى ثلاث : إحداها هذه القوة العاقلة التي تتفهم الأشياء وتتبينها وتنتقل من المحسوس إلى المفهوم ومن المركب إلى المجرد ، حتى تنتهي إلى الحقائق الثابتة ، ثم إلى حقيقة الحقائق أو فكرة الخير أو الإله . والثانية : هذه القوة الغضبية التي وكل إليها الدفاع عن الحياة والاحتفاظ بها ، وهي التي نسميها الشجاعة ، وهي التي تحملنا على أن نغضب ونثور كلما احتجنا إلى الغضب والثورة . والثالثة هذه القوة الشهوية ، التي تعنى بوجود الجسم المادي ؛ لأنها تحمله على إرضاء شهواته المختلفة : من الأكل والشرب وما يتصل بهما من أنواع اللذات . ولكل قوة من هذه القوى الثلاث مركزها في الجسم . فأما الأولى فمستقرها الرأس ، وأما الثانية فمستقرها الصدر ، وأما الثالثة فمستقرها البطن . والنفس عند أفلاطون تشبه عربة يقودها جوادان أصيلان : أحدهما الغضب ، والآخر الشهوة ، أما سائق الجوادين فهو العقل . وإذًا فلا بد من أن يوجد بين هذين الجوادين توازن في القوى وتوافق في الحركة من جهة ، ولا بد من أن يوجد بينهما وبين السائق توازن آخر يضطرهما إلى الخضوع له والإذعان لأمره من جهة أخرى . فإذا اختل التوازن بين الجوادين أو بينهما وبين السائق ، فذلك مصدر الشر الذي يتورط فيه. قد تسرف القوة الغضبية حتى تسيطر على القوتين الأخريين ؛ وإذًا فنحن متهورون مندفعون . وقد تسرف القوة الشهوية ؛ وإذًا فنحن عبيد اللذة وأرقاؤها . وعلى هذا النحو يرى أفلاطون أن الفضيلة حقًّا إنما هي مزاج ينتج من التوازن بين هذه القوى بحيث يستطيع الجسم أن يحيا ويحتفظ بحياته دون أن يحول بين النفس وبين الطموح إلى الخير والسعي إلى الوصول إليه.”
― قادة الفكر
― قادة الفكر
“الإله عند أفلاطون فكرة هي مصدر كل شيء ، ومرجع كل شيء ، وهي فكرة الخير ، وجدت بنفسها قبل أن يوجد الزمان ، وهي موجودة مع الزمان ، وستوجد بعده ، لا علاقة لها به ، ولا تأثير له فيها ، وعنها صدرت كل الحقائق الخالدة ، ولكن هذه الحقائق الخالدة ليست محسوسة ، ولا سبيل إلى أن تحس ، ومهما يبلغ أفلاطون من إثباتها فلن يصل إلى تفسير هذا العالم المحسوس . فكيف وجد هذا العالم ؟ يرى أفلاطون أن الإله وحده لا يستطيع إيجاد هذا العالم . بل إن هذه الحقائق لا تستطيع إيجاد هذا العالم . وإذًا فلا بد من عنصر ثالث ليوجد هذا الكون ، وهذا العنصر الثالث هو المادة التي وجدت وحدها والتي اتخذها الإله سبيلًا إلى إيجاد هذا العالم المحسوس . نظر إلى الحقائق الخالدة التي صدرت عنه ، فاتخذها مثلًا ونماذج ، صاغ عليها هذا العالم المحسوس ، ثم لأجل أن تنبعث الحياة في هذا العالم المحسوس أوجد الإله صلة بينه وبين هذه المثل ، فليس الإنسان الموجود في الخارج إلا مظهرًا للحقيقة الثابتة الخالدة التي هي الإنسانية . وكذلك قل في جميع الموجودات الأخرى .”
― قادة الفكر
― قادة الفكر
“إن أفلاطون يرى في هذا العالم المحسوس طائفة من الظواهر التي لا وجود لها بنفسها ، وإنما هي صادرة عن عالم آخر هو عالم الحقائق الخالدة . ومن هنا كانت درجات العلم ثلاثًا ، فكان هناك العلم بهذه المحسوسات أو بهذه الظواهر ، وهذا العلم هو أحقر أنواع العلم ؛ لأنه ظن يتغير ويتبدل بتغير موضوعاته وتبدلها . وكان هناك علم آخر أرقى من هذا العلم الأول ، وهو العلم بالأشياء العامة ، التي تنتزعها النفس من هذه الشخصيات المتغيرة المتبدلة ، هو العلم بالأجناس والأنواع ، هو العلم بالكليات والقضايا العامة التي ليست هي شخصيات متغيرة أو متبدلة . وهذا العلم تكتسبه النفس اكتسابًا بملاحظة المحسوسات ومقارنتها والتفريق بينها : فهي تنتزع النوع الإنساني من أفراد الإنسان ، كما تنتزع جنس الحيوان من أنواع الحيوان وهلم جرًّا … ثم كان هناك علم آخر ، هو العلم حقًّا ، وهو الفلسفة حقًّا ، وهو اليقين حقًّا . وهذا العلم هو العلم بتلك الحقائق الثابتة التي قلنا إنها خالدة لا تتغير ولا تتبدل .”
― قادة الفكر
― قادة الفكر
“ولا بد قبل كل شيء من أن نشير إلى المذهب الأفلاطوني في كتابه الفلسفة ودرسها . وهذا المذهب في نفسه هو مذهب سقراط ، أي أنه يعتمد قبل كل شيء على الحوار ، وإذن فهو في نفسه غير جديد . ولكن لا تنس أن سقراط كان يحاور محاورة لسانية ، أي إنه كان يناقش أصحابه وتلاميذه بالفعل . أما أفلاطون فلم يكن يحاور حوارًا لسانيًّا ، وإنما كان يكتب . والفرق عظيم بين رجل يلقاك فيحاورك ، وبين رجل لا يلقاك ولا يحاورك بالفعل ، وإنما يستوحي قلمه حوارًا بديعًا : تخيل أشخاصه ، واخترع موضوعه اختراعًا . كان سقراط متحدثًا ، أما أفلاطون فمؤلف منشئ . ومن هنا كان من الحق الاعتراف لأفلاطون بفضيلة هذا الفن الفلسفي الأدبي ، الذي لم يسبق إليه ولم يلحق فيه ، وهو فن الحوار . نعم ! إن أفلاطون لم يخترع الحوار اختراعًا ، وإنما تأثر بمؤثرين مختلفين ، نذكرهما لنلفتك إلى الصلة بين الفلسفة والأدب .
الأول : فن التمثيل الذي بلغ أقصى ما كان ينتظر له من الرقي في القرن الخامس ، وأثر في حياة الأثينيين خاصةً واليونان عامةً ، تأثيرًا لا حد له . هذا الفن يعتمد على الحوار ، سواء في ذلك قصصه المحزنة والمضحكة . وهو بهذا الأسلوب ، أسلوب الحوار ، قد استطاع أن يؤثر في الجمهور ويبلغ من نفسه ما كان يريد . فليس عجيبًا أن يفتن الناس بالحوار ويتخذوه أسلوبًا من أساليبهم الأدبية . ونستطيع أن نقول : إن كتب أفلاطون كلها أو أكثرها قصص تمثيلية فلسفية . فكتب أفلاطون كلها أو أكثرها عبارة عن مجلس من المجالس ، يجتمع فيه الناس حول سقراط فيتحدثون ، وينتهي بهم الحديث إلى موضوع من الموضوعات ذات الخطر ، فيتحاورون فيه ، ويشرف سقراط على هذا الحوار وما يزال بأصحابه وتلاميذه ينقلهم من موضوع إلى موضوع ومن مسألة إلى مسألة ، ومن صعوبة إلى صعوبة ، حتى ينتهي بهم إلى النتيجة الفلسفية التي كان يريد إثباتها . وكل هذه الكتب أو أكثرها لا تتخذ أسماءها من الموضوعات التي تدرس فيها ، وإنما تسمى بأسماء الأشخاص الذين لهم في الحوار منزلة خاصة ، فهناك « فيدون » (Phédon) ، و « برتاجوراس » (Protagoras) ، و « جرجياس » (Gorgias) ، و « ألسبياد » (Alcibiade) ، وغيرها من الكتب التي تسمى بأسماء الأشخاص ؛ وقليلة جدًّا تلك الكتب التي تسمى بأسماء الموضوعات ، كالجمهورية والقوانين وغيرهما.
المؤثر الثاني : الشعر ، وأريد الشعر الغنائي الذي تعمق في البحث عن العواطف الإنسانية ، حتى اهتدى إلى دقائقها ، وارتقى في تشخيص هذه العواطف وتمثيلها ، حتى بلغ من العظمة حدًّا ربما لم يبلغه الشعر الحديث . وقد يكون من الحق ألا ننسى الشعر القصصي ، الذي اعتمد عليه أفلاطون في هذه الأساطير المنبثة في كتبه ، والتي يستعين بها على تفسير النظريات الفلسفية وتقريبها . فأنت ترى أن أفلاطون لم يخترع فنه الأدبي اختراعًا ، وإنما تأثر فيه بألوان الشعر الثلاثة ، كما أنه لم يخترع فلسفته اختراعًا وإنما تأثر فيها بالمذاهب الفلسفية المختلفة التي سبقته وعاصرته . ولكن تأثره بالشعر والفلسفة لم يضطره إلى التقاليد ولم يضعف من شخصيته ، وإنما قوَّى هذه الشخصية تقوية عظيمة . وأين هو هذا النابغة الذي يخترع شيئًا من لا شيء ويحدث أحداثًا لا تتصل بما قبلها ، ولا تتأثر بما حولها ؟ وسنرى أن أفلاطون نفسه لم يستطع أن يتصور إلهًا يوجد شيئًا من لا شيء.”
― قادة الفكر
الأول : فن التمثيل الذي بلغ أقصى ما كان ينتظر له من الرقي في القرن الخامس ، وأثر في حياة الأثينيين خاصةً واليونان عامةً ، تأثيرًا لا حد له . هذا الفن يعتمد على الحوار ، سواء في ذلك قصصه المحزنة والمضحكة . وهو بهذا الأسلوب ، أسلوب الحوار ، قد استطاع أن يؤثر في الجمهور ويبلغ من نفسه ما كان يريد . فليس عجيبًا أن يفتن الناس بالحوار ويتخذوه أسلوبًا من أساليبهم الأدبية . ونستطيع أن نقول : إن كتب أفلاطون كلها أو أكثرها قصص تمثيلية فلسفية . فكتب أفلاطون كلها أو أكثرها عبارة عن مجلس من المجالس ، يجتمع فيه الناس حول سقراط فيتحدثون ، وينتهي بهم الحديث إلى موضوع من الموضوعات ذات الخطر ، فيتحاورون فيه ، ويشرف سقراط على هذا الحوار وما يزال بأصحابه وتلاميذه ينقلهم من موضوع إلى موضوع ومن مسألة إلى مسألة ، ومن صعوبة إلى صعوبة ، حتى ينتهي بهم إلى النتيجة الفلسفية التي كان يريد إثباتها . وكل هذه الكتب أو أكثرها لا تتخذ أسماءها من الموضوعات التي تدرس فيها ، وإنما تسمى بأسماء الأشخاص الذين لهم في الحوار منزلة خاصة ، فهناك « فيدون » (Phédon) ، و « برتاجوراس » (Protagoras) ، و « جرجياس » (Gorgias) ، و « ألسبياد » (Alcibiade) ، وغيرها من الكتب التي تسمى بأسماء الأشخاص ؛ وقليلة جدًّا تلك الكتب التي تسمى بأسماء الموضوعات ، كالجمهورية والقوانين وغيرهما.
المؤثر الثاني : الشعر ، وأريد الشعر الغنائي الذي تعمق في البحث عن العواطف الإنسانية ، حتى اهتدى إلى دقائقها ، وارتقى في تشخيص هذه العواطف وتمثيلها ، حتى بلغ من العظمة حدًّا ربما لم يبلغه الشعر الحديث . وقد يكون من الحق ألا ننسى الشعر القصصي ، الذي اعتمد عليه أفلاطون في هذه الأساطير المنبثة في كتبه ، والتي يستعين بها على تفسير النظريات الفلسفية وتقريبها . فأنت ترى أن أفلاطون لم يخترع فنه الأدبي اختراعًا ، وإنما تأثر فيه بألوان الشعر الثلاثة ، كما أنه لم يخترع فلسفته اختراعًا وإنما تأثر فيها بالمذاهب الفلسفية المختلفة التي سبقته وعاصرته . ولكن تأثره بالشعر والفلسفة لم يضطره إلى التقاليد ولم يضعف من شخصيته ، وإنما قوَّى هذه الشخصية تقوية عظيمة . وأين هو هذا النابغة الذي يخترع شيئًا من لا شيء ويحدث أحداثًا لا تتصل بما قبلها ، ولا تتأثر بما حولها ؟ وسنرى أن أفلاطون نفسه لم يستطع أن يتصور إلهًا يوجد شيئًا من لا شيء.”
― قادة الفكر
